فانفجرت صارخة: أجبني صراحة، أحسبتني أموت أسى لو حرمتني من نعمة حبك؟
ليس الوقت مناسبا. لعله لو جابهته بهذا السؤال على أثر إيابها من الخارج، أو في الصباح - حين يتسع الوقت للملاحاة والشجار - لكان أجابها كما يشاء؛ أما الآن فالجواب الصريح حري بإضاعة ثمرة اليوم هباء، فلذلك ابتسم ابتسامة باردة وقال بهدوء: أحبك يا عزيزتي.
أقبح بكلمة الحب إذا ندت عن فم مملول، كالبصقة! استحوذ عليها القهر، وشعرت في قهرها بأنها لا تتأبى عن هوان وإن جل لو ضمن أن يعيده إلى أحضانها! وأحست لحظة أن حبه مطلب تهون من أجله الحياة، ولكنها كانت لحظة عابرة سرعان ما أفاقت من غشيانها، ثم امتلأ قلبها ضغينة، فاقتربت منه خطوات وعيناها تلمعان لمعان الماس الناشب في عمامتها، وقالت مصممة على أن تشق طريق التحدي حتى نهايته: تحبني حقا؟ إذن فلنتزوج.
ونطقت عيناه بالدهشة، ونظر إليها بين مصدق ومكذب، ولم تكن تعني ما قالت؛ ولكنها أرادت سبر أغواره، فقال لها: وهل يغير الزواج من أمرنا شيئا؟ - أجل، لنتزوج، ولنهجر هذه الحياة.
ونفد صبره، وتولدت في صدره عزمة صادقة أن يحسم الأمر بما يقتضيه من صراحة وقسوة، وأن يحقق ما جال بخاطره طويلا ولو ضاعت ثمرة الليلة، وقهقه ضاحكا في غيظ وسخرية وقال هازئا: نعم الرأي! أحسنت يا عزيزتي، نتزوج ونعيش كما يعيش الشرفاء .. فرج إبراهيم وحرمه وأبناؤهما ليمتد! ولكن خبريني ما هو الزواج؟ .. لقد أنسيته كما أنسيت الآداب الشريفة جميعا، أو دعيني أتذكر قليلا .. زواج؟! .. شيء خطير فيما أذكر يتضمن رجلا وامرأة ومأذونا ووثيقة دينية وطقوسا كثيرة .. متى عرفت هذا كله يا إبراهيم؟ .. في الكتاب أو المدرسة؟! ولكن لا أدري أما تزال هذه العادة متبعة أم قد أقلع الناس عنها! .. خبريني يا عزيزتي، ألا يزال الناس يتزوجون؟
وارتعشت أطرافها غضبا، وأفعم قلبها يأسا وغما، ونظرت إليه فإذا به مبتسما هازئا سادرا فجن جنونها وارتمت عليه ناشبة أظافرها في عنقه، ولم تفجؤه حركتها المباغتة فتلقاها بسكينة، وقبض على ساعديها وفرج بينهما، ثم تخلص منها والابتسامة الهازئة لا تفارق شفتيه، فاشتد حنقها وغضبها ، ورفعت يدها بسرعة خاطفة وصفعته بكل ما أوتيت من قوة وعصبية. وغاضت ابتسامته ولاحت في عينيه نظرة وعيد وشر، فردت عليها بنظرة جريئة متحدية، وانتظرت شبوب العاصفة بجزع وتلهف، وكادت تنسى أسباب آلامها في لذة العراك المرتقبة، ومنتها أحلامها الهستيرية بختام سعيد لهذا النضال البهيمي. ولكنه كان من ناحية يقدر عواقب الاستسلام للغضب، ولا يغيب عنه أن دفع العدوان بالعدوان سيوثق الرباط الذي يروم نقضه، ويزيد من تعلقها به، فضبط نفسه، وكبح جماح غضبه، وصمم على أن يكاشفها بالقطيعة السافرة، وذلك بالانسحاب من المعركة دون دفاع، فتراجع خطوة، وانفتل آفلا وهو يقول بهدوء: هلمي إلى العمل يا عزيزتي.
ولم تكد تصدق عينيها، وألقت على الباب الذي غيبه نظرة ساهمة رنق بها القنوط. وأدركت سر تقهقره بغريزتها فاستشف قلبها الحقيقة المفجعة، وتقلقل صدرها برغبة حارة مباغتة في قتله! انفجرت في صدرها بقوة آسرة لا كأمنية الضعيف الحاقد، ولكن رغبة فتاكة شعرت بأنها في نطاق طاقتها. لقد عرفت جوانب كثيرة من نفسها على ضوء هذا الرجل، وها هو يتم صنائعه فيكشف عن أخطر هذه الجوانب جميعا. ولكن أيرضيها حقا أن تبيع الحياة من أجل الفتك به؟ إنها استهانت بكل شيء في سبيل الحياة، أما الاستهانة بالحياة نفسها .. وانقبض صدرها، واستحوذ عليها قلق مفعم بالنفور، وبقيت رغبتها في الانتقام تتلظى ويندلع لهيبها. ينبغي أن تغادر البيت أولا، وفي الخارج مهرب من جحيم الفكر، ومجال للأناة والتدبير، وسارت متثاقلة صوب الباب، ثم ذكرت أنها تهجر هذه الحجرة - حجرتهما - لآخر مرة، فدارت على عقبيها كأنما لتلقي عليها نظرات الوداع. تنزى قلبها في صدرها في تلك اللحظة الفاصلة، رباه .. كيف انتهى كل شيء بهذه السرعة؟! .. هذه المرآة كم بدت على صفحتها فرحة مستبشرة، وهذا السرير الوثير مهد الغرام والأحلام، وعلى هذا الديوان كانت تجلس بين يديه تصغي إلى إرشاداته بين العناق والقبل، وهذا الخوان يحمل صورتهما معا في ثياب السهرة! ثم ولت الذكريات ظهرها وفرت من الحجرة. وفي الطريق لفحها الهواء الدافئ فتنسمته في إعياء، وأخذت في سبيلها وهي تقول لنفسها: «لن أعدم طريقة للفتك به!» كم يكون هذا شافيا على شرط ألا تدفع حياتها ثمنا له، لم تخلق الحياة للتضحية، الحياة فوق كل شيء، بل فوق الحب نفسه. حقا بات الحب ندبا عميقا في سويداء قلبها، ولكنها ليست المرأة التي يفنيها الحب، بها جرح عميق، ولكن الجريح يعيش وهو ينزف، بل يستطيع أن يتمتع بحياة عريضة فيها الذهب والسرور والسطوة والعراك. هكذا لاقت خيبتها. ورأت عربة فأشارت إلى الحوذي وركبت، واستشعرت حاجة ملحة إلى مزيد من الراحة والهواء فقالت له: إلى ميدان الأوبرا أولا، ثم عد من شارع فؤاد الأول .. واحدة واحدة من فضلك.
وجلست وسط المقعد مائلة بظهرها إلى الوراء، واضعة رجلا على رجل، فانحسر الفستان الحريري عن بطن فخذيها، واستخرجت من حقيبتها علبة سجائر، وأشعلت سيجارة، وراحت تدخن بشغف غير عابئة بالأنظار التي تتخاطف ما انجلى من لحمها.
وغرقت في خضم الفكر، هيهات أن يبرأ قلبها من أوجاعه، ومع ذلك فهيهات أن تسترخي يدها القابضة على حبل الحياة. وتعزت بآمال كثيرة ومسرات مرتقبة، ولكن لم يجر لها في خاطر أنها قد تستجد حبا ينسيها هذا الحب الخائب؛ لأنها كانت حاقدة على الحب، ولأن الإنسان - إذ يفقد جوهرة الحب اللامعة - لا يتصور أنه سيسعد بالعثور عليها مرة أخرى. وانتبهت إلى الطريق، فإذا بالعربة تدور في محيط الأوبرا، ولمحت في دورانها عن بعد ميدان الملكة فريدة، فطار الخيال بها إلى الموسكي والسكة الجديدة والصنادقية والمدق، ولاحت لعينيها أخلاط أطياف؛ نساء ورجالا، وتساءلت: ترى هل يعرفها أحد من هؤلاء إذا رآها في هذا الزي؟ .. أيستطيع أحدهم أن يستشف حميدة وراء تيتي؟! وماذا تبالي؟! لا أب لها ولا أم! ونفخت دخان سيجارتها في استهانة ورمت بالعقب. وأخذت تتسلى بمشاهدة الطريق حتى رجعت العربة إلى شارع شريف، واتجهت نحو الحانة التي تقصدها، وفي تلك اللحظة قرع أذنيها صوت كأنما انشق عنه قبر هاتفا: «حميدة» .. فالتفتت نحوه وقد تملكها الذعر، فرأت عباس الحلو على بعد ذراع منها لاهثا.
32
صفحه نامشخص