وأخذ أبو حيان وأصحابه يتجادلون في أن له الحق في الانتحار أو لا.
36
هذا شأن العلماء، وعامة الشعب كانوا أسوأ حالا؛ ذلك لأن النظام المالي للدولة كان نظاما سيئا، فنفقات البلاد قد بلغت حدا لا يطاق من الإسراف والبذخ وصنوف الترف، وجباية الخراج وسائر الضرائب تباع لأشخاص على سبيل الالتزام، فيعسفون بالناس حتى يبتزوا منهم أضعاف ما دفعوا، والقضاء قد اختل بتدخل الحكام وانتشار الرشوة، والجيش قد انقسم إلى شعب مختلفة من ترك وديلم ومغاربة وغيرهم، وكل فرقة تتعصب لجنسها، وتضمر العداء لغيرها، والسلطة مضطرة لإنفاق المال الكثير لاسترضاء هؤلاء وهؤلاء، والمناصب الحكومية ليست في استقرار؛ فاليوم يولى وزير، وغدا يصادر، ولكل وزير أعوانه يحظون بتوليته ويعسف بهم بعزله، وغير الوزراء شأنهم أهون.
كل هذا سبب فساد النظام المالي، واستتبع فقر الشعب واضطرابه وكثرة ثوراته.
وظاهرة أخرى نراها في الفنون، وهي أنها كانت لا تنمو إلا في بلاط الخلفاء والأمراء، فلم يكن الشاهر يشعر لنفسه إلا قليلا، ولا الفنان يتفنن لنفسه إلا نادرا، فكلهم يقصد خليفة أو أميرا يعرض عليه سلعته من شعر أو فن؛ ولذلك تلون الشعر والنثر والفن بلون الاستجداء كثيرا؛ لأن العصر لم يكن عصرا ديمقراطيا يستطيع فيه أن يعيش الفنان لنفسه أو للشعب، كما هو الشأن في العصور الحديثة، بل كان عصرا أرستقراطيا لا ينعم فيه إلا الأرستقراطيون ومن شاء أن يعيش على موائدهم، بل من شاءوا هم أن يؤكلوه من موائدهم؛ ولذلك إذا أحصيت الأدب الذي قيل في المديح، رجحت كفته جدا على الأدب الذي قيل لباعث نفساني.
وكذلك العلماء كانوا قسمين: قسما يتصل بالخلفاء والأمراء أو يشتغلون في مناصب الدولة كالخطابة والقضاء، وهؤلاء ميسورون نسبيا؛ ولذلك نرى كثيرا من تآليف العلماء في هذا العصر إنما ألفت بأمر وزير أو أمير أو نحوه، وصدره باسمه، ونوه فيه بذكره، وأما من بعدوا عن القصور فكانوا فقراء غالبا لا يكادون يجدون ما يسد رمقهم كما رأينا.
نشأ عن هذه الحالة الاجتماعية مظاهر متعددة: ترف لا حد له في بيوت الخلفاء والأمراء وذوي المناصب، وفقر لا حد له في عامة الشعب والعلماء والأدباء الذين لم يتصلوا بالأغنياء، ثم المظاهر التي تنتج عادة من الإفراط في الترف كالتفنن في اللذائذ والاستهتار والنعومة وفساد النفس، وكل المظاهر التي تنشأ عن الفقر كالحقد والحسد والكذب والخبث والخديعة. وكان من أثر هذا الفقر أيضا انتشار نزعة التصوف، فالفشل في الحياة قد يسلم صاحبه إلى الزهد، وإقناع النفس بأن نعيم الدنيا زائل، وإذا حرم الدنيا فليطلب الآخرة. كما كان من آثاره انتشار الدجل والتخريف، وتعلق الناس بالأسباب الموهومة في الحصول على الغنى لعجزهم عن تحصيله بالوسائل المعقولة؛ فتنجيم واعتقاد في الطوالع التي تسعد وتشقي، وانصراف إلى الكيمياء التي تقلب النحاس والقصدير ذهبا، والالتجاء إلى دعوات الأولياء لعل دعوتهم تتحقق فينقلب فقرهم غنى، وهذا إلى الاعتقاد في السحر والطلسمات، والبحث عن الكنوز المخبوءة، ونحو ذلك.
وعلى الجملة فالحياة المالية مضطربة أشد الاضطراب، فمع سوء التوزيع والاختلاف الشديد بين درجة الغنى والفقر، والبذخ وشدة الحجة، نرى عدم الطمأنينة على المال من عدم احترام الملكية؛ وذلك بسبب شهوات الحكام وطمعهم فيما في أيدي الناس؛ فالوزير إذا عزل صادر أمواله من يخلفه، والتاجر الكبير الثري عرضة لمصادرة الوالي له طمعا في ماله، والغني إذا مات كانت أمواله عرضة للسلب والنهب، إما بادعاء أن ليس له ورثة معروفون ووضع العقبات في سبيل إثبات الوراثة، أو المجابهة بالمصادرة من غير ذلك أسباب. فالإخشيد في مصر كان إذا توفي قائد من قواده أو كاتب من كتابه تعرض لورثته، وأخذ منهم وصادرهم، وكذلك كان يفعل مع التجار المياسير.
والوزير المهلبي لما مات قبض معز الدلة تركته وصادر عياله، وكذلك فعل بابن العميد، وهكذا. ثم إن اضطراب الحالة المالية وعدم أمن الناس على أموالهم ينتج حتما عدم انتظام الدخل والخرج فتسوء حالة الدولة، فيعالجونها بفرض الضرائب القاسية، والإمعان في المصادرات والنهب لكثرة ما يطلب من نفقات الجيوش وأمثالها، فيكون ذلك علاجا يضاعف المرض، وهو ما حدث فعلا، وكلما ساءت الحال كثر العزل والتولية، وقرب إلى الخلفاء والسلاطين من ضمن تعادل الميزانية، وإنما يضمن ذلك بالعسف الذي يئول إلى الخراب.
كان الناس طبقات مختلفة: طبقة تعتز بشرفها نسبها ودمها، من ذلك العلويون والعباسيون، وكلاهما معتز بالقرابة لرسول الله
صفحه نامشخص