47

ظهر اسلام

ظهر الإسلام

ژانرها

كان هؤلاء الأتراك أقوياء أشداء أصحاء كما تستلزمه طبيعة بلادهم، وبداوة معيشتهم. وقد ذكر لنا الجاحظ فيما سبق أن أطلق على الأتراك «أعراب العجم»، ويعني بالأعرابية البداوة، وهذه البداوة تكسبهم قوة في البدن وخشونة في الطبع، وقد تجلى هذا في معاملتهم الناس، فضج منهم أهل بغداد في عصر المعتصم. ولكن مرور الأزمان عليهم، واستيلاءهم على البلاد المنعمة المترفة، وكثرة الأموال في أيديهم، حضرهم، وعلمهم النعيم والبذخ، وحمل بعضهم على العبث بالأخلاق. حكى التنوخي أن شيخا من التجار كان له على بعض القواد مال جليل يماطله به، ولم يستطع الظلامة إلى الخليفة المعتضد؛ لأنه كان إذا جاء حجبه القائد واستخف به غلمانه، فدلوه على خياط في سوق الثلاثاء، فأمر الخياط القائد بدفع ما عليه للتاجر ففعل؛ فعجب التاجر من هذا الذي رأى، وألح عليه في السؤال عن سبب خضوع القائد! فقص عليه أنه مر مرة في الطريق فرأى تركيا على داره، وقد اجتازت امرأة جميلة عليه فتعلق بها وهو سكران ليدخلها داره، وهي ممتنعة تستغيث، وليس أحد يغيثها، وتقول: إن زوجي قد حلف بالطلاق ألا أبيت خارج بيته، فإن بيتني هذا، أخرب بيتي مع ما يرتكبه مني من المعصية، ويلحقه بي من العار.

قال الخياط: فجئت إلى التركي ورفقت به وسألت تركها، فضرب رأسي بدبوس كان في يده فشجني وآلمني، وأدخل المرأة داره، فجمعت جمعا وجئنا فضججنا على بابه، فخرج إلينا في عدة من غلمانه فأوقع بنا الضرب، وذهبت إلى بيتي ولم أزل أفكر في هذه المرأة حتى انتصف الليل، فقلت: هذا التركي قد شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات، فإن أذنت لوقع له أن الفجر قد طلع، فيطلق المرأة فتلحق بيتها قبل الفجر فتسلم من أحد المكروهين، ولا يخرب بيتها مع ما قد جرى عليها.

فخرجت إلى المسجد وصعدت المنارة فأذنت، وجعلت أتطلع منها إلى الطريق أترقب خروج المرأة فلم تخرج، وإذا الشارع امتلأ خيلا ورجالا ومشاعل، وهم يقولون: من هذا الذي أذن الساعة؟! ففزعت، ثم صحت من المنارة: أنا أذنت. فقالوا لي: انزل، فأجب أمير المؤمنين. ثم ذهب بي إلى المعتضد، وقص عليه القصة، فأحضر التركي والمرأة، فلما تحقق من صحة قولي أمر برد المرأة إلى زوجها، وأن يتمسك بها ويحسن إليها.

وقال للتركي: كم عطاؤك؟ قال: كذا وكذا. وكم وظائفك؟ قال: كذا وكذا. وجعل المعتضد يعدد ما يصل إليه، والتركي يقر بشيء عظيم، ثم قال له: فكم جارية لك؟ قال: كذا وكذا. قال: أفما كان فيهن وفي هذه النعمة العريضة كفاية عن ارتكاب معاصي الله، وخرق هيبة السلطان؟! ثم أمر به فقتل. قال الخياط: وأمرني المعتضد إذا رأيت مثل هذا العمل أن أؤذن. وانتشر الخبر، فما سألنا أحدا منهم بعدها إنصافا إلا فعل.

43

ورأينا كثيرا من قواد الأتراك - عند استيلائهم على الدولة - شرهين، وكان مظهر شرههم كثرة مطالبتهم للخلفاء بالأموال من حين لحين ؛ فإذا نصبوا خليفة فسرعان ما ينقلبون عليه يطالبونه بالأموال، فإن أعطاهم سكتوا قليلا ثم عادوا إلى المطالبة وإلا قتلوه؛ ومن أجل ذلك كثر إخفاء المال في سرداب أو حفرة في الأرض، أو بناء حوائط عليه أو نحو ذلك؛ خوفا من إلحاحهم. نسوق مثلا لذلك ما فعلوه مع المعتز، «فقد هجم قوادهم عليه وقالوا: أعطنا أرزاقنا، فطلب من أمه مالا فأبت عليه، ولم يكن في بيوت المال شيء، فاجتمع الأتراك حينئذ على خلعه».

ومظهر آخر من إفراطهم في حب المال، وهو ما نقرأ في تاريخ ذلك العصر من كثرة المصادرة للأموال، نعم كان قبل ذلك في العصر العباسي الأول شيء من هذا القبيل، ولكنه قليل، أما في هذا العصر فأصبح العادة المتبعة، وكان أول مظهر لهذه الكثرة في عهد المتوكل، وهو أول عهد استيلاء الأتراك؛ فقد صادر محمد بن عبد الملك الزيات، وأخذ ما في منزله من متاع ودواب وجوار وغلمان، وكذلك فعل مع أهل بيته، وقبض على عمر بن فرج الرخجي، وكتب في قبض ضياعه وأمواله، وغضب على أبي الوزير وأخذ منه ستين ألف دينار، وضرب إبراهيم بن الجنيد النصراني حتى أقر بسبعين ألف دينار فأخذها منه؛ وعزل يحيى بن أكثم وقبض منه ما كان له ببغداد، ومبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، وغضب على بختيشوع وقبض ماله، وصادر أموال أحمد بن أبي دؤاد، مع أنه سبب خلافته، واستصفى أمواله وأموال أبنائه، فحمل إليه من ذلك مائة ألف درهم، وعشرون ألف دينار، وجواهر بقيمة عشرين ألف دينار.

44

وهكذا افتتح عهد الأتراك بكثرة المصادرات، واستمرت طوال هذا العصر، حتى لم يرحموا قبيحة أم المعتز فسلبوها كل مالها، وكانت خبأته، وكان الخليفة أحيانا يضطر إلى كثرة المصادرات لتلبية مطالب القواد.

وكان كثير من أمراء البلدان في هذا العصر من الأتراك، كما هو الشأن في مصر؛ فمن سنة 242 هجرية وحكام مصر أتراك، وذلك منذ ولي على مصر يزيد بن عبد الله بن دينار التركي، وقبل ذلك بنحو عشرين عاما كانت مصر تمنح لحاكم تركي في الغالب يقيم في بغداد، ويستخلف عنه أميرا يقيم في مصر ويديرها نيابة عنه كأشناس وإيتاخ، واستمرت سيادة الأتراك في مصر طول مدة الطولونيين الأتراك والإخشيديين الأتراك أيضا، فكان بيد هؤلاء الولاة الأتراك السلطان والقوة والمال.

صفحه نامشخص