واستدرك عم كامل يقول: وقد تزوجت الست سنية عفيفي.
وكاد يقول له: «العقبى لك.» ولكنه أمسك فجأة وقد دق قلبه بعنف! ذكر عند ذاك حميدة! .. ولكم ذكر هذا الموقف فيما تلا ذلك من أيام متعجبا من نسيان ما كان ينبغي أن يذكره لأول وهلة! ولكن الحلو لم ينتبه لتغيره، وسرعان ما شغل بآماله وأفراحه فتراجع خطوتين قائلا: أستودعك الله إلى حين.
وأشفق الرجل أن يدهمه الخبر على حين غرة فسأله بلهوجة: أين تقصد؟
فقال الحلو وهو يهم بالمسير: إلى القهوة أسلم على من بقي من الصحاب.
فاتكأ عم كامل على ركبتيه وقام جاهدا، وتبعه متبخترا. وكان الوقت عصرا فلم يجدا بالقهوة من أصحابهما إلا المعلم كرشة والشيخ درويش، فسلم عباس على المعلم الذي لاقاه بترحيب، وشد على يد الشيخ درويش، فرمقه الشيخ بنظرة باسمة من وراء نظارته ولم ينبس بكلمة. وكان عم كامل يعاني انقباضا ثقيلا، وحزنا مريرا، ولا يدري كيف يفاتحه بالنبأ الأليم، فقال له برجاء: هلا عدت معي إلى الدكان قليلا؟
ووقف عباس مترددا بين رجاء صاحبه وبين الزيارة المنشودة التي انتظرها جزعا بضعة شهور، ولكن لم يهن عليه عم كامل، ولم يجد بأسا في المكوث معه فترة قصيرة من الوقت، فرجع معه إلى دكانه مداريا برمه بابتسامة لطيفة، وجلسا في الداخل جنبا لجنب، وهو يقول بسرور: الحياة في التل الكبير حياة عظيمة، عمل متواصل، وربح موفور .. إني لا أبعثر نقودي قانعا بعيشة متواضعة لا تكاد تختلف عن عيشة الزقاق، حتى الحشيش لم أذقه إلا مرات معدودات، مع أنه هناك كالماء والهواء، وقد ابتعت هذا .. انظر يا عم كامل، العقبى لك!
واستخرج من جيب بنطلونه علبة صغيرة وفتحها، فبان بداخلها عقد ذهبي مركب من سلسلة وقلب رقيق، ثم استطرد وعيناه البارزتان تلمعان بسرور: شبكة حميدة .. أما علمت؟! .. سأكتب الكتاب في إجازتي هذه.
وتوقع أن يقول الرجل شيئا، ولكن عم كامل لاذ بصمت ثقيل وغض بصره كأنه يخفيه، فنظر إليه الشاب باهتمام، ولأول مرة رأى ما ينطق به وجهه من وجوم واكفهرار. ولم يكن عم كامل من الذين يفلحون في إخفاء ما يعتمل في أنفسهم، فلاح باطنه عاريا في وجهه. وسرعان ما قطب الحلو وساوره القلق، فأغلق العلبة وأعادها إلى جيبه، وأنعم في صاحبه النظر فداخله خوف انقبض له قلبه. وأشفق على قلبه الجذل الحبور أن تطفئ جذوته خيبة لا يداريها ولا يتوقعها. أشفق من ذلك إشفاقا أليما موجعا، ولكن نذر الكدر تخايلت لعينيه في وجه الرجل المرتبك الواجم، ولم يستطع مع جموده صبرا، فسأله بارتياب: ما لك يا عمل كامل؟ .. لست كعهدي بك .. ما الذي غيرك؟ .. لماذا لا تنظر إلي؟!
فرفع الرجل وجهه إليه ببطء، وطالعه بعينين مظلمتين محزونتين، وفتح فمه ليتكلم، ولكن لسانه خانه فلم يطاوعه وبلغ الجزع بعباس مداه، وتنبأ قلبه بالفاجعة، فشعر بالقنوط يطفئ أضواء فرحه، ويخمد أنفاس أمله، فهتف بحزم قائلا: ماذا وراءك يا عم؟ ما الذي تريد أن تقوله؟ عندك ما تقوله بلا ريب، بل في ضميرك أشياء وأشياء، فلا تقتلني بترددك .. حميدة؟! .. أي والله حميدة! .. قل ما تشاء .. لا تعذبني بسكوتك، هات ما عندك دفعة واحدة.
فازدرد ريقه، وقال بصوت لا يكاد يسمع: ليست موجودة! لم تعد هنا .. اختفت .. لا يدري أحد عنها شيئا.
صفحه نامشخص