وقالت لنفسها: إن أية واحدة منهن لتعد نفسها سعيدة إذا خطبها صبي قهوة أو صبي حداد، وهذا صاحب دكان .. أوسطى، وأفندي أيضا! كانت مشغولة أبدا بالموازنة والاختيار والتفكير، فلم تنجذب إلى الدنيا السحرية التي يهيم في سماواتها. بيد أنه كان يبلغ بها التأثر في لحظات منتهاه، فكأنها كانت - في تلك اللحظات - محبة حقا. وفي إحدى هذه اللحظات استوهبها قبلة. فلم تقل لا، ولم تقل نعم. أرادت أن تذوق هذه القبلة التي سمعت عنها كثيرا وتغنت بها كثيرا. ونظر هو محاذرا يراقب المارة، وتحسس ثغرها في ظلمة المساء. ثم وضع شفتيه على شفتيها وهو يرتعد، وغمرتها أنفاسه الملتهبة، فسالت على نحرها وطرفت عيناها.
ثم دنا موعد سفره فرأى أن يخطو الخطوات الحاسمة، واختار الدكتور بوشي - الذي تيسر له مهنته التردد على بيوت الزقاق - سفيرا له لدى أم حميدة. وسرت المرأة بالشاب الذي تراه الصالح الوحيد لابنتها في الزقاق، وكانت تعده دائما «صاحب صالون وقد الدنيا »، ولكنها خافت شماس ابنتها المتمردة، وظنت أنها مقبلة على معركة طاحنة، فما أدهشها بعد ذلك إلا أن تتلقى الفتاة الخبر برضا وتسليم، مما جعلها تهز رأسها وتقول: هذا فعل النافذة وراء ظهري!
وكلف الحلو عم كامل بصنع صينية بسبوسة فاخرة وإرسالها لأم حميدة، واستأذن في مقابلتها، ومضى إليها مصحوبا بعم كامل شريكه في بيته وحياته، وقد وجد عم كامل صعوبة شديدة في ارتقاء السلم، وجعل يتوقف كل درجتين لاهثا متوكئا على الدرابزين حتى قال للحلو عند أول «بسطة»: هلا أجلت الخطبة لحين عودتك من الجيش؟!
ورحبت بهما أم حميدة. وجلس ثلاثتهم يتبادلون طيب المجاملات، حتى قال عم كامل: هذا عباس الحلو ابن زقاقنا، وابنك، وابني، يطلب إليك يد حميدة.
فابتسمت المرأة وقالت: أهلا بالحلو الذي هو حلو، ستكون ابنتي عنده وكأنها لم تفارقني!
وتحدث عم كامل عن الحلو وأخلاقه، وعن الست أم حميدة وأخلاقها، ثم قال: سيغادرنا الفتى، فتح الله عليه، وقريبا تتحسن حاله فيتم له ولنا المراد بإذنه تعالى.
ودعت أم حميدة له، ثم داعبت عم كامل قائلة: وأنت يا عم كامل متى تنوي وتتوكل على الله؟!
فضحك عم كامل حتى صار وجهه كالطماطم في إبانها، ومسح على كرشه المحيط وقال: دون ذلك هذا الحصن المنيع!
وقرءوا الفاتحة وشربوا الشربات.
ثم كان بعد ذلك بيومين اللقاء الأخير بالأزهر. ساروا واجمين. والحلو يشعر بدموعه تدق أبواب صدره لتجد سبيلا إلى مجاري عينيه، وقد سألته: هل تغيب طويلا؟
صفحه نامشخص