قلت مرتعشة: لعلك تعني سواي بهذا الكلام. أنا لا أكره أحدا، ولا أحقد على أحد، ولا أعداء لي. وإذا صدر مني أذى فإما عن سهو، وإما عن سوء تفاهم، وأنا أول من يتألم له بعد حدوثه.
أجاب وقد تضخمت معاني البغض في صوته: بل إياك أعني، أنا عدوك أنت ولا أستطيع أن أكون لك إلا ذلك. عبثا تتحاشين طريقي، وعبثا تتبعين سبل الحذر والتحفظ. سوف أؤذيك بأصغر الأسلحة، وأوفرها اقتدارا، وأحدها مضاء، وأبعدها عن منطقة العقوبة: اللسان.
وبينا كلماته تنقض علي كالصواعق، توارى عني ففطنت لنفسي. فطنت لنفسي فوجدتني أقطع نفقا ضاق منه الجو، وثقل فيه ضغط الهواء، حتى خلته قبرا ملأته عقارب توجعني، وحيات تلسعني، وألسنة لهيب تكويني. سرت هائمة والعبرات متحجرات في أقاصي قلبي. ولما عثرت على منفذ أخرجني من النفق الرهيب، وجدت تحمسي يأسا، والأجنحة في قدمي أغلالا. خلفت سلسلة الأطواد المتساندات، ولم يبق بيني وبين المرقص إلا منبسطات السهول. عندئذ بكيت ثم مسحت دموعي المتسابقات لأفسح مجالا لدموع جديدات، ثم قلت: ترى لأي شيء يوجد في الوجود شيء؟ •••
بلطف النسيم امتدت اليد إلي. يد ترسل أناملها نورا، وتبعث من حركاتها حرارة تدفئ روحي. ولما أن أجفلت قال صاحب اليد: هاتي يدك.
فنظرت إلى الخيال قائلة: كفاني ما لقيت من الخيالات في طريقي. إني لا أطلب مساعدة أحد، وقد عدلت عن الذهاب إلى المرقص، فدعني وحيدة في كآبتي، دعني في سآمتي ويأسي وحيدة.
قال: لا أستطيع أن أدعك هنا، ولا أنت تستطيعين إلا قبول مساعدتي.
قلت: كيف ذلك؟ ومن أنت؟
قال وكأن ابتسامات الملائكة قد تجمعت في صوته إخلاصا وحلاوة: أنا الصديق. أنا ذاك الذي يشعر ويدرك ويفهم ويعلم. أنا ذاك الذي يعلم. أنا التعزية وموضع الثقة والأمان. أنا الصديق.
قلت: لا ثقة لي بأحد، وأنا لا أعرفك ولا أريد أن أعرفك.
قال: إرادتك وعكسها عندي سيان. هذه السهول لا يعرف خفاياها غيري. طريقك فيها وليس لك من دليل غيري. وعندي لك رسالة وقد جئت مرغما لأبلغها إليك.
صفحه نامشخص