تهودوا قد تهود الفلك
121
هذه العناصر الجنسية من أتراك وفرس وعرب وروم وزنج وغيرهم، وما تستلزم من عصبيات؛ وهذه العصبيات المذهبية والطائفية من تسنن وتشيع، ومن حنابلة وشافعية وحنفية، ومن مسلمين ويهود ونصارى، وغير ذلك كانت كلها حركات تموج بها المملكة الإسلامية ، تتعاون حينا، وتتفاعل حينا، وتؤثر في السياسة وفي الدين وفي العلم، وتنشأ عنها المؤامرات السرية أحيانا؛ والقتال الصريح أحيانا، وكان لها كلها أثر واضح في كل ناحية من النواحي الاجتماعية:
قد أثرت في الحالة المالية إما مباشرة وإما من طريق الحكم والسياسة، فعمرت في ناحية وخربت في أخرى ، وعدلت في ناحية وظلمت في أخرى.
وأثرت في اللغة والأدب بدخول الأعاجم يتكلمون بلغاتهم، ويتعلمون اللغة العربية ويحملونها أفكارهم وآدابهم.
وأثرت في المرأة بكثرة الأجناس المختلفة ذوات الخصائص المختلفة، وقد حمل النساء من هذه الأجناس خصائص الجمال والقبح في المظهر وفي الأخلاق وفي العادات، وغزون البيوت بما كان يعرضه النخاسون منهن في سوق الرقيق، وبما كان يحمله الغزاة معهم في حروبهم مع الروم ومع الترك ومع الفرس ومع الزنج، وما كانوا يوزعونه على الجنود وعلى الأهل والأقارب، وما كانوا يتخلون عنه فيعرضونه في الأسواق.
وأثرت في الدين من كثرة الجدل بين الفقهاء، ومن إثارة مسائل يدعو إليها هذا الجدل لم تكن معروفة من قبل، ومن تدخل السياسة في الأمور الدينية والالتجاء إلى الفقهاء يسألونهم الحلول الفقهية فيما يعرض لهم من مشاكل سياسية واجتماعية، وبما أثاره النزاع الشديد بين السنية والشيعة، وغلبة التشيع في بعض الأماكن وتكوين دول شيعية لم تكن في العصور الماضية، فدعاها ذلك إلى أن تبلور التشيع وتستعمل عقولها في إيجاد نظام الحكم والدعوة التي تتفق وأصول الشيعة كما حصل ذلك في الدولة الفاطمية، وبما كان من الاحتكاك الشديد بين المسلمين واليهود والنصارى، وما كان بينهم من تسامح أحيانا، وخصومة أحيانا، وما كان من جدل ديني بين هذه الطوائف، وما أثارته هذه الظروف المختلفة من مسائل طائفية تعرض على الفقهاء، فيبدون فيها آراءهم في ضوء الحوادث الجديدة.
وأثرت في العلم بما كان يحمله النصارى واليهود والفرس والهنود من علوم آبائهم، وجدهم في تقديم هذه الذخائر إلى الأمة الإسلامية باللغة العربية مما مكن الناطقين باللسان العربي أن يأخذ كل منهم حظه منها، ويهضمه ما استطاع ويزيد عليه ما استطاع، وتتعاون على الاستفادة منها وترقيتها العقول العربية والتركية والفارسية والرومية والهندية، ويؤلف بينها العلم بعد أن فرقت بينها العصبيات الجنسية والمذهبية؛ فيأخذ اليهودي والنصراني من العالم المسلم، ويأخذ المسلم من العالم اليهودي والنصراني، ويجلس الفارسي والتركي والهندي في حلقة العربي، ويتعاون الجميع في بناء الدولة العلمية غير آبهين بما كان من الساسة في تهديم الدولة من ناحيتها السياسية.
كل هذا وأمثاله كان من آثار هذه الحركات المختلفة، وكل ما ذكرته إشارة خاطفة لما كان لها من أثر قوي فعال سنحاول بعد شرح بعضه.
هوامش
صفحه نامشخص