ولكن الشيخ ازداد بكاء وعويلا، فاضطربت أنفاسه، وارتجفت أوصاله، وأطبقت شفتاه في توتر وتشنج، وراح يشد ربطة رقبته بعنف، ويضرب الأرض بقبقابه. وفتحت نوافذ الدور، وأطلت الرءوس في دهشة وانزعاج، وجاءت حسنية الفرانة، وشق النحيب طريقه إلى مسمعي السيد سليم علوان في الوكالة، فأنصت إليه غاضبا حانقا، وظل ينصت إليه هائجا، وجعل يتساءل: متى يمسك عن العويل؟ .. وعبثا حاول أن يغيب بانتباهه عنه، فكأنه كان يلح في مطاردته والتضييق عليه، حتى خيل إليه أن الدنيا جميعا تبكي وتنوح. وسكت غضبه وسكن هياجه، ولكن ما طفق البكاء يرعش أوتار قلبه فترن في إشفاق وألم. ليته شكم غضبه ولم ينتهر الشيخ الولي! .. لتيه لم يصادفه في طريقه! وما كان ضره لو أغضى عنه ومر به مر الكرام! وتأوه نادما، ومضى يقول: إن الإنسان في مثل حالته من المرض حري بأن يزدلف إلى الله، لا أن يغضب وليا من أوليائه. وطوى كبرياءه، ونهض قائما، وغادر الوكالة متوجها إلى قهوة كرشة، وقصد الشيخ الباكي غير عابئ بالأنظار التي سددت نحوه في دهشة، ووضع يده على منكبه برفق، وقال بلهجة تنم عن الاعتذار والأسف: يا شيخ درويش .. سامحني.
30
كان عباس الحلو يجلس مختبئا في شقة عم كامل حين دق الباب بعنف، فنهض إليه وفتحه، فرأى حسين كرشة مرتديا القميص والبنطلون، تبرق عيناه الصغيرتان كعادته، ثم بادره قائلا: كيف لم تقابلني وهذا ثاني يوم لك في المدق؟! .. كيف حالك؟ فمد له الحلو يده مبتسما ابتسامة باهتة وقال: كيف أنت يا حسين؟ .. لا تؤاخذني .. فمتعب أخوك، لا ناس ولا مهمل، هلم نسر معا.
وخرجا معا. وكان عباس الحلو قد قضى ليلته مسهدا، وقطع النهار متفكرا، فسار مصدع الرأس، مثقل الجفون، لم يكد يبقى من ثورة الأمس أثر، سكت الغضب الجنوني، وبرد الهياج الحامي، وتلاشت خواطر الانتقام الدموي، على حين رسب في قرارة نفسه حزن عميق ويأس مدلهم، وبمعنى آخر تخلصت نفسه مما لا تطيقه من ألوان الانفعال، مسلمة بكليتها للحزن واليأس. وقال له حسين متسائلا: أما علمت بأني كنت هجرت بيتنا عقب سفرك مباشرة؟ - حقا؟ - وتزوجت، وأخذت بأسباب حياة رائعة.
فقال الحلو وهو يكسب صوته شيئا من الاهتمام الذي لا يجده: حمدا لله .. مبارك .. عال .. عال.
وكانا بلغا الغورية، فضرب حسين الأرض بقدمه وصاح بحدة: بل زفت وهباب! .. استغنوا عني فعدت إلى الزقاق على رغمي، وأنت، هل استغنوا عنك أيضا؟
فأجابه الشاب بفتور: كلا .. ولكني منحت إجازة قصيرة.
فأكلت الغيرة قلبه، وضحك ضحكة باردة ثم قال: أنا الذي دفعتك إلى العمل دفعا وأنت تمانع، وها أنت ذا تنعم به؛ على حين أتسكع أنا متعطلا.
وكان عباس من أدرى الناس بما تنطوي عليه طبيعة صاحبه من غل وشر، فقال بانكسار: نهايتنا قريبة على أية حال، هذا ما يؤكدونه لنا.
فارتاح حسين قليلا، ثم استدرك يقول بصوت أسيف: كيف انتهت الحرب بهذه السرعة؟! من كان يصدق هذا؟!
صفحه نامشخص