الجزء الأول
في الحياة الاجتماعية من عهد المتوكل إلى آخر القرن الرابع الهجري
1 - سكان المملكة الإسلامية
2 - أهم المظاهر الاجتماعية والسياسية في ذلك العصر
مراكز الحياة العقلية في ذلك العصر
1 - مصر والشام
2 - العراق وجنوبي فارس
3 - خراسان وما وراء النهر
4 - السند وأفغانستان
5 - بلاد المغرب
6 - جزيرة العرب
الجزء الثاني
البيئة الاجتماعية في القرن الرابع الهجري
حركة العلوم تفصيلا
1 - التفسير والحديث وعلم الكلام
2 - الفقه والتصوف
3 - اللغة والأدب
4 - النحو والصرف والبلاغة
5 - الفلسفة
6 - الأخلاق
7 - في العلوم
8 - التاريخ والجغرافيا
9 - وسائل العلوم
10 - الفن
11 - التجارة، والصناعة، والزراعة
12 - القضاء والإدارة
خاتمة
المراجع
الجزء الثالث
الحياة العقلية في الأندلس
1 - الحياة الاجتماعية في الأندلس
2 - الحركة الدينية
3 - الحركة النحوية واللغوية والتأليف الأدبي
4 - الحركة الأدبية
5 - الحركة الفلسفية والعلمية
6 - التاريخ والجغرافيا
7 - الحركة الفنية
خاتمة
الجزء الرابع
مقدمة
تمهيد
المعتزلة
1 - ظهور المعتزلة
2 - تطور المعتزلة
3 - بين الشيعة والمعتزلة
4 - رجال المعتزلة في دور الضعف
5 - القاضي عبد الجبار
6 - الزمخشري
7 - أدب المعتزلة
أهل السنة
1 - الأشاعرة
2 - الماتريدية
3 - السنة تصبح مذهبا رسميا
الشيعة
1 - الشيعة1
2 - الإمامة
3 - اتفاق الشيعة والمعتزلة
4 - تأييد الحكومات للشيعة
5 - عواطف أهل الشيعة
6 - بعض فرق للشيعة
7 - الدولة الفاطمية
8 - الأدب الشيعي
الصوفية
1 - نشأة التصوف
2 - ما هو التصوف؟
3 - تطور الصوفية
4 - ذو النون المصري
5 - وحدة الوجود
6 - التسامح الديني
7 - الغزالي
8 - القطب
9 - الأدب الصوفي
10 - أطوار الأدب الصوفي
11 - الأدعية والابتهالات
12 - من الشعر الصوفي
تذييل
الجزء الأول
في الحياة الاجتماعية من عهد المتوكل إلى آخر القرن الرابع الهجري
1 - سكان المملكة الإسلامية
2 - أهم المظاهر الاجتماعية والسياسية في ذلك العصر
مراكز الحياة العقلية في ذلك العصر
1 - مصر والشام
2 - العراق وجنوبي فارس
3 - خراسان وما وراء النهر
4 - السند وأفغانستان
5 - بلاد المغرب
6 - جزيرة العرب
الجزء الثاني
البيئة الاجتماعية في القرن الرابع الهجري
حركة العلوم تفصيلا
1 - التفسير والحديث وعلم الكلام
2 - الفقه والتصوف
3 - اللغة والأدب
4 - النحو والصرف والبلاغة
5 - الفلسفة
6 - الأخلاق
7 - في العلوم
8 - التاريخ والجغرافيا
9 - وسائل العلوم
10 - الفن
11 - التجارة، والصناعة، والزراعة
12 - القضاء والإدارة
خاتمة
المراجع
الجزء الثالث
الحياة العقلية في الأندلس
1 - الحياة الاجتماعية في الأندلس
2 - الحركة الدينية
3 - الحركة النحوية واللغوية والتأليف الأدبي
4 - الحركة الأدبية
5 - الحركة الفلسفية والعلمية
6 - التاريخ والجغرافيا
7 - الحركة الفنية
خاتمة
الجزء الرابع
مقدمة
تمهيد
المعتزلة
1 - ظهور المعتزلة
2 - تطور المعتزلة
3 - بين الشيعة والمعتزلة
4 - رجال المعتزلة في دور الضعف
5 - القاضي عبد الجبار
6 - الزمخشري
7 - أدب المعتزلة
أهل السنة
1 - الأشاعرة
2 - الماتريدية
3 - السنة تصبح مذهبا رسميا
الشيعة
1 - الشيعة1
2 - الإمامة
3 - اتفاق الشيعة والمعتزلة
4 - تأييد الحكومات للشيعة
5 - عواطف أهل الشيعة
6 - بعض فرق للشيعة
7 - الدولة الفاطمية
8 - الأدب الشيعي
الصوفية
1 - نشأة التصوف
2 - ما هو التصوف؟
3 - تطور الصوفية
4 - ذو النون المصري
5 - وحدة الوجود
6 - التسامح الديني
7 - الغزالي
8 - القطب
9 - الأدب الصوفي
10 - أطوار الأدب الصوفي
11 - الأدعية والابتهالات
12 - من الشعر الصوفي
تذييل
ظهر الإسلام
ظهر الإسلام
تأليف
أحمد أمين
الجزء الأول
مقدمة
بقلم أحمد أمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وهذه هي المرحلة الثالثة بعد «فجر الإسلام وضحاه».
ومعذرة إلى القارئ الكريم من طول الفترة بين ظهور هذا الجزء، وآخر جزء من «ضحى الإسلام»، فإن ما كلفته من عمادة كلية الآداب لم يترك لي زمنا صالحا للسير في هذه السلسلة، فلما تخليت عنها احتجت إلى زمن آخر أروض فيه عقلي ونفسي على العودة إلى معاناة البحث، والصبر على الدرس.
واليوم فرغت من إعداد هذا الجزء، وقد قصدت به أن يكون مقدمة لدراسة واسعة للحركة العقلية في النصف الأخير من القرن الثالث وفي القرن الرابع، وهي أوسع حركة وأخصبها وأعمقها في تاريخ المسلمين إلى اليوم. وقد حزرت أن يستغرق وصفها خمسة أجزاء، أحدها للأندلس.
عنيت في هذا الجزء بناحيتين: (1)
وصف للحياة الاجتماعية في هذا العصر، فليس يمكن فهم الحياة العقلية إلا بفهم بيئتها التي نشأت فيها، والعوامل التي ساعدت عليها، وطبيعة الناس الذين أنتجوها ونحو ذلك. (2)
ووصف لمراكز الحياة العقلية، ونوع الحركات العلمية والأدبية التي ظهرت في كل إقليم وخصائصها، وأشهر رجالها، وهو وصف موجز ونظرة شاملة خاطفة، أردت منها أن تكون نقطة ارتكاز يتبعها تفصيلها والتوسع فيها فيما يأتي بعد من أجزاء إن شاء الله.
وفي سبيل الله ما لقيت من عناء، وخاصة في القسم الأخير؛ فقد تجاهل مؤلفو تاريخ العلوم ومؤلفو كتب التراجم - غالبا - الناحية الإقليمية والزمنية، فأرخوا الحركة العلمية على أنها وحدة، وترجموا للمؤلفين من غير مراعاة لأزمتهم ولا أمكنتهم، وكل ما راعوا هو ترتيب أسمائهم على حروف الهجاء، فأحمد في القرن الثاني في العراق بجانب «أحمد» في القرن السادس أو السابع في مصر، وهكذا؛ فمن أراد أن يفرز علماء كل عصر وحدهم، وفي كل قطر على حدة تحمل من العناء ما لا يقدر. ولم يحملني على سلوك هذا المسلك في التأليف مجرد الرغبة في إيضاح الحركة العلمية والأدبية وزمانها ومكانها؛ بل إن تحديد زمانها ومكانها يعين على تفهم أسباب وجودها وطبيعة تكوينها، فالموشحات والأزجال لم توجد في الأندلس دون غيرها اعتباطا، ولا المقامات نشأت في إقليم خراسان مصادفة، ولا الحركة الفلسفية أزهرت في العراق أول الأمر اتفاقا. وإنما ذلك كله يرجع إلى أسباب طبيعية حتمية، وما كان يمكن أن يكون غير ذلك، فتعيين زمن الحركة ومكانها معين على فهمها فهما علميا صحيحا، وهذا ما قصدت إليه.
والله أسأل أن ينفع به كما نفع بسابقه، وأن يعين على إتمامه.
مصر الجديدة - الجمعة
16 ربيع الثاني سنة 1364ه
30 مارس سنة 1945م
في الحياة الاجتماعية من عهد المتوكل إلى آخر القرن الرابع الهجري
الفصل الأول
سكان المملكة الإسلامية
عنصر الأتراك - في هذا العصر الذي نؤرخه، ظهر في المملكة الإسلامية عنصر كبير بجانب العنصرين العظيمين - الفرس والعرب - وهو عنصر الأتراك، وكان له أثر كبير في تاريخ الأمة الإسلامية وحياتها السياسية والاجتماعية.
ذلك أن المعتصم الذي تولى الخلافة سنة 218ه استقدم سنة 220ه قوما من بخارى وسمرقند وفرغنة وأشروسنة وغيرها من البلاد التي نسيمها «تركستان»، وما وراء النهر، «اشتراهم وبذل فيهم الأموال، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب، وأمعن في شرائهم حتى بلغت عدتهم ثمانية آلاف مملوك، وقيل ثمانية عشر ألفا» وهو الأشهر.
1
وسبب اتجاه المعتصم إلى الأتراك يرجع إلى أمور: (1)
إن أهم عنصر في الجند كانوا إلى عهد المعتصم هم الخراسانين، وهو فرس من خراسان، وكانوا عماد الدولة العباسية نحو قرن، من عهد إنشاء الدولة إلى المعتصم، كما كانوا حرس الخلفاء؛ وكان بجانب هؤلاء الجنود من الفرس جنود من العرب، من مضر واليمن وربيعة، ولكن هؤلاء العرب كانوا أقل شأنا وأقل حظوة، وأقل عددا من الفرس.
ضعفت ثقة الخلفاء بالعرب على ممر الأيام؛ إذ رأوهم لا يتحمسون للقتال لهم تحمس الفرس. وقد تقدم أن رجلا تعرض للمأمون بالشام وقال له: «يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان!» ولكن المعتصم بدأ يشعر أيضا بضعف ثقته بالفرس؛ وذلك أن كثيرا من الجند لما مات المأمون كان هواهم مع ابنه العباس؛ لأن أم المأمون فارسية، فدعتهم عصبيتهم للمأمون - نصف الفارسي - أن يتعصبوا لابنه العباس أيضا.
وذكر «الطبري» أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق - المعتصم - بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضروه فبايعه العباس ثم خرج العباس إلى الجند فقال: ما هذا الحب البارد؟! قد بايعت عمي، وسلمت الخلافة إليه. فسكن الجند.
2
لم تمر هذه الحادثة على المعتصم من غير أن تدعوه إلى التفكير العميق؛ حتى لا يتكرر مثل هذا الحادث، ففكر أن يستعين بقوم غير الفرس وغير العرب، فهداه تفكيره إلى الترك، وظل لا يصفو للعباس ولا العباس يصفو له حتى اتهم العباس بأنه يدبر مؤامرة لاغتيال المعتصم، فقبض على العباس وسجن ومنع عنه الماء حتى مات. (2)
وسبب آخر لاستدعاء المعتصم للترك، وهو أن أم المعتصم أصلها من هذه الأصقاع التركية، فقد كانت من السغد، واسمها ماردة، وكان في طباعه كثير من طباع هؤلاء الأتراك، من القوة والشجاعة والاعتداد بقوة الجسم؛ «كان يجعل زند الرجل بين إصبعيه فيكسره». ويقول أحمد بن أبي دؤاد: «كان المعتصم يخرج ساعده إلي ويقول: عض ساعدي بأكثر قوتك. فأمتنع، فيقول: إنه لا يضرني! فأورم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلا عن الأسنان!»
3
فدعته العصبية التركية والتشابه الخلقي أن يفكر في استدعاء الأتراك ففعل.
استكثر المعتصم من الأتراك حتى ملئوا بغداد وضايقوا أهلها، قال المسعودي: «كانت الأتراك تؤذي العوام بمدينة السلام بجريها بالخيول في الأسواق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك، فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمه لامرأة أو شيخ كبير، أو صبي أو ضرير؛ فعزم المعتصم على النقلة معهم ... فانتهى إلى موضع سامرا، فأحضر الفعلة والصناع وأهل المهن من سائر الأمصار، ونقل إليها من سائر البقاع أنواع الغروس والأشجار، فجعل للأتراك مواضع متميزة، وجاورهم بالفراغنة والأشروسنية ... وأقطع أشناس التركي وأصحابه من الأتراك الموضع المعروف بكرخ سامرا ... إلخ».
4
كان من هؤلاء الأتراك مسلمون أسلموا على أثر فتح المسلمين لبلادهم في العصر الأموي، ومنهم مجوس وثنيون أخذوا يسلمون عند استقدام المعتصم لهم، وكانوا يتكلمون التركية، فأخذوا يتعلمون العربية، وقد عرفوا بالشجاعة والصبر على القتال كما عرفوا بخشونة البداوة وقسوة الطبيعة؛ وحافظ المعتصم على دمائهم أن تبقى متميزة، فجلب لهم نساء من جنسهم زوجهن لهم، ومنعهم أن يتزوجوا من غيرهم.
مكن المعتصم للأتراك في الأرض، وكانوا في أول أمرهم قوة للدولة، وبسببهم - على الأكثر - يرجع انتصارهم على الروم في وقعة عمورية سنة 223ه، فكانت القيادة العليا في يد الأتراك وعلى رأسهم أشناس.
من ذلك التاريخ دخل في نزاع العصبية عنصر قوي جديد، فقد كان النزاع قبل بين الفرس والعرب، فأصبح بين العرب والفرس والترك؛ وكان العرب قد ضعف أمرهم في نزاعهم مع الفرس، فجاءت قوة الترك ضغثا على إبالة، وتوجهت قوة الترك أولا - لإضعاف شأن هؤلاء الفرس المستبدين بالسلطان. وأخذ التاريخ الإسلامي يصطبغ بالصبغة التركية، وبعد أن كانت الأحداث تتصل بأعلام الفرس، كأبي مسلم الخراساني والبرامكة والحسن بن سهل والفضل بن سهل، وعبد الله بن طاهر وأمثالهم؛ ظهر التاريخ مرتبطة أحداثه بأشناس، وإيتاخ، وبغا الكبير، وبغا الصغير، وابن طولون وأمثالهم من الأتراك؛ إذ كانوا القابضين على زمام الدولة والمتصرفين في شئونها.
وبدأت العصبية ضد الأتراك من عهد دخولهم بغداد، فقد شكا أهل بغداد للمعتصم وقالوا له: تحول عنا وإلا قاتلنا! قال: وكيف تقاتلونني وفي عسكري ثمانون ألف دارع؟! قالوا: نقاتلك بسهام الليل - يعنون الدعاء - فقال المعتصم: والله ما لي بها طاقة! فبنى لذلك سر من رأى وسكنها.
5
وهجا دعبل الخزاعي المعتصم لتعصبه للأتراك وحمايته إياهم فقال:
لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم
وصيف وأشناس وقد عظم الخطب
وإني لأرجو أن ترى من مغيبها
مطالع شمس قد يغص بها الشرب
وهمك تركي عليه مهانة
فأنت له أم وأنت له أب
بل يظهر أن المعتصم نفسه - وهو جالب الأتراك - قارن بين خدمة الفرس للخلفاء قبله وخدمة الترك له، فحمد الأولى وذم الثانية؛ فقد روى الطبري أن المعتصم، دعا أبا الحسين إسحاق بن إبراهيم،
6
وبعد حديث طويل، قال المعتصم: يا إسحاق! في قلبي شيء أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة. فقال إسحاق: قل يا سيدي فأنا عبدك وابن عبدك. قال المعتصم: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم! قال إسحاق: ومن الذي اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين؛ فقد رأيت وسمعت، وعبد الله بن طاهر؛ فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت؛ فأنت والله الذي لا يعتاض السلطان منك أبدا، وأخوك محمد بن إبراهيم؛ وأين مثل محمد؟! وأنا فاصطنعت الأفشين؛ فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس؛ ففشل أيه! وإيتاخ؛ فلا شيء، ووصيف؛ فلا مغنى فيه! فقال إسحاق: أجيب يا أمير المؤمنين على أمان من غضب؟ قال: قل. قال إسحاق: يا أمير المؤمنين، نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب، إذ لا أصول لها! قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب.
7
وكره أهل بغداد مجيئهم إذ كانوا شؤما عليهم في حلهم وترحالهم، فلما أقاموا بينهم كانت خيولهم تصيب الضعفاء والمرضى، ولما رحلوا عنهم إلى القاطول
8
ثم سامرا أثر ذلك أثرا سيئا في بغداد من حيث تجارتها وحضارتها، فقال بعضهم في ذلك يعير المعتصم:
أيا ساكن القاطول بين الجرامقة
تركت ببغداد الكباش البطارقة
وأخذ المحدثون يضعون الأحاديث في ذم الترك تعبيرا عن شعورهم وشعور الناس، فرووا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «الترك أول من يسلب أمتي ما خولوا.» وعن ابن عباس أنه قال: «ليكونن الملك - أو قال الخلافة - في ولدي حتى يغلب على عزهم الحمر الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة.» وعن أبي هريرة أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يجيء قوم عراض الوجوه صغار الأعين، فطس الأنوف، حتى يربطوا خيولهم بشاطئ دجلة.»
9
زاد نفوذ الأتراك شيئا فشيئا، بكثرة ما كان يرد على عاصمة الخلافة من بلادهم، وبما أبدوا من بسالة في حروبهم، وبما تزاوجوا وتناسلوا، وبتأييد الخلفاء لهم؛ فالواثق بعد المعتصم «استخلف سنة 228ه على السلطنة أشناس التركي، وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجا مجوهرا. وأظنه أول خليفة استخلف سلطانا، فإن الترك إنما كثروا في أيام أبيه».
10
وفي أيامه نكل قواد الأتراك بكثير من الأعراب في مواضع مختلفة من جزيرة العرب، فمرة حول «المدينة»، ومرة باليمامة، وكان على رأس الجيش بغا الكبير التركي. واحتقر الأعراب أول أمرهم هؤلاء الترك وقالوا لمن استنجد بهم: ما هؤلاء العبيد والعلوج؟ تقاتلنا بهم؟! والله لنرينك العبر!» ولكن هؤلاء العبيد والعلوج انتصروا عليهم، وكان بغا يحضر الواحد من أسرى بني نمير ويضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة وأقل من ذلك وأكثر. وعاد بغا ومعه الأسرى من قبائل مختلفة من العرب،
11
ولهذه الحادثة وأمثالها أثر في ضعف نفسية العرب أمام الترك.
وكان مما فعله المعتصم متمما لاعتماده على الأتراك أن كتب إلى واليه على مصر كيدر، واسمه نصر بن عبد الله، يأمره بإسقاط من في الديوان من العرب
12
وقطع أعطياتهم. فلما قطع العطاء عنهم خرج يحيى بن الوزير الجروي في جمع لخم وجذام وقال: «هذا أمر لا نقوم في أفضل منه؛
13
لأنه منعنا حقنا وفيئنا.» واجتمع إليه نحو من خمسمائة رجل. فتوجه إليهم مظفر بن كيدر في بحيرة تنيس، فأسر يحيى بن الوزير وتفرق عن أصحابه، فانقرضت دولة العرب من مصر وصار جندها العجم والموالي من عهد المعتصم، إلى أن ولي أحمد بن طولون التركي، فاستكثر من العبيد وبلغت عدتهم زيادة على أربعة وعشرين ألف غلام تركي، وأربعين ألف أسود وسبعة آلاف حر مرتزق.
14
ولا شك أن هذه الحادثة أيضا أضعفت من شأن العرب وخاصة في مصر.
وتولى المتوكل سنة 232ه، فكان قد مضى على مجيء الأتراك اثنتا عشرة سنة تمكنوا فيها من الأرض وعرفوا الناس والبلاد، وخدمتهم الحوادث في إعلاء سلطانهم؛ فرأينا إيتاخ التركي هو الذي بيده معظم الأمور.
وإيتاخ هذا غلام تركي كان طباخا فاشتراه المعتصم، وكان ذا رجولة وبأس «فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالا كثيرة، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله، فعند إيتاخ يقتل وبيده يحبس، منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون». فلما ولي المتوكل كان إيتاخ في أعلى مرتبته، إليه الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبربر والحجابة ودار الخلافة،
15
حتى لقد خرج المتوكل مرة متنزها إلى ناحية القاطول وشرب وعربد على إيتاخ، فهم إتياخ بقتله، فلما أصبح أخبر المتوكل بذلك فاعتذر إلى إيتاخ وقال له: «أنت أبي وربيتني.»
16
نعم إن المتوكل دبر له مكيدة فقتله، ولكن هذا لم يضعف شأن الأتراك في شيء، بل أوغر صدرهم على المتوكل.
أصبحت أمور الدولة في يد الأتراك، وأصبحوا مصدر قلق واضطراب، فهم يكرهون الفرس والعرب، وهم أنفسهم ليسوا في وفاق بعضهم مع بعض، وهم لا ينقطعون عن المؤامرات والدسائس، وتعصب كل فريق لقائد منهم، وهم كثيرو الطمع في الأموال لا يشبعون، وعلى الجملة فقد أصبحت «دار السلام» وما حولها ليست دار سلام.
لا بد أن يكون المتوكل قد شعر بهذا الجو الحائق بما يثيره الأتراك من شرور، ولا بد أن يكون قد أحس الخطر على حياته منهم، ففكر أن ينقل عاصمة الخلافة من العراق إلى دمشق، وأن يعود إلى عاصمة الأمويين لعله يجد فيها من العنصر العربي من يغنيه عن العنصر التركي؛ ففي سنة 243ه؛ أي بعد خلافته بإحدى عشرة سنة، رحل إلى دمشق، ولكنه لم يطل مقامه بها، فلم يستطب جوها كما قالوا. وهو مع هذا لم يسلم من شغب جنود الشام عليه، «فاجتمعوا وضجوا يطلبون الأعطية، ثم خرجوا إلى تجريد السلاح والرمي بالنشاب»،
17
فعاد إلى سامرا، وكان بين خروجه منها وعودته إليها ثلاثة أشهر وسبعة أيام، وبعد أربع سنوات من عودته قتله الأتراك.
لقد رأى المتوكل أن يتخلص من الأتراك ويعيد الدولة سيرتها الأولى، ولكن كان ابنه المنتصر يشايعهم، «فعزم المتوكل أن يفتك بالمنتصر، ويقتل وصيفا وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم»،
18
وعزموا على الفتك به؛ فكان ذلك مفترق الطرق، فإن نجح زالت دولة الأتراك وعادت غلبة الفرس، ورجعت الأمور إلى ما كانت عليه، ولكن شاء القدر أن ينجحوا هم، فتقدم باغر التركي حارس المتوكل ينفذ مؤامرة من القواد الأتراك على رأسهم بغا الصغير، ومعه عشرة غلمان من الأتراك وهم متلثمون والسيوف في أيديهم، وصعدوا على سرير الملك، وضرب باغر «المتوكل» بالسيف فقده إلى خاصرته، ثم ثناه على جانبه الأيسر ففعل مثل ذلك، وأقبل الفتح «بن خاقان» يمانعهم فبعجه واحد منهم بالسيف في بطنه فأخرجه من متنه، فلفا في البساط الذي قتلا فيه، وطرحا ناحية، فلم يزالا على حالتهما في ليلتهما وعامة نهارهما، حتى استقرت الخلافة للمنتصر فأمر بهما فدفنا.
كان قتل المتوكل أول حادثة اعتداء على الخلفاء العباسيين، فكل من كان قبله مات حتف أنفه «إلا الأمين فقد قتل بعد هزيمته في الحرب». ولم يكن قتل المتوكل اعتداء على المتوكل وحده، بل هو قتل لسلطان كل خليفة بعده، ولم يكن قتله بيد باغر وحده بل بيد الأتراك. وكان في قتله حياة الأتراك وسلطانهم، وإنذار عام للبيت المالك أن من أراد أن يلي الخلافة فليذعن إذعانا تاما للأتراك، ومن حدثته نفسه - من الخليفة فمن دونه - أن يناوئهم فليوطن نفسه على القتل.
وهكذا كانت هذه الحادثة مصرع الخلافة، ومجد الأتراك، فكان الخليفة بعده خاتما في أصبعهم أو أقل من ذلك، حتى قنع بالسكة والخطبة، «وصار يضرب ذلك مثلا لمن له ظاهر الأمر، وليس له من باطنه شيء، فيقال: قنع فلان من الأمر الفلاني بالسكة والخطبة، يعني قنع منه بالاسم دون الحقيقة»،
19
وفي هذا المعنى يقول بعضهم في الخليفة المستعين:
خليفة في قفص
بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له
كما يقول الببغا
لقد شهد البحتري مقتل المتوكل وكان نديمه وجليسه ، وفزع لذلك، ووصف مقتله في قصيدته الرائية المشهورة، يقول فيها:
ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه
وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره
وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت
على عجل أستاره وستائره
وفيها:
حلوم أضلتها الأماني ومدة
تناهت وحتف أوشكته مقادره
ومغتصب للقتل لم يخش رهطه
ولم تحتشم أسبابه وأواصره
صريع تقاضاه السيوف حشاشة
يجود بها والموت حمر أظافره
أدافع عنه باليدين ولم يكن
ليثني الأعادي أعزل الليل حاسره
ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي
درى الفاتك العجلان كيف أساوره
حرام علي الراح بعدك أو أرى
دما بدم يجري على الأرض مائره
وهل أرتجي أن يطلب الدم واتر
يد الدهر والموتور بالدم واتره؟ ... إلخ.
بل يخيل إلي أن البحتري هاله ما فعله الأتراك بسيده المتوكل وهو الذي مجده في كثير من قصائده، وأسبغ عليه فيها نوعا من التقديس.
وشبيه النبي خلقا وخلقا
ونسيب النبي جدا فجدا
يا ابن عم النبي حقا ويا أز
كى قريش دينا ونفسا وعرضا
بنت بالفضل والعلو فأصبح
ت سماء وأصبح الناس أرضا
ولم يستطع أن يهجو الأتراك في صراحة وإقذاع، وهم الذين بيدهم السلطان، وآلمه ما آل إليه أمر الدولة وقد غلب عليها الأتراك، وما كانت عليه الدولة أيام كان السلطان سلطان الفرس، فحنق على الأولى، وحمد الأخرى. فيخيل إلي أنه قال «بمظاهرة» طريفة يرضي بها شعوره، وهي أنه حج إلى إيوان كسرى رمز سلطان الفرس، ووقف أمامه شاكيا باكيا، وقال سينيته البديعة المشهورة يندب حظه ويبكي أمسه:
حضرت رحلي الهموم فوجه
ت إلى أبيض المدائن عنسي
أتسلى عن الحظوظ وآسى
لمحل من آل ساسان درس
ذكرتنيهم الخطوب التوالي
ولقد تذكر الخطوب وتنسي •••
وهو ينبيك عن عجائب قوم
لا يشاب البيان فيهم بلبس •••
ليس يدرى أصنع إنس لجن
سكنوه أم صنع جن لإنس
غير أني أراه يشهد أن لم
يك بانيه في الملوك بنكس
بل هو يصرح بعد ذلك أن الفرس ليسوا قومه، ولكن لهم فضل على العرب بما أيدوا من ملكهم، وما خدموا في دولتهم (أي وليس كذلك الترك). وفضلا عن ذلك فإنه يألف الأشراف من كل جنس، ويحب الأصول من كل قوم:
ذاك عندي وليست الدار داري
باقتراب منها ولا الجنس جنسي
غير نعمى لأهلها عند أهلي
غرسوا من ذكائها خير غرس
أيدوا ملكنا وشدوا قواه
بكماة تحت السنور حمس
وأراني من بعد أكلف بالأشرا
ف طرا من كل سنخ وأس
فهذه القصيدة ليست نزعة شعوبية من البحتري كما يرى بعضهم، ولكنها - فيما أرى - حسرة على عهد الفرس بعد أن رأى عهد الأتراك، وبكاء على عصر كان الفرس فيه يحتفظون بأبهة الخليفة وعظمته، ويعملون ما عملوا في خدمته، وألم من عصر الأتراك الذي محوا فيه سلطة الخليفة وسلبوه سلطانه، وأخضعوه لإشارتهم، وجعلوه تابعا لأمرهم ونهيهم، وأخيرا فعلوا فعلتهم الشنعاء فقتلوه أشنع قتلة، ولم يرعوا له ولا للخلافة أية حرمة.
وقد خلف لنا الجاحظ رسالة في موضوع العصبية عند مجيء الترك، وهي رسالة كتبها للفتح بن خاقان التركي في مناقب الترك، تمثل لنا أصدق تصوير العصبية بين الجنود المختلفة لما جند الأتراك، وما يقال عن الجنود يصح أن يقال عن غيرهم. وقد ذكر في هذه الرسالة أنه ألفها أيام المعتصم جالب الأتراك، وأنه أراد أن يوصلها إليه فلم تصل، لأسباب يطول ذكرها، ولم يبين لنا شيئا من هذه الأسباب، والظاهر أنها لم تصل إليه؛ لأن من كان في قصر المعتصم من الفرس والعرب عملوا على ألا تقع في يده فتعظم عصبيته للترك.
ويظهر أنه أعاد كتابتها من جديد على ضوء ما كان من عظمة الترك، وقدمها للفتح بن خاقان وزير المتوكل، وكل قوم من الجند في ذلك العصر كان لهم أدباء وعلماء ومتحدثون، يتكلمون في مناقب قومهم وميزتهم عن غيرهم. أما الأتراك فلم يكن لهم شيء من ذلك، فتعاون الفتح بن خاقان والجاحظ على أن يسدا هذا النقص، ويبينا مناقب الترك؛ فكتب الجاحظ رسالته في ذلك وحكى فيها بعض أقوال الفتح. وقد استعمل الجاحظ عقله وقلمه وفلسفته في إعلاء شأن الترك؛ تقربا لذوي النفوذ، وإظهارا لمزيته البلاغية، بقطع النظر عن كونه يعتقد ما يقول أو لا يعتقد.
والرسالة قيمة جدا من ناحية حكاية ما كان يجول بخاطر الجند على اختلاف أنواعهم ونوع عصبيتهم. ويقول فيها إنه لا يريد أن يذكر مناقب الأتراك ويتبعه بمعايب غيرهم، بل يكتفي بذكر المناقب قصدا إلى الألفة وتوحيد القلوب، ولكنه بسط مناقب الترك وبالغ في إعلاء شأنهم، وأسبغ عليهم، بقلمه السيال وأسلوبه الواسع؛ عظمة وأبهة تكفيان في إشعار القارئ أن الترك أعظم جند، وأشجع قوم؛ فهو بهذا الأسلوب الماكر رفع من شأن الترك، ووضع من غيرهم تحت ستار الدعوة إلى الألفة.
حكى في صدر الرسالة حكاية الفتح بن خاقان من أنه سمع رجلا يقسم الجند في عهد المتوكل إلى أقسام: خراساني، وتركي، ومولي، وعربي، وبنوي.
20
فاعترض عليه الفتح وأبى هذا التقسيم، ودعا إلى أن ينظر إلى الجند كوحدة لا كأجناس، وأن هذا الجند مع اختلاف أجناسه متقارب الأنساب، فالخراساني والتركي متقاربان في الشبه والصقع، وأن القرب بينهما أكثر مما بين العدنانيين والقحطانيين مع أن كلهم عرب، وأن البنويين خراسانيون؛ لأن نسب الأبناء نسب الآباء، وأن الموالي أشبه بالعرب وأقرب إليهم، وهو عرب في المدعى وفي العاقلة وفي الراية، وقد جاء: «مولى القوم منهم»، و«الولاء كلحمة النسب»، وأن الأتراك صاروا من العرب لهذا المعنى؛ لأن الأتراك موالي الخلفاء، فهم موالي لباب قريش. وحكي عن الفتح، أن هذه الأجناس بهذا المعنى يجب أن يكونوا متوازرين متكاتفين محبين للخلفاء ... إلخ إلخ.
وهو كلام جيد نظريا، ولم يكن واقعا عمليا، فالدعوة الجنسية كانت بالغة أشدها، والعداوة بينهم متغلغلة في أعماق صدورهم.
ثم حكى الجاحظ عن «الفتح» أن هذا القائل ذكر مناقب لكل جنس من الجنود وألغى ذكر الأتراك، فذكر أن الخراسانيين يفخرون ويقولون: إنا دعاة الدولة العباسية ونحن النقباء والنجباء وأبناء النجباء، وبنا زال ملك بني أمية، ونحن الذين تحملوا العذاب وبضعوا بالسيوف الحداد، ندين بالطاعة ونقتل فيها، ونموت عليها؛ ونحن قوم لنا أجسام وأجرام، وشعور وهام، ومناكب عظام، وجباه عراض، وسواعد طوال ، وأبداننا أحمل للسلاح، ونحن أكثر مادة ونحن أكثر عددا وعدة، ومتى رأيت مواكبنا وفرساننا وبنودنا التي لا يحملها غيرنا علمت أنا لم نخلق إلا لقلب الدول وطاعة الخلفاء وتأييد السلطان؛ ونحن أرباب النهى وأهل الحلم والحجى؛ وأهل النجابة في الرأي، والبعد من الطيش، وليس في الأرض صناعة عراقية ولا حجازية، من أدب وحكمة، وحساب وهندسة وارتفاع بناء، وفقه ورواية، نظرت فيها الخراسانية إلا فرعت فيها الرؤساء وبذت فيها العلماء ... إلخ إلخ.
والعرب يفخرون بالأنساب وبالشعر الموزون الذي يبقى بقاء الدهر، ويلوح ما لاح نجم، وبالكلام المنثور والقول المأثور وتقييد المآثر، إذ لم يكن ذلك من عادة العجم - قالوا - ونحن أصحاب التفاخر والتنافر، والتنازع في الشرف والتحاكم إلى كل حكم مقنع، وكاهن شجاع، ونحن أصحاب التعاير بالمثالب والتفاخر بالمناقب، نقاتل رغبة لا رهبة. ثم ردوا على الخراسانيين بأن أكثر النقباء في الدعوة العباسية كانوا من العرب ... إلخ.
وفخر الموالي بأنهم موضع الثقة عند الشدة، وأن شرف السادة راجع إليهم، إذ هم منهم، ثم لهم الطاعة والخدمة والإخلاص وحسن النية - قالوا - ونحن أشكل بالرعية، وأقرب إلى طباع الدهم، وهم بنا آنس، وإلينا أسكن، وإلى لقائنا أحن، ونحن بهم أرحم، وعليهم أعطف ... إلخ.
وقال البنوي: إنا أصلنا خرساني وهو مخرج الدولة، ومطلع الدعوة، ولنا بعد في أنفسنا ما لا ينكر، من الصبر تحت ظلال السيوف القصار، والرماح الطوال، ولنا معانقة الأبطال عند تحطم القنا وانقطاع الصفائح، ونحن أهل الثبات عند الجولة، والمعرفة عند الخبرة، مع حسن القد، وجودة الخرط، ثم لنا الخط والكتابة، والفقه والرواية، ولنا بغداد بأسرها تسكن ما سكنا وتتحرك ما تحركنا؛ ونحن تربية الخلفاء وجيران الوزراء، ولدنا في أفنية ملوكنا، ونحن أجنحة خلفائنا، أخذنا بآدابهم، واحتذينا على مثالهم.
فأخذ الجاحظ بعد يشيد بفضل الترك، فيزعم أن كل الأجناد يرجعون إلى شيء واحد كما قال «الفتح»؛ فالبنوي خراساني، والخراساني مولي، والمولي عربي بالولاء، والأتراك خراسانية (أي بحكم القرب والجوار)، فصار البنوي والخرساني والمولي والعربي والتركي شيئا واحدا، فصار فضل التركي إلى الجميع راجعا، وصار شرفهم زائدا في شرفهم، ورجا أنه إذا عرف سائر الأجناد ذلك تسامحت النفوس، ومات الضغن وانقطع سبب الاستثقال.
بدأ الجاحظ دفاعه عن الأتراك بحكاية قصها عن قوم أيام المأمون تذاكروا أي الاثنين أشجع: الخارجي أم التركي؟ وكان الخوارج معروفين بين الناس إذ ذاك بأنهم أشجع جند وأصبر الناس على قتال، وانتهى من هذه القصة بنتيجة هي أن التركي أشجع من الخارجي؛ لأن الخوارج عرفوا بعشر مزايا في القتال، والتركي يفضلهم فيها جميعا؛ لأنه أثبت عزما حتى لقد عود برذونه ألا ينثني، وهو أصدق رماية؛ فالتركي يرمي الوحش والطير والناس في سرعة وإصابة، والخوارج إذا ولوا فقد ولوا، ولكن التركي إذا ولى فهو السم الناقع؛ لأنه يصيب بسهمه وهو مدبر كما يصيب بسهمه وهو مقبل.
والتركي في حال شدته معه كل شيء يحتاج إليه لنفسه ولسلاحه ولدابته، والتركي هو الراعي وهو السائس، وهو الرائض وهو النخاس وهو البيطار، وهو الفارس، وهو أصبر على السير وعلى الصعود في ذرى الجبال، والتركي في بلاده لا يقاتل على دين، ولا على تأويل، ولا على ملك، ولا على خراج، ولا على عداوة، ولا على وطن، وإنما يقاتل على السلب، فكيف إذا انضم إلى ذلك غضب أو تدين، أو عرض له بعض ما يصحب القاتل من العلل والأسباب، والأتراك قوم وضع بنيتهم على الحركة وليس للسكون فيهم نصيب، وهم أصحاب توقد واشتعال وفطنة، وهم يرون الاكتفاء بالقليل عجزا، وطول المقام بلادة، والراحة غفلة، والقناعة من قصر الهمة.
ويقول بعد: إن كل أمة امتازت بشيء، فأهل الصين في الصناعات، واليونان في الحكم والآداب، والفرس في الملك والسياسة؛ والعرب لم يكونوا تجارا ولا صناعا ولا أطباء ولا حسابا، ولا طلبوا المعاش من ألسنة المكاييل والموازين، ولم يحتملوا ذلا قط فيميت قلوبهم، ويصغر عندهم أنفسهم، وكانوا سكان فياف، وتربية عراء، فوجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتثقيف اللغة، وتصريف الكلام، وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، والبصر بالخيل والسلاح، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس ، وإحكام شأن المناقب والمثالب ومزية الأتراك في الحروب، وهم كذلك أصحاب عمد، وسكان فياف، وأرباب مواش، وهم أعراب العجم، كما أن هذيلا أكراد العرب، لم تشغلهم الصناعات ولا التجارات، ولا الطب والفلاحة والهندسة، ولا غراس ولا بنيان، ولا شق أنهار، ولا جباية غلات، ولم يكن همهم غير الغزو والغارة والصيد، وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم، وتدويخ البلاد، لذتهم في الحرب، وهي فخرهم وحديثهم وسمرهم، وقد اتصفوا بالصفات التي تستتبع النجدة والفروسية، من الكرم وبعد الهمة وطلب الغاية، والحزم والعزم والصبر.
وبذلك انتهت رسالته الطويلة التي أوجزناها إيجازا تاما.
ومنها نستدل على أن العصبية في هذا العصر كانت شديدة قوية؛ كل عنصر يعدد مزاياه، ويدل بها على من سواه؛ فعربي يفخر بلسانه وسيفه، وفارسي يفخر بسياسته وملكه ... إلخ؛ وأن الأتراك كانت مزيتهم حسن القتال وما يستتبعه من صفات، فلم يفخروا بعلم ولا سياسة ولا بسابقة دين ولا شيء من ذلك، فلما كان هذا شأنهم في قوة القتال، غلبوا على كل سلطان.
أراد الفتح بن خاقان والجاحظ أن ينشرا عقيدة الوحدة بين الجنود وتناسي الأجناس، ولكن أنى لهما ذلك، والدين نفسه لم يستطع أن يمحو هذه العصبية، وعمل الأتراك أنفسهم باستبدادهم وطغيانهم يحيي العصبية ويجعلها وسيلة للدفاع عن النفس، بل وطريقة الجاحظ التي سلكها في مناقب الأتراك من شأنها أن تقوي العصبية لا أن تضعفها؟!
كان طبيعيا أن يزداد نفوذ الأتراك بقتلهم المتوكل وتنصيبهم المنتصر. وقد حكى الطبري «أن المنتصر عزم على أن يغزي وصيفا التركي؛ الثغر الشامي، فقال أحمد بن الخصيب للمنتصر: «ومن يجترئ على الموالي - الأتراك - حتى تأمر وصيفا بالشخوص؟!»»
21
وأمر الأتراك المنتصر أن يخلع أخويه المعتز والمؤيد من الخلافة خوفا أن ينتقما - إذا وليا - من قتلة المتوكل، وكان لذلك كارها، فدعاهما المنتصر، والأتراك وقوف وقال: «أترياني خلعتكما طمعا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له؟ والله ما طمعت في ذلك ساعة قط، وإذا لم يكن في ذلك طمع، فوالله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من أن يليها بنو عمي، ولكن هؤلاء - وأومأ إلى سائر الموالي؛ يريد الأتراك - ألحوا علي في خلعكما، فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة فيأتي عليكما.»
22
فلما مات المنتصر بعد خلافته بستة أشهر، وقبل أن يستخلف خليفة بعده، استحلف القواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية على أن يرضوا بمن يرضى به بغا الكبير وبغا الصغير وأتامش، وجميعهم أتراك، وهؤلاء قد اختاروا أحمد بن محمد المعتصم، ولقبوه المستعين فبايعه سائر الناس.
ضايق الأتراك المستعين بعد ذلك، وضايقوا الناس حتى ضج وضجوا، ودبروا المؤامرات لاغتياله، فهرب من سامرا إلى بغداد، فذهبوا إليه يعتذرون، فقال لهم: «أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم، ألم ترفعوا إلي في أولادكم فألحقتهم بكم، وهو نحو من ألفي غلام؟! وفي بناتكم، فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات، وهن نحو أربعة آلاف امرأة؟! وفي المدركين والمولودين، وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها؛ كل ذلك إرادة لصلاحكم ورضاكم، وأنتم تزدادون بغيا وفسادا، وتهددا وإبعادا.»
23
وهاج أهل بغداد «لما بلغهم مقتل عمر بن عبيد الله الأقطع، وعلي بن يحيى الأرمني، وكانا نابين من أنياب المسلمين، شديدا بأسهما، عظيما غناؤهما عنهم، في الثغور التي هما بها، وقرب مقتل أحدهما من مقتل الآخر، مع ما لحقهم من استفظاعهم من الأتراك قتل المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين، وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء، واستخلافهم من أحبوا استخلافه، من غير رجوع منهم إلى ديانة، ولا نظر للمسلمين، فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير».
24
هذا إلى أن الأتراك أنفسهم انشق بعضهم على بعضهم، وتكونوا أحزابا: هذا حزب داغر، وهذا حزب بغا ووصيف ... إلخ، وقتلوا داغرا، وحارب بعضهم بعضا.
فلما لم يذعن لهم المستعين، بايعوا المعتز بالله، وانضم إليه أغلب الأتراك، وكان مركزه سامرا؛ وظل أهل بغداد على ولائهم للمستعين وبيعتهم له، ومعه ابن طاهر الفارسي الأصل وقليل من الأتراك، وكانت سنة شديدة على الناس عذبوا فيها عذابا شديدا من السلب والنهب والقتال.
وكان من حسن حظ الترك أن غلبوا أخيرا، ودخلوا بغداد منتصرين، وخلعوا المستعين ثم قتلوه، فكانت هذه خطوة أخرى في سبيل سيادة الأتراك، وفي ذلك يقول رجل من أهل سامرا - وقيل إنها للبحتري:
لله در عصابة تركية
ردوا نوائب دهرهم بالسيف
قتلوا الخليفة أحمد بن محمد
وكسوا جميع الناس ثوب الخوف
وطغوا فأصبح ملكنا متقسما
وإمامنا فيه شبيه الضيف
ومع هذا سرعان ما ضيقوا على المعتز، وشعر منهم بالشر، فكان لا يلتذ بالنوم، ولا يخلع سلاحه لا في ليل ولا في نهار خوفا من بغا، وقال: «لا أزال على هذه الحالة حتى أعلم لبغا رأسي أو رأسه لي.» وكان يقول: «إني لأخاف أن ينزل علي بغا من السماء أو يخرج علي من الأرض.»
25
ومن ناحية أخرى عزم المعتز على قتل رؤسائهم، وأعمل الحيلة في فنائهم، فخلعوه وقتلوه.
وقد أكثر الشعراء في ذلك العصر من وصف ما أصاب البلاد من سوء الحال، وتحكم الأتراك في الخلفاء، وما عم الناس من الفوضى والاضطراب، فقال في ذلك بعض شعراء العصر في مقتل المعتز:
بكر الترك ناقمين عليه
خلعته، أفديه من مخلوع
قتلوه ظلما وجورا فألفو
ه كريم الأخلاق غير جزوع
لم يهابوا جيشا ولا رهبوا السي
ف فلهفي على القتيل الخليع
أصبح الترك مالكي الأمر، والعا
لم ما بين سامع ومطيع
ونرى الله فيهم مالك الأم
ر سيجزيهم بقتل ذريع
وقال آخر:
قتلوه ظلما وجورا وغدرا
حين أهدوا إليه حتفا مريحا
نضر الله ذلك الوجه وجها
وسقى الله ذلك الروح روحا
أيها الترك تلقون للدهر
سيوفا لا تستبل الجريحا
فاستعدوا للسيف عاقبة الأم
ر فقد جئتم فعالا قبيحا
وقال آخر:
ألزموه ذنبا على غير جرم
فثوى فيهم قتيلا صريعا
وبنو عمه وعم أبيه
أظهروا ذلة وأبدوا خضوعا
ما بهذا يصح ملك ولا يغ
زى عدو ولا يكون جميعا
ويقول: عبد الله بن المعتز في أرجوزته التاريخية المشهورة:
وكل يوم ملك مقتول
أو خائف مروع ذليل
أو خالع للعقد كيما يغنى
وذاك أدنى للردى وأدنى
وكم أمير كان رأس جيش
قد نغصوا عليه كل عيش
وكم فتاة خرجت من منزل
فغصبوها نفسها في المحفل •••
ويطلبون كل يوم رزقا
يرونه دينا لهم وحقا
كذاك حتى أفقروا الخلافة
وعودوها الرعب والمخافة
شعر الناس بسوء الحالة العامة من سلطة الأتراك، وحاولوا التخلص من سلطانهم، وقويت هذه الفكرة عند الخليفة المهتدي، وقد كان شجاعا قويا، مثله الأعلى عمر بن الخطاب؛ فظن أنه يستطيع القضاء على سلطة الأتراك، وأن الشعب يؤيده، ولكنه لم ينجح.
لقد أكثر الترك من مصادرة الناس في أموالهم، وكان من مصائب الرجل أن يكون غنيا؛ صادروا الكتاب وصادروا الأمراء الكبار، وأخيرا صادروا زوجة المتوكل وهي أم المعتز بعد أن قتلوا ابنها، وكان المتوكل سماها قبيحة لحسنها وجمالها كما يسمى الأسود كافورا، وكان لها أموال كثيرة، وهربت على مكة، وسمعت وهي تدعو بصوت عال تقول: اللهم أخز صالحا
26
كما هتك ستري، وقتل ولدي، وشتت شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي وركب الفاحشة مني.
27
دبر الأتراك مؤامرة لقتل المهتدي؛ لأنه لم يعجبهم في نزعته. وانتشر الخبر في العامة أنهم قد اتفقوا على خلع المهتدي والفتك به، وأنهم قد أرهقوه، فكتب العامة الرقاع ورموها في الطرق والمساجد مكتوبا فيها: «يا معشر المسلمين ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن الخطاب أن ينصره الله على عدوه، ويكفيه مؤنة ظالمه، ويتم النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه، فإن الأتراك قد أخذوه بأن يخلع نفسه.»
ولما وصل خبر المؤامرة إلى المهتدي تحول من مجلسه متقلدا سيفا، وقد لبس ثيابا نظافا وتطيب، ثم أمر بإدخال هؤلاء الأتراك المتآمرين عليه، فقال لهم: «بلغني ما أنتم عليه ولست كمن تقدمني مثل المستعين والمعتز، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط، وقد أوصيت إلى أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقطت مني شعرة ليهلكن وليذهبن أكثركم، أما دين! أما حياء! أما رعية! كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء والإقدام والجرأة على الله، سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم، ومن كان إذا بلغه هذا عنكم دعا بإرطال الشراب فشربها مسرورا بمكروهكم وحبا لبواركم، خبروني عنكم هل تعلمون أنه وصل إلي من دنياكم هذه شيء؟ أما أنك تعلم يا بايكباك أن بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتي وولدي؟! تعرف ذلك فانظر هل ترى في منازلهم فرشا، أو وصائف أو خدما أو جواري أو لهم ضياغ أو غلات؟ سوأة لكم!»
28
ولكن ماذا يغني إشهار سيفه، والتهديد خطبته، وقد أراد أن يضرب الأتراك بعضهم ببعض حتى يخلص منهم جميعا، ولكنه لم ينجح في هذا أيضا، ودارت الدائرة عليه فقتلوه.
ومع هذا فقد كانت لحركة المهتدي أثر في استرداد البيت العباسي بعض سلطانه، وكان من أسباب ذلك أيضا انتقال الخليفة من سامرا - وهي حصن الأتراك - إلى بغداد، وفيها عناصر كثيرة تريد أن تحمي الخلافة من شرورهم؛ ولذلك رأينا سلسلة من الخلفاء بعده يقبضون على كثير من السلطان، ويموتون حتف أنوفهم، فقد تولى بعد المهتدي المعتمد؛ نعم إنه كان مسلوب السلطان محجورا عليه، وقال في ذلك أبياته المشهورة:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قل ممتنعا عليه
وتوكل باسمه الدنيا جميعا
وما من ذاك شيء في يديه
إليه تحمل الأموال طرا
ويمنع بعض ما يجبى إليه
ولكن الذي كان يحجر عليه هذه المرة هو أخوه الموفق، لانصراف المعتمد إلى لهوه وملذاته، والموفق في أيامه كان بطلا، ترك لأخيه المعتمد الخطبة والسكة والتسمي بإمرة المؤمنين، وأمسك هو بزمام الأمر والنهي، وقود العساكر، ومحاربة الأعداء؛ ومرابطة الثغور، وترتيب الوزراء والأمراء، وكبح غير قليل من جماح الأتراك.
فلما جاء المعتضد بن الموفق سار سيرة أبيه، وزاد في رفع شأن الخلافة، والأخذ على يد الأتراك بقدر ما يستطيع، قال الفخري: «كان المعتضد شهما عاقلا فاضلا، حمدت سيرته، ولي والدنيا خراب، والثغور مهملة، فقام قياما مرضيا حتى عمرت مملكته، وكثرت الأموال، وضبطت الثغور، وكان قوي السياسة شديدا على أهل الفساد، حاسما لمواد أطماع عساكره عن أذى رعيته، محسنا إلى بني عمه من آل أبي طالب.»
29
وقد كثرت الفتن والأحداث في أيامه نتيجة للفساد الذي كان قبل أيامه، فجاهد فيها ما استطاع.
وقد نظم فيه «ابن المعتز» ابن عمه قصيدة طويلة هي صورة مصغرة لنمط الملاحم كالإلياذة والشاهنامه، سدت بعض النقص في الشعر العربي في هذا النوع، بدأها بذم الأتراك وما جنوا على البلاد، ذكرنا طرفا منه فيما سبق، ثم عدد أعمال المعتضد، وما قام به من حروب وما أتى به من إصلاح. وهي تعد بجانب مزيتها الأدبية وثيقة تاريخية هامة للأحداث في عهد المعتضد.
واستبشر الشعراء بهمته، فقال ابن الرومي:
هنيئا بني العباس إن إمامكم
إمام الهدى والناس والجود أحمد
كما بأبي العباس أنشئ ملككم
كذا بأبي العباس أيضا يجدد
وقال ابن المعتز:
أما ترى ملك بني هاشم
عاد عزيزا بعدما ذللا
يا طالبا للملك كن مثله
تستوجب الملك وإلا فلا
وعلى الجملة، فقد مات بعد نحو عشر سنوات من حكمه، خلف فيها الخلافة على حال أحسن بكثير مما كانت منذ وفاة الواثق.
وسار ابنه المكتفي بسيرة أبيه، ولكن الفتن التي بدأت في عهد أسلافه استفحلت، وعظم أمرها، من إسماعيلية، وقرامطة، وفاطمية، وانتهى القرن الثالث الهجري والفتن قائمة، والثورات مشتعلة، وعلى الخلافة المقتدر بن المعتضد، فعادت الخلافة إلى ضعفها الأول، وعاد الأتراك إلى قوتهم.
ويظهر أن الأتراك والوزراء سئموا من اختيار الخلفاء القادرين الأكفاء، أمثال المهتدي، والمعتضد، والمكتفي، فأرادوا أن يعدلوا عن هذه السنة ويولوا عديم الكفاية؛ ولذلك طال اجتماعهم وتفكيرهم بعد موت المكتفي، وكان من أول المرشحين للخلافة عبد الله بن المعتز، وهو كفء عالم أديب قادر، فانصرفوا عنه إلى المقتدر، وهو طفل عاجز، فولوه حتى تتم لهم الرياسة. حكى مسكويه أن وزير المكتفي العباس بن الحسن استشار ابن الفرات فيمن يلي الخلافة، فقال له: «اتق الله ولا تنصب في هذا الأمر من قد عرف دار هذا، ونعمة هذا، وبستان هذا، وجارية هذا، وفرس هذا، ومن لقي الناس ولقوه، وعرف الأمور، وتحنك وحسب حساب نعم الناس.
30
قال الوزير: فبمن تشير؟ قال ابن الفرات: بجعفر بن المعتضد (هو المقتدر). فقال الوزير: جعفر صبي! قال ابن الفرات: إلا أنه ابن المعتضد، ولم تجيء برجل يأمر وينهى، ويعرف ما لنا، وبمن يباشر التدبير بنفسه ويرى أنه مستقل؟ ولم لا تسلم هذا الأمر إلى من يدعك تدبره أنت؟»
وحكى الصولي «أنه عهد إليه بتربية الراضي بالله وأخيه هارون، فكان يلقاهما مرتين في الأسبوع وقد رآهما فطنين عاقلين، إلا أنهما خاليان من العلوم. قال الصولي: «فحببت العلم إليهما، واشتريت لهما من كتب الفقه والشعر واللغة والأخبار قطعة حسنة، فتنافسا في ذلك، وعمل كل واحد منهما خزانة لكتبه، وقرآ علي الأخبار والأشعار.» فكان مما قرأه لهما الصولي كتاب «خلق الإنسان» للأصمعي، فوشى الخدم، وقالوا: «إن الصولي يعلمهما أسماء الفرج والذكر.» فاجتهد الصولي في نفي هذه التهمة، وأراهم الكتاب.
ثم لما تقدم الصولي في تعليمهما، وتطلع إلى مكافأته على ما عمل، قيل له على لسان أهل القصر: «ما نريد أن يكون أولادنا أدباء ولا علماء، وهذا أبوهما قد رأينا كل ما نحب فيه، وليس بعالم.» فلما سمع الصولي أتى نصرا الحاجب وأخبره بما قيل، فبكى، وقال: كيف نفلح من قوم هذه نياتهم؟!»
31
وحكى في موضع آخر، أن الراضي بالله، قبل أن يلي الخلافة، كان يقرأ عليه - على الصولي - شيئا من شعر بشار، وبين يديه كتب لغة، فجاء خدم من خدم جدته، فأخذوا جميع ما بين يديه من الكتب، فجعلوه في منديل، فغضب الراضي، فسكنت غضبه وقلت: ليس ينبغي أن ينكر الأمير هذا؛ فإنه يقال لهم إن الأمير ينظر في كتب لا ينبغي أن ينظر في مثلها. فقال لهم الراضي: قولوا لمن أمركم: إن هذه الكتب إنما هي حديث وفقه وشعر ولغة وأخبار، وليست من كتبكم التي تبالغون فيها مثل عجائب البحر، وحديث سندباد، والسنور والفار.
32
فترى من هذا كيف كانوا يريدون الحجر على من يرشح للخلافة لينشأ جاهلا غرا، فينصرف إلى لهوه ولذته، ويترك لهم زمام الأمور والتصرف في شئون الدولة.
وكان من المؤيدين لتولية هذا الطفل مؤنس الخادم، ومؤنس الخازن، وغيرهما من الأتراك.
نعم كان مع ابن المعتز بعض الأتراك، ولكن الغلبة والقوة كانتا في جانب الذين مع المقتدر، فتم الأمر للمقتدر، وقتل ابن المعتز.
33
روي أنه لما اختلف أمر الناس، وبايع بعضهم لابن المعتز، سأل ابن جرير المؤرخ الكبير، وكان في آخر أيامه: ما الخبر؟ قالوا: بويع ابن المعتز. قال: فمن رشح للوزارة؟ قالوا: محمد بن داود. قال: فمن ذكر للقضاء؟ قالوا: أبو المثنى. فأطرق ثم قال: هذا الأمر لا يتم. قيل له: وكيف؟ قال: كل واحد ممن سميتموهم متقدم في معناه، عالي الرتبة، والزمان مدبر، والدنيا مولية، وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال، وما أرى لمدته طولا.
34
كان المقتدر صبيا في الثالثة عشرة من عمره لا يعرف من أمور الدنيا شيئا، ومع ذلك لقبوه بالمقتدر! ولما شب عكف على لذائذه، وتوفر على المغنين والنساء، وترك أمور الدولة لغيره وعلى رأسهم مؤنس التركي، فبلغت الحال من بله الخليفة وسوء رجاله أقصى حد.
وأخيرا بعد حكم فاسد دام نحو خمس وعشرين سنة، قتل المقتدر رجل من أصحاب مؤنس، أضجعه فذبحه وسلب ثيابه حتى سراويله، وتركه مكشوف العورة، إلى أن مر به رجل من الأكرة فستر عورته بحشيش، ثم حفر له في الموضع، ودفن حتى عفا أثره.
35
قال المسعودي في المقتدر: «أفضت الخلافة إليه وهو صغير غر ترف، لم يعان الأمور ولا وقف على أحوال الملك، فكان الأمراء والوزراء والكتاب يدبرون الأمور ليس له في ذلك حل ولا عقد، ولا يوصف بتدبير ولا سياسة، وغلب على الأمر النساء والخدم وغيرهم، فذهب ما كان في خزائن الخلافة من الأموال والعدد بسوء التدبير الواقع في المملكة فأداه ذلك إلى سفك دمه؛ واضطربت الأمور بعده، وزال كثير من رسوم الخلافة
36 ... وكانت في أيامه أمور لم يكن مثلها في الإسلام: منها أنه ولي الخلافة ولم يل أحد قبله من الخلفاء وملوك الإسلام في مثل سنه؛ لأن الأمر أفضي إليه وله ثلاث عشرة سنة وشهران وثلاثة أيام، ومنها أنه ملك خمسا وعشرين سنة إلا خمسة عشر يوما، ولم يملك هذا أحد من الخلفاء وملوك الإسلام قبله، ومنها أنه استوزر اثني عشر وزيرا، فيهم من وزر له المرتين والثلاث، ولم يعرف فيما قبله أحد استوزر هذه العدة، ومنها غلبة النساء على الملك والتدبير، حتى إن جارية لأمه تعرف بثمل القهرمانة كانت تجلس للنظر في مظالم الخاصة والعامة، ويحضرها الوزير والكاتب والقضاة وأهل العلم.
37
ولم تكن خلافة القاهر خيرا من خلال المقتدر. وأخيرا اجتمع بعض قواد الجند وقبضوا على القاهر وهو سكران، واستحضروا بختيشوع بن يحيى المتطبب وسألوه أن يدلهم على من يحسن أن يسمل، فذكر لهم رجلا، فأحضر وسمل
38
عيني القاهر، ولم يسمل قبله أحد من الخلفاء، وقد سملوا بعده الخليفة المتقي واسمه إبراهيم، فقال القاهر:
صرت وإبراهيم شيخي عمى
لا بد للشيخين من مصدر
ما دام تورون له إمرة
مطاعة فالميل في المجمر
وقد وقف القاهر يوما - بعد أن سمل وحبس وبويع غيره ثم أطلق - في جامع المنصور بين الصفوف وعليه مبطنة بيضا، وقال: تصرفوا علي فأنا من قد عرفتم.
39
وحدث أبو الحسن العروضي مؤدب الخليفة الراضي، قال: اجتزت في يوم مهرجان بدجلة بدار بجكم
40
التركي، فرأيت من الهرج والملاهي واللعب والفرح والسرور ما لم أر مثله، ثم دخلت إلى الراضي بالله، فوجدته خاليا بنفسه قد اعتراه هم، فوقفت بين يديه، فقال لي: ادن. فدنوت، فإذا بيده دينار ودرهم، في الدينار نحو من مثاقيل، وفي الدرهم كذلك، عليه صورة «بجكم» شاك في سلاحه، وحوله مكتوب:
إنما العز فاعلم، للأمير المعظم
سيد الناس بجكم
ومن الجانب الآخر الصورة بعينها، جالس في مجلسه كالمفكر المطرق. فقال الراضي: أما ترى صنع هذا الإنسان وما تسمو إليه همته، وما تحدثه به نفسه؟! فلم أجبه بشيء، وأخذت به في أخبار من مضى من ملوك الفرس وغيرها، وما كانت تلقى من أتباعها، وصبرهم عليهم، وحسن سياستهم لذلك حتى تصلح أمورهم، وتستقيم أحوالهم، فسلا عما عرض لنفسه، ثم قلت: يمتع الله أمير المؤمنين أن يكون كالمأمون في هذا الوقت حيث يقول:
صل الندمان يوم المهرجان
بصاف من معتقة الدنان
بكاس خسرواني عتيق
فإن العيد عيد خسرواني
وجنبني الزبيبيين طرا
فشأن ذوي الزبيب خلاف شاني
فأشربها وأزعمها حراما
وأرجو عفو رب ذي امتنان
ويشربها ويزعمها حلالا
وتلك على الشقي خطيئتان
فطرب وأخذته أريحية وقال لي: صدقت، ترك الفرح في مثل هذا اليوم عجز!
وأمر بإحضار الجلساء، وقعد في مجلس التاج على دجلة، فلم أر يوما كان أحسن منه في الفرح والسرور.
41
هذا في إيجاز تام حال الأتراك من حيث علاقتهم بالخليفة والخلافة وشئونها.
وللأتراك في هذا العصر ناحية أخرى اجتماعية لها أثر كبير في حياة المسلمين، فقد كان لقبض الأتراك على زمام الحكم أثر في دخول كثير منهم في الإسلام، وانتشارهم في المملكة الإسلامية، فمسكويه يذكر في حوادث سنة 349ه أنه في هذه السنة أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاه،
42
والخركاه هي الخيمة التي تسكنها الأسرة؛ أي أن من أسلم نحو مائتي ألف أسرة، فإذا كان متوسط الأسرة خمسة أشخاص كان مجموع ذلك نحو ألف ألف شخص، ولا شك أن هذا العدد، ومن أسلم قبله، ومن أسلم بعده، في اندماجهم في المسلمين؛ يؤثر أثرا كبيرا.
كان هؤلاء الأتراك أقوياء أشداء أصحاء كما تستلزمه طبيعة بلادهم، وبداوة معيشتهم. وقد ذكر لنا الجاحظ فيما سبق أن أطلق على الأتراك «أعراب العجم»، ويعني بالأعرابية البداوة، وهذه البداوة تكسبهم قوة في البدن وخشونة في الطبع، وقد تجلى هذا في معاملتهم الناس، فضج منهم أهل بغداد في عصر المعتصم. ولكن مرور الأزمان عليهم، واستيلاءهم على البلاد المنعمة المترفة، وكثرة الأموال في أيديهم، حضرهم، وعلمهم النعيم والبذخ، وحمل بعضهم على العبث بالأخلاق. حكى التنوخي أن شيخا من التجار كان له على بعض القواد مال جليل يماطله به، ولم يستطع الظلامة إلى الخليفة المعتضد؛ لأنه كان إذا جاء حجبه القائد واستخف به غلمانه، فدلوه على خياط في سوق الثلاثاء، فأمر الخياط القائد بدفع ما عليه للتاجر ففعل؛ فعجب التاجر من هذا الذي رأى، وألح عليه في السؤال عن سبب خضوع القائد! فقص عليه أنه مر مرة في الطريق فرأى تركيا على داره، وقد اجتازت امرأة جميلة عليه فتعلق بها وهو سكران ليدخلها داره، وهي ممتنعة تستغيث، وليس أحد يغيثها، وتقول: إن زوجي قد حلف بالطلاق ألا أبيت خارج بيته، فإن بيتني هذا، أخرب بيتي مع ما يرتكبه مني من المعصية، ويلحقه بي من العار.
قال الخياط: فجئت إلى التركي ورفقت به وسألت تركها، فضرب رأسي بدبوس كان في يده فشجني وآلمني، وأدخل المرأة داره، فجمعت جمعا وجئنا فضججنا على بابه، فخرج إلينا في عدة من غلمانه فأوقع بنا الضرب، وذهبت إلى بيتي ولم أزل أفكر في هذه المرأة حتى انتصف الليل، فقلت: هذا التركي قد شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات، فإن أذنت لوقع له أن الفجر قد طلع، فيطلق المرأة فتلحق بيتها قبل الفجر فتسلم من أحد المكروهين، ولا يخرب بيتها مع ما قد جرى عليها.
فخرجت إلى المسجد وصعدت المنارة فأذنت، وجعلت أتطلع منها إلى الطريق أترقب خروج المرأة فلم تخرج، وإذا الشارع امتلأ خيلا ورجالا ومشاعل، وهم يقولون: من هذا الذي أذن الساعة؟! ففزعت، ثم صحت من المنارة: أنا أذنت. فقالوا لي: انزل، فأجب أمير المؤمنين. ثم ذهب بي إلى المعتضد، وقص عليه القصة، فأحضر التركي والمرأة، فلما تحقق من صحة قولي أمر برد المرأة إلى زوجها، وأن يتمسك بها ويحسن إليها.
وقال للتركي: كم عطاؤك؟ قال: كذا وكذا. وكم وظائفك؟ قال: كذا وكذا. وجعل المعتضد يعدد ما يصل إليه، والتركي يقر بشيء عظيم، ثم قال له: فكم جارية لك؟ قال: كذا وكذا. قال: أفما كان فيهن وفي هذه النعمة العريضة كفاية عن ارتكاب معاصي الله، وخرق هيبة السلطان؟! ثم أمر به فقتل. قال الخياط: وأمرني المعتضد إذا رأيت مثل هذا العمل أن أؤذن. وانتشر الخبر، فما سألنا أحدا منهم بعدها إنصافا إلا فعل.
43
ورأينا كثيرا من قواد الأتراك - عند استيلائهم على الدولة - شرهين، وكان مظهر شرههم كثرة مطالبتهم للخلفاء بالأموال من حين لحين ؛ فإذا نصبوا خليفة فسرعان ما ينقلبون عليه يطالبونه بالأموال، فإن أعطاهم سكتوا قليلا ثم عادوا إلى المطالبة وإلا قتلوه؛ ومن أجل ذلك كثر إخفاء المال في سرداب أو حفرة في الأرض، أو بناء حوائط عليه أو نحو ذلك؛ خوفا من إلحاحهم. نسوق مثلا لذلك ما فعلوه مع المعتز، «فقد هجم قوادهم عليه وقالوا: أعطنا أرزاقنا، فطلب من أمه مالا فأبت عليه، ولم يكن في بيوت المال شيء، فاجتمع الأتراك حينئذ على خلعه».
ومظهر آخر من إفراطهم في حب المال، وهو ما نقرأ في تاريخ ذلك العصر من كثرة المصادرة للأموال، نعم كان قبل ذلك في العصر العباسي الأول شيء من هذا القبيل، ولكنه قليل، أما في هذا العصر فأصبح العادة المتبعة، وكان أول مظهر لهذه الكثرة في عهد المتوكل، وهو أول عهد استيلاء الأتراك؛ فقد صادر محمد بن عبد الملك الزيات، وأخذ ما في منزله من متاع ودواب وجوار وغلمان، وكذلك فعل مع أهل بيته، وقبض على عمر بن فرج الرخجي، وكتب في قبض ضياعه وأمواله، وغضب على أبي الوزير وأخذ منه ستين ألف دينار، وضرب إبراهيم بن الجنيد النصراني حتى أقر بسبعين ألف دينار فأخذها منه؛ وعزل يحيى بن أكثم وقبض منه ما كان له ببغداد، ومبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، وغضب على بختيشوع وقبض ماله، وصادر أموال أحمد بن أبي دؤاد، مع أنه سبب خلافته، واستصفى أمواله وأموال أبنائه، فحمل إليه من ذلك مائة ألف درهم، وعشرون ألف دينار، وجواهر بقيمة عشرين ألف دينار.
44
وهكذا افتتح عهد الأتراك بكثرة المصادرات، واستمرت طوال هذا العصر، حتى لم يرحموا قبيحة أم المعتز فسلبوها كل مالها، وكانت خبأته، وكان الخليفة أحيانا يضطر إلى كثرة المصادرات لتلبية مطالب القواد.
وكان كثير من أمراء البلدان في هذا العصر من الأتراك، كما هو الشأن في مصر؛ فمن سنة 242 هجرية وحكام مصر أتراك، وذلك منذ ولي على مصر يزيد بن عبد الله بن دينار التركي، وقبل ذلك بنحو عشرين عاما كانت مصر تمنح لحاكم تركي في الغالب يقيم في بغداد، ويستخلف عنه أميرا يقيم في مصر ويديرها نيابة عنه كأشناس وإيتاخ، واستمرت سيادة الأتراك في مصر طول مدة الطولونيين الأتراك والإخشيديين الأتراك أيضا، فكان بيد هؤلاء الولاة الأتراك السلطان والقوة والمال.
وهناك لون آخر مما لونوا به الحياة الاجتماعية، وهو ما عرف عنهم من جمال ونظافة فكان ذلك سببا في كثرة الجواري المماليك الأتراك في قصور الخلفاء والعظماء والأغنياء، حتى إن بعض الخلفاء أنفسهم في هذا العصر كانت أمه جارية تركية؛ فالمعتصم أمه تركية، والمتوكل كذلك أمه خوارزمية، والمكتفي بالله أمه تركية اسمها چيچك، والمقتدر بالله أمه أم ولد، قيل تركية، وقيل رومية ... إلخ.
كما اشتهر في بيوت الأمراء جوار تركيات، واشتهرت سمرقند بأنها مركز هام لتجارة الرقيق الأبيض، وقد وصف ابن بطلان في رسالته في الرقيق الجواري التركيات فقال: إن «التركيات قد جمعن الحسن والبياض، ووجوههن مائلة إلى الجهامة، وعيونهن مع صغرها ذات حلاوة، وقد يوجد فيهن السمراء الأسيلة، وقدودهن ما بين الربع والقصر، والطول فيهن قليل؛ ومليحتهن غاية، وقبيحتهن آية؛ وهن كنوز الأولاد، ومعادن النسل، قلما يتفق في أولادهن وحش ولا رديء التركيب، فيهن نظافة ولباقة ... لا يكاد يوجد فيهن نكهة متغيرة ... وفيهن أخلاق سمجة، وقلة وفاء».
وتغزل الشعراء في ذلك بغلمان من الأتراك، وكان منهم في القصور ودور العظماء كثيرون، فرووا أنه في وقعة بين عز الدولة وعضد الدولة البويهيين أسر غلام تركي لعز الدولة، فجن عليه واشتد حزنه وامتنع من الأكل، وأخذ في البكاء واحتجب عن الناس، وكتب إلى عضد الدولة يسأله أن يرد الغلام إليه، فصار ضحكة بين الناس، وعوتب فما ارعوى لذلك، وبذل في فداء الغلام جاريتين عوديتين كان قد بذل له في الواحدة مائة ألف، وقال للرسول: إن توقف عليك في رده، فزد ما رأيت ولا تفكر، فقد رضيت أن آخذه وأذهب إلى أقصى الأرض! فرده عضد الدولة عليه.
45
وروى أبو إسحاق الصابي أنه كان لمعز الدولة غلام تركي يدعى تكيز الجامدار، أمرد رومي الوجه، منهمك في الشرب لا يعرف الصحو ولا يفارق اللعب واللهو، ولفرط ميل معز الدولة إليه وشدة إعجابه به، جعله رئيس سرية جردها لحرب بني حمدان، وكان المهلبي يستظرفه ويستحسن صورته، ويرى أنه من عدد الهوى لا من عدد الوغى، فقال فيه:
ظبي يرق الماء في
وجناته ويروق عوده
ويكاد من شبه العذا
رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره
سيفا ومنطقة تؤوده
جعلوه قائد عسكر
ضاع الرعيل ومن يقوده
فما أسرع أن كانت الدائرة على هذا القائد.
46
وكان لسيف الدولة الحمداني مملوك تركي جندي اسمه يماك، مات بحلب سنة 340ه فحزن عليه حزنا شديدا، وقال المتنبي قصيدة يعزيه فيها، مطلعها:
لا يحزن الله الأمير فإنني
سآخذ من حالاته بنصيب
وفيها:
لأبقى يماك في حشاي صبابة
إلى كل تركي النجار جليب
وما كل وجه أبيض بمبارك
ولا كل جفن ضيق بنجيب
وفيها:
وإن الذي أمست نزار عبيده
غني عن استعباده لغريب
وقال أبو تمام، وقد أهدى له الحسن بن وهب غلاما خزريا:
قد جاءنا الرشأ الذي أهديته
خرقا
47
ولو شئنا لقلنا المركب
لدن البنان له لسان أعجم
خرس معانيه ووجه معرب
يرنو فيثلم في القلوب بطرفه
ويعن للنظر الحرون فيصحب
48
قد صرف الرابون خمرة خده
وأظنها بالريق منه ستقطب
49
وأحب مهذب الدين الطرابلسي غلاما مملوكا له اسمه «تتر»، فبعث مرة هدايا إلى الشريف المرتضى نقيب الأشراف مع هذا الغلام، فتوهم الشريف أنه من جملة الهدايا، فأخذه، فساءت حال مهذب الدين وكان شيعيا، فقال قصيدته المشهورة التي مطلعها:
عذبت طرفي بالسهر
وأذبت قلبي بالفكر
ومزجت صفو مودتي
من بعد بعدك بالكدر
وفيها:
نفسي الفداء لشادن
أنا من هواه على خطر
عذل العذول وما رآ
ه فحين عاينه عذر
وقد كان مهذب الدين هذا شيعيا، فهدد الشريف بأنه إن لم يرسل الغلام يهجر التشيع، ويدخل في مذهب أهل السنة، وفي ذلك يقول:
لئن الشريف الموسو
ي ابن الشريف أبي مضر
أبدى الجحود ولم ير
د إلي مملوكي تتر
واليت آل أمية الط
هر الميامين الغرر
وجحدت بيعة حيدر
وعدلت عنه إلى عمر
50
وأخيرا قال الشاعر:
الله أكبر ليس الحسن في العرب
كم تحت لمة ذا التركي من عجب
أما من الناحية العقلية - وهي التي تهمنا هنا - فإنا نرى أن ابتداء سلطان الأتراك - وكان ذلك في عهد المتوكل - مصحوب بمظاهر جديدة تخالف كل المخالفة ما كان من قبل، أهمها ثلاثة: (1)
إلغاء سلطان المعتزلة وإعلاء شأن المحدثين، فنهى المتوكل عن القول بخلق القرآن والجدال في الكلام، «وأظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك في سنة 234ه، واستقدم المحدثين إلى سامرا، وأجزل عطاياهم وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية».
51
وكتب كتابا على الأمصار يأمر بترك الجدال في القرآن، واضطهد رؤساء المعتزلة وضيق عليهم؛ فرئيس الاعتزال في مصر وهو محمد بن أبي الليث، جاء كتاب المتوكل بحلق رأسه ولحيته وضربه بالسوط، وحمله على حمار بإكاف وتطوافه الفسطاط، ثم أخرج إلى العراق،
52
وأحمد بن أبي دؤاد رأس الاعتزال في العراق قد غضب عليه المتوكل، وعلى ابنه محمد وصادر أموالهما - وما أظن أن الجاحظ المعتزلي نجا من النكبة إلا لأنه مرن، وقد دفع عنه الشر بمرونته، وبما قدم من رسالته في إعلاء شأن الأتراك، واتصال بالفتح بن خاقان - وفي الوقت نفسه أعلى المتوكل شأن المحدثين، فكرم أحمد بن حنبل، وفي عهده جلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة يحدث الناس، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه أيضا نحو من ثلاثين ألف نفس.
53
وتبلور عداء الناس للمعتزلة في أبي الحسن الأشعري، فقد ولد بعد المتوكل بنحو اثني عشر عاما، وتثقف ثقافة المعتزلة، ثم عاداهم وأعلن الحرب عليهم، ودعا إلى مذهب كلامي اعتنقه جمهور كبير من المسلمين، كما سيأتي، فالأشعري يمثل الموجة الحديثة التي أتت في عهد المتوكل تهاجم المعتزلة وتنصر المحدثين وأهل السنة، وهو ليس إلا معبرا عن ميول عصره، وصدى لصوت زمانه. رجع عن الاعتزال «ورقي كرسيا في المسجد الجامع بالبصرة، ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعايبهم».
54
وقال أبو بكر الصيرفي: «كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فجحرهم في أقماع السمسم.» ولكن الحق أنه ما كان له هذا لولا ما كان من المتوكل من الحجر عليهم، والتنكيل بهم، وتأييد الجمهور - بتأثير المحدثين - لهذه الحركة.
والواقع أن هذه الحركة، وأعني بها اضطهاد المعتزلة ونصرة المحدثين، كان لها أثر كبير في حياة المسلمين من ذلك العهد إلى اليوم، فقد لونت حياتهم بلون خاص، ظلوا يحافظون عليه طوال العصور المختلفة.
كانت طبيعة الاعتزال تدعو إلى التفلسف واتجاه العقل في مناح شتى من الحياة، وتحريره من كثير من القيود بعد الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالقرآن، وحصر الحديث في دائرة ضيقة - كما تقدم - وإشعار الإنسان بالمسئولية؛ لأن أعماله صادرة عنه، ولكنهم - مع الأسف - آمنوا بهذه الحرية وأرادوا أن ينفذوا الحرية بالقوة والسلطان، فكانت حرية بالإكراه.
وطبيعة المحدثين تدعو إلى الوقوف عند النصوص والتزامها، وتضييق دائرة العقل، واحترام الرواية إلى أقصى حد، والبحث وراء ألفاظ الحديث ومعانيه وأسانيده؛ وهذا - مع اعترافنا بما له من مزايا - يستتبع نمطا في التفكير خاصا يسود فيه تقديس النقل أكثر من تقديس العقل، والتقليد دون الاجتهاد، والوقوف عند النصوص دون التعمق في مغازيها ومراميها، والنظر إلى الفلسفة والبحث العقلي في الكليات نظر البغض والكراهة، وعد المفكر على هذا النمط ملحدا أو زنديقا ... إلخ.
وهذا هو الذي ساد عقول كثير من المسلمين منذ خنق الاعتزال، فاحترمت نصوص الكتب أكثر مما احترم نقد العقل، واحترم العالم واسع الاطلاع بالنصوص الدينية واللغوية، أكثر مما احترم قليل الحفظ واسع أفق العقل، وأكرم العالم المقلد أكثر مما أكرم العالم المجتهد، ونظر إلى المحدث والفقيه بخير مما نظر إلى الفيلسوف والمفكر الناقد، وضاقت دائرة التفلسف إذا قيست بدوائر العلم في الفروع الأخرى .
كل هذا وأكثر منه كان نتيجة لهذه الحركة، وأعتقد أن الأتراك في ذلك العصر مسئولون لدرجة كبيرة عن هذا؛ فطبيعة عامتهم لا تقبل الجدل الكلامي، ولا كثرة المذاهب الدينية؛ فالأتراك في جميع عصورهم قل أن نرى منهم من اعتنق مذهبا في الأصول غير مذهب أهل السنة، وفي الفروع غير مذهب أبي حنيفة، وقل أن نرى بين علمائهم خصومة في المذاهب كالتي كنا نراها في العراق من خوارج وشيعة ومرجئة ومعتزلة ونحو ذلك، إنما هو مذهب واحد يسود - غالبا - ويتوارث، ومع هذا فلسنا ننكر أن فيهم أفذاذا في سعة النظر وقوة التفكير - كما سيأتي بيانه - ولكن هذا هو النظر العام. (2)
الإيقاع بالشيعة إيقاعا بالغا؛ ففي سنة 236ه «أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه؛ فنادى بالناس في تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق. فهرب الناس وتركوا زيارته، وخرب وزرع. وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أن يتولى عليا وأهله بأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة، ويكشف رأسه وهو أصلع، ويرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنون: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين. يحكي بذلك علي - عليه السلام - والمتوكل يشرب ويضحك»،
55 «وقيل: إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء - المأمون والمعتصم والواثق - في محبة علي وأهل بيته، وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي ... وعمرو بن فرج الرخجي، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة ... وابن أترجة، وكانوا يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذي يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان، فغطت هذه السيئة جميع حسناته».
56
ورووا أن المتوكل كان قد اتصل به يعقوب بن إسحاق النحوي المعروف بابن السكيت، فسأله المتوكل: أيما أحب إليك، المعتز والمؤيد - ابنا المتوكل - أو الحسن والحسين؟ فتنقص ابنيه، وذكر الحسن والحسين - عليهما السلام - بما هما أهل له، فأمر الأتراك فداسوا بطنه، فحمل إلى داره فمات.
57
وهذه الحوادث وأمثالها في التنكيل بالشيعة قد كان لها مثيل من قبل في العهدين الأموي والعباسي الأول، إلا أنا نريد أن نثبت هنا أن سلطان الأتراك لما ظهر صحبه عودة التنكيل بالشيعة، وكان قد هدأ في عهد المأمون والمعتصم والواثق.
وهذه الظاهرة أيضا لازمت الأتراك طول عهدهم، فكل تاريخهم مملوء بكراهيتهم للتشيع والشيعة، وبالحروب المتصلة بينهم - وهم سنيون - وبين الفرس - وهم شيعة.
وكان تصرف المتوكل مع الشيعة سببا كبيرا من أسباب تدبير الشيعة للمؤامرات والدسائس، والفتن للخروج على الدولة العباسية في بغداد، وإقامة حكومات شيعية مستقلة عن خلفاء العراق كما سيأتي. (3)
المظهر الثالث: اضطهاد اليهود والنصارى؛ فقد «أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير، وركوب السروج بركب الخشب، وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس مماليكهم مخالف لونهما الثوب الظاهر عليه، وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما خلف ظهره، وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع ولونها عسليا، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسل، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي ... وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وإن كان الموضع واسعا صير مسجدا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدا، صير فضاء، وأمر بأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة، تفريقا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي تجري فيها أحكامهم على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في مكاتب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض؛ لئلا تشبه قبور المسلمين وكتب إلى عماله في الآفاق بذلك».
58
وقد علل عمله هذا في كتابه بأنه يريد إعزاز الإسلام، وإذلال الكفر، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين ، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين، وقال علي بن الجهم في ذلك:
العسليات التي فرقت
بين ذوي الرشدة والغي
وما على العاقل إن يكثروا
فإنه أكثر للفي
59
نعم، ربما كان هذا نتيجة لسوء العلاقة بين المسلمين والروم، ومهاجمة الروم لبلاد المسلمين من حين لحين، ولكن مهما كان الأمر فهي حالة سيئة تدل على ضيق العقل، ومخالفته للنظر الواسع الحكيم الذي أمر به الإسلام، ونفذه خلفاء المسلمين الأولون، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب في حكمة ورفق! وكان هذا أيضا مما أفسد قلوب عدد كبير من الرعية كان يستخدم من قبل في مصلحة الدولة، وحرك عددا منهم للثورة، كثورة نصارى أرمينية على محمد بن يوسف عامل المتوكل على أرمينية وأذربيجان، وقتلهم إياه
60
ونحو ذلك.
وقد أراد بعض من أتى بعد المتوكل من الخلفاء أن يزيلوا هذه المظاهر أو بعضها، كالذي فعل المنتصر، فقد أراد أن يعيد الاعتزال إلى سلطانه، وأراد أن يحسن صلته بالبيت العلوي، ولكن لم تطل مدته، ولم يمكنه الزمان ولا حالة الناس من تنفيذ ما أراد.
لم يكن لهذا النوع من الأتراك مدنية وحضارة قديمة؛ إذ كانوا بدوا أو أشبه بالبدو، فلم يكن شأنهم عندما اندمجوا في المملكة الإسلامية شأن الفرس؛ فالفرس عندما فتحت بلادهم، وأسلم كثير منهم واندمجوا في المملكة الإسلامية، أعطوا وأخذوا، وانتفع بهم المسلمون من ناحية الثقافة: بمثل الكتب التي نقلت من الفارسية إلى العربية، ومثل الألفاظ الفارسية التي نقلت إلى العربية، ومثل نظم الحكم التي أتقنوها في مملكتهم، إلى غير ذلك مما شرحناه قبل، كما أخذوا هم عن العرب اللغة والدين، وكان من الفرس رجال مثقفون ثقافات واسعة كالبرامكة، والفضل بن سهل، والحسن بن سهل، وابن المقفع، فأثروا في الثقافة الإسلامية أثرا كبيرا بما مزجوا من الثقافتين الفارسية والعربية. أما الأتراك فجاؤوا بشجاعتهم وقوة أبدانهم، وبعاداتهم وتقاليدهم لا بحضارتهم وثقافتهم، فكانوا من ناحية الحضارة والثقافة قابلين لا فاعلين، جاؤوا لا يعرفون اللغة العربية فتعلموها في بطء، ولم يتقنها بعضهم إلا بعد ذهاب الجيل الأول منهم ، فكانوا يتخاطبون بترجمان.
ويحدثنا الصولي أن «بجكم» أمير الأمراء في عهد الراضي والمتقي كان يحسن العربية فهما ولا يحسنها كلاما، «وكان يقول: أخاف أن أتكلم العربية فأخطئ في لفظي، والخطأ من الرئيس قبيح؛ فلذلك أدع الكلام».
61
ولم يتقنوها في سرعة ومهارة كما فعل الفرس، فما أتى الجيل الثاني والثالث على الفرس حتى رأيناهم قد أمسكوا بزمام الأدب شعرا وكتابة وتأليفا علميا، وليس كذلك الأتراك، فقل أن نرى منهم شاعرا أو ناثرا بالعربية، وعلى الأخص في الأجيال الأولى من إسلامهم، وأسلم الأتراك الأولون فكان إسلامهم ذا لون خاص، فيه نواحي قوة ونواحي ضعف، فهو دين شديد لا يقبل جدالا ولا مناقشة، ولا يقبل مذاهب مختلفة، وعلى العكس من ذلك الفرس، فكان إسلامهم فيه الجدل الشيعي وغير الشيعي، وفيه المقارنة بينه وبين المانوية والزرادشتية والمزدكية، وفي التزندق أحيانا والتفلسف أحيانا، وفيه المذاهب المختلفة التي ظهر أثرها في العراق أيام سلطانهم، أما مؤرخ الإسلام عند هؤلاء الأتراك فلا يرى مجال القول فسيحا كما يراه عند الفرس، ولكل من هذين النوعين من التدين مزاياه ومضاره، كالفرق بين إيمان العجائز وإيمان الفلاسفة.
أخذت طائفة من الأتراك يتعلمون اللغة العربية والدين، وربما كان من خير مثل لتعلم الطبقة الممتازة من الأتراك ما كان من أحمد بن طولون، فقد أخذ يتعلم على حين أن كثيرا من أمثاله لا يعنون بالتعلم. قال المقريزي: «نشأ أحمد بن طولون نشئا جميلا غير نشء أولاد العجم (يريد الترك)، فوصف بعلو الهمة، وحسن الأدب، والذهاب بنفسه عما كان يترامى إليه أهل طبقته.»
62
فدرس العربية، وحفظ القرآن، وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان ذلك كله وهو في بغداد، ثم خرج إلى طرسوس مرارا، وأخذ الحديث عن كبار المحدثين فيها، «فظهر فضله واشتهر عند الأولياء، وتميز عن الأتراك».
63
فكان في هذا من خير الأتراك، بل كان هو نفسه «شديد الإزراء على الأتراك وأولادهم لما يرتكبونه في أمر الخلفاء، غير راض بذلك، ويستقل عقولهم، ويقول: حرمة الدين عندهم منهوكة».
64
فإذا كانت ثقافة أحمد بن طولون هذه تعد ثقافة ممتازة بين الأتراك، استطعنا أن نستنتج ضيق ثقافة الأتراك عامة في هذا العصر.
ومع هذا فإنا نرى بعض الأتراك من أوائل هذا العصر، وبعده نبغوا في فنون مختلفة على قلة فيهم.
فنرى مثلا «الفتح بن خاقان» التركي قال فيه ابن النديم: «كان في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب، وكان من أولاد الملوك، واتخذه المتوكل أخا، وكان يقدمه على جميع أولاده، قتل مع المتوكل ليلة قتل بالسيوف لأربع خلون من شوال سنة 247ه.» وكانت له خزانة كتب لم ير أعظم منها كثرة وحسنا، وكان يحضر داره فصحاء العرب وعلماء الكوفيين والبصريين؛ وروى المبرد شيئا من شعره، وكان يتعشق غلاما له اسمه شاهك، وله فيه أشعار، منها:
أشاهك، ليلي مذ هجرت طويل
وعيني دما بعد الدموع تسيل
وبي منك - والرحمن - ما لا أطيقه
وليس إلى شكوى إليك سبيل
أشاهك لو يجزى المحب بوده
جريت ولكن الوفاء قليل
ويروى له:
وإني وإياها لكالخمر، والفتى
متى يستطع منها الزيادة يزدد
إذا ازددت منها ازددت وجدا بقربها
فكيف احتراسي من هوى متجدد
وقد روي له في كتب الأدب أبيات من هذا القبيل، وجمل ظريفة وأجوبة سديدة تدل على منزلته في الأدب.
65
وهو الذي قدم له الجاحظ رسالته في مدح الأتراك التي تقدم وصفها.
ونبغ من الأتراك أبو نصر الفارابي الفيلسوف الإسلامي الكبير، وأستاذ كل فيلسوف إسلامي بعده، فإنه من فاراب، وهي مدينة من مدن الترك نبغ منها جماعة كثيرة من العلماء. ونبوغ الفارابي من بين الأتراك مفخرة كبيرة لهم، فقد عني بفلسفة أرسطو، وأخرجها للمسلمين في شكل جديد، وكان له فضل على كل من اشتغل بالفلسفة من المسلمين بعده؛ فظهوره من الترك رجح من كفتهم وكانت شائلة، وأثقل ميزانهم وكان خفيفا. وسيأتي بسط لقيمته وفلسفته في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله، وقد مات بدمشق سنة 339ه.
كما نبغ من الأتراك في القرن الرابع إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي أيضا، صاحب كتاب «الصحاح» من أهم كتب اللغة وأصولها، كان إماما في علم اللغة والأدب، كما كان يضرب به المثل في جودة الخط.
أخذ علم العربية عن أشهر علماء العراق، مثل أبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي، ثم سافر إلى الحجاز يأخذ اللغة عن أهلها بالسماع والمشافهة، وطوف في بلاد ربيعة مضر، وحقق ما يشك فيه مما يرويه العلماء، فيقول مثلا: سألت أعرابيا بنجد من بني تميم، وهو يستقي، وبكرته نخيس، فوضعت إصبعي على النخاس
66
فقلت: ما هذا؟ وأردت أن أتعرف منه الخاء من الحاء، فقال: نخاس بخاء معجمة، فقلت: أليس قال الشاعر:
وبكرة نحاسها نحاس
فقال: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.
فلما استكمل دراسته ومشافهته وضع في اللغة كتابه «الصحاح» الذي يعد - بحق - من أسس كتب اللغة.
وكما اجتهد في تصحيح الألفاظ وضبطها كان له الفضل في اختراع الطريقة التي ألف عليها كتابه، وحذا حذوه فيها صاحب «القاموس» و«لسان العرب» وغيرهما من حصر الكلمات في أبواب حسب أواخرها، وتقسيم الأبواب إلى فصول حسب أوائلها، وكانت كتب اللغة قبله ترتب ترتيبا مهوشا، فتذكر الكلمة ثم يذكر مقلوبها، كما فعل صاحب كتاب «العين» «والجمرة»، وقد مات نحو سنة 400ه.
67
وعلى الجملة، فلئن كان أكثر العنصر التركي في المملكة الإسلامية إنما يمتاز بالجندية والخشونة مع ضعف الثقافة؛ فقد نبغ منهم علماء في فروع مختلفة حصلوا ما كان من الثقافة في عصرهم، وابتكروا بعقولهم.
العنصر الفارسي
لم يهدأ الفرس منذ رأوا الأتراك تحتل مراكزهم في الدولة العباسية وتستبد بالسلطان دونهم، وتقصيهم عن أماكنهم. لقد كان الفرس في العصر العباسي الأول هم عماد الدولة، وبيدهم تصريف شئونها، وكان الخليفة يعتمد عليهم في أهم الأمور، وهم يحتفظون له بمظهر الأبهة والجلالة، ثم ينشرون سلطانهم، فإذا أحس الخليفة منهم استبدادا أوقع بهم، كما فعل الرشيد بالبرامكة، والمأمون بابن سهل، ولكنهم سرعان ما يستردون نفوذهم، فلما جاء الأتراك أبعدوهم عن منزلتهم، وغلبوا على الخليفة دونهم، فانكمش الفرس على حنق، ولعبت بهم العصبية الفارسية ، وأخذوا يدسون الدسائس ويدبرون المؤامرات، ويحصنون أنفسهم بالرجال والسلاح، ويرمون إلى اقتطاع البلاد والاستيلاء عليها - وخصوصا بلادهم الفارسية - والاستقلال بها عن خلفاء بغداد، فإذا سنحت لهم فرصة بعد فليستولوا على العراق وعلى الخليفة، وليتسلطوا هم عليه، ويقضوا على سلطة الأتراك، وكذلك كان.
كانت هذه العصبيات تلعب في عقول الفرس والترك، كل يريد الغلبة ويريد القضاء على صاحبه؛ وكانت بغداد ساحة في كثير من الأوقات للقتال بين الديالمة والأتراك، ولعل خير ما يمثل هذا ما روى الصولي في حوادث سنة 323 من أن «مرداويج الفارسي الأصل (أمير الري وطبرستان، ومؤسس الدولة الزيارية) جعل عسكره صنفين: صنف منهم جيل وديلم،
68
وهم خواصه، وأهل بلده الذين فتح بهم الري ونواحيها، ومنهم صنف أتراك وأهل خراسان، ثم استخص نفرا من الأتراك، فوجد الديلم من ذلك، وعاتبوه عليه، فقال: إنما اتخذت الأتراك لأقيكم بهم، وأقدمهم يحاربون بين أيديكم، وأنتم خاصتي وأنا بكم ولكم. فبلغ ذلك الأتراك، فأجمع رأيهم على قتله، فأوصوا الغلمان الصغار الذين في خدمته، ووكدوا عليهم بالتركية أن يفتكوا به، فقتلوه في حمام، وجاءهم الذين واطئوهم على ذلك وأخرجوهم من الدار. وركبوا دوابه وساروا فاضطربوا، فقالوا: نجعل علينا رئيسا. فرضوا ببجكم، وأخذوا من داره مالا عظيما، وآنية فضة وذهب. وكان (أي مرداويج) قد تكبر وتجبر، ووضع التاج على رأسه مكللا بأحسن الحب والياقوت، وجلس على سرير فضة حواليه ذهب، وكان مرصعا بجوهر، وقال: «أنا أرد دولة العجم، وأبطل دولة العرب.»
69
نجح الفرس إلى حد كبير في اقتطاع أجزاء من الدولة والاستيلاء عليها، واستبدادهم بها، وقصر سلطة الخليفة على المظهر الاسمي؛ فمن قديم استولى الطاهرية على خراسان (205-259)، والصفارية على فارس (254-290)، والسامانية على فارس وما وراء النهر(261-389)، والزيارية على جرجان (316-434)، ثم دولة بني بويه الفارسية أيضا (320-447)، فقد استولوا على فارس ثم على العراق، وأخضعوا الخليفة لأمرهم، وأزالوا ولاية الترك عليه، وأقاموا سلطانهم، فكان شأن الخليفة منهم شأنه مع الترك قبلهم، مظهر ولا عمل، ولقب ولا أمر ولا نهي.
والواقع أن سلوك البويهيين الفرس مع الخلفاء لم يكن كسلوك آبائهم الفرس مع الخلفاء في العصر العباسي الأول. لقد كان الأولون من الفرس يأتمرون بأمر الخليفة، ويرعون ولاءهم له وطاعتهم إياه، فلما جاء خلفهم من بني بويه لم يرعوا ولاء ولا قلدوا سلفهم، إنما قلدوا الأتراك في التنكيل بالخليفة والاستهانة به، واستقلوا ضعفه فلم يعلوا شأنه بل زادوه ضعفا.
ففي سنة 334ه سار معز الدولة بن بويه من الأهواز إلى بغداد في خلافة المستكفي فملكها، ومنحه المستكفي إمرة الأمراء، «وأعطاه الطوق والسوار وآلة السلطنة، وعقد له لواء، ولقبه معز الدولة، ولقب أخاه ركن الدولة، ولقب أخاه الآخر عماد الدولة، وأمر أن تضرب ألقابهم على الدينار والدرهم».
70
فما أن استتب أمر معز الدولة ببغداد وقوي أمره حتى حجر على الخليفة المستكفي، وقدر له كل يوم خمسة آلاف درهم لنفقته.
وأوجس معز الدولة خيفة من المستكفي، فدخل معز الدولة عليه فوقف والناس وقوف على مراتبهم، فتقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة فمد يده إليهما ظنا أنهما يريدان تقبيلها، فجذباه من السرير حتى طرحاه إلى الأرض وجراه بعمامته، وهجم الديلم على دار الخلافة إلى الحرم ونهبوها فلم يبق منها شيء. ومضى معز الدولة إلى منزله، وساقوا المستكفي ماشيا إليه وخلع وسملت عيناه، وولوا المطيع لله خليفة، وقرر له معز الدولة كل يوم مائة دينار فقط لنفقته.
كان معز الدولة يخرج للقتال ومعه المطيع - كأسير - ولما ماتت أخت معز الدولة نزل المطيع إلى داره يعزيه.
ومات معز الدولة فأقيم ابنه باختيار مكانه، فكان مع المطيع كأبيه، وزاد على ذلك أنه صادر المطيع، فقال المطيع: أنا ليس لي غير الخطبة، فإن أحببتم اعتزلت، فشدد عليه باختيار حتى باع قماشه، وأخذ منه أربعمائة ألف درهم. وأخيرا خلع المطيع نفسه، وولي ابنه الطائع.
فاستجمع الأتراك قوتهم، وتجمعوا حول سبكتكين التركي، وتجمع الديلم والفرس حول معز الدولة، فقدم عضد الدولة البويهي بغداد لنصرة عز الدولة على سبكتكين، فتم لعضد الدولة النصر، وملك بغداد. وأخيرا خلع الطائع على عضد الدولة خلعة السلطنة، وتوجه بتاج مجوهر، وطوقه وسوره وقلده سيفا، وعقد له لواءين بيده: أحدهما مفضض على رسم الأمراء، والآخر مذهب على رسم ولاة العهود، ولم يعقد هذا اللواء الثاني لغيره قبله، وكتب له عهدا وقرئ بحضرته.
وفي سنة 368ه أمر الطائع أن يضرب الدبادب
71
على باب عضد الدولة في وقت الصبح والمغرب والعشاء، وأن يخطب له على منابر الحضرة
72
وزاد في ألقابه.
وجمع الطائع رجال الدولة ودخل عضد الدولة على الطائع وقبل الأرض بين يديه، ثم قبل وجل الطائع، ثم أعلن الطائع إسناد الأمور كلها إلى عضد الدولة، فقال له: «قد رأيت أن أفوض إليك ما وكل الله إلي من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها، وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي.» فقال عضد الدولة: «يعينني الله على طاعة مولانا أمير المؤمنين وخدمته.»
وفي سنة 370ه خرج عضد الدولة من همذان يريد بغداد، فخرج الخليفة الطائع للقائه ولم تجر العادة بذلك.
بل قد جرى خلاف بين الطائع وعضد الدولة، فقطع عضد الدولة الخطبة للطائع في بغداد وغيرها، واستمر ذلك نحو شهرين، ثم سوي الخلاف وأعيدت الخطبة للطائع.
بل طمع عضد الدولة في الخلافة لنسله، فزوج الطائع ابنته وعقد العقد بحضرة الطائع لله وبمشهد من أعيان الدولة، وكان الوكيل عند عضد الدولة أبا علي الفارسي النحوي، والذي خطب خطبة الزواج القاضي أبا علي المحسن التنوخي، وكان المهر مائة ألف دينار؛ ورمى عضد الدولة بذلك أن يرزق الطائع ولدا من ابنته فيولى العهد وتصير الخلافة في بيت بني بويه، ويصير الملك والخلافة في الدولة الديلمية.
73
وأخيرا بعد كل هذا لم يرض البويهيون عن الطائع، فإن بهاء الدولة البويهي احتاج إلى مال فدبر خلع الطائع وأخد أمواله، فأرسل إلى الطائع يسأله الإذن في الحضور ليجدد العهد به، فأذن له في ذلك وجلس له كما جرت العادة، فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كثير، فلما دخل قبل الأرض وأجلس على كرسي، فدخل بعض الديلم كأنه يريد تقبيل يد الخليفة فجذبوه وأنزلوه عن سريره وهو يستغيث ولا يلتفت إليه أحد، وأخذوا ما في داره، ونهب الناس بعضهم بعضا، ثم أمروه أن يخلع نفسه ففعل بعد أن نزل للبويهيين عن كل شيء.
وقد كان الشريف الرضي حاضرا في المجلس الذي قبض فيه على الطائع، وقد خاف أن يعيد الفرس تمثيل دور الترك مع المتوكل فأسرع في الخروج، وكان أول خارج من الدار، ومكث من مكث من القضاة والأشراف فسلبوا ثيابهم وامتهنوا، وفي ذلك يقول قصيدته التي مطلعها:
لواعد الشوق تخطيهم وتصميني
واللوم في الحب ينهاهم ويغريني
وفيها يقول:
اعجب لمسكة نفسي بعدما رميت
من النوائب بالأبكار والعون
ومن نجائي يوم الدار حين هوى
غيري ولم أخل من حزم ينجيني
مرقت منها مروق النجم منكدرا
وقد تلاقت مصاريع الردى دوني
وكنت أول طلاع ثنيتها
ومن ورائي شر غير مأمون
من بعدما كان رب الملك
74
مبتسما
إلي أدنوه في النجوى ويدنيني
أمسيت أرحم من أصبحت أغبطه
لقد تقارب بين العز والهون
ومنظر كان بالسراء يضحكني
يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني!
هيهات أغتر بالسلطان ثانية
قد ضل ولاج أبواب السلاطين
وجاء القادر بالله بعد الطائع فظل سلطان بني بويه على الخليفة كما كان، قال الذهبي: «في سنة ولايته عقد مجلس عظيم حلف فيه القادر وبهاء الدولة (البويهي) كل منهما لصاحبه بالوفاء، وقلده القادر ما وراء بابه مما تقام فيه الدعوة.»
من كل هذا نرى أن البويهيين من الفرس سلكوا مع الخلفاء ما سلكه الأتراك من قبلهم، بل زادوا عليه أحيانا، ولكن أكبر التبعة تقع على الترك، فإنهم هم البادئون بانتهاك حرمة الخلافة، فلم يكن من اليسير بعد إعادة ما لها من جلال.
وزاد الأمر سوءا في عهد البويهيين النزاع بين الشيعة والسنة؛ فقد كان الخليفة سنيا، والبويهيون شيعيين، فاختلفت المظاهر وكثر النزاع. ففي سنة 351ه في عهد المطيع - مثلا - كتبت الشيعة ببغداد على أبواب المساجد بلعن معاوية، ولعن من غصب فاطمة حقها من فدك، ومن منع الحسن أن يدفن مع جده، ولعن من نفى أبا ذر، فمحاه أهل السنة بالليل فأراد معز الدولة أن يعيده فأشار عليه الوزير المهلبي أن يكتب مكان ما محي: لعن الله الظالمين لآل رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وصرحوا بلعن معاوية فقط.
وفي سنة 352ه ألزم معز الدولة الناس يوم عاشوراء بغلق الأسواق، ومنع الطباخين من الطبخ، ونصبوا القباب في الأسواق، وعلقوا عليها المسوح، وأخرجوا نساء منتشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المأتم على الحسين، وهذه أول مرة نيح فيها على الحسين ببغداد، واستمر هذا سنين، وفي ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة عمل عيد غدير خم، وضربت الدبادب.
وفي سنة 398ه، وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة في بغداد، فأرسل الخليفة القادر الفرسان الذين على بابه لمعاونة أهل السنة وهكذا.
وتعصب بعض شعراء الفرس في ذلك العهد لفارسيتهم، ومن أشهر هؤلاء مهيار الديلمي، فترى ديوانه قد ملئ بالتهنئة بيوم النيروز، ويوم المهرجان، وبمراسلة بعض البويهيين لقدوم بغداد والاستيلاء عليها، والعصبية الفارسية من مثل قوله:
أعجبت بي بين نادي قومها «أم سعد» فمضت تسأل بي
سرها ما علمت من خلقي
فأرادت علمها ما حسبي
لا تخالي نسبا يخفضني
أنا من يرضيك عند النسب
قومي استولوا على الدهر فتى
ومشوا فوق رءوس الحقب
عمموا بالشمس هاماتهم
وبنوا أبياتهم بالشهب
وأبي كسرى على إيوانه
أين في الناس أب مثل أبي؟
قد قبست المجد من خير أب
وقبست الدين من خير نبي
وضممت الفخر من أطرافه
سؤدد الفرس ودين العرب
وقد شرحنا أثر الفرس الاجتماعي في «ضحى الإسلام»، غير أننا نذكر هنا أن هذه الحروب بين الترك والبويهيين الفرس، وبين البويهيين بعضهم مع بعض، أثرت كثيرا من الخراب في العراق وما حولها، حتى جاء عضد الدولة فاستقرت الأمور بعض الاستقرار، ومكنه ذلك وحبه للعمران أن يصلح بعض ما خرب.
قال مسكويه: «وكان ببغداد أنهار كثيرة ... وكان منها مرافق للناس لسقي البساتين ولشرب الشفة في الأطراف البعيدة من دجلة، فاندفنت مجاريها، وعفت رسومها، ونشأ قرن بعد قرن من الناس لا يعرفونها، واضطر الضعفاء إلى أن يشربوا مياه الآبار الثقيلة، أو يتكلفوا حمل الماء من دجلة في المسافة الطويلة، فأمر (عضد الدولة) بحفر عمدانها ورواضعها، وقد كانت على عمدانها الكبار قناطر قد تهدمت وأهمل أمرها، وقل الفكر فيها، فربما انقطعت بها السبل، وربما عمرتها الرعية عمارة ضعيفة على حسب أحوالهم، فلم تكن تخلو من أن تجتاز عليها البهائم والنساء والأطفال والضعفاء فيسقطون، فبنيت كلها جديدة وثيقة، وعملت عملا محكما. وكذلك جرى أمر الجسر ببغداد، فإنه كان لا يجتاز عليه إلا المخاطر بنفسه، لا سيما الراكب لشدة ضيقه وضعفه، وتزاحم الناس عليه، فاختيرت له السفن الكبار المتقنة، وعرض حتى صار كالشوارع الفسيحة، وحصن بالدرابزينات، ووكل به الحفظة والحراس!»
75
كما أعاد الاطمئنان إلى أهل الذمة، وأذن للوزير نصر بن هارون في عمارة البيع والديرة، وإطلاق الأموال لفقرائهم.
كما أنشأ في بغداد سنة 371ه، بيمارستانا للمرضى سمي بعده البيمارستان العضدي، وأحضر له كل ما يلزم من الأدوية والآلات، ورتب له أربعة وعشرين طبيبا، منهم الجراحون والكحالون والمجبرون، وكان فيه دراسة للطب أيضا، وممن كان يدرس فيه إبراهيم بن بكس.
76
وبعد نحو مائتي سنة من بنائه زاره ابن جبير الرحالة، وقال: إنه على نهر دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قومة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت، وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل إليه من «دجلة»، وعلى الجملة فكان مستشفى كبيرا ومدرسة للطب، ولكن عاد الأمر بعده إلى الفساد والخراب.
أما الحركة العقلية والأدبية في دولة بني بويه، فبلغت الغاية في التحصيل والإنتاج، وسنتكلم فيها في محلها من هذا الكتاب إن شاء الله.
عنصر العرب
بجانب هذا النفوذ التركي والنفوذ الفارسي، كان هناك النفوذ العربي، وأظهر ما كان ذلك في الشام والجزيرة، فالعرب الذين هاجروا من جزيرة العرب إلى الشام والعراق كانوا - دائما - قوة سياسية تحسب الخلفاء حسابها. نعم إنهم كانوا كل شيء في العهد الأموي، وضعف سلطانهم في العهد العباسي، ولكنهم كانوا في كل الأحوال قوة لا يستهان بها ، ولما ضعفت القوة المركزية في بغداد شرعت هذه القبائل الهائمة في صحراء الشام ووادي الفرات تحط رحالها، وتنشئ مستعمرات ثابتة، وتحتل المدن والقلاع، وتكون دويلات؛ فكونت قبيلة تغلب دولة الحمدانيين في الموصل وحلب (317ه-394ه)، وكونت قبيلة كلاب دولة المرداسيين في حلب (414-472)، وكون بنو عقيل العقيليين في ديار بكر والجزيرة (386ه-489ه)، وكون بنو أسد دولة المزيديين في الحلة (403ه-545ه).
وهؤلاء العرب مع استيلائهم على المدن والقلاع لم ينبذوا عاداتهم القومية من البداوة وما إليها، واعتزازهم ببداوتهم واحتقارهم لأهل الحضر، ومن طريف ما يروى في ذلك أن قرواشا العقيلي صاحب الموصل (من الدولة العقيلية) قال مرة: «ما في رقبتي غير خمسة أو ستة من البادية قتلتهم، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.»
وأهم هذه الدول العربية التي تجلت فيها العصبية العربية، واشتبكت مع العصبية التركية والفارسية هي دولة بني حمدان التغلبية؛ فقد عظم نفوذها بالموصل وحلب، وأرادت الاستيلاء على بغداد وطرد النفوذ التركي والفارسي، واستخلاص الخليفة لهم، وجرت في ذلك سلسلة حروب طويلة.
فالخليفة المتقي بالله، احتمى بناصر الدولة بن حمدان وقلده إمرة الأمراء، وخلع عليه وعلى أخيه سيف الدولة بن حمدان، ودخل ناصر الدولة بغداد باحتفال عظيم، ولكن ثورة الأتراك - على رأسهم «توزون» - تغلبت على ابن حمدان، وولي الخليفة إمرة الأمراء لتوزون، واستمر العداء والقتال بين العرب وعلى رأسهم ابن حمدان، وبين الترك وعلى رأسهم توزون.
فلما استولى البويهيون الفرس على بغداد لم ينقطع الخلاف والقتال بين الحمدانيين والبويهيين، ولما رأى ناصر الدولة بن حمدان استيلاء معز الدولة على بغداد، وسلبهم جميع حقوق الخليفة، جهز جيشا لقتال البويهيين، وساعده على ذلك فرق من الجيش التركي، ودام القتال طويلا، وتقدم الحمدانيون إلي بغداد واستولوا على جانبها الشرقي، وأخيرا انهزم ناصر الدولة الحمداني وعاد إلى مقره.
وكذلك اشتبك الحمدانيون في قتال مع البويهيين أيام عضد الدولة، فهزم الحمدانيون أيضا.
وكانت حياة بني حمدان مظهرا من مظاهر الحياة البدوية المتحضرة: حب للحرب، واستبداد السادة بالرعية، وكرم ومروءة، وشهامة ونجدة، وعصبية للعربية ضد الفرس والترك، وعصبية للقبيلة ضد بني كلاب وبني عقيل، وعصبية للإسلام ضد الروم، وصف الأزدي سيف الدولة الحمداني فقال: «كان معجبا برأيه، محبا للفخر والبذخ، مفرطا في السخاء والكرم ، شديد الاحتمال لمناظريه، والعجب بآرائه، سعيدا مظفرا في حروبه، جائرا على رعيته، اشتد بكاء الناس عليه ومنه.»
ظهرت عصبية الحمدانيين لعربيتهم في قتالهم المتواصل للترك وللفرس في العراق، وتغني شعرائهم كالمتنبي في الاعتزاز بعربيته وعربيتهم، فيقول - وقد تساءلوا عن أيهم أفضل: العرب أم الأكراد:
إن كنت عن خير الأنام سائلا
فخيرهم أكثرهم فضائلا
من أنت منهم يا همام وائلا
الطاعنين في الوغى أوائلا
والعاذلين في الندى العواذلا
قد فضلوا بفضلك القبائلا
ويقول ويأسف لحكم غير العرب العرب:
وإنما الناس بالملوك وما
تفتح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب
ولا عهود لهم ولا ذمم
بكل أرض وطنتها أمم
ترعى بعبد كأنها غنم
ويدل على عصبيتهم القبلية ما فعله سيف الدولة من إيقاعه ببني كلاب وبني عقيل، وقشير وبني عجلان، وبطشه ببني حبيب حتى خرجوا بذراريهم إلى الروم في اثني عشر ألف فارس وتنصروا بأجمعهم، ووقوف المتنبي بجانبه يشيد بذكره في حروبه هذه، فيقول حينما أوقع ببني كلاب قصيدته المشهورة التي مطلعها:
بغيرك راعيا عبث الذئاب
وغيرك صارما ثلم الضراب
ويذكر إيقاعه ببنى عقيل وقشير، وبني العجلان في قصيدته التي مطلعها:
تذكرت ما بين العذيب وبارق
مجر عوالينا ومجرى السوابق
ويدل على عصبيتهم الإسلامية قتالهم للروم، وصدهم عن بلاد الإسلام وحمايتهم للثغور، حتى غزا سيف الدولة الروم أربعين غزوة، ولولاه لاستولوا على الشام في غفلة العباسيين، وقد رووا أنه جمع من الغبار الذي أصابه في غزواته ما صنع منه لبنة بقدر الكف أوصى أن يوضع خده عليها في لحده.
بين هذه العصبيات الثلاث التركية والفارسية والعربية تقسمت المملكة الإسلامية؛ ولأجلها وقعت الحروب وسادت الفتن، فلا تكاد تخلو سنة من حروب بين فرس وترك وعرب، وأحيانا ينضم بعض إلى بعض؛ فقد كان في جيش بني حمدان أحيانا فرق من الجيش التركي ، كما كان مع بعض بني بويه بعض الأتراك، والبلاد تخرب من القتال، والروم ينتهزون فرصة اشتباك أمراء المسلمين بعضهم مع بعض للإغارة على الثغور الإسلامية والتنكيل بها.
وقد اتخذت العصبيات في هذا العصر شكلا واضحا غير الذي كان في العصر العباسي الأول، فقد كان قبل عصبية فارسية وعصبية عربية، ولكنها كانت تعمل في الخفاء غالبا، وكانت قوة الخلفاء تحول دون الطغيان، فإذا أحس الخليفة طغيانا من الفرس نكل بهم، وردهم إلى حدودهم، فلما ضعفت الخلافة، وقتل المتوكل بيد الأتراك، لم يكن للخليفة من النفوذ ما يستطيع أن يصد به هذا الطغيان، فانكشف العصبيات وأصبحت تعمل جهارا، ووسيلتها الحروب.
وكان من نتيجة هذه العصبيات الثلاث، واستعمالها السيف في بسط نفوذها، وضعف الخلفاء عن كبح جماحها؛ انقسام المملكة إلى مناطق نفوذ، فلو نظرنا إلى المملكة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الثالث وفي القرن الرابع الهجري، رأينا الأندلس يحكمها الأمويون وهم عرب، وبلاد المغرب يحكم بعضها الأدارسة وهم عرب، وبعض قبائل البربر، والفاطمية وهم عرب، ومصر والشام يحكمها الطولونيون والإخشيديون، وهم أتراك، ثم الفاطميون وهم عرب، والحمدانيون في الموصل وحلب وهم عرب، والعراق يحكمه الأتراك باسم الخليفة العباسي، وينازعهم السلطان عليه الحمدانيون وهم عرب، ثم يستولي عليه البويهيون وهم فرس، وفارس تتقسمها دول مختلفة: الدلفية في كردستان وهم عرب، والصفارية في فارس كلها وهم فرس، والسامانية في فارس وما وراء النهر وهم فرس، والزيارية في جرجان وهم فرس، والحسنوية في كردستان وهم أكراد، والبويهية في جنوبي فارس وهم فرس، والغزنوية بأفغانستان والهند وهم أتراك.
وكان كل جنس من هذه الأجناس يطبع البلاد التي يحكمها بطابعه الخاص، فطابع التركية حب للجندية والفروسية، والاستكثار من الجنود من جنسهم لتقوية حكمهم، ثم كثرة الخلافة فيما بينهم، وتعصب كل فريق لقائد كالبدو في تعصبهم للقبائل واعتزازهم بقبيلتهم، ونظرهم في شيء من الاحتقار إلى أهل البلاد المحكومة بهم، وانتصارهم لمذهب أهل السنة، وعدم ميلهم إلى الفلسفة والجدل في الدين، وتقريبهم علماء الدين وخاصة علماء التفسير والحديث، وحبهم للأموال يأخذونها من الرعية في غير حكمة وأناة ونظر بعيد، فبدل أن يعنوا بموارد المال من ري، ونظام ضرائب، وإصلاح أراض، وتنظيم تجارة، واستغلال منابع الثروة يجيلون أبصارهم في الناس ، ويتعرفون ذوي الثروة، فينتهزون الفرصة لمصادرتهم أو التنكيل بهم أو نحو ذلك، ثم ينفقون ما تصل إليه أيديهم في الترف والنعيم، فإذا أسرفوا وخلت أيديهم من جديد ثاروا على من لديه المال، ترى تاريخهم في العراق في ذلك العهد سلسلة مطالبات للخليفة بالأموال، فإذا لم يعطهم خلعوه، وإن أعطاهم سكتوا عنه أن يفرغ مالهم، ثم أعادوا الكرة، وهكذا فعلوا في الوزراء والكبراء والتجار، وهم مع كل هذا لا ينظرون إلى وسائل المال ليصلحوها؛ ولذلك سرعان ما ينضب معين الدولة لقد كان لدى الخلفاء ثروة هائلة تقدر بالملايين، فما زالوا يلحون عليهم في طلب المال، والخلفاء يفتدون أرواحهم بالعطاء حتى تركوهم ولا شيء في أيديهم، ومن أجل هذا نقرأ كثيرا في تاريخ هذه العصور دفن الأموال في الأرض، وبناء الحوائط عليها، وتظاهر الأغنياء بالفقر، ونحو ذلك.
وطابع الفرس حب الفخفخة والظهور، قد ورثوا مدينة قديمة مملوءة بالتقاليد والأوضاع، فطبعوا عليها بمحاسنها ومساويها؛ فلهم قدرة على تنظيم الحكم، ومعرفة واسعة بما يزيد الثروة ويضعفها، ولهم عقول مثقفة تتذوق الأدب والعلم وتهتز لهما، فهم يشجعون العلم لا بالمعنى الضيق الذي يشجعه التركي، ولكن بمعناه الواسع الذي يشمل الفلسفة بفروعها المختلفة، قد كثرت المذاهب الدينية القديمة عندهم من مانوية وزرادشتية ومزدكية، فكثرت في الإسلام مذاهبهم من زيدية واثني عشرية وسبعية وغير ذلك، وورثوا ما يرثه أبناء كل أمة تحضرت وهرمت من ميل إلى الترف والنعيم، وانهماك في اللذائذ، وأورثهم ضغط الدولة الأموية عليهم وتحقيرهم ميلا كامنا إلى الانتقام من العرب والأخذ بالثأر منهم في لين وهوادة، وعلمهم التشيع التقية، فمكروا وعملوا في الخفاء وتستروا، وأسسوا المؤامرات للقضاء على خصومهم بالثورات أحيانا، وبالدعوة المقنعة بالعلم أحيانا، إلى غير ذلك.
وطابع العرب ميل إلى البداوة، وحكم بالقبلية، واعتزاز بدمهم، واحتقار لغير جنسهم، وزهوهم بسيفهم ولسانهم، وقلقهم واضطرابهم، فإذا أحسوا ضعف رئيسهم فما أسرع ثورتهم! ثم هم أسرع ما يكون قبولا للتأقلم والتحضر، فإذا تحضروا انغمسوا في النعيم، ومالوا إلى خصب العيش، وتأنقوا في المأكل والملبس والمشرب ، كما كان شأن الفاطميين بعد انتقالهم من المغرب إلى مصر، وكما كان شأن من نزل من العرب في الأندلس، وكما كان شأن العرب الفاتحين لبلاد فارس والروم، وهم في أول أمرهم شجعان صرحاء بسطاء، فإذا انغمسوا في النعيم، وقعوا في سيئات الحضارة، ففقدوا صراحتهم وبساطتهم، أحب إليهم الأدب والشعر لا الفلسفة والعلم، إلا أن يستعينوا بغيرهم من الموالي في تجميل دولتهم بالفلسفة والعلم.
وكثيرا ما كان يتعاقب على القطر الواحد هذه الأجناس الثلاثة أو جنسان منها، فتعاقب على العراق العرب والفرس والترك، وعلى مصر العرب والترك، وإذ ذاك يسقيه كل جنس بكأسه، ويتكون لكل قطر مزاج هو نتيجة طبع الأمة مع من تعاقب عليها من الأجناس.
وهناك عنصران آخران كان لهما أثر في الحياة الاجتماعية في هذا العصر، وإن كان هذا الأثر في المنزلة الثانية، وأعني بهما الروم والزنج.
الروم
كان العرب يطلقون على المملكة البيزنطية «بلاد الروم»، ومن ثم أطلقوا على البحر الأبيض المتوسط «بحر الروم»، وعلى مر الزمان كان أكثر ما يطلق اسم الروم على بلاد النصارى المتاخمين للمملكة الإسلامية؛ ولهذا كان أكثر ما يطلق على بلاد النصارى في آسيا الصغرى، وكانت تسمى الحدود التي بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية «الثغور» ممتدة من ملطية إلى أعلى الفرات وإلى طرسوس، وكانت هذه الثغور محصنة من الجانبين، ومنقسمة إلى قسمين: ثغور الجزيرة، وثغور الشام، فمن الأول ملطية، وزبطرة، وحصن منصور، والحدث، ومرعش، والهارونية، والكنيسة، وعين زربة، ومن الثاني: المصيصة، وأذنة، وطرسوس.
ومنذ فتح الشام ومصر في عهد عمر بن الخطاب، والحروب قائمة بين المسلمين والروم، والذي نريد أن نعرض له الآن ما كان بين الروم والمسلمين في العصر الذي نؤرخه؛ فقد كثرت الحروب بين الفريقين، وكانت هذه الثغور بين حركتي مد وجزر باستمرار، فمن ابتداء هذا العصر حدثت وقعة عمورية المشهورة في عهد المعتصم، واستمرت بعد ذلك واشتدت بين الروم والحمدانيين، وعلى الأخص أيام سيف الدولة الحمداني.
وليس يهمنا هنا تاريخ هذه الحروب، ولا جانبها السياسي، وإنما يهمنا ما كان لها من أثر اجتماعي أو عقلي.
فقد كانت هذه الحروب سببا في أسر عدد كبير من الروم، واسترقاق كثير منهم؛ ففي وقعة عمورية «أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه، فأمر المعتصم أن يعزل منهم أهل الشرف، وقتل من سواهم، وأمر ببيع المغانم في عدة مواضع ... وكان لا ينادي على شيء أكثر من ثلاثة أصوات ثم يوجب بيعه طلبا للسرعة، وكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة، عشرة عشرة، طلبا للسرعة».
77
وكانت حرب بين الروم والمسلمين في صقلية سنة 353ه، فتقدم المسلمون إلى «رمطة» وملكوها عنوة وقتلوا من فيها، وسبوا الحرم والصغار وغنموا ما فيها، وكان شيئا كثيرا عظيما».
78
وفي سنة 343ه غزا سيف الدولة الروم «فقتل وأسر وسبى وغنم»، فانهزم الروم وقتل منهم وممن معهم خلق عظيم، وأسر صهر الدمستق وابن ابنته وكثير من بطارقته».
79
ومثل هذا كثير فالحروب تكاد تكون متصلة، والأسر من الجانبين متتابع. أنتجت هذه الوقائع نتائج كثيرة:
فمنها أنها خلفت لنا أدبا عربيا حربيا قويا، كقصيدة أبي تمام في فتح عمورية: «السيف أصدق أنباء من الكتب»، وقصائد المتنبي في حروب سيف الدولة للروم، كقصيدته يذكر الوقعة التي نكب فيها المسلمون بالقرب من بحيرة الحدث: «غيري بأكثر هذا الناس ينخدع»، وقصيدته لما سار سيف الدولة يريد الدمستق: «نزور ديارا ما نحب لها مغنى» ... إلخ إلخ، وكالقصائد الروميات لأبي فراس، وهي قصائد من غرر شعره، قالها - لما أسره الروم - في الحنين إلى أهله وأصحابه، والتبرم بحاله من أسر ومرض وغربة إلى غير ذلك.
ومنها ما كان من انتشار الروم من رجال ونساء وغلمان في بيوت الناس والخلفاء والأغنياء كمماليك، حتى إن بعض الخلفاء في هذا العصر كانت أمهم رومية؛ فالمنتصر بالله ابن المتوكل أمه رومية، والمعتز بالله أمه رومية اسمها «قبيحة»، وقد اشتهرت في التاريخ بغناها وثروتها وتغلبها على عقل المتوكل، والمعتمد على الله أمه رومية اسمها «فتيان»، والمقتدر بالله أمه رومية على بعض الأقوال، وكان لها في أيام ابنها سلطان في تدبير الأمور، حتى أمرت قهرمانتها أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس، وأم الراضي بالله رومية اسمها ظلوم ... إلخ.
واستكثر الخليفة المقتدر من الخدم والمماليك من الروم والسودان، حتى قالوا إنه بلغ عددهم أحد عشر ألفا، وكانوا في أول عهده ألفا ومائة.
وفي المقريزي أن أحمد بن طولون - لما ولي مصر - اشترى العبيد من الروم والسودان ... وصار من كثرة العبيد والرجال والآلآت بحال يضيق بها داره ولا يتسع له ... فبنى القصر والميدان، «وتقدم إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لنفسهم حوله، فاختطوا ... ثم قطعت القطائع، فكان للنوبة قطعية مفردة تعرف بهم، وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم».
80 «وكانت كل قطيعة لسكنى جماعات بمنزلة الحارات التي في القاهرة».
81
ولما اختطت القاهرة اختطت الروم حارتين. «وفي سنة 399ه أمر الخليفة الحاكم بأمر الله بهدم حارة الروم فهدمت ونهبت».
82
كما كان في بغداد دار تسمى دار الروم بالشماسية، وكان لهم بهذا الحي كنيسة على مذهب النسطورية، ودير يسمى دير الروم.
وانتشرت الجواري الروميات في القصور، وكانت لهن ميزات. قال ابن بطلان: «الروميات بيض شقر، سباط الشعور، زرق العيون، عبيد طاعة وموافقة وخدمة، ومناصحة ووفاء وأمانة ومحافظة، يصلحن للخزن لضبطهن وقلة سماحتهن، لا يخلو أن يكون بأكفهن صنائع دقيقة.»
وتعشق بعض الشعراء الغلمان الروم، فكان للبحتري غلام رومي اسمه «نسيم»، «كان قد جعله بابا من أبواب الحيل على الناس، فكان يبيعه ويعتمد أن يصير إلى ملك بعض أهل المروءات ومن ينفق عنده الأدب، فإذا حصل في ملكه شبب به وتشوق ومدح مولاه، حتى يهبه له، فلم يزل ذلك دأبه حتى مات «نسيم» فكفى الناس أمره».
83
وفي «نسيم» يقول البحتري:
دعا عبرتي تجري على الجور والقصد
أظن نسيما قارف الهجر من بعدي
خلا ناظري من طيفه بعد شخصه
فوا عجبا للدهر فقدا على فقد!
وقد أنجب هذا العنصر الرومي أدباء وعلماء، كان لهم في فنهم وعلمهم طابع خاص لم يكن مألوفا في العقلية العربية والفارسية، من أشهر هؤلاء ابن الرومي الشاعر، وابن جني النحوي.
فابن الرومي من أصل رومي كما يدل عليه اسمه، فهو علي بن العباس بن جريج، وله في الشعر ميزات قلما اجتمعت لغيره من شعراء العربية، هي أشبه شيء بالروح الرومي؛ فهو طويل النفس في قصائده طولا قلما يجارى، وهو يقع على المعنى فلا يزال يستقصي فيه حتى لا يدع فيه فضلة ولا بقية، وهو كثير التعليل لما يقول كما يفعل بالنظرية الهندسية والبرهان عليها من مثل قوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
لأفسح مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه
بما سوف يلقى من أذاها يهدد
وقوله في مليح رمدت عيناه:
قالوا اشتكت عينه فقلت لهم
من كثرة القتل مسها الوصب
حمرتها من دماء من قتلت
والدم في النصل شاهد عجب
ومثل ذلك كثير لا نطيل به.
وهو يصور المهجو صورة فنية تستخرج عجبك وتستثير ضحكك، كقوله في بخيل:
يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد
وقوله في ثقيل:
إذا بدا وجهه لقوم
لاذت بأجفانها العيون
كأنه عندهم غريم
حلت عليهم له ديون
وقوله:
معشر فيهم نكول إن نووا
فعل خير، وعلى الشر مرود
ليتهم كانوا قرودا فحكوا
شيم الناس كما تحكي القرود
أما ابن جني، فهو كذلك رومي، أبوه جني كان مملوكا روميا لسليمان بن فهد الأزدي، ولعل أصل «جني»
Jonah
84
فعربها العرب إلى جني. وكان ابن جني هذا غريبا في تصوره النحو والصرف، فهو ماهر في التصريف ماهر في التعليل والقياس. قال الباخرزي في دمية القصر: «ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات وشرح المشكلات ما له وسيما في علم الإعراب.» وكان المتنبي يقول فيه: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس.»
وقد قال هو نفسه في خصائصه:
وحلو شمائل الأدب
منيف مراتب الحسب
له كلف بما كلفت
به العلماء ملعرب
يبيت يفاتش الأنقا
ب عن أسرارها الغيب
85
فمن جدد إلى جلد
إلى صعد إلى صبب
ويفرع فكره الأبكا
ر منها من حمى الحجب
فيبردها كأن لها
وإن خفيت سنى لهب •••
يجد بها وتحسبه
للطف الفكر في لعب
سباطة
86
مذهب سبكت
عليه ماءة الذهب •••
وطردا للفروع على
أصول وطد رتب
إذا ما انحط غائرها
سما فرعا على الرتب
قياسا مثل ما وقدت
بليل برزة الشهب
ومنها في أصله الرومي:
فإن أصبح بلا نسب
فعلمي في الورى نسبي
على أني أؤول إلى
فروم سادة نجب
قياصرة إذا نطقوا
أرم
87
الدهر ذو الخطب
فابن الرومي وابن جني وأمثالهما كانوا عربا في المنشأ والمربى، وكانوا روما بعقلهم الموروث، فجمعوا بين مزايا العقل المطبوع والعقل المصنوع، وأنتجوا منهما نتاجا صالحا ذا طعم خاص.
السود
ومن العناصر التي كثرت في هذا العصر، وكان لها أثر كبير؛ الزنج الذين كانوا يجلبون في الأكثر من سواحل إفريقيا الشرقية، ولا أدل على كثرتهم وخطرهم من ثورتهم التي قاموا بها قرب البصرة، وهددوا بها الدولة العباسية، ودوخوها أربعة عشر عاما وأربعة أشهر (من 255ه إلى 270ه)، وكانت حربا بين الأجناس، بين السود والبيض، دعا إليها رجل ادعى نسبته إلى علي بن أبى طالب، فزعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وأكثر المؤرخين يرون أنه دعي وأن أصله عربي من عبد القيس، وقد توجه هذا الرجل إلى البصرة وحرض الزنوج «الذين كانوا يكسحون السباخ» في أراضيها، فإن ملاك هذه الأرضي كانوا يملكون سودا من السودان يعملون لهم في أرضهم فيعزقونها ويرفعون عنها الطبقة المالحة؛ ليصلوا إلى الأرض الخالية من الأملاح الصالحة للزراعة، وهو عمل شاق جدا في هذه المنطقة، فاستطاع هذ الذي لقب بعد بصاحب الزنج أن يؤلب هؤلاء العمال الزنوج بعد أن درس حالتهم وبؤسهم وأجورهم ونفسيتهم فأتاهم من الناحية الدينية فهي أفعل في نفوسهم، فادعى أنه متصل بالله على نحو ما، فاجتمع إليه خلق كثير، فوصف لهم بؤسهم وظلم سادتهم لهم، ورثى لعيشهم على السويق والتمر، ودعاهم إلى الخروج على هؤلاء الظالمين، «ومناهم ووعدهم أن يقودهم ويرئسهم، ويملكهم الأموال، وحلف لهم الأيمان الغلاظ ألا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى إليهم».
من وقع في يده من هؤلاء السادة مالكي العبيد كان يسلمه لغلمانه ويأمر بضربه، فكانت حركته الأولى حركة ضد الملاك، ثم تطورت فصارت حركة ضد الدولة، وأن الخلفاء والولاة ظالمون ينتهكون حرمة الله، ودعا إلى مذهب الخوارج. قال المسعودي: «إنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج؛ لأن أفعاله في قتل النساء والأطفال وغيرهم من الشيخ الفاني وغيره ممن لا يستحق القتل يشهد بذلك عليه؛ وله خطبة يقول في أولها: «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، ألا لا حكم إلا لله.» وكان يرى الذنوب كلها شركا.»
88
وكان عدد هؤلاء الزنوج كثيرا، وفيهم شجاعة نادرة ومران على القتال. وفي بعض الوقائع الحربية انضمت الفرقة السودانية في الجيش العباسي إلى إخوانهم الزنوج فزادوهم قوة. وقد تملكوا في بعض الأحيان «الأبلة» و«عبادان»، والأهواز ثم البصرة، وواسط والنعمانة ورامهرمز.
وكانوا يهزمون الجيوش العباسية المرة بعد المرة، واغتنوا، وأصبح الزنوج يملكون البيض بل خير من البيض. يقول المسعودي: «وقد بلغ من أمر عسكره - أي عسكر صاحب الزنج - أنه كان ينادى فيه على المرأة من ولد الحسن والحسين والعباس من ولد هاشم وقريش وغيرهم من سائر العرب، وأبناء الناس، تباع الجارية منهن بالدرهمين والثلاثة، وينادى عليها بنسبها هذه ابنة فلان الفلاني، لكل زنجي منهم العشرة والعشرون والثلاثون، يطؤهن الزنج ويخدمن النساء الزنجيات كما تخدم الوصائف. ولقد استغاثت إلى علي بن محمد - صاحب الزنج - امرأة من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب كانت عند بعض الزنج، وسألته أن ينقلها منه إلى غيره من الزنج أو يعتقها مما هي فيه، فقال: هو مولاك وأولى بك من غيره.»
89
وأخيرا تغلب عليهم الموفق - أخو الخليفة المعتمد على الله - وابنه أبو العباس - الذي صار فيما بعد خليفة ولقب بالمعتضد - وقتل صاحب الزنج بعد أن خرب الزنج كثيرا من البلاد، وأفنوا كثيرا من الناس. وقد قتلوا من أهل البصرة وحدها في وقعة واحدة ثلاثمائة ألف. «وقد تكلم الناس في قدر ما قتل - على يد الزنج - في هذه السنين - الأربع عشرة - من الناس فمكثر ومقل، فأما المكثر فإنه يقول: أفنى من الناس ما لا يدركه العد، ولا يقع عليه الإحصاء، ولا يعلم ذلك إلا عالم الغيب ... والمقل يقول: أفنى من الناس خمسمائة ألف، وكلا الفريقين يقول في ذلك ظنا وحدسا إذا كان شيئا لا يدرك ولا يضبط».
90
وقد سقنا هذا كله للدلالة على قوة هذا العنصر الزنجي وخطره في ذلك العصر، وبجانب هذا كانت لهم ناحية اجتماعية لها قيمتها ... وكانوا يطلقون كلمة السودان على ما يشمل الأحباش، وقديما اتصل هؤلاء السودان بالعرب فكان منهم بلال الحبشي مؤذن رسول الله، ومنهم سعيد بن جبير سيد التابعين الذي قتله الحجاج، وكان من أشعر شعرائهم في العصر الأموي الحيقطان، وقد هجا جريرا وفخر عليه بالزنج، فقال:
والزنج لو لاقيتهم في صفهم
لاقيت ثم جحاجحا أبطالا
وكان الزنج يفخرون بطلاقة اللسان، وكثرة الكلام، وشدة الأبدان، والسخاء، وقلة الأذى، وطيب النفس، وضحك السن، وحسن الظن.
91
وقد عيروا بصغر عقولهم، وضعف ذكائهم، وقلة علمهم، فأجابوا بأنكم لم تروا الزنج الحقيقيين، وإنما رأيتم السبي يجيء من السواحل هؤلاء ليس لهم جمال ولا عقول، ولو رأيتم كرام الزنج لرأيتم الجمال والكمال والعقل. قالوا: واعتبروا في ذلك بمن تسبونهم من أهل السند والهند، فإنه لم يتفق لكم واحد ممن سبيتموهم له عقل وعلم مع ما اشتهر به أهل السند والهند من العلم بالحساب والنجوم، وأسرار الطب، والتصاوير والصناعات العجيبة.
92
وكانت طائفة من الجند من الزنج كما رأينا قبل، وكان منهم الكثير في خدمة القصر. وقد نبغ منهم كافور الإخشيدي الذي ملك مصر والشام، وخطب له على المنابر بمكة والحجاز، وكان عبدا أسود أتي به من بلاد السودان واشتراه الإخشيد بثمانية عشر دينارا، وقد مدح المتنبي سواده فقال:
فجاءت به إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها ومآقيا
ثم ذم سواده حين هجاه فقال:
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد
أم أذنه في يد النخاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود
وذاك أن الفحول البيض عاجزة
عن الجميل فكيف الخصية السود
ومن قديم كان للبيض نساء من السود، فأعشى سليم كانت له «دنانير» بنت كعبوية الزنجي، وكانت زنجية، وقد رآها تكتحل فقال:
كأنها والكحل في مرودها
تكحل عينيها ببعض جلدها
وقد تزوج الفرزدق أم مكية الزنجية، وترك ما عنده من النساء من أجلها. وقال فيها:
يا رب خود من بنات الزنج
93
وكثر ذلك في العصر العباسي، فامتلأت بهن القصور وبيوت الأوساط والفقراء؛ فقد كانت الجواري البيض أغلى ثمنا، فكانت ما تكون في بيوت الأغنياء، أما السود فكثيرات ورخيصات.
وقد ذكر ابن بطلان خصائص السود فقال:
الزنجيات مساويهن كثيرة، وكلما زاد سوادهن قبحت صورهن، وتحددت أسنانهن، وقل الانتفاع بهن، وخيفت المضرة منهن، والغالب عليهن سوء الأخلاق، وكثرة الهرب، وليس في خلقهن الغم، والرقص والإيقاع فطرة لهن، وطبع فيهن ... ويقال: لو وقع الزنجي من السماء إلى الأرض ما وقع إلا بالإيقاع. وهم أنقى الناس ثغورا لكثرة الريق، وكثرة الريق لفساد الهضوم؛ وفيهن جلد على الكد، فالزنجي إذا شبع فصب العذاب عليه صبا فإنه لا يتألم له. وليس فيهن متعة لصنانهن وخشونة أجسامهن. أما الحبشيات فالغالب عليهن نعومة الأجسام ولينها وضعفها، يعتادهن السل، ولا يصلحن للغناء ولا للرقص، دقاق لا يوافقهن غير البلاد التي نشأن فيها، وفيهن خيرية، ومياسرة وسلاسة انقياد، يصلحن للائتمان على النفوس ... قصار الأعمار لسوء الهضم.
وكما تقاسمت المملكة الإسلامية العناصر الجنسية المختلفة، كذلك تقاسمتها المذاهب الإسلامية المختلفة والديانات المختلفة، ولنذكر في ذلك كلمة مجملة تصور هذه الحال:
فقد كان الخلفاء سنيين، والأتراك سنيين غالبا، والفرس شيعيين غالبا، والعرب بين سني وشيعي؛ فالفاطميون شيعة، والحمدانيون يغلب عليهم التشيع، فمن آثارهم التي وصلت إلينا درهم لناصر الدولة الحمداني على أحد وجهيه:
لا إله إلا الله
المطيع لله
ناصر الدولة
وعلى الآخر:
محمد
رسول الله
علي ولي الله
ويروي المؤرخون أن سيف الدولة عثر في حلب على قبر للمحسن بن الحسين فبنى عليه ، وكتب على حجره:
عمر هذا المشهد المبارك؛ ابتغاء لوجه الله وقربة إليه على اسم مولانا المحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب - الأمير الأجل سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان.
ورووا أن سيف الدولة زوج ابنته ست الناس لأبي تغلب الحمداني، وضرب لهذا الحادث دنانير على أحد وجهيها:
محمد رسول الله، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فاطمة الزهراء، الحسن، والحسين، جبريل.
وعلى الآخر:
أمير المؤمنين المطيع لله، الأميران الفاضلان ناصر الدولة وسيف الدولة، الأميران أبو تغلب، وأبو المكارم.
فهذا يرجح أن دولة الحمدانيين كانت شيعية.
فكانت المملكة الإسلامية مسرحا للعصبيات الجنسية والعصبيات المذهبية. وأوضح الأمثلة لذلك حالة العراق في عهد الدولة البويهية؛ فقد كان مملوءا بالأتراك والديلم، والأولون سنيون، والآخرون فرس شيعيون، والحروب والفتن والمصادرات وكبس البيوت لا تنقطع بينهما. وقد ذهب في سبيل ذلك ضحايا كثيرة من الوزراء والكتاب والعلماء، حتى حكى مسكويه في حوادث سنة 360ه أن بختيار البويهي «رأى لمعالجة هذه الفتن أن يعقد بين رؤساء الأتراك ورؤساء الديلم مصاهرات لتزول العداوات التي نشأت بينهم، فابتدأ بعقد مصاهرة بين المرزبان بن عز الدولة «البويهي»، وبين بختكين «التركي»، وفعل مثل ذلك بجماعة، وأصلح بين الديلم والأتراك، واستحلف كل فريق منهما لصاحبه، فحلفوا جميعا ... فزال الظاهر ولم يزل الباطن».
94
وقال ابن الأثير في حوادث سنة 443ه: «في هذه السنة تجددت الفتنة بين السنة والشيعة، وعظمت أضعاف ما كانت قديما؛ وسببها أن أهل الكرخ عملوا أبراجا كتبوا عليها بالذهب: «محمد وعلي خير البشر.» وأنكر السنية ذلك، وادعوا أن المكتوب محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر. وأنكر أهل الكرخ الزيادة؛ فانتدب الخليفة القائم بأمر الله من حقق، فكتبوا بتصديق أهل الكرخ. وحمل الحنابلة العامة على الإغراق في الفتنة، وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة فمحوا «خير البشر» فقالت السنية: لا نرضى إلا أن يقلع الآجر الذي عليه «محمد وعلي»، وألا يؤذن «حي على خير العمل»، وامتنع الشيعة عن ذلك. وقتل رجل هاشمي من السنية، فحمله أهله على نعش وطافوا به في الحربية وباب البصرة وسائر محلة السنية، واستنفروا الناس للأخذ بثأره، ثم دفنوه عند أحمد بن حنبل، فلما رجعوا من دفنه قصدوا المشهد فدخلوه، ونهبوا ما فيه من قناديل ومحاريب من ذهب وفضة، فلما كان الغد اجتمعوا وأضرموا حريقا، فاحترق كثير من قبور الأئمة وما يجاورها من قبور بني بويه، وقصد أهل الكرخ الشيعيون إلى خان الفقهاء الحنفيين فنهبوه، وقتلوا مدرس الحنفية أبا سعد السرخسي وأحرقوا الخان ودور الفقهاء، وامتدت الفتنة إلى الجانب الشرقي.»
95
وقال في سنة 444ه: «في هذه السنة زادت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم من السنية، وكان ابتداؤها أواخر سنة 444ه، فلما كان الآن عظم الشر واطرحت المراقبة للسلطان، واختلط بالفريقين طائفة من الأتراك، فلما اشتد الأمر اجتمع القواد، واتفقوا على الركوب إلى المحال، وإقامة السياسة بأهل الشر والفساد، وأخذوا من الكرخ إنسانا علويا وقتلوه، فثار نساؤه ونشرن شعورهن واستغثن، فتبعهن العامة من أهل الكرخ، وجرى بينهم وبين القواد ومن معهم من العامة قتال شديد، وطرح الأتراك النار في أسواق الكرخ فاحترق كثير منها وألحقتها بالأرض.»
وقد اشتهرت الكوفة بالتشيع والبصرة بالتسنن،
96
فقال الجاحظ: إن الكوفة علوية، والبصرة عثمانية، ثم انتشر بعد الجاحظ التشيع في البصرة حتى كان فيها في القرن الخامس ما لا يقل عن ثلاثة عشر مشهدا للعلويين، أما الشام فمن قديم عرفت بالسنية، ويقول النسائي المتوفى سنة 303ه: «دخلت دمشق والمنحرف عن علي - رضي الله عنه - كثير، فأردت أن يهديهم الله بهذا الكتاب.» يعني كتاب «الخصائص» في فضل علي بن أبي طالب، وسئل وهو بدمشق عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل؟! فما زال أهل دمشق يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد، ثم حمل إلى الرملة فمات بها.
97
وتقسمت البلاد الشيعة والسنية، بل تقسم البلد الواحد التشيع والتسنن: فبلدة نابلس في النصف الثاني من القرن الرابع كان نصفها سنيين ونصفها شيعيين، قال المقدسي المتوفى سنة 375ه: «ونصف نابلس وأكثر عمان شيعة.»
وجزيرة العرب نفسها كذلك، «فمذاهبهم في مكة وتهامة وصنعاء وقرح سنية، وسواد صنعاء ونواحيها مع سواد عمان شراة غالية، وبقية الحجاز وأهل الري بعمان وهجر وصعدة شيعة»،
98 «ونصف الأهواز شيعة»،
99 «وأهل قم شيعة غالية قد تركوا الجماعات وعطلوا الجامع إلى أن ألزمهم ركن الدولة عمارته ولزومه».
100
وحكى ياقوت أنه ولي عليهم رجل سني متشدد، فبلغه أن أهل «قم» لبغضهم الصحابة لا يوجد فيهم من اسمه أبو بكر أو عمر، فجمع رؤساءهم وقال لهم: إن لم تأتوني برجل منكم اسمه أبو بكر أو عمر لأفعلن بكم ولأصنعن. فاستمهلوه ثلاثة أيام، وفتشوا فلم يجدوا إلا رجلا صعلوكا حافيا عاريا أحول أقبح خلق الله منظرا اسمه أبو بكر؛ لأن أباه كان غريبا استوطنها فسماه بذلك، فجاؤوا به فشتمهم ... إلخ.
101
وهكذا سادت العالم الإسلامي هاتان النزعتان - السنية والشيعة - تتعاديان وتتقاتلان، هذا عدا ما قام به الشيعة من مؤامرات لقلب الدول والاستيلاء عليها، وسياتي الكلام على ذلك في حينه.
وهناك نزاع آخر، وهو النزاع بين المذاهب الفقية قد كان الخلاف أيام أصحاب المذاهب، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، خلافا في الرأي والبرهان؛ غاية التعصب أن يعتقد أن مذهبه حق يحتمل الخطأ، ومذهب غيره خطأ يحتمل الصواب، وقل أن نرى بين أئمة المذاهب عداء حادا إلا قرع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، وازداد بعض الشيء أيام أتباعهم، ولكنه قل أن يتعدى ذلك إلى ضرب أو قتال، فلما انتهى هذا الطور أخذت العصبية تتزايد إلى أن بلغت القتال؛ ففي القرن الثالث والرابع نرى أن الحنابلة من حين لآخر يقومون بالثورات الكبيرة.
من أمثلة ذلك ما رواه ابن الأثير في حوادث سنة 323ه إذ قال: «وفيها عظم أمر الحنابلة «ببغداد» وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعامة، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء ومشي الرجل مع النساء والصبيان، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو، فإن أخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة، فأرهجوا بغداد.
102
وركب صاحب الشرطة ونادى في جانبي بغداد لا يجتمع من الحنابلة اثنان، ولا يناظرون في مذهبهم، ولا يصلي منهم إمام إلا إذا جهر ب «بسم الله الرحمن الرحيم» في صلاة الصبح والعشاءين، فلم يفد فيهم، وزاد شرهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون المساجد.
وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به العميان حتى يكاد يموت؛ فخرج توقيع الخليفة الراضي بما يقرأ على الحنابلة، ينكر عليهم فعلهم ويوبخهم باعتقاد التشبيه وغيره، [فمما جاء في هذا التوقيع]: تارة تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين المذهبين، والشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، ثم طعنكم على خيار الأمة ونسبتكم شيعة آل محمد
صلى الله عليه وسلم
إلى الكفر والضلال، ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة، والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمة وتشنيعكم على زوارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وتأمرون بزيارته وتدعون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء؛ فلعن الله شيطانا زين لكم هذه المنكرات وما أغواه! وأمير المؤمنين يقسم بالله قسما جهرا يلزمه الوفاء به، لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقتكم ليوسعنكم ضربا وتشديدا، وقتلا وتبديدا، وليستعلمن السيف في رقابكم، والنار في منازلكم ومحالكم.»
103
وأمثال هذه الحادثة كثير في كتب التاريخ.
ثم الخلاف الشديد بين الحنفية والشافعية، حتى كان يؤول الأمر في بعض الأحيان إلى خراب البلد من جراء هذا الخلاف. يقول «ياقوت» عند الكلام على «أصفهان» بعد أن ذكر مجدها القديم: «وقد فشا فيها الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية، والحروب المتصلة بين الحزبين، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إل، ولا ذمة؛ ومع ذلك فقل أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فاسدها، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها التي كل واحدة منها كالمدينة.»
ويقول عند الكلام على «الري»: كان أهل المدينة ثلاث طوائف: شافعية وهم الأقل، وحنفية وهم الأكثر، وشيعة وهم السواد الأعظم؛ لأن أهل البلد كان نصفهم شيعة، وأما أهل الرستاق فليس فيهم إلا شيعة وقليل من الحنفية، ولم يكن فيهم من الشافعية أحد فوقعت العصبية بين السنة والشيعة فتظافر عليهم الحنفية والشافعية، وتطاولت بينهم الحروب، حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف، فلما أفنوهم وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية، ووقعت بينهم حروب كان الظفر في جميعها للشافعية؛ هذا مع قلة عدد الشافعية، إلا أن الله نصرهم عليهم. وكان أهل الرستاق - وهم حنفية - يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك ويساعدون أهل نحلتهم، فلم يغنهم ذلك شيئا حتى أفنوهم
104
إلى غير ذلك.
اليهود والنصارى
وربما كانت الدولة الإسلامية في هذا العصر أكثر الأمم تسامحا مع المخالفين لها في الأديان، وخاصة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رغم ما كان يبدو بعض الأحيان من ظلم وعسف كالذي كان في عصر المتوكل، وقد سبق ذكره؛ وربما وقع على المسلمين من هذا الظلم ما وقع على غيرهم.
وقديما كان الامتزاج بين المسلمين واليهود والنصارى حتى في الأسرة الواحدة بما أباح الله للمسلمين أن يتزوجوا بالكتابيات.
ونرى في هذا العصر حركة اليهود والنصارى قد اتسعت عما كانت بسبب كثرة الاتصال التجاري والحربي والعلمي والمسلمون في كثير من مواقفهم يعدلون بينهم ويقربون بضعهم، حتى لقد عفوا عن المال الذي يتركه النصراني من غير وارث وردوه إلى أهل ملته؛ فالخليفة المعتضد «أمر أن يرد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف وارثا على أهل ملته»، استنادا إلى ما أفتى به يوسف بن يعقوب وعبد الحميد بن عبد العزيز القاضيان كانا بمدينة السلام من أن السنة جرت بأن أهل كل ملة يورثون من هو منهم إذا لم يكن له وارث من ذي رحمه.
105
وانتشر اليهود والنصارى في نواحي المملكة الإسلامية وأطرافها وداخلها، فبلغ عدد اليهود في العراق وحدها حول سنة 1185م/سنة 581ه على حسب تعداد بعض المؤرخين ستمائة ألف، وانتشروا في دمشق وحلب، وعلى شاطئ دجلة والفرات، وفي جزيرة ابن عمر والموصل والجلة والكوفة والبصرة وهمذان وأصفهان وشيراز وسمرقند. ويقول المقدسي: في خراسان يهود كثيرة، ونصارى قليلة. وكذلك يقول في همذان.
ويقول الرحالة بنيامين الذي رحل سنة 1165م/سنة 561ه: إن في القاهرة سبعة آلاف يهودي، وفي الإسكندرية ثلاثة آلاف، وفي الوجه البحري ثلاثة آلاف، وفي الوجه القبلي ستمائة.
106
وفي أوائل القرن الرابع كان في بغداد وحدها نحو من خمسين ألفا من النصارى. ويقول المقدسي في الشام: «إن أكثر الجهابذة والصياغين والصيارفة والدباغين بهذا الإقليم يهود، وأكثر الأطباء والكتبة نصارى.»
107
وانتشرت أديار النصارى في أنحاء المملكة، وكانت غنية ببساتينها وخمورها، واتصل الأدباء بها وأكثروا من القول فيها.
وكان لليهود والنصارى نفوذ كبير في بعض الدول في هذا العصر. وكان المسلمون في أول أمرهم لا يرضون باستخدامهم في شئون الدولة؛ فقد روي أنه ذكر لعمر بن الخطاب غلام كاتب حافظ من الحيرة، وكان نصرانيا، فقيل له: لو اتخذته كاتبا؟ فقال: «لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين.»
108
فعمر بن الخطاب كان يحسن معاملتهم ولا يستعين بهم في الأعمال، ولكن ذلك لم يدم طويلا، فاستخدموا في الأعمال من عهد معاوية. وفي عصرنا هذا الذي نؤرخه كثر استخدامهم، وزاد سلطانهم؛ فيقول المقدسي: «وقلما ترى به (الشام) فقيها له بدعة أو مسلما له كتابة، إلا بطبرية فإنها ما زالت تخرج الكتاب، وإنما الكتبة به وبمصر نصارى.»
109
وفي القرن الثالث ولي في بعض الأحيان ديوان الجيش نصراني، وكان المسلمون يقبلون يده، قال الصابي في كتابه الوزراء: «إن علي بن عيسى قال لابن الفرات: ما اتقيت الله في تقليدك ديوان جيش المسلمين رجلا نصرانيا، وجعلت أنصار الدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون أمره؟! فقال له ابن الفرات: ما هذا شيء ابتدأته ولا ابتدعته، وقد كان الناصر لدين الله قلد الجيش إسرائيل النصراني كاتبه، وقلد المعتضد ملك بن الوليد النصراني كاتب بدر!! فقال علي بن عيسى: ما فعلا صوابا. فقال ابن الفرات: حسبي الأسوة بهما وإن أخطآ على زعمك.»
110
وذكر «عريب» في كتابه «صلة تاريخ الطبري» في حوادث سنة 320ه أن «أبا الجمال الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب كان يسعى دهره في طلب الوزارة، ويتقرب إلى مؤنس وحاشيته ويصانعهم، حتى جاز عندهم وملأ عيونهم، وكان يتقرب إلى النصارى الكتاب بأن يقول لهم: إن أهلي منكم، وأجدادي من كباركم، وإن صليبا سقط من يد عبيد الله بن سليمان جده في أيام المعتضد، فلما رآه الناس قال: هذا شيء تتبرك به عجائزنا فتجعله في ثيابنا من حيث لا نعلم - تقربا إليهم بهذا وشبهه - يعني إلى مؤنس وأصحابه».
111
وكان لعضد الدولة البويهي في بغداد وزير نصراني اسمه نصر بن هارون، وقد أذن له عضد الدولة في عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقراء النصارى.
112
وثارت لذلك مسألة فقهية، وهي: هل يجوز أن يكون الوزير من أهل الذمة أم لا؟ فقال صاحب «العقد الفريد للملك السعيد»: «وهل يشترط في هذا الوزير - أي وزير التنفيذ ولا وزير التفويض «الإسلام»، حتى لو أقام السلطان وزير تنفيذ من أهل الذمة كان جائزا أم لا؟ اختلفت آراء الأثمة في ذلك؛ فذهب عالم العراق الإمام أبو الحسن علي بن حبيب البصري - رحمه الله - إلى جوازه، وذهب عالم خراسان إمام الحرمين أبو المعالي الجويني إلى منعه، وعد تجويز ذلك من عالم العراق عثرة لن تقال، وخطأ فيما قال؛ وهذا بخلاف وزارة التفويض فإن هذه الشروط معتبرة من جملة ما تقدم بيانه من الأوصاف في حق المباشر لها».
113
واتسعت سلطة اليهود والنصارى في أيام الفاطميين بمصر، فمن أشهرهم يعقوب بن كلس. قال ابن عساكر : «إنه كان يهوديا من أهل بغداد خبيثا ذا مكر، وله حيل ودهاء، وفيه فطنة وذكاء. ونزل مصر أيام كافور الإخشيدي فرأى منه فطنة وسياسة ومعرفة بأمر الضياع؛ فقال: لو كان مسلما لصلح أن يكون وزيرا! فطمع في الوزارة فأسلم ... ثم هرب إلى المغرب واتصل بيهود كانوا مع المعز وخرج معه إلى مصر.» «وولي الوزارة للعزيز نزار بن المعز وعظمت منزلته عنده، وأقبلت عليه الدنيا، وانثال الناس عليه ولازموا بابه؛ ومهد قواعد الدولة وساس أمرها أحسن سياسة، ولم يبق لأحد معه كلام.»
114
وكان ابن كلس يأخذ من العزيز في كل سنة مائة ألف دينار، ووجد له من العبيد والمماليك أربعة آلاف غلام، ووجد له جوهر بأربعمائة ألف دينار، وبز من كل صنف بخمسمائة دينار.
115
وأكثر الشعراء مدائحه، قال ابن خلكان: ولقد نظرت في ديوان أبي الرقعمق الشاعر فوجدت أكثر مديحه في الوزير المذكور، وفيه يقول من قصيدة:
كل يوم له على نوب الده
ر وكر الخطوب بالبذل غاره
ذو يد شأنها الفرار من البخ
ل وفي حومة الندى كراره
فاستجره فليس يأمن إلا
من تفيا ظلاله واستجاره
وإذا ما رأيته مطرقا يع
مل فيما يريده أفكاره
لم يدع بالذكاء والذهن شيئا
في ضمير الغيوب إلا أثاره
لا ولا موضعا من الأرض إلا
كان بالرأي مدركا أقطاره
زاده الله بسطة وكفاه
خوفه من زمانه وحذاره «وفي أيام العزيز نزار كان بمصر شاعر اسمه الحسن بن بشر الدمشقي، وكان كثير الهجاء، فهجا يعقوب بن كلس وزير العزيز وكاتب الإنشاء من جهته أبا نصر عبد لله بن الحسين القيرواني:
قل لأبي نصر صاحب القصر
والمتأتي: لنقض ذا الأمر
انقض عرا الملك للوزير تفز
منه بحسن الثناء والذكر
وأعط وامنع ولا تخف أحدا
فصاحب القصر ليس في القصر
وليس يدري ماذا يراد به
وهو إذا ما درى فما يدري
ثم قال أيضا وعرض بالفضل القائد:
تنصر فالتنصر دين حق
عليه زماننا هذا يدل
وقل بثلاثة عزوا وجلوا
وعطل ما سواهم فهو عطل
فيعقوب الوزير أب وهذا ال
عزيز ابن وروح القدس فضل»
116
وقد ولى العزيز نزار أيضا عيسى بن نسطورس النصراني كتابته، واستناب بالشام يهوديا اسمه منشا، فاعتز بهما النصارى واليهود وآذوا المسلمين، فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في صورة عملوها من قراطيس، فيها: «بالذي أعز اليهود بمنشا، والنصارى بعيسى بن نسطورس، وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي، وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز والرقعة بيدها، فلما رآها أمر بأخذها، فلما قرأ ما فيها ورأى الصورة من قراطيس علم ما أريد بذلك فقبض عليهما، وأخذ من عيسى ثلاثماثة ألف دينار، ومن اليهود شيئا كثيرا».
117
ولكن الحاكم بأمر الله اضطهد النصارى واليهود في بعض نزواته، فأمرهم بشد الزنار ولبس الغيار، «وألبس اليهود العمائم السود، وأمر ألا يركبوا مع المسلمين في سفينة، وألا يستخدموا غلاما مسلما، ولا يركبوا حمار مسلم، ولا يدخلوا مع المسلمين حماما، وجعل لهم حمامات على حدة؛ ولم يبق في ولايته ديرا ولا كينسة إلا هدمها»،
118 «وأمر النصارى بأن تعلق في أعناقهم الصلبان، وأن يكون طول الصليب ذراعا وزنته خمسة أرطال بالمصري؛ وأمر اليهود أن يحملوا في أعناقهم قرامي الخشب في زنة الصلبان»،
119 «ومنع النصارى من ركوب الخيل، وأن يكون ركوبهم البغال والحمير بسروج الخشب، والسيور السود بغير حلية، وأن يشدوا الزنانير، ولا يستخدموا مسلما، ولا يشتروا عبدا ولا أمة، وتتبعت آثارهم في ذلك فأسلم منهم عدة».
120
ومع هذا فكان الكتاب والأطباء في قصره من النصارى.
وتولى الوزارة سنة 436ه للمستنصر بمصر «صدقة بن يوسف»، وكان يهوديا فأسلم، وكان معه أبو سعد التستري اليهودي يدبر الدولة، فقال بعض الشعراء:
يهود هذا الزمان قد بلغوا
غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إني نصحت لكم
تهودوا قد تهود الفلك
121
هذه العناصر الجنسية من أتراك وفرس وعرب وروم وزنج وغيرهم، وما تستلزم من عصبيات؛ وهذه العصبيات المذهبية والطائفية من تسنن وتشيع، ومن حنابلة وشافعية وحنفية، ومن مسلمين ويهود ونصارى، وغير ذلك كانت كلها حركات تموج بها المملكة الإسلامية ، تتعاون حينا، وتتفاعل حينا، وتؤثر في السياسة وفي الدين وفي العلم، وتنشأ عنها المؤامرات السرية أحيانا؛ والقتال الصريح أحيانا، وكان لها كلها أثر واضح في كل ناحية من النواحي الاجتماعية:
قد أثرت في الحالة المالية إما مباشرة وإما من طريق الحكم والسياسة، فعمرت في ناحية وخربت في أخرى ، وعدلت في ناحية وظلمت في أخرى.
وأثرت في اللغة والأدب بدخول الأعاجم يتكلمون بلغاتهم، ويتعلمون اللغة العربية ويحملونها أفكارهم وآدابهم.
وأثرت في المرأة بكثرة الأجناس المختلفة ذوات الخصائص المختلفة، وقد حمل النساء من هذه الأجناس خصائص الجمال والقبح في المظهر وفي الأخلاق وفي العادات، وغزون البيوت بما كان يعرضه النخاسون منهن في سوق الرقيق، وبما كان يحمله الغزاة معهم في حروبهم مع الروم ومع الترك ومع الفرس ومع الزنج، وما كانوا يوزعونه على الجنود وعلى الأهل والأقارب، وما كانوا يتخلون عنه فيعرضونه في الأسواق.
وأثرت في الدين من كثرة الجدل بين الفقهاء، ومن إثارة مسائل يدعو إليها هذا الجدل لم تكن معروفة من قبل، ومن تدخل السياسة في الأمور الدينية والالتجاء إلى الفقهاء يسألونهم الحلول الفقهية فيما يعرض لهم من مشاكل سياسية واجتماعية، وبما أثاره النزاع الشديد بين السنية والشيعة، وغلبة التشيع في بعض الأماكن وتكوين دول شيعية لم تكن في العصور الماضية، فدعاها ذلك إلى أن تبلور التشيع وتستعمل عقولها في إيجاد نظام الحكم والدعوة التي تتفق وأصول الشيعة كما حصل ذلك في الدولة الفاطمية، وبما كان من الاحتكاك الشديد بين المسلمين واليهود والنصارى، وما كان بينهم من تسامح أحيانا، وخصومة أحيانا، وما كان من جدل ديني بين هذه الطوائف، وما أثارته هذه الظروف المختلفة من مسائل طائفية تعرض على الفقهاء، فيبدون فيها آراءهم في ضوء الحوادث الجديدة.
وأثرت في العلم بما كان يحمله النصارى واليهود والفرس والهنود من علوم آبائهم، وجدهم في تقديم هذه الذخائر إلى الأمة الإسلامية باللغة العربية مما مكن الناطقين باللسان العربي أن يأخذ كل منهم حظه منها، ويهضمه ما استطاع ويزيد عليه ما استطاع، وتتعاون على الاستفادة منها وترقيتها العقول العربية والتركية والفارسية والرومية والهندية، ويؤلف بينها العلم بعد أن فرقت بينها العصبيات الجنسية والمذهبية؛ فيأخذ اليهودي والنصراني من العالم المسلم، ويأخذ المسلم من العالم اليهودي والنصراني، ويجلس الفارسي والتركي والهندي في حلقة العربي، ويتعاون الجميع في بناء الدولة العلمية غير آبهين بما كان من الساسة في تهديم الدولة من ناحيتها السياسية.
كل هذا وأمثاله كان من آثار هذه الحركات المختلفة، وكل ما ذكرته إشارة خاطفة لما كان لها من أثر قوي فعال سنحاول بعد شرح بعضه.
هوامش
الفصل الثاني
أهم المظاهر الاجتماعية والسياسية في ذلك العصر
(1) المظاهر الاجتماعية والسياسية (1-1) انقسام الدولة
أهم مظهر يأخذ بالأبصار في ذلك العصر ما حصل للدولة الإسلامية من الانقسام؛ فقد كانت المملكة الإسلامية كلها في العصر العباسي الأول إذا استثنينا الأندلس وبعض بلاد المغرب تكون كتلة واحدة، وتخضع خضوعا تاما للخليفة في بغداد، هو الذي يعين ولاتها، وإليه يجبى خراجها، وإليه ترجع في إدارتها وقضائها وجندها وحل مشاكلها، وتدعو له على المنابر وتضرب السكة باسمه، ونحو ذلك من مظاهر السلطان. ثم أخذ هذا السلطان يقل شيئا فشيئا بضعف الخلافة حتى تمزقت المملكة كل ممزق.
وأخذت الأقطار الإسلامية تستقل عن بغداد شيئا فشيئا، وأخذ يخشى ولاتها وأمراؤها بعضهم بأس بعض، ويضرب بعضهم بعضا؛ فصارت المملكة الإسلامية عبارة عن دول متعددة مستقلة، علاقة بعضها مع بعض علاقة محالفة أحيانا وعداء غالبا، وأصبح لكل دولة مالها وجندها وإدارتها وقضاؤها وسكتها وأميرها، إن اعترف بعضها بالخليفة في بغداد حينا من الزمن، فاعتراف ظاهري ليس له أثر فعلي! وسودت صحف التاريخ بالقتال المستمر بين هذه الدول، وشغلوا بقتال أنفسهم عن قتال عدوهم؛ ومن أجل هذا طمع فيهم الروم يغزونهم كل حين ويستولون على بلادهم شيئا فشيئا، حتى الزنج والحبشة كانوا يغيرون على الدولة الفينة بعد الفينة فينهبون ويسلبون، ولم تعد المملكة الإسلامية مخشية الجانب كما كانت أيام وحدتها.
ففي سنة 324ه كانت البصرة في يد ابن رائق، وفارس في يد علي بن بويه، وأصبهان والري والجيل في يد أبي علي الحسن بن بويه، والموصل وديار بكر وربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الإخشيديين؛ وإفريقية في يد الفاطميين، وخراسان وما وراء النهر في يد السامانيين، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، وخوزستان بيد البريدي، والبحرين واليمامة وهجر بيد القرامطة، ولم يبق للخليفة إلا بغداد وما حولها، وحتى هذه لم يكن له فيها إلا الاسم.
وقد أجاد المسعودي في ملاحظته وجه الشبه بين حالة المملكة الإسلامية بعد هذا الانقسام، ومملكة الإسكندر المقدوني بعد وفاته فقال: «ولم نعرض لوصف أخلاق المتقي والمستكفي والمطيع ومذاهبهم؛ إذ كانوا كالمولى عليهم، لا أمر ينفذ لهم، أما ما نأى عنهم من البلدان فتغلب على أكثرها المتغلبون، واستظهروا بكثرة الرجال والأموال، واقتصروا على مكاتبتهم بإمرة المؤمنين والدعاء لهم، وأما بالحضرة - بغداد - فتفرد بالأمور غيرهم فصاروا مقهورين خائفين، قد قنعوا باسم الخلافة ورضوا بالسلامة. وما أشبه أمور الناس في الوقت إلا بما كانت عليه ملوك الطوائف بعد قتل الملك الإسكندر بن فيلبس دارا ملك بابل إلى ظهور أردشير بن بابك، كل قد غلب على صقعه يحامي عنه، ويطلب الازدياد إليه مع قلة العمارة وانقطاع السبل، وخراب كثير من البلاد، وذهاب الأطراف، وغلبة الروم وغيرهم من الممالك على كثير من ثغور الإسلام ومدنه.»
1
كان كثير من الدول يعترف بالخلافة وسلطتها الدينية، فهي إذا استقلت سياسيا ومدنيا رأت مما يزيدها سلطة وقوة اعترافها بالخليفة واعتراف الخليفة بها، كما فعل عضد الدولة بن بويه مثلا لما فتح كرمان، فقد استرضى الخليفة فأنفذ إليه الخليفة عهده وخلعه من الطوق والسوارين.
2
ومع مضي الزمن وضعف الخلافة قطعوا هذه الصلة أيضا وتلقبوا بإمرة المؤمنين أو بالخلفاء. وأول من فعل ذلك الفاطميون، فبعد أن فتحوا القيروان سنة 297ه تلقبوا بالخلافة، وشجعهم على ذلك أنهم شيعيون يقولون باغتصاب الأمويين والعباسيين حقهم في الخلافة، فلما تملكوا حققوا نظريتهم في أحقيتهم؛ فتسموا بالخلفاء، فلما رأى الأندلسيون ذلك قلدوهم مع أنهم سنيون، فتلقب عبد الرحمن الناصر أمير الأندلس بأمير المؤمنين نحو سنة 350، وكانوا يلقبون من قبل بالأمراء، وببني الخلفاء. قال المقري: «هو أول من تسمى منهم بالأندلس بأمير المؤمنين عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق، واستبد موالي الترك على بني العباس، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة 317ه، فتلقب بألقاب الخلافة.»
3
وهنا يصح لنا أن نتساءل سؤالين: الأول: هل كان انقسام المملكة الإسلامية إلى أقسام على النحو الذي أبنا في مصلحة الأقطار الإسلامية أو في غير مصلحتها؟ قد يبدو هذا السؤال غريبا؛ لأن الناس اعتادوا أن يقيسوا رقي المملكة الإسلامية بوحدتها وضعفها بانقسامها، وبعبارة أخرى ربطوا رقي المملكة الإسلامية بحال الخليفة؛ فإذا كان الخليفة قويا باسطا سلطانه على الأقطار كلها، فالدولة قوية، وإلا فهي ضعيفة.
وفي رأيي أن هذا مقياس غير صحيح؛ فقد يضعف الخليفة وتصلح الأقطار والعكس. وهذا ما حدث فعلا، ففي رأيي أن كثيرا من الأقطار الإسلامية كانت بعد استقلالها عن الخلافة في بغداد خيرا منها قبله؛ فيظهر لي أن مصر تحت حكم الطولونيين والإخشيديين والفاطميين كانت حالتها أسعد منها أيام ولاة بغداد قبل الطولونيين، وكذلك حكم السامانيين لفارس وما وراء النهر كان خيرا من حكم من سبقهم من ولاة العباسي، وربما كان شر أيام بغداد هو هذه الأيام التي كانت تخضع فيها للخلفاء، وما حولها مستقل عنها.
فإذا قسنا الأمور بمصلحة المحكومين لا الخلفاء - وهو في نظري أصح مقياس - كان هذا الانقسام في مصلحة الأقطار المستقلة في أغلب الأحوال، وعلى الأقل كان في مصلحتهم نسبيا؛ أعني بالنسبة للحالة السيئة التي كانوا عليها قبل استقلالهم؛ فالإدارة وانتفاع كل قطر بماله يصرفه في مصالحه والعدالة النسبية في توزيع الثروة ونحو ذلك؛ كلها كانت خيرا منها أيام سلطة الخلفاء الضعفاء ومن يتولاهم من الأتراك الأقوياء.
والأندلس لما أتيح لها الاستقلال في بدء العصر العباسي، ومنعتها قوتها وبعدها من أن يخضعها العباسيون لحكمهم، أزهرت وتمدنت وساهمت في بناء المدينة، في العلم والأدب والحضارة، وما أظن أنها كانت تبلغ هذا المبلغ لو عاشت في أحضان الدولة العباسية.
نعم! إنهم - وقد تفرقوا - أصبحوا أضعف أمام العدو الخارجي كالروم، وصار يحمل العبء كله دويلة مستقلة كدولة الحمدانيين، وكان يحمل العبء قبل المملكة الإسلامية كلها، فمن هذه الناحية كان هذا مظهر ضعف للدولة، خصوصا والدول المستقلة لم تستطع أن تتفاهم، وترتب بينها نظاما مشتركا يضمن دفع غارة الأعداء الخارجي؛ لأن هذا النظام يتطلب رقيا في الفكر، وضبطا للعواطف ، وتقديما للمصلحة العامة على الخاصة؛ وهي درجة لم يستطع المسلمون الوصول إليها حتى الآن! إنما كان علاقة كل دولة مسلمة بجارتها المسلمة علاقة عداء غالبا، فلم يتمكنوا من التفاهم على مصالحهم الداخلية فضلا عن المصالح الخارجية، ولو استطاعوا - مع استقلالهم - أن ينظموا شئونهم مع من بجوارهم، وينظموا صفوفهم أمام عدوهم الخارجي لبلغوا الغاية. ولكني مع هذه الشرور كلها أرى أن حالة كثير من البلدان الإسلامية نالت باستقلالها من الطمأنينة والرخاء ما لم تنعم به في الأيام الأخيرة لتبعتها بغداد.
والسؤال الثاني: ما موقف العلم والأدب بعد هذا الانقسام؟ هل أثر فيهما أثرا حسنا أو سيئا؟ وهل انحط العلم والأدب بانحطاط خلفاء بغداد أو رقيا باستقلال الأقطار؟
أرى أن العلم والأدب رقيا عما كانا عليه قبل، وأنه لم يؤثر فيهما كثيرا ضعف خلفاء بغداد؛ ذلك أن حركة الترجمة التي نقلت ذخائر الأمم المختلفة وخصوصا الأمة اليونانية، وضعت أمام أعين المسلمين ثروة علمية هائلة باللسان العربي، فكانت الخطوة الثانية أن تتوجه إليها الأفكار العربية تفهمها وتشرحها وتهضمها وتبتكر فيها وتزيد عليها؛ وهذا ما فعله عصرنا هذا كما سيأتي بيانه. ومن جهة أخرى كان وضع السلطة كلها في يد الخليفة يجعل بغداد المركز العلمي الوحيد، أو على الأقل المركز العلمي والأدبي الهام، وما عداه فاتر ضعيف؛ فكان من تفوق في علم أو أدب فلا أمل في شهرته ونبوغه، وذيوع صيته وثروته، إلا إذا رحل إلى بغداد وتقرب بعلمه وأدبه إلى خلفائها وأمرائها.
فلما استقلت الأقطار أصبحت كل عاصمة قطر مركزا هاما لحركة علمية وأدبية، فأمراء القطر يعطون عطاء خلفاء بغداد، ويحلون عاصمتهم بالعلماء والأدباء، ويفاخرون أمراء الأقطار الأخرى في الثروة العلمية والأدبية ، كما يتفاخرون بعظمة الجند وعظمة المباني. فبدل أن كان للعلم والأدب مركز واحد هام أصبحت لهما مراكز هامة متعددة، وأصبح علماء مصر - مثلا - يساجلون علماء بغداد، وأدباء الشام يفخرون على أدباء العراق، وهذا من غير شك يشجع الحركة العلمية والأدبية ويقويها ويرقيها.
وحتى نرى الأمراء الأتراك الذين لا يحسنون العربية يحبون أن تزين قصورهم بالعلماء والأدباء.
ومن ظريف ما يحكى في ذلك أن بجكم التركي كان بواسط، وكان من المقربين إليه أبو محمد بن يحيى الصولي؛ وكان بجكم لا يحسن العربية، فاستدعى يوما الصولي وقال له: إن أصحاب الأخبار رفعوا إلي أني لما طلبتك من المسجد - وكان الصولي يقرأ درسا في المسجد - قال الناس: أعجله الأمير ولم يتم مجلسنا، أفتراه يقرأ عليه شعرا أو نحوا أو يسمع من الحديث؟ - يقولون ذلك تهكما ببجكم لأنه لا يحسن العربية - ثم قال بجكم ردا على هذا: «أنا إنسان، وإن كنت لا أحسن العلوم والآداب أحب ألا يكون في الأرض أديب ولا عالم ولا رأس في صناعة إلا كان في جنبتي وتحت اصطناعي وبين يدي لا يفارقني.»
4
ولعله بهذا القول يعبر عما في نفس كل أمير في كل إقليم.
ومن أجل هذا كان مؤرخ العلم والأدب قبل الاستقلال يجد نفسه أمام ثروة كبيرة علمية وأدبية في العراق، ثم لا يجد إلا نتفا قليلة منها في تاريخ غيره، أما بعد الانقسام فلكل إقليم شخصية متميزة في علمها وأدبها.
على أنا إن سلمنا فرضا أن الحياة السياسية بعد الانقسام كانت شرا منها قبله، فلا نسلم ذلك في العلم والأدب. والتاريخ يرينا أن الحالة العلمية لا تتبع الحالة السياسية ضعفا وقوة؛ فقد تسوء الحالة السياسية إلى حد ما وتزهر بجانبها الحياة العلمية؛ ذلك لأن الحياة السياسية إنما تحسن بتحقيق العدل ونشر الطمأنينة بين الناس، ومع هذا فقد يحمل الظلم كثيرا من عظماء الرجال وذوي العقول الراجحة أن يفروا من العمل السياسي إلى العمل العلمي؛ لأنهم يجدون العمل السياسي يعرضهم لمصادرة أموالهم، وأحيانا إلى إزهاق أرواحهم، على حين أن العمل العلمي يحيطهم بجو خاص هادئ مطمئن، ولو كان الجو العام مائجا مضطربا، وكذلك كان الحال في تاريخ كثير من علماء المسلمين، جربوا الوزارة وولاية الأعمال فتعرضوا للخطر فهربوا إلى العلم فنجحوا.
وأيضا فقد وقر في نفوس الخلفاء والأمراء حرمة العلماء، متى لم يتعرضوا للسياسة من قريب ولا بعيد، وهذا يمكنهم من بحثهم العلمي في هدوء وطمأنينة على الرغم مما يحيط بهم من فوضى واضطراب. لقد كان الفارابي مثلا في جو سياسي مضطرب سواء كان في حلب بين الحمدانيين، أو في بغداد في حكم الأتراك، ومع ذلك خلق لنفسه، ولمن حوله من تلاميذه حمى يرقى فيه علمه وبحثه، وإذا عصفت العواصف كانت حول حماه ولا تغشاه، لا يهمه في حياته إلا علمه، أما ما عداه من أفانين السياسة وألاعيبها، وشئون الدنيا وشهواتها فلا يأبه بها ويقول:
أخي خل حيز ذي باطل
وكن للحقيقة في حيز
فما الدار دار مقام لنا
وما المرء في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لهذا على
أقل من الكلم الموجز
محيط السماوات أولى بنا
فماذا التنافس في مركز؟!
وأبو العلاء المعري يترك الدنيا مضطربة في المعرة وما حولها، وفي بغداد وما حولها، ويخلق لنفسه جوا علميا فكريا هادئا لا نزاع فيه إلا على مسأله علمية أو مشكلة لغوية أو فكرة فلسفية، لا علاقة له بأمير إلا أن يتشفع عنده في بلده فيشفع، ولا علاقة له بوزير إلا أن يستفتيه في مسألة علمية فيجيب، وهكذا سيرة كثير من العلماء، فلم لا يرقى العلم في هذه الأجواء الهادئة مهما أحاط بها من ظروف عاصفة؟!
وحتى الذين اكتووا بالسياسة من قرب أو بعد، كالصولي والصابي وابن العميد، قد أفادوا العلم والأدب بانغماسهم في الحياة السياسية، وإن احترقوا بنارها.
وما لنا نذهب بعيدا، وهذا عصر النهضة العلمية والأدبية في أوروبا، كانت الأفكار فيه تبحث وتنتج وتبتكر، والجو السياسي حولها أسوأ ما يكون نزاعا وفسادا وظلما، فلما خطت الأفكار العلمية والأدبية خطواتها كانت هي التي تصلح الجو السياسي، لا أن الجو السياسي يخنقها.
والخلاصة أن الحالة العلمية في أواخر القرن الثالث وفي القرن الرابع، كانت أنضج منها في العصر الذي قبله: أخذ علماء هذا العصر ما نقله المترجمون قبلهم فشرحوه وهضموه، وأخذوا النظريات المبعثرة فرتبوها؛ وورثوا ثروة من قبلهم في كل فرع من فروع العلم فاستغلوها، وسيأتي بيان ذلك إن شاء لله . (1-2) الترف والبؤس
واللهو والجد حيثما نظرنا إلى كل قطر من أقطار العالم الإسلامي في ذلك العصر رأينا الثروة غير موزعة توزيعا عادلا ولا متقاربا، ورأينا الحدود بين الطبقات واضحة كل الوضوح، فجنة ونار، ونعيم مفرط، وبؤس مفرط، وإمعان في الترف يقابله فقدان القوت.
وهذا الترف والنعيم حظ عدد قليل، هم الخلفاء والأمراء ومن يلوذ بهم من الأدباء والعلماء، وبعض التجار، ثم البؤس والشقاء والفقر لأكثر الناس. وحتى غنى الأغنياء في كثير من الأحيان ليس محصنا بالأمان، فهو عرضة لغضب الأقران أو غضب ذي السلطان الأعلى، فيصادرون في أموالهم، ويصبح حالهم أشد بؤسا من فقير نشأ في الفقر، وقد مرت بنا أمثلة من هذا القبيل.
والآن نصور بعض صور توضح الحالين.
فقصور الخلفاء والأمراء وأمثالهم واسعة كل السعة، مترفة كل الترف؛ فابن المعتز يصف في ديوانه أبنية للخليفة المعتضد اسمها الثريا فيقول:
حللت «الثريا» خير دار ومنزل
فلا زال معمورا وبورك من قصر
فليس له فيما بنى الناس مشبه
ولا ما بناه الجن في سالف الدهر •••
جنان وأشجار تلاقت غصونها
فأورقن بالأثمار والورق الخضر
ترى الطير في أغصانهن هواتفا
تنقل من وكر لهن إلى وكر •••
وبنيان قصر قد علت شرفاته
كصف نساء قد تربعن في الأزر
وأنهار ماء كالسلاسل فجرت
لترضع أولاد الرياحين والزهر
وميدان وحش تركض الخيل وسطه
فيؤخذ منها ما يشاء على قدر
عطايا إله منعم كان عالما
بأنك أوفى الناس فيهن بالشكر
واشتهر من الأبنية كذلك قصر «التاج» ابتدأ في بنائه المعتضد أيضا، ثم عدل عنه وبنى «الثريا»، فلما تولى ابنه المكتفي أتم بناء «التاج»، واستعمل في بنائه الآجر من قصر كسرى الذي بقي منه إلى الآن إيوانه. وكانت وجهة التاج مبنية على خمسة عقود كل عقد على عشرة أساطين، وكانت غاية في السعة والضخامة.
وكلا البناءين - التاج والثريا - كانا في الجانب الشرقي من بغداد.
5
وقبل ذلك عظم البناء في سامرا، وبنى المتوكل فيها الأبنية الضخمة، حتى ليذكر ياقوت ثبتا ببيان ما بناه ونفقاته فيقول:
ولم يبن أحد من الخلفاء بسر من رأى من الأبنية الجليلة مثل ما بناه المتوكل، فمن ذلك القصر المعروف بالعروس أنفق عليه ثلاثين ألف ألف درهم؛ والجعفري عشرة آلاف ألف درهم، والغريب عشرة آلاف ألف درهم، والشيدان عشرة آلاف ألف درهم، والبرج عشرة آلاف ألف درهم، والصبح خمسة آلاف ألف درهم، والمليح خمسة آلاف ألف درهم، وقصر بستان الإيتاخية عشرة آلاف ألف درهم.
إلى آخر ما ذكر، إلى أن قال: فذلك الجميع مائتا ألف ألف وأربعة وتسعون ألف درهم. وقد قال علي بن الجهم في وصف الجعفري أحد قصور المتوكل:
وما زلت أسمع أن الملو
ك تبني على قدر أقدارها
وأعلم أن عقول الرجا
ل تقضى عليها بآثارها
فلما رأينا بناء الإمام
رأينا الخلافة في دارها
بدائع لم ترها فارس
ولا الروم في طول أعمارها
وللروم ما شيد الأولون
وللفرس آثار أحرارها
وكنا نحس لها نخوة
فطامنت نخوة جبارها
وأنشأت تحتج للمسلمين
على ملحديها وكفارها
صحون تسافر فيها العيون
إذا ما تجلت لأبصارها
وقبة ملك كأن النجوم
تضيء إليها بأسرارها
نظمن الفسافس نظم الحلي
لعون النساء وأبكارها
لو ان سليمان أدت له
شياطينه بعض أخبارها
لأيقن أن بني هاشم
تقدمها فصل أخطارها
وللبحتري قصائد في وصف بركتها ومحاسنها.
وبلغت سامرا في الحضارة شأوا بعيدا حتى أفسدها وخربها الخلاف والعصبية بين أمراء الأتراك، وتحول عنها الخلفاء إلى بغداد، وكان أول من فعل ذلك المعتضد بالله، فقد حول العمران إلى بغداد وبنى بها الثريا والتاج.
وقد وصف الخطيب البغدادي قصر المقتدر بالله، الذي تولى من (295ه-320ه)، بمناسبة زيارة رسول من الروم له، فقال: إنه كان للمقتدر أحد عشر ألف خادم خصي، وكذا من صقلبي ورومي وأسود - وهذا جنس واحد ممن تضمه الدار، فدع الآن الغلمان الحجرية وهم ألوف كثيرة والحواشي من الفحول. وقد أمر المقتدر أن يطاف بالرسول في الدار ... وفتحت الخزائن، والآلات فيها مرتبة كما يفعل لخزائن العروس. وقد علقت الستور، ونظم جوهر الخلافة في قلايات على درج غشيت بالديباج الأسود، ولما دخل الرسول إلى دار الشجرة ورآها كثر تعجبه منها؛ وكانت شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم، عليها أطيار مصنوعة من الفضة تصفر بحركات قد جعلت لها فكان تعجب الرسول من ذلك أكثر من تعجبه من جميع ما شاهده ...
وكان عدد ما علق في القصور من الستور الديباج المذهبة بالطرز الذهبية الجليلة، المصورة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع والطرد، والستور الكبار البضغائية والأرمنية والواسطية والبهنسية السواذج والمنقوشة والديبقية المطرزة ثمانية وثلاثين ألف ستر ...
وأدخل رسل صاحب الروم إلى الدار المعروفة بخان الخيل، وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمسمائة فرس عليها خمسمائة مركب ذهبا وفضة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال، وكل فرس في يد شاكري بالبزة الجميلة، ثم أدخلوا دار الوحش، وكان فيها من أصناف الوحش التي أخرجت إليهم قطعان تقرب من الناس وتتشممهم وتأكل من أيديهم، ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشي، على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار، فهال الرسل أمرها؛ ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع: خمسون يمنة وخمسون يسرة ...
ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث، وهي دار بين بساتين، في وسطها بركة رصاص قلعي،
6
حواليها نهر رصاص قلعي أحسن من الفضة المجلوة، طول البركة ثلاثون ذراعا في عشرين ذراعا، فيها أربع طيارات لطاف بمجالس مذهبة ... وحوالي هذه البركة بستان بميادين فيها نخل، وعدده أربعمائة نخلة، وطول كل واحدة خمسة أذرع، قد لبس جميعها ساجا منقوشا من أصلها إلى حد الجمارة بحلق من شبه مذهبة ... وفي جانب الدار يمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارسا على خمسة عشر فرسا، قد ألبسوا الديباج وغيره، وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد في الناورد جنبا وتقريبا، فيظن أن كل واحد منهم إلى صاحبه قاصد، وفي الجانب الأيسر مثل ذلك.
ثم أخرجوا - بعد أن طيف بهم ثلاثة وعشرين قصرا - إلى الصحن التسعيني، وفيه الغلمان الحجرية بالسلاح الكامل.
ثم وصلوا إلى حضرة المقتدر بالله وهو جالس في «التاج» مما يلي دجلة، بعد أن لبس بالثياب الديبقية المطرزة بالذهب، على سرير آبنوس قد فرس بالديبقي المطرز بالذهب، وعلى رأسه الطويلة، ومن يمنة السرير تسعة عقود مثل السبح معلقة، ومن بسرته تسعة أخرى من أفخر الجواهر وأعظمها قيمة غالبة الضوء على ضوء النهار، وبين يديه خمسة من ولده: ثلاثة يمنة، واثنان يسرة.
7
ولعل هذه الصورة خير وصف لقصور الخلفاء في ذلك العصر.
والخلفاء من أول العصر العباسي يعلو كل خليفة ما قبل درجة أو درجات في الترف والنعيم والإمعان في فنون الحضارة، والأغنياء يتبعونهم في ذلك على قدر مواردهم، سائرين على حكم الزمان.
ولذلك لما جاء المهتدي بالله (255ه-256ه)، ونزع نزعته إلى الزهد استغرب منه ذلك، ولم يطاوعه الناس وسئموا سيرته، وأدى الأمر إلى قتله.
ذلك أنه جعل مثله الذي يجب أن يحتذى عمر بن عبد العزيز، فحرم الشراب ونهى عن القيان، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرب العلماء ورفع من منازل الفقهاء، وأحسن معاملة الطالبيين، وقلل من اللباس والفرش والمطعم والمشرب، وأخرج آنية الذهب والفضة من خزائن الخلفاء فكسرت وضربت دنانير ودراهم، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمحيت، وذبح الكباش التي كان يناطح بها بين يدي الخلفاء، وكذلك فعل في الديوك، وكانت الخلفاء قبله تنفق على موائدها كل يوم عشرة آلاف درهم، فأزال ذلك، وجعل لمائدته وسائر مؤنه في كل يوم نحو مائة درهم.
وكان يتهجد في الليل ويطيل الصلاة، ويلبس جبة من شعر.
قال المسعودي: «فثقلت وطأته على العامة والخاصة بحمله إياهم على الطريقة الواضحة، فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه، وعملوا الحيلة عليه حتى قتلوه.»
لما قبضوا عليه قالوا له : أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟ فقال: أريد أن أحملهم على سيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأهل بيته والخلفاء الراشدين! فقيل له: إن الرسول كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وأنت إنما رجالك تركي وخزري ومغربي وغير ذلك من أنواع الأعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم من أمر آخرتهم، وإنما غرضهم ما استعجلوه من الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟!»
8
ولم يدم في خلافته إلا أحد عشر شهرا.
وهكذا كان تيار الترف شديدا جارفا حتى ليكتسح من وقف في سبيله.
وقد أنشأ عضد الدولة البويهي بستانا بلغت النفقة عليه وعلى سوق الماء إليه خمسة آلاف ألف درهم.
9
والوزير ابن مقلة يربي الحيوانات في قصره ويعنى بها أكثر عناية، «فكان له بستان عظيم عدة أجربة، شجر بلا نخل، عمل له شبكة إبريسم، وكان يفرخ فيه الطيور التي لا تفرخ إلا في الشجر، كالقماري والدباس والهزار والببغ والبلابل والقبج، وكان فيه من الغزلان والنعام والأيل وحمر الوحش، وبشر مرة بأن طائرا بحريا وقع على طائر بري، فباض وفقس، فأعطى من بشره بذلك مائة دينار».
10 «والوزير ابن الفرات كان يملك أموالا كثيرة تزيد على عشرة آلاف ألف دينار، وكان يستغل من ضياعه في كل سنة ألفي ألف دينار وينفقها، وكانت في داره حجرة شراب يوجه الناس على اختلاف طبقاتهم إليها غلمانهم يأخذون الأشربة والفقاع والجلاب إلى دورهم»،
11
وكان ابن الفرات لا يأكل إلا بملاعق البلور، وما كان يأكل بالمعلقة إلا لقمة واحدة، فكان يوضع له على المائدة أكثر من ثلاثين معلقة.
وكان راتب أبي طاهر وزير عز الدولة من الثلج في كل يوم ألف رطل، وكانت أم المقتدر يشترى لها ثياب ديبقية يسمونها ثياب النعال، وذلك أنها كانت صفاقا تقطع على مقدار النعال المحذوة، وتطلى بالمسك والعنبر المذاب وتجمده، ويجعل بين كل طبقتين من الثياب من ذلك المطيب ما له قوام ... وكانت نعال السيدة من هذا المتاع ، لا تلبس النعل إلا عشرة أيام أو حواليها حتى تخلق وتتفتق وترمى، فتأخذها الخزان وغيرهم، فيستخرجون من ذلك العنبر والمسك».
12 «وكان الوزير المهلبي كثير الشغف بالورد؛ روى من شاهده قال: «شاهدت أبا محمد المهلبي قد ابتيع له في ثلاثة أيام ورد بألف دينار، فرش به مجالسه وطرحه في بركة عظيمة كانت في داره، ولها فوارات عجيبة، يطرح الورد في مائها فتنفضه على المجلس فيقع على رؤوس الجالسين؛ وبعد شرابه عليه، وبلوغه ما أراد منه، أنهبه».
13
وانتشرت مجالس الشراب، ووضعت لها القواعد والقوانين والآداب، كالذي فعله «كشاجم» في تأليف كتابه «أدب النديم»، وتفننوا فيما يكتب من الشعر على القناني والكاسات.
14
واعتاد الخلفاء والوزراء والأمراء مجالس الشراب وبالغوا في الإسراف فيها؛ «يحكى أنه كان للوزير المهلبي ندماء يجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة والتبسط في القصف والخلاعة، وهم: ابن قريعة، وابن معروف، والقاضي التنوخي، وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها؛ وكذلك كان الوزير المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس، ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، ووضع في يد كل واحد منهم كأس ذهب من ألف مثقال إلى ما دونها مملوء شرابا قطربليا أو عكبريا، فيغمس لحيته فيها بل ينقعها حتى تتشرب أكثره، ويرش بها بعضهم على بعض، ويرقصون أجمعهم ... فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في التزمت والوقار».
15
ونذكر هنا ثروة أحد الولاة لدلالتها على مقدار الثروة ونوعها؛ فقد مات في سنة 301ه أبو الحسين على بن أحمد الراسبي عن سن كبيرة، وكان يتقلد جنديسابور والسوس وماذاريا، ومات أولاده قبله، وكان له حفدة، فخلف:
445547
دينارا ذهبا عينا
320237
درهما عينا
43970
مثقالا وزن الأواني الذهبية
1975
رطلا وزن الأواني الفضية
4420
مثقالا من العود المطرى
5020
مثقالا من العنبر
860
نافجة من نوافج المسك
1600
مثقال من المسك المنثور
1399
مثقالا من البرمكية (نوع من الطيب)
366
مثقالا من الغالية (نوع من الطيب)
88
ثوبا من الثياب المنسوجة من الذهب
13
سرجا
2
حجرين عظيمين من الياقوت
70
حبة من اللؤلؤ
135
رأسا من الخيل
114
من خدم السوادن
128
من الغلمان البيض
19
خادما من الصقالبة والروم
40
غلاما بآلاتهم وسلاحهم ودوابهم
20000
دينار قيمة أصناف من الكسوة
128
رأسا من المهاري والبغال
125
خيمة من الخيام الكبار
14
هودجا
14
صندوقا من الغضائر الصيني والزجاج المحكم الفاخر
وخلف عضد الدولة البويهي 2875284 دينارا، ومن الورق والنقد والفضة 100860790 درهما، ومن الجواهر واليواقيت واللؤلؤ والماس والبلور والسلاح والمتاع شيئا كثيرا .
16
وتفننوا في الصناعات الجميلة من أنواع الحلي والدقة في النسج وزركشة الثياب وأنواع العطور، والنقش والتصوير، وأصناف الأزياء والمأكول والمشروب، والحدائق والبساتين، والغناء والموسيقى مما يطول شرحه، وكلها يستمتع بها طبقة الأشراف والموسرين.
وبلغوا من الأناقة في المعيشة أن جعلوا للظرف والظرفاء قوانين متعارفة من خرج عليها كان غير ظريف، وألفوا في ذلك الكتب ك «الموشى» للوشاء، و«حدود الظرف» له أيضا، و«ما يقدم من الأطعمة وما يؤخر» للرازي، و«ترتيب أكل الفواكه» له أيضا، و«آداب الحمام» له أيضا، و«الزينة» لحنين بن إسحاق، و«الهدايا والسنة فيها» لإبراهيم الحربي، و«النبيذ وشربه في الولائم» لقسطا بن لوقا ... إلخ، فقال الموشي: «اعلم أن من كمال أدب الأدباء، وحسن تظرف الظرفاء، صبرهم على ما تولدت به المكارم، واجتنابهم لخسيس المآثم، فهم لا يداخلون أحدا في حديثه، ولا يتطلعون على قارئ في كتابه، ولا يقطعون على متكلم كلامه، ولا يستمعون على مسر سره، ولا يسألون عما وري عنهم علمه، ولا يتكلمون فيما حجب عنهم فهمه.» ... إلخ. ووضعوا قوانين الظرف تفصيلا كما وضعوها إجمالا، فقوانين الظرف في الزي، وفي التعطر، وفي الشراب، وما هو ظرف في الرجال لا في النساء، وما هو ظرف في النساء لا في الرجال، وهكذا.
فإذا نحن جاوزنا العراق إلى غيره من الأقطار رأينا في الشام مثلا آل حمدان، وعلى رأسهم سيف الدولة مترفين ممعنين في الترف. «فيحكى أن سيف الدولة لما ورد إلى بغداد وقت توزون اجتاز وهو راكب فرسه وبيده رمحه، وبين يديه عبد له صغير، وقصد الفرجة وألا يعرف؛ فاجتاز بشارع دار الرقيق على دور بني خاقان وفيها فتيان فدخل وسمع وشرب معهم وهم لا يعرفونه وخدموه، ثم استدعى عند خروجه الدواة فكتب رقعة وتركها فيها، ثم انصرف؛ ففتحوا الدواة فإذا في الرقعة ألف دينار على بعض الصيارف، فتعجبوا، وحملوا الرقعة وهم يظنونها ساذجة، فأعطاهم الصيرفي الدنانير في الحال والوقت
17 (وهذا هو نظام الحوالات)؛ فسألوه عن الرجل، فقال: ذلك سيف الدولة بن حمدان».
18
وضرب للصلات خاصة دنانير في كل دينار منها عشرة مثاقيل وعليه اسمه وصورته.
19
ودخل عليه شاعر وطرح من كمه كيسا فارغا ودرجا فيه شعر استأذنه في إنشاده فأذن له، فأنشده قصيدة أولها:
جباؤك معتاد وأمرك نافذ
وعبدك محتاج إلى ألف درهم
فلما فرغ من إنشاده ضحك سيف الدولة ضحكا شديدا، وأمر له بألف دينار، فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه.
20
وقصوره كانت ملأى بالجواري وخاصة من أسرى الروم، «وكانت له جارية من بنات ملوك الروم لا يرى الدنيا إلا بها، ويشفق من الريح الهابة عليها، فحسدتها سائر حظاياه على لطف محلها منه» ... إلخ.
21
وكان يركب في خمسة آلاف من الجند، وألفين من غلمانه ليزور قبر والدته.
22
وكان الملوك والأمراء في مصر في منتهى الترف والنعيم؛ ففي العهد الطولوني كان الحي الذي فيه الآن جامع ابن طولون وما حوله من القلعة إلى «زين العابدين» يزخر بالمباني الضخمة، وفيها هذا المسجد الفخم والمستشفى الكبير، والقصور الشامخة، والميادين الفسيحة، وآيات الفن؛ فقد كان بجوار جامع ابن طولون ميدان فسيح، فجعله خمارويه بن أحمد بن طولون كله بستانا بديعا، زرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر، وحمل إليه من البلدان المختلفة كل صنف من الشجر المطعم وأنواع الورد.
وكان من بدعه أنه كسا أجسام النخل نحاسا مذهبا، وجعل بين النحاس والنخل مواسير من الرصاص يجري فيها الماء، فكان الماء يخرج من النحاس الملبس في النخل فينحدر إلى فساقي، ويفيض الماء من الفساقي إلى مجار تسقي سائر البستان.
وهندس البستان هندسة بديعة، فعمل من الرياحين كتابة مكتوبة في البستان يتعاهدها البستاني بالمقاريض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وعمل في البستان برجا من خشب الساج منقوشا ومطعما، وسرح فيه أصناف الحمام وأصناف الطيور المغردة، وجعل في البرج أوكارا لأفراخها، وعيدانا مثبتة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت، حتى يجاوب بعضها بعضا بالمناغاة، وسرح في البستان الطواويس والدجاج الحبشي ونحو ذلك، وعمل فيه مجلسا سماه دار الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب واللازورد، وجعل في حيطانه مقدار قامة ونصف من خشب صورت فيه صورته، والمغنيات التي تغنيه في أحسن تصوير وأبهج تزويق، ولونت أجسامها بألوان تشبه ألوان الثياب من الأصباغ العجيبة، فكان هذا القصر من أعجب ما بني في الدنيا.
وعمل فيه فسقية ملئت من الزئبق، وطرح عليه فرش ملئ بالهواء وشد بزنانير من حرير في حلق من الفضة؛ فينام أحيانا عليه فيرتج ارتجاجا ناعما، وكان يرى له في الليالي المقمرة منظر عجيب إذا ائتلف نور القمر بنور الزئبق.
وجعل في ناحية من نواحي القصر دارا للسباع، لكل سبع بيت، ولكل بيت باب يفتح من أعلاه، ولكل بيت طاقة صغيرة يدخل منها الرجل الموكل به، وفرش بيوت السباع وما حولها بالرمل يجدد من حين إلى حين.
وأكثر من الخدم، ودرب كثيرا منهم على التفنن في الطهي وتنويعه، واشتهر عبيد مصر إذ ذاك بحسن الطهي كما عودهم خمارويه؛ فكان الناس يأتون من مختلف الأقطار لشرائهم لحسن سمعتهم في هذا الباب.
ولعل أكبر ما يوضح هذا الترف والنعيم زواج «قطر الندى» بنت خمارويه، وقد خطبها خليفة المسلمين في بغداد المعتضد بالله العباسي، فتفنن خمارويه وأنفق خزائن الدولة في جهازها يحمله من مصر إلى بغداد، حتى تضعضعت حالة مصر المالية بعد ذلك الإسراف.
فكان من بين هذا الجهاز دكة تتألف من أربع قطع من الذهب، عليها قبة من ذهب مشبك، في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة من جوهر لا يعرف لها قيمة، وكان في الجهاز مائة هاون من ذهب، وقد عمل حساب نفقات الجهاز، فكانت دفعة من نفقاته أربعمائة ألف دينار.
وانتقلت العروس من مصر إلى بغداد، والشقة بينهما بعيدة، فأمر خمارويه فبنى على رأس كل مرحلة من مصر إلى بغداد قصرا تنزل فيه قطر الندى، وكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا أتمت مرحلة وجدت قصرا قد فرش، وأعد بكل أنواع المعدات، فكأنها في هذه الرحلة الطويلة في قصر أبيها حتى قدمت بغداد في أول المحرم سنة 282ه.
23
وثروة آل الجصاص في العهد الطولوني كانت تقدر بملايين الدنانير، ويحكي أحدهم وهو الحسين بن عبد الله الجصاص - وكان من أعيان التجار في الجواهر - سبب ثروته فيقول: «كان بدء يساري أني كنت في دهليز أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وكنت وكيله في ابتياع الجوهر وغيره مما يحتاجون إليه، وما كنت أفارق الدهليز لاختصاصي به، فخرجت إلي قهرمانة لهم في بعض الأيام ومعها عقد جوهر فيه مائة حبة لم أر قبله ولا بعده أفخر ولا أحسن منه، كل حبة تساوي مائة ألف دينار عندي؛ قالت: نحتاج أن تخرط هذه حتى تصغر فنجعلها في آذان اللعب وفي قلائدها، فكدت أطير، وأخذتها وقد قلت: السمع والطاعة، وخرجت في الحال وجمعت التجار، واشتريت مائة حبة من النوع الذي طلبته ... وقامت علي المائة حبة بدون المائة ألف درهم، وأخذت منهم جوهرا بمائتي ألف دينار.»
24
وفي العهد الفاطمي كان الترف أنعم وأضخم وأفخم، تقرأ في «خطط المقريزي» وصف خزائن الفاطميين وحياتهم في القصور، وتفننهم في أدوات الترف والنعيم فيأخذك العجب العجاب، فيقول: «إنه كان للخليفة خزانتان: ظاهرة؛ وفيها الملابس التي ينعم بها على الناس، وباطنة؛ وهي الخاصة بلباس الخليفة، ويتولاها امرأة تنعت بزين الخزان، وبين يديها ثلاثون جارية، فلا يغير الخليفة أبدا ثيابه إلا عندها ... وكان برسم هذه الخزانة بستان من أملاك الخليفة على شاطئ الخليج يعنى أبدا فيه بالنسرين والياسمين، فيحمل في يوم منه شيء في الصيف والشتاء لا ينقطع أبدا برسم الثياب والصناديق.
ولما كشف حاصل الخزائن الخاصة للعاضد بالقصر كان الموجود فيها مائة صندوق كسوة فاخرة من موشى ومرصع، وعقود ثمينة وجواهر نفيسة، وغير ذلك من ذخائر عظيمة الخطر.»
25
وفي أيام شدة المستنصر أخرج من بعض خزائن القصر صندوق كيل منه سبعة أمداد زمرد؛ فسأل بعض من حضر من الوزراء الجوهريين: كم قيمة هذا الزمرد؟ فقالوا: إنما نعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجودا، ومثل هذا لا قيمة له! ... وأخرج عقد جوهر قيمته على الأقل من ثمانية آلاف دينار فصاعدا، وأخرج ألف ومائتا خاتم ذهبا وفضة من سائر أنواع الجواهر المختلف الألوان والقيم والأثمان ... وأحضرت خريطة فيها نحو ويبة جواهر، وأحضر الخبراء من الجوهريين فذكروا أن لا قيمة لها ولا يشتري مثلها إلا الملوك، فقومت بعشرين ألف دينار، وأخرج طاووس ذهب مرصع بنفيس الجواهر، عيناه من ياقوت أحمر، وريشه من الزجاج المينا المجري بالذهب، على ألوان ريش الطاووس، وديك من الذهب له عرف مفروق كأكبر ما يكون من أعراف الديوك من الياقوت الأحمر، مرصع بسائر الدرر والجوهر، وعيناه ياقوت، وغزال مرصع بنفيس الدر والجوهر، وبطنه أبيض قد نظم من در رائع ... إلخ إلخ.
26
ونحو هذا ذكر المقريزي في خزائن العرش والأمتعة، وخزائن السلاح والسروج والخيم والشراب والتوابل والبنود.
ورووا أن المعز لدين الله فاتح مصر لما خرج من بلاد المغرب أخرج معه أموالا كانت له بها، وأمر بسبكها أرحية كأرحية الطواحين، وكان معه مائة جمل عليها هذه الطواحين من الذهب، وأمر المعز بها حين دخل إلى مصر فألقيت على باب قصره، ولم تزل على باب القصر إلى أن كان زمن الغلاء في أيام المستنصر، فلما ضاق الناس بالأمر أذن لهم أن يبردوا منها بمبارد، وغرهم الطمع حتى ذهبوا بأكثرها، فأمر بحمل الباقي إلى القصر، فلم تر بعد ذلك.
وقد عمل المعز عضادتي باب من أبواب قصره من تلك الأرحية، واحدة فوق أخرى، فسمي باب الذهب، وسميت القاعة التي يدخل إليها من هذا الباب قاعة الذهب.
27
ولما دخل صلاح الدين القصر الكبير للخلفاء الفاطميين، وجد فيه اثني عشر ألف نسمة ليس فيهم فحل إلا الخليفة وأهله وولده.
28
ومهما بالغ المقريزي ومن نقل عنهم في وصف غناهم، فإن الأساس صحيح وهو غنى القوم، وإمعانهم في الترف إمعانا يزيد عما وصل إليه العباسيون أيام الرشيد. «وكان إقطاع الوزير ابن كلس «وزير العزيز بالله» مائة ألف دينار في السنة، ووجد للوزير المذكور من العبيد والمماليك أربعة آلاف غلام، ووجد له جوهر بأربعمائة ألف دينار، وبز من كل صنف بخمسمائة دينار».
29
ويصف لنا عمارة اليمني دارا بناها ابن رزيك الوزير الفاطمي فيقول:
فتمل دارا شيدتها همة
يغدو العسير ببابها متيسرا
جملتها وتجملت مصر بها
لما علت بك عزة وتكبرا
وسقيت من ذوب النضار سقوفها
حتى لكاد نضارها أن يقطرا
لم يبد فيها الروض إلا مزهرا
والنخل والرمان إلا مثمرا
وبها من الحيوان كل مشهر
لبس الوشيج العبقري مشهرا
وكأن صولتك المخوفة أمنت
أسرابها ألا تراع وتذعرا
أنشأت فيها للعيون بدائعا
زفت فأذهل حسنها من أبصرا
فمن الرخام مسيرا ومسهما
ومنمنما ومدرهما ومدنرا
والعاج بين الآبنوس كأنه
أرض من الكافور تنبت عنبرا •••
قد كان منظرها بهيا رائقا
فجعلتها بالوشي أبهى منظرا
ألبستها بيض الستور وحمرها
فأتت كزهر الورد أبيض أحمرا
فمجالس كسيت رقيما أبيضا
ومجالس كسيت طميما أصفرا
لم يبق نوع صامت أو ناطق
إلا غدا فيها الجميع مصورا ... إلخ.
وبعد؛ فقد كان المال وفيرا كثيرا، والترف والنعيم بالغا أقصاه في بلاط الخلفاء وقصور الأمراء والخاصة، أما الشعب فأكثره بائس فقير.
قد كان هناك طبقتان متميزتان كل التميز، فالخليفة ورجال دولته وأهلوهم وأتباعهم طبقة الخاصة، وهم عدد قليل بالنسبة لمجموع الأمة، وبقية الناس - وهم الأكثر - طبقة العامة من علماء وتجار وصناع ومزارعين ورعاع، وأغلب هؤلاء فقراء إلا من اتصل منهم بالخلفاء والأمراء.
ذلك أن أكبر مصدر للمال هو الجزية والخراج، وهذه تدخل في بيت المال تحت سلطة الخلفاء ومن إليهم، وينفق منها على مصالح الدولة، وما بقي - وهو كبير - يصرف في رغبات الخلفاء والأمراء: من هبات للشعراء والمداح، وشراء ما يعرضه تجار الجواهر، وتجار الجواري والتحف، وجوائز للمضحكين. والكريم منهم يمد الموائد لفقراء الشعب ويطعمهم ويكسوهم، فألوف الناس تأكل على الموائد وتنال صدقاتهم؛ فلؤلؤ الحاجب في أيام الفاطميين يفرق في اليوم اثني عشر الف رغيف مع قدر الطعام، فإذا دخل رمضان أضعف ذلك، ووقف هو بنفسه ليفرقه،
30
وكان علي بن عيسى - وزير المقتدر - يعطي الطالبيين والعباسيين وأبناء الأنصار،
31
وكان ابن الفرات يعطي الفقهاء والعلماء والفقراء وأهل البيوتات؛ أكثرهم مائة دينار في الشهر، وأقلهم خمسة دراهم وما بين ذلك.
32
لهذا كله كانت كل أنظار الناس موجهة إلى الخلفاء والأمراء، فالعلماء إن أرادوا الغنى لم يجدوه إلا في خدمتهم، والشعراء إن أرادوا العيش لم يجدوه إلا في مديحهم، والتجار إن وقع شيء ثمين في يدهم من جوهر أو جوار لا يجدون نفاقا لها إلا في قصورهم، والصناع إذا أحسنوا صناعة شيء فهم مقدصهم، أما سائر الشعب ففقير بائس قل أن يجد الكفاف! فالعلماء إذا بعدوا عن القصور عز قوتهم، والشعراء لا يشعرون لأنفسهم ولا لعواطفهم، وإنما يشعرون للمال ينشدونه من يد الخلفاء والأمراء؛ ولهذا كان أكثر شعرهم مديحا، والفنانون والتجار كذلك. وكان أكثر مديح الخلفاء والأمراء بالكرم والسخاء، لا بالعدل والحزم وضبط الأمور.
فإذا نفد مال الخلفاء والأمراء صادروا الأغنياء ليسلبوهم مالهم، ثم يوزعونه على شهواتهم وأتباعهم. فنشأ عن هذا إخفاء الأموال والتظاهر بالفقر، وهرب بعيدي النظر من التقرب من الخلفاء وذويهم، ونشأ في الأدب العربي كثير من الشعر والنثر يحمد الفقر والبعد عن البلاط،
33
كما نشأ شيوع التصوف والميل إليه.
كان بجانب هذا الغنى المفرط، والإمعان في اللذائذ، فقر مدقع يقع فيه العلماء وعامة الشعب ممن لم يتصلوا بالخلفاء والأمراء ومن إليهم.
هذا «عبد الوهاب البغدادي المالكي» فقيه أديب شاعر له المصنفات الرائعة في الفقه، لم يكن في المالكيين أفقه منه في زمنه، ولما نزل معرة النعمان في رحلته أضافه أبو العلاء وقال فيه:
والمالكي ابن نصر زار في سفر
بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تفقه أحيا مالكا جدلا
وينشر الملك الضليل إن شعرا
هذا كله تضيق به المعيشة في بغداد حتى لا يجد قوت يومه، ويخرج عنها طالبا للرزق، ولما شيعه أكابرها قال لهم: «لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة ما عدلت عن بلدكم.» ثم أنشأ يقول:
سلام على بغداد في كل موطن
وحق لها مني سلام مضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى لها
وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها
ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه
وأخلاقه تنأى به وتخالف
فلما وصل إلى مصر، مات لأول ما وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها، فزعموا أنه قال وهو يتقلب: «لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا.»
34
وهذا أبو حيان التوحيدي البغدادي، وهو ما هو في علمه الواسع وأدبه الفياض، وفلسفته، وبلاغته، وتصوفه، واتصاله بالوزراء والعلماء، وكده في الحياة البوراقة ونسخ الكتاب، وتآليفه الكثيرة، كل هذا ويقول محدثا عن نفسه: «ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم.»
35
ولما أعيته الحيل تحول طلبه وملقه ورياؤه ونفاقه إلى غيظ من الناس وحقد عليهم، فأحرق في آخر أيامه كتبه، وقال: «إني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة عندهم، ولمد الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله.»
وقد ملأ كتابه «الإمتاع والمؤانسة» شكوى من الفقر ومن سوء الحال، ورفع صوته إلى الوزراء والأغنياء، فعاد من ذلك كله صفر اليدين.
وهذا أبو سليمان المنطقي، أعقل عقلاء بغداد وأوسعهم نظرا، وأعمقهم فكرا، ومن اطلع على الفلسفة اليونانية، فأدرك أسرارها، وعرف مراميها وأغراضها، مع استقلال في الفكر، وشخصية ممتازة في الحكم، وكان أعور، وكان به برص منعه من الاتصال بالناس، وحمله على لزومه منزله، فلم يتصل به إلا تلاميذه الذين عرفوا قدره، ولم يجدوا بغيتهم عند غيره - كان فقيرا، وقال فيه أبو حيان، وهو من تلاميذه: «إن حاجته ماسة إلى رغيف، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكن، وعن وجبة غدائه وعشائه.» فلما من عليه الوزير ابن سعدان بمائة دينار، سره ذلك غاية السرور، وترفل وتحنك.
وهذا أبو علي القالي البغدادي، ضاقت به الحال قبل أن يرحل إلى الأندلس، حتى اضطر أن يبيع بعض كتبه، وهي أعز شيء عنده، فباع نسخته من كتاب «الجمهرة» وكان كلفا بها، فاشتراها الشريف المرتضى، فوجد عليها بخط أبي علي:
أنست بها عشرين حولا وبعتها
فقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها
ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية
صغار عليهم تستهل جفوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرة
مقالة مكوي الفؤاد حزين «وقد تخرج الحاجات يا أم مالك
ودائع من رب بهن ضنين»
وهذا أبو العباس المعروف بابن الخباز الموصلي، كان من كبار النحويين والأدباء، قال في خطبة كتابه المسمى «بالفريدة في شرح القصيدة»: «ومن علم حقيقة حالي عذرني إذا قصرت، فإن عندي من الهموم ما يزع الجنان عن حفظه، ويكف اللسان عن لفظه:
ولو أن ما بي بالجبال لهدها
وبالنار أطفاها وبالماء لم يجر
وبالناس لم يحيوا وبالدهر لم يكن
وبالشمس لم تطلع وبالنجم لم يسر
وأنا أسأل الله العظيم أن يكفيني شر شكواي، وألا يزيدني على بلواي، فإني كلما أردت خفض العيش صار مرفوعا، وعاد بالحزن سبب المسرة مقطوعا، والله المستعان في كل حال، ومنه المبدأ وإليه المآل.»
وهذا الزمخشري يقول:
ومما شجاني أن غر مناقبي
يغني بها الركبان بين القوافل
وطارت إلى أقصى البلاد قصائدي
وسارت مسير النيرات رسائلي
وكم من أمال لي وكم من مصنف
أصاب بها ذهني محز المفاصل
غني من الآداب لكنني إذا
نظرت فما في الكف غير الأنامل
فيا ليتني أصبحت مستغنيا ولم
أكن في خوارزم رئيس الأفاضل
ويا ليتني مرض صديقي ومسخط
عدوي وأني في فهاهة باقل
وما حق مثلي أن يكون مضيقا
وقد عظمت عند الوزير وسائلي
فلا تجعلوني مثل همزة واصل
فيسقطني حذف ولا راء واصل
فكل امرئ أمثاله عدد الحصا
وهات نظيري في جميع المحافل
وهذا الأبيوردي الشاعر الفقيه، حكى الخطيب البغدادي عنه أنه مكث سنتين لا يقدر على جبة يلبسها في الشتاء، ويقول لأصحابه: «بي علة تمنعني لبس المحشو.» يريد بالعلة: علة الفقر.
وهذا الخطيب التبريزي كان له نسخة من كتاب «التهذيب في اللغة» للأزهري في عدة مجلدات أراد تحقيق ما فيها، وسماعها على عالم باللغة، فدل على أبي العلاء المعري، فجعل الكتاب في مخلاة وحملها على كتفه من تبريز إلى معرة النعمان، ولم يكن له من المال ما يستأجر به ما يركبه، فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل، ومن شعره:
فمن يسأم من الأسفار يوما
فإني قد سئمت من المقام
أقمنا بالعراق على رجال
لئام ينتمون إلى لئام
وحكى لنا أبو حيان التوحيدي حادثة انتحار فظيعة فقال: «شاهدنا في هذه الأيام شيخا من أهل العلم ساءت حاله، وضاق رزقه، واشتد نفور الناس عنه، ومقت معارفه له، فلما توالى عليه هذا دخل يوما منزله، ومد حبلا إلى سقف البيت واختنق به، فلما عرفنا حاله جزعنا وتوجعنا وتناقلنا حديثه وتصرفنا فيه كل متصرف.»
وأخذ أبو حيان وأصحابه يتجادلون في أن له الحق في الانتحار أو لا.
36
هذا شأن العلماء، وعامة الشعب كانوا أسوأ حالا؛ ذلك لأن النظام المالي للدولة كان نظاما سيئا، فنفقات البلاد قد بلغت حدا لا يطاق من الإسراف والبذخ وصنوف الترف، وجباية الخراج وسائر الضرائب تباع لأشخاص على سبيل الالتزام، فيعسفون بالناس حتى يبتزوا منهم أضعاف ما دفعوا، والقضاء قد اختل بتدخل الحكام وانتشار الرشوة، والجيش قد انقسم إلى شعب مختلفة من ترك وديلم ومغاربة وغيرهم، وكل فرقة تتعصب لجنسها، وتضمر العداء لغيرها، والسلطة مضطرة لإنفاق المال الكثير لاسترضاء هؤلاء وهؤلاء، والمناصب الحكومية ليست في استقرار؛ فاليوم يولى وزير، وغدا يصادر، ولكل وزير أعوانه يحظون بتوليته ويعسف بهم بعزله، وغير الوزراء شأنهم أهون.
كل هذا سبب فساد النظام المالي، واستتبع فقر الشعب واضطرابه وكثرة ثوراته.
وظاهرة أخرى نراها في الفنون، وهي أنها كانت لا تنمو إلا في بلاط الخلفاء والأمراء، فلم يكن الشاهر يشعر لنفسه إلا قليلا، ولا الفنان يتفنن لنفسه إلا نادرا، فكلهم يقصد خليفة أو أميرا يعرض عليه سلعته من شعر أو فن؛ ولذلك تلون الشعر والنثر والفن بلون الاستجداء كثيرا؛ لأن العصر لم يكن عصرا ديمقراطيا يستطيع فيه أن يعيش الفنان لنفسه أو للشعب، كما هو الشأن في العصور الحديثة، بل كان عصرا أرستقراطيا لا ينعم فيه إلا الأرستقراطيون ومن شاء أن يعيش على موائدهم، بل من شاءوا هم أن يؤكلوه من موائدهم؛ ولذلك إذا أحصيت الأدب الذي قيل في المديح، رجحت كفته جدا على الأدب الذي قيل لباعث نفساني.
وكذلك العلماء كانوا قسمين: قسما يتصل بالخلفاء والأمراء أو يشتغلون في مناصب الدولة كالخطابة والقضاء، وهؤلاء ميسورون نسبيا؛ ولذلك نرى كثيرا من تآليف العلماء في هذا العصر إنما ألفت بأمر وزير أو أمير أو نحوه، وصدره باسمه، ونوه فيه بذكره، وأما من بعدوا عن القصور فكانوا فقراء غالبا لا يكادون يجدون ما يسد رمقهم كما رأينا.
نشأ عن هذه الحالة الاجتماعية مظاهر متعددة: ترف لا حد له في بيوت الخلفاء والأمراء وذوي المناصب، وفقر لا حد له في عامة الشعب والعلماء والأدباء الذين لم يتصلوا بالأغنياء، ثم المظاهر التي تنتج عادة من الإفراط في الترف كالتفنن في اللذائذ والاستهتار والنعومة وفساد النفس، وكل المظاهر التي تنشأ عن الفقر كالحقد والحسد والكذب والخبث والخديعة. وكان من أثر هذا الفقر أيضا انتشار نزعة التصوف، فالفشل في الحياة قد يسلم صاحبه إلى الزهد، وإقناع النفس بأن نعيم الدنيا زائل، وإذا حرم الدنيا فليطلب الآخرة. كما كان من آثاره انتشار الدجل والتخريف، وتعلق الناس بالأسباب الموهومة في الحصول على الغنى لعجزهم عن تحصيله بالوسائل المعقولة؛ فتنجيم واعتقاد في الطوالع التي تسعد وتشقي، وانصراف إلى الكيمياء التي تقلب النحاس والقصدير ذهبا، والالتجاء إلى دعوات الأولياء لعل دعوتهم تتحقق فينقلب فقرهم غنى، وهذا إلى الاعتقاد في السحر والطلسمات، والبحث عن الكنوز المخبوءة، ونحو ذلك.
وعلى الجملة فالحياة المالية مضطربة أشد الاضطراب، فمع سوء التوزيع والاختلاف الشديد بين درجة الغنى والفقر، والبذخ وشدة الحجة، نرى عدم الطمأنينة على المال من عدم احترام الملكية؛ وذلك بسبب شهوات الحكام وطمعهم فيما في أيدي الناس؛ فالوزير إذا عزل صادر أمواله من يخلفه، والتاجر الكبير الثري عرضة لمصادرة الوالي له طمعا في ماله، والغني إذا مات كانت أمواله عرضة للسلب والنهب، إما بادعاء أن ليس له ورثة معروفون ووضع العقبات في سبيل إثبات الوراثة، أو المجابهة بالمصادرة من غير ذلك أسباب. فالإخشيد في مصر كان إذا توفي قائد من قواده أو كاتب من كتابه تعرض لورثته، وأخذ منهم وصادرهم، وكذلك كان يفعل مع التجار المياسير.
والوزير المهلبي لما مات قبض معز الدلة تركته وصادر عياله، وكذلك فعل بابن العميد، وهكذا. ثم إن اضطراب الحالة المالية وعدم أمن الناس على أموالهم ينتج حتما عدم انتظام الدخل والخرج فتسوء حالة الدولة، فيعالجونها بفرض الضرائب القاسية، والإمعان في المصادرات والنهب لكثرة ما يطلب من نفقات الجيوش وأمثالها، فيكون ذلك علاجا يضاعف المرض، وهو ما حدث فعلا، وكلما ساءت الحال كثر العزل والتولية، وقرب إلى الخلفاء والسلاطين من ضمن تعادل الميزانية، وإنما يضمن ذلك بالعسف الذي يئول إلى الخراب.
كان الناس طبقات مختلفة: طبقة تعتز بشرفها نسبها ودمها، من ذلك العلويون والعباسيون، وكلاهما معتز بالقرابة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فالأولون يعتزون بالنسبة لأولاد علي من فاطمة؛ والآخرون للعباس، وبينهما حزازات غالبا.
ويفخر الأولون بأنهم أقرب نسبا ويعتز الآخرون بالخلافة في أيديهم؛ وكان ذلك كله - على كل حال - مصدرا للاعتزاز ومبعثا لتقدير الناس، وكانت تجرى عليهم أرزاق خاصة، وتسند إليهم بعض المناصب الرفيعة كنقابة الأشراف.
ومن المعتزين بالنسب من كان يعتز بأصله من أنه من البيوتات القديمة، كأولاد المهلب بن أبي صفرة الأمير الأموي الكبير، وكانت لهم في هذا العصر العباسي دور بالبصرة، وتولى الوزارة منهم لعضد الدولة البويهي الوزير المهلبي، وسيأتي ذكره، وكأولاد البنويين وهم أبناء الخراسانيين الذي حاربوا لإسناد الدولة إلى بني العباس، ومنهم من كان يعتز بنسبه الفارسي إلى بيت من بيوت الملك أو البيوتات العظيمة في الفرس كآل بويه، وقد يكون من هذه الطبقة الأغنياء، وقد يكون منهم من أخنى عليه الدهر بعد العز، فكان فقيرا يكتفي بالاعتزاز بالنسب.
وهناك طبقة تعتز بمناصب الدولة كالوزراء ورؤساء الدواوين ونحو ذلك، ويعتز بذلك أسرهم وأقاربهم، وهؤلاء في هذا العهد كان اعتزازهم وقتيا، فيكونون في القمة حينا، ثم لا يلبثون أن يكونوا في الحضيض حينا آخر لكثرة ما يعرض لهم من عزل ومصادرة أموال وقتل وتشريد، ثم طبقة الأغنياء من الإرث والتجارة والأعمال، وقد كانوا نسبيا عددا محدودا.
وهؤلاء المعتزون بالمنصب يعيشون في ترف مفرط، وهم الذين نعثر في كتب الأدب والتاريخ على وصف بذخهم وترفهم وإسرافهم، ولكنهم لا يمثلون الشعب، ويتبعهم الأوساط يقلدونهم على قدر استطاعتهم، ويطمحون إلى أن يحذوا حذوهم ما أمكنهم دخلهم.
وبجانب ذلك اعتزاز بالعلم أو الدين، ولكنه اعتزاز في أوساط خاصة؛ فالعلماء يعتز بهم أمثالهم وتلاميذهم ووسطهم المحدود، وهم يتعزون عن فقرهم بهذا الاعتزاز الأدبي. ورجال الدين من الصوفية والوعاظ والفقهاء كذلك يعتزون في أوساطهم الخاصة، وعند العامة الذين يلتمسون منهم البركة. ثم سائر الشعب بعد ذلك فقير لا يعتز بمال ولا نسب ولا جاه، ويصفهم ابن الفقيه بأنهم «زبد جفاء، وسيل غثاء، لكع ولكاع، وربيطة اتضاع، هم أحدهم طعامه ونومه».
وليسوا كما قال، بل هم عماد الأمة وسوادها الأعظم، ومقياس الرقي الحقيقي لها، وما ذنبهم أن همهم طعامهم ونومهم وهم يجدون ثم لا يجدون! لقد كان التوازن الاجتماعي في هذا العصر مختلا من الناحية المالية، فلا تقارب، وما نجده من وصف الإمعان في الحضارة والإسراف في الترف والتفنن في النعيم، إنما هو وصف فئة قليلة العدد، وهي قد أسرفت في الترف على حساب إمعان السواد الأعظم في البؤس، وفي الناحية الخلقية انحلال بين الأغنياء، وتكبر وتجبر من الساسة وأولي الأمر، وذلة وضعة في الفقراء البائسين، وما يروى لنا من عزة وإباء، وتمسك بالحق وبالفضيلة، فصفات الأقلين النادرين. (1-3) الرقيق
كثر الرقيق في هذا العصر كثرة بالغة، وامتلأت القصور به، وكان له أثر كبير في الحياة الاجتماعية، فكثر نسل الجواري واختلطت الدماء حتى الخلفاء أنفسهم كانوا في هذا العصر من نسل السراري، قال ابن حزم في «نقط العروس»: «لم يل الخلافة في الصدر الأول من أمه أمة حاشا يزيد وإبراهيم ابني الوليد، ولا وليها من بني العباس من أمه حرة حاشا السفاح والمهدي والأمين، ولم يلها من بنى أمية بالأندلس من أمه حرة أصلا.»
وكثر تعليم الجواري الغناء، واتخذ أصحابهن لهن بيوتا معدة للسماع في الأحياء المختلفة، وكثرت هذه البيوت في بغداد في هذا العصر، حتى قال أبو حيان التوحيدي: «وقد أحصينا - ونحن جماعة في الكرخ - أربعمائة وستين جارية في الجانبين - جانبي بغداد - ومائة وعشرين حرة، وخمسة وتسعين من الصبيان البدور، يجمعون بين الحذف والحسن والظرف والعشرة، هذا سوى من كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرسه ورقبائه، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط في وقت، أو ثمل في حال، أو خلع العذار في هوى قد حالفه وأضناه.»
37
وهذه المحال العامة للمغنيات كان يتردد عليها الناس للسماع، ولم يتحرج منها حتى العلماء والأدباء والقضاة والأعيان والصوفية، فابن فهم الصوفي يسمع مغنية اسمها «نهاية» جارية ابن المغني، وابن غيلان التاجر يسمع غناء «بلور» جارية ابن اليزيدي، وأبو الحسن الجراحي القاضي يسمع غناء «شعلة»، وأبو سليمان المنطقي الفيلسوف الكبير وشيخ أبي حيان يسمع غناء صبي موصلي فتن الناس في عصره، وهكذا.
والظاهر من قولهم أن محال الغناء كان منها المتهتك الذي يناسب المعربدين، ومنها المتحفظ بعض الشيء الذي يناسب المتحفظين.
وما روي لنا يدل على أن الغناء في هذا العصر كان بالشعر العربي السهل القريب المعنى السائغ اللفظ والوزن؛ فقد روي أن قنوة البصرية كانت تغني مثلا:
يا ليتني أحيا بقربهمو
فإذا فقدتهم انقضى عمري
و«سندس» تغني:
مجلس صبين عميدين
ليسا من الحب بخلوين
قد صيروا روحيهما واحدا
واقتسماه بين جسمين
تنازعا كأسا على لذة
قد مزجاها بين دمعين
الكأس لا تحسن إلا إذا
أدرتها بين محبين
و«درة» تغني:
لست أنسى تلك الزيادة لما
طرقتنا وأقبلت تتثنى
طرقت «ظبية » الرصافة ليلا
فهي أحلى من جس عودا وغنى
كم ليال بتنا نلذ ونلهو
ونسقى شرابنا ونغنى
هجرتنا فما إليها سبيل
غير أنا نقول كانت وكنا!
وإذا بلغت: «كانت وكنا» زلزلت الأرض «فرأيت الجيب مشقوقا والدمع منهملا، ومكتوم السر باديا».
و«علوة» تغني في «درب السلق» ببغداد:
بالورد في وجنتيك! من لطمك
ومن سقاك المدام، لم ظلمك
خلاك لا تستفيق من سكر
توسع شتما وجفوة خدمك
معقرب الصدغ! قد ثملت فما
يمنع من لثم عاشقيك فمك
أظل من حيرة ومن دهش
أقول لما رأيت مبتسمك
بالله يا أقحوان مضحكة
على قضيب العقيق من نظمك؟
و«روعة» جارية ابن الرضى تغني في الرصافة:
وحق محل ذكرك من لساني
وقلبي حين أخلو بالأماني
لقد أصبحت أغبط كل عين
تعانيها فتسعد بالعيان
وهكذا شعر سهل ومعان قريبة كلها تدور حول العشق والغرام والهجر والوصال.
وكانوا في هذه المجالس يطربون طربا صاخبا، فمنهم من يشق إزاره، ومن يضرب بنفسه الأرض، ومن يحملق عينيه، ومن يستغيث، ومن يحوقل
38 ... إلخ، وكانت هذه البيوت تسمى «بيوت القيان»، والقينة في اللغة: الأمة مغنية كانت أو غير مغنية، ولكنها في العرف لا تطلق إلا على الأمة المغنية.
ومن هؤلاء القيان من كن يتاجرن بالعشق والغناء، فيوقعن في أحبالهن الشبان الموسرين حتى يستنزفن مالهم ثم يلفظنهم. وقد وصف واصف هذه الحالة أدق وصف فقال: «إن القينة منهن إذا رأت في مجلس فتى له غنى وكثرة مال ويسار وحسن حال مالت إليه لتخدعه ... ومنحته نظرها وأشارت إليه بكفها، وغمزته بطرفها، وغنت على كاساته، ومالت إلى مرضاته، حتى توقع المسكين في حبالها، وتحويه بلطف تملقها، وتستعين بالمكر والخداع، ثم ترسل إليه من يخبره عن سهرها وقلقها، وتعبث إليه بخاتمها، وخصلة من شعرها، وكتاب قد نمقته بظرفها، ونقطت عليه قطرات من دمعها، وختمته بالغالية والعنبر ... حتى إذا حوت عقله، وسلبت قلبه، أخذت في طلب الهدايا من ثياب وحلي، وشكت من غير ألم؛ لتتوالى عليها هداياه، حتى إذا نفد اليسار، وتلق المال، وأحست بالإفلاس أظهرت الملل، وأعلنت البدل، وتبرمت بكلامه، وضجرت بسلامه، وأخذت في الجفاء والعتاب، وصرفت عنها هواه، ومالت إلى سواه.»
وقد قال أحد الشعراء في مثل هذا الوصف:
صحوت فأبصرت الغواية من رشدي
وأيقنت أني كنت جرت عن القصد
فلا يعشقن من كان يعشق قينة
فما هو منها في سعيد ولا سعد
تودك ما دامت هداياك جمة
وترفدك عشقا ما بقيت أخا رفد
إذا ما رأت في مجلس من تخاله
غنيا حبته بالتحية والود
فذا دأبها حتى يعود من الهوى
سقيم فؤاد ما يعيد ولا يبدي
فتفصد لا من حاجة لفصادها
ولكن لتكليف الهدية في الفصد
فمن بين خلخال يصاغ وخاتم
ومن دملج يهدى على أثر العقد
فذا فعلها حتى إذا عاد مفلسا
تجنت وأبدت جانب الهجر والصد
فقولا لمن يهوى القيان تفهموا
مقالي فإني قد نصحت لكم جهدي
39
ونشأ عن هذا جدل في أيهما خير: عشق القيان أو عشق الحرائر؟ فيقول بعض الظرفاء:
ليس عشق الإماء من شكل مثلي
إنما يعشق الإماء العبيد
صل إذا ما وصلت حرة قوم
قد حماها آباؤها والجدود
ويقول غيره: «عليك بالقيان فإن لهن فطنا وعقولا ليست لكثير من النساء.»
وقد كان من أثر الطابع العلمي الذي طبع هذا العصر أن تعرض العلم لهؤلاء الإماء يؤلف فيهن الكتب، فألف ابن بطلان كتابه العلمي في تجارة الرقيق.
40
وتبعه غيره، فذكروا أجناس العالم وأوصاف الرقيق من كل جنس، وما يمتزن به، وما يعاب عليهن، والأعضاء وأوصاف الحسن فيها وأوصاف عيوبها، ودلائل الفراسة على حال الغلام أو الجارية، وحيل النخاسين، وكيف يسترون العيوب ... إلخ.
كما فلسفوا الكلام في الحسن، وحاولوا وضع قواعد للجمال، ووجد من يسمى «جهابذة النقد» وهم الخبراء في الجمال، قال أبو الفرج: «أكثر البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابذة النقد، يقدمون المجدولة التي تكون بين السمينة والممشوقة، ولا بد أن تكون كاسية العظام ...» إلخ.
وتكلموا في الألوان وحسنها، وقال أبو الفرج الأصفهاني:
41 «يمازج البياض لونان يزيدانه حسنا: الحمرة والصفرة، فأما الحمرة فتعتري البياض من رقة اللون وصحة الدم، وأما الصفرة فتعتري البيض لاستهتارهن وملازمتهن الكن والنعمة والخفض والدعة، وتعتريهن أيضا لملازمتهن التضمخ بالطيب، ويقال إن المرأة إذا كانت عتيقة الحسن ناعمة البدن فإن لونها يكون من أول النهار إلى ابتداء العشية يضرب إلى الحمرة، ومن ابتداء العشية إلى آخر الليل يضرب إلى الصفرة.» وأفاضوا في ذكر محاسن كل عضو وعيوبه من الشعر والجبين والحواجب والعيون والأنوف والخدود والشفاه والثغور والأعناق والمعاصم والأعضاء، والأنامل وتطريفها بالحمرة والسواد، والنحور والصدور والثدي، واختلاف الأذواق في كبرها أو صغرها، والخصور والسوق والأقدام، ومزجوا ما قيل في كل ذلك من التعبير الدقيق في اللغة بما قيل من عيون الأدب بما قاله جهابذة النقد.
كما تفننوا في دقة الفروق بين المغنيات، وفلسفة الغناء، «فعلوة» أحسن ما تكون إذا رفعت عقيرتها، و«نهاية» إذا اندفعت في شدوها، و«بلور» إذا رجعت، و«قلم» إذا تنوأت في استهلالها، وتضاجرت على ضجرتها، وتذكرت شجوها الذي قد أضناها وأنضاها، و«سندس» إذا تشاجت وتدللت وتفتلت وتقتلت وتكسرت.
وتفلسفوا هل الغناء لذة الحس أو لذة العقل؟ ولم يكون الغناء ألذ وأطيب إذا سند المغني آخر؟ وهكذا.
42
وكان الرقيق صنفين متميزين: صنف أبيض، وصنف أسود ويشمل الحبشان؛ فالصنف الأبيض كان من الترك والصقالبة، والأرمن واليونان، وكانت أكثر أسواقه سوق سمرقند ويأتي إليها رقيق تركستان وما وراء النهر والبلغار، وسوق شرق أوروبا وهو يخترق ألمانيا إلى الأندلس، وإلى موانئ إيطاليا وفرنسا إلى الشرق، والصنف الأسود كان يجلب من السودان والحبشة وما إليهما.
وكان الرقيق الأبيض أغلى ثمنا وأكثر قابلية لتعلم الفن والموسيقى، وكلما مهرت في فنها بولغ في ثمنها، وكانت هناك أسواق في كل مدينة كبيرة للرقيق، سوق كبيرة فيها حجر يسكنها الرقيق المعرض للبيع، وهذا شأن الرقيق الشعبي، أما الرقيق الخاص الممتاز فيعرضه التجار على الأمراء والأغنياء، أو يعرضونه في بيوتهم الخاصة، كما كان أصنافا من نساء وفتيان ورجال.
وقد قام هذا الرقيق على اختلاف أنواعه بأعمال كثيرة، وتغلغل في الحياة الاجتماعية؛ فمنهم من كانوا جنودا وقوادا تستعين بهم الدولة في حروبها، حتى لقد بلغ بعضهم أرقى المناصب، مثل مؤنس في العراق، وجوهر الصقلي في المغرب ومصر، وكافور الإخشيدي بمصر، وسبكتكين في الأفغان.
ومنهن القيان في محال الغناء العامة، ومنهن أمهات الأولاد، وملك اليمين، يتغلغلن في بيوت الخلفاء والأمراء، والأغنياء والأواسط، ومنهن من يقمن في الخدمة في البيت، وقد يبلغن منزلة عالية.
ومن الرجال الأرقاء من يقوم بالأعمال الصناعية والتجارية لسادته، ومنهم طبقة الخصيان، وقد انتشرت في هذا العصر انتشارا كبيرا.
وقد كثر الخصاء في عهد الأمين، فقد قالوا: إنه بلغ من كلفه بالخصيان أنه «طلبهم وابتاعهم، وغالى بهم، وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه».
43
وقد عقد الجاحظ فصلا ممتعا في كتابه «الحيوان» للخصاء وتأثيره في الجسم والصوت والشعر والأعصاب، وفي الذكاء، كما عرض لأصناف الخصيان من السند والحبشة والنوبة والسودان. ويقول: إن الروم أول من ابتدع الخصاء ... إلخ.
44
وكان الخصاء في البيض والسود، وقل أن كان المسلمون يقومون بالخصاء، ولكنهم يشترونهم بعد أن يخصوا، وقد ارتفعت أثمانهم لتعرضهم للموت من هذا العمل.
وكثر في عصرنا الذي نؤرخه استخدامهم في بيوت الخلفاء والأغنياء، حرصا على النساء، ومنهم من نبغ في القيادة الحربية، كمؤنس القائد، وفائق قائد السامانيين، وبلغ بعضهم منزلة عالية في الإشراف على القصور والحظوة عند الأمراء، كشكر غلام عضد الدولة.
ثم الغلمان في الأوساط المستهترة، حتى وعند بعض الأدباء والعلماء، ونلاحظ ندرة هذا أيام سلطة العنصر العربي في صدر الإسلام. ويحكي الجاحظ أن هذا الولع بالغلمان نشأ في الخراسانيين؛ إذ كانوا يخرجون في البعوث مع الغلمان، وذلك حين سن أبو مسلم الخراساني ألا يخرج النساء مع الجند، خلافا لبني أمية الذين كانوا يسمحون بخروج النساء مع العسكر.
45
فلما جاء هذا العصر نجد الكثير من أحاديث الغلمان في كتب الأدب، وتراجم الرجال والأدباء. ويحدثنا أبو حيان التوحيدي أنه كان في بغداد خمسة وتسعون غلاما جميلا يغنون للناس، وأنه كان بها صبي موصلي مغن، ملأ الدنيا عيارة وخسارة، وافتضح أصحاب النسك والوقار، وأصناف الناس من الصغار والكبار، بوجهه الحسن، وثغره المبتسم، وحديثه الساحر، وطرفه الفاتر، وقده المديد، ولفظه الحلو، ودله الخلوب ... يسرقك منك، ويردك عليك ... فحاله حالات، وهدايته ضلالات، وهو فتنة الحاضر والبادي.
46
كما يحدثنا عن علوان غلام ابن عرس؛ فإنه إذا حضر وألقى إزاره، وحل أزراره، وقال لأهل المجلس: اقترحوا واستفتحوا فإني ولدكم، بل عبدكم لأخدمكم بغنائي وأتقرب إليكم بولائي ... لا يبقى أحد من الجماعة إلا وينبض عرقه، ويهش فؤاده ويذكو طبعه، ويفكه قلبه، ويتحرك ساكنه، ويتدغدغ روحه ... إلخ.
47
وتفننوا في أسماء الغلمان بما يدل على مقصدهم، فسموا ب «فاتن»، و«رائق»، و«نسيم»، و«وصيف»، و«ريحان»، و«جميلة» - هكذا بأداة التأنيث - و«بشرى».
ومن هذا نرى كيف أثر الرقيق أثرا كبيرا من الناحية الاجتماعية والحربية والمالية والأخلاقية. (2) الأدب وتصوير الحياة الاجتماعية
كان النتاج الأدبي في هذا العصر من نظم ونثر صورة صحيحة للحياة الاجتماعية في غناها وترفها من جانب، وفقرها وبؤسها من جانب، وفي اضطراب الشئون السياسية والحياة الاجتماعية، وفي حياة اللهو وحياة الجد، وفي انحلال الأخلاق، وانغماس الأدباء فيها، ونعي بعضهم عليها، إلى غير ذلك من المظاهر، ولعل خير ما يمثل أدب هذا العصر كتاب «يتيمة الدهر» للثعالبي.
وربما كان أكبر من يمثل كتاب النثر: ابن العميد، وابن عباد، والخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني، وأبو حيان التوحيدي، كما كان أكبر من يمثل الشعر: المتنبي، وابن حجاج، والشريف الرضي، وأبو العلاء المعري، والصنوبري.
لقد كان من أعلام الكتاب من هم من الطبقة العليا في المجتمع، كابن العميد، وابن عباد، والوزير المهلبي، والخصيبي، والإسكافي وزير السامانيين، ويلحق بهم أمثال إبراهيم بن هلال الصابي الذي كاد يكون وزيرا.
فهؤلاء - بحكم جاههم وعزهم وترفهم - كان نتاجهم الأدبي مترفا يتأنق في فنه؛ فأناقة الملبس والمأكل والمعيشة جديرة بأن تحمل أصحابها على التأنق في الأدب، فأدب هذا العصر تقدم خطوات في السجع والمحسنات اللفظية، والمبالغة البلاغية، فالصابي وابن عباد أفرطا في السجع، وكادا يلتزمانه، وغيرهما يسجع وإن كان لا يلتزم، هذا إلى الإمعان في الاستعارات والمجازات والتشبيهات، وتفننوا في تزيين الكتابة تفنن أصحاب الطرف فيما يصنعون من حلي وأدوات زينة، وإذ كانوا في مركز رئيسي في الحياة الاجتماعية كان طبيعيا أن يكون نتاجهم هو المثل يقلد ويحتذى، فمن كان أديبا فقيرا تشبه بهم وحذا حذوهم، وهم بذلك قد خلقوا ذوقا عاما في الأدب يستحسن طريقتهم، فجارى الأدباء هذا الذوق، كما تراه عند الثعالبي في كتبه فيما ينشئ وفيما يروي.
وأبو حيان يصف الصاحب ابن عباد بقوله: «كان كلفه بالسجع في الكلام والقلم، عند الجد والهزل، يزيد على كلف كل من رأيناه في هذه البلاد. قلت لابن المسيبي: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة ينحل بموقعها عروة الملك، ويضطرب لها حبل الدولة، ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل، وكلفة صعبة، وتجشم أمور، وركوب أهوال، لما كان يخف عليه أن يفرج عنها ويخليها، بل يأتي بها ويستعملها، ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها.»
هذا إلى الإمعان في المبالغة كقول الصابي: «وصل كتاب قاضي القضاة بالألفاظ التي لو مازجت البحر لأعذبته، والمعاني التي لو واجهت دجى الليل لأزاحته وأذهبته.»
ويقول بديع الزمان الهمذاني لرجل طلب إليه نسخة من رسائله: «ولو قدرت جعلت الورق من جلدي، بل من صحن خدي، والقلم من بناني، والمداد من أجفاني.»
وإلى السجع والمبالغة ضروب من التزاويق، ككثرة التشبيه والاستعارة من مثل قول الصاحب في وصف مجلس: «قد تفتحت فيه عيون النرجس، وتوردت فيه خدود البنفسج وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فارت النارنج، وانطلقت ألسنة العيدان، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وامتدت سماء الند.»
هذا إلى مثل عمل قطع أدبية خالية من بعض حروف الهجاء، أو تقرأ طردا وعكسا ... إلخ.
فهذه التزاويق اللفظية صدى للتزاويق في الحياة الاجتماعية، ونرى كثيرا من الأدب في هذا العصر شكلا تنقصه الروح، كما كانت الحياة الاجتماعية المترفة كذلك شكلا بلا روح.
ويتصل بهذا شيوع المقطوعات الشعرية القصيرة بجانب القصائد الطويلة، ويقابله في الموسيقى الميل إلى ما نسميه «الطقاطيق» بجانب «الأدوار».
ولعل هذا نشأ من كثرة المجالس الأدبية غير الرسمية في منازل الأصدقاء والأغنياء والأدباء، وحبهم للملح والتنادر ووصف ما يعرض، فأبيات قصيرة في الغزل تحوي معنى واحدا رشيقا، وأبيات فيما يعرض من النوادر، كأبيات في إنسان ساقط يلبس عمامة سرية،
48
وفي إنسان شريف الأصل وضيع النفس،
49
وإنسان تولى أقطاعا فوجدها خربة، وفي المهاداة بالنبيذ وفي وصف مجلس أنس ، وفي شكر على هدية، وفي هجاء بخيل أو ثقيل، وفي صف زهر أو تمر،
50
وفي معنى عرض، أو حادث حدث
51
ونحو ذلك. وقد أكثروا من هذه المقطوعات حتى زاحمت القصائد.
52
هذه ناحية، وناحية أخرى وهي قوة أثر الرقيق في الناحية الاجتماعية، وانعكاس صورتها في الأدب؛ فقد ملئ أدب ذلك العصر بوصف القيان والجواري البيض والسود والغلمان، حتى لا نكاد نجد شاعرا إلا وله شعر في هذا الباب.
فقيل الكثير في وصف الجواري البيض وحسنهن، وكان هذا شيئا مألوفا، وسموا النساء البيض الحسان الحمر، وقال شاعرهم:
هجان عليها حمرة في بياضها
يروق بها العينين والحسن أحمر
وشبهوهن بالنار من أجل ذلك، ولكن هام بعض الشعراء بالجواري السود ودافعوا عن حبهن، فأكثر من ذلك الشريف الرضي، فقال من قصيدة:
أحبك يا لون الشباب فإنني
رأيتكما في العين والقلب توأما
سواد يود البدر لو كان رقعة
بجبهته أو شق في وجهه فما
سكنت سواد القلب إذ كنت مثله
فلم أدر من عز من القلب منكما
وما كان سهم العين لولا سواده
ليبلغ حبات القلوب إذا رمى
إذا كنت تهوى الظبي ألمى فلا تلم
جنوني عن الظبي الذي كله لمى
وله قصيدة أخرى في هذا المعنى منها:
لاموا ولو وجدوا وجدي لقد عذروا
وذنب من لام ذنب غير مغتفر
لما تمادوا على عذلي أجبتهمو
بعز معترف لا ذل معتذر
أهوى السواد برأسي ثم أمقته
فكيف يختلف اللونان في نظري؟!
إني علقت سواد اللون بعدكمو
علاقة تشمت الظلماء بالقمر
لو لم يكن فوق لون البيض ما رقمت
صبغ الليالي على الأجياد والعذر
والليل أستر للخالي بلذته
والصبح أفضح للساري على غرر
وللفتى في ضلال الليل معذرة
وما له في الضحى إن ضل من عذر
وكيف يذهب عن قلبي وعن بصري
من كان مثل سواد القلب والبصر
وقبله استوفى هذه المعاني ابن الرومي في قصيدة طويلة منها:
أكسبها الحسن أنها صبغت
صبغة حب القلوب والحدق
يفتر ذاك السواد عن يقق
من ثغرها كالآلئ النسق
كأنها والمزاح يضحكها
ليل تفرى دجاه عن فلق
وقال السلامي:
يا رب غانية بيضاء
53
تصحبني
من العتاب كئوسا ليس تنساغ
أشتاق طرتها أم صدغها ومعي
من كلها طرر سود وأصداغ
وقد قالوا: إن ابن سكرة الشاعر قال في قينة سوداء اسمها «خمرة» عشرة آلاف بيت ... إلخ إلخ.
كما تفننوا في وصف القيان وغنائهن وأكثروا، وزعيمهم في ذلك ابن الرومي، كقصيدته في «وحيد» المغنية:
ظبية تسكن القلوب وترعا
ها وقمرية لها تغريد
حسنها في العيون حسن جديد
فلها في القلوب حب جديد
تتغنى كأنها لا تغني
من سكون الأوصال وهي تجيد
مد في شأو صوتها نفس كا
ف كأنفاس عاشقيها مديد ... إلخ.
ويقول في وصف قينة مغنية وراقصة:
فتاة من الأتراك ترمي بأسهم
يصبن الحشا في السلم لا في المعارك
ظللنا لها نصبا تشك قلوبنا
بذاك الشجا الفتان لا بالنيازك
تطامن عن قد الطوال قوامها
وأربى على قد القصار الحواتك
إذا هي قامت في الشفوف أضاءها
سناها فشفت عن سبيكة سابك
وتبعه الشعراء في هذا العصر الذي نؤرخه، وتفننوا في وصف القينات، فقال ابن زريق الكوفي في قينة تسمى «دبسية» حسنة الغناء قبيحة المنظر:
أبا سعيد أصخ لي
يا سيدي ونديمي
منيت أمس بأمر
من الأمور عظيم
حصلت عند صديق
حر ظريف كريم
أسقى على شدو «دبس
ية» فتنفي همومي
فكنت حين تغني
لدى جنان النعيم
وإن نظرت إليها
ففي العذاب الأليم
وإن شربت بصوت
فالراح بالتسنيم
وإن شربت بلحظ
فالمهل بالزقوم
فكان سمعي بخير
ومقلتي في الجحيم ... إلخ إلخ.
والطامة الكبرى ما غشي المجتمع من حب للغلمان ظهر صداه في الأدب.
لقد كان أبو نواس يغني في هذا الباب وحده أو مع فئة قليلة، فلما جاء هذا العصر كان أكثر الشعراء يطرقون هذا الباب، ويفيضون فيه في تحفظ حينا، وفي استهتار أحيانا، كأبي تمام والبحتري والصنوبري، وكشاجم وأبي الفتح البستي وابن حجاج، وابن سكرة، والقاضي التنوخي، والثعالبي، وأبي فراس، والصابي كلهم له أشعار كثيرة في هذا الباب تفننوا فيها، حتى الوزير المهلبي لم يمنعه منصبه أن يقول في مملوك تركي جميل قاد جيشا لمحاربة بني حمدان:
ظبي يرق الماء في
وجناته ويروق عوده
ويكاد من شبه العذا
رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره
سيفا ومنطقة تئوده
جعلوه قائد عسكر
ضاع الرعيل ومن يقوده
وكان هؤلاء الغلمان مملوكين كما تملك الجواري، يقومون بالخدمة في البيوت وفي الأعمال التجارية، وهؤلاء الشعراء يتغزلون فيمن يملكون أو يملكه غيرهم. ومن أشهر قصائد ذلك العصر قصيدة سعيد الخالدي التي يصف فيها غلامه بأنه معشوقه، وخازن داره، ومدبر ماله، وناقد شعره، وطاهيه ونديمه، وغدت القصيدة مضرب المثل في هذا الباب:
ما هو عبد لكنه ولد
خولينه المهيمن الصمد
شد أزري بحسن خدمته
فهو يدي والذراع والعضد
صغير سن كبير منفعة
تمازج الضعف فيه والجلد •••
أنسي ولهوي وكل مأربتي
مجتمع له فيه ومنفرد
خازن ما في داري وحافظه
فليس شيء لديه يفتقد
ومنفق مشفق إذا أنا أس
رفت وبذرت فهو مقتصد
ويعرف الشعر مثل معرفتي
وهو على أن يزيد مجتهد
وصيرفي القريض وزان دي
نار المعاني الرقاق منتقد
يصون كتبي فكلها حسن
يطوي ثيابي فكلها جدد
وأبصر الناس بالطبيخ فكال
مسك القلايا والعنبر الثرد ... إلخ.
بل نرى من هذا ظاهرة غريبة، وهي عدم تحرج ذوي المناصب الكبيرة كالوزراء والقضاة من كثرة القول في هذا الباب، مما يدل على أن الرأي العام قد فتر استنكاره له، وعده من باب الظرافة والمجون إلا في الأوساط المتشددة، كالذي ذكر أبو حيان التوحيدي من أن أبا عبد الله البصري كان يسمع غلاما يغني:
أنسيت الوصل إذ بت
نا على مرقد ورد
واعتنقنا كوشاح
وانتظمنا نظم عقد
وتعطفنا كغصني
ن فقدانا كقد
فطرب أبو عبد الله طربا شديدا، فعابوه على ذلك، وقدحوا في دينه وألصقوا به الريبة.
54
وظاهرة أخرى وهي أن كثرة المجون، والخلاعة، واللهو واللعب في هذه الأوساط الاجتماعية أنتجت شاعرين يمثلان هذا أشنع تمثيل، وهما: ابن حجاج وابن سكرة؛ فابن حجاج قال فيه الثعالبي: «إنه في شعره لا يستتر من العقل بسجف، ولايبني جل قوله إلا على سخف ... يمد يد المجون فيعرك بها أذن الحزم، ويفتح جراب السخف فيصفع بها قفا العقل.» وقد استعمل في شعره بعض ألفاظ العوام، وشبه أفظع التشبيهات وأشنعها، ومع هذا كله راج شعره رواجا كثيرا، فكان يباع ديوان شعره من خمسين دينارا إلى سبعين، ونفق شعره عند العامة والخاصة «فكانت تتفكه الفضلاء بثمار شعره، وتستملح الكبراء ببنات طبعه، وتستخف الأدباء أرواح نظمه، ويحتمل المحتشمون فرط رفثه وقذعه ... ولقد مدح الملوك والأمراء والوزراء والرؤساء، فلم يخل قصيدة فيهم من سفاتج هزله، ونتائج فحشه، وهو عندهم مقبول الجملة، غالي مهر الكلام، موفور الحظ من الإكرام والإنعام».
ومثله ابن سكرة، قال فيه الثعالبي أيضا: «فائق في قول الملح والظرف، أحد الفحول الأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد.»
ولم يتحرجا من أن يقولا أقبح المعاني في أصرح لفظ، ومع ذلك جرى شعرهما في الناس، واختار الثعالبي منه أخفه، وهذا الأخف مقذع شنيع؛ فرواج هذا الشعر أكبر دليل على ما وصل إليه الانحلال الخلقي في هذا المجتمع.
هذه الصورة للأدب تصور الحياة الاجتماعية في نعيمها وترفها، ولهوها ومجونها. وثم وجه آخر هو الفقر والبؤس والتحايل على كسب العيش انعكست صورته على الأدب أيضا.
من ذلك أن جماعة رأوا حياة الأغنياء والتجار والأدباء والعلماء في حرج وشدة، فالأغنياء يصادرون، والتجار ترهقهم الضرائب، والأدباء والعلماء لا يجدون ما يأكلون إلا إذا اتصلوا بأمير، فاتخذوا وسيلتهم في كسب العيش التسول عن طريق الأدب الشعبي أحيانا، والنصب والاحتيال أحيانا، ووجدت طائفة كبيرة من هذا القبيل سموا الساسانيين أو بني ساسان، أو أهل الكدية.
وساسان هذا قد رووا فيه أقوالا مختلفة، فمن قائل إنه ساسان بن أسفندريار، كان من حديثه أنه لما حضر أباه الوفاة فوض أمر الحكم إلى ابنته، فأنف ساسان من ذلك، واشترى غنما وجعل يرعاها، وعير بأنه راعي الغنم، فقيل ساسان الراعي، وساسان الكردي، ثم نسب إليه كل من تكد «تسول» فيقال فلان بن بني ساسان. وقيل كان ساسان ملكا من ملوك العجم حاربه دارا ملك الفرس، ونهب كل ما كان له، واستولى على ملكه فصار رجلا فقيرا يتردد في الأحياء ويستعطي، فضرب به المثل. وقيل إنه كان رجلا فقيرا بصيرا في استعطاء الناس والاحتيال، فنسبوا إليه.
وكانت طائفة يتجول أفرادها في البلاد يستجدون ويحتالون، وكان عند بعضهم مقدرة أدبية يحتالون بها على الناس كشأن ما نسميهم في مصر «الأدباتية»، وعند بعضهم دهاء وحيل لابتزاز المال.
هذه الطائفة كان من صداها في هذا العصر ظهور نوع من الأدب جديد هو مقامات بديع الزمان الهمذاني، ثم الحريري، وكلها حكايات قصيرة تدور كل منها حول حيلة يحتالها رجل لكسب شيء من المال عن طريق التكدي، صيغت في أسلوب أدبي. وكل مقامات البديع بطلها أبو الفتح الإسكندري، وكل مقامات الحريري بطلها أبو زيد السروجي، والبطل يحتال لقنص المال في كل مقامة.
وقد ورد ذكر الساسانيين في مقامات بديع الزمان، وأوضح لنا الحريري في مقامته المسماة بالمقامة الساسانية كثيرا من البواعث الدافعة على التسول، فقال: «سمعت أن المعايش إمارة، وتجارة، وزراعة، وصناعة، فمارست هذه الأربع؛ لأنظر أيها أوفق وأنفع، فما أحمدت منها معيشة، ولا استرغدت عيشة، أما فرص الولايات، وخلس الإمارات، فكأضغاث الأحلام، والفيء المنتسخ بالظلام، وناهيك غصة بمرارة الفطام، وأما بضائع التجارات فعرضة للمخاطرات، وطعمة للغارات، وما أشبهها بالطيور الطائرات، وأما اتخاذ الضياع، والتصدي للازدراع، فمنهكة للأغراض، وقيود عاتقة عن الارتكاض، وقلما خلا ربها عن إذلال، أو رزق روح بال، وأما حرف أولي الصناعات فغير فاضلة عن الأقوات، ولا نافقة في جميع الأوقات ... ولم أر ما هو بارد المغنم، لذيذ المطعم، وافي المكسب، صافي المشرب؛ إلا الحرفة التي وضع ساسان أساسها، ونوع أجناسها، وأضرم في الخافقين نارها، وأوضح لبني غبراء منارها ... إذ كانت المتجر الذي لا يبور، والمنهل الذي لا يغور ... وكان أهلها أعز قبيل، وأسعد جيل، لا يرهقهم مس حيف، ولا يقلقهم سل سيف ... ولا يرهبون ممن برق ورعد، ولا يحفلون بمن قام وقعد ... أينما سقطوا لقطوا، وحينما انخرطوا خرطوا، لا يتخذون أوطانا، ولا يتقون سلطانا.»
ثم بين شروط النجاح فيها، وقال: إنها تحتاج إلى النشاط والحركة، وإلى الفطنة، وإلى القحة، وإلى المكر والحيلة، وروى أنه كان مكتوبا على عصا شيخنا ساسان: «من طلب جلب، ومن جال نال.» كما أنها تحتاج إلى الخلب بصوغ اللسان، وسحر البيان، والصبر، وعدم اليأس، وتفضيل الذرة المنقودة على الدرة الموعودة ... إلخ.
واشتهر من شعراء بني ساسان في القرن الرابع شاعران كبيران يعاصران البديع، ويسبقان الحريري، وهما الأحنف العكبري، وأبو دلف الخزرجي. فالأحنف كان آدب بني ساسان ببغداد، وقد اشتهر بالظرف والشعر الرقيق في الحرفة الساسانية، كقوله:
قد قسم الله رزقي في البلاد فما
يكاد يدرك إلا بالتفاريق
ولست مكتسبا رزقا بفلسفة
ولا بشعر ولكن بالمخاريق
والناس قد علموا أني أخو حيل
فلست أنفق إلا في الرساتيق
ووضع قصيدة دالية في هذه الحرفة يقول فيها:
على أني بحمد الله
في بيت من المجد
بإخواني بني ساسا
ن أهل الجد والجد
لهم أرض خراسان
فقاشان إلى الهند
إلى الروم إلى الزنج
إلى البلغار والسند
إذا ما أعوز الطرق
على الطراق والجند
حذارا من أعاديهم
من الأعراب والكرد
قطعنا ذلك النهج
بلا سيف ولا غمد
ومن خاف أعاديه
بنا في الروع يستعدي
55
وأبو دلف كان من الواردين على الصاحب بن عباد في الري، وقد طوف البلاد مكديا، وحاكى الأحنف العكبري في داليته الساسانية برائية مثلها مطلعها:
جفون دمعها يجري
لطول الصد والهجر
ومنها:
على أني من القوم ال
بهاليل بني الغر
بني ساسان والحامي
الحمى في سالف العصر
فنحن الناس كل النا
س في البر وفي البحر
أخذنا جزية الخلق
من الصين إلى مصر
إلى طنجة بل في ك
ل أرض خيلنا تسري
لنا الدنيا بما فيها
من الإسلام والكفر
فنصطاف على الثلج
ونشتو بلد التمر ... إلخ.
وقد استعمل في هذه القصيدة الألفاظ الاصطلاحية لبني ساسان، وأبان كثيرا من أنواع حيلهم، وطريقة ابتزازهم أموال الناس، فمن باب استعمال الألفاظ - مثلا - استعماله دور إذا دار على السكك والدروب وسخر بالنساء ، ورعس بمعنى طاف على حوانيت الباعة، فأخذ من هنا جوزة ومن هنا لوزة؛ «والكذابات» بمعنى العصابات يشدونها على جباههم يوهمون بها أنهم مرضى ... إلخ.
واستعمال الحيل مثل إيهام الناس أنه يجمع الصدقة للخروج إلى الغزو، أو يحتال على من أصيب بوجع الضرس فيجعل دود الجبن فيما بين أسنانه ثم يخرجه ويوهم أنه أخرجه بالرقية، أو يتعامى وهو بصير، أو ينظر في الفال والزجر والنجوم، أو يعطي قوما دراهم حتى يأتوا ويسألوا عن نجمهم تحميسا للناس أن يحذوا حذوهم ... إلخ.
ولهم لغة خاصة وأدب خاص واصطلاحات لا يكاد يفهمها غيرهم، وتسمى «مناكاة بني ساسان».
قال الثعالبي في وصف الصاحب بن عباد: «وكان الصاحب يحفظ مناكاة بني ساسان حفظا عجيبا، ويعجبه من أبي دلف وفور حظه منها، وكانا يتجاذبان أهدابها، ويجريان فيما لا يفطن له حاضرهما.»
56
ولعل المناكاة مفاعلة من نكى بمعنى أتى عملا لإغضاب الغير وقهره، ومنه «ضعيف النكاية أعداءه»، فيظهر أنه كان من حيلهم أنهم يتهاجون ويتسابون ويتخاصمون تصنعا حتى يستلبوا مال الناس؛ ولعل المقامة الدينارية في مقامات البديع - التي تمثل رجلين يتسابان بأقبح السباب من هذا الضرب - وقد جمع فيها كل سب كان في عصره من مثل: يا برد العجوز، يا وسخ الكوز، يا درهما لا يجوز، يا سنة البوس، يا كوكب النحوس ... إلخ. فرد عليه الآخر بقوله: يا قراد القرود، يا لبود اليهود، يا عدما في وجود ... إلخ. وقد ذكر البديع في هذه المقامة أنهما كانا من بني ساسان.
فترى من هذا أن الضرب من الحفاة الذي جر إليه سوء الحالة الاقتصادية، وعدم التوازن الاجتماعي، والإفراط في البؤس بجانب الإفراط في الترف، قد انعكست صورته على الأدب، فأخرج المقامات وغيرها من أدب التكدي، كما أخرج شعرا كثيرا في شكوى الزمان وسوء الحال، من مثل ما نراه في شعر ابن لنكك البصري كقوله:
يا زمانا ألبس الأح
رار ذلا ومهانه
لست عندى بزمان
إنما أنت رمانه
كيف نرجو منك خيرا
والعلا فيك مهانه
أجنون ما نراه
منك يبدو أم مجانه
وقوله:
جار الزمان علينا في تصرفه
وأي دهر على الأحرار لم يجر
عندي من الدهر ما لو أن أيسره
يلقى على الفلك الدوار لم يدر
وقوله:
نحن والله في زمان غشوم
لو رأيناه في المنام فزعنا
يصبح الناس فيه من سوء حال
حق من مات منهم أن يهنا ... إلخ إلخ.
وله في ذلك الشيء الكثير بين جد وهزل. •••
وكانت في هذا العصر مجموعة من الشعراء تمثل صور الحياة الاجتماعية المختلفة؛ فالصنوبري الحلبي يمثل الترف والنعيم والعيش الرغد، ينعم بالقصر الفخم والحديقة الغناء، ويتغنى بجمال الأزهار وجمال الطبيعة، فله شعر في الورد، وشعر في حديقة يعتز بها ويقول فيها:
لو كنت أملك للرياض صيانة
يوما لمل وطئ اللئام ترابها
وقطع في وصف الورد والنرجس والأقحوان والنمام والسوسن والشقيق والبنفسج والياسمين ... إلخ، ثم غزل قليل.
ويقيم مناظرة بين الورد والنرجس فيقول:
زعم الورد أنه هو أبهى
من جميع الأنوار والريحان
فأجابته أعين النرجس الغ
ض بذل من فوقها وهوان
أيهما أحسن التورد أم مق
لة ريم من فضة الأجفان؟
أم فماذا يرجو بحمرته الخ
د إذا لم يكن له عينان؟!
فزها الورد ثم قال مجيبا
بقياس مستحسن وبيان
إن ورد الخدود أحسن من عي
ن بها صفرة من اليرقان
والذي مكن له في هذا غناه؛ فقد كان له بمدينة حلب قصر فخم حوله الغروس والرياحين وشجر النارنج، إلى ذوق فني يغني في جمال الأزهار.
يقابله الشاعر ابن لنكك الذي يصور البؤس والفقر وعبث الأقدار، وقد قال فيه الثعالبي: «كانت حرفة الأدب تمسه وتجمشه، ومحنة الفضل تدركه فتخدشه، ونفسه ترفعه، ودهره يضعه.» فأفاض في شكوى الزمان، وجوده، وعجائبه:
نحن من الدهر في أعاجيب
فنسأل الله صبر أيوب
أقفرت الأرض من محاسنها
فابك عليها بكاء يعقوب
وقد سبق أن ذكرنا بعض شعره في هذا الباب.
وإذا كانت الحياة الاجتماعية بين بائس ومجدود، غنى ذلك نغمة مرحة في ترفه ونعيمه وزهوره، وغنى هذا نغمة حزينة في بؤسه وفقره وخذلان زمانه له.
والمتنبي يمثل في مجتمعه ما كان من أحداث في الحروب بين الحمدانيين والروم؛ فقد كان شاعر سيف الدولة، وكان شاعرا فارسا يغشى الحروب مع سيف الدولة، ويسجل حوادثها تسجيلا أدبيا في النصر والهزيمة، والضرب والطعان والأسر والسبي، فشعره في هذا لمعمعة القتال والمعيشة الحربية.
ثم هو يمثل الأدب الأرستقراطي، فهو يمثل الأدب الذي يعيش على موائد الملوك، فلم يكن يمدح إلا ملكا أو شبه ملك، وقد ترفع عن مدح الصاحب بن عباد وهو ما هو في منزلته وجاهه. فشعره ينقسم إلى سيفيات في سيف الدولة، وكافوريات في كافور، وعضديات في عضد الدولة؛ ولكنه في مديحه هذا يرفع نفسه إلى مرتبة من يمدحه، فيكون صديقا أو حبيبا لا عبدا مستجديا؛ فيقول في كافور:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة
ضعيف هوى يبغى عليه ثواب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي
على أن رأيي في هواك صواب
إذا نلت منك الود فالمال هين
وكل الذي فوق التراب تراب
ويقول في ابن العميد:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا
فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
فجد لي بقلب إن رحلت فإنني
مخلف قلبي عند من فضله عندي
وفي سيف الدولة:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم •••
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ونقد المجتمع نقدا مرا؛ ولكن لا من ناحية أنه لم يجد ما يأكل كابن لنكك، ولا من ناحية أن مجتمعه في نفسه فاسد كأبي العلاء، ولكن من ناحية أنه وازن بين نفسه وكفايتها في الحرب والأدب وطلب المجد، وبين ملوك زمانه وأمرائه، فرأى أنه أحق بالملك أو بالإمارة منهم، فهجا المكان والزمان والدنيا:
لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب
فكل بعيد الهم فيها معذب •••
ودهر ناسه ناس صغار
وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهمو بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
فشبه الشيء منجذب إليه
وأشبهنا بدنيانا الطغام •••
إذا ما الناس جربهم لبيب
فإني قد أكلتهمو وذاقا
فلم أر ودهم إلا خداعا
ولم أر دينهم إلا نفاقا •••
يقولون لي: ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
57
كأن بنيه عالمون بأنني
جلوب إليهم من معادنه اليتما
وما الجمع بين الماء والنار في يدي
بأصعب من أن أجمع الجد والفهما •••
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
ويرى علة فساد المجتمع فساد ملوكه، ولا يصلح للعرب إلا ملوك من العرب، وهو يرشح بذلك لنفسه:
سادات كل أناس من نفوسهم
وسادة المسلمين الأعبد القزم
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
ألا فتى يورد الهندي هامته
كيما تزول شكوك الناس والتهم •••
ردي حياض الردى يا نفس واتركي
حياض خوف الردي للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
أيملك الملك والأسياف ظامئة
والطير جائعة لحم على وضم؟
ميعاد كل رقيق الشفرتين غدا
ومن عصى من ملوك العرب والعجم
فهو بذلك كله ينقد المجتمع ويذم الدهر من ناحيته الشخصية، وهو أنه لم ينله مقصده.
كما أنه يمثل مجتمعه من ناحية أخرى دقيقة؛ فقد كان في الشام والعراق ومصر بدو وحضر، وتثقف المتنبي ثقافة بدوية وحضرية، وأقام في البدو حينا وعاش عيشتهم واستفاد من ألفاظهم وأساليبهم، ثم خالط سيف الدولة وكافورا وعضد الدولة، وأكل على موائدهم، ورأى ترفهم نعيمهم، فكان لذلك صدى في شعره؛ فهو بدوي حضري: بدوي في لفظه وأسلوبه وقوته وجزالته، وفي كثير من معانيه وأوصافه كوصف الخيل والسلاح، حضري في بعض معانيه كوصف الفازة من الديباج عليها صورة ملك الروم وصور وحش وحيوان، ويصف بطيخة من الند في غشاء من خيزران عليها قلادة لؤلؤ وعلى رأسها عنبر قد أدير حولها ... إلخ.
ويحن إلى الأعرابيات، ويتشبب بهن، ويفضلهن على الحضريات:
من الجآذر في زي الأعاريب
حمر الحلى والمطايا والجلابيب •••
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة
وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
لا برزن من الحمام مائلة
أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة
تركت لون مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته
رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
فهو يمثل أيضا ما كان في عصره من بداوة وحضارة، وبساطة في العيش وتركيب.
وابن حجاج، وابن سكرة يمثلان الأدب الشعبي، وحالة العصر في مجونه وهزله، وفساده وانحطاطه، وأدبه المكشوف الذي لا يرعى خلقا ولا ذوقا، فكل لفظة مهما تعرت وسقطت صالحة لأن تكون في الشعر، وأن تقال في حضرة الملوك والوزراء والقضاة، وتختار فيما يختار للمتأدبين، كما فعل الثعالبي في اليتيمة، وقد سبق بعض القول فيهما.
والشريف الرضي يمثل طبقة الأشراف المثقفة الواسعة العلم، المعتزة بجاهها ونسبها ومنصبها، تعيش عيشة الترف، وتجالس الخلفاء والوزراء من ناحية، وتتصل بحكم منصبها بالشعب - إذ كان نقيب الأشراف - من ناحية أخرى.
فيقول الشعر اعتزازا بالجاه والنسب، ويخاطب الخليفة القادر:
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا كلانا في العلاء معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عامل منها وأنت مطوق
وهو لمركزه يقيد كثيرا من أحداث التاريخ العظمى التي شاهدها، وقد شاء القدر أن يكون في مجلس الخليفة الطائع يوم فتك الفرس به، كما كان البحتري في مجلس المتوكل يوم فتك الترك به، وخرج هذا - كما خرج ذاك - هائما، وقال «الشريف» في ذلك قصيدته التي مطلعها: «لواعج الشوق تخطيهم وتصميني » وقد تقدمت نبذة منها. وله في ذلك قصيدة أخرى منها:
إن كان ذاك الطود خ
ر فبعد ما استعلى طويلا •••
لهفي على ماض قضي
ألا ترى منه بديلا
وزوال ملك لم يكن
يوما يقدر أن يزولا
وقال قصيدته الأخرى:
أي طود دك من أي جبال
لقحت أرض به بعد حيال
ما رأى حي نزار قبلها
جبلا سار على أيدي رجال
عقروا ليثا ولو هاهوا به
كان بعد العقر أرجي للصيال •••
وكأني خلل الغيب أرى
نغرة من جرحها بعد اندمال
وإذا الأعداء عدوك لها
سلموا فضلك من غير جدال
لا أضاعوا رابئا في قلة
كلأ المجد وقد نام الكوالي
58
يوم للشعب دهان من دم
والمواضي للمقاديم
59
فوالي •••
فاتني منك انتصار بيميني
فتلافيت انتصارا بمقالي ... إلخ.
وقد كانت ثورة البحتري أقوى وأصرح وأعنف، إذ لم تكن النفوس اعتادت «التقية» من كثرة ما أصابها من ظلم.
هذا إلى ما يسجله من أحداث كثيرة من رجال الدولة البويهية.
كما أنه كان شاعر الشيعة يشكو الزمان لعدم إنصافهم، ويعدد مزاياهم واستحاقهم، ويرثي لما أصابهم، ويرثي الحسين ... إلخ، فهو لسان العلويين والطالبيين، وباعث الأمل فيهم في استرداد حقوقهم، ونيل ما فاتهم.
ثم له الناحية الخاصة في حياته، التي يمثل في شعره فيها حياة الأدباء والظرفاء الموسرين من غزل في الحرائر والإماء، من مثل قوله:
وتميس بين مزعفر ومعصفر
ومعنبر وممسك ومصندل
وإذا سألت الوصل قال جمالها
جودي، وقال دلالها لا تفعلي
وفي الغلمان على عادة عصره، مثل قوله في غلام لا يحسن التكلم بالعربية:
حبيبي ما أزرى بحبك في الحشا
ولا غض عندي منك أنك أعجم
بنفسي من يستدرج اللفظ عجمة
كما يمضغ الظبي الأراك ويبغم
وله الأبيات الكثيرة في وصف الزهور، والسماء والنجوم، وحمامة وفرخيها، والبرق والفجر ... إلخ.
ويظهر أنه كان ضعيف الصحة، مصابا بالأمراض، ومعرضا للأخطار، فارتاع من الشيب وأكثر من وصفه، وأجاد في مراثي أصدقائه وأقربائه إجادة فائقة، وقد كان صديقا لكثير من علماء عصره وأدبائهم سبقوه إلى الموت، فخلد عواطفه نحوهم في شعر رقيق.
وأبو العلاء المعري في لزومياته ناقد للمجتمع لا لما جناه المجتمع على شخصه كما فعل المتنبي، ولكن لما جناه المجمتع على نفسه.
فالملوك في وضعهم الحقيقي خدام الرعية، ولكنهم بالفعل ظالموها ومستغلوها:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وهؤلاء الولاة المسيطرون على الناس لا عقل لهم، ولا عدل عندهم، شياطين في ثياب ولاة، لا يهمهم جوع الناس إذا ملئت بطونهم، وخمرت رؤوسهم:
ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل مصر من الوالين شيطان
من ليس يحفل خمص الناس كلهم
إن بات يشرب خمرا وهو مبطان
وحول هؤلاء الولاة بطانة قد جمدت عواطفهم كأنها الحجارة أو أشد قسوة، لا يرحمون دمعة مظلوم، ولا يجيبون صرخة مستغيث:
يجور فينفي الملك عن مستحقه
فتسكب أسراب العيون الدوامع
ومن حوله قوم كأن وجوههم
صفا لم يلين بالغيوث الهوامع
والقضاة لا عقل ولا عدل:
وأي امرئ في الناس ألفي قاضيا
فلم يمض أحكاما كحكم سدوم
وفقهاء، صناعتهم الكلام ولا روح ولا أحلام:
كأن نفوس الناس والله شاهد
نفوس فراش ما لهن حلوم
وقالوا فقيه والفقيه مموه
وحلف جدال والكلام كلوم
ووعاظ، يقولون ما لا يفعلون، ويأتون ما ينكرون:
رويدك قد غررت وأنت حر
بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها على عمد مساء
وشعراء، ليسوا إلا لصوصا يعدون على من قبلهم في سرقة أقوالهم، ويعدون على الأغنياء بمديحهم لسلب أموالهم:
وما شعراؤكم إلا ذئاب
تلصص في المدائح والشباب
أضر - لمن تود - من الأعادي
وأسرق للمقال من الزباب
60
وقوم تسودهم الخرافة فيلجئون إلى المنجمين والعرافين والمعزمين، وما لهؤلاء من علم، ولكنها شباك تنصب لاستدرار الأموال من المغفلين والمغفلات:
متكهن ومنجم ومعزم
وجميع ذاك تحيل لمعاش •••
لقد بكرت في خفها وإزارها
لتسأل بالأمر الضرير المنجما
وما عنده علم فيخبرها به
ولا هو من أهل الحجا فيرجما
ويوهم جهال المحلة أنه
يظل لأسرار الغيوب مترجما
ولو سألوه بالذي فوق صدره
لجاء بمين أو أرم وجمجما •••
سألت منجمها عن الطفل الذي
في المهد كم هو عائش من دهره
فأجابها مائة ليأخذ درهما
وأتى الحمام وليدها في شهره
وبعد أن نقدهم طبقات، من الملوك إلى القضاة إلى الوعاظ إلى التجار إلى النساء، نقدهم جملة، فكل الناس في كل زمان ومكان لا يصلحون إلا للفناء:
وهكذا كان أهل الأرض مذ فطروا
فلا يظن جهول أنهم فسدوا •••
لو غربل الناس كيما يعدموا سقطا
لما تحصل شيء في الغرابيل
أو قيل للنار: خصي من جنى، أكلت
أجسادهم وأبت أكل السرابيل •••
يحسن مرأى لبني آدم
وكلهم في الذوق لا يعذب
ما فيهم بر ولا ناسك
إلا إلى نفع له يجذب
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذب
وسبب فسادهم أنهم منحوا العقل فلم يصغوا إليه ولم يلتفتوا له، وتجاذبهم عقل يرشد وطبع يغوي، فجروا وراء طبعهم وأهملوا عقلهم:
فأوسع بني حواء هجرا فإنهم
يسيرون في نهج من الغدر لاحب
وإن غير الإثم الوجوه فما ترى
لدى الحشر إلا كل أسود شاحب
إذا ما أشار العقل بالرشد جرهم
إلى الغي طبع أخذه أخذ ساحب •••
واللب حاول أن يهذب أهله
فإذا البرية ما لها تهذيب
من رام إنقاء الغراب لكي يرى
وضح الجناح أصابه تعذيب •••
إلى الله أشكو مهجة لا تطيعني
وعالم سوء ليس فيه رشيد
حجى مثل مهجور المنازل داثر
وجهل كمسكون الديار مشيد •••
العقل إن يضعف يكن مع هذه ال
دنيا كعاشق مومس تغويه
أو يقو فهي له كحرة عاقل
حسناء يهواها ولا تهويه •••
فطبعك سلطان لعقلك غالب
تداوله أهواؤه بالتشصص
سقيت شرابا لم تهنأ ببرده
فعنيت من بعد الصدى بالتغصص
وهكذا أفاض في نقد المجتمع ومظاهره ونظمه وأخلاقه، وكان في كل ذلك موفقا كل التوفيق، ومظهر توفيقه أنه استطاع في مهارة أن يدرك عيوب المجتمع في جملتها وتفصيلها، ويعالج ظواهرها، ويعمق في النفس الإنسانية في دقة وتحليل، فيصل إلى دخائلها.
وأبو حيان التوحيدي يمثل في أدبه وكتابته علاقة الأدباء والعلماء بالولاة والوزراء والأغنياء، فإن أعطوا حسنت حالهم ، وإلا ساء عيشهم، إذ لا مورد آخر لهم. وقد كان أبو حيان غير موفق في استجدائه؛ ولعل سبب ذلك أنه لم يكن لبقا ولا ماكرا إلى طول لسان، وإقذاع في الهجو لمن لا يعطيه، فعاش بائسا فقيرا، ومثل ذلك في أدبه فيقول: «فقدت كل مؤنس وصاحب، ومرفق ومشفق، ووالله لربما صليت في المسجد، فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال أو عصار أو نداف أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه؛ فقد أمسيت غريب الحال، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما للحيرة، محتملا للأذى، بائسا من جميع ما ترى، متوقعا ما لا بد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول.»
وقد خاب ظنه فيمن أملهم من مثل ابن العميد، وابن عباد، وابن سعدان، وأبي الوفاء البوزنجاني، فملأ كتبه: «الصداقة والصديق»، و«الإمتاع والمؤانسة»، و«المقابسات» بالشكوى منهم، ثم لم يحظ بطائل.
هذا هو الأدب في ذلك العصر يصور المجتمع في شتى نواحيه.
هوامش
مراكز الحياة العقلية في ذلك العصر
الفصل الأول
مصر والشام
توالى على مصر والشام في هذا العهد الدولة الطولونية (245ه-292ه)، ثم الإخشيدية (323ه-358ه)، والدولة الحمدانية في حلب والموصل (317ه-394ه)، والفاطمية من (سنة 362ه-567ه).
وكانت الحركة العلمية فيها تنمو تبعا لسنة النشوء والارتقاء.
وأظهر الحركات العلمية فيهما الحركة الدينية من تفسير وحديث وفقه وقراءات؛ إذ كانت هي الحركة العلمية الغالبة في المملكة الإسلامية، وكان رجالها أنشط العلماء، وأميلهم إلى الرحلة للإفادة والاستفادة؛ للوازع الديني القوي عندهم، فكان يرد على مصر والشام كثيرون من العلماء الدينيين من العراق وفارس والحجاز والمغرب، فينشرون علمهم ويأخذون ما ليس عندهم، فكان مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط، ومسجد أحمد بن طولون، والأزهر فيما بعد مصدرا لثقافة دينية واسعة. كما كان المصريون والشاميون يرحلون إلى الأقطار الأخرى لأخذ العلم من علمائها.
فكان من أشهر المحدثين والفقهاء في العهد الطولوني وقبله : الربيع بين سليمان المرادي بالولاء، وقد امتاز بسعة الحفظ وجمع الرواية، وإن لم يمتز بالذكاء، له الفضل الأكبر في حفظ مذهب الشافعي وروايته؛ فقد كان تلميذه، وكان مقربا إليه، وقد نفعته قلة ذكائه في اعتماده على الضبط والتثبت أكثر مما يعتمد على الذكاء والاستنتاج، وأدرك الشافعي هذه الميزة فيه فقربه إليه، وعني بتحميله علمه، وأفاد مصر كثيرا فإنه عمر طويلا، إذ عاش نحو ست وتسعين سنة (174ه-270ه)، فيكون قد عمر في العهد الطولوني نحو ستة عشر عاما. وكان يدرس في جامع الفسطاط، ثم استدعاه أحمد بن طولون إلى التدريس في مسجده لما بناه، وقد نشر في مصر أحاديث الشافعي وفقهه، كما روى أحاديث كثيرة رواها عن غير الشافعي كعبد الله بن وهب، ويحيى بن حسان، وأسد بن موسى، وكان قبلة أنظار المحدثين من الأقطار المختلفة، فيرحلون إلى مصر يأخذون عنه وعن أمثاله، فروى عنه من جامعي الكتب الصحيحة أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وغيرهم، وعلى الجملة فكان الربيع بن سليمان مصدر حركة علمية دينية كبيرة.
وكما كان الربيع بن سليمان إمام الشافعية في مصر، كان أبو جعفر الطحاوي إمام الحنفية فيها، وكان من طحا وهي بلدة قديمة كانت في الوجه القبلي من أعمال «المنيا». كان الطحاوي من عرب الأزد الذين نزلوا بها، وتفقه على خاله المزني صاحب الشافعي، ثم تحول إلى مذهب أبي حنيفة، وتعلم على من كان بمصر من العلماء، ومن دخلها من الغرباء، وكان مجتهدا في المذهب يضارع أبا يوسف ومحمدا، استفاد من جمعه بين فقه الشافعية والحنفية، فكان يجتهد، ويخالف أبا حنيفة عند قيام الدليل، وينقد الحديث نقد معنى وإن صح السند في نظر المحدثين، فكانت شخصيته غير شخصية الربيع بين سيلمان، إذ كان هذا عمدة في الرواية، وذاك عمدة في الدراية. وكان من أسبق المؤلفين المصريين في فنون مختلفة: ألف «معاني القرآن»، و«مشكل الآثار»، وشرح بعض كتب محمد بن الحسن، وألف في التاريخ والنوادر الفقهية. عاش من سنة 229ه-321ه، فعاصر الدولة الطولونية كلها ، وترك في مصر حركة حنفية تساير حركة الربيع الشافعية، وتمتاز بإعمال العقل في التشريع بجانب النقل.
كما اشتهر من المالكية روح بن الفرج أبو الزنباع الزبيري المتوفى سنة 282ه، وأحمد بن الحارث بن مسكين المتوفى سنة 311ه. وأمثال هؤلاء كثيرون لا نطيل بذكرهم.
وهذه الدراسة كانت تعتمد على تفهم معاني القرآن ورواية الحديث، وأقوال الأئمة، واستنباط الأحكام، كل على أصول مذهبه، وكانت على نمط الدراسة في العراق موضوعا ومنهجا؛ إذ كانت رحلة العلماء في حركة مستمرة كأن المملكة الإسلامية كلها على اتساع رقعتها بقعة واحدة.
وكان النابغون في مصر من علماء الدين إما من أصل عربي يرجع نسبه على القبائل العربية الفاتحة أو الوافدة، أو من أصل مصري أصله قبطي وأسلم هو أو أسلم أجداده، كما نرى في عثمان بن سعيد الملقب بورش أحد القراء المشهورين؛ فأصله قبطي، وانتهت إليه رياسة الإقراء بالديار المصرية، وقد مات بمصر سنة 197ه، وخلف من حمل علم القراءة بعده، واستمرت حركته إلى هذا العصر الذي نؤرخه.
وربما كان أكبر من يمثل الثقافة الدينية في هذا العصر أيضا أبو بكر بن الحداد، فقد وصفوه بأنه عالم بالقرآن والحديث، والأسماء والكنى، والنحو واللغة، وسير الجاهلية، والشعر والنسب، واختلاف الفقهاء، وكان أعلم أهل وقته، وولي القضاء للإخشيد، وعاش تسعا وسبعين سنة، ومات سنة 344ه، وكان يلقب بفقيه مصر وفصيحها وعابدها، وكان يدرس في جامع عمرو، وأخذ عنه أعلام الجيل الذي بعده.
ويصف ابن زولاق سيبويه المصري، فيقول: «كانت فيه صفات تشبه المتصدرين: يحفظ القرآن، ويعلم كثيرا من معانيه وقراءاته، وغريبه وإعرابه وأحكامه، عالما بالحديث وبغريبه ومعانيه وبالرواة، ويعرف من النحو، والغريب ما لقب بسببه سيبويه، ويعرف صدرا من أيام الناس، والنوادر والأشعار، وتفقه على قول الشافعي.»
فيكاد يكون هذا برنامجا عاما لهذا النوع من الثقافة الدينية.
ولم تكن هناك مدارس في العهد الطولوني والإخشيدي، إنما تلقى الدروس في المساجد كمسجد عمرو، وابن طولون، وفي بيوت الأمراء والوزراء والعلماء، وكانت هناك سوق تسمى «سوق الوراقين» تباع فيها الكتب ، وأحيانا تدور في دكاكينها المناظرات.
1
وكان بجانب الحركة الدينية حركة تعنى بتدوين أحداث مصر وتاريخها، وتسلك في منهجها مسلك المحدثين، غاية الفرق أن المحدثين يجمعون ما روي عن رسول الله والصحابة والتابعين فيما يتعلق بالأحكام الدينية ونحوها، وهؤلاء يروون ما قيل في أحداث التاريخ، إنما الأسلوب واحد في الرواية؛ رجلا عن رجل «حدثنا فلان عن فلان قال»، وقد لا يدققون في هذا الباب دقتهم في باب الأحاديث الدينية؛ ولذلك نرى من تخصص في التاريخ أيضا ممن كانت دراستهم أساسها الحديث والفقه، ولنسق مثلا لذلك: «حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبار، قال: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال: كان عمر بن الخطاب قد أشفق على عمرو بن العاص عند فتحه لمصر فأرسل الزبير في أثره في اثني عشر ألفا، فشهد معه الفتح.»
2
والمؤرخون من هذا النوع أوثق فيما نقلوه عن الفتح الإسلامي وبعده؛ منهم فيما نقلوه عن تاريخ قبل الفتح، فهذا مملوء بالخرافات لجهلهم بالمصادر الصحيحة في تاريخ اليونان والرومان ومن قبلهم إلى قدماء المصريين.
وقد اشتهر من هؤلاء ثلاثة مؤرخين في هذا العصر: (1)
ابن يونس:
وهو أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى من بيت عرف بالحديث والفقه، عربي الأصل من قبيلة الصدف، كان جده من أصحاب الشافعي، وقد قال فيه الشافعي: «ما رأيت بمصر أعقل من يونس.» وانتهت إليه رياسة العلم بمصر، فجاء حفيده هذا يعنى بتاريخ مصر بعد أن تثقف بالفقه والحديث، وقرأ ما كتبه مؤرخو مصر قبله كابن عبد الحكم وغيره، وقد عاش في العهد الطولوني والإخشيدي، عاش من (281ه-347ه)، ووجدت عنده العصبية لمصر يؤرخها ويعنى بحوادثها ورجالها، وقد جمع لها تاريخين: أحدهما - وهو الأكبر - يختص بالمصريين منشأ، والآخر صغير فيمن ورد على مصر من الغرباء، وقد عني بجمع أحوال الناس، مطلعا على ما ألف فيها لعصره، واشتهر بين المصريين بذلك، فقد قال أحد شعرائهم في رثائه:
ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه
حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا
نشرت عن مصر من سكانها علما
مبجلا بجمال القوم منصوبا
كشفت عن فخرهم للناس ما سجعت
ورق الحمام على الأغصان تطريبا
أعربت عن عرب، نقبت عن نخب
سارت مناقبهم في الناس تنقيبا
أنشرت ميتهم حيا بنسبته
حتى كأن لم يمت إذ كان منسوبا
ومهما كان هذا الشعر ضعيفا، ففيه دلالة على تقدير هذا المؤرخ واتجاهه في نشر مفاخر مصر ورجالها. (2)
الكندي:
محمد بن يوسف من كندة، كان من أعلم الناس بتاريخ مصر، وأهلها وأعمالها وثغورها، وهو مصري نشأ بمصر ومات بها (283ه-350ه).
وقد ثقف ثقافة محدثين، وكان أشهر أساتذته ابن قديد، والنسائي أحد مؤلفي الصحاح، وقد زار النسائي مصر إذ كان عمر الكندي سبعة عشر عاما، وأقام بها زمنا فأخذ عنه الكندي، ثم عني بتاريخ مصر، وألف في ذلك كتبا كثيرة، فألف في ولاة مصر وقضاتها - وقد وصل إلينا هذا الكتاب - وألف في خطط مصر، وكتابا في موالي مصر، وقد كانت هذه الكتب مما اعتمد عليها المقريزي في خططه. وكتابه الذي وصل إلينا عن قضاة مصر وولاتها يلقي لنا ضوءا كبيرا على حالة مصر السياسية والاجتماعية والأدبية، إذ يعرض للأحداث التي حدثت في عهد كل وال، وكيف تصرف فيها، وما قيل فيها من الشعر. (3)
ابن زولاق:
وهو الحسن بن إبراهيم الليثي بالولاء. عني كذلك بتاريخ مصر، فأكمل أخبار قضاة مصر للكندي إلى سنة 386ه؛ أي قبل وفاته بسنة، فقد مات سنة 387، وعني بخطط مصر فألف فيها، وكانت خططه أساسا لمن أتى بعده من مؤلفي الخطط كالقضاعي، وابن بركات، ثم المقريزي.
كما ألف لنا كتابا في أخبار سيبويه المصري أحد عقلاء المجانين، فروى لنا طرفا من جيد أقواله، وغريب أحداثه، وأفادنا به فوائد كثيرة عن الحالة الاجتماعية في العهد الإخشيدي.
وجاء مصر في العصر الإخشيدي المؤرخ المشهور «المسعودي» بعد أن رحل إلى فارس والهند، وسيلان والصين، وطاف المحيط الهندي، ورحل رحلة أخرى إلى ما وراء أذربيجان وجرجان، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر، ونزل الفسطاط وأقام بمصر نحو سنتين إلى أن توفي سنة 346ه، وكان مؤرخا ممتازا على من سبقه بكثرة تجاربه من رحلاته ومشاهداته، ودقة نظره، وسعة اطلاعه، والتفاته إلى آفاق واسعة في التاريخ، كالحياة الاجتماعية والاقتصادية، والمذاهب الدينية، وأصول الحضارة، وغير ذلك، وقد بعد في التاريخ عن أسلوب المحدثين، فانتقل به خطوة أخرى، ولا شك أن وجوده بمصر ونشر كتبه فيها كان له أثر كبير في الثقافة التاريخية.
وانتقلت من العراق إلى مصر صورة من خلافات المتكلمين، وذلك على أثر أمر المأمون بأخذ العلماء والقضاة بالقول بخلق القرآن ، وإرسال منشور لولاة الأمصار بتنفيذ ذلك، فجاء المنشور مصر في جمادى الثانية سنة 218ه، فامتحن والي مصر قاضيها، فقال بخلق القرآن، وامتحن الشهود والمحدثين، وكانت الحركة عنيفة عذب فيها خلق كثير، وخاصة في عهد الواثق. قال الكندي: «إن أمر المحنة - محنة خلق القرآن في مصر - كان سهلا في ولاية المعتصم، لم يكن الناس يؤاخذون بها شاءوا أو أبوا حتى مات المعتصم، وقام الواثق سنة 227ه فأمر أن يؤخذ الناس بها، وورد كتابه على محمد بن أبي الليث - قاضي مصر - بذلك، وكأنها نار أضرمت ... فلم يبق أحد من فقيه ولا محدث، ولا مؤذن ولا معلم، حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس، وملئت السجون ممن أنكر المحنة. وأمر ابن أبي الليث بأن يكتب على المساجد: «لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق»، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المسجد، وأمرهم ألا يقربوه.»
وكان طبيعيا أن تثير هذه المسألة في الجو المصري الجدل في الاعتزال وأصوله، واعتنقه قوم ورفضه آخرون. ولما جاء المتوكل وأغلق هذا الباب ظل قوم يعتنقون مذهب الاعتزال، ويدعون إليه في العصر الطولوني والإخشيدي، ولكن في شيء من الخفية، فيذكر ابن زولاق أن أبا علي محمد بن موسى القاضي الواسطي كان وجه المتكلمين بمصر، وكان يعلم الاعتزال، وأنه كان بها أبو عمران موسى بن رباح الفارسي أحد شيوخ المعتزلة،
3
وأن سيبويه المصري كان معتزليا، وكان يتكلم على أصول المعتزلة، ويقول بخلق القرآن، والناس يحتملون منه ما لا يحتملونه من سواه للوثة كانت فيه.
وكل ذلك في العهد الإخشيدي.
ثم ظهر في جو مصر مظهر ديني من نوع جديد على يد ذي النون المصري أحد مؤسسي التصوف، والذي أحدث ضربا من الكلام لم يعرف قبل في مصر، أصله من إخميم من صعيد مصر من أبوين نوبيين، وأخذ العلم المعروف في مصر من حديث وفقه، ووصف بأنه كان يعرف الكيمياء، ويقرأ الخط الهيروغليفي على البرابي، ورحل إلى بلاد كثيرة كتاهرت بالمغرب، وبيت المقدس وأنطاكية ، واليمن وبغداد، ومكة والمدينة، وقابل الرهبان وتحدث إليهم، ثم طلع على الناس في مصر بكلام لم يألفوه، من الكلام في الأحوال والمقامات والحب الإلهي، وأن مصادر المعرفة العقل والنقل، وشيء آخر زاده هو وهو الكشف، وأن هناك علما ظاهرا، وعلما باطنا، ويعرض هذه الأقوال في أسلوب شعري جذاب.
وطبيعي أن تلاقي هذه التعاليم معارضة من الفقهاء الذين لا يؤمنون إلا بالنقل فإن تجاوزوه فبالعقل، أما الكشف وعلم الباطن والحب والفناء فشيء لم يسمعوا به فعارضوه، وكان على رأس المعارضين عبد الله بن الحكم شيخ المالكية، وابن أبي الليث قاضي مصر الحنفي القوي الجبار، فكلاهما لم يرض عن ذي النون وتعاليمه، فاضطهد واتهم بالزندقة، وأخيرا أرسل إلى دار الخلافة ببغداد فسجن في المطبق، ولكن مساعي الصوفية ببغداد واتاصلهم برجال المتوكل جعلت المتوكل يستدعيه ويسمع منه ويتأثر بمواعظه، فيرسله إلى مصر مكرما، ويعيش بعد ذلك تسع سنوات ينشر فيها تعاليمه آمنا مطمئنا حتى يموت سنة 245ه.
ومن ذلك الحين وجدت بمصر الحركة الصوفية، وقويت حتى كان لها دخل في عزل بعض الولاة. وتتابع في مصر بعد ذي النون أقطاب الصوفية، مثل أبي الحسن بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد الجمال، أصله من واسط، وصحب الجنيد ووفد على مصر، ورأس الحركة الصوفية، وأنكر على ابن طولون تصرفاته، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر في غير مبالاة، فرووا أنه قدمه لأسد فلم يؤذه فشاع ذكره في مصر، ولما مات خرج في تشييع جنازته أكثر أهلها. ومن كلامه: «أجل أحوال الصوفية الثقة بالمضمون، والقيام بالأمر، والمراعاة للسر، والتخلي من الكونين، والتعلق بالحق.» مات بمصر سنة 316ه.
هذه هي الحركة الدينية في مظاهرها المختلفة، وبجانبها كانت حركة لغوية ونحوية عني بها؛ لأنها مفتاح لفهم القرآن والسنة، وأداة لفهم الأحكام، وقد نبغ في هذا العصر ابن ولاد، وأبو جعفر النحاس.
فأما ابن ولاد أحمد بن محمد بن الوليد فمصري أصله من تميم، وكان من أسرة عرفت بالنحو هو وأبوه وجده، وقال عنه المبرد: إنه شيخ الديار المصرية في العربية ، وقد درس النحو ببغداد على الزجاج، ثم أتى مصر ينشر النحو على طريقة العراق، وألف كتاب «الانتصار لسيبويه»، وكتاب «المقصور والممدود»، وهو يذكر فيه ما ورد من الكلام مقصورا وممدودا، فيقول - مثلا: الأنى: واحد ساعات الليل، مقصور يكتب بالياء ... وإنى الشيء: بلوغه وإدراكه، كذلك مقصور، قال تعالى:
إلى طعام غير ناظرين إناه ؛ أي بلوغه وإدراكه ... وأما الأناء بفتح أوله فممدود، وهو الانتظار والتأخير، قال الحطيئة:
وآنيت العشاء إلى سهيل
أو الشعرى فطال بي الأناء
والأناء: واحد الآنية، والأناة: من قولهم: رجل ذو أناة. وهي التؤدة، قال النابغة: «الرفق يمن والأناة سعادة.»
ويقال: امرأة أناة، وهي التي فيها فتور عند القيام، والأصل: وناة؛ لأنها من ونى يني، قال تعالى:
ولا تنيا في ذكري .
وهكذا يأتي بكل الكلمات اللغوية التي ورد فيها القصر والمد، ويشرحها ويستشهد له ويصرفها، وهو اتجاه لغوي طريف.
مات سنة 332ه في الدولة الإخشيدية.
وأما أبو جعفر النحاس فمصري عربي الأصل من مراد، وقد تعلم النحو كذلك في العراق، وأخذ عن الأخفش الصغير والمبرد والزجاج، وكان هو وابن ولاد متعاصرين، زميلين في التعلم ببغداد وفي التعليم بمصر. وقد ألف «إعراب القرآن»، و«معاني القرآن»، و«المبهج في اختلاف البصريين والكوفيين»، و«وشرح المعلقات»، و«شرح المفضليات»، و«شرح أبيات الكتاب» - كتاب سيبويه - و«الاشتقاق»، و«أدب الكتاب» ... إلخ.
فكانا بعلمهما مصدرا لحركة قوية لغوية ونحوية في مصر، وتعلم عليهما كثيرون. وقد مات النحاس سنة 338ه بعد ابن ولاد بست سنوات.
وقد ذكر لنا المتنبي في شعره في كافور أنه كان يدرس بمصر فن «الأنساب»، وعد من مضحكات مصر أن الذي كان يدرس أنساب العرب نبطي من أهل العراق، فقال:
بها نبطي من أهل السواد
يدرس أنساب أهل الفلا
وقد ذكروا أنه يريد ابن حنزابه، وهو متحامل عليه، فابن حنزابه هذا من أفضل الناس وعلمائهم، وهو ابن وزير العراق الخطير ابن الفرات. وكان ابن حنزابه وزيرا للدولة الإخشيدية، وكان عالما محبا للعلماء يقربهم ويشجعهم ويصلهم بماله، حتى قصده من علماء الأقطار الأخرى كثيرون، وكان يملي الحديث بمصر وهو وزير، ويقصد إليه المحدثون يسمعون روايته، وله تآليف في أسماء الرجال والأنساب. وقد أراد المتنبي أن يمدحه فعمل فيه قصيدته «باد هواك صبرت أم لم تصبرا»، ولكنه لم ينشدها، فلما غضب على كافور، وغضب على وزيره وخرج من مصر حولها في مدح ابن العميد، وعرض بابن حنزابه.
أما الحركة الأدبية فقد كان الشعر فيها هزيلا، ومنذ الفتح الإسلامي إلى هذا العهد الطولوني والإخشيدي لم تخرج مصر شاعرا كبيرا يضاهي شعراء العراق أمثال أبي تمام والبحتري وابن الرومي، وهي ظاهرة تستحق النظر، فقد كانت الفنون راقية، كما يتجلى ذلك في عمارة الفسطاط ومسجد ابن طولون، وكما كان فن الغناء لا بأس به، كما يتجلى في وصف القيان في العهد الطولوني، وكانت هناك العناية بالبساتين والأزهار، ولكن مع هذا كله لم تنبغ الشاعرية لا في العرب الذين وفدوا إلى مصر وأبنائهم، ولا في المصريين الصميمين ممن تعلموا العربية؛ فنجد الفقيه المصري الذي يضاهي أئمة العراق كالليث بن سعد، ونجد المحدث الذي يشابه أكبر محدثي العراق كابن لهيعة، والنحوي الذي يضاهي نحويي البصرة والكوفة كابن ولاد، ونجد أتباع الأئمة في هذه العلوم يشبهون الأتباع في العراق، ولكن لا نجد الشاعر النابغ هنا الذي يساوي الشاعر النابغ هناك؛ فهل هذا لأن الشعر كان لا يرقى إلا في بلاط الخلفاء؟ أو أن نبوغ الشعراء كنبوغ العظماء والزعماء خاضع لقوانين لم تستكشف بعد؟ أو لغير ذلك من أسباب؟
على كل حال كان أشهر شعراء مصر في العهد الطولوني الحسين بن عبد السلام المعروف بالجمل، لم يصلنا شعره كاملا، وإنما هي نتف هنا وهناك، في مديح أحمد بن طولون:
له يد كم خلدت من يد
سحابة عمت بأنوائها
وهو لدى الهيجاء ليث إذا
ما ثقلت قامت بأعبائها
انظر إلى مصر بسلطانه
تر الهدى فاض بأرجائها
وربما تظهر مصريته في ميله إلى الفكاهة، كقوله في ابن المدبر صاحب خراج مصر، وكان الشاعر إذا مدحه ولم يرتض شعره أمر من يحمله إلى المسجد، ويفرض عليه أن يصلي عددا معلوما من الصلاة، فقال الجمل:
قصدنا في أبي حسن مديحا
كما بالمدح تنتجع الولاة
فقالوا يقبل المدحات لكن
جوائزه عليهن الصلاة
فقلت لهم وما تغني صلاتي
عيالي؟ إنما الشأن الزكاة
فيأمر لي بكسر الصاد منها
فتصبح لي الصلاة هي الصلات
وله شعر رواه الكندي في أخبار القضاة، كان يقوله في المناسبات عندما يحدث في مصر بعض الأحداث.
كما كان هناك شعراء آخرون في العهد الطولوني والإخشيدي في مثل منزلة الجمل؛ ولذلك لما جاء المتنبي مصر في عهد كافور ابتلعهم كما يبتلع الحوت الكبير السمك الصغير، ولم يستطع أن يجاريه منهم أحد.
وربما كان حظ النثر الفني أكبر من حظ الشعر، كما يتجلى ذلك فيما بقي لنا من رسائل «ابن عبد كان» ككتابه الذي كتبه على لسان أحمد بن طولون لابنه لما خرج عليه، ففيه المسحة العراقية، جمعت بين طول نفس الجاحظ، وجزالة عمرو بن مسعدة، مع ميل إلى السجع كثيرا، والمزاوجة دائما، وإطناب في اللفظ، وتكرار للمعنى من مثل قوله: «واعلم أن البلاء بإذن الله قد أظلك، والمكروه إن شاء الله قد أحاط بك، والعساكر بحمد الله قد أتتك كالسيل في الليل، تؤذن بحرب وويل، فإننا نقسم، ونرجو ألا نجور ونظلم، ألا نثني عنك عنانا، ولا نؤثر على شأنك شانا، ... منفقين كل مال خطير، ومستصغرين بسببك كل خطب جليل، حتى تستمر من طعم العيش ما استحليت، وتستدفع من البلايا ما استدعيت ... إلخ.»
4
وكما يتجلى في كتاب «المكافأة» لأحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، فقد ألفه في العهد الطولوني، وبناء على قصص لمن عملوا الجميل فكوفئوا عليه بالجميل، فموضوعه طريف، وعرضه في أسلوب قوي جزل متين.
إلى جانب هاتين الحركتين الدينية والأدبية، كانت حركة العلوم الفلسفية التي تشمل الطب والنجوم والإلهيات وما إليها، وهي بقية من بقايا مدرسة الإسكندرية، وقد كانت لا تزال باقية في مصر، وإن ضعفت بالفتح الإسلامي، وإقبال الناس على الثقافة العربية يتعلمون لغتها، ويبحثون فيما أتت به من دين، فاتجهت أكثر الثقافة إلى الاشتغال بالدين الإسلامي وعلومه، واللغة العربية وعلومها، وبقيت بقية قليلة للفلسفة وما إليها، كان أكثرها من رجال الدين النصارى لامتزاج النصرانية بالأفلاطونية الحديثة، عندما اختلف النصارى في عقائدهم، وتجادلوا في مذاهبهم، والتجأ كل مذهب إلى الاستعانة بالفلسفة اليونانية في تأييد رأيه.
وكان أمراء مصر وولاتها يحتاجون إلى الأطباء والمنجمين، وقل أن يجدوهم إلا في النصارى، والطب والتنجيم فرعان من فروع الفلسلفة اليونانية، كان من اشتغل بهما مضطرا أن يقرأ الفلسفة اليونانية في إلهياتها وطبيعتها وكيميائها.
فاشتهر من هؤلاء سعيد بن نوفل النصراني طبيب ابن طولون، كما اشتهر سعيد بن البطريق، «وكان طبيبا نصرانيا من أطباء فسطاط مصر، وكانت له دراية بعلوم النصارى ومذاهبهم ... وقد عين بطريركا على الإسكندرية، ومات سنة 328ه، وله كتب في الطب، والجدل بين المخالف والنصراني ... إلخ».
5
وقد ترجم كتاب «الحيوان» لأرسطو، وكتاب «السماء والعالم» لأرسطو أيضا.
على أن بعض علماء المسلمين المصريين كان يتصل بهذه الحركة ويتصل برجالها ويقرأ كتبها، فابن الداية الذي سبق ذكره كان - كما يقول ياقوت - «أحد وجوه الكتاب الفصحاء والحساب والمنجمين، مجسطي، إقليدسي، حسن المجالسة، حسن الشعر». ونجده ينقل في كتابه «المكافأة» عن أفلاطون، ونجد ذا النون المصري الصوفي المشهور يتحدث عن الرهبان، ويروون في ترجمته أنه كان يعرف: السحر، والطلسمات، والكيمياء. ويعقد الأستاذ نيكلسون ما في بعض أقواله من شبه بينها وبين أقوال «الأفلاطونية الحديثة».
من هذا نفهم أنه كانت هناك حركة فلسفية في مصر من أثر مدرسة الإسكندرية، ومن أثر الوافدين من العراق، بما ترجموا من كتب، وأن بعض العلماء المصريين اشتغل بها وتأثر وتثقف، وإن كان ذلك في دائرة ضيقة إذا قيست بدائرة علوم الدين واللغة.
وكانت الحركة العلمية في الشام في العهد الطولوني والإخشيدي صورة للحركة في مصر، وربما كانت أصغر منها؛ لأن مركز الولاة الطولونيين والإخشيديين في مصر؛ ولأن مصر كانت أغنى، وكثيرا ما كان يزدهر العلم في ظل البلاط وتشجيع الأمراء وكثرة المال، إلا فن الشعر فقد كانت في الشام أرقى منه في مصر، كما سيأتي.
فكان في الشام طائفة كبيرة من المحدثين والفقهاء والصوفية والقراء - أمثال إخوانهم في مصر، فالإمام الأوزاعي البيروتي المتوفى سنة 157ه كان له من الأثر في الشام في الحديث والفقه ما لليث بن سعد والشافعي بمصر، واشتهر بها كثير من المحدثين والفقهاء في هذا العصر كزكريا بن يحيى السجري المتوفى سنة 289ه، وكان يعرف بخياط السنة، ومحمد بن عوف الطائي الحمصي المتوفى سنة 269ه، وكان أعرف الناس بالأحاديث التي رويت في الشام، وأبي بكر محمد بن بركة الحميري اليحصبي القنسريني وأمثالهم كثير.
وانتشرت حركة التصوف من مصر إلى الشام عن طريق ذي النون المصري وأصحابه، فظهر في الشام طاهر المقدسي، أخذ التصوف عن ذي النون المصري وغيره، وسماه الشبلي «حبر الشام»، ورويت عنه أقوال كثيرة في التصوف كقوله: «المفاوز إليه منقطعة، والطرق إليه منطمسة، والعاقل من وقف حيث وقف العوام.» كما ظهر أبو عمرو الدمشقي أخذ التصوف عن أصحاب ذي النون وغيرهم، مات سنة 320ه، وكان يقول: التصوف غض الطرف عن كل ناقص؛ ليشاهد من هو منزه عن كل نقص. وأبو إسحاق الرقي كان من أكبر مشايخ الشام ومتصوفيها، مات سنة 326ه ... إلخ.
ويكاد يكون الطابع لحركة الحديث والفقه والتصوف في مصر والشام، طابعا واحدا لقرب القطرين، وتبادل العلماء الزيارة والرحلة، حتى كان كثير منهم يصعب عده مصريا أو شاميا لتوزع عمره وحياته العلمية بين القطرين. •••
وكما كان لمصر فضل في اتجاه بعض العلماء لتدوين تاريخها وخططها على يد ابن عبد الحكم ثم ابن يونس ثم الكندي ثم ابن زولاق، وكان للشام فضل من نوع آخر على يد أبي عبد الله محمد بن أحمد المقدسي (336ه إلى نحو سنة 380ه)، فقد رأى أن المملكة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لم توصف وصفا كافيا لا من ناحيتها الجغرافية، كوصف المفاوز والبحار والبحيرات والأنهار والمدن والأمصار والنبات والحيوان، ولا من الناحية الاجتماعية كاللغات والألوان والمذاهب والنقود والمزايا والعيوب، والسعة والخصب والضيق والجدب، ولم يعجبه ما كتبه من قبله، وشعر بقصور المؤلفات في ذلك فجرد نفسه لهذا وطاف أكثر البلاد الإسلامية، وكتب كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، وكان فيه من أصدق الرحالين ملاحظة، وأدقهم نظرا، وأحسنهم لموضوعه ترتيبا، وقد عمل كل حيلة والتحق بكل صناعة وتحمل كل مشقة، وأنفق فوق عشرة آلاف درهم، وعرض نفسه لكل خطر في سبيل الحصول على المعرفة، وجاءته فكرة «الخرائط» فعملها في كتابه هذا، بل جاءته فكرة الخرائط الملونة، واختيار الألوان المناسبة؛ فالحدود والطرق بالحمرة، والرمال بالصفرة، وبالبحار بالخضرة، والأنهار بالزرقة، والجبال بالغبرة.
وقد ساح في جزيرة العرب والعراق والشام ومصر والمغرب، ثم بلاد فارس والسند والهند، وألف كتابه هذا بعد هذه الرحلة سنة 375ه، فكان له الفضل الأكبر في هذا الباب.
ولكن لعل أكبر حركة في الشام وأعظمها في الأدب واللغة وعلومها، كانت في ذلك العصر في بلاط الأمراء الحمدانيين في حلب، وخاصة أيام سيف الدولة؛ فقد فاقت حركة الشعر واللغة والنحو ما إليه نظيرتها في مصر، وربما في العراق أيضا، قال الثعالبي: «لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها - في الجاهلية والإسلام - والكلام يطول في ذكر المتقدمين منهم، فأما المحدثون فخذ إليك منهم: العتابي، ومنهور النمري، والأشجع السلمي، ومحمد بن زرعة الدمشقي، وربيعة الرقي، على أن في الطائيين - يعني أبا تمام والبحتري - اللذين انتهت إليهما الرياسة في هذه الصناعة كفاية، وهما هما، فأما العصريون ففيما أسوقه من غرر أشعارهم أعدل الشهادات على تقدم أقدامهم والسبب في تبريز القوم قديما وحديثا في الشعر قربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم.
ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة البداوة، وحلاوة الحضارة، ورزقوا ملوكا وأمراء من آل حمدان وبني ورقاء، هم بقية العرب والمشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد يحب الشعر وينقد، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل، انبعثت قرائحهم في الإجادة فقادوا محاسن الكلام بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا.
وأخبرني جماعة من أصحاب الصاحب ابن عباد أنه كان يعجب بطريقتهم المثلى التي هي طريقة البحتري في الجزالة والعذوبة، والفصاحة والسلاسة، ويحرص على تحصيل الجديد من أشعارهم، ويستملي الطارئين عليه من تلك البلاد ما يحفظونه من تلك البدائع واللطائف حتى كتب دفترا ضخم الحجم عليها، وكان لا يفارق مجلسه، ولا يملأ أحد منه عينه غيره، وصار ما جمعه فيه على طرف لسانه، وفي سن قلمه، فطورا يحاضر به في مخاطباته ومحاوراته، وتارة يحله أو يورده كما هو في رسائله.
6
وقد ذكر أنه تخرج في هذه المدرسة الحلبية الحمدانية أبو بكر الخوارزمي، والقاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني مؤلف «الوساطة بين المتنبي وخصومه».
كانت ميزات سيف الدولة - وإن شئت فقل: وعيوبه أيضا - مشجعة على النهوض بالشعر والأدب والعلم إلى غاية بعيدة؛ فهو عربي من تغلب يعتز بنسبه ومجد بيته، وفيه الطباع العربية التي في البيوتات الكبيرة، يطمح كل الطموح لحسن الأحدوثة؛ ولذلك كان يهمه أن يكون حوله أعاظم الشعراء يشيدون بذكره ويسير شعرهم في الآفاق مدحا فيه، ثم هو فارس فيه صفات الفروسية من إباء وفخر ونصرة للضعيف، ومعونة للبائس والفقير، يرى المجد والمروءة في الزهادة في المال للاعتزاز بالمجد، والإغداق على الأصدقاء والشعراء وسيلة للمطمح؛ يهمه جانب الإنفاق كيف يغدق أكثر مما يهمه جانب العدل في تحصيل المال كيف يجمع، ولهذا يوم مات كثر البكاء منه والبكاء عليه، كما وصفه بعضهم: الصفتان البارزتان فيه هما مجد العرب؛ الشجاعة والكرم، وهما عنصر المروءة التي كثر تمدح العرب بها، إلى ملكة جيدة في تقدير الشعر وتذوقه، والإعجاب بجيده إعجابا لا قيمة للمال بجانبه.
عرف الشعراء والأدباء والعلماء ذلك كله منه فقصدوه من كل جانب، وبالغوا في تحسين بضاعتهم وتجويد فنهم، وإحسان عرضهم، فنالوا منه ما تمنوا، وكان ذلك نعمة على الفنون والعلوم، وثروة بقيت على الزمان، وإن ضاعت به ثروة آل حمدان.
فهو يصوغ دنانير خاصة للصلات وزن كل دينار عشرة مثاقيل، عليها اسمه وصورته، ويعطي منها الببغاء الشاعر فيقول:
نحن بجود الأمير في حرم
نرتع بين السعود والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم
يجر قديما في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته
في دهرنا عوذة من العدم
فيعطيه سيف الدولة عشرة أخرى.
ولما عزم أبو إسحاق الصابي على الرحيل من حلب طلب إليه أن يقول شيئا في سيف الدولة، فقال ثلاثة أبيات، فأعطاه كيسا مختوما بختم سيف الدولة فيه ثلاثمائة دينار،
7
وجاء إليه القاضي أبو نصر محمد النيسابوري، فطرح من كمه كيسا فارغا ودرجا فيه شعر استأذنه في إنشاده فإذن له، فأنشد قصيدة أولها:
حباؤك معتاد وأمرك نافذ
وعبدك محتاج إلى ألف درهم
فأمر له بألف دينار فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه.
8
ولما أنشده المتنبي قصيدته التي يقول فيها:
يا أيها المحسن المشكور من جهتي
والشكر من قبل الإحسان لا قبلي
أقل أنل أقطع أجمل عل سل أعد
زد هش بش تفضل أدن سر صل
وقع سيف الدولة تحت كل كلمة من هذه، فوقع تحت أنل: نحمل إليك من الدراهم ما تحب. وتحت «أقطع»: أقطعناك ضيعة كذا بباب حلب. وتحت سر: قد سررناك. فقال المتنبي: إنما أردت من التسري، فأمر له بجارية
9 ... إلخ.
وذاع صيته بالعطاء والجود في سائر الأقطار الإسلامية، فقصده الفقراء والمعوزون، فكان يكتب إليه في حوائج المحتاجين من العلماء ومن نكبهم الدهر بعد عزة. ووضع بديع الزمان الهمذاني مقامة من مقاماته سماها المقامة الحمدانية، أسسها على أن سيف الدولة قد حضر مجلسه جماعة من الأدباء. وقد عرض عليه فرس جميل، فقال سيف الدولة للأدباء: «أيكم أحسن صفته جعلته صلته.» فوصفه أبو الفتح الإسكندري - بطل مقامات البديع - فأعطاه له، والقصة بالضرورة خيالية، ولكنها تمثل صورة سيف الدولة في أذهان الأدباء.
ثم كان مجلسه مجلسا ممتازا؛ فقد منح ذوقا وقدرة على فهم الأدب وإدارة الحديث في المجالس، واستخراج أفضل ما عند العلماء والأدباء بالعطاء والتنافس، فأحيانا يقول البيت ويطلب من الشعراء أن يجيزوه، فيقول مرة: من يجيز هذا البيت:
لك جسمي تعله
فدمي لم تحله ؟
فيجيزه أبو فراس:
أنا إن كنت مالكا
فلي الأمر كله
وينقد المتنبي مرة في قوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
ويفضل سيف الدولة أن يكون نظام البيتين هكذا:
وقفت وما في الموت شك لواقف
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
كأنك في جفن الردى وهو نائم
ثم يتجادلان في ذلك، كل يؤيد وجهة نظره.
10
وسأل جماعة من العلماء بحضرته يوما، هل تعرفون اسما ممدودا وجمعه مقصور؟ فقال ابن خالويه: إني أعرف اسمين لا أقولهما إلا بألف درهم؛ لئلا يؤخذا بلا شكر، وهما: صحراء وصحارى، وعذراء وعذارى.
وكتب الأدب فيها الكثير مما دار في مجلس سيف الدولة بين المتنبي وخصومه مما سبب رحيله.
فلا عجب أن يكون بلاطه أزهى بلاط في عصره. يقول الخوارزمي؛ حنينا لأيام قضاها فيه: «وقد رأيت في هذه الحضرة - حضرة أبي محمد العلوي بأصبهان - أقواما كنت شاهدتهم على باب سيف الدولة ومنهل الصفا عذب، وعود الشباب رطب، وذكرت بهم مآرب هنالك، وأياما سلبتها سلبا، ونزعت من يدي غصبا، ودهرا كأني كنت أقطعه وثبا.»
11
فالمتنبى قال فيه أحسن شعره وأقواه وأصدقه عاطفة؛ لأن سيف الدولة كريم يغدق على الشعراء كما قال الشاعر:
لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما
لأجل العطايا، واللها تفتح اللها
ولأن أبا الطيب وجد في سيف الدولة إلى جانب كرمه فروسية واعتزازا بالعربية وحياة حربية، وطموحا إلى المجد، وكلها صفات ينزع إليها المتنبي ويراها مثله، فكان المتنبي يتغنى بمثله محققا في سيف الدولة، ولو لم يكن سيف الدولة لكان المتنبي شيئا آخر. وشعره بعد أن فارقه شعر صناعة إلا ما كان من عتبه على الزمان وحديثه عن نفسه، وقد صدق إذ قال بعد أن مدح سيف الدولة:
لا تطلبن كريما بعد رؤيته
إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا
وهذا أبو فراس ابن عم سيف الدولة والذي يصغره بنحو عشرين عاما، قد نشأ في حضانة سيف الدولة ورعايته بعد أن قتل أبوه، وتعلم في ساحته وغزا معه بعض غزواته ولقد قال أبو فراس: «غزونا مع سيف الدولة وفتحنا حصن العيون في سنة 339ه، وسني إذ ذاك تسعة عشر عاما.» وقد أخذ أسيرا في إحدى غزواته للروم وأرسل إلى القسطنطينية، وبقي فيها أربع سنوات قال فيها أحسن شعره، وقد أرسل أكثره إلى سيف الدولة طالبا منه أن يفديه، عاتبا أحيانا، شاكيا أحيانا، وإنما كان أحسن شعره لأن وقوعه في الأسر وبعده عن وطنه أهاج شاعريته ورقق عاطفته، فامتلأ شعره برقة الحنين، وحلاوة الحب، وذل الأسر:
دعوتك للجفن القريح المسهد
لدي وللنوم القليل المشرد
وما ذاك بخلا بالحياة وإنها
لأول مبذول لأول مجتدي
ولكني أختار موت بني أبي
على سروات الخيل غير موسد
وآبى وتأبى أن أموت موسدا
بأيدي النصارى موت أكمد أكبد •••
فلا تقعدن عني وقد سيم فديتي
فلست عن الفعل الكريم بمقعد
فكم لك عندي من أياد وأنعم
رفعت بها قدري وأكثرت حسدي •••
أقلني أقلني عثرة الدهر إنه
رماني بنصل صائب النحر مقصد
ولو لم تنل نفسي ولاءك لم أكن
لأوردها في نصره كل مورد
ولا كنت ألقى الألف زرقا عيونها
بسبعين، فيها كل أشام أنكد
وإنك للمولى الذي بك أقتدي
وإنك للنجم الذي بك أهتدي
وأنت الذي عرفتني طرق العلا
وأنت الذي أهديتني كل مقصد ... إلخ.
ويرثي لحال أمه في قصيدته:
مصابي جليل والعزاء جليل
وظني بأن الله سوف يزيل
ويبكي وطنه:
ومن مذهبي حب الديار وأهلها
وللناس فيما يعشقون مذاهب ... إلخ إلخ.
فإن استخرج سيف الدولة من المتنبي مديحا رائعا، فقد استخرج من أبي فراس أسى رائعا.
وكان في بلاط سيف الدولة أبو العباس النامي، وكان من خير الشعراء، وكانت منزلته عند سيف الدولة تلو منزلة المتنبي، يقول في سيف الدولة:
إذا ما علي أمطرتك سماؤه
رأيت العلا، أنواؤها تتحلب
يرجى ويخشى ضره وهو نافع
كذا البحر في أزاته متهيب
يروع ويبدو الأنس منه كأنه ال
هوى لذعه بين الجوانح يعذب
وأزهر يبيض الندى منه في الرضا
وتحمر أطراف القنا حين يغضب
ثم كذلك أبو الفرج الببغاء أمضى شبابه وزهرة عمره في بلاط سيف الدولة، ثم آخر عمره في بغداد.
كذلك كان من شعرائه الوأواء الدمشقي، وهو شارع مطبوع، عذب العبارة حسن الاستعارة، جيد التشبيه.
ومن شعره في سيف الدولة:
من قاس جدواك بالغمام فما
أنصف في الحكم بين الاثنين
أنت إذا جدت ضاحك أبدا
وهو إذا جاد باكي العين
ومن شعرائه «الخالديان»
12
أبو بكر محمد بن هاشم، وأبو عثمان سعيد بن هاشم، وهما أخوان، وقد كانا قيمين على مكتبة سيف الدولة، قال ابن النديم: «قال أبو بكر - وهو أحد الخالديين - وقد تعجبت من كثرة حفظه وسرعة بديهته ومذاكراته: إني أحفظ ألف سمر، كل سمر في نحو مائة ورقة. وكانا مع ذلك إذا استحسنا شيئا غصباه صاحبه حيا أو ميتا، لا عجزا منهما عن قول الشعر، ولكن كذا كانت طباعهما.»
13
وقد ألفا في اختيار شعر بشار، وابن الرومي، والبحتري، ومسلم بن الوليد.
كما كان من شعرائه ابن نباته السعدي، وله فيه مدائح كثيرة.
ويطول بنا القول لو عددنا كل ما كان في بلاطه من شعراء، وحسبنا أن نقول: إن هذا الجو الذي خلقه سيف الدولة حث كل من كان عنده شاعرية على قول الشعر والإجادة فيه، فقيما المكتبة - وهما الخالديان - صارا شاعرين، وبائع البطيخ - وهو الوأواء الدمشقي - صار شاعرا كبيرا، وكشاجم - «وهي كلمة مركبة من: الكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من جواد، والميم من منجم» - قالوا: إنه كان طباخ سيف الدولة، ومع هذا كان شاعرا ظريفا، له ديوان، وله كتاب «أدب النديم»، و«خصائص الطرب»، و«المصايد والمطارد».
ثم كان من أشهر خطباء سيف الدولة ابن نباتة الفارقي صاحب الخطب المشهورة - وهو غير ابن نباتة السعدي الذي تقدم ذكره - وامتلأت خطبه بالدعوة إلى الجهاد ليحث الناس على نصرة سيف الدولة في غزواته للروم.
ثم كان في بلاطه من يعد من أشهر اللغويين والنحويين في زمانه، أبو علي الفارسي، وابن خالويه، وابن جني ، فأما أبو علي الفارسي فكان أكبر نحوي عالم بالعربية في زمنه، عاش في حلب مدة وفي العراق مدة، ويعد هو وتلميذه ابن جني مؤسسي مدرسة في النحو الصرف تستخدم القياس إلى أقصى حد ولا تقف عند النص، فالفرق بينها وبين غيرها كالفرق بين الحنفية في اعتمادهم الكبير على القياس، والمالكية في الاعتماد على الحديث.
لقد رحل أبو علي إلى حلب سنة 341ه، ونزل في ساحة سيف الدولة وشارك في اجتماعاته الأدبية، وكان بينه وبين المتنبي مناظرات في مسائل نحوية ولغوية.
وابن جني تلميذ أبي علي الفارسي، وموسع مبادئه النحوية والصرفية، وإذا عبرنا في النحو والصرف تعبيرنا في الفقه، قلنا: إنه مجتهد فيهما، له آراء مبتكرة واتجاهات انفرد بها.
14
وقد توثقت الصلة بين ابن جني والمتنبي في بلاط سيف الدولة، فكان يناظره فيما يرد في شعره «المتنبي» مما يشبه أن يكون خروجا على النحو أو اللغة، حتى قال فيه المتنبي: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس.» وقد شرح ديوان المتنبي شرحا استفاد منه كل من شرح الديوان بعده؛ لاتصاله بالمتنبي ومعرفته بظروف شعره التي كثيرا ما تحدد المعنى، وتمنع التأويلات.
وابن خاوليه من أكبر الأئمة في زمنه في اللغة والنحو والأدب وعلوم القرآن، وقد دخل حلب في أيام سيف الدولة، وكان إمام مجلسه، وله مع المتنبي مناظرات كانت في بعضها حادة، ولم تكن العلاقة بينهما حسنة، فالمتنبي لم يقدر علمه التقدير الجليل، وابن خالويه لم يقدر شعره التقدير الواجب، ثم كان يتحاسدان ويتغايران على قرب المنزلة من سيف الدولة، فكان في القصر حزبان: حزب للمتنبي منه ابن جني النحوي وأبو الفرج الببغاء الشاعر، وحزب عليه منه ابن خالويه اللغوي وأبو فراس الشاعر.
ثم كان في بلاط سيف الدولة الفيلسوف الكبير الفارابي، درس في بغداد، ثم جذبته شهرة بلاط سيف الدولة في حلب، فرحل إليه، وأقام في كنفه لا يأخذ منه من المال إلا ما يسد رمقه «أربعة دراهم في اليوم» ويعيش عيشة التصوف، ويعلم طلابه في الحدائق التي حول حلب ، ويكتب كتبه في المنطق والإلهيات والسياسة والرياضة والكيمياء والموسيقى، وقد بقي في الشام إلى أن مات سنة 339ه.
وكان حوله أطباء يعنون بالطب والفلسفة، إذ كان الطب فرعا من فروعها، ويذكر ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» أن سيف الدولة كان له أربعة وعشرون طبيبا منهم عيسى الرقي، وكان سيف الدولة يعطي عطاء لكل عمل، وكان عيسى الرقي يأخذ أربعة أرزاق، رزقا بسبب الطب، ورزقا بسبب ترجمة الكتب من السرياني إلى العربي، ورزقين بسبب علمين آخرين.
15 •••
هذا بلاط سيف الدولة يزخر بالشعر والمناظرات اللغوية والنحوية، ويزينه الفارابي بفلسفته، ويشع هذا النتاج في المملكة الإسلامية كلها وخاصة الشام.
ومنه يستنشق أبو العلاء المعري أول عهده بالدراسة؛ فقد ولد بالمعرة سنة 363ه وهي بلدة تابعة لحلب، ولئن كان سيف الدولة قد مات قبل ولادة أبي العلاء بثماني سنين، فإن الحركة العلمية والأدبية بها لم تكن ماتت، فشعر الشعراء يروى، وتلاميذ ابن خالويه وابن جني يروون علمهما باللغة والأدب والنحو والصرف، وتلاميذ الفارابي يروون فلسفته، فلما انتقل أبو العلاء من المعرة إلى حلب للدرس وجد لكل ذلك مهيأ فاستفاد منه، وجد الناس يروون شعر أبي الطيب ويعجبون به فسمع منهم، وسمع محمد بن عبد الله بن سعد النحوي راوية أبي الطيب، وسمع من تلاميذ ابن خالويه، فيقول في بعض رسائله: «حدثني أبو القاسم المبارك عن ابن خالويه .» ولا بد أن يكون لقي بعض تلاميذ الفارابي وأخذ عنهم.
وقد أقام أبو العلاء في حلب نحو عشر سنوات ينهل من موارد العلم، فحركة الأدب واللغة والفلسفة التي أحياها سيف الدولة لها فضل على أبي العلاء وغيره من العلماء والأدباء. •••
ثم جاءت الدولة الفاطمية فبسطت سلطانها على مصر والشام، والحق أنها أتت بحركة علمية عظيمة نشيطة، وقدمت العلم والأدب والفن في مصر والشام خطوات، حتى لا يعد شيئا بجانبها ما كان في العهد الطولوني والإخشيدي، ويصح أن تقارن وتساوى بما كان في العراق، وخاصة العلوم العقلية والفلسفية فإنها نبغت فيها، ويرجع ذلك إلى أمور:
أولها: أن الفاطميين جاءوا بمذهب شيعي له أسس ودعائم تخالف ما كان عليه أهل السنة في مصر والعراق، كعصمة الأئمة ونحو ذلك، وتأتي بشعائر ظاهرة مخالفة لشعائر السنيين كذلك، كالأذان: بحي على خير العمل، والاحتفاء بعاشوراء وعيد الغدير، فإتيان الفاطميين بهذا أوجد حركة عنيفة للتأييد من جهة والتفنيد من جهة، فهب علماء من مصر يفندون هذه الآراء، وكان العراقيون أجرأ لأنهم غير خاضعين لسلطانهم كالمصريين والشاميين، ولجأ الخليفة العباسي إلى العلماء يستحثهم على القول بفساد النسب الباطني، كما لجأ إلى الغزالي يستدعيه لتأليف كتاب «فضائح الباطنية»، وهكذا كل هذه العقول تتحرك وتجتهد وتؤلف وتجادل وتناضل، فكان من هذا النشاط العقلي الكبير، واستتبع ذلك نشاط الفاطميين في إيجاد المكاتب ومجالس الدعاة في القصر والمساجد وبيوت العظماء وتأليف الكتب، وتنظيم الدعوة وغير ذلك.
وكان أن التجأ الفاطميون إلى الفلسفة اليونانية يستعينون بها على تأييد الدعوة الشيعية، ويستمدون الآراء من أقوال أفلاطون وأرسطو، وسائر حكماء اليونان، كما فعلت الأديان الأخرى عند اشتداد الجدل، كالنصارى واليهود عند افتراقهم فرقا، وكما فعل المعتزلة عند جدالهم مع اليهود والنصارى، وهذا سبب من أسباب تشجيع الفاطميين للفلسفة.
ثم كان أن رأينا عهد الفاطميين في مصر والشام مصحوبا بتسامح شديد مع اليهود والنصارى، واستخدامهم في أدق شئون الدولة، وتسلطهم على كثير من أمورها، ولعل أس دعوتهم كان توحيد العالم الإسلامي تحت سلطانهم من غير مراعاة عصبية دينية ولا جنسية، فكانوا يخاطبون كل قوم بما يقربهم إلى الدعوة، وكان من ذلك تسامحهم مع اليهود والنصارى واستخدامهم، وإطلاق الحرية لهم إلا إذا أحسوا ثورة من الشعب لهذا التسامح فيتراجعون؛ كل هذا لأن أغراضهم السياسية والاجتماعية كانت أقوى من أغراضهم الدينية، فيعقوب بن كلس يهودي الأصل، ماهر ماكر، مثقف ثقافة واسعة، حسن التدبير، واسع الحيلة، باذل للمال، راغب في الجاه، لمع اسمه في العهد الإخشيدي، وأسلم وتعلم القرآن والحديث والأدب العربي، وسافر إلى المغرب واتصل بجوهر القائد مولى المعز لدين الله، وبذل له علمه عن مصر، وأعانه بآرائه في وسائل فتحها، ورجع بصحبة الجيش الفاتح ، وخدم المعز وارتقى حتى كان وزيرا للعزيز بن المعز، وهو الذي وضع قواعد الدولة ونظمها، وكان له إلى هذا الجانب السياسي الإداري جانب علمي، فشجع العلماء، ورتب المجالس، وبذل العطاء لكل فروع العلم، وربط بين العلم والتشيع، وبين التشيع والفلسفة، وله مجالس لعامة العلماء ومجالس لخاصة من العلماء وهؤلاء هم الذين يفلسفون هذه الأمور، ووضع كتابا في فقه الشيعة يقول: إنه مما سمعه من المعز والعزيز، كان يقرؤه في المسجد، ويقرؤه العلماء ويفتون منه، وكان يكون كل شيء في الدولة، يوجه سياستها وإدارتها، ولما مات صلى عليه العزيز بنفسه، وألحده بيده، وأمر بغلق الدواوين أياما بعده.
16
فيظهر لي أنه كان له دخل كبير في تأسيس الحركة العلمية على هذا النمط، وإدماج الفلسفة فيها وتوجيهها الجهة التي توجهتها، وتشجيعه اليهود والنصارى على الاشتغال العلمي والمشاركة في الإدارة وفلسفة الدعوة.
وكانت زوجة «العزيز» نصرانية على مذهب الملكية، وكان لها أخوان أحدهما اسمه «أرميس» صيره بطركا على بيت المقدس، والآخر «أرسانيس» صيره بطركا للملكية على القاهرة ومصر، وكان لهما من العزيز جانب لأنهما أخولة ابنته.
17
وكان لهذه السيدة نفوذ عظيم على العزيز في تسامحه مع النصارى والسماح بإعادة بعض الكنائس.
وقد ولدت هذه الزوجة النصرانية من العزيز بنتا هي المسماة بست الملك، وكانت - كما يصفها النويري - قوية العزم بصيرة بالأمور، وكان لها أثر كبير في أبيها، وفي توجيهه نحو سياسة التسامح مع النصارى، كما كانت في عهد أخيها الحاكم بأمر الله ذات أثر فعال فيما وقع من أحداث.
وقد سمح العزيز هذا لبطريرك الأشمونيين أن يناظر رجال الدين مثل القاضي ابن النعمان في العقائد الدينية.
وفي السنتين الأخيرتين لحكم العزيز تولى الوزارة بعد يعقوب بن كلس عيسى بن نسطورس النصراني.
ثم مما شجع على اشتغال الفاطميين بالفلسفة ما كان لهم من رأي في أن للدين ظاهرا وباطنا، ومعنى صريحا ومعنى مؤولا، فهذا يترك للخيال المجال، ويجعل الفكر يسبح في الفلسفة يأخذ منها ويلصقها بالدين، كما نرى ذلك بوضوح في رسائل إخوان الصفا - وهم شيعيون باطنيون - ولذلك كانت الفلسفة ألصق بالتشيع منها بالتسنن، نرى ذلك في العهد الفاطمي، والعهد البويهي؛ وحتى في العصور الأخيرة كانت فارس أكثر الأقطار عناية بدراسة الفلسفة الإسلامية ونشر كتبها، ولما جاء جمال الدين الأفغاني مصر في عصرنا الحديث - وكان فيه نزغة تشيع، وقد تعلم الفلسفة الإسلامية بهذه الأقطار الفارسية - كان هو الذي نشر هذه الحركة في مصر.
ثم إن المقريزي يقول: كان الفاطميون يتدرجون في دعوتهم؛ فإذا تمكن المدعو من التعاليم الأولى «أحالوه على ما تقرر في كتب الفلاسفة من علم الطبيعيات وما بعد الطبيعة والعلم الإلهي وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية؛ حتى إذا تمكن المدعو من معرفة ذلك كشف الداعي قناعه، وقال: إن ما ذكر من الحدوث والأصول رموز إلى معاني المبادئ، وتقلب الجواهر، وإن الوحي إنما هو صفاء النفس، فيجد النبي في فهمه ما يلقى إليه ويتنزل عليه فيبرزه إلى الناس، ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبي شريعته بحسب ما يراه من الملصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذ العمل بها إلا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء ... ثم قال: ومن جملة المعرفة عندهم أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة، وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة ... ثم يقول: إن لهم في هذا مصنفات كثيرة اختصرت منها ما تقدم ذكره».
18
ويروي صاحب «الفرق بين الفرق » أن عبيد الله بن الحسن القيرواني أحد زعماء الإسماعيلية، كتب إلى أحد دعاة المذهب سليمان بن الحسن أبي سعيد الجنابني يقول: «وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به، فعلى الفلاسفة معولنا.» ويقول الشهرستاني: «إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج.» ويفيض في بيان ذلك، ويقول دوزي: «إن ابن ميمون - وهو واضع الأساس للتعاليم الباطنية والإسماعيلية - لم يكن يبحث في أنصاره المخلصين بين الشيعة الخلص، إنما كان يبحث عنهم بين الثنوية والوثنيين، وتلاميذ الفلسفة اليونانية، وخاصة الأخيرين، فإليهم وحدهم أفضى بسره، وكنه عقيدته، وهو أن الأئمة والأديان والأخلاق ليست إلا ضلالا وهزؤا، وأن العامة ليسوا أهلا لفهم هذه المبادئ، إلا أنه كان يستعين بهم، ولا يصدمهم، وكان دعاته يظهرون في أثواب مختلفة، ويحادثون كل طبقة باللغة التي يفهمونها.
والواجب ألا يلصق هذا بكل الشيعة، ولا كل الفاطمية، ولا كل قواد الحركة، وإنما يصح أن يلصق بفئة من زعمائهم استغلت التشيع لأغراض في أنفسهم، وعلى كل حال كان هذا سببا آخر لاشتغال الخاصة بالفلسفة وتعليل انتشارها في العهد الفاطمي مع ضعف الاشتعال بها قبلهم في العهد الطولوني والإخشيدي وبعدهم في العهد الأيوبي، ثم كثرة المال في العهد الفاطمي؛ وميل الخلفاء إلى الإمعان في الترف والنعيم، شجعت الفنون على الرقي، فما خلفه الفاطميون من صناعة راقية، وفن دقيق، قل أن يبارى.
على كل حال نشطت الحركة العقلية في العصر الفاطمي في مصر والشام نشاطا كبيرا، وكان أهم الحركات الحركة الدينية؛ إذ أراد الفاطميون تشييع المصريين والشاميين، وكان هؤلاء يريدون أن يتمسكوا بالسنية، فجد الفاطميون في دعوتهم جدا كبيرا.
لقد حرص المصريون أول الأمر على البقاء على سنيتهم، واشترطوا عند المفاوضة في تسليم القطر المصري هذا الشرط، وكتب لهم جوهر بأمر المعز كتابا يتضمن التزام حرية العقيدة، فلا يجبرون على التشيع، وجاء فيه: «ثم إنكم ذكرتم وجوها التمستم ذكرها في كتاب أمانكم، فذكرتها إجابة لكم وتطمينا لأنفسكم، فلم يكن لذكرها معنى، ولا في نشرها فائدة، إذ كان الإسلام سنة واحدة، وشريعة متينة، وهي إقامتكم على مذهبكم، وأن تتركوا على ما كنتم عليه من أداء المفروض في العلم، والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم، وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين بعدهم، وفقهاء الأمصار الذين جرت الأحكام بمذاهبهم وفتواهم، وأن يجري الأذان والصلاة، وصيام شهر رمضان وفطره وقيام لياليه، والزكاة والحج والجهاد، على ما أمر الله في كتابه، ونصه نبيه في سننه.» ... إلخ.
19
ولكن لما دخل الجيش وتمكن من مصر، وانتقل المعز إلى القاهرة، لم يعمل بهذا العهد، وجد الفاطميون في تشييع المصريين، فزيد في خطبة الجمعة: «اللهم صل على محمد النبي المصطفى ، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذي أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا، اللهم صل على الأئمة الراشدين آباء أمير المؤمنين الهادين المهديين.»
20 «وفي يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الأولى سنة 359ه، صلى جوهر الجمعة في جامع ابن طولون، وأذن المؤذن حي على خير العمل، وهو أول ما أذن به في مصر».
21 «ولما وصل المعز إلى القصر خر ساجدا، ثم صلى ركعتين وصلى بصلاته كل من دخل معه - وكان ذلك سنة 362ه - وفي غد هذا اليوم خرج جماعة الأشراف والقضاة والعلماء والشهود ووجوه أهل البلد وسائر الرعية؛ لتهنئة المعز، وأمر المعز بالكتاب على المشايخ في سائر مدينة مصر: خير الناس بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام».
22 «ولثماني عشرة من ذي الحجة من هذه السنة وهو يوم «غدير خم»
23
تجمع خلق من أهل مصر والمغاربة للدعاء، فأعجب المعز ذلك، وكان هذا أول ما عمل عيد الغدير بمصر».
24
ثم اتخذوا يوم عاشوراء يوم بكاء على الحسين، وكانوا يجتمعون عند قبر كلثوم بنت محمد بن جعفر بن محمد الصادق، وقبر نفيسة.
وضربت الدنانير في أيام المعز، وعلى أحد وجهيها «لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. علي أفضل الوصيين، وزير خير المرسلين.» وفي أيام العزيز أبطل سنة 363ه صلاة التراويح من جميع مساجد مصر.
وكانت تحدث فتن ومصادمات بين المصريين السنيين والشيعة في المناسبات المختلفة.
فقد روي أنه قطعوا لسان من احتج على منع صلاة التراويح، وفي سنة 381ه ضرب رجل من أهل مصر، وطيف به في المدينة؛ لأنهم وجدوا عنده كتاب «الموطأ» لمالك بن أنس.
25
وفي سنة 393ه عوقب رجل بدمشق وطيف به في المدينة، ونادوا عليه: «هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر.»
26
ولكن هذه السياسة لم تكن ثابتة مطردة، بل كانت قلقة مضطربة كاضطراب سياسة الفاطميين؛ فأحيانا يبالغون في اضطهاد أهل السنة، وأحيانا يسمحون لهم بحريتهم، كما كانوا أحيانا يضطهدون اليهود والنصارى إلى أقصى حد، وأحيانا يبالغون في إكرامهم إلى أقصى حد.
وقد رتب الفاطميون الدعوة، وقووها وأحكموها وجعلوا عليها رئيسا سموه «داعي الدعاة»، ومنزلته تلي قاضي القضاة، ويتزيا بزيه، واشترطوا فيه أن يكون عالما بجميع مذاهب أهل البيت، وتحته اثنا عشر نقيبا، وله نواب كنواب الحكم في سائر البلاد، ويحضر ما يقال في الدعوة ويقره داعي الدعاة، ثم يقره الخليفة، ويتلى ما يحضر يوم الاثنين والخميس على الرجال في مكان، وعلى النساء في مكان. وهناك مجالس للعامة، ومجالس للخاصة، وكانت تسمى مجالس الدعوة، مجالس الحكمة.
27
واتخذت المساجد الكبيرة مركزا لهذه الدعاية كمسجد عمرو في الفسطاط، ومسجد ابن طولون، والأزهر، والمساجد الكبري في البلدان.
وبجانب هذه الدعوات الظاهرة دعوات سرية لا تقال إلا لخاصة المخلصين، يقول الخليفة لداعي الدعاة في كتاب له: «واتل مجالس الحكم التي تخرج إليك في الحضرة على المؤمنين والمؤمنات، والمستجيبين والمستجيبات في قصور الخلافة الزاهرة، والمسجد الجامع بالمعزية القاهرة، وصن أسرار الحكم إلا عن أهلها، ولا تبذلها إلا لمستحقها ولا تكشف للمستضعفين ما يعجزون عن تحمله، ولا تستقل أفهامهم بتقبله.» ويقول: «ولا تلق الوديعة إلا لحفاظ الودائع، ولا تلق الحب إلا في مزرعة لا تكدي على المزارع، وتوخ لغرسك أجل المغارس.» ... إلخ.
28
وجاء قوم من العلماء المغاربة في ركب المعز، وهم ماهرون في الدعوة، واقفون على أسرار تعاليم أهل البيت، لعل من أشهرهم النعمان بن محمد بن حيون الذي تولى القضاء في مصر على مذهب أهل البيت هو وأولاده وأسرته عهدا طويلا في الحكم الفاطمي؛ وكانت هذه الأسرة تقوم بالقضاء وبالدعوة وبالتأليف في المذهب الشيعي. وكان النعمان هذا مالكى المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمامية، وألف فيه تصانيف كثيرة، قال ابن زولاق: إنه ألف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف وأملح سجع، وكان في غاية الفضل من أهل القرآن والعلم بمعانيه، وعالما بوجوه الفقه، وعلم اختلاف الفقهاء، واللغة والشعر والمعرفة بأيام الناس، مع عقل وإنصاف، وله ردود على المخالفين له، رد على أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن سريج.
29
ثم إن محمد بن النعمان قاضي المعز والعزيز، وكان واسع العلم في الفقه والتاريخ والنجوم، يقضي بين الناس، ويقرأ في القصر علوم آل البيت، ويزدحم الناس على سماعه حتى يموت بعضهم من الزحام، كما كان من أشهرهم عبد العزيز بن محمد بن النعمان، كان من أعلم الناس بفقه الإمامية. قال ابن كثير: إنه ألف في العقائد الشيعية الكتاب المسمى «البلاغ الأكبر والناموس الأعظم». وقد رد على هذا الكتاب أبو بكر الباقلاني.
كان في مصر والشام كثير من الفقهاء الشافعية والمالكية والحنفية، وكانوا لا يرون التشيع، فكانوا يستنكرون تعاليمهم، ولكن في تحفظ؛ لأن الدولة للتشيع.
ولهذا نرى قلة الفقهاء المالكية والشافعية والحنفية في مصر والشام في هذا العصر، - وخاصة في أول عهد الفاطميين أيام قوتهم - ومع هذا نرى أمثال أبي بكر محمد النعالي المالكي إمام المالكيين في عهده، كانت حلقته في جامع الفسطاط تدور على سبعة عشر عمودا لكثرة من يحضرها، توفي سنة 380ه. ولا بد أن يكون ذلك في فترة فترت فيها حدة التشيع.
ولكن على كل حال أنتجت هذه الحركة حياة فكرية نشيطة. وكما ذكرنا كانت الحركة الفلسفية تشايع التشيع، فامتزجت الفلسفة بالدعوة الشيعية.
واستتبعت الدعوة للتشيع تنظيم وسائل الدعاية من إنشاء المساجد ودور الكتب. فالمساجد كانت لهذا العهد هي المدارس وهي المحاريب، وهي أمكنة العبادة وهي مكان الخطب السياسية فيما يجد من الأحداث، فكانت تقوم بوظائف اجتماعية أكثر جدا مما تقوم به الآن.
فلما كان المسجدان الكبيران في مصر - مسجد الفسطاط ومسجد ابن طولون، وكانا مركزي التعليم السني من قبل الفاطميين - دعا الأمر عند إنشاء القاهرة إلى إنشاء مساجد تقام فيها الصلوات، وتنشر منها الدعوة الشيعية بجانب تلوين مسجدي مصر بالتشيع أيضا، وتكون أيضا مركزا لنشر المبادئ السياسية والاجتماية التي يراد نشرها، فأسس الأزهر لهذا الغرض؛ بناه جوهر قائد المعز، وأقيمت فيه أول جمعة في شهر رمضان سنة 361ه، وكان الخليفة الفاطمي يخطب فيه بنفسه كل جمعة إلى أن أنشأ الحاكم جامعه سنة 380ه، فوزعت الخطبة على المساجد الأربعة؛ وكان الخليفة يخطب في الجامع الحاكمي خطبة، وفي الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون خطبة، وفي جامع عمرو بن العاص خطبة، محفوفا بالوزير والقاضي وداعي الدعاة.
واتخذ الأزهر كغيره مدرسة لدراسة المذهب الشيعي، قال المقريزي: «إن أول ما درس بالأزهر الفقه الفاطمي على مذهب الشيعة، فإنه في شهر صفر سنة 365ه جلس علي بن النعمان القاضي بجامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر، وأملى مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت، ويعرف هذا المختصر «بالاقتصار» وكان جمعا عظيما، وأثبت أسماء الحاضرين.» وألف يعقوب بن كلس الوزير السابق الذكر كتابا في الفقه يتضمن ما سمعه من المعز، وهو مبوب على أبواب الفقه يشتمل على فقه الطائفة الإسماعيلية، وكان له مجلس في يوم الثلاثاء يجتمع فيه الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأهل الجدل، وكان يجلس أيضا في يوم الجمعة فيقرأ مصنفاته على الناس بنفسه، وأجرى العزيز بالله الأرزاق لجماعة من الفقهاء يحضرون مجلس الوزير، وأمر العزيز أيضا لهؤلاء الفقهاء ببناء دار إلى جانب الجامع الأزهر؛ فإذا كان يوم الجمعة تحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى صلاة العصر، وكان عدتهم خمسة وثلاثين رجلا.
وبقي الأزهر مركز الفاطمي إلى أن بنى الحاكم جامعه، فتحلق فيه الفقهاء الذين يتحلقون في الجامع الأزهر.
ووقف الحاكم الأوقاف على الأزهر، وعلى جامع راشدة، وجامع المقس، وعلى دار الحكمة، من عقار وكتب.
ثم عنيت الدولة الفاطمية بالكتب عناية كبيرة، فكان من أشهر خزائن القصور الفاطمية خزانة الكتب، وقد نقل المقريزي عن المسبحي - مؤرخ الدولة الفاطمية، والذي عاش في كنفها - أنه كان بخزانة العزيز نيف وثلاثون نسخة من كتاب «العين» للخليل بن أحمد، وما ينيف على عشرين نسخة من «تاريخ الطبري»، ومائة نسخة من «الجمهرة» لابن دريد - ثم قال: إنه كان في سائر العلوم بالقصر أربعون خزانة من جملتها خزانة فيها ثمانية عشر ألف كتاب من العلوم القديمة - يعني: الفلسفة والطب والإلهيات وما إليها - هذا إلى العناية بالناحية الأثرية من اقتناء الكتب بخطوط المؤلفين، وما عني فيها بحسن الخط والتجليد، وينقل المقريزي أيضا عن ابن الطوير أن كل خزانة تحتوي على عدة رفوف، والرفوف مقطعة بحواجز، وعلى كل حاجز باب مقفل بمفصلات وقفل، وفيها من أصناف الكتب ما يزيد على مائتي ألف كتاب من المجلدات ويسير من المجردات، فمنها الفقه على سائر المذاهب، والنحو واللغة، وكتب الحديث، والتواريخ وسير الملوك، والنجامة والروحانية والكيمياء - من كل صنف النسخ - ومنها النواقص التي ما تممت - كل ذلك بورقة مترجمة ملصقة على كل باب خزانة.
30
وقد ذكر المقريزي أيضا أنه دخل هذه المكتبة «مكتبة الفاطميين» أحد السياح، فرأى فيها مقطعا من الحرير الأزرق غريب الصنعة فيها صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومساكنها، وجميع المواطن المقدسة مبينة للناظر، مكتوبة أسماء طرائقها ومدنها وجبالها وبلادها وأنهارها وبحارها بالذهب، وغيرها بالفضة والحرير.
ثم أسس الحاكم بأمر الله دار الحكمة سنة 395ه، وقد اختار هذا الاسم رمزا إلى الدعوة الشيعية؛ لأن مجالس الدعوة كانت تسمى مجالس الحكمة،
31
وكانت تسمى هذه الدار أيضا دار العلم، وصفها المسبحي فقال: «فتحت الدار الملقبة بدار الحكمة بالقاهرة، وجلس فيها الفقهاء، وحملت إليها الكتب من خزائن القصور المعمورة، ودخل الناس إليها، ونسخ كل من التمس نسخ شيء مما فيها ما التمسه، وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها، وجلس فيها القراء والمنجمون وأصحاب النحو واللغة والأطباء، بعد أن فرشت هذه الدار وزخرفت، وعلقت على جميع أبوابها الستور، وأقيم قوام وخدام وفراشون وغيرهم وسموا بخدمتها، وحصل في هذه الدار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم والآداب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله مجتمعا لأحد قط من الملوك، وأباح ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها ... وحضرها الناس على طبقاتهم؛ فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر ... وفي سنة 403ه أحضر «الحاكم» جماعة من دار العلم من أهل الحساب والمنطق وجماعة من الأطباء إلى حضرته، وكانت كل طائفة تحضر على انفراد للمناظرة بين يديه، ثم خلع على الجمع وصرفهم ... ووقف الحاكم بأمر الله أماكن في فسطاط مصر عليها، وقد استمرت على هذا الوضع إلى سنة 516ه؛ حيث كثرت فيها المناقشات الدينية التي سببت فتنا، فأغلقت ثم أعيد فتحها.»
32
فهي بهذا الوصف مكتبة قيمة، ومدرسة تدرس فيها العلوم المختلفة وقاعة مناظرات.
كان بجانب الحركة الدينية من سنية وشيعة حركات أخرى مدنية، من ذلك حركة تاريخية، فقد نبغ من مؤرخي هذا العصر الشابشتي، وهو أبو الحسن علي بن محمد، وكان في عهد العزيز بن المعز، وكان نديمه وجليسه، والقيم على خزانة كتبه، اشتهر بكتابه «الديارات»، ذكر فيه كل دير بالعراق والموصل والشام والجزيرة ومصر، وجميع الأشعار التي قيلت في كل دير وما جرى فيه، وكان من حسن الحظ بقاء هذا الكتاب إلى عصرنا هذا مخطوطا ينتظر من ينشره. توفي سنة 388ه.
كما نبغ من المؤرخين في العصر الفاطمي «المسبحي»، وهو عز الملك محمد بن عبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الحراني الأصل، المصري المولد، وكان من أقطاب مصر في العلم والسياسة والإدارة؛ تولى للحاكم بأمر الله بعض ولايات الصعيد ثم تولى ديوان الترتيب، وعني بتاريخ مصر، وألف فيها تاريخه الكبير، قال هو فيه: «إنه التاريخ الجليل قدره، الذي يستغنى بمضمونه عن غيره من الكتب الواردة في معانيه، وهو أخبار مصر ومن حلها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء، وما بها من العجائب والأبنية، واختلاف أصناف الأطعمة، وذكر نيلها، وأحوال من حل بها إلى الوقت الذي كتبنا فيه تعليق هذه الترجمة، وأشعار الشعراء، وأخبار المغنين، ومجالس القضاة والحكام والمعدلين «الشهود»، والأدباء والمتغزلين وغيرهم، وهو ثلاثة عشر ألف ورقة.»
33
فكان ينظر إلى التاريخ نظرة اجتماعية، ومن الأسف أن لم يصلنا من هذا الكتاب إلا قطعة مخطوطة، وفقد مع ما فقد من آثار الفاطميين الجليلة ويدلنا ما نقله المقريزي و«النجوم الزاهرة» عن هذا الكتاب أنه جليل القدر، دقيق النظر، مفيض في الوصف، جميل التعبير.
وله كتب أخرى كثيرة ، منها: كتاب «درك البغية» في وصف الأديان والعبادات 3500 ورقة، وكتاب «الأمثلة للدول المقبلة» يتعلق بالنجوم والحساب في 500 ورقة.
إلى كثير من الكتب الأدبية في النوادر والغزل، والأغاني ومعانيها وغير ذلك، عاش المسبحي من (366ه-420ه).
ثم القضاعي؛ أبو عبد الله محمد بن سلامة تولى القضاء بمصر، وقد اشتهر بوضعه كتابا في خطط مصر سماه «المختار في ذكر الخطط والآثار» كان عونا للمقريزي على خططه، وقد أوفده المستنصر الخليفة الفاطمي إلى تيودورا إمبراطورة القسطنطينية سنة 447ه ليتحدث في الصلح بينهما، وقد مات سنة 454ه.
ثم كانت حركة أخرى طبية فلسفية رياضية علمية؛ اشتهر فيها محمد بن أحمد بن سعيد التميمي، أصله من بيت المقدس، ودخل مصر في العهد الفاطمي، واشتهر بالطب وخاصة في خواص العقاقير وتركيب الأدوية؛ وصحب يعقوب بن كلس والخليفة العزيز، وصنف له كتابا كبيرا في عدة مجلدات سماه «مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء، والتحرز من ضرر الأوباء»، ولقي الأطباء بمصر وحاضرهم وناظرهم، واختلط بأطباء الخاص القادمين من أرض المغرب في صحبة المعز عند قدومه، والمقيمين بمصر من أهلها، وكان منصفا في مذكراته، غير راد على أحد إلا بطريق الحقيقة، وكان التميمي هذا موجودا بمصر في حدود سنة 370ه.
34
ثم أبو الفتح منصور بن سهلان بن مقشر، كان نصرانيا، وكان طبيب الحاكم بأمر الله، ومن الخواص عنده، وكان متقدما في الدولة، وتوفي في أيام الحاكم، فاستطب بعده إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس.
35
وعلي بن سليمان، وكان طبيبا للعزيز بالله وولده الحاكم، وقد نقل بعض الكتب في الطب لأبقراط وجالينوس، كما ألف فيما بعد الطبيعة.
وأبو علي بن الهيثم، وأصله من البصرة، ثم انتقل إلى مصر في أيام الحاكم بأمر الله وأقام بها إلى آخر عمره، برع في الرياضيات والطبيعيات، وله مشاركة في الطب، وقد أتى مصر باستدعاء الحاكم لما بلغه أن له نظرية هامة في توزيع مياه النيل، ولكنه لما حضر وسافر إلى الشلال وخبر النيل هناك ودرسه أدرك خطأ نظريته، واعتذر للحاكم، ولكنه كان مصدر حركة فلسفية كبيرة وخاصة في الطبيعيات والرياضيات، وكان لا يهمه المال والجاه بجانب ما يهمه العلم والوقوف على الحقيقة، قال في كتبه: «إني لم أزل منذ عهد الصبا مرويا في اعتقادات الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم بما تعقتده من الرأي، فكت متشككا في جميعه، موقنا بأن الحق واحد، وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن الحق، ووجهت رغبتي وحرصي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهات الظنون وتنقشع غيابات المتشكك المفتون.» ... إلخ.
وقد ألف نحو مائتي كتاب في الرياضيات والطبيعة والفلسفة ظلت عماد الناس في الشرق والغرب، وخاصة كتاب «المناظر» - وما زال يؤلف ويلخص ويشرح في حركة دائبة مستمرة، وفي كل مرحلة من عمره يقيد أسماء ما ألف، ويقول: «وإن أطال الله لي في مدة الحياة، وفسح في العمر، صنفت وشرحت ولخصت من هذه العلوم أشياء كثيرة تتردد في نفسي، ويبعثني ويحثني على إخراجها إلى الوجود فكري.» وظل وفيا لهذا العهد حتى مات حول سنة 430ه بعدما ملأ الدنيا تآليف في الهندسة والحساب والفلك والمساحة، ومنطق أرسطو، وكتابه في الشعر والنفس، وفي الطب، وفي البصر، ووقوع الإبصار به، والضوء، والبصريات، والمرايا المحرقة ... إلخ، يعكف على عمله هذا في قبة على باب الجامع الأزهر.
36
وكان للمبشر بن فاتك؛ وهو أمير من أمراء مصر في العهد الفاطمي، ولع بالعلوم الفلسفية يقتني كثيرا من كتبها، ويتبحر فيها؛ ويستفيد ابن الهيثم من علمه في الهيئة والرياضة.
واشتهر من هذه الطائفة علي بن رضوان رئيس أطباء الحاكم، وهو مصري الأصل من الجيزة، وكان أبوه فرانا، ولاقى في تعلمه أهوالا حتى برع في الطب، وصار له الذكر والسمعة العظيمة، والثراء الواسع، وقد قامت بسببه حركة فكرية نافعة تحركت بها الأفكار في مصر وبغداد؛ إذ دخل ابن رضوان المصري في مناظرة حادة مع ابن بطلان الطبيب النصراني البغدادي، وتبودلت بينهما الرسائل «ولم يكن أحد منهما يؤلف كتابا، ولا يبتدع رأيا إلا ويرد الآخر عليه»، وكان ابن رضوان طويل اللسان يكثر التشنيع على من يخالفه، وتعدت المناظرة من المسائل العلمية إلى التعبير بقبح الشكل، وكان ابن رضوان قبيح الشكل، فتناظرا أيضا في أيهما خير أن يكون الطبيب جميلا أو لا، ولما طالت المناظرات سافر ابن بطلان من بغداد إلى مصر ليرى مناظره، وأقام بها ثلاث سنين، واستمرت بينهما المناظرات. ويقول ابن أبي أصيبعة في المقارنة بينهما: كان ابن بطلان أعذب ألفاظا، وأكثر ظرفا، وأميز في الأدب وما يتعلق به، وكان ابن رضوان أطب وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها، وقد ألف ابن رضوان كتبا كثيرة في الطب والفلسفة.
وكانت في مصر أيضا حركة في النحو، من أشهر رجالها أبو بكر الأدفوي تلميذ أبي جعفر النحاس الذي تقدم ذكره، برع في علوم القرآن والنحو، له كتاب في علوم القرآن في مائة وعشرين مجلدا مات، سنة 388ه.
ثم ابن بابشاذ، أحد أئمة النحو والأعلام في فنون العربية وفصاحة اللسان، ورد العراق تاجرا في اللؤلؤ، وأخذ عن علمائها ورجع مصر، واستخدام في ديوان الإنشاء والرسائل مراجعا يراجع ما يخرج من الديوان من الإنشاء، ويصلح ما يراه من الخطأ في الهجاء والنحو واللغة، ثم تزهد، وقد ألف شرحا على كتاب «الجمل» للزجاجي، و«المحتسب في النحو»، وتعليق في النحو يقارب خمسة عشر مجلدا . مات سنة 469ه.
ثم كانت الحركة الأدبية؛ وفي الحق أن الشعر في العهد الفاطمي في مصر كان أول شعر مصري قيم من عهد فتح العرب لمصر؛ إذ كان قبل ذلك ليس له من قيمة إلا للوافدين على مصر من الخارج، أما شعر المصريين أنفسهم فكان محاولات أولية، حتى إذا جاء الفاطميون جاء الشعر وجاد، ويرجع ذلك إلى أمور:
الأول:
أن العصر الأول لفتح مصر كان عصر دهشة أعقبت الفتح، فلما استقرت الأمور وبدأ الشعر ينهض، تولى الحكم أتراك من مثل الطولونيين والإخشيديين، وليس لهم من الذوق العربي الراقي ما يستسيغون به الشعر، والشعر العربي بطبيعة موضوعاته التي كانت من مديح ونحوه لم يكن يزهر إلا على باب قصور الخلفاء والأمراء، فإن تذوقوه وشجعوه نما وازدهر، وإلا ضعف وانحدر، فلما جاء الفاطميون - وهم عرب لهم الذوق العربي، والثقافة العربية، وخاصة في أول عهدهم؛ إذ كان فيهم أيضا الذوق البدوي - نما الشعر على بابهم، ولما جاءوا مصر جاءوا بذوقهم وشعرائهم، وتتابعت الموجات.
والثاني:
أن الدولة الفاطمية كان أساسها الدعوة والدعاية بأوسع ما تدل عليه هذه الكلمة، حتى قل أن نرى لها مثيلا في تنظيم دعوتها سرا وجهرا، والدقة في اختيار الأساليب المختلفة التي تناسب العامة والخاصة، والجاهل والعالم، والمتدين والملحد، والغبي والفيلسوف؛ فرأت بصائب نظرها أن الشعراء من أصلح الدعاة لمذهبهم؛ إذ هم يقومون في زمنهم مقام الجرائد السيارة في عصرنا، فاحتضن الخلفاء الفاطميون ووزراؤهم وأمراؤهم الشعراء ينفحونهم بالمال الكثير، والعطاء الوفير؛ ليطلقوا ألسنتهم بالقول في مدحهم ومدح مذهبهم.
وقد وضع ابن هانئ الأندلسي أول خطة لذلك وهو بالمغرب عندما اتصل بالمعز فاتح مصر ومؤسس القاهرة، فمدحه بغرر المدائح وعيون الشعر، وبالغ المعز في الإنعام عليه، ولم يكن هناك ممدوح أعز شاعره كما أعز المعز ابن هانئ، فلما أنشده بالقيروان قصيدته التي أولها:
هل من أعقة عالج يبرين
أم منهما بقر الحدوج العين
أمر له بدست قيمته ستة آلاف دينار، فقال له: يا أمير المؤمنين! ما لي موضع يسع الدست إذا بسط ، فأمر له ببناء قصر غرم عليه ستة آلاف دينار، وحمل إليه آلة تشاكل القصر والدست قيمتها ثلاثة آلاف دينار. ولما بلغه خبر وفاته وهو بمصر تأسف عليه كثيرا، وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك.»
37
وقد أسس ابن هانئ في شعره عقائد الإسماعيلية، وصاغها صياغة شعرية، وعلم الشعراء كيف يمدحون الخلفاء الفاطميين من ناحية عقائدهم، كما يمدحونهم من ناحية خلائقهم، فيقول مثلا:
أنت الورى فاعمر حياة الورى
باسم من الدعوة مشتق
38
ويقول:
قد كان ينذر بالوعيد لطول ما
أصغى إليك ويعلم التأويلا
39 •••
أهل النبوة والرسالة والهدى
في البينات وسادة أطهار
والوحي والتأويل والتحليل والت
حريم لا خلف ولا إنكار
ويقول:
ماذا تريد من الكتاب نواصب
وله ظهور دونها وبطون
وهو بذلك يؤكد عقيدة الشيعة في أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وأن التأويل لا يعلمه إلا الله ورسوله وخلفاؤه المنصوبون من قبله، إماما بعد إمام إلى آخر الأئمة المعصومين، يعلم الماضي منهم من يأتي بعده، وسائر الناس يستفيدون علم التأويل منهم بقدر استعدادهم.
ويقول مؤيدا لهذه التعاليم:
إذا كان أمن يشمل الأرض كلها
فلا بد فيها من دليل مقدم
ويقول:
لولاك لم يكن التفكر واعظا
والعقل رشدا والقياس دليلا
لو لم تكن سكن البلاد تضعضعت
وتزايلت أركانها تزييلا
وهكذا يؤسس في شعره الدعوة، ونظرية الإمامة وعصمة الأئمة، وعلم الإمام بالحقائق، وأنه مظهر نور الله، فعلم الشعراء كيف يمدحون، وكيف يقولون.
40
فلحاجة الفاطميين للدعوة قربوا الشعراء، فكثر الشعر وحسن وجاد، فرأينا شعراء ممتازين في هذا العصر لم يكن مثلهم في مصر، شعراء أتوا من المغرب مع المعز وبعده، وشعراء وافدون من العراق والشام واليمن، وشعراء من المصريين أنفسهم، وراج الشعر لكثرة الدوافع وقوتها، فنوع الشعر الغالب على الأدب العربي - وهو شعر المديح - إنما يكثر ويزدهر على باب القصور السخية، والفاطميون كانوا من أسخى الناس في هذا الباب ثم هم أكثروا من الحفلات العامة، مما لم يكن له نظير في مصر لا قبلهم ولا بعدهم، وهذه الحفلات والأعياد كانت في غاية من الفخامة والضخامة، قد أقروا الأعياد التي كانت قبلهم، وزادوا عليها: فموسم رأس السنة، ويوم عاشوراء، ومولد النبي، ومولد علي، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد فاطمة، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وأول شعبان ونصفه، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وعيد الفطر، وعيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وفتح الخليج، ويوم النيروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس ... إلخ، مما بقي أثر بعضه عند المصريين إلى اليوم.
وكان في كثير من هذه الأعياد، يركب الخليفة بزيه المفخم، وهيئته المعظمة، وتوزع الخلع والجوائز، وتمد الأسمطة، فتكون كل هذه المظاهر حافزة للشعراء على أن يقولوا ويكثروا ويجيدوا في هذا الباب من القول الذي يعده الفاطميون دعاية لهم لا بد منها.
روى المقريزي عن الشريف أبي عبد الله الجواني، أن الخليفة الآمر بأحكام الله بنى منظرة من خشب مدهونة، فيها طاقات تشرف على خضرة بركة الحبش، وصور فيها الشعراء كل شاعر وبلده، واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر، وبجانب صورة كل منهم رف لطيف مذهب، فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار، أمر أن يحط على كل رف صرة مختومة فيها خمسون دينارا، وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده، ففعلوا ذلك، وأخذوا صررهم، وكانوا عدة شعراء.
41
وقد أسس هذه الخطة - خطة الاحتفاء بسماع الشعر ورعايته والمكافأة العظيمة عليه - الخليفة المعز ووزيره يعقوب بن كلس، ثم صارت تقليدا فاطميا متبعا بالمعز أسس له ابن هانئ منهج الشعراء في المديح، ويعقوب بن كلس قرب الشعراء وشجعهم وأغناهم، وكان من أولهم في ذلك الشاعر أبو حامد الأنطاكي المعروف بأبي الرقعمق، وأكثر شعره وقف على مدح المعز والعزيز والحاكم بأمر الله، وجوهر القائد، وخاصة الوزير ابن كلس من مثل قوله فيه:
كل يوم له على نوب الده
ر وكر الخطوب بالبذل غاره
ذو يد شأنها الفرار من البخ
ل وفي حومة الندى كراره
هي فلت عن العزيز عداه
بالعطايا وكثرت أنصاره
هكذا كل فاضل يده تم
سي وتضحي نفاعة ضراره
فاستجره فليس يأمن إلا
من تفيا ظلاله واستجاره
وإذا ما رأيته مطرقا يع
مل فيما يريده أفكاره
لم يدع بالذكاء والذهن شيئا
في ضمير الغيوب إلا آثاره
لا ولا موضعا من الأرض إلا
كان بالرأي مدركا أقطاره
زاده الله بسطة وكفاه
خوفه من زمانه وحذاره
وقد أفرد العماد الأصفهاني في كتابه «خريدة القصر وجريدة العصر» جزءا خاصا لشعراء مصر، بلغ عددهم نحو المائة، ترجم لكل منهم وذكر شيئا من شعره.
42
ويمكننا أن نقسم الشعر المصري الفاطمي أقساما ثلاثة: قسم في المديح وهو أكبر الأقسام كعادة الشعر العربي، وكما رأيت في شعر أبي الرقعمق، ويمتاز عما قبله من شعر مصر بالجزالة والقوة للأسباب التي ذكرناها ، ومن أشهر هؤلاء المهذب بن الزبير، وكان أكثر مديحه في الصالح بن رزيك، ومن أشهر قصائده فيه قصيدة نونية يمدحه بها بعد انتصار أسطول مصر على أسطول الروم، مطلعها:
أعلمت حين تجاور الحيان
أن القلوب مواقد النيران
ومثل المهذب الموصلي، وعمارة اليمني.
ويصح أن نلاحظ أن هذا الشعر الذي قيل في مديح الفاطميين شعر فرح مغتبط؛ إذ كان الشيعة لأول أمرهم قد نجحوا في تأسيس دولة ضخمة، وتبوءوا فيها كرسي الخلافة بعد أن طال أمدهم في اضطهاد وتعذيب على يد الأمويين والعباسيين، فكان شعر شعرائهم حزينا آسفا كشعر السيد الحميري، والكميت ودعبل الخزاعي.
ثم شعر تعليمي في الدعوة، وقد بدأه ابن هانئ الأندلسي في بعض شعره، وقد عرضنا قبل نماذج منه، وبلغ قمته المؤيد الشيرازي داعي الدعاة، فأكثر من الشعر في هذا الباب وأفاض، وله ديوان في ذلك، منه في تأييد علم الباطن.
ورب معنى ضمه كلام
كمثل نور ضمه ظلام
باق بقاء الحب في السنابل
في معقل من أحرز المعاقل
وإنما باب المعاني مقفل
وأكثر الأنام عنه غفل
مفتاحه أضحى بأيدي خزنه
بهم إلهي علمه قد خزنه
كما يلوذ الخلق طرا بهم
خصوا لهذا العلم من ربهمو
فما أبو حنيفة والشافعي - حيث هم قد نفقوا - بنافع
أولئك الأبرار آل المصطفى
ومن بهم مروة عزت والصفا
هم البدور والنجوم اللمع
وللهدى وللعلوم المنبع
هم الثقات والنفاة للشبه
والمنقذون الناس من كل عمه
لهم سمعنا ولهم أطعنا
فبدلونا بعد خوف أمنا
فما علينا مشكل بمشكل
بهم كفينا كل خط معضل
وأرشدونا سبل الصواب
وعلمونا علم ذا الكتاب
مبرأ من هجنه التناقض
مسلما من خوض كل خائض
وهكذا كل ديوانه في الدعوة وما إليها.
43
ثم شعر هو أرقى أنواع الشعر وأصدقه، ينبع من مشاعر الشاعر، ويتدفق في رقة وسلاسة، وكان على رأس الشعراء من هذا النوع شاعران فاطميان: تميم بن المعز، والعقيلي.
فأما تميم، فهو ابن الخليفة المعز فاتح مصر؛ ولم يل الخلافة لأن المعز جعل ولاية عهده لابنه العزيز نزار دون تميم، فحرم الخلافة، ولكنه تبوأ عرش الأدب فكان شاعرا ماهرا لطيفا ظريفا، يشعر بخلجات نفسه، ونبضات قلبه، ولم تر مصر شاعرا من هذا القبيل قبله مثله، يصف حياته اللاهية من حبه وعشقه وليالي غرامه ونحو ذلك في قول عذب، وفي أعماقه شعور بالحزن؛ إما لطبيعة مزاجه ورقة جسمه، أو لخروج الخلافة من يده وهو يرى أنه أولى بالفضل، أو لأنه عذبه الحب فأضناه، أو لكل ذلك مجتمعا، فمن قوله:
أما والذي لا يملك الأمر غيره
ومن هو بالسر المكتم أعلم
لئن كان كتمان المصائب مؤلما
لإعلانها عندي أشد وآلم
وبي كل ما يبكي العيون أقله
وإن كنت منه دائما أتبسم
وتميم بن المعز أشبه شيء بابن المعتز في قرابة الكنية، والنشأة في بيت الملك، وقوة الشاعرية، وسوء الحظ في دنيا المناصب، وإن تخالفا في أن ابن المعتز سني عباسي يدعو للعباسيين ويرد على الشيعة، فيرد عليه ابن المعز في مثل قوله وعلى روي قصيدته. يقول ابن المعتز في الإشادة بالعباسيين ورد دعوة الشيعة قصيدة مطلعها:
أي رسم لآل هند ودار
درسا غير ملعب ومنار
يقول فيها:
هاشمي إذا نسبت ومخصو
ص ببيت من هاشم، غير عار
أخزن الغيظ في قلوب الأعادي
وأحل الجبار دار الصغار
أنا جيش إذا غدوت وحيدا
ووحيد في الجحفل الجرار ... إلخ.
فيرد تميم بن المعز بقصيدته:
يا بني هاشم ولسنا سواء
في صغار من العلا وكبار
إن نكن ننتمى لجد فإنا
قد سبقناكمو لكل فخار
ليس عباسكم كمثل علي
هل تقاس النجوم بالأقمار؟! ... إلخ.
ولكن دعنا من هذا، فمزية تميم الكبرى في رقة شعره، وصدق شعوره وسلاسته، فكان في ذلك أستاذ البهاء زهير بعده، كقوله:
يا دهر ما أقساك من متلون
في حالتيك وما أقلك منصفا
أتروح للنكس الجهول ممهدا
وعلى اللبيب الحر سيفا مرهفا
فإذا صفوت كدرت شيمة باخل
وإذا وفيت نقضت أسباب الوفا
لا أرتضيك وإن صفوت لأنني
أدري بأنك لا تدوم على الصفا
زمن إذا أعطى استرد عطاءه
وإذا استقر بدا له فتحرفا
ما قام خيرك يا زمان بشره
أولى بنا ما قل منك وما كفى
وقوله:
قالت وقد نالها للبين أوجعه
والبين صعب على الأحباب موقعه
أجعل يديك على قلبي فقد ضعفت
قواه عن حمل ما فيه وأضلعه
كأنني يوم ولت حسرة وأسى
غريق بحر يرى الشاطي ويمنعه
وله الأوزان الشعرية الظريفة كقوله:
دم العشاق مطلول
ودين الحب ممطول
وسيف اللحظ مسلول
ومبدي الحب معذول
وإن لم يصغ للائم
وأحور ساحر الطرف
يفوق جوامع الوصف
مليح الدل والظرف
جنت ألحاظه حتفي
فمن يعدي على الظالم؟
يعنفني على حبي
ويهجرني بلا ذنب
كأني لست بالصب
لقهوة ريقه العذب
أما في الحب من راحم؟ ... إلخ.
وقد مات سنة 374ه في خلافة أخيه، ولم يعمر طويلا؛ إذ كان عمره يوم وفاته نحوا من سبع وثلاثين سنة، وهذه سنة القلب المحترق.
44
وأما العقيلي، فهو أبو الحسن علي بن الحسن بن حيدرة العقيلي، كان في المائة الخامسة، وكان من الأشراف، وكان له متنزهات بجزيرة الفسطاط، ولم يغن لخليفة أو أمير، بل غنى لنفسه في حبه ومتنزهاته، وكان يعد من أئمة المدرسة التي تعنى بالتشبيه وتجيده، أمثال ذي الرمة أولا، وابن المعتز أخيرا، ثم سلك مسلك أبي نواس في الخمر وتوليد المغاني منها، وأولع بالطبيعة الجميلة يستجليها ويستمتع بها، كقوله:
الروض في ديباجة خضراء
والجو في فرجية دكناء
والأرض قد نظم الربيع لجيدها
عقدا من الصفراء والحمراء
والراح ينثر في مذاب عقيقها
درر الفواقع جوهري الماء
فاقصد رضا رضوانها بالشرب إن
أحببت سكنى جنة السراء
وقوله في وصف صديق:
ظللني بظله الظليل
أخ نداه واضح السبيل
يسير في المجد بلا دليل
مهذب الجملة والتفصيل
أخلاقه تنضح بالجميل
كأنه عافية العليل •••
لأحسن من مصافحة الصفاح
ومن وقع الرماح على الرماح
بقاع ترقص الأمواج فيها
على النغمات من رمي الرماح
وأغصان يذهبها بهار
وغيطان يفضضها أقاح
وإن جنح الشباب إلى التصابي
فخل عنانه طوع الجماح
فصبح العيش سوف يعود ليلا
إذا ما الليل نغص بالصباح
45
أتطمع بعد شيبك في سرور
محال أن تطير بلا جناح
46
ثم ما بقي لنا من النثر الفني الفاطمي ولو كان قليلا، كبعض الكتب الرسمية التي ذكرها القلقشندي في «صبح الأعشى»، ورسالة ابن القارح لأبي العلاء - وقد عاش ابن القارح في زمن الحاكم - ورد عليها أبو العلاء ب «رسالة الغفران»، وكرسالة داعي الدعاة إلى أبي العلاء، وجداله معه في ذبح الحيوان، إلى غير ذلك من رسائل منثورة هنا وهناك، كل هذا على قلته يدل على تقدم النثر الفني، وميله إلى الزينة من سجع وبديع واقتباس، مما هو ظل لحياة الترف في قصور الخلفاء، كما يدل على تأثر بسعة الثفافة التي عظمت في هذا العصر.
هوامش
الفصل الثاني
العراق وجنوبي فارس
ظلت هذه البلاد محكومة بالخلفاء اسما، وبسلطة الأتراك فعلا، من عهد المتوكل إلى أن جاءت البويهية الفارسية فبسطت نفوذها على جنوبي فارس والعراق من سنة 321ه إلى سنة 447ه، ولما تغلبوا على بغداد لم يكن للخليفة العباسي معهم إلا الاسم، والدعاء له على المنابر، وكتابة اسمه على سكة الدراهم والدنانير. وأما جباية الأموال وتجييش الجيوش وأمور الدولة كلها ففي أيديهم، قد جعلوا للخليفة مرتبا ثم تصرفوا كل مالية الدولة، وكان لقبهم «أمير الأمراء» لقبهم به الخلفاء، وقد كان البويهيون شيعة، وقد فكر معز الدولة البويهي عندما فتح بغداد أن يعزل الخليفة وهو سني، ويقيم مكانه أحد الأئمة العلويين، كما فعل الفاطميون، وكان ذلك هينا عليه، ولكن نصحه بعض خاصته ألا يفعل، وقال: «ليس هذا برأي فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله قتلوه مستحلين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن رأيه، وأقام المطيع لله خليفة بدل المستكفي المخلوع.»
وقد كانوا فرسا متشيعين يقولون إنهم من نسل ملوك فارس، وقد تقسموا العراق وجنوبي فارس فيما بينهم، وامتد نفوذ بعضهم أحيانا، وانكمش نفوذ بعضهم، فمنهم من حكم العراق والأهواز وكرمان، ومنهم من حكم كرمان وحدها، ومنهم من حكم فارس وحدها، ومنهم من حكم الري وهمذان وأصفهان، ومنهم من مد سلطانه على ذلك جميعا كعضد الدولة، وكان بين بعضهم وبعض خصومات ومنازعات ليس هنا موضع شرحها.
إنما نستطيع أن نقول: إنهم مع فارسيتهم شجعوا الأدب العربي، واللسان العربي، والعلوم العربية، وكان ممن نبغ من العلماء والأدباء والفلاسفة في عهدهم من يعد بحق فخر المملكة الإسلامية في العصور المختلفة.
وقد كانت هناك مدن كثيرة في هذا الإقليم أثناء هذا العهد وقبله تميزت بقوة الحركات العلمية والأدبية مثل بغداد والبصرة والكوفة في العراق، والري وأصبهان في فارس.
وقد زار المقدسي هذه البلاد كلها في العهد البويهي، وملخص ما قال من الناحية العلمية: «إن إقليم العراق إقليم الظرفاء، ومنبع العلماء، لطيف الماء عجيب الهواء، مختار الخلفاء، أخرج أبا حنيفة فقيه الفقهاء، وسفيان سيد القراء، ومنه كان أبو عبيدة والفراء، وحمزة والكسائي، وكل فقيه ومقرئ وأديب، وسري وحكيم وداه وزاهد ونجيب، وظريف ولبيب - أليس به البصرة التي قوبلت بالدنيا، وبغداد الممدوحة في الورى، والكوفة الجليلة وسامرا.»
1 «والكوفة قصبة جليلة حسنة البناء جليلة الأسواق كثيرة الخيرات ... وهو بلد مختل قد خرب أطرافه، وكان نظير بغداد.»
2 «والبصرة قصبة سرية ... والبلد أعجب إلي من بغداد لرفعتها، وكثرة الصالحين بها، وكنت بمجلس جمع فقهاء بغداد ومشايخها، فتذاكروا بغداد والبصرة فتفرقوا على أنه إذا جمعت عمارات بغداد، وأندر خراجها لم تكن أكبر من البصرة.»
3 «وبغداد - لأهلها - الخصائص والظرافة، والقرائح واللطافة، هواء رقيق، وعلم دقيق، كل جيد بها، وكل حسن فيها، وكل حاذق ممنها، وكل قلب إليها، وكل حرب عليها، وهي أشهر من أن توصف، وأحسن من أن تنعت، وأعلى من أن تمدح.»
4
ولكنه في موضع آخر قال: «واعلم أن بغداد كانت جليلة في القديم، وقد تداعت الآن للخراب، واختلت وذهب بهاؤها، ولم أستطبها، ولا أعجبت بها، وإن مدحناها فللمتعارف؛ وفسطاط مصر اليوم كبغداد، ولا أعلم في الإسلام بلدا أجل منه.»
5
والعراق «كثيرة الفقهاء والقراء والأدباء والأئمة والملوك، بخاصة بغداد والبصرة ... وبه مجوس كثيرة، وذمته نصارى ويهود ... وقد حصل به عدة من المذاهب، والغلبة ببغداد للحنابلة والشيعة، وبه مالكية وأشعرية ومعتزلة ونجارية، وبالكوفة الشيعة إلا الكناسة فإنه سنة ... وبالبصرة مجالس وعوام السالمية، وهم قوم يدعون الكلام والزهد، وسالم كان غلام سهل بن عبد الله التستري الصوفي ... وأكثر أهل البصرة قدرية وشيعة، وثم حنابلة وببغداد غالية يفرطون في حب معاوية، ومشبهة ... والقراءات السبع مستعملة في العراق ... ولغاتهم مختلفة أصحها الكوفية لقربهم من البادية، وبعدهم عن النبط، ثم هي بعد ذلك خشنة وفاسدة بخاصة في بغداد، وأما البطائح فنبط لا لسان ولا عقل».
6 «وتقع عصبيات وحشة بالبصرة بين الربعيين وهم شيعة، وبين السعديين وهم سنة، ويدخل فيها أهل الرساتيق، وقل بلد إلا وبه عصبيات على غير المذاهب.» «وأما القسم من إيران الذي يحكمه البويهيون فقسمه الشمالي كان يسمى بلاد الجبال، وأهم مدنه أربع: كرمنشاه - وكانت تسمى في ذلك العهد قرمسين - والري، وهمذان، وأصفهان - وسمي هذا الإقليم في العهد السجلوقي بالعراق العجمي - وكانت عاصمة هذا العهد البويهي هي «الري»، قال الإصطخري: «و«الري» مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها.» وقال الأصمعي: «الري عروس الدنيا وإليه متجر الناس، وهو أحد بلدان الأرض.» والنسبة إليها رازي. وقد خرجت كثيرا من العلماء المعروفين بهذه النسبة كما سيجيء، وموقعها على بعد أميال من طهران، ومحلها الآن خرائب، ولما وصف المقدسي هذا الإقليم في العهد البويهي قال: «إن به الري الجليلة، وهمذان، والكورة النفسية أصبهان.»
7 «فأما الري فإنها كورة نزيهة كثيرة المياه، جليلة القرى، حسنة الفواكه، واسعة الأرض، خطيرة الرساتيق
8 ... علماء سراة، وعوام دهاة، ونسوان مدبرات، لهم جمال وعقل وآيين، وبه مجالس ومدارس، وقرائح وصنائع وخصائص، لا يخلو المذكر من فقه، ولا الرئيس من علم، ولا المحتسب من صيت، ولا الخطيب من أدب، هو أحد مفاخر الإسلام، وأمهات البلدان، به مشايخ وأجلة، وقراء وأئمة وزهاد وغزاة ... وأئمة الجوامع فيها مختلفة، يوم للحنفيين، ويوم للشفعويين.»
9 «وأما همذان فهي إقليم كبير حسن قديم ... والري أطيب وآهل وأعمر منها، قد انجلى أهلهان، وقل العلماء بها، وأذهبت الري دولتها.» «وأما أصفهان، فأخذت بحظ من فارس، وحظ من الجبال، وقصبتها «اليهودية»، وهي كبيرة عامرة آهلة كثيرة الخيرات، أهل سنة وجماعة، وأدب وبلاغة، كما أخرجت من مقرئ وأديب، وفقيه ولبيب.»
10 «ومذاهب هذا الإقليم مختلفة أما بالري فالغلبة للحنفيين، وبها حنابلة كثيرون لهم جلبة، والعوام قد تابعوا الفقهاء في خلق القرآن، وأهل «قم» شيعة غالية ... وهمذان وأجنادها أصحاب حديث إلا الدينور، فإن بها جلبة لمذهب سفيان الثوري، والإمامة في الجامع مثنى - يوم لمذهب ويوم لمذهب - وعلى ذلك كان أهل أصفهان في القديم.»
11
ويقع بالري عصبيات في خلق القرآن،
12
وفي أهل أصفهان بله وغلو في معاوية.
13
وقد اشتهر من بلاد الجبل في العلم والأدب «دينور» التي ينسب إليها ابن قتيبة الدينوري، وأبو حنيفة الدينوري، وغيرهما من فحول العلماء والأدباء.
وإلى الجنوب من إقليم الجبال كان إقليم «فارس»، وكان اسما لإقليم خاص، ثم أطلق على إيران كلها، وقد اشتهر من هذا الإقليم في العلم والأدب إصطخر، وسيراف، وشيراز، وأرجان، وشعب بوان، وشهرستان، وقد حازت شيراز مركزا ممتازا في العهد البويهي، وخاصة في عهد عضد الدولة، وكانت هي قصبة إقليم فارس ينزل بها ملوك البويهيين، قال المقدسي: «وهذا الإقليم - إقليم فارس - العمل فيه على مذهب أصحاب الحديث، وأصحاب أبي حنفية كثيرون، وللداوودية - أهل الظاهر - دروس ومجالس وغلبة، ويتقلدون القضاء والأعمال.
14
والصوفية بشيراز كثيرون، وكما يرفع بالمشرف العلماء ترفع هنا الكتبة.»
15
تعود إلى وصف الحركة العلمية في العراق، ثم في الجزء الجنوبي من بلاد الفرس، فالعراق من عهد المتوكل إلى آخر الدولة البويهية لم تزل لها الصدارة في العلم والأدب والفلسفة.
ويدل ما جمعه الخطيب البغدادي من تراجم علماء بغداد على ثروة واسعة في العلم والعلماء من جميع الفروع كالتفسير والحديث والفقه والشعر والأدب.
نعم إن المتوكل نصر أهل الحديث على المعتزلة واضطهدهم، وكان في هذا خسارة كبيرة على الحركة الفكرية؛ ولكن مع ذلك ظل الجدل في علم الكلام قويا.
فقد نبغ أبو علي الجبائي (235ه-303ه)، وكان إمام المعتزلة في بغداد، وتتلمذ له أبو الحسن الأشعري (270ه-330ه)، وكان مولده بالبصرة، وانتقل إلى بغداد، وأخذ مذهب الاعتزال على الجبائي، ثم خرج على الاعتزال وحاربه وألف في ذلك الكتب الكثيرة، وخالف المعتزلة في كثير من أصولهم لقولهم بالاختيار المطلق ووجوب العدل على الله، وأن القرآن مخلوق، وكون مذهبا له دعا إليه، وناصر مذهبه جماعة من أكبر العلماء من أشهرهم الباقلاني، وابن فورك، والإسفرائيني، والقشيري، وإمام الحرمين الجويني، ثم الغزالي فأبو حامد الإسفرائيني كان يحضر إليه أكثر من ثلاثمائة فقيه، وانتهت إليه الرياسة في بغداد، وكان شافعيا كأبي الحسن الأشعري، وما زال يدرس ببغداد من سنة 370ه إلى وفاته سنة 406ه.
والباقلاني كذلك كان من أنصار الأشعري في بغداد، وصنف التصانيف الكثيرة في علم الكلام، وكان موصوفا بالإطناب وقوة الجدل، مات سنة 403ه ... إلخ إلخ.
واشتد الجدل بين الأشعرية والمعتزلة، وإن خفت بعض الشيء صوت المعتزلة؛ لقوة المحدثين، ونصرة ذوي السلطان لهم.
واستمر المعتزلة في العراق يعلمون ويدرسون ويدعون، وقد اشتهر منهم أئمة عظماء كأبي علي الجبائي الذي مر ذكره، ثم تلميذه في الاعتزال محمد بن عمر الصيمري، ثم قاضي القضاة عبد الجبال، كان أشعريا ثم تحول إلى الاعتزال ونبغ فيه، قالوا: «وهو أول من فتق علم الكلام ونشر بروده، ووضع فيه الكتب الجليلة التي بلغت المشرق والمغرب، وضمنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتفق لأحد مثله، وطال عمره مواظبا على التدريس والإملاء - ببغداد - حتى طبق الأرض بكتبه وأصحابه، وبعد صوته، وإليه انتهت الرياسة في المعتزلة حتى صار شيخها وعالمها غير مدافع، وصار الاعتماد على كتبه ومسائله، واستدعاه الصاحب بن عباد إلى الري سنة 360ه فبقي فيها مواظبا على التدريس إلى أن توفي سنة 415ه أو سنة 416ه.»
16
وهو الذي يلقبه المعتزلة بقاضي القضاة.
وهكذا ظلت حركة الاعتزال في العراق يناهضها الأشاعرة وغيرهم، ويؤسسون بذلك علم الكلام ويوسعونه.
كما نمت الحركة الفقهية في العراق نموا كبيرا، وظهر كثير من المجتهدين وكبار أتباع المذاهب المختلفة.
فكان من المجتهدين داود الظاهري الأصفهاني الأصل البغدادي الدار، وقد أسس مذهبا عماده إنكار القياس، وأن في الكتاب والسنة من العمومات ما يفي بمعرفة الواجبات والمحرمات، وتقديم ظواهر آيات القرآن والحديث على التعليل العقلي للأحكام، وقد كثر أتباع هذا المذهب في العراق وفارس والأندلس، وقد انقرضوا بعد المائة الخامسة، وقد مات داود صاحب المذهب سنة 270ه ببغداد، ونشر مذهبه بعده ابنه محمد المتوفى سنة 297ه.
ثم من أشهر الأئمة المجتهدين محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ، ومن أعلم الناس بفقه المذاهب المختلفة، وألف في اختلاف الفقهاء، وكان من أكثر العلماء تأليفا، وكان مجتهدا في مذهبه لم يقلد أحدا، توفي سنة 310ه ببغداد، وكان له أتباع على مذهبه انقطعوا بعد المائة الرابعة.
وقد نبغ في هذا العصر كثير من علماء المذاهب المختلفة كذلك.
فاشتهر من الحنفية في العراق أبو الحسن عبيد الله الكرخي رئيس الحنفية في العراق في عصره، توفي سنة 340ه، وقد أصابه الفالج، فكتب أصحابه إلى سيف الدولة الحمداني يستمنحونه ما ينفق عليه، فلما علم الكرخي بذلك بكى، وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني. ومات قبل أن تصل إليه صلة سيف الدولة.
وكان من أكبر تلاميذ الكرخي هذا أبو بكر الجصاص البغدادي رأس المذهب بعد الكرخي ، وألف الكتب الكثيرة على مذهب أبي حنيفة، مات سنة 370ه، وقد وصل إلينا من تآليفه كتابه العظيم المطبوع، «أحكام القرآن».
ثم أبو الحسين القدوري رئيس الحنفية في العراق في زمنه، وقد ألف كتبا وصل إلينا بعضها منها المختصر، وكان يناظر الإسفرائيني الفقيه الشافعي المشهور، مات سنة 428ه.
واشتهر من فقهاء المالكية العراقيين أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن حماد، تفقه عليه أهل العراق من المالكية، وألف الكتب الكثيرة في الفقه المالكي وعلوم القرآن وكان من نظراء المبرد في النحو، وولي قضاء بغداد، وعنه انتشر مذهب مالك في العراق، وأقام على القضاء نيفا وخمسين سنة، «وكان بيت آل حماد أشهر بيت في العراق؛ لكثرة رجاله المشهورين بالعلم والثراء، أئمة الفقه ومشيخة الحديث، رؤساء نبهاء أصحاب سنة وهدي ودين، روى عنهم علماء انتشروا في أقطار الأرض، فانتشر ذكرهم في المشرق والمغرب، وبقي العلم في بيتهم نحو مائة عام»، مات إسماعيل بن حماد هذا سنة 282ه.
ثم أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي المشهور بابن القصار، كتب كتاب مسائل الخلاف المشهور عند المالكية، وقد تولى أيضا قضاء بغداد، ومات سنة 398ه.
واشتهر من رجال الشافعية، أبو علي الكرابيسي البغدادي، رئيس الشافعية ببغداد، المتوفى سنة 245ه، وأبو علي الزعفراني البغدادي المتوفى سنة 260ه، وأبو علي الحسن بن القاسم الطبري البغدادي، له كتاب المحرر في النظر، وهو من أوائل الكتب في الخلاف بين الفقهاء، وله كتاب الإفصاح في الفقه، وكتاب في الأصول، وكتاب في الجدل، توفي سنة 305ه.
ثم أحمد بن عمر بن سريج القاضي بشيراز ثم ببغداد، أحد عظماء الشافعية ألف نحو أربعمائة كتاب، توفي سنة 306ه.
وأبو إسحاق المروزي أمام عصره في العراق بعد ابن سريج، أقام بالعراق دهرا طويلا ينشر مذهب الشافعي، توفي سنة 340ه.
وأبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني، المحدث الكبير، وكان فقيها شافعيا، عارفا باختلاف الفقهاء، رحل إلى مصر، ونزل ضيفا على ابن حنزابة وزير كافور الإخشيدي، ثم عاد إلى بغداد، وألف كتبا كثيرة، ومات ببغداد سنة 385ه ، ونسبته إلى دار قطن محلة ببغداد.
ثم أبو الحسن الماوردي علي بن محمد بن حبيب البصري من أكبر فقهاء الشافعية، تولى القضاء في بلدان كثيرة، واستوطن بغداد، وألف «الحاوي» وهو من أهم الكتب في الفقه الشافعي، وله الكتاب المشهور المفيد كتاب «الأحكام السلطانية» شرح فيه مناصب الدولة من الناحية الدينية كالإمامة وشروطها، والوزارة وأقسامها، والقضاء والحسبة وولاية الخراج، إلى آخره، وكان عمدة كل من تعرض لهذا الموضوع من بعده، وله كتاب آخر في قانون الوزارة وسياسة الملك.
وله كتاب «أدب الدنيا والدين» في الأخلاق على الأصول الدينية لا كتهذيب الأخلاق لمسكويه، فإنه كتاب أخلاق على الأصول الفلسفية.
مات ببغداد سنة 450ه.
وكان للحنابلة سلطان كبير في العراق، واشتهر من علمائهم عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، روى عن أبيه المسند والتفسير توفي سنة 290ه.
وأبو بكر أحمد بن هانئ الطائي البغدادي أحد الأعلام في الفقه على مذهب ابن حنبل، مات بعد السبعين ومائتين.
وأبو إسحاق إبراهيم الحربي إمام كبير في الحديث مات سنة 285ه.
وأبو بكر عبد الله بن داود الأزدي السجستاني من أكابر حفاظ الحديث ببغداد، وانتهت إليه رياسة الحنابلة بها، مات سنة 316ه.
وأبو القاسم عمر بن الحسين الخرقي صاحب المختصر في فقه الحنابلة، خرج من بغداد لما ظهر بها سب السلف، وتوفي سنة 334ه.
وقد أتعب الحنابلة الحكومات المتعاقبة أكثر من غيرهم من أهل المذاهب الأخرى لشدة عصبيتهم والميل إلى تنفيذ آرائهم بالقوة، من إراقة الخمور ومحاربة المنكرات، والتعدي على خصومهم من أهل المذاهب، وصبرهم على ما يلقون من محن تقليدا لأستاذهم الأكبر أحمد بن حنبل.
وفي هذا العصر نما في العراق التصوف، والدعوة إلى الاهتمام بباطن النفس لا بالظواهر، وحقيقة الشريعة لا مجرد أعمال الجوارح، ورياضة النفس عن طريق الزهد والعبادة، والوصول إلى المعرفة عن طريق الوحي والإلهام، وإدراك العالم العلوي بالذوق والشعور، لا بما يدركه العقل بالمنطق والتجارب والقياس، وقد ظهر التصوف في العراق في القرن الثاني، واشتهر من أعلامه رابعة العدوية المتوفاة سنة 135ه، وهي القائلة: استغفارنا يحتاج إلى استغفار. والقائلة: إلهي، أتحرق بالنار قلبا يحبك؟!
ثم إبراهيم بن أدهم (162ه)، وشقيق البلخي (195ه)، ومعروف الكرخي (200ه)، وهو القائل: التصوف الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الناس. ثم بشر الحافي (226ه)، وهو القائل للمحدثين: أدوا زكاة هذا الحديث. قالوا: وما زكاته؟ قال: أن تعملوا بخمسة أحاديث من كل مائتين.
وفي أواسط القرن الثالث تفلسف التصوف، واستمد من الفلسفة اليونانية والفلسفة الهندية، فظهر بالعراق الحارث المحاسبي وهو بصري الأصل، وأستاذ أكثر البغداديين، ومفلسف التصوف، ألف كتبا كثيرة؛ وكان يقول: خيار هذه الأمة هم الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم، ولا دنياهم عن آخرتهم. وكانت تآليفه من الأصول التي اعتمد عليها الغزالي في كتبه، توفي سنة 243ه.
ثم سهل بن عبد الله التستري البصري المتوفى سنة 283ه.
ثم أبو سعيد أحمد بن عيسى البغدادي الخزار المتوفى سنة 286ه، وهو أول من تكلم في الفناء والبقاء.
ثم ظهر إمام الصوفية الجنيد، أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه بالعراق، توفي سنة 297ه ببغداد، ومن قوله: «التصوف صفاء المعاملة مع الله.» «إن الله يخلص إلى القلوب من بره على حسب ما تخلص إليه القلوب من ذكره، فانظر ماذا خالط قلبك.» «المريد الصادق غني عن علم العلماء.» «التصوف أن تكون مع الله بلا علاقة.»
ومن تلاميذ الجنيد أبو منصور الحلاج الذي نقلت عنه مقالات في الحلول أفتى فيها العلماء بإباحة دمه، فقتل ببغداد سنة 309ه.
وأخذ المتصوفة يضعون الكتب في التصوف محاذاة لكتب الفقهاء، ومن أشهر هذه الكتب «قوت القلوب» لأبي طالب المكي، أصله من إقليم الجبل وسكن مكة فنسب إليها، وأقام ببغداد مدة وبالبصرة مدة، وشطح في كلامه، وقد مات ببغداد سنة 386ه.
وكان طبيعيا أن يثور الخلاف بين الفقهاء والمتصوفة لاختلاف النزعتين، فالمتصوف يعتمد على القلب وعلى الذوق وعلى المعرفة من طريق الإلهام وعلى الباطن، والفقهاء يعتمدون على ظاهر القرآن والسنة، وعلى الاستنباط منهما من طريق المنطق والعقل، وليس عندهم باطن ولا حقيقة وراء ظاهر النصوص وفهم معانيها ، والصوفي يعنى بالروح والنفس، والفقيه يعني بالجانب الظاهري والعملي، والصوفي روحاني نفساني، والفقيه قانوني، والصوفي يعنى بالحب الإلهي، ولا يعنيه كثيرا أمر الثواب والعقاب، والفقيه يعني بأداء العبادات، ويعتمد كثيرا على الثواب والعقاب ... إلخ.
فلا عجب إذن إذا اصطدمت الطائفتان، ولا عجب إن كان أكبر اصطدام لهما في العراق إذ كانت الموطن الأكبر للمتصوفة، وخصوصا في البصرة حيث كانت منزل الهنود القادمين إلى العراق، وبغداد حيث تلتقي الثقافات.
وكانت الخصومة أشد ما يكون بين الحنابلة والصوفية لشدة تمسك الحنابلة بظاهر النصوص، ولأثر أحمد بن حنبل نفسه في ذلك، فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي الصوفي كلامه في التصوف حتى اختفى المحاسبي، ولما مات لم يحضر جنازته إلا أربعة، وعاب عليه ابن حنبل وتلاميذه كلامه في الخواطر والوساوس، وقال إن هذه بدعة، ورمى الحنابلة الصوفية بالزندقة وأثاروا الناس عليهم، وكان من أشهر الحوادث في ذلك المحنة المعروفة بمحنة «غلام الخليل»، وكان ذلك سنة 262ه، إذ جاء «غلام الخليل»، وكان حنبليا معروفا بالحديث والفقه والوعظ، وقد وصفه أبو داود السجستاني بأنه دجال بغداد ، واتهم الصوفية بالزندقة، وشغب عليهم العامة، وسعى عند الخليفة، وعند والدة الموفق، فأمر بالقبض على عدد كبير من الصوفية بلغوا نيفا وسبعين، وانتهت المحنة بقتل بعضهم، وهرب بعضهم وتبرئة بعضهم.
ثم كانت فتنة الحلاج الكبرى فاتهم بالكفر ودعوى الألوهية، ورصدت فتوى من محمد بن داود الظاهري بتكفيره سنه 297ه، ثم قبض عليه وحوكم؛ وصدرت الفتوى بإباحة دمه من أبي عمر بن يوسف الأزدي وأبي الحسين بن الأشناني، ووقع الخليفة بموته، فقتل الحلاج وصلب وقطعت أطرافه، وأحرق سنة 309ه.
فنرى من هذا شدة ما كان بين الصوفية والفقهاء في العراق من نزاع.
ونشطت حركة الفلسفة والنقل في العراق في العهد البويهي نشاطا كبيرا، فكان من أكبر فلاسفة بغداد أبو سليمان المنطقي محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني، شيخ رجال الفكر في بغداد، وقد وصفه تلميذه أبو حيان بأنه «أدق العلماء نظرا، وأقعرهم غوصا، وأصفاهم فكرا، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر، مع تقطع في العبارة، ولكنة ناشئة من العجمة، وقلة نظر في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز».
17
وكان مجلسه في بيته مدرسة فكرية تثار فيها أدق المسائل، ويدلي فيها كبار العلماء بآرائهم، ولأبي سليمان الكلمة الأخيرة فيما يعرضون.
فيجتمع عنده أمثال أبي زكريا الصيمري، وأبي حيان التوحيدي، والنوشجاني والقومسي، وغلام زحل، ويتجادلون - مثلا - في هل هناك تأثير للنجوم في الحوادث الأرضية، وفي أفعال الله هل هي ضرورة أو اختيار، وفي السماع والغناء. ولم يؤثران في النفس، والعلاقة بين المنطق والنحو، ونعيم أهل الجنة وكيف يكون، والفرق بين طريقة المتكلمين والفلاسفة، والحظوظ والأرزاق، والدهر وحقيقته.
فكان بيته مدرسة تنشط فيها الحركات الفكرية، وتثار فيه أعقد المسائل أحيانا ارتجالا، وأحيانا بقراءة رتيبة؛ فقد درس في بيته - مثلا - كتاب النفس لأرسطو وحضره عليه أبو حيان التوحيدي.
ويطلعنا أبو حيان التوحيدي في كتابه «المقابسات» و«الإمتاع والمؤانسة» على محاضر لهذه الجلسات وغيرها مما كان يدور بين العلماء في بغداد، فيدلنا على نشاط ذهني فلسفي عجيب، وحرية في التفكير عظيمة، وثروة في رجال الفكر والنشاط العقلي كبيرة، فيروي لنا - مثلا - مناظرة كبرى بين أبي سعيد السيرافي النحوي وبين متى بن يونس القنائي في المنطق اليوناني والنحو العربي سنة 320ه، وكانت في بغداد، واحتشد لهذه المناظرة كثير من العلماء ورسول للإخشيديين بمصر ورسول للسامانيين، وكان أساس المناظرة أن متى يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين؛ إلا بالمنطق حسبما رسمه أرسطو. وكان أبو سعيد يرى أن هذه الأمور تعرف بالعقل الفطري من غير حاجة إلى المنطق، وليس علم المنطق إلا أشكالا، فهب أن الأشكال صحيحة فبم تعرف جوهر الأشياء وحقيقتها؟ أليس من طريق العقل؟! وتحورت المناقشة بعد ذلك إلى مسائل فرعية لا نطيل بها، كدعوى أنه لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق ... إلخ.
ويحكي مجلسا عند الوزير ابن سعدان حضره جماعة من متفلسفة النصارى جرى فيه البحث في الإصلاح الخلقي وتقسيمه إلى سهل وعسير كالإصلاح البدني.
ومحضر جلسة أخرى عند عيسى بن علي بن عيسى الوزير في السبب الذي من أجله يولع كل ذي علم بعلمه.
ومناظرة بين ماني المجوسي وأبي الحسن محمد بن يوسف العامري في النفس بعد الموت هل تبقى أو لا تبقى.
ومناقشة في أن معرفة الله هل هي ضرورية أم استدلالية، إلى أكثر من أمثال ذلك مما يدل على جو مملوء بالأفكار الفلسفية، وميل عقلي إلى فلسفة الأشياء والعمق في التفكير فيها.
واشتهر بالطب والفلسفة في بغداد ابن بطلان وهو أبو الحسن المختار بن الحسن بن عبدون النصراني، وهو الذي كان له المساجلات الطويلة المفيدة مع ابن رضوان المصري، فلما طالت سافر على مصر لزيارة منافسه سنة 439ه وعرج على حلب، ثم وصل مصر سنة 441ه وأقام بها ثلاث سنين، ثم عاد إلى بغداد، وقد تقدم طرف مما كانت تدور حوله المناظرة عند ترجمة ابن رضوان، وقد وصل إلينا من كتبه كتاب شراء العبيد وكتاب دعوة الأطباء، وقد صنف أيضا في تقويم الصحة، وكيفية دخول الغذاء في البدن وهضمه، والمدخل إلى الطب ... إلخ.
وكان من أشهر المشتغلين بالفلسفة في بغداد يحيى بن عدي النصراني، وكان رئيس المناطقة في زمانه، أخذ العلم عن بشر بن متى وعن الفارابي، وكان كثير الإنتاج بما ينقل من السريانية إلى العربية وبما يؤلف وبما ينسخ، وقد عمر إحدى وثمانين سنة كان فيها حركة دائبة، ألف مقالات كثيرة في المنطق وفي الإلهيات، ومات ببغداد سنة 364ه، وصفه أبو حيان التوحيدي بأنه «كان شيخا لين العريكة، مشوه الترجمة رديء العبارة، وكان مبارك المجلس، وكان ينبهر في الإلهيات ويضل فيها».
وممن اشتهر بالفلسفة أيضا أبو علي بن زرعة النصراني، اشتهر بالمنطق وعلوم الفلسفة، والنقل إلى العربية، اختصر كتاب أرسطو في المعمور من الأرض، وألف كتاب أغراض كتب أرسطو المنطقية، ومقالة في العقل ... إلخ. مات ببغداد سنة 398ه، وقد فضله أبو حيان على يحيى بن عدي فقال: «إنه كان حسن الترجمة صحيح النقل، كثير الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربية ... ولولا توزع فكره في التجارة ومحبته في الربح وحرصه على الجمع لكانت قريحته تستجيب له.» وهو يشير على أنه كان مفتونا بالتجارة مع القسطنطينية فاغتنى، ولكن صودرت أمواله ووقع في محن حتى أصيب بالفالج.
كما اشتهر نظيف القسي الرومي، وكان خبيرا باللغات، ينقل من اليوناني إلى العربي، واستخدمه عضد الدولة البويهي في البيمارستان الذي أنشأه ببغداد، قال أبو حيان: «إن نظيفا كانت يده في الطب أطول، ولسانه في المجالس أجول، ومعه وفق وحذق في الجدل.»
وغير هؤلاء كثيرون عنوا بالفلسفة في بغداد كابن السمح، وأبي بكر القوسي، وابن الخمار، وأبي الوفاء البزجاني الرياضي المشهور، قال فيه ابن خلكان: إنه أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، وله فيه استخراجات غريبة لم يسبق بها، قدم العراق سنة 348ه، ومات به سنة 387ه.
ومن هذه الطبقة أبو علي أحمد بن محمد مسكويه، كان خازنا لكتب عضد الدولة، واختص من الفلسفة بالناحية الخلقية، فألف تهذيب الأخلاق، كما ألف في التاريخ كتابه تجارب الأمم جرى فيه على نسق خاص، وهو الاهتمام بمواضع العبرة في الأحداث التاريخية، والتعليق عليها تعليق الحكيم المجرب.
وظهر بالبصرة في القرن الرابع للهجرة جماعة إخوان الصفا، وكان منهم - كما حدث أبو حيان التوحيدي - زيد بن رفاعة، وأبو سليمان محمد بن معشر البستي المعروف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي، وغيرهم، «وكانت هذه الجماعة قد تألفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله، وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال، وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علمها وعملها، وأفردوا لها فهرستا وسموها رسائل إخوان الصفا، وكتموا فيها أسماءهم، وبثوها في الوراقين ورهبوها للناس».
18
وعلى الجملة فقد كانت الحركة الفلسفية في العراق من أرقى الحركات الفلسفية في المملكة الإسلامية.
وقد نبغ في العراق في ذلك العصر كثير من الشعراء والأدباء، من أشهرهم في بغداد ابن نباتة السعدي مداح الملوك والرؤساء والوزراء، مدح سيف الدولة في حلب كما تقدم، ومدح عضد الدولة والوزير المهلبي في العراق، وابن العميد في الري؛ وله مقطوعات كثيرة في الغزل وشكوى الزمان، وأكثر من الوصف وأجاد، فوصف كماة الحرب وأسرى الروم، والفرس، والمغنى، والسكين، وطيب الهواء، وخوالج نفسه ... إلخ. وقد جمع شعره بين الرقة والسهولة وحسن السبك، ومات سنة 405ه ببغداد.
ثم أبو الحسن السلامي نسبة على دار السلام، شاعر عربي الأصل من بني مخزوم، ولد في كرخ بغداد، مدح الصاحب بن عباد بأصفهان، وابن العميد في الري، وعضد الدولة بشيراز، وسلك مسلك أبي نواس في التشبيب بالغلمان، وجرى على سنة عصره في الإكثار من المقطوعات، ووصف ما يعرض من الأشياء، وقد وصف شعب بوان وصفا لم يستطع الوصول فيه إلى ما وصل له المتنبي في وصفه، ويفحش أحيانا فيفرط في الفحش، ويهجو فيقذع في الهجاء، على عادة كثير من شعراء هذا العصر.
ثم ابن سكرة، وابن حجاج، وقد سبق طرف من الكلام عليهما.
وقد وصف أبو حيان التوحيدي بعض المشهورين من الشعراء في وقته ببغداد، فكان مما قال: «إن ابن نباتة شاعر الوقت، لا يدفع ما أقول إلا حاسد أو جاهل أو معاند، قد لحق عصابة سيف الدولة وعدا معهم ووراءهم، حسن الحذو على مثال سكان البادية، لطيف الائتمام بهم، خفي المغاص في واديهم، ظاهر الإطلال على ناديهم، هذا مع شعبة من الجنون وطائف من الوسواس.
وأما ابن حجاج فسخيف الطريقة، بعيد عن المجد، قريع في الهزل، ليس للعقل من شعره منال، ولا له في قرضه مثال، على أنه قويم اللفظ، سهل الكلام ... وهو شريك ابن سكرة في هذه الغرامة - الخسارة - وإذا جد أقعى، وإذا هزل حكى الأفعى.
وأما السلامي فهو حلو الكلام ، متسق النظام، كأنما يبسم عن ثغر الغمام، خفي السرقة، لطيف الأخذ، واسع المذهب، لطيف المغارس، جميل الملابس، لكلامه ليطة بالقلب، وعبث بالروح، وبرد على الكبد.
وأما الحاتمي،
19
فغليظ اللفظ، كثير العقد، يحب أن يكون بدويا قحا، وهو لم يتم حضريا، غزير المحفوظ، جامع بين النظم والنثر على تشابه بينهما في الجفوة، وقلة السلاسة.
وأما ابن جلبات
20
فمجنون الشعر، متفاوت اللفظ، قليل البديع، واسع الحيلة كثير الزوق، التزويق، قصير الرشاء، كثير الغثاء.
وأما الخالع
21
فأديب الشعر، صحيح النحت، كثير البديع، مستوي الطريقة، متشابه الصناعة، بعيد من طفرة المتحير، قريب من فرصة المتخير.
وأما مسكويه
22
فلطيف اللفظ رطب الأطراف، رقيق الحواشي، سهل المأخذ، قليل السكب، بطيء السبك، مشهور المعاني، كثير التواني، شديد التوقي، ضعيف الترقي، يرد أكثر مما يصدر، ويتطاول جهده ثم يقصر.»
23
كما كان من أكبر شعراء هذا العصر في بغداد الشريف الرضي، وقد تقدم القول فيه.
واشتهر من شعراء البصرة في هذا العصر البويهي ابن لنكك البصري، وقد رأى غيره من الشعراء ينفق سوقه وهو خامل، مع أدبه وظرفه، فأكثر من ذم الدهر، وشكوى الزمان، وهجاء من نجح من الشعراء، وهو في المقطوعات القصيرة أجود منه في القصائد الطويلة.
ونبغ في العهد البويهي أربعة من كبار الكتاب، اثنان في الجزء الفارسي الجنوبي، وهما، ابن العميد، والصاحب بن عباد، وسيأتي الكلام فيهما، واثنان في العراق، وهما: أبو إسحاق الصابي، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف.
فأما الصابي فهو إبراهيم بن هلال الحراني الصابي، صاحب الرسائل المشهورة المطبوعة، كان كاتب الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة البويهي، وتقلد ديوان الرسائل سنة 349ه، وقد ظل محافظا على دينه الوثني، رغم ما خوطب ومني ووعد بالوزارة إذا هو أسلم، في ملاطفة للمسلمين ومجاراتهم والاحتفال بشعائرهم، فكان يصوم رمضان، ويحفظ القرآن كان مع صابئيته محبوبا من عظماء المسلمين، مقربا إليهم، مبجلا موقرا كالصاحب ابن عباد، والزير المهلبي، وقد حكى ياقوت عنه أنه قال: «راسلت المتنبي في أن يمدحني بقصيدتين وأعطيه خمسة آلاف درهم، ووسطت بيني وبينه رجلا من وجوه التجار، فقال المتنبي للوسيط: قل له والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولكن إن مدحتك تنكر لك الوزير - يعني الوزير المهلبي - وتغير عليك؛ لأني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال فأنا أجيبك إلى ما التمست وما أريد عن شعري عوضا.»
وقد كان الصابي يناصر عز الدولة على عضد الدولة، فلما انتصر عضد الدولة وقتل عز الدولة قبض على الصابي وحبسه وأراد إلقاءه تحت أرجل الفيلة، فتشفعوا له فشفع، ولكن لم يزل في نفسه منه، وأمره عضد الدولة أن يؤلف له كتابا في أخبار الدولة البويهية، فعمل له الكتاب «التاجي»، وقد وشى بعض الناس إلى عضد الدولة أن الصابي سئل وهو يكتب هذا التاريخ: ماذا تصنع؟ فقال: «أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها.» فقبض عليه، وحبس أربع سنين، ثم خرج وقد ساء حاله، ومات ببغداد سنة 384ه عن إحدى وسبعين سنة.
وقد كان يعد من أعظم كتاب عصره، وأسلوبه - كما تدل عليه رسائله - فقرات متساوية، مسجوعة أحيانا، مزدوجة أحيانا، وقد وصفه ابن الأثير أنه إمام الكتاب في عصره، وأنه يجيد في الكتابة الرسمية - السلطانيات - ويقصر في الإخوانيات، وأخذ عليه تكراره في معنى واحد كقوله: «لا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها.»
ولما مات رثاه الشعراء، ومنهم الشريف الرضي في قصيدته المشهورة:
أرأيت من حملوا على الأعواد
أرأيت كيف خبا ضياء النادي
يقول فيها:
ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيا
أنى ومثلك معوز الميلاد
من للممالك لا يزال يلمها
بسداد أمر ضائع وسداد
من للجحافل يستزل رماحها
ويرد رعلتها
24
بغير جلاد
وصحائف فيها الأراقم كمن
مرهوبة الإصدار والإيراد
حمر على نظر العدو كأنما
بدم يخط بهن لا بمداد
يقدمن إقدام الجيوش وباطل
أن ينهزمن هزائم الأجناد
إن الدموع عليك غير بخيلة
والقلب بالسلوان غير جواد
وأما أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، فكان يعد من أكبر كتاب عصره، تقلد ديوان الرسائل لعضد الدولة، وتقلد الوزارة بعد عدة مرات لأولاده، وهو في أسلوبه أقل التزاما للسجع وإن كان يزاوج، وفي إخوانياته يمزج شعره بنثره.
25
ومن أشهر الكتاب البويهيين أبو حيان التوحيدي، وقد كان من نوع آخر، فكتابته يعنى فيها بالموضوع كما يعنى بالشكل، وهو غزير العقل واسع العلم حسن الصياغة، جيد السبك وبحق لقبوه بالجاحظ الثاني، وقد وصل إلينا من كتبه «الإمتاع والمؤانسة»، و«المقابسات» و«البصائر»، ورسالة في الصداقة، وأسلوبه فيها أسلوب أدبي راق يحب الازدواج ويطيل البيان، ويولد المعاني حتى لا يدع لقائل بعده قولا، كثير المحفوظ، واسع المعرفة، له اتصال تام بالفلسفة، والتصوف والأدب من شعر ونثر، والتاريخ والسير، خبير بأحوال الزمان، حمله البؤس على أن يتنقل في الأمصار، ويتصل بالعامة، ومكنه أدبه أن يتصل بالوزراء كابن العميد، وابن عباد، وابن سعدان، فعرف من أخلاق الناس على اختلاف طبقاتهم الشيء الكثير، ودون ذلك في كتبه، وفي أسلوبه بعض الغموض إذا تعرض للمسائل الفلسفية لطبيعية الموضوع وعمقه، واضح كل الوضوح إذا تعرض للمسائل الأدبية والاجتماعية، وقد اتجه اتجاها لطيفا في تدوينه في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» ما دار في المجلس بينه وبين الوزير ابن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي، كما دون في كتابه «المقابسات» محاضر جلسات لكثير من العلماء وخاصة أبا سليمان المنطقي.
ونبغ في الأدب واللغة أبو بكر محمد بن دريد الأزدي، ولد بالبصرة سنة 223ه، ثم مكث بعمان اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى البصرة، ثم ذهب إلى فارس وصحب ابني ميكال، وكانا واليين على فارس، ثم عاد إلى بغداد سنة 308ه، وظل بها إلى أن مات سنة 321ه، وهي السنة التي تسلط فيها البويهيون على العراق.
وكان من أكبر علماء العربي، مقدما في اللغة والأدب، ونبغ من تلاميذه كثيرون أشهرهم أبو علي القالي وأبو سعيد السيرافي.
وعنه يروي أبو علي القالي في أماليه قصصا أدبية رائعة، وهي أشبه أن تكون من وضع ابن دريد، ويعدها «الحصري» أساسا لمقامات بديع الزمان.
وله كتاب «الجمهرة في اللغة»، و«المقصورة»، وكتاب «الاشتقاق» ... إلخ، وتفوق في نواح كثيرة في الأدب - فهو شاعر قصاص - وفي اللغة ، وفي النحو والصرف والأنساب.
وقد انطبعت صورته العلمية في مؤلفين كبيرين تتلمذا له، وهما أبو علي القالي صاحب الأمالي ناشر علم اللغة والأدب في الأندلس، وأبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، وكان من خاصة تلاميذه.
ثم أبو بكر بن الأنباري كان من أعلم البغداديين لغة وأدبا، وأكثر الناس حفظا للشعر والشواهد، كما يعد من علماء القرآن والسنة، وألف في ذلك كله الكتب الكثيرة في علوم القرآن وغريب الحديث، والوقف والابتداء، وفي اللغة كتاب الأضداد، وقد وصل إلينا من كتبه الدالة على غزارة علمه بالأدب واللغة شرحه للمفضليات، مات سنة 328ه، وكان كذلك شيخا من أكبر الشيوخ الذين استفاد منهم أبو الفرج الأصفهاني.
وقد نبغ من مؤلفي الأدب في العصر البويهي في العراق أبو الفرج الأصفهاني مؤلف كتاب الأغاني، متعة الأدباء على اختلاف العصور، ينتهي نسبه إلى آخر خلفاء الأمويين مروان بن محمد، وقد ولد بأصبهان سنة 284ه، ونشأ ببغداد، وأخذ العلم والأدب والتاريخ عن ابن دريد، وابن الأنباري، وابن جرير الطبري وغيرهم، وامتاز باطلاعه الواسع على الشعر والأغاني، والأخبار والنسب، كما كان ملما بآلات الطرب، وطرف من الطب والنجوم والأشربة، ويقرأ الكتب المخطوطة، ويأخذ عنها فيقول: نقلت من كتاب كذا.
وقد اتصل بالوزير المهلبي، وحظى عنده، وألف كتبا كثيرة منها كتاب «الأغاني» وهو أمتعها وقد قال إنه ألفه في خمسين سنة، وكتاب «القيان»، «ومقاتل الطالبيين»، و«الإماء الشواعر»، و«الديارات» ... إلخ، ومات في بغداد سنة 356ه أو بعد ذلك.
وقد حظي كتابه «الأغاني» في عصره وبعده إلى اليوم؛ فقد أهدى أول نسخة منه إلى سيف الدولة فأجازه بألف دينار، وأعجب به الصاحب بن عباد، وكان يستصحبه في أسفاره، وقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف: «لم يكن كتاب الأغاني يفارق عضد الدولة في سفره ولا حضره.»
كما كان من كبار رجال الأدب القاضي التنوخي، وهو أبو القاسم علي بن محمد التنوخي من أعيان أهل العلم والأدب، تولى قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وكان على فقهه أدبيا وشاعرا ظريفا، وكان من ندماء الوزير المهلبي وسماره، «وكان الوزير المهلبي وغيره من رؤساء العراق يميلون إليه، ويتعصبون له، ويعدونه ريحانة الندماء وتاريخ الظرفاء، وكان في جملة الفقهاء والقضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة والتبسط في القصف والخلاعة» ... إلخ،
26
وكان فقيها على مذهب أبي حنيفة معتزليا له شعر كثير، ومنه مقصورة عارض بها مقصورة ابن دريد، ومات بالبصرة سنة 342ه.
وقد أنجب ابنه أبا علي المحسن التنوخي، وكان أدبيا شاعرا أخباريا؛ وهو صاحب كتاب «نشوار المحاضرة»، أراد به أن يحقق فكرة لطيفة وهي أن يدون تاريخ الأحداث التي تدور في المجالس وعلى ألسنة الرواة ولم تدون في الكتب، كما أنه ألف كتاب «الفرج بعد الشدة» وكتاب «المستجاد من فعلات الأجواد»، وقد مات ببغداد سنة 384ه.
وقد أنجب هذا أيضا أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي، وكان مثل أبيه وجده فقيها شاعرا أديبا؛ وكان هو والخطيب التبريزي يصبحان أبا العلاء المعري ويأخذان عنه، تولى علي بن المحسن القضاء في عدة نواح، وإليه كتب أبو العلاء قصيدته التي أولها:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا
مات سنة 447ه.
فأسرة التنوخي من خير الأسر العراقية علما وأدبا وتأليفا.
ثم الشريف المرتضى علي بن الطاهر، كان نقيب الطالبيين في بغداد، وهو أخو الشريف الرضي، وكان إماما في علم الكلام والأدب والشعر، وقد وصل إلينا من أهم تآليفه كتاب «أمالي المرتضى»، وهو ستة وخمسون مجلسا، مملوء بالفوائد القيمة في التفسير والحديث وعلم الكلام والأدب ممزوج بعضها ببعض، ناح فيه منحى الاعتزال والتشيع معا، ويستطرد لذكر تراجم لرجال المعتزلة وبعض الشعراء والأدباء؛ ويظهر أنها دروس أملاها على بعض تلاميذه، وهي تفيدنا فائدة كبرى في مناهج الدروس في ذلك العصر.
وقد توفي ببغداد سنة 436ه.
ثم أبو سعيد السيرافي، وكان من أوسع العلماء ثقافة في علوم القرآن والحديث والنحو واللغة والفقه والفرائض والحساب والكلام والشعر.
كان أبوه مجوسيا فأسلم وكان أبو سعيد هذا من أعلم الناس بالعربية مع زهد وصلاح وعفة، وصنف تصانيف كثيرة أكبرها شرح كتاب سيبويه، وكثر تلاميذه والأخذ منه والانتفاع به في فروع العلم المختلفة، وكان يميل إلى مذهب الاعتزال، «وكان بينه وبين أبي الفرج الأصفهاني ما جرت العادة بمثله بين الفضلاء من التنافس»،
27
ومات ببغداد سنة 368ه، وتتلمذ له أبو حيان التوحيدي وهو يحكي عنه في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» بعض علمه في اللغة والنحو، ويروي ما يرويه عنه في إجلال وتوثيق.
وقد كان أبو سعيد وهو في بغداد مقصد الأمراء والعظماء في الأمصار المختلفة يبعثون إليه يسألونه عما أشكل عليهم، فكتب إليه نوح بن نصر الساماني سنة 340ه كتابا خاطبه فيه بالإمام، وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة أغلبها ألفاظ لغوية، وأمثال يسأله فيها عن صحة نسبتها إلى العرب، وكتب إليه الوزير البلعمي كتابا خاطبه فيها بإمام المسلمين سأله فيه عن مسائل في القرآن، وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتابا خاطبه فيه بشيخ الإسلام سأله فيه عن مائة وعشرين مسألة أكثرها في القرآن والحديث.
وكتب إليه ابن حنزابة الوزير المصري كتابا خاطبه فيه بالشيخ الجليل، سأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث.
وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان كتابا يخاطبه فيه بالشيخ الفرد، سأله عن سبعين مسألة في القرآن، ومائة كلمة في العربية ، وثلاثمائة بيت من الشعر، وأربعين مسألة في الأحكام، وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين، فأجاب عنها كلها، وتقع الأسئلة والأجوبة في نحو ألف وخمسمائة ورقة.
ثم هو صاحب المناظرة الكبرى التي جرت بينه وبين أبي بشر متى في المفاضلة بين النحو والمنطق، وقد حكاها كلها أبو حيان التوحيدي في الجزء الأول من الإمتاع، وقد وصل إلينا من كتبه كتاب أخبار النحويين البصريين.
وكان نظير أبي سعيد السيرافي وقرينه في النحو والصرف أبو علي الفارسي وهو من أعلام الدولة البويهية، ولد بفارس وأتى بغداد سنة 307ه، وأقام بها يشتغل بالعلم، ثم رحل إلى حلب وأقام عند سيف الدولة في حلبته، وله مع المتنبي مناظرات، ثم انتقل إلى فارس وصحب عضد الدولة وعلت منزلته عنده، وألف أبو علي له كتاب الإيضاح والتكملة في النحو، وله كتاب الحجة في القراءات، ومنه نسخة مخطوطة في دار الكتب، وله كتب أخرى كثيرة، وقد رحل إلى بلاد كثيرة، وكان يدون في كتاب ما يجري له من مناظرات في كل بلد، فكتاب المسائل الحلبيات، والبغداديات، والشيرازيات ... إلخ.
وقد وازن أبو حيان التوحيدي بينه وبين أستاذه أبي سعيد السيرافي، ففضل السيرافي لسعة علمه ودينه وتقواه، وقال: إن أبا علي كان يشرب ويتخالع ويفارق هدي أهل العلم.
وفي الحق أن السيرافي كان أشبه بالمحافظين، يروي ما يسمع، ويحفظ ما يروي على كثرة ما يروى وما يحفظ في ثقة وأمانة، وأن أبا علي كان حرا مبتكرا قياسا، فتح للناس هو وتلميذه ابن جني أبوابا جديدة في النحو والتصريف لم يسبقا إليها كما تقدم، وقد توفي أبو علي الفارسي في بغداد سنة 377ه.
وثالث الثلاثة المشهورين في هذا الباب أبو الحسن الرماني جمع بين النبوغ في النحو وعلم الكلام، وهو تلميذ ابن دريد أيضا في الأدب، وقد قال فيه أبو حيان عند الموازنة: إنه عالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض، والمنطق، وعيب به، إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق، بل أفراد صناعة وأظهر براعة. وقد عمل في القرآن كتابا نفيسا ، هذا مع الدين والعقل الرزين، توفي سنة 384ه.
ومن خير ما أخرجته بغداد في هذا العصر ابن النديم - وهو محمد بن إسحاق النديم - كان وراقا، وكان عالما، فاستخدم علمه وصناعته في ناحية لم نعرف أن التفت إليها أحد قبله، وهي أن يحصي جميع الكتب العربية المنقولة من الأمم المختلفة، والمؤلفة في جميع أنواع العلوم، ويصفها ويبين مترجميها أو مؤلفيها، ويذكر طرفا من تاريخ حياتهم، ويعين تاريخ وفاتهم؛ فكان الكتاب على هذا النمط أجمع كتاب لإحصاء ما ألف الناس إلى قريب من نهاية القرن الرابع، وأشمل وثيقة تبين ما وصل إليه المسلمون في حياتهم العقلية والعلمية في ذلك العصر، وأكثر هذه الكتب التي وصفها قد ضاعت بتوالي النكبات المختلفة على المملكة الإسلامية ، ولا سيما في غزو التتار لبغداد، ولولا كتاب «الفهرست» لضاعت أسماؤها وأوصافها أيضا كما ضاعت معالمها.
والناظر في كتاب «الفهرست» يعجب لهذا النشاط العلمي الذي قام به المسلمون في هذه العصور، وكثرة المؤلفين والمترجمين في جميع نواحي العلم، كما يعجب بسعة اطلاع ابن النديم وحبه للوقوف على كل شيء حتى في أدق مسائل الأديان المختلفة، والمذاهب المتنوعة، ويستقصي البحث عن أحوال الصين والهند، كما يستقصي البحث عن الشام والعراق، وهو في كل ذلك يقابل أصحاب النحل المختلفة، ويسائلهم ويدقق في أخبارهم، ثم يدون ما يصل إليه علمه.
وأسلوبه في كتابته أسلوب موجز يكره اللغو والمقدمات، ويحب أن يهجم على موضوعه من غير مواربة ولا تمهيد، حتى لا تستطيع أن تحذف جملة؛ لأن معناها مكرر أو عباراتها مترادفة، ثم هو يتحرى الصدق، ويميز بين ما رأى وما لم ير، وينقل ذلك إلى القارئ في أمانة.
وقد نص المؤلف على أنه ألف كتابه هذا سنة 377ه، وفي الكتاب ذكر لعلماء ماتوا بعد الأربعمائة كابن نباتة التميمي، فلا بد أن بعض العلماء زادوا في نسخته؛ لأنه مات سنة 385ه كما ذكر ابن النجار، أو سنة 378ه كما ذكر المرزباني.
28
فإذا نحن انتقلنا من العراق إلى الجزء الجنوبي من فارس، وهو الجزء الذي حكمه البويهيون أيضا، وجدنا ثروة كبيرة في العلم في جميع فروعه، وفي الأدب والشعر؛ فشيراز في الجنوب والري في الشمال، كانا من أهم العواصم السياسية والعلمية والأدبية، واشتهر من بلاد الجنوب سيراف، وفيروزاباد، وأرزنجان، وإصطخر، وعاصمتها شيراز، كما اشتهر من بلاد الشمال وهي بلاد الجبل أصبهان ونهاوند، وهمذان، ودينور، وقومس، وبسطام وعاصمتها الري، وأخرجت هذه البلاد من المحدثين والفقهاء والنحاة والفلاسفة والصوفية والأدباء ما لا يحصى كثرة.
فاشتهر من المحدثين والفقهاء أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي الرازي - نسبة إلى دولاب قرية بالري - له تآليف في الحديث والتاريخ اعتمد عليها المحدثون، وتوفي سنة 320ه.
وأبو محمد عبد الله بن حيان الأصفهاني محدث أصفهان، وهو إمام في الحديث، له كتاب «السنة وفضائل الأعمال»، توفي سنة 367ه.
وأبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده الأصفهاني، كان يلقب بمحدث الشرق؛ توفي سنة 395ه.
وأبو محمد بن عبد الرحمن بن أبي حاتم بن إدريس الحنظلي حافظ الري له المصنفات الكثيرة في الحديث والفقه، توفي سنة 327ه.
والقاضي يوسف بن أحمد بن كج الدينوري أحد أئمة الشافعية، قدم إليه أبو علي السنجي بعد أن رأى أبا حامد الإسفرائيني في بغداد؛ فقال له أبو علي: إن الاسم لأبي حامد، والعلم لك. فقال له: ذاك رفعته بغداد وحطتني الدينور. قتل بها سنة 405ه.
ويطول بنا القول لو عددنا مشاهير المحدثين والفقهاء في هذا الإقليم، ثم كان لعضد الدولة قبل انتقاله إلى بغداد، وابن العميد في إقامته بالري وزيرا، وابن عباد كاتبا ووزيرا في أصفهان والري - أثر كبير في نشاط الحركة الأدبية والعلمية نشاطا عجيبا.
لقد تقسم الأمراء الثلاثة البويهيون مملكتهم: فكان عماد الدولة صاحب بلاد فارس والأهواز، وركن الدولة صاحب بلاد الري والجبل، ومعز الدولة صاحب العراق. وجاء عضد الدولة بن ركن الدولة فضم العراق إلى ملكه، كما ضم إليه ملك البويهيين جميعا تقريبا، وضم إليه الموصل وبلاد الجزيرة وسمي بالملك، وهو أول من سمي بذلك في الإسلام، وكان يقيم أحيانا في الري، وأحيانا في شيراز، فلما فتح العراق كانت عاصمة ملكه بغداد.
وابن العميد كان وزيرا لركن الدولة صاحب بلاد الري والجبل، وكان ابن العميد مركزه الري، واستمر وزيرا نحو اثنتين وثلاثين سنة حتى مات سنة 360ه.
وابن عباد كان كاتبا عند ابن العميد، ولأجل تلمذته لابن العميد وصحبته له سمي الصاحب، وظل الصاحب يكتب لابن العميد في الري، ثم اختاره ابن العميد ليكون مربيا لمؤيد الدولة ابن ركن الدولة وولي عهده، وكانت إقامته في أصفهان، ثم أصبح وزيرا لمؤيد الدولة إلى سنة 373ه، ثم وزيرا لأخيه فخر الدولة إلى أن توفي سنة 385ه، وخلف ابن العميد في مركزه في الوزارة وفي إقامته في الري.
فهؤلاء الأعلام الثلاثة: عضد الدولة البويهي، والوزيران ابن العميد، وابن عباد، جعلوا هذا القسم من فارس في منتهى الخصب العلمي والأدبي؛ إذ كان كل منهم على إمارته أو وزارته عالما أديبا، يرى أول ما يجب عليه أن يزين بلاطه ومجلسه بالعلماء والأدباء.
فعضد الدولة كان إلى ملكه الواسع مثقفا ثقافة واسعة، يأخذ علم النحو واللغة عن أبي علي الفارسي، وهذا يؤلف له كتاب «الإيضاح والتكملة في النحو»، وله معه مناقشات طريفة، ويقصده الشعراء فيجيدون الشعر لمعرفتهم بتذوقه له، فقصده المتنبي أيام كان عضد الدولة بشيراز، وقال فيه:
وقد رأيت الملوك قاطبة
وسرت حتى رأيت مولاها
ومن مناياهم براحته
يأمرها فيهم وينهاها
أيام شجاع بفارس عضد
الدولة فناخسرو شهنشاها
أساميا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها
ثم أنشده قصيدة نونية ذكر فيها شعب بوان، وهو موضع نزه قرب شيراز:
يقول بشعب بوان حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
فقلت: إذا رأيت أبا شجاع
سلوت عن العباد وذا المكان
فإن الناس والدنيا طريق
إلى من ما له في الناس ثان
ثم مدحه بقصائد أخرى، وآخر شعره أيضا كافيته التي يقول فيها:
أروح وقد ختمت على فؤادي
بحبك أن يحل به سواكا
ومدحه غير المتنبي كثير من الشعراء.
وعضد الدولة هو الذي بنى البيمارستان العضدي ببغداد، وغرم عليه المال الكثير، وأعد له من الآلات ما يقصر الشرح عن وصفه.
29
وابن العميد تفوق في علوم كثيرة منها الهندسة والمنطق، وعلوم الفلسفة والإلهيات والطبيعة والتصوير، وكان أديبا واسع الرواية لأشعار العرب.
قال مسكويه في كتابه «تجارب الأمم»، وكان قيم دار كتب ابن العميد في بعض وقته: «كان هذا الرجل - ابن العميد - أكتب أهل عصره، وأجمعهم لآلات الكتابة حفظا للغة والغريب، وتوسعا في النحو والعروض، واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارات، وحفظا للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام ... فأما تأويل القرآن، وحفظ مشكله وتشابهه، والمعرفة باختلاف فقهاء الأمصار، فكان منه في أرفع درجة، وأعلى رتبة، ثم إذا ترك هذه العلوم، وأخذ في الهندسة والتعاليم لم يكن يدانيه فيها أحد، فأما المنطق، وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة، فما جسر أحد في زمانه أن يدعيها بحضرته ... ثم كان يختص بغرائب من العلوم الغامضة كعلوم الحيل - الميكانيكا - التي يحتاج إليها في أواخر علوم الهندسة والطبيعة، والحركات الغريبة، وجر الأثقال، وعمل آلات غريبة لفتح القلاع، والحيل على الحصون ... ثم معرفته بدقائق علم التصاوير، ولقد رأيته يتناول من مجلسه - الذي يخلو فيه بثقاته وأهل أنسه - التفاحة وما يجري مجراها فيعبث بها ساعة، ثم يدحرجها، وعليها صورة وجه قد خطها بظفره لو تعمد لها غيره بالآلات المعدة، وفي الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها، ولا تأتى له مثلها.»
وقد قصده المتنبي أيضا، ومدحه وقال فيه:
من مبلغ الأعراب أني بعدهم
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كتبه
متملكا متبديا متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدما
وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
بأبي وأمي ناطق في لفظه
ثمن تباع به القلوب وتشترى
قطف الرجال القول وقت نباته
وقطفت أنت القول لما نورا
والصاحب بن عباد كان يعتقد مذهب الاعتزال وينصره، وبذلك اعتنق كثير من أهل هذه البلاد الاعتزال، ولم يكن كأستاذه ابن العميد في حبه للفلسفة وأهلها، إنما كان متبحرا في العلوم الشرعية واللسانية والأدبية. تعلم الحديث كأهل الحديث، وكان عالما بالتوحيد والأصول وألف فيهما، وكان علمه باللغة واسعا . قالوا: إنه ألف فيها كتاب المحيط في عشرة مجلدات.
وكان له المنزلة العظمى في الوجاهة والصدارة، فاجتمع له من الأدباء ما قل أن يجتمع لغيره، قال الثعالبي: «احتف به من نجوم الأرض وأفراد العصر وأبناء الفضل وفرسان الشعر من يربي عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنه في الأخذ برقاب القوافي وملك رق المعاني.»
أنجبت هذه البلاد بتشجيع هؤلاء وأمثالهم نوابغ من العلماء والأدباء.
ففي الفلسفة كان على رأس الفلاسفة أبو بكر محمد بن زكريا الرازي - نسبة على الري - مولده ومنشؤه بالري ولذلك عددناه منها، وإن تنقل في بلاد كثيرة، وهو من أكبر فلاسفة المسلمين ومتفوقيهم في الطب النظري والعملي والإلهيات والكيمياء والأخلاق.
وقد ألف في كل ذلك كتبا كثيرة أوصلها بعضهم إلى ما يقرب من مائتين، وله فضل اكتشاف الكحول وريت الزاج - حامض الكبريتيك - أثناء بحثه في إمكان تحويل المعادن إلى ذهب؛ كما ألف في الطب كتاب الحاوي والطب المنصوري ... إلخ.
30
وكانت كتبه عمدة من تعلم بعده، وكانت أكثر إقامته في الري وأقام زمنا عند السامانيين، كما عهد إليه في الإشراف على البيمارستانات وتنظيمها، وقد اشتهر بين أهل زمانه بالإتيان بالعجائب في الطب.
وقد بقي لنا من كتبه نحو سبعة عشر كتابا، وأخيرا نشر الأستاذ كراوس مجموعة رسائل فلسفية تدل على جانب آخر من جوانبه العلمية؛ فمنها رسالة في الطب الروحاني، ويعني به تهذيب الأخلاق، وهو لا شك كان من أكبر ما اعتمد عليه مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق»، وقد قال في صدره: إنه سماه بالطب الروحاني ليكون قرينا للكتاب المنصوري الذي غرضه في الطب الجسماني، وقد قسمه إلى عشرين فصلا منها فصل في فضل العقل وقمع الهوى وردعه، وتحليل لبعض الرذائل: كالحسد والغضب والبخل، وختمه بفصل في رسم السيرة الفاضلة، ثم في الخوف من الموت.
ومن رسائله هذه القيمة رسالة في اللذة وتحليلها معتمدا في ذلك على ما كتبه فلاسفة اليونان فيها.
ومن هذه الرسائل رسالة في مناظرة بين الرازيين وهما: أبو بكر الرازي هذا وأبو حاتم الرازي ، وكلاهما من الري، ولكن كانت طبيعة أبي بكر الرازي طبيعة فلسفية حرة التفكير مؤمنة بسلطان العقل، وكان أبو حاتم الرازي من كبار دعاة فرقة الإسماعيلية الشيعية، «واشتهر بدعوته إلى المذهب الفاطمي، ولعب دورا عظيما في الشؤون السياسية في طبرستان وأذربيجان وفي الديلم، ولا سيما في أصفهان والري حتى استجاب له جماعة من كبار الدولة».
وقد ألف أبو حاتم الرازي كتابا أسماه «أعلام النبوة» للرد على أبي بكر الرازي، وقد رماه فيه بالإلحاد؛ وكانت المناظرة تدور حول النبوة، وهل هي ضرورية - هذا في أحد المجالس - وفي مجلس آخر كانت المناظرة تدور حول ما ذهب إليه أبو بكر الرازي من قدم الأشياء الخمسة: الباري، والنفس، والهيولى، والمكان، والزمان، فرد عليه أبو حاتم في ذلك ... إلخ إلخ.
وقد كانت هذه المناظرات في مجالس بالري.
وعلى الجملة فقد كان أبو بكر الرازي شخصية ممتازة قل نظراؤها، وقد اختلف في سنة وفاته على أقوال متباينة أقربها سنة 320ه، وقال ابن خلكان: إنه مات سنة 311ه.
كما اشتهر من الفلاسفة في هذه البلاد أبو الخير الحسن بن سوار المعروف بابن الخمار، وكان نصرانيا، وقد نقل كتبا كثيرة من السريانية إلى العربية، واشتهر بالطب، كما ألف في المنطق والطب والإلهيات.
ثم الفيلسوف الأديب أبو الفرج علي بن الحسين بن هندو، كان من تلاميذ ابن الخمار، ألف في الطب، وألف المدخل في علم الفلسفة، ووصل إلينا من كتبه «الكلم الروحانية»، وهي مجموعة لطيفة من الحكم اليونانية، كما كان شاعرا معدودا من رجال البلاغة الممتازين.
ثم إن ابن العميد وابن عباد أوجدا في هذا الإقليم حركة أدبية رائعة؛ فقد جمع بين وجاهة المنصب ووجاهة الأدب، فهما وزيران خطيران وسياسيان كبيران، وأديبان عظيمان، فاستخدما كل ذلك في إعلاء شأن الأدب.
فكان ابن العميد مولعا بالأدب، وله مذهب في الكتابة أخذ عنه وقلد فيه، عماده التأنق في اختيار الألفاظ، والتكلف في البديع، ومحاربة التطبع بالتصنع؛ وهذا النوع من الأسلوب قد يحسن في الجمل القصار، والقول الموجز، ولكن ابن العميد كان يطنب، والإطناب مع التصنع يستوجب الملل، فالإسهاب في الجاحظ حلو سائغ؛ لأنه يجري مع النفس، ولكنه عند ابن العميد يتجرع لأنه يتصنع؛ ومع هذا فالناس في زمنه وبعد زمنه كانوا يعدون هذا الأسلوب هو المثل الأعلى؛ لأن حياتهم الاجتماعية كما أسلفنا حياة مصطنعة متكلفة، ولأن الرياسة والعظمة السياسية والمنصب الكبير يسبغ على الأدب الذي يصدر من رجالها ثوبا من الأبهة والعظمة، فلا يستطيعون التمييز في دقة بين قيمة الأدب الذاتية، وقيمته المستمدة من وجاهة صاحبها، وهذا يصدق على ابن العميد، والصاحب ابن عباد، ثم من بعد على القاضي الفاضل، ولهذه العظمة المزدوجة قالوا: «بدأت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد .» والناس بعد قلدوا هذا الأسلوب، وعدوه المثل الذي يحتذى.
ومهما يكن؛ فقد كان ابن العميد مصدر خير على الحركة الأدبية، فكان كريما يغدق على الأدباء والشعراء، ويقترح موضوعات الأدب عليهم، وينافس بينهم، ويجزل العطاء لمن أحسن منهم، فيجتمع في مجلسه بالري أبو الحسين بن فارس، وأبو عبد الله الطبري، وأبو الحسن البديهي، ويعرض في المجلس أترجة حسنة، فيعرض عليهم ابن العميد أن يتباروا في وصفها، ويشترك معهم في ذلك، وهكذا.
ويقصد المتنبي، وابن نباتة السعدي، وغيرهما من الشعراء بمدائحهم.
وينشئ مكتبة عظيمة كانت أعز شيء عليه، يجعل عليها قيما عالما كبيرا هو مسكويه.
كذلك كان الصاحب بن عباد، نصر الاعتزال، وقرب إليه المعتزلة؛ إذ كان معتزليا، ومن شعره:
تعرفت بالعدل في مذهبي
ودان بحسن جدالي العراق
فكلفت في الحب ما لم أطق
فقلت بتكليف ما لا يطاق
وكان يكتب إلى البلاد التابعة له يدعو فيها إلى الاعتزال.
هذه ناحية، وناحيته الأخرى الناحية الأدبية، وكان عرى طريقة أستاذه ابن العميد في أسلوبه، وفي كرمه وإغداقه على الأدباء، فاجتمع له من الشعراء أبو الحسن السلامي، والبديهي، وأبو سعيد الرستمي، وأبو حسن الجوهري، وابن القاشاني ... إلخ، وكذلك يقترح عليهم ما يعرض من موضوعات، فيغنم في موقعة حربية فيلا فيجمع الشعراء ويطلب إليهم أن يقولوا القصائد في وصفه على وزن وقافية عمرو بن معديكرب:
أعددت للحدثان سا
بغة وعداء علندى
فيكون من ذلك شعر كثير في الفيل، كما يقترح بعض الموضوعات الهزلية؛ فقد مات برذون أبي عيسى بن المنجم، فاقترح على الشعراء القول فيها، فكان من ذلك مجموعة سميت البرذونيات.
31
واشتهر في هذه البلاد من علماء اللغة والنحو أبو الحسين أحمد بن فارس الرازي، كان إماما في اللغة، وله كتاب «المحمل»، وكتاب «حلية الفقهاء»، وله مسائل في اللغة تغايى بها الفقهاء «كألغاز»، ومنها اقتبس الحريري أسلوبه فيما وضع من المسائل الفقهية في المقامة الطيبية،
32
وأقام مدة بالري، ومدة بهمذان، وهو أستاذ بديع الزمان، ومات بالري سنة 390ه، وكان من رجالات ابن العميد. وقد وصل إلينا من كتبه كتاب «الصاحبي»، نسبة إلى الصاحب بن عباد، وهو كتاب يحتوي بحوثا قيمة في أصل اللغة العربية وخصائصها، واختلاف لغاتها باختلاف القبائل إلى غير ذلك.
كما كان من رجال البلاغة والأدب في هذا الإقليم أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، أصله من جرجان، وطوف في صباه في كثير من البلاد، واقتبس العلوم والآداب، قال فيه الثعالبي: «هو حسنة جرجان، وفرد الزمان ... يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري.» وبعد أن طوف في بلاد العراق والشام وغيرهما يأخذ من علوم أهلها نزل في ساحة الصاحب بن عباد، فقلده قضاء جرجان، ثم قضاء الري، فلم يزل قاضي الري حتى مات.
ولما أعرض الصاحب بن عباد عن المتنبي؛ لأنه أبى أن يمدحه كما مدح عضد الدولة وابن العميد، وعمل الصاحب رسالته في إظهار مساوئ المتنبي؛ ألف أبو الحسن الجرجاني هذا كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، كان فيه قاضيا عادلا، وأديبا فاضلا، وناقدا بارعا.
ومن أكبر حسنات علي بن عبد العزيز هذا تلميذه ومواطنه عبد القاهر الجرجاني صاحب كتاب «دلائل الإعجاز»، و«أسرار البلاغة»، وهو مؤسس علم البلاغة في هذين الكتابين على نمط لم يعرف قبله. وقد استفاد من أستاذه علي بن عبد العزيز قوة الأسلوب وجوالته، وبصره بضروب النقد؛ قال ياقوت: «وكان «عبد القاهر» إذا ذكر أستاذه في كتبه تبخبخ به، وشمخ بأنفه بالانتماء إليه.»
وكذلك كان من هذا الإقليم أبو هلال العسكري (نسبة إلى عسكر مكرم)، وهي بلد من بلاد (خوزستان) قريبة من أصفهان. وقد أخذ عنه العلم في الري حينا وفي الأهواز حينا وفي العسكر حينا، وله التآليف القيمة: ككتاب «الصناعتين»، و«ديوان المعاني». و«جمهرة الأمثال»، و«الأوائل»، و«التفضيل بين بلاغة العرب والعجم» ... إلخ، مات نحو سنة 395ه.
وعلى الجملة فقد خدمت الدولة البويهية العلم والأدب خدمة كبرى، ومع أنهم فرس الأصل وأكثر وزرائهم كابن العميد وابن عباد من الفرس، فقد كانوا يتعصبون في العلم والأدب للسان العربي.
وكان كثير من البويهيين أدباء مثقفين ثقافة واسعة، أشهرهم في ذلك عضد الدولة؛ فكان يشارك في عدة فنون منها الأدب، وكذلك عز الدولة أبو منصور بختيار، وتاج الدولة ابن عضد الدولة، ولهم أشعار أورد بعضها الثعالبي في اليتيمة. ثم نجد ظاهرة في هذه الدولة واضحة، وهي أن أساس الاختيار للوزارة كان عماده شيئين: القدرة الإدراكية، والقدرة البلاغية، فكان الوزراء فحول أدب أيضا، فكان من أهم وزراء هذه الدولة ابن العميد، وابن عباد، والوزير المهلبي، وسابور بن أردشير، وابن سعدان، وكل من هؤلاء كان عمادا عظيما للأدب والأدباء والعلماء، وكانت لهم مجالس تموج بالعلم والأدب؛ فابن العميد وابن عباد قد رأينا أدبهما ومجالسهما ومن كان يحتف بهما من العلماء والأدباء.
والوزير المهلبي كان وزيرا لمعز الدولة وهو من نسل المهلب بن أبي صفرة، «وكان من ارتفاع القدر واتساع الصدر وعلو الهمة وفيض الكف على ما هو مشهور به، وكان غاية في الأدب والمحبة لأهله»،
33
وله مجالس تروى في كتب الأدب فيها الشراب وفيها الشعر وفيها التفنن في الأناقة والترف، وحسبه فخرا أن كان من رجاله أبو الفرج الأصفهاني صاحب «الأغاني»، والقاضي التنوخي.
وابن سعدان وزير صمصام الدولة، كان له مجلس يجمع ابن زرعة الفيلسوف ومسكويه صاحب «تهذيب الأخلاق»، وأبا الوفاء المهندس الرياضي الكبير، وابن حجاج الشاعر الماجن، وأبا حيان التوحيدي، الذي كان له من السمر مع هذا الوزير ما جمعه في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، وله ألف رسالة «الصداقة والصديق»، وكان ابن سعدان يباهي بمجلسه هذا ويفخر به على مجالس الكبراء الآخرين، أمثال المهلبي وابن العميد وابن عباد، فيقول في أصحابه هؤلاء: «ما لهذه الجماعة بالعراق شكل ولا نظير ... وإن جميع ندماء المهلبي لا يفون بواحد منهم، وإن جميع أصحاب ابن العميد يشتهون أقل من فيهم، وإن ابن عباد ليس عنده إلا أصحاب الجدل.» ومن هذا ترى أن هؤلاء الوزراء كانوا يتنافسون في اختيار خيرة العلماء والأدباء ليكونوا حولهم، وحسبنا ما في كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، لنعرف منه مقدار ثقافة الوزراء وما يشغلهم من مسائل العلم والأدب.
وسابور بن أردشير كان وزيرا لبهاء الدولة بن عضد الدولة، فكان هو نفسه أديبا شاعرا، وقصده الشعراء أمثال أبي الفرج الببغاء، وأبي إسحاق الصابي، وقد أنشأ ببغداد دار كتب قيمة، قال فيها ياقوت: «لم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولها المحررة، وهذه الدار هي التي أشار إليها أبو العلاء المعري بقوله في قصيدته:
وغنت لنا في دار سابور قينة
من الورق مطراب الأصائل مهياب
ففضل البويهيين ملوكهم ووزرائهم على الحركة العلمية والأدبية لا يقدر، لولا أن ما كان بين بعضهم وبعض من خصومات وحروب قسم العلماء والأدباء كذلك، والتجأ كل فريق إلى رئيس، فكان إذا انهزم نكل الغالب بأتباع المغلوب، فلقي كثير من أهل الفضل والأدب من المصادرة والتعذيب والقتل ما يطول ذكره. •••
وكان على حدود الدولة البويهية في فارس الدولة الزيارية، أول ملوكها مردويج بن زيار، ملكت جرجان وطبرستان، وكانت في خصومة مع البويهيين، واشتهر من رجالها في خدمة الأدب أمير كان كابن العميد وابن عباد في أنه أديب كبير، ومثقف واسع الثقافة، ومشجع بمنصبه وجاهه للعلماء والأدباء، وهو الأمير قابوس بن وشمكير؛ وكان أميرا كبيرا، أبوه وشمكير وعمه مرداويج كانا ملوك الري وأصبهان قبل بني بويه، ثم كان قابوس واليا على جرجان وطبرستان، وأنفذ إليه الخليفة الطائع العهد، ولقبه شمس المعالي، وكان جبارا قويا يسرف في القتل ويتجاوز الحد ، سفاكا للدماء وخاصة في حاشيته وجنوده، فكان لا يسمع شكوى في أحد منهم إلا قتله. فملوه وعزلوه، ومع هذا كان يحب العلماء والأدباء ويشجعهم، وكان فيه فضيلة لم نسمع مثلها عن ملوك عصره وأمرائه، وهي أنه لم يكن يجيز إنشاد المدائح في وجهه وبين يديه؛ فكان يجتمع الشعراء على بابه في النيروز والمهرجان، فكان يقول لأبي الليث الطبري: «وزع عليهم الهدايا بحسب رتبهم، لكني لا أستطيع سماع أكاذيبهم التي أعرف من نفسي خلافها.»
34
وقد طبع في مصر «كمال البلاغة» وهي جملة رسائل أدبية له، وهو فيها متأنق، كل كلمة فيها توزن قبل أن توضع، وكل جملة تقاس بالقياس الدقيق لتكون لفق أختها، وروحه عندي أقرب إلى روح بديع الزمان منها إلى ابن العميد وابن عباد، وله المقطعات الشعرية الرقيقة كقوله:
خطرات ذكرك تستثير صبابتي
فأحس منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة
فكأن أعضائي خلقن قلوبا
وألف رسالة في الأسطرلاب.
وقد مات محصورا في قلعة، وحمل تابوته إلى جرجان، ودفن في مشهد عظيم كان بناه لنفسه، وذلك سنة 403ه.
هوامش
الفصل الثالث
خراسان وما وراء النهر
ازدهرت هذه البلاد في عهد الدولة السامانية التي حكمت من سنة 261 إلى 389ه، فمدة ملكهم 128سنة.
والملوك السامانيون أصلهم فرس من بلخ من أسرة نبيلة تنتسب إلى بهرام جور. وقد عرف المأمون منزلتهم ونبلهم فاصطنعهم، وكان رأسهم أسد بن سامان. وقد خلف أسد هذا أربعة أبناء كلهم كانوا في خدمة المأمون وحكامه في هذه البلاد؛ فكان نوح على سمرقند، وأحمد على فرغانة، ويحيى على بلاد الشاش، وإسماعيل على هراة، ثم عظم ملكهم حتى امتد من الصحراء الكبرى إلى الخليج الفارسي، ومن حدود الهند إلى العراق، وأهم ملكهم خراسان وما وراء النهر - وقد اشتهرت دولتهم بالعدل والصلاح وتشجيع العلم.
وخراسان كانت تطلق على الإقليم الواسع الذي ينقسم إلى أربعة أرباع: ربع عاصمته نيسابور، وربع عاصمته مرو، وثالث عاصمته هراة، ورابع بلخ.
ومن أشهر مدن خراسان نيسابور، وبوشنج، وبست، وسجستان، وهراة، ومرو، وسرخس، وننسا، وطوس، وأبيورد ... إلخ.
والقسم الثاني من ملك السامانيين ما وراء النهر؛ أي ما وراء النهر جيحون، وكان هذا الإقليم ينقسم إلى خمسة أقسام: (1) الصعد، وله عاصمتان: بخارى وسمرقند. (2) وإلى الغرب من الصغد خوارزم المسماة اليوم خيوه أو كيوه. (3) صغانيان. (4) فرغانة. (5) الشاش المسماة اليوم طشنقد.
ومن أشهر بلاد ما وراء النهر فرغانة، واسبيجان، والشاش، وأشروسنة، وسمرقند، وبخارى، وفاراب، وترمذ، وصغانيان وقاشان، ثم خوارزم، وفيها زمخشر والجرجانية.
والمقدسي يسمي إقليم خراسان وما وراء النهر «إقليم المشرق». وقد رحل إلى هذه البلاد في هذا العهد الساماني، ونحن ننقل بعض ما يهمنا الآن منه. قال: إنه أجل الأقاليم وأكثرها أجلة وعلماء، وهو معدن الخير ومستقر العلم وركن الإسلام المحكم وحصنه الأعظم، ملكه خير الملوك، وجنده خير الجنود، فيه يبلغ الفقهاء درجة الملوك. وقد قال محمد بن عبد الله لدعاته: «عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام، ومناكب وكواهل، وهامات ولحى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة.» وهم كانوا عدة الانقلاب والثورة على الأمويين، ونقل الخلافة إلى العباسيين.
ويقول المقدسي: قرأت في كتاب بخزانة عضد الدولة «خراسان في غذاء الهواء، وطيب الماء، وصحة التربة، وإحكام الصنعة، وتمام الخلقة، وجودة السلاح والتجارة والعلم والعفة والدراية ترس في وجه الترك»؛ وأهل خراسان أشد الناس تفقها، وبالحق تمسكا، وهم بالخير والشر أعلم، وإلى إقليم العرب ورسومهم أقرب، وإقليمهم أكثر أجلة وعقلاء، مع العلم الكثير، والحفظ العجيب، والمال المديد، والرأي الرشيد، به مرو التي قامت بها الدنيا، وبلخ وإليها المنتهى، ونيسابور فلا تنسى.
1
ثم قال: وهو أكثر الأقاليم علما وفقها، وللمذكرين به صيت عجيب، ولهم أموال جمة؛ وبه يهود كثيرة ونصارى قليلة، وأولاد علي - رضي الله عنه - فيه على غاية الرفعة، ولا ترى به هاشميا إلا غريبا، ومذاهبهم مستقيمة، غير أن الخوارج بسجستان ونواحي هراة كثيرة، وللمعتزلة بنيسابور ظهور بلا غلبة، وللشيعة والكرامية بها جلبة، والغلبة في الإقليم لأصحاب أبي حنيفة إلا في كورة الشاش، وطوس، ونسا، وأبيورد ... فإنهم شفعوية، ولهم جلبة بهراة وسجستان وسرخس.
ورسومهم تخالف رسوم أقاليم العرب في أكثر الأشياء، فللمؤذنين سرير قدام المنبر يؤذنون عليه بتطريب وألحان، ويذكرون بلا دفاتر
2 ... وبنيسابور رسوم حسنة، منها مجالس المظالم في كل يوم أحد وأربعاء بحضرة صاحب الجيش أو وزيره، فكل من رفع قصة قدم إليه فأنصفه، وحوله القاضي والرئيس والعلماء والأشراف، ومجلس الحكم كل اثنين وخميس في مسجد «رجاء» لا ترى في الإسلام مثله.
وألسنتهم مختلفة؛ أما لسان نيسابور ففصيح مفهوم غير أنهم يكسرون أوائل الكلم، وفيه رخاوة، وأهل طوس ونسا أحسن لسانا، وفي كلام سجستان تحامل وخصومة يخرجونه من صدورهم، ويجهرون فيه، ولسان بست أحسن؛ ولسان هراة وحش، تراهم يتكلفون ويتحاملون، ولسان بلخ أحسن الألسن إلا أن لهم فيه كلمات تستقبح ... إلخ.
وبهذا الإقليم عصبيات بين الشيعة والكرامية، وبين الشافعية والحنفية، وقد يهراق في هذه العصبيات الدماء، ويدخل بينهم السلطان.
والولايات والخطبة في هذا الإقليم كله لآل سامان ... وهم من أحسن الملوك سيرة ونظرا وإجلالا للعلم وأهله؛ ومن أمثال الناس: «لو أن شجرة خرجت على آل سامان ليبست.» ألا ترى إلى عضد الدولة وتجبره وتمكنه، وكمال دولته وفتوة أمره، وخطب له باليمن وبالسند، وفتح عمان، وملك ما ملك؛ فلما تعرض لآل سامان، وطلب خراسان أهلكه الله، وشتت جمعه، وفرق جيوشه ... وهم لا يكلفون تقبيل الأرض لهم، ولهم مجالس عشيات جمع شهر رمضان للمناظرة بين يدي السلطان، فيبدأ هو فيسأل مسألة ثم يتكلمون عليها ... وميلهم إلى مذهب أبي حنيفة، وليس من رسمهم الانبساط إلى الرعية. ا.ه.
وقد أخرجت هذه البلاد ما لا يحصى من رجال الحديث والفقه، خدموا العلم خدمة كبرى بجدهم وصبرهم على البحث ورحلتهم إلى أقاصي البلدان، يأخذون العلم من أهله حيث كان؛ فعلى رأس المحدثين الإمام البخاري، وهو من بخارى، كما تدل عليه نسبته، ورحل إلى الجبال ومدن العراق، والحجاز والشام ومصر يجمع الأحاديث بالأسانيد، ويعنى بالمتن وبالسند، وبرجال الحديث وتاريخهم، ومعرفة درجة الثقة بكل منهم مع الحفظ التام، والدقة العجيبة ... يحكي عن نفسه أنه عني بحفظ الحديث وهو في العاشرة، فلما بلغ السادسة عشرة أخذ يحفظ كتب الحديث، ويتعرف رجاله، ثم خرج مع أمه وأخيه إلى مكة ورجعا هما وبقي هو يطلب الحديث من محدثي مكة والمدينة، ثم طوف في سائر البلدان، واستخلص من كل ما سمع ما صح عنده، فاستخرج صحيحه من زهاء ستمائة ألف حديث، وظل يعمل في تأليف صحيحه هذا ست عشرة سنة. وقد نشر الحديث في بقاع الأرض، فعقد مجالسه في البصرة، وبغداد، والري وخراسان، وما وراء النهر، ونيسابور، وأخذ عنه الألوف، وقد أصابته محنة خلق القرآن فكان يقول: إن القرآن غير مخلوق ولكن لفظي به مخلوق. وشنعوا عليه بذلك بعد أن عاد إلى بلاده، فأخرج من بخارى إلى خزتنك (وهي قرية من قرى سمرقند) فمات بها سنة 256ه.
كما أخرجت نياسبور مسلم بن الحجاج النيسابوري مؤلف الصحيح المنسوب إليه «صحيح مسلم» وهو كذلك رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر، وروى عن أهلها، وجمع الحديث واستخرج صحيحه من ثلاثمائة ألف حديث، و«بعض المحدثين يفضل صحيحه على صحيح البخاري؛ لما اختص به من جمع الطرق، وجودة السياق، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى».
3
وكان كتابه مصدرا لحركة كبيرة في الحديث بين النيسابوريين، وانتفع به خلق كثير، ومات سنة 261ه بنيسابور، وقد ناصر البخاري في قوله في القرآن، وخاصمهما في ذلك شيخهما المحدث الكبير أيضا أبو عبد الله محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري؛ فكان يقول بأن القرآن حتى لفظنا له غير مخلوق.
ويطول بنا القول لو عددنا أسماء كبار المحدثين الذين أنجبتهم هذه البلاد؛ فالبخاري ومسلم كانا سببا في حركة الحديث قوية ظلت تعمل في هذه البلاد أجيالا، وحسبنا دلالة على كثرة من خرجتهم هذه البلاد أننا نقرأ أسماء المحدثين، فنجد الكثيرين المنسوبين إلى بلاد هذا الإقليم، وخصوصا نيسابور.
كما أخرجت البلاد كثيرا ممن بلغوا مبلغ الاجتهاد في الفقه مثل أبي حاتم محمد بن حبان التميمي السمرقندي، إمام كبير له تصانيف كثيرة في الحديث والجرح والتعديل، وطوف في البلاد وقال: «لعلنا أخذنا عن ألف شيخ بين الشاش والإسكندرية.» وقد ولي قضاء سمرفند، ورحل إليه الناس لأخذ العلم عنه، وإليه مرجع كثير من المحدثين في حكمه على رجال الحديث بالجرح والتعديل، مات سنة 354ه.
وأبو بكر محمد بن المنذر النيسابوري، وكان إماما مجتهدا، قال الذهبي: كان على نهاية من معرفة الحديث والأخلاق، وكان مجتهدا فلا يقلد أحدا، توفي سنة 316ه.
ثم كان بهذه الأقاليم كثير من عظماء الشافعية والحنفية.
فمن أكبر رجال الشافعية محمد علي القفال الشاشي، كان يعد إمام عصره فيما وراء النهر، وناشر مذهب الشافعية فيه، وكان يقول بالاعتزال، وله كتب في الفقه والأصول، وخرج غازيا في الحروب بين المسلمين والروم، وأخذ أسيرا إلى القسطنطينية، ثم عاد إلى بلاده، ومات بالشاش سنة 365ه.
وأبو بكر بن فورك الأصفهاني الأصل، الأصولي المتكلم، ناصر الأشعري، اضطهد بالري لكثرة الاعتزال بها، فطلبه أهل نيسابور، وبنوا له مدرسة يعلم فيها، وألف مصنفات كثيرة نحو المائة، ومات سنة 406ه بنيسابور.
وأبو بكر أحمد بن الحسن البيهقي الحافظ الشافعي، رحل إلى كثير من البلاد، ثم عاد إلى بلده، وأخذ في التصنيف، وأكثر منها حتى قالوا: إنها تبلغ نحو ألف جزء، وهو أول من جمع نصوص الإمام الشافعي في عشرة مجلدات، ومن تأليفه السنن الكبير والسنن الصغير، ودلائل النبوة، ومناقب الشافعي، ومناقب ابن حنبل، وطلب إلى نيسابور لنشر العلم بها فأجاب، وتوفي بها سنة 458ه، ونسبته إلى بيهق بالقرب من نيسابور.
كما اشتهر من الحنفية الإمام أبو منصور الماتريدي، وهو للحنفية في علم الكلام كالأشعري للشافعيين، كتب كتاب التوحيد، وأوهام المعتزلة، ومآخذ الشرائع في الفقه، والجدل في أصول الفقه وغير ذلك، مات سنة 333ه، والنسبة إلى ماتريد أو ماتوريد محلة بسمرقند.
ثم أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي الملقب بإمام الهدى توفي سنة 373ه.
وهذا نموذج صغير جدا لما أخرجته هذه البلاد من المحدثين والفقهاء، فحيثما قرأت في كتب المحدثين والفقهاء راعتك كثرة ما ترى منهم، ودلالة نسبتهم عليهم كالبلخي، والسرخسي ، والخوارزمي، والسمرقندي، والفارابي، والبخاري، والترمذي، والصاغاني، والأبيوردي، والقاشاني، والشاشي، والنيسابوري، والمروزي (نسبته إلى مرو والزاي زائدة كالرازي نسبة إلى الري، وبعضهم ينسبها مروروزي نسبة على مرو الروز)، والهروي نسبة إلى هراة، والفرغاني، والزمخشري، والصغدي، والبيهقي، والبستي ... إلخ.
وظهر التصوف في هذه البلاد كما ظهر في مصر، وفي العراق؛ فكان من أولهم في هذا الإقليم شقيق البلخي، قيل: إنه أول من تكلم في علم الأحوال بخراسان. كان يقول: قرأت القرآن عشرين سنة حتى ميزت الدنيا من الآخرة، فأصبته في حرفين، وهو قوله تعالى:
وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى ، ومات سنة 153ه.
ثم تتابع التصوف من بعده من هذه البلاد كأبي حفص عمر بن سالم الحداد النيسابوري المتوفى سنة 270ه، وأبو تراب النخشبي من متصوفة خراسان المشهورين بالعلم والفتوة والزهد، وأبو بكر محمد بن عمر الحكيم الوراق أصله من ترمذ وأقام ببلخ، وأبو عبد الله محمد بن منازل النيسابوري شيخ طريقة الملامتية مات بنيسابور سنة 329ه، وأبو العباس بن القاسم بن مهدي من أهل مرو، وهو أول من تكلم عندهم في حقائق الأحوال، مات سنة 342ه.
وكانت في هذه البلاد حركة فلسفية قوية يرجع الفضل فيها أولا إلى شخصيتين من أقوى الشخصيات، وهما: أبو زيد البلخي، وأبو القاسم الكعبي.
فأما أبو زيد فهو أحمد بن سهل البلخي، جمع بين الفلسفة والعلوم الشرعية والأدب، قال أبو حيان التوحيدي: «الذي أقوله وأعتقده أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر ثلاثة لو اجتمع الثقلان على تقريظهم ومدحهم ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم ورسائلهم مدى الدنيا لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، أحدهم أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ... والثاني أبو حنيفة الدينوري، فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورواء وحكم ... والثالث أبو زيد أحمد بن سهل البلخي، فإنه لم يتقدم له شبيه في الأعصر الأول، ولا يظن أنه يوجد له نظير في مستأنف الدهر، ومن تصفح كلامه في كتاب أقسام العلوم، وفي كتاب أخلاق الأمم، وفي كتاب نظم القرآن، وكتاب اختيار السيرة، وفي رسائله على إخوانه، وجوابه عما يسأل عنه ويبده به - علم أنه بحر البحور، وأنه عالم العلماء، وما رثي في الناس من جمع بين الحكمة والشريعة سواه، وإن القول فيه لكثير.»
4
ولد ببلخ، ورحل إلى العراق، وأقام به ثماني سنين يأخذ علمه وفلسفته، ثم عاد إلى بلاده ينشر فيها علمه، وكان يقال له: «جاحظ خراسان» - وألف نحو ستين كتابا في علوم مختلفة، منها كتاب في نظم القرآن، قال أبو حيان: «لم أر كتابا في القرآن أحسن منه؛ تكلم فيه بكلام لطيف دقيق، وأخرج أسراره، ولم يأت على جميع المعاني فيه.» وكان يتنزه عن الجدل في القرآن، ويتحرج عن تفضيل بعض الصحابة على بعض، وعن المفاخرة بين العرب والعجم، ويقول: ليس في هذه المناظرات الثلاث ما يجدي طائلا. ومن تآليفه كتاب «أقسام العلوم»، و«شرائع الأديان»، و«كتاب السياسة الكبير والصغير»، و«حدود الفلسفة»، و«ما يصح من أحكام النجوم»، وكتاب «الرد على عبدة الأوثان»، وكتاب «أخلاق الأمم» ... إلخ. ويعد أيضا من أكبر جغرافيي العرب، وقد ألف «صور الأقاليم»، وهو خرائط ملونة موضحة ببعض الشروح. وينسب إليه كتاب «البدء والتاريخ» المطبوع، وليس له، مات ببلخ سنة 322ه.
والثاني أبو القاسم عبد الله بن أحمد الكعبي كان من بلخ أيضا، وكان معاصرا لأبي زيد وصديقا له، واشتهر بتبحره في علم الكلام، وأنه رأس من رؤوس المعتزلة، له مذهب خاص وأتباع يقال لهم الكعبية، مات سنة 317ه.
هذان العلمان نشرا في هذا الإقليم حركة فلسفية وعقلية كبيرة توجت بالفيلسوف الكبير ابن سينا درة الدولة السامانية.
وهو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، ولعل خير ما يمثل الحركة الفلسفية في العهد الساماني ما حكاه ابن سينا نفسه في ترجمة حياته، كما رواه عند تلميذه أبو عبيد الجوزجاني، قال ابن سينا: «إن أبي كان رجلا من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام نوح بن منصور (الساماني)، واشتغل بالتصوف وتولى العمل بقرية هناك ... ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن، ومعلم الأدب ... وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين (الفاطميين)، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه، وكذلك أخي، وكانوا ربما تذاكروا بينهم وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي، وابتدؤوا يدعونني إليه أيضا، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهيئة، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه ...
ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي، وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه ... فابتدأت بكتاب إيساغوجي على الناتلي ... وكان أي مسألة قالها لي أتورها خيرا منه ... ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي، وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب أقليدس، فقرأت من أول خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حل بقية الكتاب بأسره، ثم انتقلت إلى المجسطي ... ثم فارقني الناتلي، واشتغلت أنا بتحصيل الكتب من النصوص والشروح من الطبيعي والإلهي، وصارت أبواب العلم تتفتح علي.
ثم رغبت في علم الطب ... وتعهدت المرضى، فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه ... وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة (لأرسطو)، فما كنت أفهم ما فيه، وأيست من نفسي حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظا، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا في يوم من الأيام في الوراقين، وبيد دلال مجلد، فقال لي: اشتر مني هذا فإنه رخيص ... فاشتريته بثلاثة دراهم، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، ورجعت إلى بيتي، وأسرعت قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب؛ بسبب أنه كان محفوظا على ظهر القلب ...
وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت نوح بن منصور (الساماني)، واتفق له مرض، فاستدعيت لمشاركة الأطباء في معالجته، وتوسمت بخدمته، فسألته يوما الإذن لي في دخول دار كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب، فأذن لي، فدخلت دارا ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب، منضدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشرع، وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد، فطالعت فهرست كتب الأوائل، وطلبت ما احتجت إليه منها، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط، وما كنت رأيته من قبل، ولا رأيته أيضا من بعد، فقرأت تلك الكتب، وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه» ... إلخ إلخ.
5
وقد شاهد ابن سينا سقوط بخارى في يد أمير غزنة محمود بن سبكتكين، وسافر على الري وهمذان.
واتصل بكثير من علماء وقته كالبيروني، وأبي الخير بن الخمار، وأبي القاسم الكرماني، وأخذ اسمه وتآليفه شهرة ومكانة لم ينلها أحد غيره من فلاسفة الشرق، وظل كتابه «القانون في الطب» يدرس في الشرق وفي الغرب على عهد قريب، وكتبه الشفاء والإشارات والنجاة مرجع كل من درس الفلسفة الإسلامية، عاش ابن سينا من سنة 370ه إلى سنة 438ه.
وكان في هذا الإقليم حركة أدبية قوية من شعر ونثر فني.
ففي الشعر جروا على أساليب العراق وفارس من إكثارهم من المقطوعات في المناسبات، والتفنن في التخيل، والإغراق في المبالغة، والإمعان في التشبيه، وشجع الملوك السامانيون الحركة الأدبية، كما شجعها وزيران كبيران لهذه الدولة، فكانا صورة مصغرة لابن العميد، وابن عباد، وهما: الوزير البلعمي، وأبو عبد الله الجيهاني.
فالوزير البلعمي هو أبو الفضل محمد بن عبد الله البلعمي، أصل أجداده عرب من تميم استوطن فرعهم في بخارى وكان وزيرا لنصر بن أحمد الساماني، قال السمعاني: «وكان واحد عصره في العقل والرأي وإجلال العلم وأهله، ولقبه ابن حوقل بالشيخ الجليل، وقد قام بترجمة تاريخ الطبري إلى اللغة الفارسية.»
والجيهاني هو أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني؛ قال فيه ياقوت: «وكان أديبا فاضلا شهما جسورا، وكان حسن النظر لمن أمله وقصده - معينا لمن أمله واعتمده، وله تآليف، وقد استوزر أيضا لنصر بن أحمد.»
فكلاهما شجع الحركة العلمية والأدبية في بخارى، كما شجعها ابن العميد وابن عباد في الري.
وقد نبغ في الدولة السامانية من الشعراء كثيرون عدهم الثعالبي في «اليتيمة»، ونقل طرفا من أشعارهم؛ ولعل من أحقهم بالذكر محمد بن موسى الحدادي البلخي، وكان يقال: «أخرجت بلخ أربعة: أبا القاسم الكعبي في علم الكلام، وأبا زيد البلخي في البلاغة والتأليف، وسهل بن الحسن في شعر الفارسية، ومحمد بن موسى في شعر العربية.»
6
ومما امتاز به أنه كان مولعا بنقل الأمثال الفارسية إلى العربية نظما، وله في ذلك مزدوجة طويلة كقوله:
من مثل الفرس ذوي الأبصار
الثوب رهن في يد القصار •••
نال الحمار بالسقوط في الوحل
ما كان يهوى ونجا من العمل •••
البحر غمر الماء في العيان
والكلب يروى منه باللسان ... إلخ.
وسار في ذلك على منهجه أبو عبد الله الضرير الأبيوردي، وقد وضع قصيدة في أمثال الفرس كذلك أولها:
صيامي إذا أفطرت بالسحت ضلة
وعلمي إذا لم يجد ضرب من الجهل
وتزكيتي مالا جمعت من الربا
رياء، وبعض الجود أخزى من البخل
كسارقة الرمان من كرم جارها
تعود به المرضى وتطمع في الفضل
وقد قال الثعالبي: «كانت بخارى في الدولة السامانية مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر.»
7
وأنتج هذا الإقليم من أعلام النثر الأديبين الكبيرين الشهيرين أبا بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني.
فالخوارزمي محمد بن العباس أصله من خوارزم، وطوف في الشام، ونزل ضيفا على سيف الدولة في حلب، وعلى الصاحب بن عباد في الري، ثم عاد إلى نيسابور.
وكان يتعصب لبني بويه، ويغض من سلطان خراسان، ونكل به مرة من أجل ذلك، ثم علت منزلته ثانية، ونظر إليه أهل نيسابور بعين الإكرام والإعظام، وعد إمام الأدباء حتى رمي ببديع الزمان الهمذاني، وبلي بمساجلته، وأعان البديع شبابه ولباقته، ومساعدة خصوم الخوارزمي السياسيين للبديع، «فانخزل الخوارزمي انخزالا شديدا، وكسف باله، وانخفض طرفه، ولم يحل عليه الحول حتى خانه عمره، ومات سنة 383ه».
8
وقد خلف لنا رسائله الأدبية القيمة، على ما فيها من تكلف أحيانا جر إليه الغرام بالسجع والبديع.
ثم أتى بديع الزمان الهمذاني، وهو أبو الفضل أحمد بن الحسن، ولد بهمذان، وتوفي بهراة سنة 398ه، وقد أربى على الأربعين، قد اتصل بالأمير محمد بن منصور فأكرمه، ونزل نيسابور سنة 382ه، فأملى بها مقاماته المشهورة، وكانت الخصومة بينه وبين أبي بكر الخوارزمي أيام إقامتهما في نيسابور. وقد قص البديع هذه الخصومة في رسائله، ولا بد أن يكون قد بالغ فيها تحيزا لنفسه، ومع هذا فهي تدل على ما عرف عن البديع من جودة حفظ، وحضور بديهة، وقوة بيان.
وله الفضل الكبير في مقاماته التي حذا حذوها الحريري فيما بعد، وله رسائله، وهذه وتلك تدل على خفة روح وحسن خيال، وقدرة على الابتكار، ووقوف على أحوال الزمان مما يجعلها مصدرا كبيرا لدراسة الحياة الاجتماعية في زمنه.
ونبغ في هذا العصر، وفي هذا الإقليم من الأدباء والمؤلفين في الأدب أبو منصور عبد الملك الثعالبي النيسابوري، كان أديبا بليغا على أسلوب أهل زمانه في السجع والاستعارة والتشبيه، وكان واسع العلم باللغة والأدب والأدباء وتاريخهم، وألف في ذلك كله؛ فله «فقه اللغة» أراد فيه أن يجعله معجما على نمط جديد، وهو جمع الكلمات في الموضوع الواحد في موضع واحد، وأتت هذه الفكرة للثعالبي في نيسابور، وابن سيده في الأندلس في وقت واحد تقريبا؛ فقد مات الثعالبي سنة 429ه، ومات ابن سيده سنة 458ه، وألف الأول «فقه اللغة»، والثاني «المخصص»، كما ألف الثعالبي «يتيمية الدهر في محاسن أهل العصر»، ذكر فيه تراجم الأدباء في المائة الرابعة، ومختارا من أدبهم مقسما إلى الدول المختلفة، والأمصار المتباينة، وقد عني بالمختارات أكثر مما عني بتراجم الحياة.
وله كتب أخرى كثيرة قيمة وصلت إلينا «كالإعجاز والإيجاز»، و«خاص الخاص»، و«ثمار القلوب في المضاف والمنسوب»، و«من غاب عنه المطرب» و«نثر النظم»، و«حل العقد» ... إلخ. وله كتاب «غرر أخبار ملوك الفرس»، وكلها كتب قيمة مفيدة.
كما كان من هذه البلاد من أئمة اللغة؛ الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد الأزهر، أصله من هراة، ولد بها ومات بها، ورحل إلى العراق وأخذ عنه أئمة علمائه كابن دريد ، وطاف في أرض العرب يجمع اللغة منهم، فوقع أسيرا في يد القرامطة، قال: «وكان القوم الذين وقعت في سهمهم عربا نشئوا في البادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع، ويرجعون إلى إعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ، ويرعون ويعيشون بألبانها، ويتكلمون بطباعهم البدوية، ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فبقيت في أسرهم دهرا طويلا ... واستفدت من مجاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضا ألفاظا جمة ونوادر كثيرة أودعت أكثرها في كتابي .»
وقد صنف في اللغة كتاب «التهذيب» في عشرة مجلدات، وهو من الكتب التي فرغها ابن منظور في كتابه «لسان العرب» وقال في مقدمته: «ولم أجد في كتب اللغة أجمل من تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري، ولا أكمل من المحكم لابن سيده، وهما من أمهات كتب اللغة على التحقيق، وما عداهما بالنسبة إليهما ثنيات للطريق.»
وقد توفي الأزهري سنة 370ه.
وكذلك الجوهري صاحب «الصحاح»، ومبتكر طريقة للمعاجم جرى عليها صاحب «القاموس» و«لسان العرب» وغيرهما. وهو إسماعيل بن حماد، أصله من فاراب، سافر إلى بلاد العرب، ودخل ديار ربيعة ومضر، وجمع ما استطاع من اللغة، وعاد إلى نيسابور فدرس فيها، ثم وضع كتاب «الصحاح»، وهو يعد من أمهات كتب اللغة اهتم به علماء اللغة اهتماما كبيرا استفادة ونقدا، وقد تقدم ذكره. مات سنة 398ه.
ومن هذا الإقليم من علماء اللغة والأدب الزوزني
9
أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم نسبة إلى زوزن، وهي بلدة واسعة بين نيسابور وهراة، وكانت زوزن تسمى بالبصرة الصغرى؛ لكثرة من أخرجت من الفضلاء والأدباء وأهل العلم، وإليها ينتسب كثير من أهل الأدب والعلم، منهم صاحبنا هذا.
وقد خلف لنا شرحا على المعلقات السبع، وهو شرح مختصر مفيد يدل على سعة علم باللغة والنحو والتصريف وحسن الذوق والفهم، مات بزوزن سنة 374ه.
وكان في هذا الإقليم أمراء جمعوا إلى الإمارة وجاهة الأدب، ورعاية أهله، فأحاطوا أنفسهم بجو أدبي رائع، كان ينتج أكثر مما أنتج لولا ما انغمسوا فيه من السياسة وفتنها وألاعيبها.
فكان فيه طائفة كبيرة من نسل الخلفاء العباسيين ، أتوا إليه من العراق لما كان يعرفون من الرابطة القوية بين آبائهم العباسيين والخرسانيين؛ إذ كان الخراسانيون عماد الدولة العباسية. فلما ذهب إلى خراسان أبناء هؤلاء الخلفاء أكرمهم الخراسانيون وأغدقوا عليهم النعم، وأحلوهم محل الإجلال، ولعبت ببعض هؤلاء الذين من نسل الخلفاء فكرة أن يعيدوا الأمر جذعة، فيبثوا الدعوة لأنفسهم، ويكونوا جيشا من الخراسانيين يفتحون به العراق من جديد ويؤسسون ملكا جديدا، وأصاب بعضهم بعض النجاح أولا وفشلوا أخيرا.
وكان من أشهر هؤلاء أبو طالب عبد السلام بن الحسين المأموني من نسل المأمون، قال الثعالبي: «وقد رأيت المأموني ببخارى سنة 382ه، وعاشرت منه فاضلا ملء ثوبه، وذاكرت أديبا شاعرا بحقه وصدقه، وسمعت منه قطعة من شعره، ونقلت أكثره من خطه، وكان يسمو بهمته إلى الخلافة، ويمني نفسه قصد بغداد في جيوش تنضم إليه من خراسان لفتحها، فاقتطعته المنية دون الأمنية، ولم يكن بلغ الأربعين، وذلك سنة 383ه.»
10
وكذلك كان أبو محمد عبد الله بن عثمان الواثقي من أولاد الخليفة الواثق، ذهب كذلك بأهله إلى خراسان، ودبر أن يستعين بالأتراك لإزالة دولة بني سامان حتى هاجموا بخارى وأزالوا الساماني عنها، ثم فشلت الحركة، وكان كالمأموني شاعرا أديبا.
ومن الأمراء غير العباسيين الذين كانوا من الأدباء آل ميكال الذين اشتهر من بينهم أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي، وأبو محمد عبد الله بن إسماعيل الميكالي، وآل ميكال أسرة كبيرة من سادة خرسان، وأولي الفضل والنبل والرياسة فيها، جمعوا إلى إنشاء الأدب حماية الأدب.
هؤلاء الأمراء الأدباء من نسل العباسيين وغيرهم بهذا الإقليم شجعوا حركة أدبية عظيمة بما بذلوا من مال، وما وجهوا من رأي، وما ضربوا المثل بما أنشئوا من أدب، فقصدهم المؤلفون يهدون إليهم تآليفهم وقصائدهم؛ فيقصد ابن دريد - مثلا - أبا الفضل الميكالي في نيسابور، ويؤلف له كتاب «الجمهرة»، وينشئ له قصيدته المقصورة - يا ظبية أشبه شيء بالمها - والتي يقول فيها في مدح آل ميكال:
إن ابن ميكال الأمير انتاشني
من بعدما قد كنت كالشيء اللقا
ويقول في ابني ميكال بعد أن ذكر العراق وأهله، وأنه لا يدانيهم في فضلهم أحد:
حاشا الأميرين اللذين أوفدا
علي ظلا من نعيم قد ضفا
هما اللذان أثبتا لي أملا
قد وقف اليأس به على شفا
تلافيا العيش الذي رنقه
صرف الزمان فاستساغ وصفا
وأجريا ماء الحيا لي رغدا
فاهتز غصني بعدما كان ذوى
هما اللذان سموا بناظري
من بعد إغضائي على لذع القذى
هما اللذان عمرا لي جانبا
من الرجاء كان قدما قد عفا
وقلداني منه لو قرنت
بشكر أهل الأرض عني ما وفى
ونرى مثلا أبا منصور الثعالبي يؤلف كتابه «لطائف المعارف» للصاحب بن عباد، و«المبهج» لشمس المعالي قابوس بن وشمكير، و«فقه اللغة»، و«سحر البلاغة» لأبي الفضل الميكالي، و«النهاية في الكناية» لمأمون بن مأمون صاحب خوارزم ... إلخ.
وعلى الجملة فهاتان الدولتان - البويهية والسامانية - مع فارسية ملوكهما وأعجمية لغاتهما الأصلية قد خدمتا اللغة العربية، والأدب العربي، والعلوم الإسلامية العربية، والفلسفة الإسلامية العربية خدمة لا تقدر.
هوامش
الفصل الرابع
السند وأفغانستان
تولى هذا الإقليم الدولة الغزنوية، وتسمى أيضا دولة بني سبكتكين. وقد قامت هذه الدولة من سنة 351ه إلى سنة 582ه.
وهي دولة تركية، والنزاع بين الأتراك والفرس قديم، والحرب بينهم سجال؛ فقد ساد الفرس في الدولة العباسية الأولى إلى أن جاء المعتصم فقوي سلطان الترك، وضعف سلطان الفرس، وظل الحال كذلك حتى أتى بنو بويه، وهم فرس، فاستردوا سلطانهم، وأضعفوا سلطان الترك.
وكذلك الأمر هنا؛ فقد ساد السامانيون الفرس في خراسان وما وراء النهر حتى جاء آل سبكتكين الأتراك، فأنزلوهم عن مكانتهم، وحلوا محلهم في السيادة.
نشأ الأمراء الأولون من الدولة الغزنوية في أحضان الدولة السامانية؛ فقد كان ألبتكين مملوكا تركيا حاكما لهراة من قبل السامانيين، وقد فتح غزنة سنة 352ه؛ وقد خلفه ابن إسحاق، وهذا لم يعقب فآل أمر ما بيده إلى غلامه سبكتكين، وإليه تنسب الدولة. وقد وسع سبكتكين ملكه في ناحيتين: في ناحية الهند، وأنشأ بها حكومة في «بشاور»، وفي ناحية فارس باستيلائه على خراسان وما إليها. ومن أشهر رجال هذه الدولة - بل من أشهر أعلام الإسلام - محمود بن سبكتكين الذي وطد ملكه ووسعه، فوسع فتوحه في الهند إلى ما وراء كشمير وبنجاب، واستولى من ناحية أخرى على بخارى وما وراء النهر، وأخذ إقليم الري وأصفهان من البويهيين إلى العراق، فامتدت مملكته من لاهور إلى سمرقند إلى أصفهان إلى العراق، واستمر الملك في عقبه إلى أن خلفتها الدولة الغورية.
والذي يهمنا هنا الناحية العقلية؛ فقد كانت هذه البلاد في هذه الدولة مركزا عقليا نبغ فيه كثير من رجال العلم والأدب والفلسفة.
وكان من أهم بلاد هذه الدولة ولاية سجستان «وعاصمتها زرنج، وفي أهل سجستان عظم خلق وجلادة، وأغلب أهلها على مذهب الحنفية لا ترى من غيرهم إلا القليل، وكان فيها كثير من الخوارج يظهرون مذهبهم، ولا يتحاشون منه، ويفتخرون به عند المعاملة، يقول الرجل عند مماكسته: «أنا من الخوارج لا تجد عندي إلا الحق.» واشتهر أهل سجستان - على العموم - بصحة المعاملة، وقلة المخاتلة، ومسارعتهم إلى إغاثة الملهوف ومداركة الضعيف، ثم أمرهم بالمعروف».
1
وقد ينسب إليها فيقال: السجستاني، وقد تختصر النسبة فيقال: السجزي. وكثير من العلماء ينسب إليها، منهم أبو سعيد السجزي القاضي الحنفي، رحل إلى الشام والعراق وخراسان، ثم عاد إلى بلاده وولي القضاء بعدة نواح، ومات بفرغانة سنة 383ه. وأبو أحمد خلف بن أحمد السجزي كان ملكا بسجستان، وكان من أهل العلم والفضل والسياسة والملك، سمع الحديث بخراسان والعراق، وقد سلب ملكه سنة 399ه محمود بن سبكتكين، وتوفي في الهند محبوسا.
وكان من أعماله العظيمة أن جمع العلماء بسجستان وحملهم على تصنيف كتاب في التفسير، لا يغادرون فيه حرفا من أقاويل المفسرين وتأويل المتأولين، ونكت المذكرين، ويتبعون ذلك بوجوه القرارات وعلل النحو والتصريف، ويوشحونه بما رواه الثقات الأثبات من الحديث. وقد أنفق على العلماء مدة اشتغالهم فيه عشرين ألف دينار، وتم هذا العمل الضخم في مائة مجلد تستغرق عمر الكاتب، وتستنفد حبر الناسخ.
2
ومن مدن سجستان المشهورة الرخج، وإليها ينسب كثير من العلماء والأدباء.
ثم من أهم مدن هذه الدولة غزنة، وكانت عاصمة ملكها، وقد ملأها محمود بن سبكتكين بأجمل ما وصلت إليه يده عند فتحه للهند. وقد دفن بها السلطان محمود هذا، ولا يزال بها قبره عليه قبة عظيمة، وأبواب المدفن من خشب الصندل، قيل: إنه أتى بها من أحد هياكل الهند.
وقد وصف العتبي بعض ما عمله السلطان محمود في غزنة، فذكر - مثلا - أنه بنى فيها مسجدا، وقال: «لما عاد السلطان يمين الدولة إلى دار الملك بغزنة أحب أن ينفق ما أفاء الله عليه في عمل بر يشيع جدواه، وكان قد أوعز باختطاط صعيد من ساحة غزنة للمسجد الجامع، إذ كان ما اختط قديما على قدر أهلها، فوافق عوده حصول المراد من تقطيعه وتوسيعه، وإقامة الجدران على ترابيعه، فصب بدر المال على الصناع، كما صب دماء الأبطال يوم القراع ... ونقل إليه من أقطار الهند والسند جذوع توافقت قدودا ورصانة، وتناسبت تدويرا وثخانة. وقد فرشت ساحتها بالمرمر منقولا من كل فج عميق، ومضرب سحيق ... أشد ملاسة من راحة الفتاة وصفحة المرآة. فأما الأصباغ فروضة الربيع ضاحكة الثغور تستوقف الأبصار، وتقيد النظار. وأما التهيب فهو صبات الذهب الأحمر أفرغت عن صور الأصنام المجذوذة، والبددة المأخوذة،
3
فطفقت تعرض على النار بعد أن كانت آلهة للكفار ...» إلخ.
وقد أفرد السلطان لخاصته بيتا في المسجد مشرفا عليه، فرشه وإزاره من الرخام، قد أحيط بكل رخامة مربعة محراب من الذهب الأحمر مكللا باللازورد، في تعاريج من ألوان المنثور والورد.
وأمام هذا البيت مقصورة بتعاريج عليها منصوبة
4
تسع ثلاثة آلاف غلام، متى شهدوا للفرض أخذوا أماكنهم منها صفوفا، وأقبلوا على انتظار الأذان عكوفا.
وأضيف إلى المسجد مدرسة فيحاء، تشتمل بيوتها من بساط الأرض إلى مناط السقوف على تصانيف الأئمة الماضين، من علوم الأولين والآخرين، منقولة من خزائن الملوك، نقروا عن ديار العراق، ورباع الآفاق، حتى اقتنوها بخطوط كفرائد سموط، مصححة بشهادات التقييد، وعلامات التخفيف والتشديد، ينتابها فقهاء دار الملك وعلماؤها للتدريس، والنظر في علوم الدين، على كفاية ذوي الحاجة منهم ما يهمهم، جراية وافرة، ومعيشة حاضرة.
وناهيك من بلد يحتوي على مرابض ألف فيل، يشغل كل منها بساسته ومارته
5
دارا كبيرة، وخطة وسيعة، إن الله تعالى إذا أراد عمر البلاد وكثر العباد،
6
وقال ياقوت: «وقد نسب إلى هذه المدينة من لا يعد ولا يحصى من العلماء.» وقال السمعاني: «الغزنوي نسبة إلى غزنة، وهي بلدة من بلاد الهند، خرج منها جماعة من العلماء في كل فن.»
ثم أفغانستان ، ومن أشهر مدنها قندهار، وكابل، وقد نسب إليها جمع من المحدثين.
ثم السند، وكانوا يطلقونها على البلاد الواقعة بين الهند ومكران وسجستان. وكانت عاصمتها «المنصورة»، وقد قال المقدسي في وصف السند عندما زارها: «إنه إقليم الذهب والتجارات والعقاقير والآلات والفانيذ والخيرات ... به عدل وإنصاف وسياسات ... العلماء به قليلون، والمنصورة قصبتها وهي مثل دمشق، لأهلها مروءة، وللإسلام عندهم طراوة، والعلم وأهله كثير، ولهم ذكاء وفطنة ... ومن مدن السند ديبل، وكل أهلها تجار، وكلامهم سندي وعربي - والملتان، وهي مثل المنصورة، وأهلها لا يكذبون في بيع، ولا يبخسون في كيل، يحبون الغرباء، وأكثرهم عرب.»
7
ثم قال: «إن إقليم السند أكثر أهله مذاهبهم أصحاب حديث، ورأيت القاضي أبا محمد المنصوري داوديا إماما في مذهبه، وله تدريس وتصانيف، قد صنف كتبا عدة حسنة. وأهل الملتان شيعة، ولا تخلو القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة، وليس به مالكية ولا معتزلة، ولا عمل للحنابلة؛ قد أراحهم الله من الغلو والعصبية والهرج والفتنة» ... إلخ.
ونعود إلى وصف الحركة العلمية والأدبية في هذه البلاد.
كان طبيعيا أن تكون الحركة العلمية والأدبية في البلاد الجديدة التي فتحتها الدولة الغزنوية في الهند ضعيفة؛ فقد بدأت تنشر فيها الإسلام والعربية، فليس من الطبيعي أن تخرج علماء، أما القسم الذي استولت عليه من الدولة السامانية وغيرهما مما تأصل فيه الإسلام من عهد بعيد، فقد استمرت فيه الحركة في العهد الغزنوي كما كان في العهد الساماني.
وكان من الغزنويين من شجع الحركة الدينية والعلمية والأدبية تشجيعا عظيما، وخاصة محمود بن سبكتكين؛ فقد سار على أسلوب العصر في أن يزين مملكته بالعلماء والأدباء، كما يزين تاجه باللآلئ.
وقد احتاط به كثير من علماء الدين، وجد أهل المذاهب الدينية والفقهية في كسبه، علما منهم بأنه إذا اعتنق مذهبا ساد في الأقاليم الواسعة التي فتحها فالفاطمية في مصر وجهوا إليه «التاهرتي» الداعي ليدعوه إلى مذهب الفاطمية، فوقف السلطان محمود على سر ما دعا إليه، وعلم بطلان ما ندب إليه، وأمر بقتل التاهرتي، وأهدى بغلته التي كان يركبها إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي شيخ هراة، وقال: «كان يركبها رأس الملحدين، فليركبها رأس الموحدين.»
8 «وذكر إمام الحرمين أبو المعالي الجويني أن السلطان المذكور كان على مذهب أبي حنيفة، وكان مولعا بعلم الحديث، وكانوا يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع، وكان يستفسر الأحاديث، فوجد أكثرها موافقا لمذهب الشافعي، فوقع في خلده حكمه، فجمع الفقهاء من الفريقين في مرو والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتفاق على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي، وركعتين على مذهب الإمام أبي حنيفة لينظر فيه السلطان، ويتفكر ويختار ما هو أحسنهما، وتولى الإمام القفال المروزي الشافعي ذلك، فتحول السلطان من المذهب الحنفي إلى المذهب الشافعي.»
9
ولما فتح إقليم خراسان، وسائر إيران وما وراء النهر وسجستان، وجه أدباؤها مديحهم إليه كما كانوا يوجهونه إلى السامانيين؛ فبديع الزمان الهمذاني ينشئ القصائد في مدح محمود بن سبكتكين، كالتي يقول فيها:
تعالى الله ما شاء
وزاد الله إيماني
أأفريدون في التاج
أم الإسكندر الثاني
أم الرجعة قد عادت
إلينا بسليمان
أظلت شمس محمود
على أنجم سامان
وأمسى آل بهرام
عبيدا لابن خاقان
10
إذا ما ركب الفيل
لحرب أو لميدان
رأت عيناك سلطانا
على منكب شيطان
11
فمن واسطة الهند
إلى ساحة جرجان
ومن قاصية السند
إلى أقصى خراسان
على مقتبل العمر
وفي مفتتح الشان
فيوما رسل الشاه
ويوما رسل الخان
12
فما يعزب بالمغر
ب عن طاعتك اثنان
أيا والي بغداد
ويا صاحب همدان
تأمل مائتي فيل
على سبعة أركان
13
يقلبن أساطين
ويلعبن بثعبان
14
ويأجوج ومأجوج
من الجند تموجان
وكذلك أنشأ أبو منصور الثعالبي القصائد في مدحه كقوله:
يا خاتم الملك ويا قاهر ال
أملاك بين الأخذ والصفح
عليك عين الله من فاتح
للأرض مستول على النجح
راياته تنطق بالنصر بل
تكاد تملا كتب الفتح
فاسعد بأيامك واستغرق ال
أعداء بالكبح وبالذبح
إلى كثير غيرهما من الشعراء.
واختص به أديبان كبيران ناثر وشاعر، وأولهما أبو القاسم أحمد بن حسن الميمندي، وثانيهما كاتبه أبو الفتح البستي.
فالأول «الميمندي»: «كان وزير محمود بن سبكتكين، واشتهر بفصاحة العلم، وعلو الهمم، وسعة النظر، وحسن السياسة، وكان الوزير الذي قبله «أبو العباس» قليل البضاعة في الصناعة، فانتقلت المخاطبات مدة أيامه من العربية إلى الفارسية حتى كسدت سوق البيان، وبارت بضاعة الإجادة والإحسان، ولما سعدت الوزارة بأبي القاسم رفع ألوية الكتاب، وعمر أفنية الآداب، فأمر الكتاب أن يتحاشوا الفارسية إلا عن ضرورة من جهل من يكتب إليه، وعجزه عن فهم ما يتعرب به إليه.
15
فطارت توقيعاته في البلاد ولا شوارد الأمثال، وأبيات المعاني من القصائد الطوال، ففي كل ناد نداء بألحانها، وفي كل مشهد شهادة باستحسانها ... إلخ.»
16
وأما أبو الفتح البستي، فكان كاتب محمود بن سبكتكين وموضع سره، ومستشاره في أمره، وهو أديب كبير له شعر جيد، ونثر جيد؛ فأما شعره فأكثره مقطوعات يعمد فيها إلى المعنى الدقيق، فيصوغه في لفظ رشيق، وأما نثره فواضح جميل فيه السجع والازدواج على طريقة عصره، وهو في نثره يكثر من الأمثال، وفي نظمه يكثر من الحكم. وقد قال الثعالبي: إن له طريقة خاصة به، فهو «صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأنيس، البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريقة لطيفة»، تتجلى هذه الطريقة في أمثاله من مثل قوله: «عادات السادات، سادات العادات - الخيبة تهتك الهيبة - من كان عبد الحق فهو حر - المنية تضحك من الأمنية - معنى المعاشرة ترك المعاسرة ... إلخ.» وله في هذا الباب الشيء الكثير.
كذلك تظهر طريقته في شعره من دقة المعنى وأناقة اللفظ، مثل قوله:
لا يغرنك أني لين الم
س فغربي إذا انتضيت حسام
أنا كالورد فيه راحة قوم
ثم فيه لآخرين زكام
وقوله:
وقد يلبس المرء خز الثياب
ومن دونها حالة مضنيه
كمن يكتسي خده حمرة
وعلتها ورم في الريه
وقوله:
تحمل أخاك على ما به
فما في استقامته مطمع
وأنى له خلق واحد
وفيه طبائعه الأربع؟!
ويظهر أن له ثقافة واسعة في علم النجوم استخدمها كثيرا في شعره.
وعلى الجملة فشعره ونثره يدلان على رقة ذوقه، وسعة ثقافته في فروع من العلم مختلفة، إلى استفادة كبيرة من مزاولته الكتابة للسلاطين والأمراء، واحتكاكه بالأحداث السياسية، والمشاكل الاجتماعية، وأكثر ما يتجلى ذلك في أمثاله وحكمه.
وقد غضب عليه ابن سبكتكين أخيرا فنفاه إلى بلاد الترك، ومات بها سنة 400ه.
ثم كان مؤرخ الدولة الغزنوية الكبير، وهو أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي، وقد سمى كتابه «اليميني» نسبة إلى لقب محمود بن سبكتكين؛ فقد لقبه الخليفة القادر بالله «يمين الدولة وأمين الملة». وقد ألف العتبي كتابه هذا في تاريخ الدولة الغزنوية ترجم فيه لسبكتكين، وكيف أسس مملكته، ثم تاريخ ابنه محمود، والوقائع التي حدثت في أيامه ... إلخ.
ولا يزال الكتاب يعد أكبر مصدر لتاريخ هذه الدولة. وقد صاغه في أسلوب أدبي مسجوع على نحو ما فعله معاصره أبو منصور الثعالبي؛ ولذلك وقع بين الكتب الأدبية والتاريخية، ولو كان نثرا مرسلا لكان أجدى على التاريخ، ومع هذا فقد حاز شهرة كبيرة في عالم الأدب، وخاصة في الأقاليم الفارسية، قال السبكي: «وكان أهل خوارزم وما والاها يعتنون بهذا الكتاب، ويضبطون ألفاظه أشد من اعتناء أهل بلادنا بمقامات الحريري.»
17
وعني بشرحه كثير من الأدباء، وطبع له في مصر شرح للمنيني الدمشقي.
وقد حكى الأستاذ براون في كتابه «التاريخ الأدبي للفرس» أن السلطان محمود علم أن في مجلس مأمون بن مأمون جماعة من رجال العلم والفلسفة منهم ابن سينا والبيروني، وأبو سهل المسيحي، وابن الخمار، وأبو نصر العراق، فكتب إليه أن أرسلهم ليشرفوا بمجلسي ونستفيد من علمهم. فجمعهم مأمون بن مأمون، وقرأ عليهم كتاب السلطان، فأبى ابن سينا وفر، وقبل البيروني، وابن الخمار، والعراق.
18
وكان ذهاب البيروني إليه نعمة لا تقدر، فهو الذي استغل فتوح السلطان محمود في الهند أحسن استغلال علمي وجعل ثروة الهند في الرياضة والفلسفة والإلهيات في يد العرب والفرنج، ولا تزال كتبه التي ألفها العمدة الصادقة لكل من كتب عن الهند من شرقيين وغربيين، وكان البيروني هذا درة في تاج الدولة الغزنوية كابن سينا في الدولة السامانية.
وهو أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، نسبة على بيرون مدينة في السند، ولد سنة 362ه، ونبغ في كثير من العلوم، وخاصة الرياضة والفلك، وأزهر في الأوساط العلمية، وكانت - إذ ذاك - قصور الخلفاء والأمراء ومجالسهم تقوم مقام الجامعات اليوم، وقد عدد في إحدى قصائده الذين أكرموه لعلمه، فقال:
مضى أكثر الأيام في ظل نعمة
على رتب فيها علوت كراسيا
فآل عراق قد غذوني بدرهم
ومنصور منهم قد تولى غراسيا
وشمس المعالي كان يرتاد خدمتي
على نفرة مني وقد كان قاسيا
19
وأولاد مأمون ومنهم عليهم
تبدى بصنع صار للحال آسيا
وآخرهم مأمون رفه حالتي
ونوه باسمي ثم رأس راسيا
20
ولم ينقبض محمود عني بنعمة
فأغنى وأقنى مغضيا عن مكاسيا
21 •••
أبو الفتح في دنياي مالك ربقتي
فهات بذكراه الحميدة كاسيا
22
فلا زال للدنيا وللدين عامرا
ولا زال فيها للغواة مواسيا
ويعده «سخاو» المستشرق الكبير - ناشر كتبه - أكبر عقلية علمية ظهرت، وكذلك رأى محمد بن محمود النيسابوري، إذ قال: «إن له في الرياضيات السبق الذي لم يشق المحضرون غباره، ولم يلحق المضمرون المجيدون مضماره.»
وفي الحق أنه كان من خير الأمثال العليا للعالم المخلص للعلم، الواهب له حياته، يزهد في المال إلا ما يكفيه حاجته، صنف القانون المسعودي للسلطان مسعود؛ فوصله السلطان بأموال طائلة فردها بعذر الاستغناء عنها.
23 «ولا يكاد يفارق يده القلم، وعينه النظر، وقلبه الفكر؛ إلا في يومي النيروز والمهرجان من السنة لإعداد ما تمس إليه الحاجة في المعاش»، لا يمل الاستزادة من العلم حتى حين يجود بنفسه. دخل عليه الفقيه أبو الحسن الولوالجي، وهو يجود بنفسه فسأله عن مسألة توريث ذوي الأرحام؛ فقال له الفقيه؛ إشفاقا عليه: أفي هذه الحالة؟ قال البيروني: أودع الدنيا وأنا عالم بها خير من أن أخليها وأنا جاهل بها! قال الفقيه: فلما خرجت من عنده سمعت الصراخ عليه.
24
ويقول عنه نفسه: «خصصت في غريزتي منذ حداثتي بفرط الحرص على اقتناء المعارف بحسب السن والحال.» ويتعلم لغات مختلفة؛ ففي كتبه عن العقاقير والجواهر يذكر اسم الشيء بالعربية واليونانية والسريانية والفارسية والتركية؛ ويقارن بين اللغات مقارنة دقيقة، فيمدح اللغة العربية بحسن أدائها للمعاني، ويفضلها على الفارسية، وينقد الكتابة الفارسية، كما ينقدها مفكرو اليوم نقدا دقيقا فيقول: «إن كل أمة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها، واستعملتها في مآربها ... وأنا نفسي قد طبعت على لغة - يريد بها لغته الأصلية الخوارزمية - لو خلد بها علم لاستغرب استغراب البعير على الميزاب، والزرافة في الأكواب، ثم انتقلت إلى العربية والفارسية، وأنا في كل واحدة دخيل ولها متكلف، والهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية، وسيعرف مصداق قولي من تأمل كتاب علم نقل إلى الفارسية كيف ذهب رونقه، وكسف باله واسود وجهه، وزال الانتفاع به؛ إذ لا تصلح هذه اللغة إلا للأخبار الكسروية، والأسمار الليلية.»
ثم ينقد الكتابة العربية فيقول: «وقد حل بأرضنا رومي، فكنت أجيء بالحبوب والبذور والثمار وغيرها، وأسأله عن أسمائها بلغته وأحررها؛ لأن للكتابة العربية آفة عظيمة، وهي تشابه صور الحروف المزدوجة فيها، واضطرارها في التمايز إلى نقط المعجم، وعلامات الإعراب التي إذا تركت استبهم المفهوم منها؛ فإذا انضاف إليها إغفال المعارضة، وإهمال التصحيح بالمقابلة - وذلك بالفعل عام في قومنا - تساوى وجود الكتاب وعدمه، بل علم ما فيه وجهله؛ ولولا هذه الآفة لكفى نقل ما في كتاب ديسقوريدس المنقولة إلى العربي من الأسامي اليونانية إلا أنا لا نثق بها ... إلخ.»
25
لقد اتصل البيروني بشمس المعالي قابوس بن وشمكير، وألف له «الآثار الباقية»، وهو يبحث في التواريخ التي كانت تستعملها الأمم، والاختلاف في الشهور والسنين، والتقاويم عند الأمم وأسسها، إلى غير ذلك مما يسميه الفرنج الآن علم الكرونولوجيا .
فلما اتصل بمحمود بن سبكتكين فاتح الهند، وقف من الفتوح موقفا عجيبا يذكرنا بالجمعية العلمية الفرنسية في حملة نابليون على مصر، ولكن البيروني كان جمعية وحده، فعكف على الهند يدرسها من جميع نواحيها: جغرافيتها وعلومها ودينها؛ بل وجواهرها، وألف في ذلك الكتب الكثيرة مثل «تاريخ الهند»، و«الجماهر في معرفة الجواهر» ... إلخ، وتعلم اللغة السنسكريتية، وأخذ ينقل منها إلى العربية، ومن العربية إليها، فنقل إلى السنسكريتية «نظريات إقليدس»، و«المجسطي» في الفلك، ونقل إلى العربية من السنسكريتية «باتا نجالي».
وربما كان أعظم كتبه «القانون المسعودي» الذي ألفه للسلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين. وهذا الكتاب يبحث في الرياضة والفلك وفلسفة الهند، ولما ينشر بعد.
وقد عمر «البيروني» عمرا طويلا مباركا ألف فيه كتبا كثيرة نشرت في رسالة له في أول كتاب «الآثار الباقية» تدل على سعة آفاقه العلمية وعمقه فيها، وقد مات بغزنة نحو 440ه عن خمسة وسبعين عاما.
كما كان من رجال الفلسفة في بلاط السلطان محمود، ابن الخمار، وكان نصرانيا، وقد تقدم طرف من خبره.
كما كان في بلاط من أدباء الفرس: الفردوسي، والعنصري، والعسجدي، والفرخي، وقد نظم له الفردوسي قسما من الشاهنامة، كما نظم له الآخرون، وموضع ذلك الأدب الفارسي.
26
هوامش
الفصل الخامس
بلاد المغرب
لما فتح المسلمون بلاد المغرب كلها كانوا يقسمونها إلى ثلاثة أقسام: مملكة إفريقية، وهي المغرب الأدنى، وقاعدتها القيروان؛ وسمي أدنى لأنه أدنى إلى بلاد العرب ومركز الخلافة، والمغرب الأوسط، وقاعدته تلمسان والجزائر، والمغرب الأقصى، وقاعدته فاس في مراكش.
وكان العرب يطلقون على سكان كل هذه البلاد البربر.
وقد افتتحها المسلمون من أوائل عهد الفتح، ولقوا في فتحها عناء كبيرا، وبذلوا في ذلك ضحايا كثيرة من سنة 26ه إلى سنة 81ه.
وكان أهل هذه البلاد لسذاجتهم مرتعا خصيبا للدعاة الخارجين على الدولة. ولكل داع بمذهب ديني جديد، قال ياقوت: «البربر أجفى خلق الله، وأكثرهم طيشا، وأسرعهم إلى الفتنة، وأطوعهم لداعية الضلالة، وأصغاهم لنمق الجهالة، ولم تخل أجيالهم من الفتن وسفك الدماء قط ... وكم من ادعى فيهم النبوة فقبلوا، وكم زاعم فيهم أنه المهدي الموعود به فأجابوا دعوته ولمذهبه انحلوا، وكم ادعي فيهم مذهب الخوارج فإلى مذهبه بعد الإسلام انتقلوا.» وقامت به دول مختلفة متعاقبة؛ فقد خرج على المغرب الأقصى إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب سنة 169ه، ونشر الدعوة به، وأسلم على يده خلق كثير، فبويع له بالخلافة سنة 172ه، وأسس دولة تسمت دولة الأدارسة استمرت إلى سنة 375ه فاكتسحتها دولة العبيديين «الدولة الفاطمية».
وقام بنو الأغلب بتونس ودولتهم تنسب إلى إبراهيم بن الأغلب التميمي، حكمت من سنة 184ه. وقد عظمت دولتهم وأنشئوا أسطولا قويا في البحر الأبيض فتحوا به صقلية ومالطة وسردينيا، وكان عهدهم عصر سيطرة قوية على البحر، واستمروا في الحكم إلى 296ه، حيث استولى عليهم العبيديون أيضا.
ثم جاءت الدولة الفاطمية، وكان منشؤها بالمغرب، فبسطت سلطانها على جميع بلاد المغرب من حدود مصر إلى المحيط الأطلنطي مضافا إليها صقلية وسردينيا، وقد بدأ ملكهم على يد أبي محمد عبيد الله المهدي سنة 296ه، واستمر الملك في أولاده حتى تولى منهم المعز، فلما انتقل إلى مصر سنة 362ه، وتتابعت فتوحهم في الشام والحجاز واليمن، وقوي سلطانهم فيها، ضعف سلطانهم في الغرب.
فجاء بنو زيري الصنهاجيون بتونس والجزائر، وأصلهم من البربر، وكانوا عمالا للفاطميين، ولما سار المعز إلى مصر استعمل على تونس يوسف بن بلكين، ثم استفحل أمر يوسف واستقل بمملكته، وأسس دولة نسبت إليه استمرت من سنة 361ه-542ه، واشتهر من رجالها باديس بن يوسف، وابنه المعز، وهو أول من حمل الناس بإفريقية على مذهب مالك، وكانوا قبل على مذهب أبي حنيفة، ثم ابنه تميم بن المعز الشاعر الكبير، وسيأتي ذلك.
ومن أول الفتح والمسلمون يعملون أقصى ما وفي وسعهم لإدخال البربر في الإسلام، وتفقيههم وتحضيرهم، وتوالى على بلاد المغرب أمراء عظام عملوا في هذه السبيل أعمالا جليلة، فحسان بن النعمان الغساني عامل عبد الملك بن مروان على إفريقية هو الذي دون الدواوين بها باللغة العربية، وغزا موسى بن نصير المغرب، وكان معه سبعة وعشرون ألفا من العرب، واثنا عشر ألفا من البربر، وأمر موسى العرب أن يعلموا البربر القرآن والفقه ... ثم أسلم بقية البربر على يد إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر سنة 101ه أيام عمر بن عبد العزيز
1 ... وقد أرسل عمر بن عبد العزيز عشرة من التابعين يفقهون أهل المغرب في الدين.
وفي أيام هشام بن عبد الملك فر قوم من خوارج العراق إلى المغرب، وبثوا فيه مبادئهم، فسرت دعوتهم في البربر، وأعجبهم من تعاليمهم أن الخليفة ليس يجب أن يكون قرشيا، فانتفض البربر على العرب يريدون أن تكون لهم دولة من أنفسهم، وساعد على ذلك ما لقيه البربر أيام ولاية عبد الله بن الحبحاب من الظلم والفساد، وكان خوارج المغرب على مذهب الإباضية والصفرية، وكان لدعوة الخوارج أثر كبير في المغرب في إيجاد عصبية بربرية ضد العصبية العربية، وكثر عدد الخوارج من البربر حتى بلغوا في الثورة أيام عمر بن حفص - عامل الخليفة المنصور - أكثر من أربعين ألفا من الصفرية، وخمسة وعشرين ألفا من الإباضية.
2
وفي أيام هارون الرشيد ولي على المغرب يزيد بن حاتم بن المهلب بن أبي صفرة. قال ابن خلدون: «وفي أيامه انخضدت شوكة البربر، واستكانوا للغلب وطاعوا للدين، فضرب الإسلام بجرانه، وألقت الدولة المضرية على البربر بكلكلها.»
وفي عهد العباسيين أخذ أهل المغرب بمذهب أهل العراق «مذهب أبي حنيفة» في الأصول والفروع؛ لأن ذلك المذهب يومئذ هو مذهب الخلفاء بالمشرق، والناس على دين ملوكهم، قال القاضي عياض: «ظهر مذهب أبي حنيفة بإفريقية ظهورا كبيرا إلى قرب سنة أربعمائة ثم انقطع منها.» وللمعز بن باديس الصنهاجي المتوفى في أواسط المائة الخامسة أثر كبير في ذلك؛ فقد كان هو وأصحابه على مذهب الشيعة أخذا من أسلافهم الفاطميين أيام استيلائهم على المغرب، ثم قطع المعز دعوة الشيعة، ودعا لبني العباس وحمل الناس على التمسك بمذهب مالك، وكان مذهب مالك معروفا في هذه البلاد من قبل، ولكن أهله كانوا في محنة حتى نصرهم المعز هذا.
3
وانتشر مذهب أهل السنة يزاحم الشيعة والخوارج .
هذه الأحداث العظمى من دخول العدد الكبير من العرب، وفتح البلاد، ونشر الإسلام واللغة العربية فيها، وتثقيف الناس بالدين الإسلامي والأدب العربي، وجعل البلاد جزءا من المملكة الإسلامية يدخلها التجار من جميع الأجناس، ويتبادلون مع أهلها المعاملات والسلع، واختلاط العرب وغيرهم من المسلمين بأهل البلاد بالتزاوج والتوالد، ووقوعها بين البلاد المتحضرة، وخاصة بين مصر والأندلس، وكثرة العلاقات والرحلات بين هذه البلاد بعضها وبعض، كل هذا نقل بلاد المغرب من برابرة جفاة - كما يعبر ياقوت - إلى أمة لها مدنية ولها حضارة ولها ثقافة، فلا عجب بعد إذا رأينا في البلاد حركة عقلية تؤرخ، ويكون لها شأن يذكر.
وقد اشتهرت بلدان في المغرب بتقدمها في الحضارة والعمران والعلم والأدب، كالقيروان والمهدية وتاهرت وسجلماسة وفاس.
فأما «القيروان»؛ فقد أسسها عقبة بن نافع سنة خمسين، قال ابن خلدون: «اختط عقبة القيروان، وبنى بها المسجد الجامع، وبنى الناس مساكنهم ومساجدهم، وكان دورها ثلاثة آلاف وستمائة باع، وكملت في خمس سنين، وكان يغزو ويبعث السرايا للإغارة والنهب، ودخل أكثر البربر في الإسلام، واتسعت خطة المسلمين، ورسخ الدين.» وهي عاصمة إفريقية.
4
وفي القرن الرابع كانت «مصرا بهيا عظيما قد جمع أضداد الفواكه، والسهل والجبل، مع علم كثير، لا ترى أرفق من أهلها، ليس بينهم غير حنفي ومالكي مع ألفة عجيبة، لا شغب بينهم ولا عصبية، فهي مفخرة المغرب، ومركز السلطان، وأحد الأركان، أرفق من نيسابور، وأكبر من دمشق، وأجل من أصبهان ... جامعها بموضع يسمى السماط الكبير ... وهو أكبر من جامع ابن طولون بأعمدة من الرخام، ومفروش بالرخام.
5
والمهدية؛ وهي مدينة من أعمال تونس اختطها المهدي رأس الفاطميين، وبينها وبين القيروان مرحلتان، أسسها سنة 300ه، وفرغ منها سنة 305ه، وهي على ساحل البحر الأبيض داخلة فيه كهيئة كف متصلة بزند، وسورها سورا محكما بأبواب من الحديد المصمت، وجلب إليها الماء من قرية على مقربة من المهدية، وجعل لها مرسى يسع ثلاثين مركبا.
وبنى على المرسى برجين بينهما سلسلة من حديد، فإذا أريد إدخال سفينة أرسل الحراس أحد طرفي السلسلة حتى تدخل ثم يمدونها كما كانت، ولما أتم ذلك قال المهدي: «اليوم أمنت على الفاطميات.» - يعني بناته - وارتحل إليها وأقام بها، ثم عمر فيها الدكاكين، ورتب فيها أرباب المهن، كل طائفة في سوق، فنقلوا إليها أموالهم ... وينسب إلى المهدية جماعة وافرة من العلماء في كل فن،
6
وكان من إحدى قرى المهدية هانئ أبو ابن هانئ الأندلسي، وفي المهدية هذه ولد المعز فاتح مصر، ومؤسس القاهرة.
وتاهرت؛ بلد كبير من أعمال الجزائر قد أحدقت بها الأنهار، والتفت بها الأشجار، ينتعش فيها الغريب، ويستطيبها اللبيب، رشيق الأسواق، جيد الأهل، قديم الوضع، محكم الرصف، عجيب الوصف
7 ... وكانت قديما عش الإباضية، وقد أخرجت كثيرا من حفاظ الحديث، وثقات المحدثين.
8
وسجلماسة؛ قصبة جليلة على نهر بمعزل عنها، شديدة الحر والبرد جميعا، صحيحة الهواء، كثيرة التمور والأعناب والفواكه والحبوب، كثيرة الغرباء ... وهم أهل سنة ... بها علماء وعقلاء
9 ... ولنسائهم يد صناع في غزل الصوف؛ فهن يعملن منه كل حسن عجيب من الأزر تفوق القصب الذي بمصر ... وأهلها من أغنى الناس وأكثرهم مالا؛ لأنها على طريق من يريد «غابة» التي هي معدن الذهب، ولأهلها جرأة على دخولها.
10
وفاس؛ بلدان جليلان كبيران، كل واحد منهما محصن، بينهما واد جرار عليه بساتين وأرحية، قد استولى على أحدهما الفاطمي، وعلى الآخر الأموي، وكم ثم من حروب وقتال وغلبة، كثير الخيرات، قليل العلماء، كثير الغوغاء.
11
وقال أبو عبيد البكري: «مدينة فاس مدينتان: عدوة القرويين، وعدوة الأندلسيين، وعلى باب دار الرجل، رحاه وبستانه بأنواع الثمر ... وهي أكثر بلاد المغرب يهودا يختلفون منها إلى جميع الآفاق.»
12
ولما وصف المقدسي إقليم المغرب جملة عند زيارته فيما يهمنا من الناحية العلمية، قال: «إنه إقليم كبير طويل ... أهله لا يعرفون مذهب الشافعي إنما هو أبو حنيفة ومالك، وكنت يوما أذاكر بعضهم في مسألة، فذكرت قول الشافعي فقال: اسكت، من هو الشافعي؟! إنما كانا بحرين أبو حنيفة لأهل المشرق، ومالك لأهل المغرب أفنتركهما ونشتغل بالساقية؟ ... وما رأيت فريقين أحسن اتفاقا وأقل تعصبا منهم ...
وسألت بعضهم: كيف وقع مذهب أبي حنيفة إليكم، ولم يكن على سابلتكم؟ قالوا: لما قدم وهب بن وهب من عند مالك، وقد حاز من الفقه والعلوم ما حاز، استنكف أسد بن عبد الله أن يدرس عليه؛ لجلالته وكبر نفسه، فرحل إلى المدينة ليدرس على مالك فوجده عليلا، فلما طال مقامه عنده قال له: ارجع إلى ابن وهب فقد أودعته علمي، وكفيتكم به الزحلة. فصعب ذلك على أسد، ثم سأل: هل يعرف لمالك نظير؟ فدل على محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، فرحل إليه، وأقبل محمد عليه إقبالا لم يقبله على أحد لما رأى منه من فهم وحرص، فلما رأى محمد أنه قد بلغ مراده سيبه إلى المغرب، فلما دخلها اختلف إليه الفتيان ورأوا فروعا حيرتهم، ودقائق عجبتهم، ومسائل ما طنت على أذن ابن وهب، ففشا مذهب أبي حنيفة بالمغرب ...
وهناك القسم الثالث المذهب الفاطمي ... ولهم تصانيف يدرسونها، ونظرت في كتاب الدعائم، فإذا هم يوافقون المعتزلة في أكثر الأصول، ويقولون بمذهب الإسماعيلية، ولهم فيه سر لا يعلمونه لكل أحد إلا من وثقوا به بعد أن يحلفوه ويعاهدوه؛ وإنما سموا باطنية لأنهم يصرفون ظاهر القرآن إلى بواطن وتفاسير غريبة، ومعان دقيقة، وهذه الأصول مذاهب الإدريسية وغلبتهم بكورة السوس الأقصى.
13
وقد اشتهرت بلاد المغرب بالعناية بالحديث والفقه، وتقصيرها في العلوم النظرية من الفلسفة وفروعها؛ قال المقري التلمساني: «وأما ملكة العلوم النظرية فهي قاصرة على البلاد المشرقية، ولا عناية لحذاق القرويين والإفريقيين إلا بتحقيق الفقه فقط، ولم يزل الحال كذلك إلى أن رحل الفقيه ابن زيتون
14
إلى المشرق، فلقي تلاميذ الفخر بن الخطيب، ولازمهم زمانا حتى تمكن من ملكة التعليم، وقدم إلى تونس فانتفع به أهلها.»
15
وقد اشتهر من المغرب كثير من الفقهاء وخاصة في الفقه المالكي من أشهرهم وأولهم أسد بن الفرات، وهو نيسابوري الأصل، قيرواني الدار، أخذ عن مالك موطأه في المدينة، ورحل إلى العراق فأخذ من أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة، وأخذ عن أبي يوسف الأسئلة التي كان يثيرها الحنفية، ويضعون لها الأحكام على مقتضى مذهبهم ، فجردها أسد بن الفرات من أحكامها، وعرضها على ابن القاسم، وتلقى منه أحكامها على مذهب مالك، أو اجتهاد ابن القاسم نفسه، أو اجتهاد أشهب، ودون ذلك كله في الكتاب المشهور المسمى «بالمدونة»، فالمسائل المجردة مسائل الحنفية، والأحكام أحكام مالك وصحبه، وتشتمل على نحو ستة وثلاثين ألف مسألة.
وقد حمل أسد بن الفرات ذلك كله إلى القيروان ونشره بالمغرب، وتولى القضاء بها زمنا، كما تولى قيادة الجيش الذي فتح صقلية لبني الأغلب، وقد قتل وهو محاصر لسرقوسة سنة 213ه.
ثم سحنون؛ وهو عبد السلام بن سعيد، عربي من تنوخ، كان أبوه من العرب الذين نزلوا القيروان، تعلم على علماء القيروان، ورحل فأخذ العلم عن ابن القاسم وأشهب وابن وهب وغيرهم.
وقد أخذ مدونة أسد بن الفرات التي ذكرنا، وأعاد قراءتها علي بن القاسم وصححها عليه، وعاد بها إلى القيروان، فأقبل عليها الناس في المغرب والأندلس وتولى قضاء إفريقية، وجد في نشر مذهب مالك، وتعلم عليه كثيرون حتى عد العلماء الذين تخرجوا عليه بنحو سبعمائة.
قال ابن حارث: «قدم سحنون «إفريقية» بمذهب مالك، واجتمع له في ذلك فضل الدين والورع والعفاف والانقباض، فبارك الله فيه للمسلمين، ومالت إليه الوجوه، وأحبته القلوب، وصار زمانه كأنه مبتدأ قد انمحى ما قبله، فكان أصحابه سرج أهل القيروان ... ابنه عالمها وأكثرهم تأليفا، وابن عبدوس فقيهها، وابن غافق عاقلها، وابن عمر حافظها، وابن جبلة زاهدها، وحمديس أصلبهم في السنة وأعداهم للبدعة، وسعيد بن الحداد لسانها وفصيحها، وابن مسكين أرواهم للكتب والحديث، وأشدهم وقارا وتصاونا - كل هذه الصفات مقصورة على وقتهم.
16
وتوفي سنة 240ه عن ثمانين عاما، ولما مات رجت القيروان لموته. واشتهر ابنه محمد بن سحنون بالتآليف الكثيرة في الحديث والفقه، ومات سنة 256ه.
ثم أبو بكر محمد بن محمد المعروف بابن اللباد اشتهر بالحفظ والإتقان وسعة العلم، وسعيه لنشر المذهب المالكي في المغرب، وتكوين علماء حملوا علمهم وأفادوا به الناس. وقد اضطهده الفاطميون أيام سطوتهم؛ لأنه لم يتابعهم في آرائهم فسجنوه ومات سنة 333ه.
ثم أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الحراوي الفاسي، وهو الذي أدخل فقه مالك في المغرب الأقصى بعد أن كان أهله على مذهب أبي حنيفة، وكان من الحفاظ المعدودين، والفقهاء المشهورين مات بفاس سنة 357ه.
ثم أبو محمد عبد الله بن أبي زيد النفزي القيرواني، إمام المالكية في زمنه، كثير التأليف واسع الفقه حتى سمي «مالك الصغير». رحل إليه العلماء للرواية عنه والتفقه به، له كتاب «الزيادات على المدونة»، وله «مختصر المدونة» توفي سنة 386ه.
وأبو عبد الله بن محمد بن محمود الهواري، قاضي فاس وإمامها، يضرب به المثل في عدله وورعه، له تعليقات على «المدونة» مات سنة 401ه ... إلخ.
والقابسي علي بن محمد المعروف بابن القابسي، كان واسع الرواية، عالما بالحديث ورجاله، فقيها مالكيا أصوليا متكلما مؤلفا مجيدا، له كتاب «الممهد في الفقه»، و«المنقذ من شبه التأويل»، وكتاب «المعلمين والمتعلمين»، وكتاب «رتب العلم وأحوال أهله» ... إلخ. مات بالقيروان سنة 403ه.
واشتهر من فقهاء الحنفية محمد بن عبدون، ولي القيروان بعد سحنون، فاضطهد المالكية ... إلخ.
ولما تغلبت الدولة الفاطمية نشرت فقهها الشيعي ودعوتها الشيعية في المغرب، كما نشرتهما بعد في مصر، واضطهدت الفقهاء السنيين، وقد عرضوا التشيع على كثيرين منهم فأبوا فعذبوهم «وقد قتلوا في وقعة أبي يزيد مخلد بن كيداد خمسة وثمانين من نخبة علماء القيروان».
17
على الجملة فقد كانت الحركة الدينية الفقهية في المغرب حركة قوية نشيطة، أكثر ما خدمت فقه الإمام مالك. •••
والعلم النظري أو الفلسفة - وإن لم ينم كثيرا في بلاد المغرب - لم يخل ممن عكف عليه، فيذكر ابن أبي أصيبعة أن إسحاق بن عمران، كان بغدادي الأصل، مسلم النحلة، ودخل إفريقية في دولة زيادة الله بن الأغلب، وكان قد استجلبه؛ «وإنما دعاه لحاجته على الطب، والطب كان دائما مقرونا بالفلسفة»، وبه ظهر الطب بالمغرب، وعرفت الفلسفة، وكان طبيبا حاذقا متميزا بتأليف الأدوية، بصيرا بتفرقة العلل، أشبه الأوائل في علمه، وجودة قريحته، استوطن القيروان حينا. وقد ألف كتبا كثيرة كلها في الطب. وقد تتلمذ له في القيروان إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، وأصله من مصر. ثم سكن القيروان، ولازم إسحاق بن عمران، وكان إسحاق بن سليمان مع فضله في صناعة الطب بصيرا بالمنطق، متصرفا في ضروب المعارف، وعمر عمرا طويلا إلى أن نيف على مائة سنة، وقد ألف في الطب والحكمة والمنطق ، وقد خدم الأغالبة والفاطميين ومات نحو سنة 320ه.
وأنجب هؤلاء الوافدون من الأطباء أطباء من أهل البلاد نفسها، مثل أحمد بن إبراهيم، المعروف بابن الجزار من أهل القيروان، وقد اشتهر بالطب وخدمة العامة به. قالوا: وكان عنده نحو خمسة وعشرين قنطارا من كتب طبية وغيرها، وكان إلى اشتغاله بالطب وتأليفه فيه مؤلفا في التاريخ، فألف في علماء زمانه، وفي أخبار الدولة الفاطمية ... إلخ. •••
ثم كان حظهم من الأدب كبيرا، وقد مر المغرب بالدور الذي مرت به مصر عند اختلاط العرب بسكان البلاد، من وقوف الشعر إلا القليل الضعيف حتى إذا زالت روعة الفتح وكثر دخول العرب واتصالهم بالبربر، وانتشرت اللغة العربية، ووجد جيل نشأ في المربى العربي أخذ الشعر يجود، وربما كان خير موطن له دولة الأغالبة، ودولة الفاطميين، ودولة الصنهاجيين «بني زيري»؛ ففي دولة الأغالبة كان كثير من أمرائهم أدباء؛ فإبراهيم بن الأغلب نفسه كان شاعرا، فمن شعره يفخر بانتصاره:
ما سار عزمي إلى قوم وإن كثروا
إلا رمى شعبهم بالحزم فانصدعا
ولا أقول إذا ما الأمر نازلني:
يا ليته كان مصروفا وقد وقعا
حتى أجليه قهرا بمعتزم
18
كما يجلي الدجى بدر إذا طلعا
قوما قتلت وقوما قد نفيتهم
ساموا الخلاف بأرض الغرب والبدعا
كلا جزيتهم صدعا بصدعهم
وكل ذي عمل يجزى بما صنعا
وكذلك حفيده أبو العباس بن أبي عقال بن إبراهيم، وهو الذي ولى سحنونا الفقيه قيادة الجيش الذي فتح صقلية، ومن شعره يقول في الفخر أيضا:
أنا الملك الذي أسمو بنفسي
فأبلغ بالسمو بها السحابا •••
أظل عشريتي بجناح عزي
وأمنحها الكرامة والثوابا
وأصطنع الرجال وأصطفيهم
وأغفر للمسيء إذا أنابا •••
أنا ابن الحرب ربتني وليدا
إلى أن صرت ممتلئا شبابا
لعمر أبيك ما إن عبت قومي
وما أخشى بقومي أن أعابا
بنيت لهم مكارم باقيات
إذا ما صارت الدنيا خرابا
وقد اشتهر من شعراء هذه الدولة بكر بن حماد الزناتي، وقد رحل إلى المشرق فدخل البصرة والكوفة وبغداد، ولقي بعض كبار شعرائها كدعبل الخزاعي وأبي تمام، وعاد إلى القيروان، وغلب على شعره الوعظ والزهد كقوله:
قف بالقبور فناد الهامدين بها
من أعظم بليت فيها وأجساد •••
أين البقاء وهذا الموت يطلبنا
هيهات هيهات يا بكر بن حماد!
بينا ترى المرء في لهو وفي لعب
حتى تراه على نعش وأعواد •••
فكلنا واقف منها على سفر
وكلنا ظاعن يحدو به الحادي
في كل يوم ترى نعشا نشيعه
فرائح فارق الأحباب أو غاد
19
أما الدولة العبيدية فكان فيها الشعر أرقى وأضخم للأسباب التي ذكرناها عند الكلام في الأدب الفاطمي في مصر، وحسبها أن أنجبت في الشعر ابن هانئ الأندلسي، وقد نسب إلى الأندلس لإقامته هناك بعض الوقت وإلا فهو إفريقي من قرية من قرى المهدية، وكان في شعره للمعز، كما كان أبو الطيب لسيف الدولة يصف حروبه وأسطوله، ويدون وقائعه، وينشر دعوته، ويمجد خلاله، وقد تقدم ذكر طرف عنه، وكان كذلك حوله شعراء ابتلعهم كما ابتلع المتنبي من حوله، فكان في بلاط المعز بالمهدية من الشعراء أبو الحسن علي بن محمد بن الأيادي التونسي، وقد كان شاعرا كبيرا اتصل بالفاطميين أيام القائم والمنصور والمعز. وكذلك علي بن عبد الله التونسي، ومقداد بن الحسن الكتامي، وابن هانئ نفسه يفخر على هؤلاء الشعراء وأمثالهم، ويستصغر منزلتهم منه فيقول:
أرى شعراء الملك تنحت جانبي
وتنبو عن الليث المخاض الأوارك
20
تخب إلى ميدان سبقي بطاؤها
وتلك الظنون الكاذبات الأوافك
رأتني حماما فاقشعرت جلودها
وإني زعيم أن تلين العرائك
تسيء قوافيها وجودك محسن
وتنشد إرنانا ومجدك ضاحك
21
وتجدى وأكدي والمناديح جمة
فمالي غني البال وهي الصعالك
22
أبت لي سبيل القوم في الشعر همة
طموح ونفس للدنية فارك
23
وفي الدولة الصنهاجية كان العمران قد استحكم، والصلة بين المغرب وبين الأندلس ومصر والعالم الإسلامي كله قد تمكنت، والحضارة قد ازدهرت.
قال ابن خلدون: «كان ملكهم أضخم ملك عرف للبربر بإفريقية وأترفه وأبذخه.» فرقيت العلوم والفنون، ومنها الأدب.
ومن أشهر ملوكهم المعز بن باديس قالوا: «إنه اجتمع بحضرته من أفاضل الشعراء ما لم يجتمع إلا بباب الصاحب بن عباد .» وذكر أكثرهم ابن رشيق في كتابه «أنموذج الزمان في شعراء قيروان».
وكان من الأمراء الصنهاجيين شعراء مجيدون من أشهرهم تميم بن المعز بن باديس - وهو غير تميم بن المعز المصري - ملك إفريقية وما والاها، وكان محبا للعلماء والشعراء مقربا لهم، ومن شعره:
إن نظرت مقلتي لمقلتها
تعلم مما أريد نجواه
كأنها في الفؤاد ناظرة
تكشف أسراره وفحواه
وكان من شعرائه الحسن بن رشيق وغيره.
وقد نبغ في هذه الدولة كثير من الشعراء والأدباء مثل عبد الكريم النهشلي، وكان شاعرا أديبا ناقدا، عارفا باللغة خبيرا بأيام العرب وأشعارها. مات سنة 405ه، وقد أكثر ابن رشيق من النقل عنه في العمدة، وذكر أن له كتابا في الشعر.
ومثل علي بن أبي الرجال رئيس ديوان الإنشاء في الدولة الصنهاجية، واشتهر بالكرم وتشجيع الأدب، وهو الذي ربى المعز بن باديس وحبب إليه الأدب، وهو الذي ألف له ابن رشيق كتاب «العمدة»، وألف له ابن شرف «رسائل الانتقاد». مات سنة 425ه.
ومثل أبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز القيرواني كان إماما في اللغة، ألف كتاب «الجامع» في اللغة، وهو يقارب «التهذيب» للأزهري، وهو شيخ ابن رشيق، وهو ينقل في كتابه العمدة أقواله وما جرى له في مجلسه من أدب، وكان يطرح على تلاميذه عويصات المسائل ويكلفهم حلها. مات سنة 412ه.
24
وأبو عبد الله عبد العزيز بن أبي سهل الخشني الضرير، وهو كذلك من شيوخ ابن رشيق في الأدب. قال عنه: «كان مشهورا بالنحو واللغة جدا، مفتقرا إليه فيهما، بصيرا بغيرهما من العلوم. وكان شاعرا مطبوعا سلك طريقة أبي العتاهية في سهولة الطبع ولطف التركيب، ولا غناء لأحد من الشعراء الحذاق عن العرض عليه والجلوس بين يديه. مات سنة 406ه، وقد زاد على السبعين.»
25
ومن كبار المؤلفين في الأدب إبراهيم بن علي الحصري القيرواني، وهو صاحب كتاب «زهر الآداب» وكتاب «المصون في سر الهوى المكنون»؛ قال فيه ابن رشيق: «كان شبان القيروان يجتمعون عنده ويأخذون عنه، ورؤس عندهم، وشرف لديهم، وسارت تأليفاته، وانثالت عليه الصلات من الجهات وله ديوان شعر.»
26
مات سنة 413ه.
وكتابه «زهر الآداب» يدل على ذوق في الأدب رقيق، واطلاع واسع على ما أنتجه الأدباء من الجمل الروائع، والرسائل البليغة.
وله ابن خالة هو أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني، كان عالما بالقراءات، وشاعرا ظريفا، وهو صاحب القصيدة المشهورة:
يا ليل الصب متى غده
أقيام الساعة موعده
رقد السمار فأرقه
أسف للبين يردده
وقد حازت شهرة كبيرة، وعارضها كثير من الشعراء في مختلف الأمصار إلى عصرنا هذا.
وظهرت في المغرب حركة جيدة في النقد الأدبي، وردت أول الأمر نتفا في كتب الأدب عندهم كقول عبد الكريم النهشلي: «قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله، بعد ألا تخرج من حسن الاستواء وجد الاعتدال وجودة الصنعة، وربما استعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيرا في غيره، كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس في أشعارهم ونوادر حكاياتهم ... إلخ.»
ومثل قول إبراهيم الحصري: «الشعر مطبوع ومصنوع: فالمطبوع الجيد الطبع مقبول في السمع، قريب المثال، بعيد المنال، أنيق الديباجة، رقيق الزجاجة ... يطرد ماء البديع على جنباته، ويجول رونق الحسن في صفحاته ... وحمل الصانع شعره على الإكراه في التعمل بتنقيح المباني دون إصلاح المعاني، يعفي آثار الصنعة، ويطفي أنوار الصبغة، ويخرجه إلى فساد التعسف، وقبح التكلف ... وأحسن ما أجري إليه، وأعول عليه هو التوسط بين الحالين، والمنزلة بين المنزلتين من الطبع والصنعة.»
ثم ارتقى هذا حتى صار موضوعا قائما بنفسه، وتوجت هذه الحركة بكتاب «العمدة» لابن رشيق، و«أعلام الكلام» لابن شرف،
27
وهما من خير الكتب في النقد الأدبي.
وقد نقل ابن رشيق في كتابه «العمدة» فن النقد من نقد شاعر خاص أو شعراء معينين - كما فعل صاحب الموازنة والوساطة - إلى نقد للشعر عامة، وقد قال فيه ابن خلدون: «وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله.»
وبعد العمدة ألف ابن رشيق كتابه «قراضة الذهب»، وأكثر ما يتعرض فيه للسرقات الشعرية، ومتى تجوز، ومتى لا تجوز، وأين تحسن وأين لا تحسن،
28
كما وضع ابن شرف كتابه «أعلام الكلام»، وموضوعه مقامة طويلة كمقامات الحرير، تعرض بطلها لمشهوري الشعراء من المتقدمين والمحدثين يصفه في قول قصير، ويبين مزاياه وعيوبه في إيجاز.
29
وقد كان كلاهما من القيروان، وكانا من ندماء المعز بن باديس وشعرائه وجلسائه، ولما أغار الهلالية القادمون من مصر على القيروان فرا وقالا القصائد في رثاء القيروان، وذهب ابن رشيق إلى صقلية حيث مات بها سنة 453ه، وذهب ابن شرف على الأندلس ومات بها سنة 460ه.
وقد كانا صديقين ثم دبت بينهما الخصومة فتساجلا في الأدب كتلك المساجلة التي كانت بين الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني.
وعجيب أمر المسلمين في هذه العصور، فما استقر فرارهم في المغرب حتى أنشئوا أسطولا قويا في البحر الأبيض فتحوا به صقلية وسائر الجزائر حولها، وكان فتح صقلية على يد الأغالبة، وقد كان بها ثلاثمائة ونيف وعشرون قلعة، ولكنها لم تثبت أمام قوة المسلمين.
قال ابن خلدون: «كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا ... ثم قال: وكان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على بحر الروم «البحر الأبيض» من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم؛ فكانت لهم المقامات المعلومات من الفتح والغنائم، وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل مثل: ميورقة ومنورقة وسردانية وصقلية ومالطة وأقريطش وقبرص ... والمسلمون خلال ذلك قد تغلبوا على الأكثر من لجة هذا البحر، وسارت أساطيلهم فيه جائية وذاهبة، والعساكر الإسلامية تجيز البحر في أساطيلهم من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها ... وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة والصقالبة لا يعدونها - وأساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد بفريسته.»
ولما فتحوا صقلية فسرعان ما نشروا دينهم وعلمهم ولغتهم، بل إن قائد الجيش في الفتح كان هو أسد بن الفرات العالم المالكي المشهور ومعه جماعة من وجوه أهل العلم في تسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل، وما زال يفتح في قلاعها حتى أصيب بجروح بالغة مات متأثرا بها، فأتم خلفاؤه الفتح. ثم «صار أكثر أهلها مسلمين، وبنوا بها الجوامع والمساجد»،
30
وانتشر بها العلم، وأصبحنا نسمع عن كثير من العلماء ينسبون إليها؛ فيقولون: فلان الصقلي. يرحل إليها علماء المسلمون يعلمون الدين واللغة، والأدباء يشعرون، والخليعون يقولون في الخمر ورهبان الأديار وبناتها. فتجد المقريزي - مثلا - يقول: محمد بن الحسن بن علي الكركنتي الفقيه المالكي تفقه بصقلية وإفريقية، وقدم الإسكندرية - وكركنت مدينة بصقلية.
والعماد الأصفهاني يعقد بابا طويلا في القسم الثاني من الجزء الحادي عشر في ذكر محاسن فضلاء جزيرة صقلية، ويروي فيه شعرا صقليا بعضه على أوزان جديدة، كقول أبي الحسن بن أبي البشر في راقصة:
وغزال مشنف
قد رثى لي بعد بعدي
لما رأى ما لقيت
مثل روض مفوف
لا أبالي وهو عندي
في حبه إذا ضنيت
وجهه البدر طالعا
تاه لما حاز ودي
فإنني قد سقيت ... إلخ.
ولا ننسى القائد الكبير جوهر الصقلي فاتح مصر، وباني الأزهر، ومدوخ المغرب كله لمولاه المعز، وهو غلام رومي الأصل من مواليد صقلية، صار مولى للمنصور ثم للمعز، وكان من أكفأ القواد الذين عرفهم التاريخ. بل نجد من النحاة محمد بن خراسان الصقلي، كان مولى لبني الأغلب، ورحل إلى مصر، وتعلم النحو على أبي جعفر النحاس، وروى عنه مصنفاته، وعاد إلى صقلية يدرس النحو، ومات بها سنة 386ه عن ست وسبعين سنة.
31
ومحمد بن علي بن الحسن بن عبد البر الصقلي التميمي اللغوي، ولد بصقلية، ورحل عنها في طلب العلم ثم عاد إليها، وكان موجودا سنة 450ه، وهو أستاذ ابن القطاع الصقلي .
وفي العصر المتأخر عن عصرنا هذا أخرجت صقلية ابن حمديس الصقلي الشاعر المشهور، والإمام المازري المحدث الكبير صاحب كتاب «المعلم بفوائد كتاب مسلم»، وهو منسوب إلى مازر
Mazzard
بلدة بصقلية، والإدريسي الجغرافي الشهير، وابن ظفر الأديب مؤلف كتاب «سلوان المطاع»، وابن القطاع أحد أئمة الأدب واللغة والنحو والعروض، ومؤلف «الدرة الخطيرة»، و«المختار من شعراء الجزيرة» ... إلخ.
هوامش
الفصل السادس
جزيرة العرب
أسلفنا في «فجر الإسلام» ما كان في الحجاز من علم وفن وأسباب ذلك.
والحجاز قطر قلما يعتمد على نفسه في العيش لقلة زرعه ونتاجه. فلما كان موطن الخلافة أيام الخلفاء الراشدين كانت تأتيه الأرزاق من البلاد المفتوحة كمصر والعراق، ولما انتقلت الخلافة إلى دمشق في العهد الأموي ظلت الخيرات تنهال على الحجاز لكثرة الفتوح وكثرة الغنائم، وكانت عصبية الأمويين عصبية عربية تقر بالسيادة للعرب، فكانت ترعى جزيرة العرب وسكانها، وكان الفاتحون من العرب، وكثير من غنمائهم يتسرب إلى بلادهم، ولهم ديوان تقيد فيه أسماؤهم وعطاياهم؛ لذلك سعدت الجزيرة وأنتجت علما وفنا.
فلما جاءت الدولة العباسية تغير الوضع فأصبح زمام الأمور أكثره في يد الفرس، والعمال أكثرهم من الفرس.
وزاد الأمر سوءا في الحجاز خروج العلويين به والتفاف الناس حولهم، وإرسال الخلفاء العباسيين من ينكل بهم؛ ففي عهد المنصور خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ومعه أشراف بني هاشم وأعيان «المدينة» فعزل عاملها من قبل المنصور، وولى عليها عاملا من قبله، فبعث إليه المنصور جيشا كبيرا كبيرا قاتله وقتله، وقتل كثيرا ممن معه.
وفي أيام الهادي خرج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، واجتمع حوله آل أبي طالب وكثير غيرهم، وأرسل الهادي جيشا فكانت وقعة «فخ» بين مكة والمدينة، ثم قتل الحسين وكثير ممن معه.
وهكذا تتابعت حوادث خروج العلويين، وثورات الحجاز، وفي كل مرة ينكل العباسيون بهم وتزيد كراهيتهم وقبض يدهم عنهم.
فأخذت جزيرة العرب يقل شأنها شيئا فشيئا بغلبة العنصر الفارسي، وإبعاد العنصر العربي وقلة المدد الذي يرسل إلى الجزيرة.
ولما جاء المعتصم وتغلب العنصر التركي كان الأمر أسوأ، فقد كتب إلى عماله في الأطراف بإسقاط من في دواوينهم من العرب وقطع العطاء عنهم، ففعلوا، وانحط شأن العرب من ذلك الحين.
واستمر هذا العبث بالجزيرة؛ ففي خلافة المستعين أحمد بن المعتصم تغلب إسماعيل بن يوسف من أولاد علي بن أبي طالب على مكة، فهرب عاملها من قبل الخليفة، وقتل إسماعيل هذا الجند وجماعة من أهل مكة ونهب منزل العامل، ومنازل أصحاب السلطان، وأخذ من الناس نحو مائتي ألف دينار وأخذ كسوة الكعبة وما في الكعبة وخزائنها من الأموال، ونهبت مكة وأحرق بعضها، ثم خرج منها إلى المدينة فتوارى عنه عاملها، ثم رجع إلى مكة فحصرها حتى مات أهلها جوعا وعطشا، وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم، ولقي أهل مكة منه كل بلاء، ثم سار إلى جدة فحبس عن الناس الطعام، وأخذ الأموال التي للتجار وأصحاب المراكب، ثم وافى الموقف بعرفة فأفسد فيه كثيرا، وكان ذلك سنة 251ه.
1
وجاء القرامطة فأفسدوا في البلاد، وزحفوا على مكة واستولوا عليها وارتكبوا أشنع الفظائع، ونهبوا الحجاج ومنعوهم من زيارة البيت الحرام. وفي سنة 312ه نكلوا بالحجاج أعظم تنكيل، ونكبوا العرب أعظم نكبة شهدتها الجزيرة، وكان عدد الذين قتلهم القرامطة في تلك السنة من الحجاج، وفي بيت الله وشوارع مكة وضواحيها، ثلاثة آلاف، غير الذين ماتوا جوعا، ونهبوا من الأموال آلاف الآلاف.
وفي سنة 314ه وسنة 315ه وسنة 316ه لم يحج إلى مكة من العراق أحد للخوف من القرامطة،
2
وكان أبو طاهر القرمطي يقول:
أنا بالله وبالله أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ونزعوا الحجر الأسود، وبقي في إحدى زوايا «الإحساء» إلى سنة 339ه، حيث رده القرامطة بأمر المنصور الفاطمي - والخلافة في بغداد عاجزة عن إخضاعهم.
كل هذه الأحداث وأمثالها أضعفت شأن جزيرة العرب، وجعلتها في شبه عزلة وأخرتها ماديا وعلميا، حتى إن المقدسي لما زارها في القرن الرابع وصفها بالفقر وقلة العلم، ووصف مذاهبهم الدينية فقال: «إن مذاهبهم بمكة وتهامة وصنعاء سنة، ونواحي صنعاء ونواحيها مع سواد عمان شراة «خوارج» غالبة، وهجر وصعدة شيعة ... وشيعة عمان وصعدة وأهل السروات وسواحل الحرمين معتزلة ... والغالب على صنعاء وصعدة أصحاب أبي حنيفة، والجوامع في أيديهم، وفي نواحي نجد اليمن مذهب سفيان ... والعمل بهجر على مذهب القرامطة، وبعمان داودية «على مذهب أهل الظاهر» لهم مجالس.
ووصف لغتهم فقال: وأهل هذا الإقليم لغتهم العربية إلا بصحار، فإن نداءهم وكلامهم بالفارسية، وأكثر أهل عدن وجدة فرس ... وأهل عدن يقولون لرجليه: رجلينه، ويديه: يدينه، وقس عليه ... وجمع لغات العرب موجودة في بوادي هذه الجزيرة، إلا أن أصح لغة بها لغة هذيل، ثم النجديين، ثم بقية الحجاز إلا الأحقاف فإن لسانهم وحش.»
3
ومع هذا فقد كان في الحجاز حركة دينية في الفقه والحديث لا بأس بها بفضل تتابع المحدثين الذين كانوا يروون أقوال النبي وأعماله محدثا عن محدث، وقد كان هذا الإقليم أخصب الأقاليم في هذا الموضوع فظل علمه يتوارث، ثم كانت هذه البلاد المقدسة تهوي إليها أفئدة كثير من العلماء يحصلون العلم ويفيدونه ويعتزون بجوار الحرم المكي أو قبر الرسول، ويفضلون الإقامة فيهما فيكونون مصدر علم. وقد رأينا في تراجم كثير من المحدثين أن كان في برنامجهم الرحلة إلى الحجاز ورواية الحديث عن ساكنيه، وإطالتهم الإقامة فيه، وكان للإمام مالك وتلاميذه من بعده فضل كبير في الحركة الفقهية.
فكان في مكة أمثال أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي المكي أحد شيوخ البخاري الذين أخذ عنهم في مكة. قال يعقوب بن سفيان فيه: ما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه. مات بمكة سنة 219ه، وكثر تلاميذه في مكة ممن رووا عنه وأخذوا علمه.
كما نبغ بالمدينة أبو إسحاق إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الأسدي، أحد كبار علماء المدينة ومجتهديها، مات سنة 236ه. وتتابع بعده تلاميذه. ويطول بنا القول لو عددنا المحدثين المكيين والمدنيين في القرن الثالث والرابع الهجري فهم كثير، منهم من كان من الحجاز نفسه ومنهم الراحل إليه المتوطن فيه.
ثم انتشر في اليمن فقه الزيدية، وهم أتباع زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومذهبهم في الأصول قريب من مذهب الاعتزال، فهم يقولون بالعدل والتوحيد كالمعتزلة، وبوجوب الخروج على الظلمة كالخوارج، ولهم في الفقه اجتهاد يخالفون في بعض الأحكام المذاهب الأربعة، وقد اشتهر منهم أئمة في اليمن، اجتهدوا على أصول مذهبهم كالإمام يحيى بن الحسين الزاهد الرسي المتوفى سنة 298ه، والإمام الناصر للحق، ألف كتبا على مذهب الزيدية والقاسم بن إبراهيم العلوي صاحب صعدة المتوفى سنة 280ه، وأبو الحسن الصليحي ملك اليمن سنة 455ه، وكان فقيها زيديا كبيرا، وقتل سنة 473ه. وعلى الجملة فهم من قديم كان كثيرا ما يجمع ملكهم بين تولي أمور الدولة والاجتهاد الديني على المذهب الزيدي.
وقد بقيت الأندلس، وسنفرد لها جزءا خاصا بها إن شاء الله.
وقد كان من أهم مظاهر الحركة العلمية التي تدعو إلى الإعجاب في هذا العصر الرحلات، فقد أصبح تقليدا للعالم أن يرحل ويلاقي العلماء، ويأخذ منهم ويروي عنهم مع عناء الأسفار وفقر العلماء غالبا.
وقد بلغ الغاية في ذلك المحدثون، فقد كانوا حركة دائمة يرحلون من أقصى الأرض إلى أقصاها لطلب الحديث وجمعه. وما يشتهر عالم في بلدة بالحديث وضبطه وجمعه حتى يرحل إليه العلماء من كل صوب. خذ لذلك - مثلا - محمد بن إسماعيل البخاري يرحل من بخارى إلى مدن خراسان، إلى الجبال إلى العراق ومدنه كلها، إلى الحجاز إلى الشام إلى مصر، وفي كل مدينة يتحرى حالة علمائها، ويأخذ عمن وثق بهم، وليس البخاري إلا مثلا واحدا من أمثلة كثيرة لا تحصى، فقل أن تجد محدثا كبيرا إلا رحل هذه الرحلات وأمثالها حتى قد يقطع المحدث المسافات الواسعة لرواية حديث واحد وضبطه. وتقرأ تراجم العلماء في كتاب ك «تاريخ بغداد»، فيأخذك العجب من نشاط العلماء ورحلاتهم واحتقارهم لمشاق السفر ومتاعب الفقر في سبيل العلم، ومعرفتهم كل مصر وكل بلدة ومن فيها من العلماء وما فيها من حديث.
وليس الأمر مقصورا على المحدثين؛ فهكذا كان الشأن في كل علم وكل فن؛ فأبو جعفر النحاس يذهب من مصر إلى العراق ليأخذ النحو عن أهلها، وابن بابشاذ المصري يذهب على بغداد في تجارة الجواهر، ويأخذ النحو عن رجالها، ومن بالقيروان يذهب إلى المدينة ليأخذ عن تلاميذ مالك، وإلى العراق ليأخذ عن تلاميذ محمد بن الحسن، ويسمع الأدباء والشعراء بسيف الدولة فيكون في بلاطه الخوارزمي وأبو علي الفارسي وابن جني الموصلي، والمتنبي يوما بحلب ويوما بمصر ويوما بالعراق ويوما بشيراز، وابن بطلان الطبيب البغدادي يناظر ابن رضوان المصري، فإذا طالت المناظرة رحل إليه من بغداد إلى مصر.
وإذا فتحت بلدة فسرعان ما يذهب إليها العلماء في الفقه والأدب يعلمون أهلها الدين واللغة والأدب، حتى تصبح بعد قليل مركزا من مراكز الإنتاج العلمي، كالذي رأينا في صقلية، تفتح فيرجل إليها العلماء وتدوي فيها حركة العلم، وبعد قليل نراها مركز إنتاج علمي وأدبي عجيب.
والحكومات من جانبها تنشئ الطرق، وتقيم الرباطات والمخافر لحاجتها الشديدة إلى تنظيم البريد، وتسهيل التجارة؛ فكان العلماء في رحلاتهم ينتفعون بهذه المزايا، كما ينتهزون الفرص لخروج القوافل إلى الحج، فينتظمون في سلك الحجاج، ويرحلون إلى البلدان التي يريدونها.
وكانت الرباطات كثيرة في مراحل المسافرين، ويذكر الإصطخري أنه كان في بلاد ما وراء النهر ما يزيد على عشرة آلاف رباط، في كثير منها إذا نزل النازل قدم له طعامه، وعلف دابته إن احتاج لذلك.
وقد زودت هذه الرباطات بالماء لحاجة المسافر إليه، وعدة إقامة الرباطات وتزويدها من الأعمال الخيرية التي يقف عليها المسلمون بعض أوقافهم.
وفي بعض المراحل تقوم الأديار مقام الرباطات، فينزلها بعض الراحلين، ويجدون فيها راحتهم ومطالبهم، وأكثر ما استغلها الأدباء لمرحهم وشغفهم بخمورها المعتقة، وولوعهم بالجمال.
كل هذا جعل المملكة الإسلامية من مشرقها إلى مغربها كأنها وحدة مهما تعدد ملوكها وحكوماتها، فالعالم والأديب والفنان والتاجر لا يعبئون بالحدود التي ترسمها السياسة، ويرون أن اللغة والدين تكسر حواجز السياسة.
وكان لهذا أثره الكبير في العلم والأدب، ومن أوضح هذه الآثار ضعف الشخصية الإقليمية، فليس علم مصر وأدبها متميزا كثيرا عن علم العراق وأدبه، ولا عن علم خراسان وما وراء النهر والسند وأدبها، كلها متقاربة؛ لأن رحلة العلماء وشدة الاتصال قربت بين الفروق، وما يظهر امتياز في ناحية إلا استمدته الناحية الأخرى وحذقته واستغلته؛ فالفقه المالكي في المدينة، والفقه الحنفي في العراق يؤلف بينهما أمثال محمد بن إدريس الشافعي، وأسد بن الفرات المالكي، والنحو العراقي يحمله إلى مصر وإلى المغرب الراحلون إلى العراق والمتعلمون على أساتذته، والعائدون بعد ذلك منه، والشعراء على أبواب الملوك والأمراء يتنقلون من بلاط إلى بلاط، فيوحدون مناهج النظم، والوراقون وتجار الكتب يحملون كتاب «الأغاني» و«رسائل إخوان الصفا» من العراق إلى الأندلس، ومكاتب مصر ومكاتب الأندلس، والقيروان، والمهدية، وفاس، وخراسان، وغزنة تضم في خزائنها أهم ما أنتجه العالم الإسلامي بقطع النظر عن إقليمه.
بل والعلماء أنفسهم نرى شطرا من عمرهم قضوه في بلد وشطرا في بلد آخر: شطر في مصر وشطر في الشام، أو شطر في الشام وشطر في العراق، أو شطر في العراق وشطر في فارس، وهكذا حتى ليصعب في كثير من الأحيان عد العالم مصريا أو شاميا، وعراقيا أم فارسيا.
ومؤلفو التراجم أدركوا هذا المعنى فجمع أكثرهم علماء العالم الإسلامي على اعتبار أنهم نتاج مملكة واحدة كقطر واحد.
نعم توجد شخصية لنتاج كل إقليم كالأدب المصري والشامي والعراقي والفارسي، والطب المصري والشامي والعراقي والفارسي وهكذا، ولكنها شخصية غامضة خفية لا ترى إلا بالمنظار الدقيق والبحث الطويل. وأكثر ما يظهر هذا في منبع الظاهرة العلمية والأدبية حين تظهر، فظهورها في إقليم خاضع ولا بد لمؤثرات اجتماعية في هذا الإقليم، كظهور المقامات في إقليم فارس والموشحات بالأندلس، والأسلوب المسجوع المحلى بالبديع في الري وما حولها، والرسائل الشاملة لفروع الفلسفة - كرسائل إخوان الصفا - في البصرة؛ كل ذلك له علل اجتماعية وتاريخية وإقليمية مرتبطة بهذه الظواهر ارتباط السبب بالمسبب، ولكن لا تلبث بعد ظهورها أن تقلد في سائر الأمصار، ولو لم تكن العلة الأصلية موجودة، وتقوم علة التقليد مقام علة الابتكار، وتختفي الشخصية الأولى وراء المظهر العام للوحدة المشتركة.
وبعد؛ فهذا عرض سريع للحركة العلمية والأدبية، يتلوه - إن شاء الله - البحث التفصيلي في تاريخ كل علم ومدى تقدمه، ومركز هذا التقدم، وهذا هو موضوع الجزء الثاني من «ظهر الإسلام» أعاننا الله على إتمامه.
هوامش
الجزء الثاني
مقدمة
بقلم أحمد أمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
هذا هو الجزء الثاني من ظهر الإسلام، وهو على نمط «ضحى الإسلام»، يبحث في تاريخ العلوم والآداب والفنون في القرن الرابع الهجري. وإذا كان في الأجل متسع: ألفت الجزء الثالث في الأندلس، ثم الجزء الرابع في العقائد. ففي هذا العصر نضجت الحياة العلمية في الأندلس، وحق لها أن تسجل. ولعل القارئ يأخذ علينا أننا لم نستخدم النصوص كما استخدمناها في «فجر الإسلام وضحاه»، فقد اعتدنا أن ننقل النص بحروفه، ثم نستنتج منه ما أمكننا الاستنتاج. أما في هذا الجزء، فقد هضمنا ما قرأنا، ثم حكينا ما خلص لنا من غير ذكر نص؛ إلا في القليل النادر، واكتفينا بذكر المراجع عقب كل باب.
وعذرنا في ذلك ضعف الصحة، وعدم قدرتنا على إثبات النصوص كما قرأناها أو سمعناها، على أن هذه الطريقة إنما اتبعت لكي يصدق القارئ المؤلف في تأليفه، فإذا كان قراؤنا لم يصدقونا مما سبق، فعلينا العفاء، وإذا صدقونا اكتفوا منا بمسلكنا في هذا الجزء، وربما كررت بعض أشياء في هذا الجزء والذي قبله، فعذرنا في ذلك أن الإنسان موضع النسيان.
ولا يدري إلا الله ماذا لقينا من عناء في بعض الأبواب، كالكلام على إخوان الصفاء، فبعضهم يرى أنهم شيعة، وبعضهم يرى أنهم ليسوا بشيعة، فاضطررنا إلى مراجعة أربعة أجزاء كبار؛ لنقف على موضوعات الكتاب أولا، ومعرفة منحى المؤلفين: هل هم شيعة أو غير شيعة ثانيا، حتى استخلصنا الرأي في ذلك، وكالخلاف بين الصوفية والفقهاء، فقد كانت مسألة دقيقة تحتاج إلى دراسة عميقة، إلى غير ذلك.
هذا مع نهي الأطباء لنا عن النظر في الكتب، ولكنا اعتدنا أن نعتمد في الحياة على القراءة والتأليف، وما قيمة الحياة من غير ذلك؟
ولسنا نطلب جزاء على ما بذلنا من جهد إلا من الله، والله يوفقنا في هذا الجزء وما بعده، كالذي وفقنا فيما قبله.
القاهرة في 3 / 11 / 1952م
البيئة الاجتماعية في القرن الرابع الهجري
في نحو سنة 324ه (935م) أصيب العالم الإسلامي بانقسام كبير، حتى كأنه عقد انفرط، أو صخرة تفتتت.
نعم، كان قد انفصل قبل ذلك عن العالم الإسلامي خراسان والمغرب، ولكن لم يتمزق هذا التمزق إلا في نحو هذا العام، فكأن المماليك قد لاحظت هذه الفرقة فقلدتها، وربما دعاهم إلى ذلك أيضا أنهم رأوا بغداد قد صارت في يد الأتراك الظالمين، يظلمون ويعسفون، فكيف يخضعون لهم، ويسلمون أنفسهم لظلمهم، فاستقلوا؛ فصارت فارس والري، وأصبهان والجبل في أيدي بني بويه، وكرمان في يد محمد بن إلياس، والموصل وديار بني ربيعة، وديار بكر وديار مضر في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد محمد بن محمد بن طغج الإخشيد، والمغرب وإفريقيا في يد الفاطميين، والأندلس في يد عبد الرحمن الناصر، وخراسان في يد نصر بن أحمد الساماني، والأهواز وواسط والبصرة في يد البريديين، واليمامة والبحرين في يد القرامطة، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، ولم يبق للخلافة العباسية إلا بغداد، ولكن ما أسسه أبو جعفر المنصور والمهدي من خلق وسائل تحمل الناس على تقديس الخلافة العباسية جعل كثيرا من ولاة هذه الأقطار المستقلة يطلبون مسالمة الخليفة العباسي، والطاعة الاسمية له؛ مع أنهم أقدر منه.
ولكن - والحق يقال - كانت المملكة الإسلامية كلها وطنا للمسلمين جميعا يرحب بهم حيثما رحلوا، وكان العالم ينقسم عندهم إلى قسمين: دار إسلام، ودار حرب. فالعلماء والمحدثون، والجغرافيون يرحلون في البلاد الإسلامية بسهولة كما يشاءون، كالذي نرى في رحلة ابن بطوطة، وابن جبير في القرون الوسطى، وبين الأقطار الإسلامية المختلفة من صلة وثيقة، وكلها وطن للمسلم.
ولئن عد هذا ضعفا من الناحية السياسية، فإنه لا يعد ضعفا من الناحية العلمية، فالمملكة الإسلامية في القرن الرابع الهجري كانت أعلى شأنا في العلم من القرون التي كانت قبلها، ولئن كانت الثمار السياسية قد تساقطت في القرن الرابع، فالثمار العلمية قد نضجت فيه، والسبب في ذلك أن الإمارات الإسلامية المختلفة كانت تتبارى في تجميل موطنها بالعلماء والأدباء، وتتفاخر بهم، وهذا أكسبهم التحبب إلى العلماء، والإغداق عليهم. وسبب آخر، وهو أن انفصال هذه الإمارات عن الدولة العباسية جعلها مستقلة في مالها لا ترسله إلى بغداد؛ بل تغدقه على أهلها، والعلم دائما متأثر بالمال؛ فهذا جعل كثيرا من العلماء ينعمون في ظل هذا الاستقلال أكثر مما كانوا ينعمون في ظل الوحدة؛ فقد كان الشاعر مثلا لا يظهر اسمه إلا إذا رحل إلى بغداد، فصار يلمع اسمه في بلده، أو على العموم خارج بغداد، كالمتنبي ونحوه، بل كان علماء بغداد أنفسهم يرحلون إلى مصر وغيرها كما فعل عبد الوهاب المالكي، وكما فعل أبو نواس وأبو تمام.
وفي هذا العصر نبتت فكرة جديدة ظل المسلمون يعتنقونها قرونا طويلة، وهي أنه من ملك مكة والمدينة - أو بعبارة أخرى الحرمين الشريفين - فهذا أحق الناس بالخلافة.
فنحن نستنتج من هذا أن العلم والسياسة لا يتمشيان جنبا إلى جنب، حتى إذا ارتقى هذا ارتقى ذاك، بل قد يكون الأمر على العكس، قد يكون الضعف السياسي متمشيا مع زهو العلم؛ وهذا يسلمنا إلى أن القول بتقسيم تاريخ المملكة الإسلامية إلى عصور، يجعل لكل عصر مميزات من قوة أو ضعف، لا ينطبق تمام الانطباق على الحياة العلمية؛ فقد تنتهي دولة ما سياسيا، وتبدأ دولة جديدة، على حين أن الحياة العلمية مستمرة، لم تنته ولم تذبل، فالتقسيم التاريخي إلى دولة أموية، ودولة عباسية أولى، ودولة عباسية ثانية لا ينطبق إلا على السياسة؛ وهذا الانقسام كان له أثر حسن في إمكان المسلمين صد غارات الصليبيين، ولو أتى الصليبيون والبلاد كلها في يد العباسيين الضعفاء ما استطاعوا ردهم، ولكنهم أتوا والدولة الحمدانية في قوتها، والدولة الصلاحية في ذروتها، فاستطاعوا ردهم. •••
أما بغداد، فكانت في يد الخلفاء العباسيين اسما، وفي يد جبابرة الأتراك فعلا، فكان هؤلاء الأتراك يختارون من بني العباس من أنسوا منه صغر السن، أو ضعف الشخصية، فيجعلونه خليفة حتى لا يشاركهم في سلطانهم، وأحيانا يخيب ظنهم فيشاركهم في سلطانهم، أو يتمرد عليهم، فينكلون به، وينقمون منه .
وعلى الجملة، فقد كان الخلفاء العباسيون آخر الأمر بالنسبة لأبي جعفر المنصور مثلا، وعبد الملك بن مروان، ومعاوية كأقزام بجوار عمالقة. وفي هذا العهد مثلا قد تولى الخلافة المقتدر، وكانت أمه رومية، وفيها المهارة الرومية، فوضعت يدها على الدولة، ودبرت أمور البلاد بقوة وحزم؛ تولي وتعزل، وتربي ابنها تربية طيبة، وتمنع مؤنسا التركي من التدخل، فلما ضاق ذرعا بذلك دبر مؤامرة لقتل المقتدر؛ فذبح بالسيف، ونزعت عنه ثيابه حتى سراويله، حتى مر عليه رجل من العامة، فستر عورته بالحشيش، ثم تولى أخوه من أبيه القادر، وتحروا أن يختاروه ممن ليس له أم قوية كأم المقتدر. ومع ذلك قامت ثورة أريد بها خلع القادر، فلم تنجح، فقضى القادر على مؤنس، فطلب أصحاب مؤنس منه أن يخلع نفسه فأبى، فخلع، وسملت عينه لأول مرة في تاريخ الإسلام، وشوهد بعد ذلك يسأل الصدقة على باب الجامع، ثم عين الراضي ابن أخي القادر، وكان أديبا معروفا.
ثم ارتقى عرش الخلافة بعده أخوه المتقي، فغدر به توزون التركي، وسمل عينه أيضا، ثم خلفه المستكفي - وكانت أمه رومية أيضا - فأراد البويهيون أن يخلعوه، فخلع نفسه؛ ولكنه اشترط عليهم ألا يقطعوا شيئا من أعضائه، ولكن أخاه المطيع أبى إلا أن تسمل عينه أيضا.
وانتهي الأمر أخيرا إلى أن يتخلى الخلفاء عن السلطة الفعلية، ويكتفوا بالمظهر. •••
ومن مظاهر هذا العصر الخلاف الشديد بين الفقهاء بعضهم مع بعض، وبين السنية والشيعة، حتى جروا البلاد إلى الخراب، فكل مملكة تقسمتها المذاهب المختلفة، وكان النزاع شديدا بين بعضهم وبعض، وكان الشافعية مشهورين بالشغب، والتألب على خصومهم؛ ومن مثل ذلك ما حكى بعض المؤرخين من أن الحنابلة قد بنوا مسجدا ببغداد، واستعانوا بالعميان الذين كانوا يأوون في هذا المسجد، فإذا مر بهم شافعي ضربوه بعصيهم حتى يكاد يموت.
وانتشر مذهب الشافعي في مكة والمدينة، واشتهر مذهب أبي حنيفة في العراق، وكان أكثر الفقهاء في مصر من أتباع مالك، وكذلك انتشر مذهب مالك في المغرب والأندلس. ويحكون أنه لما توفي ابن جرير الطبري - المؤرخ الكبير - دفن بداره ليلا سرا؛ لأن العامة اجتمعت، ومنعت دفنه نهارا؛ لتألب الحنابلة عليه؛ إذ ألف كتابا في اختلاف الفقهاء: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، ولم يذكر فيه خلاف الحنابلة، فلما سئل عن أحمد ابن حنبل قال: إنه محدث لا فقيه.
ويحكي لنا ياقوت في «معجم البلدان» أن بلادا كثيرة خربت بسبب الخلاف في المذاهب، وتعصب كل لمذهبه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان الخلاف شديدا بين الشيعة والسنية، فالخلفاء العباسيون، ومن تبعهم سنيون يتعصبون للسنية، والفاطميون في مصر والشام والمغرب، والحمدانيون في ديار ربيعة وبكر ومضر، وبنو بويه في العراق، وغيرهم يتشيعون، وكانت الكوفة وبها قبر علي أكبر مركز للشيعة، حتى قال بعضهم: «من أراد الشهادة فليدخل دار البطيخ بالكوفة، وليقل: رحم الله عثمان». وروي أن أبا بكر الثوري المتوفى سنة 330ه روى خبرا يمس الإمام عليا، فطلب ليقتل فاستتر. واشتهرت «قم» في إيران بالغلو في التشيع، حتى ليحكون أن واليا سنيا ولي عليهم، فعجب من أنه لا يسمى فيهم أحد أبا بكر أو عمر، وكان يناهضهم أهل أصبهان؛ إذ يتعصبون للسنية، فثارت مرة فتنة بين أهل أصبهان وأهل قم؛ لأن رجلا من أهل قم سب الصحابة إلخ.
وعلى العموم، فقد كان الخلاف بينه السنية والشيعة خلافا شديدا، والسبب فيها اختلافهم في النظر إلى الخلافة، وهي مسألة سياسية صبغت باللون الديني، فالشيعة يرون أن عليا ونسله لهم الحق في الخلافة دون غيرهم، فخلافة الأمويين والعباسيين خلافة باطلة. والخليفة رئيس المسلمين، وله وظيفة أخرى؛ وهي أنه معلم المسلمين؛ لأنه معصوم، ويتلقى العلم بطريق الوراثة، وما أودع فيه من الروحانية. وقد خصهم الله بمزايا غير مزايا الإنسان، وأن الخلافة لهم وراثة، تنقلت من آدم إلى أن وصلت إليهم، وأن النور انقسم إلى قسمين: قسم نزل على عبد الله والد النبي، وقسم نزل على عبد المطلب، ثم انتقل إلى أبي طالب، ثم إلى علي، ومن علي إلى ذريته. وهذا النور الموروث يجعل إمام كل عصره معصوما، فتجعل له قوة روحانية لا نظير لها في البشر، ومن أجل ذلك أنكروا الخلافة لغير هؤلاء.
فهذا الخلاف بين أتباع المذاهب من جهة، وبين الشيعة والسنة جعل البلاد الإسلامية نارا مشتعلة؛ فكل يوم نسمع هياجا من السنيين؛ لأن شيعيا سب الصحابة، ونسمع هياجا من الشيعة؛ لأن أحدا مس عليا أو أحد الأئمة، حتى إن بعض العلماء الكبار - من علماء بغداد - حرم على نفسه المشي بالكرخ؛ لأنه كان يسمع فيها سب الصحابة، وعاقب أحد الفاطميين رجلا أشد عقوبة؛ لأنه وجد عنده كتاب «الموطأ» للإمام مالك، وهذا مما كان سببه ضيق العقل.
وأراد الفاطميون أن يمدوا ملكهم إلى العراق وما حولها، فكان القتال الشديد، والخصومة الشديدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وليس بعجيب أن يكون الخلاف بين الشيعة والسنية، والمذاهب المختلفة في تلك العصور المظلمة، إنما العجيب أن يبقى هذا الخلاف على مدى التاريخ إلى اليوم. •••
وكان من أكبر مظاهر هذا العصر القول بسد باب الاجتهاد، ولم يكن سده بناء على مجلس اجتمع فيه الفقهاء، وقرروا فيه إقفال باب الاجتهاد، وعمل بذلك محضر وزع على الأمصار، إنما كان شعورا عاما بالضعف والنقص، ونوعا من التقديس للفقهاء السابقين، ومن ذلك الحين - أعني القرن الرابع الهجري - وقف سير التشريع الإسلامي، ومضى عصر الابتكار، وبدأ عصر التحجر، وأصبح أصحاب المذاهب الأولون كأنهم معصومون، وأصبح الفقيه لا يستطيع الحكم في مسألة إلا إذا كانت مسألة جزئية تطبيقا على قاعدة كلية، قالها إمامه من قبله، وهذا هو الذي يسمى اجتهاد مذهب، أما قبل ذلك فكان الاجتهاد مباحا، ولم يكن مقصورا على المذاهب الأربعة: فكان هناك مذهب سفيان الثوري، ومذهب الأوزاعي، ومذهب الظاهرية، وغيرها من عشرات المذاهب، بل حكي أن بعض العلماء كان لا يرضى أن يتبع مذهبا من المذاهب، بل يجتهد لنفسه، ففي أوائل القرن الرابع تجمدت المذاهب، واقتصر فيها على المذاهب الأربعة، وأبطل كما قيل نحو خمسمائة مذهب؛ ولذلك وقف التشريع تقريبا من هذا التاريخ، ورمي الإسلام بالجمود.
بل إن ذلك أعدى العلوم والفنون الأخرى؛ حتى كأن الاجتهاد الذي منع هو الاجتهاد في كل علم وفن، فلم يكن أدب غير الأدب القديم، ولا لغة غير الألفاظ القديمة، حتى كأن العالم الإسلامي كله أصيب بالعقم.
وعد من ينتقل من مذهب إلى مذهب مرتكبا لجريمة، ومن يرى رأيا غير رأي إمامه خارجا عن المألوف، حتى طلب أخيرا مرة من العلماء أن يتخيروا مذهبا من المذاهب المختلفة للقضاء بمقتضاه، فرفضوا، فكانت النتيجة اللجوء إلى القانون الفرنسي.
ثم كانت الحالة الاقتصادية على أسوأ ما يكون، فثروة الأمة ليست موزعة توزيعا عادلا، ولا شبه عادل، أموال تتدفق على الملوك والأمراء، ومن يلوذ بهم؛ وفقر مدقع لباقي أفراد الشعب.
وكل دخل الدولة هو الجزية تؤخذ على رءوس أهل الذمة ومن الزكاة، ومما يؤخذ على الأراضي الزراعية، ومما يفرض من ضرائب جديدة غير هذه. وكثرت المصادرات عند احتياج الخلفاء والأمراء للأموال؛ ولذلك شاعت عادة خزن الأموال، وإخفائها في غير مظانها، كالدفن في الأرض، ونحو ذلك، حتى حكوا أنه من حسن حظ أمير من بويه أن احتاج إلى مال كثير يصرفه على الجند، وإلا شغبوا، فصادف أن رأى ثعبانا يختبئ في السقف، فأمر بالبحث عنه، فوجدت غرفة فوق السقف، وفوقها دور آخر علوي، ووجدت هذه الغرفة مملوءة بالذهب المخزون في الخفاء؛ ففرج ذلك كربه، وأزال شدته، وكم وجد في الحيطان وتحت الأرض من أموال مخزونة في القدور!
وقد ألف أحد الظرفاء كتابا سماه «الفلاكة والمفلوكين»، أي: الفقر والفقراء، حكى فيه أمثلة لكثير من العلماء الذين أصيبوا بالفقر، من ذلك ما حكاه عن التبريذي الأديب المشهور من أنه أراد عالما يشرح له كتابا معجما، فوصف له أبو العلاء المعري - وكان بعيدا عنه - فحمل الكتاب في خرج على ظهره، ومشى طويلا، حتى بلل العرق الكتاب وأتلفه، وكان يظن بعد ذلك أنه أصابه مطر، ووجدت أشعار كثيرة في هذا العصر من جراء هذا يذكرون فيها: أن الفقر يلازم العقل، والغنى يلازم الجهل، مثل الذي يقول:
أني رأيت الدهر في حكمه
يمنح حظ العاقل الجاهلا
وما أراني نائلا ثروة
كأنه يحسبني عاقلا
ومثل قوله:
وقائلة ما بال مثلك خاملا
أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز
فقلت لها: ذنبي إلى القوم أنني
لما لم يحوزوه من المجد حائز
وما فاتني شيء سوى الحظ وحده
وأما المعالي فهي عندي غرائز
إلى كثير من أمثال ذلك.
وشاع بين الناس في ذلك العصر مصادرة المواريث، فقال ابن المعتز في أرجوزته:
وويل من مات أبوه موسرا
أليس هذا محكما مشهرا
وطال في دار البلاء سجنه
وقيل من يدري بأنك ابنه
فقال: جيراني ومن يعرفني
فنتفوا سباله حتى فني
وأسرفوا في لكمه ودفعه
وانطلقت أكفهم في صفعه
ولم يزل في أضيق الحبوس
حتى رمى لهم بالكيس
وعين أبو حسين الرقي قاضيا على حلب، فكان يصادر التركات، ويقول: التركة لسيف الدولة؛ وليس لأبي الحسين إلا أخذ الجعالة.
وشاع بين الناس: «من هلك، فلسيف الدولة ما ملك»؛ ولذلك اجتهد الحكام أن ينكروا الوراثة، ويجعلوا من مات مات عن غير وارث؛ ليستولي على تركته.
وكثيرا ما كان يدعي على التجار الكبار أن عندهم ودائع للسلطان، حتى قال ابن المعتز في هذه الأرجوزة:
وتاجر ذي جواهر ومال
كان من الله بأحسن حال
قيل له عندك للسلطان
ودائع غالية الأثمان
فقال: لا والله ما عندي له
صغيرة من ذا ولا جليلة
وإنما ربحت في التجارة
ولم أكن في المال ذا خسارة
فدخنوه بدخان التبن
وأوقدوه بثفال اللبن
1
حتى إذا مل الحياة وضجر
وقال ليت المال جمعا في سقر
أعطاهم ما طلبوا فأطلقا
يستعمل المشي ويمشي العنقا
2
ويحكون أن الإخشيد صاحب مصر كان يصادر خاصته، وعماله، وأصحابه في هدوء وبرود، وكان يأخذ غلمانهم بسلاحهم، ودوائهم، وثيابهم، فإذا سلم أحد من مصادرته حيا أخذ ماله بعد وفاته.
وقد توفي عفان بن سليمان - أكبر تاجر في مصر في زمانه - فأخذ الإخشيد من تركته مائة ألف دينار، ولما مات الصاحب بن عباد بعد أن خدم فخر الدولة البويهي أرسل الأمير من أحاط بتركته، ومن ذلك كان كثير من الأغنياء يودعون أموالهم خفية عند الفقراء؛ حتى يجدوا ما يعيشون به إذا صودروا، وبعضهم كان يدفن المال في الصحراء، وبعضهم كان يستعمل حيلة لطيفة؛ فكان يضع الرجال في صناديق على البغال، ويخرج إلى الصحراء، ثم يفتح الصناديق، ويخرج من فيها، ويأمرهم بالحفر، ويضع في الحفر الذهب، ثم يدخلهم في الصناديق، ويعود بهم لئلا يعلموا موضع الذهب فيسرقوه، وبعض الحكام كان يستعمل العسف في الجمارك، وفي مال الخراج إلى غير ذلك من وسائل ظالمة؛ حتى إن صمصام الدولة سنة 375ه أراد أن يفرض ضريبة قدرها عشر الثمن على الثياب الحريرية، فاجتمع الناس في جامع المنصور، وعزموا على قطع الصلاة، وكاد البلد يفتتن، فأعفوا من ذلك، ولم يقتصروا في الضرائب على الكماليات، بل أرادوا أن يفرضوها على الضروريات كالملح.
ومن سوء هذه الحالة الاقتصادية فشا في الناس أمران متناقضان: الأمر الأول: التصوف؛ فإن كثيرا من الناس لما عز عليهم أن ينالوا ما يطلبون قللوا مطالبهم فتصوفوا، وعلموا أنفسهم الزهد، والورع، والكبت، فكثر التصوف من هذا الباب جريا على قولهم: «إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون».
والأمر الثاني: ما شاع في هذا العصر من لصوص سموا «الشطار» كانوا يقطعون الطريق على الناس، ويفرضون ضرائب معينة على البيوت، من لم يدفعها هوجم، وأخذ ماله، وحكى لنا الطبري كثيرا من ذلك، وأن فرقة سميت «المتطوعة» ندبت نفسها للقضاء على هؤلاء الشطار.
أما من الناحية العقلية وانتشار الثقافة، فقد كان العصر متقدما حقا، تم فيه امتزاج الثقافات، هؤلاء الفرس والهنود يتثقفون الثقافة العربية، وينتجون فيها، وهؤلاء وثنيو حران، والسوريانيون يغرقون البلاد بالثقافة اليونانية، وهؤلاء الخلفاء يشجعون الطب والتنجيم أولا لحاجتهم إليهما، ثم ينفذ العلماء منهما إلى أبواب الفلسفة الأخرى؛ من طبيعيات، ورياضيات، وإلهيات، ويعكف العالم الإسلامي على دراستها في صدق وإخلاص، ويقتبس علماء كل علم من الفلسفة اليونانية ليفلسفوه من دين، ونحو، وصرف، وبلاغة، وغير ذلك، هذا عدا الفلسفة نفسها، ونشطت حركة الترجمة من اليونانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية نشاطا غريبا ، حتى إن ثبت الكتب المترجمة عن اللغات المختلفة ، وعن اليونانية خصوصا، وهو الذي قدمه لنا ابن النديم في «الفهرست»، وصاحب كتاب «التمدن الإسلامي»؛ ليأخذ عجبنا، هذا ابن المقفع وأمثاله يقدم لنا بلغة عربية فصيحة الثروة الفارسية، وهذا حنين بن إسحاق مثلا يقدم لنا الثروة اليونانية، وهذه كلها كانت بدائية في العصر الأموي، والعباسي الأول، ثم نضجت في القرن الرابع، وأخذ العلماء يقتبسون منها ما حلا لهم؛ ومما زاد الحاجة إلى الفلسفة اليونانية أن النصارى في تلك البقاع كانوا ينقسمون إلى جملة طوائف: يعاقبة، ونساطرة، وملكانية، وكان هناك جدل في هذه المذاهب حول طبيعة المسيح، وحول القضاء والقدر، وهل الإنسان مجبور أو مختار؟ وكل طائفة تسلحت بالفلسفة اليونانية لدعم مذهبها، وكان هذا سببا في انتشار الفلسفة اليونانية، ثم كان من طبيعة بعض الأفراد أن تفلسفوا أولا لغرض من الأغراض، ثم أبوا إلا أن يتفلسفوا للفلسفة ذاتها، كما قال الغزالي: «طلبنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله». ولما جاءت الدولة الشيعية نصرت الفلسفة - والحق يقال - نصرا مؤزرا، أكثر من أهل السنة؛ لأنها أعانتهم على فكرتهم في مسألة الظاهر والباطن، ولأن المتفلسف عادة أطوع للاقتناع بالحجة الفلسفية، ولأن الفلسفة تلين الجمود، وتفتح الذهن لقبول الجديد؛ ولذلك كثيرا ما نرى فلاسفة هذا العصر يحتضنهم الشيعة: كالفرابي، وإخوان الصفاء، وابن سينا، وغيرهم. فإذا قلنا: إن الفلسفة لم تزهر في عصر، ولم تستثمر في عصر كهذا العصر، لم نكن بعيدين عن الصواب.
وكان الناس في هذا القرن ثلاث طبقات متميزة: الطبقة الأولى: طبقة الأرستقراطيين من خلفاء، ووزراء، وتجار كبار، وأشراف، والطبقة الوسطى: من تجار متوسطين، وملاك متوسطين، ونحوهم، وطبقة فقيرة، وهي عامة الشعب من صغار الفلاحين، وصغار العمال، والعلماء الذين بعدوا عن الخلفاء والأمراء. فأما الطبقة الأولى، فكان المال يتدفق عليهم، وهم ينفقونه في إسراف، هم ونساؤهم وأتباعهم، هذه ميزانية الدولة في هذا العصر بلغت حدا كبيرا، فالخليفة مع ضعفه كان يعد الرئيس الديني حتى للبلاد المفصولة، فكان يجبي خراجا من هذه البلاد، ثم يسرف فيه هو ونساؤه، يحكون أنه كان بين رياش أم الخليفة المستعين بساط أنفقت على صنعه 130 مليون درهم، فيه نقوش على أشكال الحيوانات والطيور، أجسامها من الذهب، وعيونها من الأحجار الكريمة. ومدح شاعر امرأة من البيت المالك؛ فحشت فمه درا باعه بعشرين ألف دينار، وامتلأت بيوت هذه الطبقة بالجواري، والغلمان من سود وبيض، حتى قالوا: إنه بلغ عدد خدم المقتدر أحد عشر ألف خصي من الروم والسودان، إلى غير ذلك من القصور الفسيحة، والغرف العديدة، حتى إن المعز بنى دارا في بغداد أنفق عليها ثلاثة عشر مليون درهم، ثم كان هذا الترف يستتبع عددا كثيرا من المغنين والمغنيات، تصرف عليهم الأموال الكثيرة؛ ومع ما كان يجبى إليهم من الأموال الكثيرة، كانوا يضطرون أحيانا إلى الصرف على الجند، فلا يجدون ما ينفقون، فيضطرون إلى مصادرة الأموال بكل طريق، وأكثر ما يصادرون كان الأغنياء، وقد حكوا أن ابن الجصاص كان تاجرا للجواهر كبيرا في مصر، فصودرت أمواله كلها، حتى إنه وجدت عنده الدراهم بالكلية، وهذا مثل من أمثلة التجار الكبار الذين يعدون من الأغنياء.
زد على ذلك كثرة النفقة على العمال، وعلى القضاء والكتاب، فقد حكوا أن راتب أحد الكبار في هذا العهد كان ثلاثة وثلاثين دينارا وثلثا في اليوم؛ أي ما يقرب من ألف دينار في السنة، وهو ما يساوي خمسة آلاف جنيه اليوم.
وحكوا أن الحسين بن علي المادراني العامل على مصر في أوائل القرن الرابع الهجري كان مرتبه ثلاثة آلاف دينار في الشهر، وحكوا أن كاتبا من كتاب مصر في عهد الدولة الفاطمية كان يقدم له في اليوم الواحد من البقول، والحلوى، والأثمار، والفاكهة، والعطريات، ومن الألبسة والأفرشة، ما يستغرق تعداده صفحتين أو ثلاثا من القطع الكبير، وكان الوزراء يتقاضون أكثر من ذلك، فقد حكوا أن راتب الوزير في العهد الفاطمي كان خمسة آلاف دينار في الشهر، عدا ما يجري عليه، وعلى أهله من مأكولات وملبوسات، فأين يأتون بهذه الأموال كلها من غير المظالم التي ذكرناها؟ وكان الاعتقاد السائد أن الغنى والفقر من السماء، عكس ما نعتقد الآن أنه نتيجة للنظام الاجتماعي، وعلى هذا الاعتقاد وضع قانون تحديد الملكية، ونظام الضرائب التصاعدية؛ ولذلك نجد في هذا العصر الأتراك في بغداد، والبويهيين يعسفون بالناس ويظلمون، ورأينا سيف الدولة ابن حمدان ينهب كثيرا، ويهب كثيرا، فيهب المال الكثير للمتنبي؛ لأنه يمدحه، ويبخل على ابن عمه أبي فراس بفدائه من الأسر؛ إذ كان أسيرا في القسطنطينية. ونرى خمارويه بن أحمد بن طولون يخرب مصر عندما زوج بنته قطر الندى للخليفة العباسي، ويصنع الهواوين من الذهب الخالص، ويبني لها دارا من مصر إلى بغداد في كل مرحلة، ويأتي بعد الحاكم بأمر الله، فينفق المال بالهيل والهيلمان على من يريد، ويمنع من يريد، فالفرق بين الطبقة العليا والدنيا فرق كبير. هذا أبو حيان التوحيدي على علمه وفضله يضطر إلى أن يأكل الحشائش من الصحراء، وهذا أستاذه أبو سليمان المنطقي لا يجد أجرة مسكنه، حتى يعطيه عضد الدولة البويهي مائة دينار، وهذا الميداني صاحب كتاب «الأمثال» مع علمه، وفضله، ونبله مقتر عليه في رزقه بسبب عفته. ومن أجل هذه المظالم اضطر الفلاحون على أن يسلكوا سبيلا اسمه «الالتجاء»، وهو أن يكتبوا أملاكهم صوريا للأمراء والأعيان، حتى يخفف عنهم الخراج بمقدار النصف أو الربع؛ لأن الضريبة لم تكن عادلة، وكثيرا ما ضاعت أملاكهم من هذا الطريق، فادعى الأغنياء ملكيتها، أو ادعاها ورثتهم من بعدهم، ومثل هذا ما يحدث اليوم من بيع الشركات بعض الأراضي لأصحاب الجاه بثمن بخس، حتى يمد إليها الماء والكهرباء بسبب جاههم، فترتفع الأثمان أضعافا مضاعفة، وسميت هذه الطريقة بالالتجاء؛ لالتجاء الفلاحين إلى الأغنياء. •••
من أجل هذا كله انحلت الأخلاق، فقل أن تجد رجلا نبيلا فاضلا؛ لأن الذي يكون الأخلاق البيئة الخارجية، والبيئة الداخلية، وكلتاهما كانت فاسدة، فقد رأيت البيئة الخارجية - وأعني بها الحكام - وما كان يجري على أيديهم من المظالم عن طريق المصادرات والرشا.
فقد حكوا أن واليا عين في يوم واحد سبعة عشر عاملا على بلد واحد في يوم واحد؛ لأنه كان يأخذ من العامل الجديد كل مرة أكثر مما يأخذه من العامل المعزول، فاجتمع هؤلاء العمال السبعة عشر، وتشاوروا فيما بينهم ماذا يفعلون، وبعد التفكير استقر رأيهم على أن العامل الأخير لم يعزل بعامل غيره، وله السلطان الشرعي، فطلب الآخرون منه أن يعين كل واحد منهم واليا على ناحية من نواحيه، ففعل وحلت المشكلة.
فلما رأى الناس هذه المفاسد، فسدوا هم أيضا؛ لأنهم رأوا المثل من رؤسائهم، والسبب الأهم من ذلك البيئة الداخلية - وأعني بها البيت - وما يجري فيه، فقد كان في البيت الواحد عدد من النساء الحرائر، ومئات من الجواري ملك اليمين، والرجل يحق له أن يصل على هؤلاء وهؤلاء، وينسل من هؤلاء وهؤلاء، وقد كان هذا معقولا يوم كثرة حروب المسلمين مع غيرهم، ولكن لم يعد معقولا، وقد قلت الحروب فتفرغ الرجال للشهوات الجنسية، وأنسلوا من هؤلاء وهؤلاء. ولا يخفى أن بيتا كهذا يكون مملوءا بالدسائس والمؤامرات، وينسل أولادا يعادي بعضهم بعضا؛ لأن أمهاتهم أرضعتهم الغيرة والكراهية، فكثيرا ما كانت خصومة بعضهم مع بعض، فإذا كانت المفاسد داخلية وخارجية، فكيف يصلح الشعب؟
وقد سببت الحروب الصليبية من عهدها الأول كثرة الجواري البيض المأسورات في الحروب، فكانت توزع على البيوت، ومن أجل هذا كثر العنصر الفرنجي فيها، وهن عادة يثرن على تعدد الزوجات، وعلى ملك اليمين؛ ولذلك يجعلن البيت جحيما.
وإذا كانت الصناعات الجيدة لا تروج إلا عند هؤلاء الأغنياء، ولا يدفع ثمنها العالي إلا منهم، كانت الصناعات قسمين فقط: قسما فاخرا لبيوت الأغنياء، وقسما وضيعا للشعب، وانصرف العمال عن الصناعات الوسطى، فكنت تجد العمال الماهرين يصنعون الملابس الجميلة جدا المزركشة في مصانع تنيس، وما إليها، والخزف الجيد، والصدف، والطرف الباهرة، وصناع الشعب يصنعون الأشياء العادية، وربما كان ذلك متسلسلا إلى اليوم.
وشجع على هذه الفكرة أنه كان يرسل إلى الخلفاء والأمراء مع أموال الخراج بعض الهدايا الثمينة المصنوعة صناعة فائقة تسترعي النظر، وربما كانت المدن أحسن حالا من القرى؛ فإن المدن بما يصب فيها من مال الأمراء والولاة كانت أكثر ترفا ونعيما، فهذا جوهري بالكرخ، يساومه أحد البرامكة على سقط من الجوهر بمبلغ سبعة ملايين من الدراهم فيأبى، وهاك ابن الجصاص - تاجر الجواهر في مصر - يصادر على مال تزيد قيمته على عشرين مليونا من الدنانير كما ذكرنا. وكان في بغداد شريف يسمى محمد بن عمر، بلغت غلة أملاكه مليونين ونصفا من الدراهم، وكان في إصطخر بيت ينتسب إلى آل حنظلة ابتاع بمبلغ مليوني درهم مصاحف فرقها على الفقراء. أما القرى فيعملون في الأرض، ويبتز أموالهم الملاك، ويقتنعون بالحصول على ما يسد أودهم، وربما كان إذا عثر أحدهم على مال كثير مات من الفرح، كالذي يحكي أن صيادا وهب مالا في أيام أحمد بن طولون، فلما عاد ابن طولون بعد ما مر عليه وجده ميتا، وابنه يبكيه، فقال له: خذ مال أبيك، فقال: إن أخذته مت موتته، فأشار بأن يشتري له بيت بخمسمائة دينار، وقال: إن الغنى يحتاج إلى تدريج، وإلا قتل صاحبه، وكان يجب أن يدفع إلى مثل هذا دينار إلى دينار.
وقد اشتهر من هذه الطبقة العليا جماعة كانوا أرستقراطيي النسب، كانتسابهم إلى علي وفاطمة، أو كالبكريين والعمريين، أو انتسابهم إلى بيوت اشتهرت بالمجد، كانتسابهم إلى الأبناء، ويعنون بالأبناء من كانوا من أبناء الجند الذين أسسوا الدولة العباسية، وهكذا، فهؤلاء كانوا أرستقراطيين في نسبهم، وإن لم يكونوا أرستقراطيين في أموالهم. •••
وقد اشتهر في هذا القرن الرابع عدد كبير من الأرستقراطيين، نذكر من بينهم على اختلاف أنواع أرستقراطيتهم إبراهيم بن هلال الصابي، معز الدولة بن بويه، جحظة البرمكي، المتنبي، بديع الزمان الهمذاني، أحمد بن طباطبة، الصاحب بن عباد، أبا علي القالي، عز الدولة بن بويه، جوهر الصقلي، أبا علي الفارسي، ابن خالويه، ابن الحجاج، ابن نباته، عبيد الله المهدي الفاطمي، الأشعري، عماد الدولة بن بويه، سيف الدولة، فاتكا الرومي، عضد الدولة، كافورا الإخشيدي، الوزير ابن بقية، ابن جرير الطبري، ابن دريد، ابن العميد، ابن سكرة، الجبائي، الصولي، ابن الأنباري، العزيز بالله بن المعز، ابن جني، وغيرهم، ولكن إن أكثرنا من الكلام في ظلم الحكام وعسفهم، فلن يفوتنا أن قليلا منهم كان عادلا: كعلي بن عيسى، وقليل غيره.
وشاعت كثرة المجالس، فكان بعض الأمراء والوزراء يعقدون مجالس يجري فيها الأدب والعلم، وأحيانا الشراب، وأحيانا هما معا. ويروي لنا التاريخ مجالس كثيرة من هذا القبيل، وربما تنافس الأمراء في ذلك بعد استقلالهم؛ فخرا بسلطتهم، ومن يتصلون بهم، فكم روي لنا عن الوزير المهلبي من مجالس عظيمة فيها شعر، وفيها قصص أدبية، كان من نتيجتها كتاب «الأغاني»، ويحكى لنا أن سيف الدولة كان له من الشعراء وغيرهم مثل ما كان للرشيد، ومن خريج مجالسه المتنبي، وأبو فراس، والفيلسوف الفارابي، وابن خالويه النحوي، وغيرهم. وكذلك في مصر كان يعقوب بن كلس وغيره.
هذا عدا مجالس العلماء أنفسهم، كمجلس أبي سليمان المنطقي، وابن أبي عامر، وغيرهما، كل هذه كانت مراد الناس، يستنشقون منها العلم والأدب، ويتسامرون فيها السمر اللذيذ، وإذا راجعنا الكتب المؤلفة التي كانت نتيجة هذه المجالس استكثرناها.
ومن مظاهر هذا العصر فشو اللحن، وخصوصا في البيوت والشوارع؛ وذلك لكثرة الجواري الأعجميات، وغلبة الأتراك حتى على القصور، فانتشرت الياء في آخر الكلمات، وأبدلوا جمع فعاليل بفعالل، وقالوا: أخير وأشر، بدل: خير وشر. ولم يفرقوا بين فعلة للمرة، وفعلة للهيئة، ولم يفرقوا تفرقة تامة بين الفعل المتعدي، والفعل اللازم، وقالوا: إن لغة البحتري أحط من لغة أستاذه أبي تمام، وقد قال عنه أحد معاصريه: إنه لاحن جاهل، فقال مثلا:
يا مادح الفتح ويا آمله
لست امرأ خاب ولا مثن كذب
بدل مثنيا.
وعابوه في قوله:
ولو أنصف الحساد يوما أملوا
مساعيك هل كانت بغيرك أليقا
بدل مساعيك.
فإذا وصلنا إلى عصرنا كان اللحن أفشى حتى بين العلماء، وحتى عدوا من يتكلم باللغة الفصحى متكلما على النمط البدوي القديم، وقالوا: إن ثعلبا النحوي الشهير كان يتكلم في مجالسه فيلحن، ويقول قدامة بن جعفر: إن الفصاحة الكاملة، وصحة الإعراب لا تتم إلا لأعرابي بدوي نشأ حيث لا يسمع إلا الفصاحة؛ بل يرى أنه يجب استعمال اللحن، وأن يتعمد له عند الرؤساء والملوك الذين يلحنون، فإن الرئيس أو الملك لا يجب أن يرى أحدا من أتباعه فوقه.
ومتى رأى أن أحدا منهم قد فضله في حال من الأحوال نافسه وعاداه؛ كالذي روي أن رجلا تكلم في مجلس بعض الخلفاء الذين كانوا يلحنون فلحن، فعوتب على ذلك، فقال: لو كان الإعراب فضيلة لكان أمير المؤمنين إليها أسبق. وقال: إن اللحن قد يستملح من الجواري والإماء، وذوات الحداثة من النساء؛ لأنه يجري مجرى الغرارة منهن، وقلة التجربة.
وربما كان هذا هو السبب الذي دعا بعض العلماء المتزمتين إلى وضع كتب في ألحان العوام كما فعل الحريري وغيره، ومثل كتاب «فعلت وأفعلت» الذي حوى كثيرا من أغلاط العامة، وبهذا أيضا تكونت اللهجات العامية في الأقطار المختلفة، وأصبح لكل قطر لغة عامية، ومن أجل هذا أيضا نشأ الخلاف بين الأحرار الذين لا يتبعون قواعد النحو بدقة، وبين المتزمتين من النحويين، وفي ذلك يقول الشاعر:
ماذا لقيت من المستعمرين ومن
قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكرا يكون بها
بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنت، وهذا ليس منتصبا
وذاك خفض، وهذا ليس يرتفع
وحرضوا بين عبد الله من حمق
وبين زيد، فطال الضرب والوجع
وطعن الصاحب بن عباد على المتنبي؛ لتفاصحه، واستعماله الألفاظ النادرة الشاذة؛ فيجمع مثلا ركب الإبل على صيغة ركبات.
ولا ننكر أن هؤلاء المتزمتين كان لهم فضل كبير في المحافظة على اللغة الفصحى على مدى الأزمان.
وجاء ابن حجاج، وابن سكرة فاستعملا كثيرا من الألفاظ العامية، والأساليب العامية، والعادات العامية، فكثيرا ما نجد ابن حجاج يستعمل كلمات فارسية مثل: كلمة «هم» الفارسية بمعنى «أيضا»، وكان يستعمل «شوش» بمعنى «أزعج»، و«رأسمال» إلى غير ذلك.
ولا يقل ابن سكرة شيئا عنه في ذلك، وظلت اللغة العامية تنفصل عن اللغة الفصحى، وتتسع بينهما هوة الخلف على مر الأزمان، وفي كل الأقطار، حتى كونت اللغة العامية لها أدبا خاصا من موشحات، وأزجال، وأمثال، وجرؤت فيما بعد حتى هزأت النحو على النحو الذي ذكره الشربيني في كتابه «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف»، وتبعه في ذلك غيره.
وفي العصر الحاضر رقيت اللغة العامية، وقربت من الفصحى بفضل الإذاعات والجرائد والمجلات، ولم يعقهما عن الاتصال ثانية إلا ما في اللغة العامية أحيانا من الحرفشة - على حد تعبير ابن خلدون - وما في اللغة العامية من وقف، وعدم إعراب.
3
وكانت المعيشة في الأوساط الفقيرة تتطلب نحوا من ثلاثمائة درهم، أي نحو مائة وعشرين جنيها في السنة لرجل متزوج وله ولد، أما المعيشة العالية، فلا حد لنهايتها. ويحدثنا كتاب «الفرج بعد الشدة» أن رجلا كان يغني لسيدة؛ فأورث ابنا له أربعين ألف دينار، ولما بلغ رشده صرف منها ألف دينار، اشترى بها بيته القديم، وسبعة آلاف أصلح بها أثاثا فخما للبيت، من سجاجيد وملابس، وإماء، وعبيد، وغير ذلك. وخصص ألفين لتكون رأس مال للتجارة، ودفن عشرة آلاف ليوم الحاجة، وخصص عشرين ألفا لشراء ضيعة يستعين بها على الأيام.
وكان من مظاهر نعمة الأغنياء السكنى في السراديب صيفا، والثلج لشرب الماء البارد يستحضرونه حتى من الأماكن البعيدة، كما استعملوا في البيوت المراوح المبلولة بالماء من الخيش، يحركها بعض الخدم، وكان هذا هو النظام المتبع للتبريد في ذلك العصر.
واتخذوا في بيوتهم الأماكن الواسعة توضع فيها الأرائك يجلسون عليها ليلا لسماع الغناء، وللشراب، وللحديث اللذيذ.
وبعضهم يعني بالأزهار، يشتريها بالمال الوفير، ويستحضرها في المجالس، كل زهور في مواسمها، وإذا قرأنا ما خلفته الدولة الفاطمية في القاهرة، رأينا مقدار الترف الذي كانوا يعيشون فيه.
وقد عني الأغنياء بالبرك، وبالأشجار في قصورهم، وبالصناعة الخشبية، كالمشربيات، وتزيين الأبواب والحمامات؛ كما عنوا بإنشاء الحمامات العامة للشعب، أخذا من العادات الفارسية، وعرفوا «الإسفلت»، وأخذوه من مكان بين الكوفة والبصرة، وقالوا: إنهم مهروا في صناعته، فكانوا يجعلونه كأنه مرمر أسود، ويغطون به بعض الحيطان.
وبالغ المترفون في كل شيء في الحياة وفي الممات، حتى إن قريبا من أقرباء سيف الدولة الحمداني مات فغسل تسع مرات، بأنواع مختلفة من العطور السائلة، وبهذه المناسبة نذكر أنه كان من المعتاد في هذا العصر المبالغة في مظاهر الحزن على الميت، وكان بعض العلماء يسمح لأهلهم أن يدفنوا في بيوتهم.
وانتشرت مجالس الشراب، وأسرف أهلها في الاستعداد لها، من أزهار، وفاكهة، وصحاف، وأنوار، حتى كان بعضهم من إسرافهم يأكل بملعقة، ويغيرها في كل لعقة كما يحكى عن الوزير المهلبي، واعتادوا غسل أيديهم قبل الأكل وبعد الأكل.
ووجدت بيوت النخاسين يبيعون فيها القيان، وأحيانا تقام فيها حفلات الرقص والغناء، ويصب فيها أولاد الأغنياء أموالهم، ويبتز فيها الشابات المغنيات أموال الأغنياء، كالحال اليوم، كما يحكي صاحب «الظرف والظرفاء».
وانتشر للتسلية ألعاب النرد والشطرنج، ولابن الرومي وصف بديع للاعب شطرنج ماهر، وكثرت الضرائب، وتنوعت لما احتاج الخلفاء إلى المال، فضربوا الضرائب على المغنيات، وعلى الحوانيت، وعلى السفن، وغير ذلك.
واختلفت المدن، وتنوع نمطها إلى أربعة أنواع: مدن يغلب عليها الطابع اليوناني، كمدن البحر الأبيض المتوسط؛ ومدن يغلب عليها الطابع العربي كمدن الحجاز، ومدن اليمن؛ ومدن يغلب عليها الطابع الفارسي كمدن العراق؛ ومدن يغلب عليها الطابع الروماني كبعض مدن الشام.
وكل مدينة لا بد أن يشوبها بعض من الأنماط الأخرى. •••
وقد حلى الشعب عيشته بالأعياد الكثيرة تقام من حين إلى حين، وانتهزوا هذه الفرص ليتمتعوا بملاذ الحياة، لا يمنعهم عن ذلك ما إذا كانت الأعياد نصرانية الأصل، أو فارسية الأصل، فيكاد كل دير الأديار يقام لقديسه عيد ميلاد، يستمتعون فيه بشرب النبيذ المعتق، والنساء، والعزف، ونحو ذلك.
ويحدثنا الشابشتي في كتابه عن الأديار، وابن المعتز في بعض قصائده عن كثير من هذه الأعياد، كما ورد كثير من ذكر «عيد الشعانين»، وقد اتخذوه عيدا عاما، وكانوا يسمونه في مصر «عيد الزيتون»، ويحمل كل من الشبان والأطفال خوص النخل، ويسيرون به في الشوارع، كذلك كانوا يحتفلون كما نفعل اليوم بيوم السبت الذي قبل شم النسيم، بأكل البيض، وصبغته ألوانا، وكانوا يحتفلون في بغداد مسلمهم ونصرانيهم بآخر سبت في سبتمبر عند دير يسمونه دير الثعالب. وفي الثالث من أكتوبر كانوا يحتفلون في دير يسمى «دير أشمونة»، وكان عيدا كبيرا من أعياد البغداديين، وهكذا، وهكذا مما يطول شرحه.
وفي هذه الأعياد كانوا يحتفلون في البحر، كما يحتفلون في البر، فيركبون مراكب تسمى السمريات، تحمل فتيات ونبيذا، ويفرحون ويصيحون؛ فترى من هذا كثرة الأعياد التي ينتهزونها فرصة للأفراح. ومن الأعياد الفارسية المشهورة كان عيد النيروز، وهو عيد السنة الجديدة، فكانت تهدى فيه الهدايا، ويخرج إلى المتنزهات، هذا عدا الأعياد الإسلامية، كاحتفالهم في رمضان، وإطعامهم الفقراء، والتصدق على المساكين، وعيد الفطر، وعيد الأضحى.
وعلى الجملة فكانت هذه الأعياد - النصرانية، والفارسية، والإسلامية، والطبيعية التي يشترك فيها الكافة - متنفسا للشعب يجدون فيها راحتهم، وينسون فيها غمومهم وهمومهم من ظلم الحكام، ومصائب الزمان.
ولدينا وثيقتان تدلان على فساد هذا العصر وحواشيه؛ إحداهما أرجوزة الخليفة عبد الله ابن المعتز، نظمها في وصف دهره، وقد ذكرنا منها وصف اغتيال المواريث، ومنها:
والعلوي قائد الفساق
وبائع الأحرار في الأسواق
ويقول في الشيعة:
يدعون للإمام كل جمعة
ولا يردون إليه قطعة
وهم يجورون على الرعية
فساد دين وفساد نية
ويأخذون مالهم صراحا
ويخضبون
4
منهم السلاحا
ويقول في نبيل عذب:
فكم وكم من رجل نبيل
ذي هيبة ومركب جليل
رأيته يعتل بالأعوان
إلى الحبوس وإلى الديوان
وجعلوا في يده حبالا
من قنب يقطع الأوصالا
وعلقوه في عرى الجدار
كأنه برادة في الدار
وصفقوا قفاه صفق الطبل
نصبا بعين شامت وخل
وحمروا نقرته بين النقر
كأنها قد خجلت ممن نظر
إذا استغاث من سعير الشمس
أجابه مستخرج برفس
وصب سجان عليه الزيتا
فصار بعد بزة كميتا
حتى إذا طال عليه الجهد
ولم يكن مما أراد بد
قال ائذنوا لي أسأل التجارا
قرضا وإلا بعتهم عقارا
وأجلوني خمسة أياما
وطوقوني منكم إنعاما
فضايقوا وجعلوها أربعة
ولم يؤمل في الكلام منفعه
وجاءه المعينون الفجره
وأقرضوه واحدا بعشره
وكتبوا صكا بيع الضيعة
وحلفوه بيمين البيعه
ثم تأدى ما عليه وخرج
ولم يكن يطمع في قرب الفرج
ويصف نهب الأعراب في الطرقات فيقول:
وتاجر مع حجه وعمرته
يطلب ربح ماله في سفرته
مقدر في الربح أضعاف الثمن
من قاصد صنعا إلى أرض عدن
فهم كذاك سائرون ظهرا
أو تحت ليل أو ضحى أو عصرا
إذ قال قد جاءكم الأعراب
وكثر الطعان والضراب
وصار في حجهم جهاد
واحمرت السيوف الصعاد
5
ويقول في وصف الكوفة:
واستمع الآن حديث الكوفة
مدينة بعينها معروفة
كثيرة الأديان والأئمة
وهمها تشتيت أمر الأمة
وهم بنوا للجور صرحا محكما
فاتخذوا إلى السماء سلما
أخذوا وقتلوا عليا
العادل البر التقي الزكيا
وقتلوا الحسين عند ذاكا
فأهلكوا أنفسهم إهلاكا
وجحدوا كتابهم إليه
وحرفوا قرآنهم عليه
ثم بكوا من بعده وناحوا
جهلا كذاك يفعل التمساح •••
ويصف بعض الناس يتفلسف ولا يتعرب فيقول:
ثم إذا ما قام عن غذائه
وفرغت قهوته بمائه
تناول الريشة والطنبورا
فأضحك الصغير والكبيرا
وضاعت الأمور عند ذاكا
وأظهر التعطيل والإشراكا
ومدح أفلاطون والفلاسفة
وساعدته في هواه طائفة
وذكر السعود والنحوسا
والجوهر المعقود والمحسوسا
وذرع طول الأرض والأفلاك
وكم بلاد الصين والأتراك
واستثقلوا من قام للصلاة
فكيف من طول في القراة
وطعنوا في الفقه والحديث
وعجبوا من ميت مبعوث
ويقول في المشاغين من الجند:
وكل يوم ملك مقتول
أو خائف مروع ذليل
أو خالع للعقد كيما يغنى
وذاك أدنى للردى وأدنى
وكم أمير كان رأس جيش
قد نغصوا عليه كل عيش
وكل يوم شغب وغصب
وأنفس مقتولة وحرب
وكم فتى قد راح نهبا راكبا
إما جليس ملك أو كاتبا
فوضعوا في رأسه السياطا
وجعلوا يردونه شطاطا
وكم فتاة خرجت من منزل
فغصبوها نفسها في المحفل
وفضحوها عند من يعرفها
وصدقوا العشيق كي يقرفها
وحصل الزوج لضعف صلته
على نواحه ونتف لحيته
ويطلبون كل يوم رزقا
يرونه دينا لهم وحقا
كذاك حتى أفقروا الخلافه
وعودوها الرعب والمخافه
وهذه أرجوزة طويلة مملوءة بالفضائح ووسائل الفساد، وهي مثبتة في ديوان ابن المعتز.
والثانية لزوميات أبي العلاء، وفيها العجب العجاب من وصف فساد ذاك الزمان.
فأمراء:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها، وهم أجراؤها •••
يسوسون الأنام بغير عقل
فينفذ أمرهم ويقال ساسه
فأف من الحياة وأف مني
ومن زمن رئاسته خساسه •••
واخش الملوك وياسرها بطاعتها
فالملك للأرض مثل الماطر الساني
إن يظلموا فلهم نفع يعاش به
وكم حموك برجل أو بفرسان
وهل خلت قبل من جور ومظلمة
أرباب فارس أو أرباب غسان •••
يكفيك حزنا ذهاب الصالحين معا
ونحن بعدهم في الأرض قطان
إن العراق وإن الشام مذ زمن
صفران ما بهما للملك سلطان
ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل مصر من الوالين شيطان
من يحفل حمض الناس كلهم
إن بات يشرب خمرا وهو مبطان •••
لعمرك ما في عالم الأرض زاهد
يقينا، ولا الرهبان أهل الصوامع
أرى أمراء الناس يمسون شرهم
إذا خطفوا خطف البزاة اللوامع
وفي كل مصر حاكم فموفق
وطاغ يحابي، في أخس المطامع
يجور فينفي الملك عن مستحقه
فتسكب أسراب العيون الدوامع
ومن حوله قوم كأن وجوههم
صفا لم يلين بالغيوث الهوامع
وسواء في ذلك ملوك أهل السنة، والإمام الذي يدعى معصوما عند الشيعة:
يرتجي الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صبحه والمساء •••
وما صح للمرء المحصل أنه
بكوفان قبر للإمام يزار
أخو الدين من عادى القبيح وأصبحت
له حجزية من عفة وإزار
والشعراء لا ينصحون الأمراء، ولكن يتملقون:
وما شعراؤكم إلا ذئاب
تلصص في المدائح والشباب
أضر لمن تود من الأعادي
وأسرق للمقال من الزباب
والوعاظ ينافقون، فيقولون ما لا يفعلون:
رويدك قد غررت وأنت حر
بصاحب حيلة يعظ النساءا
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها على عمد مساءا •••
لعل أناسا في المحاريب خوفوا
بآي كناس في المشارب أطربوا
إذا رام كيدا بالصلاة مقيمها
فتاركها عمدا إلى الله أقرب
طلب الخسائس وارتقى في منبر
يصف الحساب لأمة ليهولها
ويكون غير مصدق بقيامة
أمسى يمثل في النفوس ذهولها
والمنجمون يضحكون على عقول النساء:
سألت منجمها عن الطفل الذي
في المهد كم هو عائش من دهره
فأجابها مائة ليأخذ درهما
وأتى الحمام وليدها في شهره •••
لقد بكرت في خفها وإزارها
لتسأل بالأمر الضرير المنجما
وما عنده علم فيخبرها به
ولا هو من أهل الحجا فيرجما
ويوهم جهال المحلة أنما
يظل لأسرار الغيوب مترجما
ولو سألوه بالذي فوق صدره
لجاء بمين أو أرم وجمجما
وقد ذكر في اللزوميات أيضا النساء وتبرجهن، وغشيانهن الحمامات للهو والفساد.
وعلى الجملة، فالناس كلهم أجناس، وهم كلهم أنجاس:
لو غربل الناس كيما يعدموا سقطا
لما تحصل شيء في الغرابيل
أو قيل للنار خصي من جنى أكلت
أجسادهم وأبت أكل السرابيل
أغشى الأنام تقي من ذرى جبل
يرضى القليل ويأبى الوشي والتاجا
وأفقر الناس في دنياهم ملك
يضحي إلى اللجب الجرار محتاجا
وهكذا وهكذا من فساد جعله يصب جام غضبه على أهل زمنه، ويصرخ فيقول:
الناس صنفان: ذو دين بلا
عقل، وآخر دين لا عقل له
وقد صور لنا أبو حيان التوحيدي مجالس العلماء، وموضوعات أبحاثهم في كتبه، فحكى لنا المجلس الذي كان يعقد في بيت أبي سليمان المنطقي من بحث كل يوم في مسألة تارة لغوية، وتارة أدبية، وكثيرا ما تكون فلسفية.
وكان يحضر المجلس أبو الحسن العامري، وغلام زحل وغيرهما، ودون محاضر الجلسات في كتابه المسمى «بالمقابسات»، كما حكى لنا نوع المشاكل التي كانت تجري في زمنه، في كتابه «الهوامل والشوامل»، وصور لنا أيضا ما كان يدور بينه وبين الوزير ابن سعدان من مسائل كثيرة؛ ألف له من أجلها رسائل كثيرة، ووصف لنا وصفا شنيعا قبيحا الوزيرين ابن العميد، وابن عباد في كتابه «مثالب الوزيرين»، الذي ذكر منه نبذة ياقوت الحموي في «معجم الأدباء».
ومما يؤسف له أن علماء الدين والأدباء لم يرفعوا صوتا لاستنكار هذه الأحداث، بل كانوا يؤيدونهم في ظلمهم؛ فهذا قاضي سيف الدولة يجمع له مال الرعية ظلما وعدوانا. وهذا أبو الطيب المتنبي يمدحه حتى تقرأ، فكأن سيف الدولة ملك كريم، وعادل رحيم؛ عكس تاريخه. ويأتي المتنبي إلى كافور، فيعلي شأنه، ويرفع من مقامه، ولا يغضب عليه، ولا ينقده، إلا لأنه لم يمنحه ضيعة أو ولاية، فإن كان قد منحها، كان قد أضفى عليه من الألقاب والصفات ما لا قول بعده لقائل.
نعم، إن بعض الطوائف أرادت أن تمحو الظلم كالفدائية، وهم المسمون بالإسماعيلية، أو الحشيشية، وعلى رأسهم كان الحسن الصباغ، فهؤلاء تعاقدوا على قتل الظلمة، وتحت تأثير هذه الدعوة قد شنعوا على الخلفاء والحكام، وكبروا مظالمهم، واغتالوا نظام الملك الوزير السلجوقي المشهور مؤسس المدرسة النظامية، ألفوا مؤامرات دقيقة لوضع نظم القتل، ولكن مع الأسف كانت طائفة فاطمية حزبية، تقتل السنيين، ولا تقتل العلويين، وحتى في قتلها السنيين لم تكن موفقة، فنظام الملك هذا من أحسن الرجال عدلا وعطفا على العلماء، وتشجيعا للعلم، ولم يقتلوا أحدا ظاهرا من الفاطميين، بينما كان فيهم من لا يقل فسادا عن السنيين، وإنما كان المسلمون في حاجة على فدائيين ليسوا متعصبين لمذهب دون مذهب، على أن الفدائيين أنفسهم لم يكونوا حسني السيرة، ولا طاهري الأخلاق.
يضاف على هذا الفساد نوع آخر منشؤه ضعف العقلية، وانتشار الخرافات والأوهام، فكم من الناس من أضاعوا ثرواتهم في قلب المعادن ذهبا، حتى مسكويه العالم المشهور وقع في هذا الخطأ، والإيمان بالمغيبات، والاعتقاد في النجوم والمنجمين، وتدجيل بعض الصوفية، وغير ذلك مما أشار إليه أبو العلاء في اللزوميات، هذا إلى انقسام الناس إلى عصبيات كثيرة كفيلة بأن تتلف أي أمة، فعصبيات الدم، كالفرس، والأتراك، والعرب، والأكراد، وعصبيات للبلاد كبصريين، وكوفيين، ودمشقيين، ومصريين إلخ. هذا عدا عصبيات دينية كشافعية، ومالكية، وحنفية، وسنية، وشيعة، وكل منها يتفرع إلى جملة مذاهب، إلى إسراف في الشهوات بسبب ما أغدق على السكان من رقيق مختلف الأنواع، سود وبيض.
وقد كان النحاسون يجعلون بيوتهم مواخير يقصدها الشبان، فقد حكى لنا الوشاء في كتابه «الظرفاء» صفة هذه المواخير، وكيف أن الشبان تتحبب الفتيات إليهم استنزافا لأموالهم، حتى إذا أتلفوها أعرضن عنهم، وكيف كان تتدفق فيها الخمور، ويلعب القواد دورالوسيط، إلى كثير من أمثال ذلك.
ويصف لنا أبو المطهر الأزدي منافقا كان يجلس بين أدبيين، فيلتفت إلى اليمين ليستمع من صاحبه شعرا، ويقسم الأقسام المغلظة أنه شعر بديع لم يقل قائل مثله في بلاغته ، وروعته، وألفاظه، ومعانيه؛ ويلتفت إلى من بيساره فيذم له هذا الشعر الذي سمعه، ويسمع منه شعره هو فيطريه أيما إطراء، ويقسم على ذلك أيما قسم، ثم يلتفت إلى من باليمين ثانية فيذم له من باليسار، وهكذا دواليك. ولعل هذا المنافق لم يكن إلا واحدا من المنافقين الكثيرين، وهل مداح الخلفاء والأمراء مع علمهم بظلمهم إلا من هذا القبيل؟
فليس عجيبا أن تتدهور البلاد وتنحط الأخلاق؛ إنما قد يكون عجيبا أن تبقى بعد ذلك وهذه حالها. •••
نتعرض بعد ذلك إلى بعض أشياء أخرى كانت في المملكة الإسلامية في هذا العصر، من هذا العيارون، فهم قوم من اللصوص كانوا يتخذون لهم لبسا خاصا، ويقول فيهم الشاعر:
خرجت هذه الحروب رجالا
لا لقحطان ولا لنزار
معشر في جواشن المصر يعدو
ن إلى الحرب كالليوث الضواري
ليس يدرون ما الفراد إذ الأ
بطال عاروا في القنا للفرار
واحد منهم يشد على ألفي
ن، عريان ما له من إزار
ويقول الفت إذا طعن الطع
نة خذها من الفتى العيار •••
ويقول ابن الأثير: إن العيارين ظهروا في سائر المدن الإسلامية، وعظم شأنهم، وكثيرا ما كان الوزراء، وغيرهم من أرباب الحل والعقد يقاسمونهم، ويسكتون عنهم، وقد يسمون أحيانا شطارا، وكانوا يمتازون أيضا بملابس خاصة، وسماهم ابن بطوطة في أيامه بالفتاك، وبعضهم كان يزعم أن الأغنياء لما امتنعوا عن دفع الزكاة أخذوها هم قسرا.
وكان من محاسنهم - ولا شك - الكرم، وخصوصا تحبب الخلفاء والأمراء للعامة بأساليب السخاء كالضيافة، ونصبهم الموائد للطعام، يتجمع عليها الألوف من الناس، ثم إنهم تفننوا في الأثاث والرياش والمجوهرات، وشاعت بينهم المسكرات، وزادت بعد أبي نواس من طول ما تغزل بها، وكانوا يشربون النبيذ بالأرطال، وانتشر الشراب في العامة، وقد حكي عن الحاكم بأمر الله الفاطمي، أنه أمر بإراقة الخمور، وبإراقة العسل حتى لا تصنع منه.
وكان من عادة الخلفاء والأمراء اهتمامهم بالخروج للصيد، وعده من الرياضة البدنية.
ويحكى عن السلطان مسعود السلجوقي أنه بالغ في ترفيه كلاب الصيد حتى ألبسها الجلال الموشاة، وسورها بالأساور من الذهب. وكان من عادة الخلفاء جمع السباع، وتربية الحيوانات الداجنة، وتأنيس الغزلان، وقالوا: إنه اجتمع عند العزيز الفاطمي صاحب مصر من غرائب الحيوان ما لم يجتمع عند غيره.
هذه صورة حاولنا بها توضيح هذا العصر بقدر الإمكان؛ اعتقادا منا بأنها ذات أثر كبير في حالة العلوم والآداب والفنون في ذلك العصر.
وقد كان صحيحا ما ذهب إليه «تين» الفرنسي من أن كل هذه الأشياء متأثرة لدرجة كبيرة بالبيئة؛ وقد عنى بالبيئة ما يشمل البيئة الاجتماعية.
ونعتقد أنه لولا هذه البيئة ما كان التصوف بهذا الشكل، ولا نبعت المقامات في الأدب، ولا غرق الأدب العربي في المديح. ولولا انتشار الشيعة في هذا الزمان ما كانت رسائل إخوان الصفاء على هذا النحو، ولا كان ما يحكى لنا من تحف نفيسة رائعة، ولا مبان ضخمة، ولا عمارات فخمة، ولولا هذه البيئة التي وصفنا ما كان إخفاء الكنوز، ولا كثرة الصعلكة في جانب، والترف والنعيم الكبيران في جانب آخر، ولا كان أبو العلاء يصرخ صرخته المعروفة في «اللزوميات».
وإذ قد فهمنا هذه البيئة كما وصفنا وتكلمنا في الجزء الأول من «ظهر الإسلام» عن حركة العلوم إجمالا، أمكننا الآن أن نبدأ في الكلام عنها في هذا العصر تفصيلا، والله الموفق.
هوامش
حركة العلوم تفصيلا
الفصل الأول
التفسير والحديث وعلم الكلام
التفسير
رأينا فيما مضى أن التفسير كان تفسيرا بالمأثور، ونعني بالمأثور ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة والتابعين في التفسير من مثل الأحاديث التي في صحيح البخاري ومسلم.
وكان كثير من الصحابة يتحرجون جدا أن يفسروا شيئا من القرآن خوف الزلل، وخوف الهجوم على تفسير قد يكون خطأ؛ كالذي روي أن أحد أصحاب ابن مسعود سئل عن سبب نزول آية من القرآن، فقال: عليك باتقاء الله والسداد، فقد ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن. وسئل سعيد بن جبير عن تفسير آية، فقال: لأن تقع جوانبي خير لي من ذلك.
ولكن كان من أجرأ الناس في التفسير عبد الله بن عباس ابن عم النبي
صلى الله عليه وسلم ، وجد الخلفاء العباسيين، فقد رويت عنه تفسيرات كثيرة لآيات كثيرة، حتى روي عنه تفسير شامل.
نعم، إن بضعها موضوع؛ ولكن ما صح بعد ذلك كثير، وقد اعتمد في التفسير على مصادر ثلاثة: أحاديث النبي
صلى الله عليه وسلم
في التفسير، والشعر الجاهلي والإسلام، وما كان يرويه اليهود الذين أسلموا، وخصوصا كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، ويكثر منه ذلك في قصص الأنبياء، وما يتصل بالتوراة.
وكان له تلاميذ كثيرون يأخذون عنه، من أشهرهم مولاه عكرمة، ولم يكن عكرمة هذا صادقا كل الصدق، وقد روي عنه بعض المتناقضات، كالذبيح؛ فقد روي عنه عن ابن عباس مرة أنه إسماعيل، ومرة أنه إسحاق. وقد لاحظ بعض النقاد أن ابن عباس نفسه يروي أحداثا حدثت وهو طفل، وأحيانا يروي أحداثا عن عهد لم يكن ولد فيه بعد؛ فقد كان اتصاله بالنبي
صلى الله عليه وسلم
وهو دون سن البلوغ، ومع ذلك عظم تعظيما جليلا. وربما كان من أسباب ذلك وجود الخلفاء العباسيين من ولده، وتملق الناس لهم.
وكان في العصور الأولى من يتثقف ثقافة يهودية واسعة، تسرب منها الكثير إلى المفسرين، كالذي يحكى عن رجل يقال له: أبو الجلد؛ كان يقرأ القرآن في كل سبعة أيام، ويختم التوراة في ستة أيام، ورأى الناس في اليهود علما بمسائل كثيرة تتصل بالقرآن، ثم كان ابن عباس ذا علم بالشعر القديم والحديث؛ كل ذلك مكنه من تفسير كثير من الآيات.
والناس من طبيعتهم حب السؤال عما يجهلون، يقول القرآن:
اضربوه ببعضها ، فيسألون ما هو البعض الذي ضرب به، ويقول الله تعالى:
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية ، فيسألون: أي قرية؟ ومن أصحابها؟ وهكذا.
فكان ابن عباس يجيب عن هذه الأسئلة، وقد روى الكثير عن ابن عباس عكرمة هذا، ومجاهد، ومقاتل بن سليمان، فما جاء عصرنا الذي نؤرخه بلغ هذا النوع من التفسير أوجه في تفسير ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310ه، وهو صاحب الكتاب العظيم في التاريخ، وكتابه العظيم الآخر في التفسير، وكان مجتهدا أيضا في الفقه، ولكن طوى اجتهاده، وكان - رحمه الله - ذا عقل جبار في كل ناحية بحث فيها، ومنهجه في التفسير أن يجمع في كل آية التفسير بالمأثور، وفي الغالب يفضل أحد الأقوال، ولا يروي من الإسرائيليات والنصرانيات إلا بقدر، وينص في كثير من الأحيان على أن هذه أشياء لا قيمة لها، والجهل بها ليس ضارا، كالسؤال عن المائدة التي نزلت من السماء على عيسى، هل كان عليها طعام أم لا؟ وإذا كان عليها طعام فما هو؟ وهكذا، فيقول: العلم بذلك غير نافع.
وكذلك يقول مثلا في إخوة يوسف الذين باعوه بدراهم معدودة: بكم باعوه؟ فيقول: إن الله لم يحدد لنا مبلغ ذلك، ولا ورد لنا خبر من رسول الله، وليس للعلم بذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به ضرر، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلف علمه، كثير من أمثال ذلك مما يدل على حسن عقله. وكان ذا علم كبير باللغة، فيفضل شرح معنى لفظ على شرح معنى آخر، بفضل علمه الواسع باللغة، كذلك كون له عقيدة مثل الاختيار لا الجبر، ثم رجح التفسير الذي يؤيد هذا الاعتقاد، وجادل المعتزلة في بعض أقوالهم من غير أن يسميهم، وقد كانوا في هذا الوقت ظاهرين، فمثلا: يقول في قوله تعالى:
وقالت اليهود يد الله مغلولة
إن بعضهم يفسر اليد بالنعمة، ولو كان كذلك لم يقل تعالى:
بل يداه مبسوطتان ؛ لأن نعمة الله لا تحصى، ولو كانتا نعمتين كانتا محصاتين، وهكذا وهكذا.
تعرض للنزاع الذي وقع بين الفرق، وأدلى فيه برأيه، ومع هذا الفضل الكبير له، فقد هوجم من المحدثين، وخصوصا من الحنابلة، وناله الضرر منهم، وهو في درسه، فلما احتجب في بيته رموه بالحجارة حتى صارت أمام بيته أكواما، وذهب آلاف من الجند ليحموه، فلما مات لم يحتفل بجنازته، والله تعالى لا يعبأ بكل ذلك؛ فقد أكرمه الله بخير من هذه المظاهر جزاء جده وفضله.
ومع هذا فقد كان في العصور الأولى قوم يستعملون العقل أيضا في التفسير، وربما كان من أشهرهم مجاهد؛ فقد كان مطلعا يميل إلى الآراء العقلية، فيقول مثلا في قصة مسخ أهل السبت قردة: إن الله لم يمسخهم في أجسامهم، بل في قلوبهم، ويفسر بعض الأحاديث التي ورد فيها اهتزاز عرش الرحمن بالرضا، ثم ظهر على توالي الأزمان نواة التفسير العقلي على يد المعتزلة، ونجد مصداق ذلك في مثل الآيات التي فسرها الجاحظ في كتابه «الحيوان»، والآيات والأحاديث التي روي تفسيرها عن النظام، وبلغت هذه الحركة أيضا ذروتها في عصرنا هذا الذي نؤرخه على يد الزمخشري في «الكشاف».
فقد ألف كثير من المعتزلة كتب تفسير كثيرة، تبلغ المئات، ولكن لم يصلنا منها شيء، إنما وصلنا منها كتاب مجالس الشريف المرتضى، فقد كان يعقد مجالس يفسر فيها القرآن، والحديث، واللغة على طريقة المعتزلة؛ إذ كان هو نفسه شيعيا معتزليا، وقد وصلت إلينا هذه المجموعة، وطبعت في مصر باسم «أمالي المرتضى»، فالآيات التي ذكرها فسرها تفسيرا يوافق الأصول الخمسة للمعتزلة التي ذكرناها عند الكلام على المعتزلة، كقوله تعالى:
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ، فظاهر هذه الآية يخالف ما يذهب إليه المعتزلة من حرية إرادة الإنسان، فأولها حتى لا يخرج عن مذهبهم، ومثل قوله تعالى:
خلق الإنسان من عجل ؛ لأن العجلة فعل من أفعال الإنسان، فكيف تكون مخلوقة فيه لغيره؟ ولو كان كذلك ما جاز أن ينهاهم عن الاستعجال في قوله تعالى:
سأريكم آياتي فلا تستعجلون ، فكيف ينهاهم عما خلقه فيهم؟ وأفاض في اللغة لعلمه الواسع بها، فأول مثلا
واتخذ الله إبراهيم خليلا
بأن الخليل معناه الفقير إلى رحمة الله من الخلة؛ استيحاشا من أن الله يكون خليلا لأحد من خلقه، مستدلا بقول زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة
يقول لا غائب مالي ولا حرن
أي: إن أتاه فقير.
ولكن على كل حال تعطينا هذه المدارس تفسيرا لبعض الآيات لا كلها على مذهب المعتزلة.
أما الذي يعطينا صورة كاملة، فهو تفسير الزمخشري المسمى ب «الكشاف»، فإن بلغ تفسير ابن جرير الذروة في التفسير بالمأثور، فقد بلغ الزمخشري الذروة في التفسير بالرأي.
ويمتاز تفسير الزمخشري ببيان أساليب القرآن وبلاغته، ودلاله إعجازه، وقد استطاع الزمخشري أن يفعل ذلك لتمكنه العظيم من اللغة، والأساليب العربية كما يدل عليه في كتابه «الأساس»، وتفرقته فيه بين الحقيقة والمجاز، وساعده على ذلك مكثه مدة في الحجاز، وسماعه بعض الأساليب العربية التي أثبتها في التفسير، وطال مكثه فيه، لقب «بجار الله». وكما كان متمكنا من اللغة كان متمكنا أيضا من مذهب الاعتزال؛ فأول كل الآيات التي تتصل بالأصول الخمسة كحرية إرادة الإنسان، ووجوب العدل، وتحقيق الوعد والوعيد، ووحدة الذات والصفات، إلى آخر ما يذهب إليه المعتزلة.
فمثلا يفسر قوله تعالى:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
بأن الرؤية بالفؤاد لا بالأبصار، وإذ قال القرآن:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، فظاهر الآية يدل على أن الإنسان مجبر أن يفعل المعصية، وهذا مخالف لمذهبهم، فهو يئول الآية حتى تلتئم مع مذهبهم، ومفتاح «الكشاف» قوله تعالى:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فالمحكمة هي آيات الأصول الواضحة المعنى، مثل قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، فإذا أتت آية أو آيات تدل على خلاف ذلك وجب أن تئول، فقوله تعالى:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
يفسر برضا الله، وتوقع العبد للنعمة جريا مع الآية الأولى. وقوله تعالى:
إن الله لا يأمر بالفحشاء
محكمة، فيجب أن يفسر مثل قوله تعالى:
أمرنا مترفيها ففسقوا فيها
بما ينطبق معها، حتى لا تكون هناك مناقضة. وعلى هذا النحو سار في كل تفسير، من مثل قوله تعالى:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن
فيقول: إن جعل بمعنى بين؛ لا بمعنى فعل، كقول الشاعر:
جعلنا لهم نهج الطريق فأصبحوا
على ثبت من أمرهم حيث يمموا
ويذهب الزمخشري في كثير من الآيات إلى اللجوء إلى اعتبار الآيات من قبيل المجاز، أو الاستعارة، أو التشبيه، كقوله تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها
إلخ، فيذهب إلى أن عرض الأمانة من قبيل المجاز، والأمانة هي الطاعة، وكقوله تعالى:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، فهو يقول: هذا تمثيل وتخييل.
وكذلك سلك هذا المسلك في قوله تعالى:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ، فيقول: إن أمر السماء والأرض بالإتيان، وامتثالهما أنه تعالى أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع إلخ إلخ.
وكذلك فعل في كل ما يدل على تجسيم الله كاليد، والوجه، والعرش، والاستواء، ونحو ذلك، فكلها عنده مجاز، أو استعارة لا حقيقة؛ لأن الله منزه عنها.
وكان - رحمه الله - في طبيعته قاسيا، فلم يكتف بالتفسير الذي يريده، بل قسا على مخالفيه، ورماهم بالجهل، وأحيانا بالفسق، مما ألبهم عليه، حتى لم يسلم من لسانه أحيانا أصحابه من الرد عليهم، والتسفيه لبعض آرائهم.
ومن ألطف ما فيه أنه كان لا يؤمن بالسحر، والخرافات كرؤية الجن، فلما أتت الآيات يدل ظاهرها على السحر والعين، مثل قوله تعالى:
يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ، وسورة الفلق، أول
ومن شر النفاثات في العقد
بمن يطعم شيئا ضارا، أو يسقيه، أو يشمه، أو يجوز أن يراد بهن النساء الكيادات، أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهن لهم، وعرضهن محاسنهن كأنهن يسحرنهم بذلك، ونفى نفيا باتا ما يزعمه العوام من رؤية الجن، مستندا على قوله تعالى:
إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم
إلخ إلخ.
فالحق أنه بذل في هذا التفسير مجهودا جبارا يدل على عقل كبير، ومقدرة هائلة.
ولذلك كان موضع تقدير المعتزلة، والشيعة، والسنية على السواء، غاية الأمر أن غير المعتزلة كانوا يتحرجون فقط من موضع الاعتزال التي لا تتفق ومذهبهم.
ولذلك كان ابن جرير الطبري، والزمخشري عمادي كل من أتى بعدهما من المفسرين كالبيضاوي ، وأبو السعود، والفخر الرازي، وغيرهم.
ولئن شنع عليه قوم فإنهم مع تشنيعهم يقرون بفضله اللغوي، والبلاغي، وتبيين وجوه الإعجاز.
كان بجانب هؤلاء المفسرين بالمأثور، والمفسرين بالرأي على مذهب الاعتزال قوم يفسرون بالرأي على مذهب الشيعة، من تمجيد علي ونسله، وتحقير أبي بكر وعمر وأمثالهما، ويؤولون التأويلات البعيدة في ذلك، كقولهم: إن البقرة التي أمر قوم موسى بذبحها هي عائشة، وأن الجبت والطاغوت هما معاوية، وعمرو بن العاص، إلى آخر أقوالهم من ترهات.
وذهب قوم آخرون على تفسير القرآن بالتفسير الذي يتفق مع العقل المطلق؛ فكل ما ورد في القرآن مما قد يخالف العقل أولوه، حتى ذهبوا في ذلك مذاهب غريبة، فلما رأوا مثلا أن الأطفال الذين غرقوا في الطوفان مع آبائهم لم يكونوا مذنبين قالوا: إن الله أعقم النساء قبل الطوفان، فلم تحمل منهن واحدة خمس عشرة سنة. ولما استبعدوا أن يلبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما قالوا: إن المراد بذلك شريعته لا شخصه، وفسروا خروج ناقة صالح بالحجة الدامغة، وشربها ماء العين بإبطال تلك الحجة جميع ما خالفها. وقالوا في معجزة إبراهيم - عليه السلام: إن إبراهيم سحر أعين الناس الذين أوقدوا له النار، وطرحوه فيها، وطلا جسمه ببعض الأدوية التي يبطل معها عمل النار.
وقالوا في أصحاب الفيل الذين أهلكهم الله بحجارة من سجيل: إنه أصبهم الوباء من الماء والهواء، فحصبوا، وجدروا، وأهلكوا.
وقالوا في الهدهد الذي لم يره سليمان: إنه رجل، والنمل الذي جاء في
أتوا على واد النمل
قوم ضعاف خافوا من عسكر سليمان، والجن والشياطين الذين سخروا لسليمان هم عتاة الناس وأشداؤهم، وحذاقهم، وعرفاؤهم بالأمور الغامضة، وكذلك في جميع معجزات الأنبياء، ولم يقروا لمحمد
صلى الله عليه وسلم
إلا بمعجزة القرآن.
وربما دعاهم إلى ذلك ما ذهب إليه القصاص من ولعهم بالغرائب، كالذين قال فيهم القائل: «الحديث لهم عن جمل طار أشهى إليهم من الحديث عن جمل سار، ورؤيا مرية آثر عندهم من رواية مروية» في المعجزات، وفي قصص الأنبياء، ونحو ذلك، كالذي نراه في كتاب الثعلبي النيسابوري، وتفسيره المسمى «العرائس في قصص الأنبياء»، والذي نرى مثله فيما بين أيدينا في تفسير الخازن.
وفي هذا العصر ذهب قوم إلى القول في التفسير بالوقف، قالوا: إنا رأينا في القرآن آيات تدل على الجبر، وآيات تدل على الاختيار، ولا ندري كيف يؤول بعضهم إلى الآخر، فلنقف عند حدود ذلك، وندع علمها لله تعالى، وكثير من الآيات دلت على وجهين مختلفين، واحتملت معنيين متضادين. وكان من أشهر القائلين بهذا الرأي عبيد الله بن الحسن الأنباري، وقد سئل عن أهل القدر، وأهل الجبر، فقال: كل مصيب؛ هؤلاء قوم عظموا الله، وهؤلاء قوم نزهوا الله.
وكذلك القول في الأسماء، فمن سمى الزاني مؤمنا فقد أصاب، ومن سماه كافرا فقد أصاب، ومن سماه فاسقا فقد أصاب، ومن قال منافقا فقد أصاب؛ لأن القرآن دل على كل هذه المعاني، وسميت هذه الطائفة بالوقوف، جمع واقف، كالقعود والجلوس، جمع قاعد وجالس.
وذهب قوم إلى تفسير القرآن تفسيرا صوفيا، فهم يفسرون الآيات التي تدل على مظاهر الأشياء تفسيرا يدل على النفس، أو الشيطان، أو الملائكة، أو نحو ذلك من مثل ما يذهب إليه الجنيد، وسفيان الثوري، وهكذا تشعبت الآراء، واختلفت المذاهب، وأصبحوا يخضعون القرآن للمذهب، بعد أن كانت تخضع المذاهب للقرآن.
الحديث
تضخم الحديث حين بلغ عصرنا هذا الذي نؤرخه، ودونت كتب كبيرة كالبخاري ومسلم، وأكثر منهما مسند ابن حنبل؛ وبلغ مجموع أحاديثه نحو 60000 ألفا، وهذا التضخم يرجع فيه إلى سببين: الأول: كثرة الوضع؛ فقد دخل في الحديث كثير من حكم الأمم المختلفة، واندس فيه بعض عقائد الأمم القديمة. والثاني: اجتهاد العلماء في الجمع؛ فقد كان علماء الحديث يرحلون إلى الجهات المختلفة، ويزاحمون التجار في الخانات.
وبجانب جمع الحديث نشأ حوله كثير من العلوم مثل: علم الناسخ والمنسوخ من الأحاديث، فإذا رأوا حديثا يناقض حديثا آخر، وعرف المتأخر منهما، دل ذلك على أن المتأخر ناسخ للمتقدم، ومثل علم الجرح والتعديل؛ يذكرون فيه الصفات التي تلزم المحدث حتى يكون عدلا، فإذا نقصها، أو نقص صفة منها لم يحز صفة العدل ، إلى غير ذلك من العلوم.
وفي هذا القرن الرابع ظهرت فكرة أنه يجوز الاكتفاء في رواية الحديث بما في الكتب، وقد ذكروا أن ابن منده كان خاتمة الرحالين، وعدوا ابن يونس الصفدي المتوفى سنة 347ه إماما حافظا للحديث وإن لم يرحل، وكان المحدثون يعدون أكبر العلماء شأنا، فيبجلون ويعظمون، ويغدق المال عليهم أكثر من الفقهاء والنحاة وغيرهم.
وكان لرواية الحديث مزية، وهي تقوية ذاكرة المحدثين، فكان بعضهم يحفظ الآلاف من الأحاديث بسندها مع صعوبة السند، وتشابهه، فيروون أن ابن ميسر المتوفى سنة 401ه كان عنده درج طويل طوله سبعة وثمانون ذراعا مملوء الوجهين، فيه أوائل ما يحفظه من الأحاديث، وكان قاضي الموصل المتوفى سنة 355ه يحفظ مائتي ألف حديث عن ظهر قلب، وكان بعضهم يتعبد بقراءة الحديث، فيروون أن الخطيب البغدادي قرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزي في خمسة أيام، وكان أكبر محدثي القرن الرابع أبا الحسن الدارقطني، والحاكم النيسابوري، وربما كان الحاكم هذا أعظمهما، فقد وضع مصطلحات الحديث من صحيح وحسن وضعيف، وجعل لها أصولا، ووضع لذلك أساسا بقي معمولا به إلى اليوم، وقسم الرواة إلى أنواع، وجعل الجرح والتعديل أنواعا، ولكل نوع لفظا: فأعلاها ثقة، أو متقن، أو ثبت، أو حجة، أو عدل، أو حافظ، أو ضابط؛ والثانية: صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، ويقال: إنه سبقه إلى ذلك ابن أبي حاتم المتوفى سنة 327ه، وقام العلماء بنقد الحديث، ونقد السند، وتأريخ المحدثين، والحكم عليهم أو لهم، وأصبح الجرح والتعديل مبنيين على أصول من مثل كتاب التاريخ للبخاري، ووصلوا في ذلك إلى غاية بعيدة؛ فالخطيب البغدادي المتوفى في القرن الذي بعد قرننا يحكون عنه أنه كان عالما بالرجال علما واسعا، حتى إنه ألف كتابا في رواية الآباء عن الأبناء، وآخر في رواية الصحابة عن التابعين، وربما كانت كتاب السير، والعناية بالتاريخ منشؤها عناية المحدثين برجال الحديث، حتى إن الأدباء والمؤرخين قلدوا المحدثين في ذكر السند، كما فعل أبو الفرج الأصفهاني في «الأغاني»، والطبري في تاريخه، فإنهما يذكران السند مع أن السند في الأدب ليست له قيمة كبرى، فإن الخبر الأدبي، أو القطعة الأدبية لها قيمة ذاتية، ولو لم يصح سندها.
وقد قالوا: إن الخطيب البغدادي أبان دقة فائقة على نقد الوثائق المكتوبة؛ وإثباته تزويرها، ومعرفته تواريخ حياة الرجال الذين يذكرون فيها.
ولئن كان للمحدثين محامد من ناحية الجد في الجمع والنقد، وعدم الاكتراث بالمتاعب، والصبر على الفقر، ونحو ذلك، فقد كان لهم - والحق يقال - بعض الأثر السيئ في المبالغة في الاعتماد على المنقول دون المعقول، خصوصا بعد ما مات المعتزلة؛ فقد كان المعتزلة هؤلاء حاملي لواء العقل، والمحدثون حاملي لواء النقل، وكان عقل المعتزلة يلطف من نقل المحدثين. فلما نكل بالمعتزلة على يد المتوكل، علا منهج المحدثين، وكاد العلم كله يصبح رواية، وكان نتيجة هذا ما نرى من قلة الابتكار، وتقديس عبارات المؤلفين، وإصابة المسلمين غالبا بالسقم، حتى لا تجد كتابا جديدا، أو رأيا جديدا بمعنى الكلمة، بل تكاد العقول كلها تصب في قالب واحد جامد.
واتخذت التراجم شكل تراجم المحدثين من ذكر وقائع وأحداث من غير تجديد، كالذي تراه في «الأغاني». ومن الأسف أن منهجهم ساد منهج المعتزلة وغلبهم، وكان منهج المعتزلة منهجا متينا دقيقا حتى لم يستطع أن يفر منه إلا القليل.
كما يؤخذ عليهم أنهم عنوا بالسند أكثر من عنايتهم بالمتن: فقد يكون السند مدلسا تدليسا متقنا فيقبلونه، مع أن العقل والواقع يأبيانه، مثل: «من أكل سبع بلحات عجوة، لم يصبه في ذلك اليوم سم»، ومثل: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» إلخ.
بل قد يعده بعض المحدثين صحيحا؛ لأنهم لم يجدوا فيه جرحا، ولم يسلم البخاري، ولا مسلم من ذلك، وربما لو امتحن الحديث بمحك أصول الإسلام، لم يتفق معها، وإن صح سنده.
وقد كان من بعض المحدثين من تدخل عليهم أساليب الدهاة المكرة الوضاعين؛ ولذلك قال بعضهم في بعض المحدثين: «إننا نطلب دعوته، ولا نقبل حديثه». وقد جنى منهج الحديث على كل علم آخر، فقل الابتكار في اللغة والأدب ، والنحو والصرف؛ فكانت عبارة عن حكاية أقوال المتقدمين، وإن اختلفت في شيء فيما بينها، ففي التعبير الصعب أو السهل فقط، وفي الاختصار أو التطويل فقط.
وإذا كانت للمحدثين سلطة كبرى كان من خرج على منهجهم قيد شعرة، شغب عليه، ورمي بالزندقة.
وفي التاريخ أمثلة كثيرة من هذا القبيل؛ من أولها ما ذكرنا قبل من اضطهاد المحدثين لابن جرير الطبري، وأسوأ ما في هذا أن الأمر لم يقتصر على العداء بين العلماء بعضهم مع بعض، بل اجتهد كل فريق أن يدخل العامة في الموضوع؛ ليستعين بهم في التنكيل بخصومه.
ولكن مع هذا كله لا ننسى أنه بفضلهم نقدت الوثائق الدينية نقدا دقيقا، يشبه ما يضعه علماء التاريخ اليوم.
علم الكلام
نشأ علم الكلام من الحاجة إلى الدفاع عن الإسلام أولا دفاعا مسلحا بالفلسفة، كما كان المهاجمون مسلحين بها. وثانيا: لأن المسائل كلها حتى الدين تحولت إلى علوم بعد أن كانت سائرة على الفطرة.
ولم يعدم بعض العقول أن يثيروا مسائل كانت تثار في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، والصحابة، والتابعين فتكبت، ثم نجمت فيما بعد ولم تكبت، مثل: هل صفات الله غير ذاته، أو هي هي؟ وهل الإنسان مجبور أم مختار؟ وهل مرتكب الذنوب فاسق، أو مؤمن، أو كافر؟ ونحو ذلك.
وقد دعت إثارة هذه المسائل، والتبحر فيها إلى إثارة مسائل أخرى عويصة، كالطفرة، والذرة، ونحوهما، وقد ساعد على هذا التوسع أن أمثال هذه المباحث كانت أثيرت عند اليونان، ثم نقلت إلى العربية.
وكان للمعتزلة الفضل الأكبر في علم الكلام؛ لأنهم كانوا أكبر المدافعين عن الإسلام لما كان يثيره اليهود والنصارى الوثنيون من هبوب، حتى لقد كانوا فيما روي يرسلون أتباعهم الكثيرين إلى البلدان الأخرى لرد هذا الهجوم ردا عقليا.
وذاع صيتهم، وعلا شأنهم بوجود طائفة ممتازة منهم، مثل: واصل بن عطاء، وأبي هذيل العلاف، والنظام، والجاحظ، وغيرهم، بسبب ما أثير من مسألة خلق القرآن، فقد نشأت عنه مسألة كلامية، وهي أن أهل السنة يقولون: إن لله صفات غير ذاته ، ويقول المعتزلة: إن صفات الله عين ذاته، ونشأ عن ذلك أن أهل السنة يقولون: إن لله صفة الكلام غير ذاته، وهي صفة متصلة به، والقرآن قديم بمعنى أنه كلام الله القديم، الذي كان من آثره القرآن المقروء الذي أنزل على محمد، ولم يقولوا في الأصل: إن القرآن الذي هو في المصحف قديم، وإنما القديم هو كلام الله، وإذ كان المعتزلة ينكرون أن لله كلاما غير ذاته نتج عن ذاته قولهم بخلق القرآن، ودار الجدل الطويل في ذلك على النحو الذي ذكرناه من قبل في «ضحى الإسلام».
وكانت المسائل الكلامية تدور بين الفرق الخمس التي شاعت في هذا الوقت، وهي: أهل السنة، والمعتزلة، والمرجئة، والخوارج، والشيعة، وكانت كل فرقة من هذه الفرق تنقسم إلى طوائف قد تختلف فيما بينها كثيرا أو قليلا، فإذا كان الخلاف على العقائد، وما يتصل بها فذلك علم الكلام، وإذا كان الخلاف على الفروع، وما يتصل بها، فذلك علم الفقه.
ونلاحظ أن علم الكلام أولا كان مختلطا بالفقه، وكانت هناك مسائل فقهية في ثنايا علم الكلام، ثم تحرر علم الكلام عن الفقه بفضل المعتزلة.
وأضافوا إلى المسائل الأولى التي كانت تثار مسألة الإمامة، وربما كان للشيعة أكبر دخل في ذلك؛ لأنهم كان لهم منهج مخصوص يخالف مذهب أهل السنة. ومن أهم مسائلهم مسألة القدر، وهي مأخوذة عن مذهب زاردشت؛ ولذلك يقال لهم: الثنوية، ويقول ابن حزم: «إن المعتزلة هم الذين اخترعوا لفظ الصفات»، ثم تكلم بها فيما بعد، ويصف المعتزلة بأنهم يمتازون بخصال أربع: «وهي: اللطافة، والدراية، والفسق، والسخرية»، وكانوا مولعين بالجدل، كما اشتهر بذلك الجاحظ، ومن أجل هذا سمي هذا العلم علم الكلام.
ويظهر منهجهم في الوصف الذي وصفناه للمنهج الذي اتبعه في التفسير الزمخشري كما بينا.
وكان عدوهم اللدود أهل السنة.
وكان أبو الحسن الأشعري معتزليا أولا، ثم خرج عليهم، وحاربهم بمثل سلاحهم، وأخذ من مذهبهم بعض الأشياء، ومن مذهب خصومهم بعض الأشياء، فكان مذهبا مختارا، حاول فيه أن يوفق بين العقل والنقل.
ويقول في بعض كتبه: «قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه، وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، وبما عليه أحمد بن حنبل، ونحن بأقواله قائلون، ولمن خالف قوله قوله مجانبون»، ولكن بعض كبار أهل السنة لم يرضوا عنه كل الرضا، ورأوا أن في بعض تعاليمه دسائس من أصول المعتزلة.
وقد شنع عليه في الأندلس الإمام ابن حزم، وسلقه بلسان حاد في كتابه «الملل والنحل».
الفصل الثاني
الفقه والتصوف
ذكرنا في «فجر الإسلام» وضحاه تاريخ الفقه في العصور المتقدمة، حتى إذا جاء عصرنا هذا تحول الفقه تحولا جديدا، وأكبر مظاهر هذا التحول سد باب الاجتهاد، فقد وصل الفقه إلى ذروة مجده في القرون السابقة، فلما جاء القرن أقفل العلماء باب الاجتهاد، وكان ذلك طبيعيا لحالة العصر، قال سعيد بن الحداد الفقيه القيرواني: «إن الذي أدخل كثيرا من الناس في التقليد نقص العقول، ودناءة الهمم»، وكانت وفاته سنة 330ه، وكان من نتيجة ذلك:
أولا:
اقتصارهم على النقل عمن تقدم، وانصرافهم لشرح كتب المتقدمين، وتفهمها، ثم اختصارها.
ثانيا:
جمع الفروع الكثيرة في اللفظ القليل؛ مما جنى على الفقه، وسائر العلوم.
ثالثا:
اقتصارهم على التحشية والقشور.
رابعا:
كثرة الفروض في المسائل.
وكانت هذه الحال نتيجة طبيعية للتاريخ السياسي والاجتماعي؛ فالخلفاء كانوا تحت سيطرة الأتراك حينا، وتحت سيطرة الديلم من بني بويه حينا آخر، وهؤلاء الديلم والأتراك لم يكونوا يحسنون اللغة العربية إحسان من قبلهم، وأتت بعد ذلك غارة التتار فقضت على البقية الباقية من المدنية والحضارة، وعلو الهمة.
وقد كان نشاط الفقهاء من قبل نشاطا غير محدود، فلما أغلقوا باب الاجتهاد توجه نشاطهم إلى المسائل التي ذكرناها، من اختصار لما مضى، ووقوف على أقوال الأئمة السابقين، وفرض الفروض، وخصوصا في بابي العتق والطلاق.
والسبب في ذلك أن الرقيق كان قد كثر في البيوت من نساء ورجال وأطفال، وحدثت حوادث للرقيق كثيرة، من إباق ومكاتبة، وغير ذلك، فتوسع الفقهاء في هذا الباب كثيرا، وأما الطلاق فيظهر أنه قد كثر في ذلك العصر بسبب تعداد الزوجات، وكثرة الإماء، وغيرة الحرائر من الإماء، والإماء بعضهن من بعض، فكثرت الفروض، والأحكام في هذا الباب.
وكان اللغويون أيضا يفرضون الفروض الكثيرة للتعليم، فيقولون: كيف تشتق من كذا على وزن كذا؟ فقلدهم في ذلك لفراغ ذهنهم من المسائل الكلية، مثل أن يقولوا: ما حكم من قال: أنت طالق واحدة قبلها واحدة، بعدها واحدة؟ وما حكم من قال: أنت طالق نصف تطليقة، أو ربع تطليقة؟ وهكذا من الفروض السخيفة.
ومن مظاهر الفقه في هذا العصر أيضا شيوع التعصبات المذهبية، فقد كان الأئمة أنفسهم متسامحين، وكانوا لا يعيبون اجتهاد زملائهم، وقد فهموا تمام الفهم حرية الرأي كالذي نراه في رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس، ومع ما كان يبديه الشافعي من نقد أبي حنيفة كان يقول: «الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة»، ويقول: «مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب»، ويجتهدون في التدليل عليه، ونقد أقوال خصومهم، وكل ما فعلوه أن اجتهدوا النوع الاجتهادي الوضيع الذي يسمى اجتهاد مذهب، وذلك يقضي فقط بأنه إذا روى عن الإمام روايتان، رجح الفقيه رواية أو رأيا.
ولنقص طرفا من أمثال هؤلاء، فمن أمثال ذلك: أن أبا الحسن الكرخي رئيس الحنفية بالعراق، والمتوفى سنة 340ه صنف المختصر، وشرح الجامع الصغير، والجامع الكبير لمحمد بن الحسن، أما أن يكون له رأي في مسائل جديدة يجتهد فيها، فلا، ومثل أبي الحسن القدوري، ألف المختصر المشهور، وشرح مختصر الكرخي، وصنف كتاب «التجريد»، وهو يشتمل على الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي.
ومن شدة خلافاتهم، وتعصبهم لمذهبهم، وكثرة جدالهم، نشأ علم يسمى آداب البحث والمناظرة، يقصدون منه الشروط التي يتبعها المجادل في جدله، إذا أصبح فوضى.
وقد جعل الغزالي المثل الأعلى لها في شروط ثمانية: (1)
ألا يمعن في البحث، ولا يشتغل به ما أمكن. (2)
أن الجدل فرض كفاية، فإذا رأى فرض كفاية آخر أهم منه اتجه إليه. (3)
أن يكون المناظر مجتهدا يفتي برأيه، إلا بمذهب معين، حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أيا كان ذهب إليه. (4)
ألا يناظر إلا في مسائل واقعية، أو قريبة الوقوع. (5)
أن تكون المناظرة إليه في الخلوة أحب إليه من المحافل، وبين الأكابر والسلاطين. (6)
أن يكون في طلب الحق، كناشد ضالة، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد غيره. (7)
ألا يمنع خصمه من الانتقال من دليل إلى دليل، فلا يقول: إن هذا يناقض كلامك الأول، فلا يقبل منك، فإن الرجوع إلى الحق يجب قبوله. (8)
أن يناقش من يتوقع الاستفادة منه، ولا يقصد الضعيف ليتغلب عليه.
وقال: «إن من آفة المناظرة في عصره الحسد والتكبر، والترفع على الناس، والغيبة والتجسس، والنفاق، والإصرار على الرأي مهما ظهر بطلانه» إلخ.
وربما كانت كثرة المناظرات، وتظاهر العلماء بالغلبة، وحبهم للتقرب من العظماء من الأمور التي أوجبت على الغزالي تركه لمنصبه كمدرس في المدرسة النظامية، وتزهده في دمشق.
وكان من مظاهر هذا العصر التزام مذهب بأكمله كالشافعي والحنفي في كل المسائل، وتحريم انتقاله من مذهب إلى مذهب، كأنه انتقال من دين إلى دين، كذلك من مظاهر هذا العصر ظهور مذهب الشيعة في المغرب ومصر والشام، ومحاربته للمذاهب السنية كمالك والشافعي في قسوة وجبروت، وفرض المذهب الشيعي على الناس بالقوة، وقد عاقبوا بالقتل رجلا رأوا عنده كتاب «الموطأ» لمالك، وهكذا فعلوا في المغرب، فيحكي لنا القاضي عياض في «المدارك» كيف أسرف الفاطميون في فرض المذهب الشيعي، وقتل من أباه، فيقول في ترجمة أبي بكر بن هذيل، وأبي إسحاق بن البرذون كيف سجنا وربطا في أذناب الدواب حتى ماتا لعدم إفتائهما بمذهب أهل البيت، وكذلك فهل أهل السنة فيما بعد لما تمكنوا من الشيعة، فقد قضوا على مذهبهم، وكل هذا سببه السياسة مغطاة بغطاء الدين.
ونكبة النكبات، والمصيبة العظمى ما كان من الخلاف بين الفقهاء والصوفية، فالإسلام في جوهره لم يكن يفرق بين الاثنين، بل يأمر بالأعمال الظاهرة، ويطلب إصلاح الباطن، ومراقبة الله في أدائها، يدل على ذلك قوله تعالى:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون ، فهو يطلب الصلاة، ويطلب خشوع النفس فيها، وكذلك كان يفعل الصحابة والتابعون، يؤدون الشعائر، ويحسنون النية، فلما كثر الفقهاء، وتغلغلوا في الفقه، رأيناهم يغالون في مراعاة الشعائر الظاهرة من وضوء وصلاة وزكاة، ومتى تصح، ومتى لا تصح، من غير تعرض كثير للنية، ومحاسبة الروح، ونحو ذلك من الأعمال الباطنية النفسية. ومن ناحية أخرى تغالى الصوفية في الأعمال النفسية الروحية، ولم يضغطوا ضغطا كافيا على الأعمال الظاهرة، فكان هناك فقهاء وصوفية، وعداء بين الفقه والتصوف؛ الصوفية يرمون الفقهاء بأنهم لا يعبأون إلا بالقشور من مظاهر الأمور، والفقهاء يرمون الصوفية بأنهم غلوا في أحوال الروح أكثر مما كان يعرفه الإسلام، وسموهم أهل الباطن.
هذه ناحية ومن ناحية أخرى، فقد كان هناك في مبدأ الإسلام بعض الناس يميلون إلى الزهد، إما لأنهم فشلوا في الحياة فتزهدوا، وإما لأنهم لم يجدوا ما يغتنون به فتزهدوا، وإما لأن لهم مزاجا خاصا يكره الدنيا ونعيمها، والحياة وزخرفها، فتزهدوا، وإما لأن إحساسهم رقيق، ملأ الخوف من النار نفوسهم، وخافوا أن يحاسبوا يوم القيامة حسابا عسيرا على مالهم ونعيمهم، وسمعوا قوله تعالى:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم
فتزهدوا.
وقد حكى لنا التاريخ أمثلة كثيرة من المتزهدين في صدر الإسلام، فمنهم من كان يأبى على نفسه أي نعيم، ويتمسك بقوله تعالى:
قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتق ، فكانوا يزهدون في الأكل، والنوم، والاختلاط بالناس، وسائر اللذات البدنية، كما قال القشيري: «من كان له رداء واحد خير عند الله ممن له رداءان». وكانوا يتبتلون، ويكثرون من الصبر، ويتناظرون في أيهما خير عند الله: الغني أم الفقير؟ ومنهم من تزهدوا بأشكال أخرى حتى فيما أحل الله، وقد فسر بعضهم قوله تعالى:
ثم لتسألن يومئذ عن النعيم
بشرب الماء البارد، فامتنعوا عنه خوف السؤال ... فلما جاء المتصوفة فلسفوا الزهد، وجعلوه مقامات وأقساما، فكان من زهدهم لبس الصوف الخشن كما يفعل رهبان النصارى؛ فسموا من أجل ذلك بالصوفية، وهذه النسبة هي الصحيحة، وهي التي تتفق مع اللغة، ثم إن التصوف لما كان مختلطا مع الفقه في العصر الأول كان إسلاميا بحتا، وكان الزهد طوعا للأوامر الإسلامية، وظل كذلك طول العهد الأموي، وفاتحة هذا النوع الحسن البصري، فلما دخل في الإسلام كثير من الأمم الأخرى أصحاب الديانات الأخرى كالنصارى، واليهود، والفرس، والهنود، وانتشرت الفلسفة اليونانية، والأفلاطونية الحديثة، استمد التصوف من كل هذه المنابع، فلون عند بعض الناس بالزرادشتية الفارسية، وبالمذاهب الهندية، ولون عند بعض الناس بالنصرانية، وعند بعضهم بالأفلاطونية الحديثة، ثم اختلطت هذه العناصر كلها بعضها ببعض، فكانت نزعات مختلفة، وطرق مختلفة على مدى العصور؛ فترى مثلا أن أبا يزيد البسطامي - وكان فارسي الأصل - يدخل على التصوف فكرة الفناء في الله، وأفكارا أخرى لم تكن معروفة عند المسلمين من قبل، ومعروفا الكرخي المتوفى سنة 200ه كان من أصل مسيحي فارسي، وعاش في بغداد في حي كرخ الذي ينسب إليه، يقول مثلا أقوالا لم تكن مألوفة من قبل مثل: «إن محبة الله شيء لا يكتسب بالتعلم، وإنما هي هبة من الله وفضل»، وقوله: «يعرف أولياء الله بأموال ثلاثة: أن يكون فكرهم في الله، وأن يقوموا بالله، وأن يكون شغلهم بالله»، ومما ينسب إليه أنه قال يوما لتلميذه سري السقطي: «إذا كانت لك حاجة على الله فأقسم عليه بي»، ورابعة العدوية التي يدل اسمها على أنها عربية ملأت التصوف بحب الله، وأبا سليمان الداراني المتوفى سنة 215ه يقول: «لو تمثلت المعرفة رجلا لهلك كل من نظر إليها لفرط جمالها، وحسنها، ولطفها، ولبدا كل نور ظلاما إلى بهائها»، وهكذا كان كل كبير من كبراء التصوف يدخل عليه لونا جديدا، ويصبغه صبغة جديدة، حتى لتشعبت العناصر التي تكونت منها الصوفية الإسلامية، وغمضت حتى على كبار الباحثين.
وناحية أخرى، وهي أن الفقه وسائر العلوم تعتمد أكثر ما تعتمد على العقل، وقضايا المنطق، والبراهين العقلية، أما التصوف فيعتمد على الذوق والكشف، ولا يخضع للمنطق، ولا للعقل، شأنه شأن الحب كالذي قال:
ليس يستحسن في شرع الهوى
عاشق يحسن تأليف الحجج
بني الحب على الجور فلو
أنصف المحبوب فيه لسمج
ونرى في الطبيعة أصنافا ثلاثة من الناس: قوم قويت عقولهم؛ وهم أميل إلى بحث النظريات العقلية، وهؤلاء إلى العلم أقرب، والتعلم في الجامعات أنسب، وقوم اعتمادهم على قلبهم، وإن شئت فقل على عاطفتهم أو ذوقهم، وهؤلاء للفنون الجميلة من أدب وشعر، وموسيقى، وتصوير أنسب، وقوم مزيتهم في أيديهم، وهؤلاء للصناعات أنسب، والأمة الحكيمة من تتخذ وسائل لمعرفة أبنائها، لأي شيء هم أكثر استعدادا، فتوجههم إلى ما خلقوا له.
والصوفية من النوع الثاني يعتمدون على الذوق، وعلى الكشف والإلهام، ولا يصح أن تسألهم عن الحجة العقلية فيما يقولون، بل قد تغمرهم العاطفة فيشطحون، ويتكلمون بما لا يفهمون، حتى كأنهم شعور بلا جسم ولا عقل، وعاطفة بلا تفكير، وهياج بلا رزانة، فمن عندهم هذا الاستعداد يصلحون للتصوف، وينبغون فيه بمقدار استعدادهم، أما من كبر عقله، وسار في حياته على القضايا المنطقية، فقد يكون فيلسوفا، وقد يكون طبيعيا، وقد يكون فقيها، وقد يكون كل شيء إلا أن يكون متصوفا.
ومن أجل ذلك لم أفهم إلى الآن أن يكون ابن سينا فيلسوفا ومتصوفا، فالفلسفة تعاند التصوف، وهو يعاندها، وقد قرأت رسالة لابن خلدون - العاقل في التصوف - وهي رسالة مخطوطة فلم أستحسنها، إلا لأن كاتبها ابن خلدون، ورأيت أحسن ما فيها البحث في أن سالك سبيل التصوف هل لا بد له من شيخ يأخذ عنه التصوف أو لا؟ وهو بحث عقلي لا صوفي، ومن أجل ذلك يسمي الفقهاء إدراكاتهم معرفة، ويقولون: إن ما يعلمه الفقيه والفيلسوف بالعقل نراه نحن بالكشف.
وناحية أخرى، وهي أن هناك فكرتين: فكرة يصح أن نسميها بالأثنينية، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن الخلق، يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بإمداداته، ويدبر نظام الكون من أصغره إلى أكبره، وهو فوق الأرض، وفوق السماء، وفوق كل شيء، وأن في الكون موجودين متميزين عن بعضهما كل التميز، مخلوق وخالق، ومدبر ومدبر، ومحكوم وحاكم.
أما الفكرة الثانية، فترى الواحدية - أو بعبارة أخرى - وحدة الوجود، وأن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء واحد، كما قال الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرته أبصرتني
وإذا أبصرتني أبصرتنا
وكقوله: «ما في الجبة إلا الله»، أي أن الله في كل شيء، وهو كل شيء، يظهر في المخلوقات حسب تدرجها في الرقي، فالله في الإنسان أرقى منه في الحيوان، وهو في الحيوان أرقى منه في النبات، وهكذا، وعند الأولين أن الإنسان يدرك الله بالعلم؛ وقضايا المنطق، وغاية الرقي في ذلك الفلسفة. أما عند أهل الفكرة الثانية، فإدراك الله بالمعرفة، والمعرفة تحصل بالتروض، فإذا تم التروض صفت النفس، وانطبع فيها الله. ويروى أن أبا سعيد بن أبي الخير الصوفي المشهور اجتمع بابن سينا، فلما فرغا سئل أبو سعيد عن ابن سينا فقال: ما أراه يعلمه، وسئل ابن سينا عن أبي سعيد، فقال: ما أعلمه يراه. والحكاية وإن كانت موضوعة، فإنها تدل على معنى صحيح، والناظر في القرآن يرى فيه طرفا من هذا، وطرفا من ذاك، وفي كثير منه تفرقة بين الخالق والمخلوق، وفي بعضه توحيد لهما، مثل:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، والذي عني بالفكرة الأولى الفقهاء، والذي اعتقد الثانية أغلب المتصوفة، وعلى رأسهم محيي الدين بن العربي، وسموا اجتهاد الأولين شريعة، واجتهاد الآخرين حقيقة، وسمي الفقهاء أهل شريعة، وسمي المتصوفة أهل حقيقة.
والمسلمون الأولون كانوا كالقرآن على وفاق وامتزاج بين الفكرة الأولى والثانية؛ ولكنهم فيما بعد غالى كل منهم في فكرة، فكان العداء بين الفقهاء والمتصوفة، غالى الفقهاء في أعمال الظاهر، وغالى المتصوفة في أعمال الباطن، فالفقهاء ينظرون إلى المتصوفة نظرة شذوذ وانحراف عن الدين الحق، وكذلك نظر المتصوفة إلى الفقهاء.
ونرى في التاريخ أن الأمراء كانوا ينصرون عادة الفقهاء على المتصوفة لسببين: الأول: أن التعاليم الصوفية تدعو إلى الزهد، وعدم الاهتمام بالدنيا، ولو عمت الفكرة الناس ما صلح ملك، ولا وجد من يعمل. والثاني: أن الصوفية الحقيقيين إنما يخضعون لله وحده، ويؤمنون تمام الإيمان بأن لا إله إلا الله، فلا خضوع لملك أو أمير، وهذا يغضب ذوي السلطان عادة، ففي كل موقعة ثارت بين الفقهاء والمتصوفين كان الأمراء بجانب الفقهاء، لا الصوفية، إلا من تسموا الصوفية في هذا العصر، فإنهم كانوا كالفقهاء ألعوبة في أيدي الأمراء.
وعلى العموم، فقد كانت الفكرتان متميزتين، وحاول الغزالي في أواخر القرن الخامس أن يجمع بينهما، وعلى هذا الأساس ألف كتاب «إحياء العلوم»، فدعا فيه إلى المحافظة على الشريعة الظاهرة، من صوم وصلاة وزكاة وحج، كما دعا إلى أنها لا قيمة لها ما لم تدعم بالنية الحسنة، وواجب تطهير الظاهر كما يجب تطهير الباطن، وكان له فضل كبير في إزالة العداء بين الفقهاء والصوفية. وطريقة أهل العقيدة الأولى أنهم يصلون إلى الله عن طريق الاتساع في العلم من فقه، وتفسير، وحديث، وأصول، وغير ذلك، وطريقة أهل العقيدة الثانية أنهم يصلون إلى الله عن طريق الرياضة من جوع، وأعمال شاقة، ونحو ذلك.
فإذا فعلوا هذا حدث لهم ما يسمونه الكشف، وهذا الكشف يرون به الحق، ويحدث لهم من اللذة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ تفنى نفوسهم في الله، ويتحدون بالله، وفي أول أمرهم يكون هذا الكشف عبارة عن لحظات لذيذة على فترات، ثم إنهم بالمران يسهل عليهم هذا الفناء، ومع ذلك لا يستطيعون أن يفنوا فناء تاما، ولا دائما، ما داموا على قيد الحياة، إنما يحدث ذلك لهم بالموت، وهنا نتساءل: أي الطائفتين كان أقرب إلى الدين الحق؟ وأيهما كان أنفع في الحياة الاجتماعية؟ وهو سؤال يعسر الجواب عنه، ففي الفقهاء من بلغوا الذروة في الصدق، والإخلاص، والتشريع الذي ينفع الناس كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، والطبري، وداود الظاهري، وغيرهم. ومن المتصوفة من كانوا كذلك مخلصين كالقشيري، وأبي يزيد البسطامي، ومحيي الدين بن العربي، وقد نفعوا الناس من ناحية أنهم قللوا تكالبهم على الدنيا، وضبطوا نفوسهم، وكبتوا شهواتهم، ولكن مع الأسف وجد بين هؤلاء وهؤلاء دجالون؛ فقهاء حرصوا على المظاهر، وقلوبهم هواء، إذا وضع الفقهاء المخلصون تشريعهم الجميل ، وضع هؤلاء كتب الحيل للتخلص من الواجبات، كما وجد من تعمقوا في المظاهر حتى تفهوا. وبين الصوفية أيضا من كانوا دجالين؛ همهم اللعب بالمظاهر، وانغماسهم في الذكر ومظاهره، والخرافات والأوهام. وفي الحق أن الدجل في التصوف كان أكثر من الدجل في الفقه؛ وذلك لأن طبيعة الحياة الصوفية تفتح المجال كثيرا للتخريف، فدخلوا من هذا الباب إلى التعاويذ، والأحجبة، والخرافات، واللعب بالنار، والدوسة، وغير ذلك من أوهام، وكان في دجل هؤلاء وهؤلاء شر عظيم على المسلمين، وبعد كبير عن الدين.
وقد آن الآوان لأن يتنبه المسلمون فيقضوا على الدجالين من الصنفين، ويؤيدوا المخلصين من الفريقين، إن المجتمع في حاجة إلى تشريع يواجه مشاكل الجيل الحاضر، وهذا عمل الفقهاء، وإلى ملطفين من الشر، والطمع، والتكالب على الدنيا، وهذا عمل المتصوفين، وبدون ذلك لا تقوم للمسلمين قائمة، لا قدر الله.
على كل حال كان هناك خلاف شديد بين الفقهاء والصوفية ظل يتسع قرونا، نلخصه للقارئ فيما يلي: (1)
تغلغل الفقهاء في الشعائر الظاهرة، وتغلغل الصوفية في الأعمال الباطنة. (2)
اختيار الصوفية كل حين ضربا من القول يضايق الفقهاء؛ فأبو يزيد البسطامي اخترع الفناء في الله، مما لم يدركه الفقهاء وأنكروه، ورابعة العدوية اخترعت حب الله، والفقهاء لم يرضوا عنه، وقالوا: إن الحب إنما يكون من إنسان لإنسان لا من إنسان لله، إنما الإنسان يطيع ولا يحب. وذو النون المصري اخترع المقامات والأحوال، مما كان غريبا على الفقهاء. (3)
بعض الصوفية لم يلتزموا تماما الشعائر الدينية، بل قالوا: إن من بلغ درجة الولاية تحرر من المظاهر - قد كان الصوفية الأولون يلتزمون الشريعة، ويحضون على العمل بها، ولكن أتى بعضهم أخيرا، وأراد التحرر منها، بل أشاعوا أن المعصية لا تمنع الولاية، حتى رأينا الحلاج يتهم بأنه دعا إلى عدم الحج، والاكتفاء بالحج إلى غرفة في بيته، ورأينا أبا حيان التوحيدي يؤلف رسالة يسميها «الحج العقلي»، وإن لم نرها، مع تعبنا في الحصول عليها.
وكثر من ذلك أن بعض الصوفية كانت لهم آراء غريبة، مثل: العطف على إبليس، والاعتذار عنه بأنه أبى السجود لآدم؛ لأنه كان يعلم أن السجود لغير الله لا يجوز، وأن فرعون معذور؛ لأن الله لو أراد إيمانه لآمن، فهو إذا منفذ لما أراد الله. (4)
ادعاء الصوفية أن من اتصل بالله، وبلغ الغاية في الفناء، خضع له الكون وقوانينه، وجرى على يديه خرق العادة بما يسمى «الكرامات»، مقابل ما كان للأنبياء من معجزات، والفقهاء ينكرون عليهم ذلك، ويعتقدون أن قوانين الله لا تتخلف إلا لنبي.
والذي نلاحظه أن بعض كبار الصوفية كان يأتي من الأعمال بما يعد عجائب، خصوصا في تلك الأزمان، فكان بعضهم - لرياضتهم، وحدة عواطفهم - يأتي بما نسميه نحن الآن «التنويم المغناطيسي»، وتحضير الأرواح، والتيليباتي، وغير ذلك مما سيكشف عنه العلم الحديث، ويأتي بما يأتي به بعض الناس، من إحضار الذهب من الخزائن، وفاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، إلى غير ذلك من الأشياء الخارقة للعادة.
وكانت في تلك الأيام أعجب الأعاجيب، خصوصا وأن كثيرا منهم كانوا يشتغلون بعلم الكيمياء، فيدلهم هذا العلم على أشياء تعتبر في نظر الناس إذ ذاك كرامات، مثل: دهن الجسم بمادة تمنع تأثير النار، وابتلاع النار بعد ذلك، فلا يمسهم أذى؛ ومثل مخلوطات كيماوية كانوا يخلطونها فتأتي بالعجائب، كالذي يحكى عن جابر بن حيان الملقب «بجابر الصوفي»، وكالذي يحكى عن ذي النون المصري، وعن الحلاج، بل ما يدرينا لعل بعض الكيماويين القدماء، ومنهم هؤلاء استطاعوا أن يحولوا المعادن إلى ذهب، فكانوا ينفقون على أتباعهم من غير حساب، وربما كان العلم الحديث يؤيد هذه النظرية، بعد أن ثبت أن الفرق بين ذرات الحديد، وذرات الرصاص، وذرات الذهب ليس إلا خلافا في الشحنة الكهربائية التي في كل منها؛ أما جوهر الشحنة فواحد، فإذا استطعنا أن نزيد ذرات الرصاص بما يسوي بينها وبين ذرات الذهب صار ذهبا.
والفقهاء ينكرون على الصوفية كل ذلك، ويعتقدون أن الصوفية يسيرون وراء الأوهام، ويأتون بالمخاريق، والصوفية يعتقدون في الفقهاء أنهم أهل ظاهر فقط، ويسمونهم أهل الدنيا، فاتحد الخلاف بينهم، بل من أسباب الخلاف أيضا أن الصوفية كانوا بحكم صوفيتهم متسامحين، واسعي الصدر، يرون أن النصارى واليهود، وأهل كل دين، سواء أكانوا كتابيين أو وثنيين، إنما يعبدون الله مهما اتجهوا، والمتدين منهم محب الله، وكل الأديان ليست إلا طرقا توصل إلى غاية واحدة، والخلاف بينها خلاف في الأسماء، وقد عبر عن ذلك أجمل تعبير ابن العربي في قوله:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
ويعبر عنه جلال الدين الرومي في شعر صوفي فارسي ترجمته بالعربية:
نفسي: أيها النور المشرق.
لا تنأ عني، لا تنأ عني.
حبي: أيها المنظر اللامع.
لا تنأ عني، لا تنأ عني.
انظر إلى العمامة أحكمتها فوق رأسي، بل انظر إلى زنار زرادشت حول خصري، أحمل الزنار، وأحمل المخلاة، بل أحمل النور.
فلا تنأ عني، لا تنأ عني.
مسلم أنا؛ ولكني نصراني، وبرهمي، وزرادشتي، توكلت عليك.
أيها الحق الأعلى.
فلا تنأ عني، فلا تنأ عني.
ليس لي سوى معبد واحد، مسجدا، أو كنيسة، أو بيت أصنام.
ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي.
فلا تنأ عني، لا تنأ عني، إلخ إلخ.
وللصوفية شعر جميل مملوء بالحب والغناء، وحدة العاطفة، وقوة الوجدان، ومن الأسف أنه لم يستغله الأدباء في مختاراتهم، وقد استعملوا فيه التعبيرات الدنيوية على سبيل الرمز من خمر، ونساء، وبكاء أطلال، وحب وهيام، وقطيعة ووصال إلخ. يعنون بذلك أحوالهم مع ربهم، كالذي نراه في ديوان ابن العربي «ترجمان الأشواق»، وديوان ابن الفارض.
على كل حال، اتسعت مسافة الخلاف بين الفقهاء والصوفية في كل مصر، وشنع هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء، وربما ظهرت حدة الخلاف في ثلاثة مواقف: في ذي النون المصري، وغلام الخليل، والحلاج. وسنلخص لك حالة كل موقف من هذه المواقف، فأما ذو النون فمصري من أخميم، عرف بالزهد والورع، والعزلة عن الناس في البرابي، وكان في أخميم برابي من بناء قدماء المصريين، عليها نقوش، وكتابات هيروغليفية، فكان يتجول في هذه البرابي، ويمعن في هذه الكتابة، ويزعم أنه يقرؤها، وأنه يستطيع أن يترجمها، وقد روي عنه ترجمات فعلا لبعض هذه الكتابات، ولكن لم يترجمها بناء على استكشاف حجر رشيد، ولا معرفة بالحروف الهيروغليفية، وإنما هي ترجمة ظن أو إلهام؛ ولذلك خرجت الترجمة لا تنطبق على الأصل في قليل أو كثير، ونطق بكلمات غريبة على أهل أخميم، لعلها مستمدة هي أو بضعها من آراء بلديه الصعيدي الأسيوطي أفلوطين، فمن قارنوا بعض تعاليمه بأقوال أفلوطين وجدوا بينهما شبها؛ فاتهمه أهل أخميم بالزندقة، وسافر قوم إلى الفسطاط يشكونه إلى الوالي، وكان سيد فقهاء المالكية إذ ذاك محمد بن عبد الحكم، فاستحضره، وسأله عما يقول؛ فتبينت له زندقته. ورووا عنه أنه استطاع بكيميائه أن يحول الحصى إلى أحجار كريمة، وأن يأتي بكثير من المخاريق، وكان يزعم أن ملوك مصر خافوا ذهاب العلم بالطوفان، فبنوا البرابي، وصوروا فيها كل الصناعات وصانعيها، وصوروا جميع آلات الصناعات، وأنهم أودعوا فيها كل أسرارهم، وأنه استطاع أن يعرف تلك الأسرار، ومما تعلمه ما كان عند المصريين من سحر.
على كل حال، إن ابن عبد الحكم اعتبر ذا النون زنديقا، فلما رأى ذو النون أنه قد أسيء إلى سمعته رحل إلى بلاد عديدة، ثم عاد وقد مات ابن الحكم، وحل محله غيره، وعاد الناس يتهمونه بالزندقة، وساعدهم على ذلك أن أصله قبطي نصراني، فعاد القاضي الجديد الذي حل محل ابن الحكم، وهو ابن أبي الليث يتهمه بالزندقة من جديد، ويرسله إلى الخليفة في بغداد، مكبلا بالحديد، ولكن كان هناك طائفة من المتصوفة في مصر تجمعها رابطة التصوف، وطائفة من المتصوفة في بغداد بينهم بعض موظفي بلاط الخليفة البغدادي المتوكل على الله، فاستدعاه وسمع قوله، فأعجب به، وأعاده على مصر معززا مكرما، فلم يلبث بعد ذلك أن مات. وكل هذه المتاعب كانت بسبب أعمال الفقهاء، ولو قلنا: إنه رأس كبير من رءوس المتصوفة، وأن الصوفية في بعض نواحيها مدينة كلها في مصر لتعاليم ذي النون المصري لم نبعد، فهو - كما قلنا - مبتدع المقامات والأحوال، وله أقوال كثيرة في المعرفة، وكان له تعبيرات أخذت في التعبيرات الصوفية، ككأس المحبة، وهو أول من عرف التوحيد بالمعنى الصوفي، وملأ التصوف حكما من نوع خاص ذكرها القشيري في رسالته، وفريد الدين العطار في «تذكرة الأولياء». ومن أقواله: «إن المعرفة ثلاثة أقسام: الأول: حظ مشترك بين عامة المسلمين، والثاني: معرفة خاصة بالفلاسفة والعلماء، والثالث: وهو العلم بصفات التوحيد خاص بالأولياء الذين يرون الله في قلوبهم». ولما سئل: كيف عرفت ربك؟ قال: «عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي».
وعلى الجملة فذو النون المصري شخصية كبيرة، لم تزل غامضة حتى اليوم.
وأما غلام الخليل، فكان محنة أخرى، ومظهرا آخر من مظاهر الخلاف بين الفقهاء والصوفية.
وكانت محنة عامة للصوفية، قتل فيها عدد كبير منهم، اتهم فيها الصوفية بالزندقة، وثارت العامة عليهم. والكلام على غلام الخليل، وشخصيته غامض، لم نجد فيه ما يشبع، وقد نشأ غلام الخليل هذا ببغداد، وتعلم الحديث، وكان من المتشددين فيه، يرى الوقوف في التشريع عند النقل، ولا يبيح القياس، يعظ في المساجد، ويعرف بالورع والزهد، ولم يرو عنه من الأقوال القيمة مثل ما روي عن ذي النون وأمثاله، وكل ما عرف عنه أنه كان فصيح اللسان في الوعظ، وقد يرميه بعضهم بالرياء.
وقد حرك العامة على الصوفية، فكان من أمره وأمرهم ما ذكرنا، وقتل منهم نحو نيف وسبعين صوفيا، وسيق كثير منهم إلى السجون كالجنيد، وسحنون، ويظن أن غلام الخليل نفسه هو الذي حرك العامة والسلطة عليهم، ويتهمه الصوفية بأنه حسدهم، وخاف على منزلته منهم، بل يتهمونه بأنه حرض امرأة على سحنون، وادعت أنه راودها عن نفسها، وساعد غلام الخليل في ذلك ما كان له من اتصالات شخصية برجال البلاط، وأنه كان مهرجا.
وأما الحلاج، فله قصة طويلة، ومحنة كبيرة نلخصها فيما يلي:
كان الحلاج فارسي الأصل، من بلدة في فارس تسمى البيضاء، نسب إليها البيضاوي المشهور صاحب التفسير، واسمه الحسين بن منصور الحلاج، وقد ولد سنة 244ه، ونشأ بواسط في العراق ، ويظهر أنه كان حاد المزاج، غريب الأطوار، يشبه الناس الذين عندهم «هستيريا».
بدأ في التصوف وعمره ستة عشر عاما، وتتلمذ على سهل التستري. ثم رحل إلى بغداد، وأقام بها ثمانية عشر شهرا، ثم تتلمذ على الجنيد الصوفي المشهور، ثم حج، وأقام بمكة نحو سنة.
وهناك اتهمه عمرو المكي بأنه يعارض القرآن، فلعنه، وود قتله؛ ففر من مكة، وتجرد من لباس الصوفية، ولبس المرقعة والقباء، ورحل إلى خراسان، وما وراء النهر، وظل في رحلته هذه نحو خمس سنين، ثم حج مرة ثانية، وعاد إلى بغداد، وبنى له فيها دارا، ثم رحل إلى الهند، وقال: إنه يقصد من رحلته هذه دعوة أهل الشرك إلى التوحيد، وتعلم السحر الهندي، ثم حج للمرة الثالثة، وأقام سنتين، ثم عاد إلى بغداد، ثم زار فارس، وزار بها «قم» مركز الإمامية، وادعى أنه وكيل الإمام.
وفي سنة 297ه أفتى ابن أبي داود الظاهري بكفره؛ لكلامه في الحب، ففر إلى الأهواز، واختفى بها، واتهم فيها بدعوى الألوهية، ثم تنقل بين السجون المختلفة سبع سنوات، ومع ذلك استمر في الدعوة حتى آمن به بعض شخصيات البلاد، وأخيرا استجوب، وحكم عليه بالإعدام، والتمثيل به، وإحراقه، وإلقاء ما بقي من جسده من رماد في نهر الفرات.
هذا ملخص حياته، ومنها نعلم أنه كان حيث حل يتهم بالزندقة، وكان شيعيا إماميا، ورجل رحلات كثيرة لبث الدعوة، وتبعه كثيرون يؤمنون به وبمذهبه، حتى وصلت دعوته إلى بلاط الخليفة، ولنصور للقارئ طريقة محاكمته، كما وصلت إلينا.
لقد قبض عليه أخيرا وحبس، ولكن لم يكن مضيقا عليه في الحبس، فيسمح له بأن يزار، وأن يرسل الخطابات إلى من يشاء.
وكانت محاكمته أيام الوزير حامد بن العباس، وهو الذي أوعز بمحاكمته، وكانت الدولة في أيامه مقسمة الإدارة والصبغة بين سلطات ثلاث: فالدواوين، والكتابة في يد الفرس، والخلافة، والقضاء في يد العرب، والجند، وما إليها في يد الترك، وهذه السلطات الثلاث تتعارض وتتآمر، وكل فرقة تدس لغيرها الدسائس.
على كل حال، عهد حامد بن العباس الوزير إلى أبي عمر القاضي ، وأبي جعفر بن البهلول، وغيرهما من وجوه الفقهاء بمحاكمته؛ فانعقدت الجلسة برياسة أبي عمر القاضي، ونودي على المتهم؛ وسئل الحلاج عما اتهم به من أنه إله، وأنه يحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه، وأنه يعمل ما أحب عن طريق المعجزات، فأنكر التهم، وقال: أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة؛ وإنما أنا رجل أعبد الله، وأكثر الصلاة والصوم، وفعل الخير، ولا غير، فاستحضرت الشهود.
الشاهد الأول: هل تعرف الحلاج؟ نعم، وأعرف أصحابه، وأنهم متفرقون في البلاد يدعون إليه، وإني شخصيا كنت ممن استجاب له، ثم تبين لي مخرقته ففارقته، وخرجت عن جماعته، وتقربت إلى الله بكشف أمره، وانتهت هذه الشهادة.
الشاهد الثاني امرأة يقال لها: بنت السمري، نودي عليها فظهرت امرأة حسنة العبارة، عذبة الألفاظ، جميلة الصورة، سئلت: هل تعرفين الحلاج؟
قالت: نعم! - ماذا تعرفين عنه؟ - قابلته فقال لي: قد زوجتك من سليمان ابني وهو أعز أولادي، وهو بنيسابور، وليس يخلو أن يقع بين المرأة والرجل كلام، فقد وصيته بك، فإن حدث منه شيء تنكرينه، فصومي يومك، واصعدي آخر النهار إلى السطح، وقومي على الرماد والملح الجريش، واجعلي فطرك عليهما، واستقبليني بوجهك، واذكري ما تنكرينه منه، فإني أسمع وأرى.
رئيس الجلسة :
هل شيء آخر؟
هي :
نعم، كنت نائمة ليلة، وهو قريب منى، فما أحسست إلا وقد غشيني، فانتبهت فزعة فقلت: ما هذا؟ قال: إنما جئت لأوقظك للصلاة.
رئيس الجلسة :
هل شيء آخر؟
قالت: نعم، أصبحت يوما وأنا أنزل من السطح إلى الدار، ومعي ابنته، فلما نزلنا إلى تحت حيث يرانا ونراه، قالت لي ابنته: اسجدي له، فقلت لها: أو يسجد أحد لغير الله؟ فسمع كلامي لها فقال: نعم، إله في السماء، وإله في الأرض، ودعاني إليه، وأدخل يده في كمه، وأخرجها مملوءة مسكا، فدفعه إلي، وفعل ذلك مرات؛ ثم قال: اجعلي هذا في طيبك، فإن المرأة إذا حصلت عند الرجل، احتاجت إلى الطيب، ثم أمرني أن أخلع بلاطة في زاوية الدار، فوجدت تحتها دنانير كثيرة ملء البيت، فأخذت منه شيئا.
رئيس الجلسة :
هل عندك شيء آخر؟
هي :
لا، هذا كل ما عندي، وخرجت.
أبو جعفر بن البهلول :
قاض آخر، يأمر الجنود بكبس بيته وبيوت أصحابه، فيجدون ورقا كثيرا من تعليمات، ودعوات لمذهبه لأصحابه، ورد من أصحابه عليه، وكتابات بالشفرة لا يفهمها إلا هو، ومن أرسلها إليه، وكتابات تثبت أنه يدعو إلى نوع من الحج آخر، فيكفي الرجل أن يخصص غرفة في بيته لا تلحقها النجاسات، ولا يتطرقها أحد، فإذا حضرت أيام الحج طاف حولها، وقضى من المناسك ما يقضي بمكة، وجمع ثلاثين يتيما، وأطعمهم أفخم الطعام، وتولى خدمتهم بنفسه، ثم غسل أيديهم، وكسا كل واحد قميصا؛ ودفع لكل واحد منهم سبعة دراهم، فذلك يقوم مقام الحج.
تليت هذه الورقة على الحلاج، فقال له رئيس الجلسة: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب «الإخلاص» للحسن البصري. قال له القاضي: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب «الإخلاص»، وليس فيه شيء مما ذكرت، فلما سمع الوزير من القاضي: يا حلال الدم، قال: اكتبها. فتلكأ، فألح عليه، فكتب بإحلال دمه، ومررت الورقة على سائر القضاة، فأخذوا يوقعونها، فلما رأى الحلاج ذلك قال: «ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتهموني بما يخالف عقيدتي، ومذهبي السنة، ولي كتب في الوراقين تدل على سنتي، فالله الله في دمي». ولم يزل يردد هذا القول والقضاة يوقعون، حتى كمل الكتاب، فأرسله الوزير حامد إلى الخليفة المقتدر مع رسول، وأمره بالسرعة، وعاد الجواب، وعليه توقيع من الخليفة: «إذا كانت فتوى القضاة فيه بما عرضت، فأحضره مجلس الشرطة، واضربه ألف سوط، فإن لم يمت فاقطع يديه ورجليه، ثم اضرب رقبته، وانصب رأسه، وحرق جثته».
فلما أصبح الصباح، نفذ في الحلاج كل ذلك، وحضر كثير من العامة ينظرون هذا المنظر، والحق أن الحلاج قابل هذا التعذيب كله بكل شجاعة، فلم يتأوه، ودعا بالسجادة فصلى، ورئي باشا مبتسما؛ لأنه سيقابل ربه.
وادعى بعض أصحابه أن الحلاج لم يقتل، وإنما شبه لهم، وادعى آخرون - وقد زاد الفرات هذا العام - أنه إنما زاد لإلقاء رماد الحلاج فيه.
وقد قال الحلواني: حضرت يوم قتل، وقد أخرج من السجن مقيدا مسلسلا، وهو يضحك وينشد:
نديمي غير منسوب
إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشر
ب كفعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكأس
دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الرا
ح مع التنين في الصيف
ومن أقوال الحلاج: «اللهم إنك المتجلي عن كل جهة، المتخلي من كل جهة، بحق قيامك بحقي، وبحق قيامي بحقك، وقيامي بحقك يخالف قيامك بحقي، فإن قيامي بحقك ناسوتية، وقيامك بحقي لاهوتية، وكما أن ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك، فلاهوتيتك مسئولية على ناسوتيتي، غير مماسة لها؛ وبحق قدمك على حدثي، وحق حدثي تحت قدمك أن ترزقني شكر هذه النعمة، التي أنعمت بها على، حيث غيبت أغيابي، كما كشفت لي من مطالع وجهك، وحرمت على غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرك، وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك، وتقربا إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم، لما ابتليت بما ابتليت، فلك الحمد فيما تفعل، ولك الحمد فيما تريد». ومن قوله: «اللهم أنت الواحد الذي لا يتم به عدد ناقص، والأحد الذي لا تدركه فطنة غائب، أنت في السماء إله، وفي الأرض إله، أسألك بنور وجهك الذي أضاءت به قلوب العارفين، وأظلمت منه أرواح المتمردين، وأسألك بقدسك الذي تخصصت به عن غيرك، وتفردت به عمن سواك، ألا تسرحني في ميادين الحيرة، وتنجيني من غمرات التفكر، وتوحشني عن العالم، وتؤنسني بمناجاتك، يا أرحم الراحمين، يا من استهلك المحبون فيه، واغتر الظالمون بأياديه، لا تبلغ كنه ذاتك أوهام العباد، ولا يصل إلى غاية معرفتك أهل البلاد، ولا فرق بيني وبينك إلا الإلهية والربوبية».
ووجد مرة في سوق القطيعة ببغداد باكيا يقول: «أغيثوني من الله، فإنه اختطفني مني، وليس يردني عليه، ولا أطيق مراعاة تلك الحضرة، وأخاف الهجران، والويل لمن يغيب بعد الحضور، ويهجر بعد الوصول».
وهو وإن قتل ، فلم تقتل آراؤه وأفكاره، بل زادت انتشارا، وزاد هو تعظيما.
واختلف الناس فيه اختلافا كبيرا بين مصدق ومكذب. وكان مقتله سنه 309ه.
وترك لنا كتابا غريب الاسم، غريب الموضوع، اسمه «الطواسين»، اقتبسنا منه بعض الشيء فيما مضى، والظاهر من كل هذا أن الرجل والمرأة اللذين شهدا عليه كان موعزا إليهما بالشهادة، وأن القضاة تلكئوا في الحكم عليه، فاستعجلهم الوزير حامد، ويظهر أن أكبر تهمة وجهت إليه، وسببت قتله هي تهمة «القرمطية»، فقد ثبت من أنه كان وكيلا للإمام، وغير ذلك أنه قرمطي.
والقرمطية قوم كانوا من شيعة أهل البيت، يريدون أن ينحوا الخلفاء العباسيين ومن إليهم، ويوسعوا دائرة خلافة أهل البيت، فانتشرت دعوتهم في العراق، وخراسان، وجزيرة العرب، وغير ذلك. وكم سفكوا الدماء، وخربوا البلاد من أجل ذلك، وأنشئوا لهم عاصمة في هجر، وحملوا إليها الحجر الأسود، فظل فيها نحو ثلاثين عاما، وكان مذهبهم الاقتصادي اشتراكية متطرفة، بل شيوعية، يوزعون ما حصلوا عليه من الأموال بينهم بالسوية؛ ومذهبهم السياسي الدعوة إلى المهدي والإمام المنتظر، ولا يؤمنون بخلفاء بني العباس، ودولتهم، ويستحلون دم المخالفين. فنعتقد أن هذا هو سر قتله لا غير ذلك؛ فدعوة كهذه تقض مضجع خلفاء بني العباس ووزرائهم، فلا يبعد أن يكون الخليفة العباسي، ووزيره حامد قد رتبا هذه المؤامؤة ضده، وزورا الشهود، واستحثا القضاة على قتله، وإلا فما بالهم قد تركوا الصوفية الآخرين، كالجنيد، وأبي يزيد البسطامي، وذي النون المصري من غير قتل، فهي مسألة سياسية بحتة، اتخذت شكلا دينيا لعلمهم أن الدين أفعل في الشعوب من السياسة، فكم من صوفية ادعوا وحدة الوجود فلم يلتفت إليهم، وتركوا وشأنهم، ومما لفت عامة المسلمين إليه ما تواتر عن الحلاج من إتيانه بالأعاجيب، فيظهر أنه كان له قدرة كبعض الأشخاص اليوم على استحضار ما يريد من الأشياء من أماكنها، كالذهب، والمسك، والفاكهة، وأنه كان له قدرة على التنويم المغناطيسي، وقدرة أخرى كيماوية بهر الناس بها لجهلهم بالكيمياء.
وعلى العموم، فهو شخصية قوية، كشخصية ذي النون، أو أشد منها، كان له أثر كبير في المسلمين.
وعلى الجملة، كانت هذه الحادثة مظهرا كبيرا من مظاهر الخلاف بين الفقهاء والصوفية، لقد أراد الفقهاء - وخصوصا الحنابلة - أن يقضوا على الصوفية، كما قضوا على المعتزلة من قبل، ولكن لم ينجحوا في هذه كما نجحوا في تلك لسببين:
الأول:
أن العامة انقسموا إلى قسمين: قسم يشايع الصوفية، وقسم يشغب عليهم، فلما لم يكن إجماع من العامة سلمت الصوفية.
والسبب الثاني:
أن المعتزلة أصحاب دعوة شعوبية، والعامة أبعد ما يكونون عن العقل، فناصروا أضداده، ولكن لهم مشاعر فياضة، فعطف بعضهم على الصوفية فسلموا.
وأخيرا، جاء الغزالي فأراد أن يوفق بين الفقهاء والصوفية، ويفهم الناس أن كلا منهم ضروري في الدولة، وكان هو نفسه فقيها وصوفيا، وألف في ذلك كتابه «الإحياء» كما ذكرنا، فاستطاع أن يؤلف بين القلوب، ويعطف الناس على التصوف، وهو نفسه صرح في بعض كتبه بأن الحلاج مؤمن صوفي، ولكن غلب عليه حال المتصوفة فشطح، وتكلم بكلام لم يفهمه الفقهاء المتزمتون، والله بالأسرار عليم.
وظل الصوفية يشغلون الناس بأعمالهم، وزهدهم، وذكرهم، ورقصهم، واصطلاحاتهم، من فناء في الله، وحب له، وادعاء للولاية، والتوسع فيها كل عصورهم، وكان منهم المخلصون والدجالون، واستفادت الأمة منهم، وبليت بهم.
وقد اعتزوا بشعورهم، كما اعتز الفقهاء بعلمهم، وهم لم يأنفوا من هذا الجهل، بل كان بعضهم ينصح أتباعه ومريديه بألا يقرئوا في صحيفة، وقال بعضهم:
فلو طالبوني بعلم الورق
برزت عليهم بعلم الخرق
ويقصدون بعلم الورق الذي في الكتب، وبعلم الخرق الشعور الذي يرمز إليه بلبس الصوف.
نعم، إن قليلا منهم كانوا علماء متبحرين في العلم، ولكنهم قليلون إذا قيسوا بغيرهم من الصوفية، واعتقدوا أن تصوفهم خير من فقه الفقهاء، فما هذا الفقه الذي يفرض الفروض غير الواقعية، ويستعمل الحيل للخروج من الأحكام؟ أليس النبي
صلى الله عليه وسلم
كان أميا؟ لم يتعلم من صحيفة ولا كتاب، وإنما تعلم بانفتاح قلبه، ونور بصيرته.
وكذلك كان كثير من الصحابة والتابعين، حتى كان كثير من الصوفية يكره تأليف الكتب في التصوف؛ لأن الكتابة أداة العقل، لا أداة الشعور، ومع ذلك ألف بعض المتصوفة كتبا قيمة، بقي لنا منها كتاب «قوت القلوب» لأبي طالب المكي سنة 386ه، نوه فيه بمذهب التصوف وفضله، ووصل إلينا أيضا من الكتب التي ألفت في القرن الرابع كتاب السلمي المسمى كتاب «السنن»، الذي ذهب فيه كما ذهب أبو طالب المكي إلى تأييد التصوف وفضله.
والحق أنه حول تأليف التصوف توجد عقدة لا تحل، فمن بلغ مبلغا كبيرا في التصوف صعب عليه أن يتقيد بكتابة أو كتاب، ومن تعلم واحترف الكتب لم تقو مشاعره، ونحن محتاجون إلى ذي مشاعر قوية، يصف لنا مشاعره في كتابه؛ ولذلك نرى أن كثيرا من الباحثين في التصوف، والمؤلفين فيه ينقصهم التصوف العملي، والمتصوفين البارعين في التصوف تنقصهم الكتابة فيه، والله أعلم.
وبعد: فأركان التصوف كما رأينا ثلاثة: وحدة الوجود، والفناء في الله، وحب الله؛ فأما وحدة الوجود، فحامل لوائها الحلاج، ثم محيي الدين بن العربي، ثم السهروردي، وابن الفارض، وأما الفناء في الله، فحامل لوائه أبو يزيد البسطامي، وأما حب الله، فحامل لوائه رابعة العدوية.
فأما وحدة الوجود فتتضح من قول الحلاج في «الطواسين»: «تجلى الحق لنفسه في الأزل، قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يعلم الخلق، وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديث لا كلام فيه، ولا حروف، وشاهد سبوحات ذاته في ذاته، وفي الأزل حيث كان الحق، ولا شيء معه، نظر إلى ذاته فأحبها، وأثنى على نفسه، فكان هذا تجليا لذاته في ذاته، في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف، وكل حد، وكانت هذه المحبة علة الوجود، والسبب في الكثرة الوجودية، ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلا في صورة خارجية، يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل، وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه، وهي آدم الذي جعله الله على صورته أبد الدهر، ولما خلق الله آدم على هذا النحو، عظمه ومجده، واختاره لنفسه وكان من حيث ظهور الحق في صورته فيه وبه، هو هو :
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
وأما الفناء، فيقصدون به الحال التي تتجرد فيها النفس عن رغباتها وميولها وبواعثها، بحيث تتعطل إرادتها وتموت، فإذا ماتت الإرادة الإنسانية، أصبحت النفس طوع الإرادة الإلهية، تحركها كيف تشاء، وهذا هو حب الله لها، ولكن الحب والمحبوب شيء واحد، هو جوهر النفس وباطنها، وهكذا نجد العابد والمعبود، والعاشق والمعشوق، متحدين في شخصية واحدة، يقول ابن الفارض:
كلانا مصل واحد ساجد إلى
حقيقته بالجمع فى كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري فى أدى كل ركعة
قال السراج: معنى الفناء فناء صفة النفس، وأيضا الفناء هو فناء رؤيا العبد في أفعاله لأفعاله بقيام الله له في ذلك، ويقول في موضع آخر: «هو ذهاب القلب عن حس المحسوسات، وهو يحصل تدريجا على مراحل خمس؛ الأولى: ذهاب حظه من الدنيا والآخرة بورود ذكر الله. الثانية: ذهاب حظه عن ذكر الله تعالى عند حظه بذكر الله تعالى له. الثالثة: فناء رؤية الله تعالى له حتى يبقى حظه بالله. الرابعة: ذهاب حظه من الله تعالى برؤية حظه، أي حظ الله. الخامسة: ذهاب حظه برؤية حظه لفناء الفناء، وبقاء البقاء ... إلخ إلخ».
وأما الحب، فقد روي عن رابعة العدوية أنها كانت تتوسل إلى الله ألا يحرمها مشاهدة وجهه الكريم، وجماله الأزلي، ويقول معروف الكرخي: «إن الحب منحة إلهية لا تكتسب بالتعلم»، وكان ذو النون المصري يرى أن المحبة الإلهية سر من أسرار الله، يجب ألا يذاع بين العامة، واستعملوا في الحب والفناء عبارة الشكر والوصال والهجر، ونحو ذلك.
وقد وضع متصوف هندي حديث مبادئ التصوف في عشرة أصول: (1)
لا يوجد إلا إله واحد، وهو أبدى أزلي لا إله غيره؛ ومهما تعددت الأسماء باختلاف اللغات فهو هو، يراه الصوفيون في الشمس، والنار، وفي الأصنام، وفي كل ما يعبد، بل يرونه في أشكال العالم، ومع ذلك فهم يرونه وراء هذه الأشكال «الله في كل شيء، وكل شيء في الله»، ليس الله في عقيدة تعبد، بل هو المثل الأعلى لأكمل ما يتصوره العقل، والصوفي ينسى نفسه، ويريد أن يتصل بهذا المثل. (2)
لا يوجد إلا حاكم واحد للعالم وهو الله، وهو الهادي لكل نفس، وهو الذي يخرج أصحابه من الظلمات إلى النور، وهو منبع لكل المعارف. (3)
ليس هناك إلا كتاب واحد وهو الكتاب المقدس، وهو الطبيعة المفتوحة، وهو الكتاب الذي ينير قارئه، وهو الكتاب المستغني عن اللغة، وعقلاء كل أمة في كل العصور يوقرون هذا الكتاب ويجلونه، ويعدون أنفسهم للاستفادة منهم.
وكل الكتب المقدسة من إنجيل، وتوراة، وقرآن تدل عليه، وتوجه إلى الاهتمام به.
والصوفي يرى في كل ورقة من شجرة صحيفة من ذلك الكتاب، ويراها تشتمل على نوع من الوحي إذا قرأها الإنسان، وفهمها تفتح قلبه. (4)
الأديان كلها طرق إلى الله، بعضها أرقى من بعض حسب رقي الزمان، وكلها تقود الإنسان إلى المثل الأعلى وهو الله، والأديان وإن اختلفت في الشعائر، فالغرض منها جميعها الوصول إلى الله، والصوفي كما قال ابن عربي: يرى الله في الكعبة، وفي المسجد، وفي الدير، وفي الوثن. (5)
لا يوجد إلا قانون واحد يراه الإنسان إذا أنكر ذاته، وتطلب الحق. (6)
لا توجد إلا أخوة واحدة تضم الإنسانية كلها، فليس على الأرض إلا حياة واحدة مشتركة، إن اختلفت فإنما تختلف في النظر، والإنسان متحد بغيره، في علاقات الأسرة ثم في الأمة، ثم في الإنسانية كلها، والإنسان الكامل من تخطى حدود الوطنية، وارتقى إلى الإنسانية، بل ربط نفسه بالإنسانية في الماضي، والإنسانية في الحاضر، والإنسانية في المستقبل. والصوفي يحتقر من ينظر إلى أمة غير أمته بنوع من الاحتقار؛ لأنه شريك له في الإنسانية. (7)
لا يوجد إلا قانون أخلاقي واحد، هو قانون الحب العام الذي ينبع من إنكار الذات، ويزهر بالإحسان، قد تكون هناك مبادئ أخلاقية كثيرة، ولكن أساسها واحد، هو الحب، وهذا الحب مبعث الأمل، والصبر، والاحتمال، والتسامح، وكل الفضائل، والكرم، والسماحة، والإحسان، كلها صادرة من الحب، وكل الرذائل والجرائم تنشأ عن نقص في الحب . يقولون: إن الحب أعمى، وهذا خطأ فالحب ضوء النظر؛ العين ترى ما على السطح، ولكن الحب يرى العمق.
إن النار التي لم تشتغل تماما لا ينشأ عنها إلا الدخان، ولكنها إذا اشتعلت كان منها النار والضوء، فكذلك القلب إذا أحب، أو لم يحب. (8)
لا يوجد إلا شيء واحد يستحق الثناء، وهو الجمال الذي يرفع القلب من الحضيض إلى أن يبلغ أعلى السماء، والإنسان من تحلى بنفس جميلة تحب الجميل، وهو يبتدئ بحب المادة، وينتهي بحب المعنى، يبتدئ بحب المنظور، وينتهي بحب غير المنظور. (9)
ليس هناك إلا حقيقة واحدة هي: معرفتك نفسك، كما قال الإمام علي: «اعرف نفسك تعرف ربك». (10)
إذا كانت هناك طلاق عديدة توصل إلى الله، فهناك طريق مستقيم واحد، وهو الطريق الذي تمحي فيه الأنانية والأثرة، وتسكن فيه الفضيلة والكمال، وهو الطريق الذي تمحي منه الرغبات الجسمية، والأوهام العقلية.
هذه هي المبادئ العشرة الصوفية كما شرحها أحد المتصوفة المحدثين، ترجمناها عن الإنجليزية، وإن اختلف الصوفية في شيء، ففي إمعان بعضهم في بعض المبادئ دون بعضها، وهي تعبر عن روح التصوف الحقيقي في العصور المختلفة، ولكن يعرض لنا سؤال صعب، وهو: هل المتصوف برياضته وتمرنه يرى حقائق خارجية، أو يرى أوهاما داخلية، جلبها إليه التعود، وانحراف الذهن؟
سؤال صعب، ومما يجعله أكثر صعوبة أن أغلب من تصوف لم يستطع أن يكتب، ومن لم يتصوف لم يذق، حتى يستطيع أن يصف. والذي يجعلنا أقرب إلى أن نقول: إن الصوفي يرى أشياء خارجية، إن المتصوفين في جميع الأقطار والعصور يصفون مناظر متشابهة، أو كالمتشابهة، ولو كانت الأمور قاصرة على مجرد خيالات وأوهام، لرآها كل متصوف بعينه وخده، ولم يشترك معه غيره كما هو الحال في أصحاب الكيوف.
ولذلك يفهم الصوفية بعضهم بعضا، في المشرق والمغرب، وكلهم يقول: إن اللغات تعجز عن الوصف بعد الوصول إلى حد من المعرفة، وهم يتداولون العبارة المأثورة وهي: «وهناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ».
ومن الأدلة على ذلك أن هناك بعض الصوفية الصادقين أمثال الغزالي، ومحيي الدين ابن العربي - وكانوا في حياتهم العادية صاحين واعين - يؤلفون في المسائل العلمية، كما يؤلفون في التصوف، فإذا ألفوا في الحياة العلمية كانوا صاحين متنبهين دقيقين، وإذا ألفوا في التصوف غلبهم العشق، والهيام، والرمز؛ ولو كانوا قد جنوا ما استطاعوا أن يؤلفوا في العلم، فالعقل لا يتجزأ.
على أنه والحق يقال، قد بدأ علماء النفس في العصور الحديثة يدرسون التصوف على أنه ظاهرة نفسية لها خصائصها؛ ولكن بدءوا دراستهم من عهد قريب، ولما يقطعوا أمدا بعيدا في ذلك.
الفصل الثالث
اللغة والأدب
في هذا العصر تحولت معاجم اللغة إلى جهة جديدة، على يد الجوهري صاحب «الصحاح»، ذلك أن المعاجم التي قبله كانت صعبة التناول؛ لأنها كانت مثلا ككتاب «العين»، ترتب الكلمات على حسب مخارج الحروف، مبتدئة بالعين، ولذلك سمي الخليل كتابه «العين»، ثم يذكر الكلمة، ويذكر مقلوباتها، وينص على أن هذه الكلمة مهملة لم تستعمل أو مستعملة.
وجرى ابن دريد هذا المجرى في «جمهرته»، فكان الكشف على الكلمات صعبا جدا، فأتى الجوهري صاحب «الصحاح» فرتبه على حسب حروف الهجاء، تاركا المهملات، جاعلا الحرف الأخير بابا، والحرف الأول فصلا، فسهل على الناس الكشف عن الكلمات. وجرى بعده كثير ممن ألف في معاجم اللغة مثل: «القاموس»، و«لسان العرب»، و«مختار الصحاح»، وغيرها، وأكمل الجوهري بعض ما فات بمشافهة العرب، وسماعه منهم؛ وبذلك فتح في القرن الرابع الهجري فتحا جديدا، وزاد على علماء اللغة السابقين في تحديد معنى الكلمات، والإمعان في الاشتقاق.
وقد تضخمت معاجم اللغة في هذا العصر، وما بعده لأسباب كثيرة؛ منها أن جامعي اللغة قيدوا في معاجمهم اللهجات، ولم يكتفوا بلهجة واحدة، مثل: أن يؤلف عالم معجما للغة الشعبية المصرية، فيقيد قال، وجال، وآل، كل في بابه وفصله، وكلها في الأصل كلمة واحدة، اختلف النطق بها، فقد تنطق قبيلة بكلمة، وتنطقها قبيلة أخرى بلهجة أخرى؛ فيقيدون ذلك كله.
فمثلا قبيلة تقول: أن وأخرى تقلب الهمزة عينا، فتقول في أن، عن، وفي أن ، عن، وبعض القبائل يقول شجرة، والبعض الآخر يقول: شيرة، وهكذا المعاجم مملوءة بهذا الضرب.
ومنها أن بعض القبائل كان ينطق بالكلمة مقلوبة، أو متغيرة حروفها، فيقولون في جذب، جبذ، ومنها أن الجامعين الأولين للغة كانوا يجمعون حيثما اتفق، غير منبهين في الغالب على أن هذه الكلمة تستعملها القبيلة الفلانية، والكلمة الأخرى تستعملها القبيلة الفلانية، وجرى من بعدهم على أثرهم، فبعض القبائل يستعمل كلمة البر، والبعض الآخر يستعمل كلمة القمح، وبعضهم يستعمل كلمة بئر، وبعضهم يستعمل كلمة قليب، ومن استعمل كلمة منهما لم يستعمل الأخرى، فأتى الجامعون، فجمعوا كل ذلك، مما كان نتيجته كثرة المترادفات.
ومن الأسباب توسع بعض الأعراب في المجاز، فمثلا: سموا الثياب القصار مقطعات، بل سموا كل ما يفصل ويخاط من قميص، وجباب، وسراويل مقطعات.
ثم تجوزوا فسموا الحديد المتخذ دروعا، أو سلاحا مقطعا، وقالوا: قطعت الحديد، أي صنعته دروعا، وغيرها من السلاح، كأنه ثياب، ثم تجوزوا، فسموا الأشعار القصيرة، مقطعات وهكذا، ومنها أن بعض جامعي اللغة لم يكن يتحرى في جمعه؛ بل كان يدور كل ما سمع، سواء سمع من ثقة أو غير ثقة، ولم يكونوا يتحرون تحري المحدثين، فكان بعضهم يسمع امرأة تقول قولا، وقد تكون هازلة أو غير ثقة، فيدون ما سمع، ثم يثبت ذلك في معجمه، كالذي يروي أن امرأة سئلت: كيف مطركم؟ فقال: غثنا ما شئنا: أي أنزل الله علينا من الغيث بقدر ما نشاء، ولم يسمع من غيرها غثنا بهذا المعنى، فدون ذلك في المعجم، بل قد يسمعون من صبي يلعب، أو من صبي يلثغ، فيدونون ما سمعوا، كما روي أن بعض الصبيان كانوا يلعبون بالزحلوقة وينشدون:
لمن زحلوقة زل
بها العينان تنهل
ينادي الآخر الأل
ألا حلوا ألا حلوا
فكلمة الأل بمعنى الأول، لم تسمع إلا من هؤلاء الصبيان، ومع ذلك دونت في المعاجم، بل قد عقد اللغويون بحثا فى هل يأخذون اللغة عن المجانين أو لا، فرووا أن مجنونا كان يرقص ابنته ويقول:
محكوكة العين معطاء القفا
كأنما قدت على متن الصفا
تمشي على متن شراك أعجفا
كأنما تنشر فيه مصحفا
وقد سئل فيهما الأصمعي فقال: أحسب أن ناظم البيتين نفسه لا يعرف معناهما، وسئل أبو زيد الأنصاري عنهما، فقال: إنهما لمجنون، ولا يعرف كلام المجانين إلا مجنون. وزاد الطين بلة أن بعضهم كان يأخذ اللغة من الصحف، فيصحفها، ومن أدلة ذلك مثلا: أننا نجد في القاموس المحيط كلمة: بجد، كعصفور: بزر قاطونا، ونجدها في لسان العرب بخدق، وفي المزهر بحدق، وفي أقرب الموارد يحذف، وهكذا كلمات كثيرة من هذا الطريق.
ومن غريب الأمر أن بعض جامعي اللغة يدون الأصل والتصحيف معا، فكان هذا أيضا سببا من أسباب التضخيم، ومن الأسباب كذلك تعرض المتأخرين من رجال اللغة لما ليس لهم به علم، ثم يطيلون فى ذلك، فيقول صاحب القاموس مثلا: إن الهرمين بناءان أزليان بمصر، بناهما إدريس - عليه السلام -؛ لحفظ العلوم فيهما من الطوفان، أو بناء سنان بن المشلشل، وهكذا في كثير من الأحيان يقفون موقف المؤرخ، أو الفلكي، أو النباتي، أو عالم الحيوان، أو غير ذلك، كأنهم يدعون أنهم يعلمون كل شيء، وليس هناك اختصاص.
ومما زاد تضخم معاجم اللغة انتقال اللغة من البداوة إلى الحضارة، فالحضارة غيرت معاني بعض الكلمات، ومكنت علماء اللغة من زيادة الشرح، ومن زيادة بعض الأوصاف على تعريف بعض الكلمات.
هذا إلى أن الحضارة، واتساع المملكة الإسلامية جعلهم يقفون على أنواع من النبات، والحيوان، والطعوم، وسائر مرافق العمران، وأدخل اللغويون كل ذلك في معاجمهم؛ فالعرب في الجزيرة لم يكونوا يعرفون الهرم ولا البرابي، ثم إن كل بلد مفتوح أدخل على اللغة كلمات استعملها العرب الفاتحون، وأدخلوها في لغاتهم، بل واشتقوا منها، فمثلا: لما فتح العرب مصر، عربوا كثيرا من أسماء البلدان كبنها، والفيوم، ودمنهور، والإسكندرية، وغير ذلك، وأدخلوا في اللغة من مصر كلمة بطاقة، وهي يونانية الأصل، واستعملوا منها منشار، وهي مصرية الأصل، واشتقوا منها نشر ينشر نشرا إلخ. ثم كان العلماء القياسيون كأبي علي الفارسي، وابن جني توسع في الاشتقاق كبير أدخل كلمات كثيرة لم تكن ينطق بها إلى غير ذلك.
وكان من مظاهر هذا العصر انتشار اللغة العامية بجانب اللغة الفصحى، فكان لكل إقليم إسلامي لغته، ولهجته الدارجتان.
وتميزت اللغة العامية عن الفصحى، وجرتا جنبا إلى جنب، يتكلم أكثر الناس العامية، وأقلهم اللغة الفصحى، وكان هذا التمييز واضحا في أشياء.
قلب أكثر الكلمات التي تحتوي على الصاد سينا، كصراط وسراط، وأهمها إسكان آخر الكلمات؛ لأن الإعراب الصحيح لا يتقنه إلا سكان البوادي من الأعراب، والمتمرنون على الإعراب تمرنا كبيرا، ثم من مميزاتها عدم التفريق الدقيق بين المثنى وجمع المذكر، وجمع المؤنث، ومنها قلب الضاد ظاء أحيانا، ودالا ثخينة أحيانا. وبلغ من غرابة اللغة الفصحى عندهم أنهم كانوا يدعون أمثال المتنبي متقعرا، وكان يعد فصيحا من سلم من الخطأ في مراعاة الإعراب والتصريف، وتجنب العبارات الدارجة؛ وحتى اللغة العامية ظهرت في أشعار القرن الرابع الهجري، وخصوصا لغة بغداد، لكثرة لغتها الفارسية مثل كلمة لقلق، وصوابها لقلاق، ونرى كثيرا من ذلك في شعر ابن حجاج. وساعد على انتشار اللحن عهد السلجوقيين، فإنهم لم يكونوا يحسنون الثقافة العربية، ولا الأدب العربي كما كان يحسه الأمويون من قبل.
وظاهرة أخرى أشرنا إليها من قبل، وهي: توسيع اللغة عن طريق القياس، والتوسع في الاشتقاق قياسا، وكان رافع علم هذه المدرسة أبا علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، فكان موقفهما من اللغة موقف أبي حنيفة، ومدرسته في الفقه، وقد كان كل منهما معتزليا؛ فمكنهما اعتزالهما - كما نعلم من مدرسة المعتزلة - من التحرر، وإخضاع اللغة لحكم العقل.
خرج هذان العالمان الجليلان على الناس بطريقة جديدة، تخالف طريقة الآخرين المحافظين: فقد كان المحافظون يميلون إلى السير على القديم من غير تفكير في تغييره، ولا الخروج عليه؛ يدعوهم إلى ذلك، إما خمودهم الذهني وإما حب السلامة، وما يستدعيه التجديد من التعرض للنقد، وإما إخلاصهم للقديم، وإجلالهم له عن عقيدة، وذلك شأن الحياة كلها: أحرار، ومحافظون؛ وأهل نقل، وأهل رأي، وهؤلاء أهل الرأي، من طبيعتهم أن يردوا ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص، كما فعل الفقهاء الحنيفة تماما.
وكذلك فعل الشعراء؛ فمنهم من لا يستعمل الكلمة إلا إذا ثبتت عنده في اللغة، ومنهم من يجرؤ فيبتكر الكلمة، أو يقيسها على غيرها، هذا رؤبة يخلق بعض الكلمات، كما حدثوا، وهذا بشار بن برد يرى أن العرب تصوغ فعلى من الفعل للدلالة على السرعة، فقالوا مثلا: حجلى دلالة على سرعة السير، فقال هو:
والآن أقصر عن سمية باطلي
وأشار بالوجلى علي مشير
وقال:
على الغزلى مني السلام، فربما
لهوت بها في ظل مخضلة زهر
فعابه المحافظون على ذلك، لم يسمع من العرب لا وجلى، ولا غزلى، فلم يعبأ بهما. وحكى ابن قتيبة قال: قال الخليل بن أحمد: أنشدني رجل: ترافع العز بنا فارفنععا ... فقلت: ليس هذا شيئا. فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول: تقاعس العز بنا فاقعنسسا، ولا يجوز لي ذلك؟
على كل حال جد العلماء مشكورين في جمع اللغة من أفواه العرب؛ فوقف من بعدهم فريقين: قوم يقفون عندما قال العرب، وقوم يجتهدون، فيقولون مثلا: إن العرب أحيانا كانت تخطئ، فلا يصح أن نجاريهم في خطئهم. فمثلا: إنهم عدوا بعض الحيوانات من صنف السمك لما رأوه يشبهه، ولكن علماء الحيوان بفصحهم له رأوه من ذوات الثدي، فعدوه من قبيل الخيل، لا من قبيل السمك، فكيف نجاري العرب في ذلك مع خطئهم؟ وعدوا الأجرام السماوية أجساما حية لها نفس كنفس الإنسان لما رأوا من تحركها من غير محرك؛ فلما اكتشف قانون الجذب، وتقدم العلم كشف أنها ليست بذات نفس، وإنما هي مادة جامدة كالأرض، وكانوا يعتقدون في بناء الأهرام عقائد خرافية، في من بناها ... إلخ.
وأثبتوا ذلك في معاجمهم؛ حتى أتى العلم الحديث فأبان خطأهم، وأحيانا يخطئون فيصفون الناقة بصفات الجمل حتى نقدهم بعضهم فقال: «استنوق الجمل»، وهكذا، فلماذا نقدس القديم لأنه قديم، ولا نعمل عقولنا فنصححه؟ بل ذهبوا إلى أن اللغة توقيفية، فاستنتجوا من ذلك عدم التعرض لها مهما كانت مخطئة؛ ومن هذا القبيل ما حكي عن الأصمعي، وابن الأعرابي ، وأبي زيد، فلم يكونوا يستبيحون لأنفسهم أن يقولوا كلمة أو يشتقوا اشتقاقا إلا عن سماع به؛ حتى جاء أبو علي الفارسي، فأعلن القياس، والثورة على القديم، ولعل ذلك لأنه فارسي الأب والأم، ولأنه معتزلي.
وعاصره في ذلك أبو سعيد السيرافي، وكان أبو سعيد زعيم المحافظين، وأبو علي زعيم الأحرار في اللغة؛ فكان الناس يقولون: أبو سعيد أكثر رواية، وأبو علي أكثر دراية. ومن أقوال أبي علي: لأن أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية أحب إلي من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية. وكان يقول: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، فإذا عربت كلمة أعجمية أجريت عليها أحكام الإعراب، وعددتها من كلام العرب، وأجزت الاشتقاق منها، كما عرب العرب لفظة الدرهم، واشتقوا منها درهمت الخبازي، أي صارت كالدراهم، وقالوا: رجل مدرهم: أي أكثرت دراهمه. وكان يقول: لو شاء شاعر أو ساجع أن يبني من كلمة اسما وفعلا وصفة لجاز له، ولكان ذلك من كلام العرب، وذلك نحو قولك: خرجج أكثر من دخلل، فقال له تلميذه ابن جني: أفترتجل اللغة ارتجالا؟ قال: ليس بارتجال، لكنه مقيس على كلامهم، فهو إذن من كلامهم، ثم قال: ألا ترى أنك تقول: طاب الخشكنان، فتجعله من كلام العرب، وإن لم تكن العرب تكلمت به؟ فرفعك إياه دليل على أنك أخضعته لكلام العرب.
وكان من رأيه أن الألف اللينة في الكلمة الثلاثية تكتب ألفا مطلقا، سواء كان أصلها واوا أو ياء؛ حملا للخط على اللفظ.
وجاء بعده تلميذه ابن جني فرفع لواء هذا المذهب، وكان أيضا من نسب رومي، وفاق أستاذه في الاشتقاق، وقال فيه المتنبي: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وكتابه «الخصائص» يدل على جرأته وقياسه، كما يدل على تذوقه للغة، وفهم أسرارها، ومحاولة فلسفتها؛ وقد صحب أستاذه أبا علي أربعين سنة، واستوعب علمه، وزاده تفصيلا وتعليلا وتذليلا. وقد رأى أن الفقهاء قبله وضعوا للفقه أصولا، وأن المتكلمين وضعوا لكلامهم أصولا؛ فأراد أن يضع للغة والنحو كذلك أصولا، ونجد بعض هذه الأصول في كتابه «الخصائص»؛ وكان مما وضعه أيضا الاشتقاق الكبير، وهو الذي سماه بهذا الاسم، وكان أصل الفكرة لأستاذه أبي علي، فجاء ابن جني فوسعها، وقال: إن أبا علي - رحمه الله - كان يستعين بالاشتقاق الكبير، ويخلد إليه وسماه؛ وكان يعتاده عند الضرورة، ويستريح إليه.
ويعني بالاشتقاق الكبير: حصر أصول الكلم، وتقليبها على وجوهها المختلفة، واستخراج التباديل والتوافيق منها، والمقارنة بينها في المعاني، مثل كلمة (كلم)، فتحولها إلى كمل، مكل، ملك، لكم؛ ونمعن النظر فيها لنعرف وجه الشبه بينهما، فنستخرج مثلا أن هذه الحروف إذا اجتمعت دلت على القوة؛ ونستخرج معنى القوة من كل هذه الألفاظ.
ومما يؤسف له أن مدرسة القياس هذه لم تستمر تؤتي أكلها، فذهبت مع ذهاب المعتزلة؛ لأن مدرسة المعتزلة كانت تحث على البحث، والتجربة والشك، والاستدلال العقلي، فلما ذهبت ذهبت آثارها؛ ولذلك ذهبوا إلى أن اللغة ليست توقيفية، وإنما هي اصطلاحية؛ ليحرروا أنفسهم إذا قالوا إنها توقيفية، وربما كان لاعتزال الزمخشري أيضا أثر كبير في قدرته الفائقة في البلاغة، ودراسة الأساليب، والتحرر من المنقول.
وإذا نحن سرنا على أثر هذه المدرسة استطعنا أن نكمل ما نجده من نقص في اللغة، فإذا وجدنا مصدرا لم يذكر فعله ذكرناه بالقياس، وإذا وجدنا مذكرا لم يذكر مؤنثه فكذلك؛ وإذا وجدنا فعلا لم يذكر بابه اجتهدنا في ذكر ذلك قياسا، كذلك إذا وجناهم يشتقون وزنا خاصا للدلالة على شيء، أمكننا أن نقيس عليه، فإذا وجدناهم مثلا يصوغون «فعال» للدلالة على محترم الحرفة، كنجار، وخباز، وحداد، وقفال؛ أمكننا أن نقيس عليه من أسماء أصحاب المهن التي لم يذكرها العرب، كذلك يمكننا إذا تذوقنا الذوق العربي تذوقا تاما، وعرفنا كيف كانوا يضعون الألفاظ أمكننا أن يضع العلماء مثلهم فيما هم في حاجة إليه» ... إلخ.
وعلى كل حال، فمدرسة القياس ترى أن اللغة ليست مقدسة، وأنها ملك للناس لا أن الناس ملكها، ويمكننا أن نصحح ما فيها من أخطاء، ونبين ما حصل فيها من تصحيف، ونصحح الأخطاء التي وردت في معاجم اللغة، مما ورد خطأ من تصحيف، أو من لثغة ألثغ، أو نحو ذلك.
ومن خير ما ألف في اللغة أيضا في ذلك العصر كتاب «مقاييس اللغة» لابن فارس المتوفى سنة 395ه، وقد نحا فيه نحوا جديدا، فقد استخلص من معاني الكلمة المختلفة معنى واحدا، أو معنيين، جعله أساسا للكلمة، ونص عليه، وبين أن الاشتقاقات المختلفة تدور حوله، مثال ذلك: «وجب»، قال: الواو والجيم والباء أصل واحد يدل على سقوط الشيء، ووقوعه، ثم يتفرع، يقال: وجب البيع وجوبا، حق ووقع، ووجب الميت سقط، والقتيل واجب؛ وفي الحديث: «إذا وجب فلا تبكين باكية»، إي إذا سقط.
وقال الله في النسك: «فإذا وجبت جنوبها»، قال قيس:
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم
عن السلم حتى كان أول واجب
ووجب الحائط: سقط. «وجبة»: يقولون الوجب الجبان. قال الشاعر:
طلوب الأعادي لا سلوم ولا وجب
سمي به لأنه كالساقط، ويقولون: الموجب، للناقة لا تنبعث من كثرة لحقها، وأما وجيب القلب فمن الإبدال، أصله وجيف، وهكذا، فهو كما ترى يؤول المعاني كلها إلى معنى واحد.
ونلاحظ عليه الصفاء والإيجاز، وعدم السفسطة، ولم يكتفوا بجمع الألفاظ، بل جمعوا أيضا الأساليب، كالذي نرى في كتاب «كفاية المتحفظ»، وكتاب «الألفاظ الكتابية» للهمداني، مثل: الأساليب التي تقال في لم الشعث، والتي تقال في الدلالة على الشجاعة، أو الجبن، أو نحو ذلك.
ومما فعلوه أيضا جمع الأمثال، وترتيبها حسب الحروف الأبجدية، كما فعل الميداني في كتابه «مجمع الأمثال»، وقد أخذ كل كتابه تقريبا من كتاب في الأمثال لحمزة الأصفهاني، لم يزد عليه في كل باب إلا مثلا أو ثلاثة، ولكن حظ كتابه كان أكبر من حظ حمزة.
الأدب
لو رجعنا إلى الفصل الذي كتبناه عن الحالة الاجتماعية في العصر العباسي أول هذا الكتاب، وجدنا الأدب كله بأنواعه صدى لهذه الحياة الاجتماعية، فلما أفرط الأمراء في الظلم، والاستبداد، ومصادرة الأموال، كان طبيعيا أن ينقسم الشعراء إلى قسمين: قسم يلهو معهم، وينتفع بما لهم، فيمدحهم، ويقلب سيئاتهم حسنات، وهذا هو الكثير، كالمتنبي، وأبي فراس، والناشئ ، والخالديين، وغيرهم. وقسم تمنعه نفسه من الملق، وطبعه من التقرب كأبي العلاء الكفيف، فيتخذ خطة أخرى، وهي الذم والقدح؛ وكذلك انقسم الشعر والشعراء.
وإذا كانت الحالة الاجتماعية تنقسم إلى طبقات كالتي ذكرنا، طبقة غنية كل الغنى، وطبقة فقيرة كل الفقر، وجد المستجدون الكثيرون؛ وكان منهم أدباء، ولهم لغة وطريقة، كلغة الأدباتية اليوم؛ حكاها لنا الثعالبي في «اليتيمة»، الذي له الفضل الأكبر في تاريخ أدب المائة الرابعة، ومن أظهرهم في ذلك رجل يسمى أبا دلف، كانت له طريقة خاصة في الاستجداء، وقد ذكره البديع في مقاماته؛ فكان هذا الضرب من الحياة الاجتماعية مبعثا لوجود مقامات البديع، ومقامات الحريري؛ ووجود الجواري الجميلات، وكثرة ملك اليمين، وكثرة الغلمان الأرقاء في يد الناس أوجد الغزل في المذكر والمؤنث؛ وكثرة الشراب كانت سببا لكثرة القول فيه.
وإذا كانت بيوت الأغنياء يعنى فيها بالأثاث الجميل، والرياض الفاخرة، غني الأدباء بتجميل أدبهم، بالسجع والمزواجة، وغيرهما من أنواع البديع ... إلخ إلخ.
لقد زها الأدب في هذا العصر، وانقسم الأدب إلى قسمين: نثر، وشعر، وقد قسم النثر في ذلك العصر إلى قسمين واضحين: سمي أحدهما السلطانيات، وهي المكاتبات الرسمية التي تصدر من عامل إلى عامل، أو من وزير إلى عامل، أو من خليفة إلى عمال، وهكذا؛ وقسم يسمى الإخوانيات، وهو ما يصدر من صديق إلى صديق، أو من أستاذ إلى تلميذ، أو من تلميذ في المسائل الخاصة، وقد نبغ في النوعين أول الأمر رجلان كبيران: أحدهما: أبو هلال الصابي، والثاني: أبو بكر الخوارزمي، فكلاهما كان شيخا لهذه الصناعة، وقد التزما السجع تقريبا، لسببين: الأول: دخول النصارى في الإسلام، وقد كانوا يستعملون السجع في الكنائس؛ والثاني: حبهم للطريف من الأشياء. ولا شك أن السجع أطرف من الكلام المرسل، يضاف إلى ذلك ما حدث في تاريخ كل أنواع البديع، فقد بدأ العرب في الجاهلية يستعملونه كالملح في الطعام، ثم زاد في العصر العباسي شيئا ما، ثم عم في الكتابات في عصرنا هذا.
ومن حسن الحظ أن لدينا الآن مجموعة من رسائل الصابي، والخوارزمي تقرؤها، فكأنك تنظر إلى قطعة من الزجاج المموه، أو الخشب المخروط، فأما الصابي، المتوفى سنة 384ه، فكان صابئا كلقبه، وعرضت عليه الوزارة إن أسلم فأبى، وكان يفتخر بقدرته الفائقة على الكتابة، ويقول:
وقد علم السلطان أني أمينه
وكاتبه الكافي السديد الموفق
فيمناي يمناه، ولفظي لفظه
وعيني له عين بها الدهر يرمق
ولي فقر تضحي الملوك فقيرة
إليها لدى أحداثها حين تطرق
وكل كتاباته مسجوعة، سواء كانت رسائل سلطانية أو إخوانية.
وأنا شخصيا أستسمج كتاباته، وكتابة الخوارزمي، ومن نحا نحوهما، وأرى أنها جعجعة ولا طحن، وألفاظ جوفاء، ولا معنى.
وأما الخوارزمي، فقد رحل كثيرا إلى الأقطار، وعد شيخ الأدباء، واعترفت له الأقطار المختلفة بالفضل والبلاغة، حتى جاء بديع الزمان الهمذاني، وكان شابا حدثا، والخوارزمي شيخا، فنازل الشيخ نزولا عنيفا، فانقسم الناس فريقين: فريق يحترم الخوارزمي وشيخوخته، وفريق يناصر بديع الزمان وجدته.
وأخيرا، مات الخوارزمي محزونا، وقد استطاع البديع أن يطلع على الناس بأشياء جديدة لم يكن يحسنها الخوارزمي، كالمقامات، وكتابة الرسائل التي كل حروفها معجمة أو مهملة، أو رسائل إذا قرئت من أولها إلى آخرها كانت سؤالا، وإذا قرئت من آخرها إلى أولها كانت جوابا، أو رسالة لا يوجد فيها حرف منفصل كالراء والدال، أو رسالة كل سطورها مبدوءة بالميم، أو أبيات إذا فسرت بطريقة خاصة كانت مدحا، وإذا فسرت بطريقة أخرى كانت ذما، وهكذا مما تجده في رسائله ومقاماته.
ولم يكن الشيخ الخوارزمي يعرف شيئا من ذلك، إنما كان يعرف الرسائل المألوفة المعتادة، فهزمه البديع لشبوبيته، وتفننه.
وأسوق إليك مثلا أو مثلين من الرسائل التي كانت تعجب هذا العصر، وتملؤه فخرا، مثل ما كتب الخوارزمي يصف بؤسه، وتغير الناس عليه، «وأصابني البؤس حتى لقد ركبت غير دابتي، وأكلت غير نفقتي، ونزلت بيتا بالكرا، وأكلت خبزا بسرا، ولبست الصوف في الصيف، والبردي في الخريف، وكوتبت مواجهة، وخوطبت بالكاف مشافهة، وأجلست في صف النعال، أعني أخريات الرجال، وناظرني من كان يدرس علي، وخالفني من كان يختلف إلي، وحتى لقد نشزت علي جاريتي، وحزنت علي دابتي، وتقدمني في المسير رفيقي، الذي جمعني وإياه طريقي، وحتى أني أخذت الدرهم الجيد، فصار في يدي ستوقا، وقطعت الثوب المشترى، فصار على بدني مسروقا، وسافرت في حزيران فعصفت الريح، وسد الأفق الضباب، وفقدت كل شيء ملكته غيرعرضي، الذي عهده الشيخ معي، وصبري الذي عرفه مني».
ويقول الخوارزمي أيضا وهو قول مملوء بالمبالغة، والتكرار، والحشو، ويقصد إليها على أنها طريقة متينة في الكتابة، في إحدى رسائله: «فلان أبطأ علي، فليت شعري الريح قلعته، أم الأرض ابتلعته، أم الأفعى نهشته، أم السباع افترسته، أم الغول أغوته، أم الشياطين استهوته، أم أصابته بائقة، أم أحرقته صاعقة، أم رفسته الجمال، أم اغتاله الجمال، أم انتكس من على ظهر جمل، أم تدحرج من رأس جبل، أم وقع في بير، أم انهار عليه جرف شفير، أم شلت يداه، أم قعدت رجلاه، أم ضربه الجذام، أم أصابه البرسام، أم تاه في البر، أم أغرق في البحر، أم مات من الحر، أم سال به سيل زاعب، أم وقع فيه سهم من سهام الآجال صائب، أم عمل عمل أهل لوط، فأرسلت عليه حجارة من طين منضود، مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد».
فهذه عبارات جوفاء كلها مع طولها، يريد منها أن يقول: إنه غابت عنه رسائله، وهذا خذلان من الله، لا يكون إلا مع الفراغ في الفؤاد.
والصابي والخوارزمي أثقل من البديع، وهو أخف منهما روحا، وهكذا أقرأ هذه الرسائل كلها فينقبض صدري، ولا ينطلق لساني، وأصرف في الرسالة ساعة أو ساعتين، ثم لا أخرج منها بشيء في اليدين، وزاد الطين بلة الصاحب بن عباد المعاصر لهم، فقد كان يعزل الوالي أو يوليه؛ ليحصل من ذلك على سجعة، فلما أتى بعد ذلك القاضي الفاضل، والعماد الأصفهاني تمت هذه الكارثة، كارثة التقيد بالسجع، وأنواع البديع، وأثرت هذه المدرسة في كل كتاب القرون التي أتت بعد إلى النهضة الحديثة، اتجاه كلي إلى السجع والبديع، وفراغ كلي من معنى بديع.
وهذا من غير شك أصاب العقول فلم تأت بمعنى جديد، وقلما تأتي برأي سديد.
وربما كان أرقاهم في ذلك أبا حيان التوحيدي، فقد كان يجمع إلى السجع المزاوجة، وكانت غزارة معانيه، تلطف من طريقة عصره؛ ولذلك هو في نظري آدب أهل زمانه، بل ربما كان آدب من شيخه الجاحظ؛ لأن علوم زمانه التي استوعبها كانت أكثر من علوم الجاحظ.
ولكنه مع ذلك عاش هو وأستاذه أبو سليمان المنطقي فقيرين، أما أبو سليمان فكان عوره وبرصه مانعين له من الاختلاط بالأمراء، ومساعدتهم له، إلا أعطيات قليلة، كان يمنحها إياه عضد الدولة بن بويه، لما يستنجد به في دفع أجر بيته، وما استدانه لغذائه. وكذلك فعل الوزير ابن سعدان معه. وأما أبو حيان، فيظهر أنه كان مع فضله ثقيل الروح في محضره، وإن لم يظهر ثقله في كتابته، كان يعلم مقدار فضله وعلمه، ثم يرى نفسه بائسا، ويرى تفاهة من حوله وغفلتهم، وهم متبحبحون في معيشتهم، فيأبى إلا أن يشمخ عليهم، ويقدح بلسانه الحاد في أعراضهم، فحرم من أجل ذلك، حتى كان يأكل الحشيش من الصحراء، وحتى أنه كان إذا صلى في المسجد، ابتعد عنه الناس فلا يصلون بجانبه، إلا بقالا، أو زياتا، او إسكافيا.
وفيما عداه قد عمت طريقة الخوارزمي، والصابي، وبديع الزمان، فعمت بذلك البلوى.
ومما يلاحظ في هذا العصر ما ذهب إليه الكتاب مما يشبه الكتابة اليونانية من تضمين كتبهم قصصا كثيرة، أو إشارات إلى أحداث تاريخية، كإشارة البديع إلى حكاية التاجر مع ولده، وإشارته إلى قصص أخرى مشهورة في زمنه.
ومما يلاحظ أيضا أن اللغة العامية أصبح معترفا بها، يبحث في ألفاظها وأساليبها، وينتقي منها خيرها، إلا بعض علماء كأبي العلاء المعري، فقد كان واسع الاطلاع على اللغة، مولعا بالغريب، حتى إذا كان المعنى الواحد يمكن أداؤه بعبارات واضحة، وبعبارات غامضة ذات ألفاظ غريبة اختار الثانية، كما نرى في «رسالة الغفران»، كقوله: «وا أسفي لفراق سيدي الشيخ - أدام الله عزه - أسف ساق حر، ساقه الطرب إلى الحر ، توارى بالوريقة من حر الوديقة، كأنه قينة وراء ستر، أو كبير حجب من الهتر، في عنقه طوق، كرب يفصمه الشوق، لو قدر لانتزعه باليد، من المقلد، أسفا على إلف، غادره للكمد أي حلف، أرسله فهلك نوح، فالحمائم عليه تنوح، يسمعك بالفناء، أصناف الغناء، ويظهر في الغصون، جني الوجد المصون»، وهكذا اعتادوا البدء بالكلام عن الشوق للمرسل إليه، وكتابته على هذا النوع سمجة أيضا كالنوع الأول؛ غير أنه إذا كانت سماجة أبي العلاء كلاسيكية، فسماجة البديع سماجة رومانتيكية، ولا يعذر أبو العلاء في ذلك، إلا إن كان يرمي لتعليم اللغة.
كذلك انتشر في هذا العصر كثير من القصص، فزادت ألف ليلة قصصا جديدة، ويحكون أن الجهشياري قام بتأليف كتاب على نسق ألف ليلة وليلة، اختار فيه ألف سمر من سمر العرب، وغيرهم، وكتب فيه أربعمائة وثمانين سمرة، وكان ينوي أن يجعلها ألفا، ولكن المنية عاجلته.
ومسكويه ألف كتابا في القصص اسمه «أنس الفريد»، وشاعت نوادر وحكايات كحكايات جحا، وقصة عاشق البقرة إلخ إلخ.
ومن الأسف أن طابع السجع والبديع الذي ابتلى به في الأدب في ذلك العصر ظل هو طابع الأدب العربي في العصور المتأخرة في كل فرع من فروعه إلى أن جاءت النهضة الحديثة، فقل أن نجد مبتكرا، أو داعيا إلى جديد.
ومع أنه ظهر كتاب آخرون على غير هذه الطريقة مثل: أحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، ألف كتاب «المكافأة»، وهو على نمط خير من هذا النمط، راعى فيه جزالة التعبير، وقوة التفكير، أكثر مما راعى السجع، فإن طريقته المصرية لم تقلد، وإنما قلدت الطريقة العراقية كابن العميد، وابن عباد.
الشعر
كان للشعر في هذا العصر جولة عظيمة، ونلاحظ أنه كثرت عادة المقطوعات الصغيرة في وصف طرف صغيرة، كالذي نلاحظه في ديوان المتنبي، ففيه القصائد الفخمة على النمط القديم، وفيه المقطوعات الصغيرة في وصف مزهر، أو خيمة، أو تفاحة من عنبر، أو نحو ذلك، ونقرأ «يتيمة الدهر» للثعالبي المؤلفة في هذا العصر فنجدها مملوءة بالمقطوعات، والكتاب مملوء بتراجم الشعراء في كل مصر، ولكنه مع الأسف غني بالبديع اللفظي أكثر من عنايته بالتحليل النفسي، فغلبت عليه طريقة ابن عباد، والخوارزمي، والصابي، أكثر من طريقة أحمد بن يوسف، وأبي حيان.
وهو مملوء بمثل هذه المقطعات من مثل الرجل الذي يرثي قطته في قوله:
يا هر فارقتنا ولم تعد
وأنت عندي بمنزل الولد •••
وقد اختلفوا في أنها قيلت في القط حقيقة، أو في رثاء من يخاف رثاؤه.
على كل حال، عني شعراء هذا العصر بالتشبيهات، والاستعارات أكثر مما عنوا بجدة المعنى.
وظاهرة أخرى، وهي نبوغ الصنوبري الشاعر في وصف الطبيعية، وهو أيضا من نتاج مجلس سيف الدولة، وقد توفي سنة 334ه وتغنى بذكر حلب والرقة، وكانت له بمدينة حلب حديقة حول قصر فخم غرست فيها الأزهار، فكثر تغزله فيها مثل قوله:
يا ريم قومي الآن ويحك فانظري
ما للربى قد أظهرت إعجابها
كانت محاسن وجهها محجوبة
فالآن قد كشف الربيع حجابها
ورد بدا يحكي الخدود ونرجس
يحكي العيون إذا رأت أحبابها
والسرو تحبه العيون غوانيا
قد شمرت عن سوقها أثوابها
وكأن إحداهن من نفح الصبا
خود تلاعب موهنا أترابها
لو كنت أملك للرياض صيانة
يوما، لما وطئ اللئام ترابها
وكان يعتبر النرجس ملكا للأزهار، فمن قوله:
أرأيت أحسن من عيون النرجس
أم من تلاحظهن وسط المجلس •••
وله قصائد في وصف معارك بين الأزهار.
وربما عد الصنوبري نمطا غربيا في إكثاره من وصف الطبيعة من أزهار، وسماء، وضياء، وهواء.
وثار بعض الشعراء ككشاجم على طريقته، وأتى بعده من قلده.
وكان هناك قسمان من الشعر، قسم كلاسيكي كالذي ذهب إليه المتنبي، وأبو نواس، والشريف الرضي، وقسم شعبي، وذلك مثل بعض الشعراء المكدين الطوافين كالأحنف العكبري القائل:
على أني بحمد الله
في بيت من المجد
بإخواني بني ساسا
ن أهل الجد والجد
لهم أرض خراسا
ن فقاشان إلى الهند
إلى الروم والزن
ج إلى البلغار والسند
جذارا من أعاد لهم
من الأعراب والكرد
قطعنا ذلك النه
ج بلا سيف ولا عمد
ويقول:
العنكبوت بنت بيتا على وهن
تأوي إليه وما لي مثله وطن
والخنفساء لها من جنسها سكن
وليس لي مثلها إلف ولا سكن
ومثل الشاعرين الشهيرين ابن الحجاج، وابن سكرة، فقد أكثرا من الأوراق الشعبية في صراحة من غير كناية، أو تورية في العلاقات الجنسية، والفضلات البدنية بأقبح لفظ، وأسوأ تعبير، ولا نريد أن نمثل لهما، وكان ميل الناس في ذلك العصر إلى السخافة والشهوات سببا في نتاج هذا النوع من الشعر، والإقبال عليه.
ويطول بنا القول لو أننا عددنا الشعراء الذين نبغوا في هذا العصر مع تعدد نواحيهم ونبوغهم، وربما كان أدلهم على عصره أبو العلاء، والصنوبري، والمتنبي، وابن الحجاج، والشريف الرضي، فأبو العلاء ميزته أنه متشائم مسجل لرذائل قومه وزمنه، والصنوبري ميزته إعجابه بالطبيعة، والمتنبي قوي جبار، فارس في حياته، وفارس في شعره، معتد بنفسه، طموح مسجل لأكثر أحداث زمانه، وخاصة الحروب بين الصليبين وبين سيف الدولة، والشريف الرضي يمثل العظمة الأرستقراطية، والاعتداد بالنفس، والفخر بالنسب، يقول الشعر، ويتجاهل فيه أنه عائش في المدن، فيشعر في الفروسية، والحرب، والجمال، وكرام الخيل من مثل قصيدته المشهورة التي مطلعها:
لمن الحدوب تهزهن الأينق
والركب يطفو في الشراب ويغرق
وابتكر في هذا العصر الموشحات، وخاصة في الأندلس، وهي تتكون من أدوار، كل دور منها ذو أبيات مجزأة، توحد صدورها قافية، وتوحد أعجازها قافية أخرى، مع استقلال كل دور عن الآخر في قوافي صدوره، وأعجازه، ثم يختم كل دور بالقفل مثل:
رشيقة المعاطف
كالغصن في القوام
شهدية المراشف
كالدر في النظام
دعصية الروادف
والخصر ذو انهضام
حسنها أبدع
من حسن ذياك الغزال
أكحل المدمع ... ... ... ... ... إلخ
والموشحات نتيجة لحب الأندلسيين للسمر والموسيقى، وقد ساعد على ذلك ما للطبيعة من جمال، وقد تحرر فيها أصحابها من التزام القافية؛ وللمستشرقين أبحاث كثيرة في: هل أخدت من النوع المعروف عند الإسبان «بالطروبادور»، أو الإسبان أخذوها عن العرب؟
ولم يوصل إلى كلمة نهائية بعد في هذا الموضوع، ويقول ابن خلدون: «إن أول من اخترع الموشحات رجل اسمه «مقدم بن معافر الفريري ، وكان من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، الذي عاش من سنة 507ه إلى 595ه»، ولكن رويت موشحات قبل هذا التاريخ.
ولم توضع قواعد للموشحات دقيقة، بل كان ناظموها يفهمون تقاليدها فهما عاما، حتى أتى ابن سناء الملك المصري، المولود سنة 550ه في القاهرة، وألف كتابه «دار الطراز في عمل الموشحات»، فوضح خصائصها، وعرفها بقوله: «الموشح كلام موزون على وزن مخصوص، وهو يتألف في الأكثر من سنة أقفال وخمسة أبيات، وفي الأقل من خمسة أقفال، وخمسة أبيات، والنوع الأول يقال له التام، والثاني يقال له الأقرع» مثل:
ضاق عنه الزمان
وحواه صدري
ضاحك عن جمان
سافر عن بدر
آه مما أجد
شفني ما أجد
قام بي وقعد
باطش متئد
كلما قلت قد
قال لي أين قد
ويلزم أن تكون الأقفال كلها متفقة في وزنها وقوافيها، وعدد أجزائها، وكل قافية في الموشح تسمى فقرة، وكل قفل مع البيت الذي يليه يسمى سمطا، وآخر قفل من الموشح يسمى «خرجة». ويفضل الوشاحون أن تكون الخرجة عامية؛ لأنها أظرف إلا في المديح. والموشحات صنفان: منها ما جاء على أوزان أشعار العرب، ومنها ما لم يكن على وزنها، فالأول كالموشحة التي مطلعها:
أيها الشاكي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسمع
فإنها من بحر الرمل. والقسم الثاني: ما ليس على وزن أشعار العرب، وهم يفضلون القسم الثاني على الأول. وتمتاز الموشحة باللطف، وخفة الروح، وبعضها عميق المعنى، وعند ظهورها قوبلت باستحسان في الأوساط المختلفة، واعتمد عليها في الغناء، وتمتار بالتحرر من الوزن والقافية.
فالشعر كالنثر ظل للبيئة الاجتماعية، وإن اختلف الشعراء فيها بينهم، فاختلاف يرجع إلى طبيعتهم ومزاجهم، ولكن كلا يمثل عصره أصدق تمثيل.
وقد عني بعض الأدباء بتأريخ الأدب عن طريق تراجم الأدباء في الجاهلية والإسلام، وجمعها في كل العصور، وأشهر من فعل ذلك أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني»، وهو كتاب حافل، لم يؤلف مثله قبله ولا بعده، جمع فيه من الكلام على تراجم الشعراء الجاهليين، والإسلاميين، والعباسيين ما لم يجمع من قبل؛ ولذلك استغنى به بعضهم في رحلاته وانتقالاته عن كثير من الكتب، غير أنه لم يرتبه حسب تاريخ الزمن، ولا حسب الحروف الأبجدية، وإنما رتبه حسب الأصوات، فإذا جاء صوت ترجم لصاحبه، وبين نغمته، وطريقة غنائه، وأصل الكتاب أن الأغاني كانت قد جمعت، فأمر الرشيد باختيار مائة صوت منها، أي مائة دور، فجمعت له، فلما جاء الواثق أمر أن يختار له منها خيرها، وأن يبدل ما لم يستحسن بما هو أعلى منه، وأولى بالاختيار، وجاء من بعده ففعلوا هذا الفعل، فجمع أبو الفرج كل ذلك مبتدئا بأصوات الرشيد، وقد استرد في الأخبار حسب عادة المؤلفين في هذا العصر، وكان عالما بالغناء من بيت أدب وغناء، عالما بأيام العرب وأخبارهم، مما روي عن كثير من الثقات، ومما قرأ الكتب الموثوق بها، وقد كان قراء للكتب.
وأسند كل خبر لصاحبه ممن روى عنهم، أو من الكتب التي أخذ منها، ويظهر أنه كان ثقة فيما ينقل، يتحرى الأخبار، ولا يأخذ إلا ما صح عنده، وفي الكتاب نقد لكثير من الروايات مما يدل على علمه بالنقد، إما لأن الراوي ليس بثقة، وإما لأن الأحداث التي رويت لا تتناسب مع الزمان والمكان والبيئة. وكان قوي النقد صحيحه، فليس يضع من شأن الشاعر عنده أن يكون سيئ السيرة، فاسد الخلق، وضيع النسب، بل يقيسه بالمقياس الفني وحده، وليس يؤثر عليه تشيعه، ولا أمويته، بل لا يمنعه ذلك من أن يقول الحق كل الحق، سواء كان القائل سنيا أو شيعيا؛ ولذلك كان الكتاب مصدرا تاريخيا يستدل منه على الأحوال الاجتماعية فى الجاهلية والإسلام، بل هو فى هذه الناحية أحسن من كتب التاريخ؛ إذ هي تعتمد على أخبار الخلفاء والأمراء الرسمية فقط، أما حالتهم الاجتماعية، وحالة الشعب من لهو وترف وغناء، وما إلى ذلك، فنستنبطها من «الأغانى» وأخباره، لا من كتب التاريخ.
وقد ذكر أنه ألفه لرئيس من رؤسائه، والظاهر أن هذا الرئيس هو الوزير المهلبي: فإنه كان يتصل به، ويؤاكله، ويحادثه، ويسمر عنده، ويروي الأخبار الأدبية له .
وعلى كل حال، فهذا الكتاب الذى ألف في القرن الرابع الهجري كان مصدرا لكل المؤلفين الذين جاءوا بعده، وقد بذل المعاصرون جهودا جبارة في تعرف النغمات التي ينص عليها في كتابه، ويحكي هيئاتها ليمكن ينتفع بالأصوات التي وردت فيها.
واعتمد عليه المستشرقون والشرقيون على السواء، وعلى الإجمال فهو نعمة من نعم القرن الرابع على الأدب.
وهناك نوع من الأدب لا بد أن نشير إليه مما نما فى هذا العصر، وهو النقد الأدبي.
وربما يمثله خير تمثيل أبو هلال العسكري، وقدامه، وابن رشيق، فأما أبو هلال العسكري فقد خلف لنا كتاب «الصناعتين»، ويعني بالصناعتين: صناعة النظم، والنثر، وقد سبقه إلى ذلك من غير شك بعض الكتاب، كابن سلام، وابن قتيبة.
وربما عدت كتابته في نقده من أحسن الأساليب وأرقاها، يسجع، ولكن لا يلتزم السجع، ويمتاز بالوضوح، ولكنه قد يجور في أحكامه النقدية؛ فهو يتحامل على المتنبي، ويفحص بإمعان عن مساويه، ولا يعلن محامده.
ومما ساعده على نقده معرفته الشعر، ومعالجته له؛ فهو كتاب أدب ونقد معا، وربما عد من عيوبه جنوحه إلى أن البلاغة في اللفظ دون المعنى، متبعا في ذلك نظرية الجاحظ؛ وهم يعللون ذلك تعليلا سخيفا بأن المعاني ملقاة في الطريق، كتشبيه الشجاع بالليث، والكريم بالغيث، أو نحو ذلك، كأن هذه هي كل المعاني، مع أن المشاهد أن المعاني يصعب العثور عليها، ويختلف الناس فيها، وربما كان متأثرا في ذلك بأساليب أهل زمانه، ككلام الصابئ، وابن عباد، والخوارزمي.
وعلى العموم، فقد تقدم النقد خطوة جديدة، فقد كان له لفتات طيبة مثل التفاته إلى التفرقة بين السهولة والليونة، فقد يكون الكلام جزلا، وهو مع ذلك ساحر، على كثير من مثل هذه النظرات؛ وهو فى نظراته يطبقها بأمثلة عديدة تركز المعنى الذي يريده.
وأما قدامة، فقد ألف كتابا في نقد الشعر، وكتابا آخر في نقد النثر؛ وهو يرينا فيهما مقدار تأثر علماء الأدب في ذلك العصر بالفلسفة اليونانية، والأدب اليوناني، وكثيرا ما ينحو منحاهم، في التقسيم والتجويف والتحديد، ولكنه دون أبي هلال العسكري في حسن التعبير، ورشاقة الأسلوب، وتغلب عليه عجمة الفلسفة ، وقد يكون أغزر علما، ولكنه أردأ تعبيرا.
وأما ابن رشيق، فهو مغربي الأصل، ألف كتابه «العمدة» يصف فيه الشعر، وأصول جودته، ويخالف أبا الهلال والجاحظ في أن عمدة البلاغة على اللفظ دون المعنى، بل يجعل البلاغة في إجادتهما معا، ويجدد فصولا، ويشعب البلاغة إلى نواح، لا نعلم أن أحدا سبقه إليها من قبل.
وهناك كتب أخرى في النقد، كالوساطة بين المتنبي وخصومه، والآمدي والمرزباني، لا نطيل في وصفها.
على كل حال، كان هذا العصر غنيا - كما ترى - بالأدب الخالص، وبالنقد الأدبي؛ وربما لم يساوه في ذلك عصر من العصور.
ومما يلاحظ أن النقد كان يتبع الأدب، ولم يفتح له أبوابا جديدة؛ فالأدب إن كان قد غرق في المحسنات اللفظية، فإنا نرى النقد يشيد بهذه المحسنات، ولم ينصحه بأن يقلل منها. والأدب اتجه إلى العناية بالألفاظ أكثر من العناية بالمعاني، فوجدنا النقد يخدم هذه الفكرة، وكان على النقاد ألا يقيسوا الأدب بمقياس عصرهم، بل يسمو عن عصرهم، بتصور المثل الأعلى للأدب.
وعلى الجملة، فقد كان النقاد مسوقين بالأدب لا قادة له، وربما كان ذلك في أكثر العصور شرقا وغربا، وكان من أحسن ما عملوه، واتجهوا إليه الوقوف عند كل بيت أو قصيدة، وذكر من قال هذا المعنى قبل الشعر، ومن كان أجود، ومن كان أردأ، ومن أين أتت الجودة، ومن أين أتت الرداءة؛ ولذلك كان من أكبر موضوعاتهم السرقات الشعرية، وادعاء أن فلانا سرق المعنى من فلان، وهو تهجم فظيع؛ لأن ادعاء سرعة المعاني صعب إثباته، فقد يكون هناك توارد في الأفكار.
نعم، إذا كان لفظ البيت كلفظ البيت، أو الشطر كالشطر سهل ادعاء السرقة، أما إذا اختلفت الألفاظ فمن الصعب ادعاء ذلك، والذي يلاحظ أيضا أن النقاد في أكثر ما اتجهوا إليه نظروا إلى الجزئيات دون الكليات، شأنهم في الفقه، فهم بدل أن يقرروا قاعدة في البيع مثلا، يذكرون صفة بيع جزئي لتستنتج منه القاعدة، وكذلك في الأدب، يذكرون بيتا وأقرانه، أما تعرضهم مثلا لأصول الأدب، وبم يرقى أدب عن أدب؟ وأنواع النثر، وأنواع الشعر، والشروط اللازمة في كل نوع، فقليل نادر في كتبهم، وحتى إذا أرادوا أن يقارنوا بين شاعر وشاعر كما فعل الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري، فالمنهج الصحيح أن يقوم كل شاعر في شعره، ومزاياه على العموم وعيوبه، أما أن يقارن بين بيت من هذا وبيت من ذاك في معنى واحد، أو قصيدة لهذا أو قصيدة لذاك فنظرة جزئية، لا تسلم إلى الحكم الصحيح.
ونوع آخر من الأدب يقدمه لنا قابوس بن وشمكير، ذلك أنه كان ملكا لجرجان وطبرستان، ولئن كان سيف الدولة ملكا بدويا عربيا فقابوس هذا ملك فارسي متحضر، وكما أن الملك تعجبه الطرف، والأشياء الأنيقة، فكذلك كان قابوس تعجبه الطرف الأدبية، ويهديه الشعراء من طرفهم، وينشد هو طرفا.
كان كما ذكرنا ملكا، فأزاله عضد الدولة عن ملكه، فبكى ملكه كثيرا، كما بكى ملكه ابن عباد، لما زال ملكه عن الأندلس، ومن قول قابوس:
لئن زال أملاكي وفات ذخائري
وأصبح جمعي في ضمان التفرق
فقد بقيت لي همة ما وراءها
منال لراج أو بلوغ لمرتقي
ولي نفس حر تكره الضيم مركبا
وتكره ورد المنهل المترنق
فإن تلفت نفسي فلله درها
وإن بلغت ما أرتجيه فأخلق
وكذلك له النثر البديع المصنوع صنعة دقيقة، وقد قال القول البديع بالفارسية والعربية، وله نصائح غالية لابنه. ومن قوله: «أمن صخر تدمر قلبه، فليس يلينه العتاب، أم من الحديد جانبه، فلا يميله الإعتاب، أم من صفاقة الدهر مجن نبوه، فقد نبا عنه غرب كل حجاج، أم من قساوته مزاج إبائه، فقد أبى على كل علاج»، وهو أسلوب مبالغ في زينته على نمط كلام ابن عباد، وابن العميد، فإن كان له شيء جديد، فهو تقدمه في البلاغة خطوة بالإمعان في السجع، والاستعارات، والمجازات، وقد طبعت له رسائل في مصر تدل على ما نقول.
وظهر في هذا العصر ابن نباتة، وكانت له الخطب الرنانة، ولكن من المؤسف أنه كان متجها إلى الخطابة الدينية السياسية والاجتماعية؛ ذلك لأن العصر ثارت فيه العواطف الدينية أكثر من غيره، فقد كانت الحروب الصليبية على أشدها بين سيف الدولة والصليبيين، ورجال الدين من الجانبين يشعلون نيران العواطف، فكان ابن نباتة من هذا القبيل.
لئن قال المتنبي، وأبو فراس، وغيرهما في وصف هذه الحروب وصفا أدبيا، فقد كان ابن نباته يجعل وظيفته إثارة البواعث للقيام بهذه الحروب، ودفع إغارة الصليبيين.
أما الخطابة السياسية والاجتماعية فلم تثر الخطباء، إنما تبادل الأدباء الرسائل أكثر مما تبادلوا الخطب، فنجد الرسائل المتبادلة بين المعري، وداعي الدعاة، وبين كثير من رجال الشيعة والسنية، ولعل سبب ذلك أن النزاع بين هذه الطوائف من شيعة وسنية، ومن فقهاء وصوفية، ومن معتزلة كلها تحتاج إلى عقل كبير؛ وهذه أنسب لها الرسائل، أما العاطفية الدينية، وإثارتها فأنسب لها الخطب.
الفصل الرابع
النحو والصرف والبلاغة
شهد القرن الثاني معركة كبيرة في النحو والصرف بين مذهب البصريين والكوفيين. ويرجع أكثر الخلاف إلى البيئة التي كانت حول البصرة والكوفة، ثم شهد القرن الثالث الهجري امتزاج المذهب البصري بالمذهب الكوفي، وظهور منتخب من المذهبين، وشهد القرن الرابع تمام هذا الامتزاج.
والحق أن كتاب سيبويه في النحو والصرف كان من القوة بحيث كان المرجع في العالم الإسلامي من تاريخ تأليفه إلى اليوم، وكل ما فعله الناس أنهم شرحوا غامضا أو اختصروا مطولا، أو بسطوا معضلا، أما الأسس التي بني عليها الكتاب فبقيت كما هي في النحو والصرف إلى اليوم، من عهد شرح الصيرافي لكتاب سيبويه، إلى النحو الواضح للمرحوم الجارم بك، فمثلا: ظل النحو طول حياته متأثرا بنظرية العامل، فالفاعل مرفوع بالفعل، والمفعول به منصوب بالفعل، وإذا لم يكن هناك عامل ظاهر قدر هناك عامل مستتر، مثل: «إذا السماء انشقت»، وألجأهم إلى ذلك ادعاؤهم أن الفاعل لا يتقدم الفعل، فلا يمكن أن يكون السماء فاعلا لانشقت الآتية، وادعاؤهم أيضا أن إذا لا تدخل إلا على جملة فعلية.
ولم يشذ عن ذلك فيما نعلم إلا ابن مضاء الأندلسي الذي أنكر نظرية العامل.
وكان من أوائل النحويين الذين لهم أثر كبير في النحو بمعنى الشرح والتفسير الزجاج، وكانت حياته صورة مصغرة لعصره؛ فمثلا: كان يخرط الزجاج، ومن أجل ذلك سمي بالزجاج، وكان يكسب في اليوم دينارا، وكسرا من دينار، فحبب إليه النحو، واتصل بالمبرد؛ وكان المبرد هذا لا يعلم النحو إلا بأجر، ولا يعلم بالأجر إلا بمقداره؛ فمن أعطاه درهما علمه بدرهم، ومن اعطاه درهمين علمه بهما، وهكذا.
فاتصل به الزجاج، وقاوله على أن يعلمه كل يوم بدرهم، ووفى له بذلك، فكل يوم يعطيه درهما، وكل يووم يتعلم منه بمقداره، فلما شدا في ذلك طلب هو أن يعلم أيضا، فأراد أن يحصل ما صرف. وكان المبرد يرشحه لذلك أيضا، وشاء القدر أن يعلم شابا اسمه القاسم ابن عبيد الله، فرأى فيه مخايل الأرستقراطية، فقال له: أتنذر إن أصبحت وزيرا أن تعطيني عشرين ألف دينار؟ فوعده بذلك.
ثم شاء القدر أن يصبح وزيرا للمعتضد؛ ولكن عز عليه أن يعطيه المبلغ من جيبه، فعينه آخذا لعرائض الناس، وعرضها عليه، ومعنى ذلك: أن العرائض التي تقدم للوزير يأخذها الزجاج، وهو الذي يعرضها على الوزير، وجعل له من الطالبين أو مقدمي العرائض مبلغا بنسبة ما يكسبه صاحب الشأن من كل عريضة؛ فهذا يدفع مائة، وهذا يدفع ألفا، ومعنى ذلك: أن القاسم بن عبيد الله أباح له الرشوة الرسمية، وعرف من أجل ذلك بالجاه، وقربه من الوزير؛ فأخذ الناس يقبلون عليه لقضاء حوائجهم في نظير «جعل»، حتى حصل بذلك أكثر من العشرين ألفا، ولما امتنع بعد ذلك طلب منه أن يستمر في عمله، ولا بأس أن يكسب أكثر مما كسب، وهي حادثة تدل على فساد العصر.
وإلى ذلك العصر لم تكن العلوم - وخصوصا اللغوية - متميزة التميز الدقيق على النحو الذي نراه في كتاب «الكامل» للمبرد؛ فنحو وصرف بجانب بلاغة، بجانب كلام في إعجاز القرآن إلخ، ولذلك نراهم يؤلفون في معاني القرآن، والاشتقاق ككتاب «فعلت وأفعلت»، وكتاب «خلق الإنسان»، و«خلق الفرس»، و«شرح أبيات سيبويه»، و «كتاب النوادر».
ومن أكبر حسنات الزجاج أنه أنجب العالم المشهور أبا علي الفارسي، وهو من علمت في التوسع في القياس، والتوسع في الاشتقاق.
وأبو علي الفارسي هو الذي أنجب ابن جني الذي سار على مذهب أستاذه، وتوسع فيه، وكان له ولأستاذه الفضل الكبير في علم الصرف، وفيما يعرف بفقه اللغة.
ومن لفتات ابن جني الجليلة فهمه أن النحو القديم مؤسس على العامل كما ذكرنا، فإذا قلت: ضرب زيد عمرا، فالرفع في زيد، والنصب في عمرو، إنما أحدثه ضرب. وقد جرهم ذلك إلى تأويلات كثيرة متكلفة، فقالوا مثلا في «إذا السماء انشقت»: إن تقديرها: إذا انشقت السماء انشقت، ونحو ذلك في مواطن كثيرة تكلفوا فيها تكلفا سخيفا، فهدم ابن جني هذه القضية، وقال في خصائصه: «وأما في الحقيقة، ومحصول الحديث، فالحركات من الرفع والنصب والجر والجزم، إنما هي للمتكلم نفسه، لا لشيء غيره، وعلل ذلك تعليلا فلسفيا يشبه تعليل النحويين، إذ يقول: إن ضرب انتهت بمجرد النطق بها، فلا يمكن أن تكون عاملا في زيد أو عمرو، فليس الفعل عاملا في الفاعل، ولا المفعول، وليست إن تنصب المبتدأ وترفع الخبر، ولا كان ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وليس المبتدأ مرفوعا بالابتداء، فهذا كلام لا معنى له، وليس الخبر مرفوعا بالمبتدأ كذلك».
والناظر في نحو الخليل وسيبويه يرى أنه موضوع على أساس العامل، وظل كذلك إلى عصرنا الذي نؤرخه، وجاء ابن جني يريد تأسيس نحو آخر، ولكن مع الأسف لم يجد سميعا، فظل النحو معتمدا على العامل، فإذا لم يجدوه تأولوه، واستمر النحاة لا يزيدون شيئا إلا نادرا، وكان نحاة عصرنا الذي نؤرخه سائرين على هذا المنوال. وأخيرا، جاء ابن مضاء - كما أشرنا - من قبل قاضي القضاة في قرطبة في عصر المؤرخين، فألف كتابا سماه «الرد على النحاة» أسسه على الجملة التي رويناها عن ابن جني في الخصائص، وقد نشر حديثا.
وكان ابن مضاء هذا ظاهري المذهب، لا يؤمن بالتأويل والقياس، فجرى في النحو مجراه في الفقه، فلا تأويل لعامل، ولا عمل له .
ولكن ذهبت دعوته أدراج الرياح، كما ذهبت دعوة ابن جني من قبل، وكما ذهبت دعوة أبي نواس في الشعر إلى التجديد، وظل النحاة في القرون المختلفة إلى اليوم يؤمنون بالعامل.
ومن مظاهر هذا العصر أيضا ما ابتدعه الثعالبي في تأليفه كتاب «فقه اللغة»، جمع فيه الألفاظ المتقاربة في موضوع واحد، كالمائدة والخوان، مع بيان الفرق بينهما، كما تعمد أن يؤلف كتابا في أسرار اللغة، يتعمق فيه في معاني الأسلوب. وقد توسع فيه ابن سيده في «الخصائص»، فجعله في سبعة عشر جزءا، أسسه على المعاني لا على الألفاظ، فكان هذا فتحا جديدا في بابه.
وقد تركت هذه المدرسة - وهي المدرسة المتسلسلة من المبرد إلى الزجاج إلى أبي علي الفارسي إلى ابن جني - أثرا كبيرا في اللغة والنحو والصرف، ومن قديم وعلماء اللغة والنحو والصرف ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: محافظين لا يرون الخروج عن القديم بحال من الأحوال، حتى في الأدب لا يريدون أن ينشئوا أدبا إلا ما كان على نمط الشعر الجاهلي، فإن تسامحوا في شيء فإنهم يقلدون الشعر الأموي، ومن هؤلاء كان ابن الأعرابي الذي لم يشأ أن يعترف بشعر أبي تمام لحداثته، حتى كان يعرض عليه الشعر من غير أن يذكر قائله، فيستحسنه، فإذا قيل له: إنه لأبي تمام، أو لأبي نواس؛ استبرده.
وأحرار في الأدب يرون أن القدماء والمحدثين خاضعون لمقاييس واحدة، فقد يسمج المتقدم، ويأتي المحدث بالروائع، والعكس، وقد رأى هذا الرأي قديما ابن قتيبة في «طبقات الشعراء»، وسار على هذا النمط كثيرون من أبرزهم أبو نواس إذ عاب العرب الأولين في البكاء على الأطلال، وبكاء الدمن، ودعا إلى التجديد في الغزل في المذكر، والغزل في الخمر، ولكنه مع الأسف لم يستمر طويلا على مذهبه.
وفي اللغة والنحو والصرف كان أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني من هذا الصنف، وربما عد ابن فارس من الذين وقفوا موقفا وسطا بين القديم والجديد، يدل على ذلك كتابه المسمى ب «الصاحبي» نسبة إلى الصاحب بن عباد، وكان الصاحب هذا تلميذا لابن فارس، فهو في هذا الكتاب يعرض آراء متحفظة متزمتة حينا ، وآراء حرة حينا، فمن تزمتاته جعله علم العروض أفضل من الفلسفة، فيقول: «علم العروض الذي يربي بحسنه ودقته واستقامته على كل ما بتبجح به الناسبون أنفسهم إلى التي يقال لها الفلسفة».
ومعنى هذا التعبير - كما ترى - سخيف، وهو يرى أن الفلاسفة لا يستطيعون أن يؤلفوا في النحو والصرف، فإن ألفوا فيهما فشيء تافه، وما عيب الفيلسوف إذا لم يكن يحسن إلا الفلسفة؟
ثم من مظاهر تزمته اعتقاده أن اللغة العربية لا وضعية، وقد كان المعتزلة الأحرار يرون أنها وضعية لا توقيفية، وعلى ذلك جرى أبو علي الفارسي، وابن جني، وبينما كان ابن فارس رجعيا في هذه المسائل إذا هو تقدمي في مسائل أخرى؛ من ذلك رسالته إلى صاحب له هو محمد بن سعيد، يعتب عليه تحريمه على بعض المعاصرين تأليف كتاب في مختارات بعد كتاب أبي تمام، وهو «الحماسة»، فيقول له: «لعله يستدرك من جيد الشعر، ونقيه، ومختاره، ورضيه كثيرا مما فات الأول، فما هذا الإنكار، ولم الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر سبق المتقدم؟ ولم تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئا، وتدع قول القائل: كم ترك الأول للآخر؛ وهل الدنيا إلا أزمان؟ فلكل زمان رجال، وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأفهام، ونتائج العقول؟ ومن قصر الآداب على زمان معلوم، ووقفها على وقت محدود؟!»، فهذه نظرة تقدمية من غير شك.
ثم هو يفيدنا من ناحية أخرى، وهي شكواه من غلبة اللحن حتى على الفقهاء والمتعلمين، ويقول: «أما الآن، فنرى المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نبها قالا: ما ندري ما الإعراب؛ وإنما نحن محدثون وفقهاء».
ونلاحظ في هذا العصر ظاهرة أخرى، وهي العناية بما يسمى فقه اللغة، فنرى ابن فارس هذا يملأ كتابه «الصاحبي» بمسائل يسميها فقه اللغة، والثعالبي يؤلف كتابا في فقه اللغة، وهو يذكر في صدر كتابه هذا أنه إنما سمى هذا العلم بهذا الاسم وفقا لاختيار الأمير الذي أهداه إليه ؛ وهذا يدل على أن هذا الاسم مخترع في هذا العصر، ويقصدون به بيان الفروق الدقيقة بين الكلمات التي يظن أنها مترادفة، وليست في الحقيقة مترادفة؛ ومن اللغويين من سمى هذا النوع بالفروق كأبي هلال العسكري.
وفي العصور الحديثة نراهم قد سموا ما يسمى عند الإفرنج بالفيلولوجي «فقه اللغة»، مع أن مدلوله عند الإفرنج - فيما يظهر - مخالف لمفهومه عندنا؛ فمفهومه عند أكثر اللغويين من الإفرنج مقابلة الكلمات في اللغات المختلفة، وتاريخ اللغات، وغير ذلك. ولعلهم أخذوا هذا الاسم مما كان شائعا في تسميتهم «علم الفقه»، فربما رأوا أن ذلك الفقه فقه الأحكام، فسموا هذا فقه اللغة؛ والفيلولوجي عند الإفرنج أوسع مدلولا من فقه اللغة عند العرب.
وقد قال ابن فارس: إن هذا الكتاب وهو «الصاحبي» في فقه اللغة العربية، وفي سنن العرب في كلامهم؛ ولا أدري هل سبق الثعالبي، وابن فارس في هذا الاسم أحد أو هما واضعاه! والغالب في نظرنا هو الأول؛ لأن الثعالبي يذكر أن هذا الاسم ابتكره من ألف له الكتاب؛ ولعله أبو الفضل الميكالي.
ومما يؤسف له أن ابن فارس في كتابه هذا زعم أن اللغة العربية أغنى اللغات في تعبيراتها، وأساليبها، وأمثالها، وهي مسألة نرى العلماء في هذا العصر يتباحثون فيها، وربما كان ذلك أثرا من آثار الشعوبية، فنرى سائلا يسأل أبا سليمان المنطقي هذا السؤال، ولكن أبا سليمان كان أعقل من ابن فارس، فقد أجاب بأن الإجابة عنه تقتضي معرفة بلغات العالم، ومقارنات عديدة بينها مما لا يتيسر الآن، وهي إجابة تدل على سعة نظر، وبعد تفكير، وشعور بتبعة الجواب على مثل هذا السؤال، وذلك خير مما قال ابن فارس.
فمهاجمة الشعوبية للعرب جعلت العرب يتعصبون للعربية، ويبالغون في تقديس لغتهم.
على كل حال، كان علماء اللغة والنحو والصرف في ذلك العصر يحملون تبعات كثيرة، فيعتقدون أن في عنقهم رد اللغات العامية إلى أوكارها، ونزعات الشعوبية إلى مكامنها، وإحياء اللغة الفصحى، وتوسيعها في أكثر ما يمكنهم من ميادين.
وكان من أكبر من خدم اللغة والأدب في ذلك العصر الثعالبي؛ فقد ألف كتبا كثيرة في نواح كثيرة : في فقه اللغة، وفي شعراء القرن الرابع عرض نماذج من شعرهم، وقد سلك في ذلك مسلكا لطيفا، وهو جعل باب معين لشعراء كل قطر، كما ألف في طرف لطيفة ككتاب «من غاب عنه المطرب»، ونحو ذلك من كتب لا عداد لها، وإن أخذ عليه شيء في أعظم كتبه وهو «اليتيمة»، فهو عنايته في ترجمة الشعراء بالعبارات الرنانة أكثر من عنايته بالتحليل النفسي للشاعر، وتحليل شعره، حتى إن ترجمة الشاعر يمكن رفعها من مكانها، ووضعها في ترجمة شاعر آخر، ومع ذلك فله فضل التعريف بشعراء يمكن رفعها من مكانها ووضعها في ترجمة شاعر آخر. ومع ذلك فله فضل التعريف بشعراء كثيرين لولاه ما عرف عنهم شيء، وكانت العادة المتبعة أن ترسل البعثات من جميع الأقطار الإسلامية إلى العراق - وخاصة إلى بغداد - كما نرسلها اليوم إلى أوروبا، فحدث أن أرسلت مصر شابين مصريين ليتعلما النحو واللغة، وما إليهما في بغداد، فلما وصلا وجدا أن ألمع اسم في بغداد هو الزجاج الذي أشرنا إليه من قبل.
كان هذان الشابان هما ابن ولاد، وابن النحاس، فدرسا عليه وعلى غيره ما شاء الله أن يدرسا، ثم عادا إلى مصر، فملآها نحوا وصرفا؛ ولكن من غير ابتكار، وإنما علمهما اقتباس من على البغداديين، وكان ابن ولاد أحب إلى قلب الزجاج من ابن النحاس، فكان يسأل عنه من قدم بغداد من المصريين، وكونا مدرسة في القاهرة تشبه مدرسة الزجاج في بغداد فيها تفسير، وفيها نحو وصرف إلى غير ذلك، ولكن كان بينها من التنافس ما بين المتعاصرين عادة، كل منهما يرمي صاحبه بالجهل، فجمع بينهما بعض أمراء مصر، وأمرهما أن يتناظرا أمامه، فعلى طريقة البغداديين قال ابن النحاس: كيف تبني مثال افعلوت من رمى. قال له ابن ولاد: ارمييت، فخطأه ابن النحاس في ذلك، وقال: ليس في كلام العرب افعلوت. فقال: إني أجبت على السؤال، وإن لم يكن له أصل صحيح، ولم أقل ارمويت؛ لأن الفعل يائي، وهكذا كان التهريج من ابن النحاس على عادة البغداديين، ولا يقال: إن ذلك شبيه بارعويت؛ لأن ارعويت على وزن افعللت، لا افعلوت، وكان ابن ولاد أحب إلى المصريين؛ لأنه كان نبيلا كريما سمحا؛ على العكس من ابن النحاس، وألف ابن ولاد كتاب «الانتصار لسيبوبه»، و«المقصود والممدود»، و«معاني القرآن»، وألف ابن النحاس «تفسير أبيات كتاب سيبويه»، و«كتاب الكتاب»، و«الكافي في النحو» إلخ، فكلاهما ملأ مصر علما وتأليفا على نمط علم العراق وتأليفه.
ويذكرون لنا أن الرماني في هذا العصر أول من مزج النحو بالمنطق، يعنون بذلك أنه راعى في النحو التقسيمات المنطقية، وعلل الأحكام تعليلا منطقيا، وسبب ذلك أن الفلسفة اليونانية كانت قد انتشرت في هذه البقاع، وعرف حتى النحو اليوناني، وتناقش العلماء أيهما أفضل: النحو العربي، أو النحو اليوناني؟ كما حكى لنا أبو حيان التوحيدي في «المقابسات».
علم البلاغة
فإذا نحن وصلنا إلى علم البلاغة وجدناه قد تكون حول البحث في أسباب إعجاز القرآن، بدأ نتفا قصيرة، وما زال يزيد على توالي الأزمان، حتى وصل إلى أبي هلال العسكري المتوفى سنة 395ه، فجعله أحق العلوم بالتعلم؛ إذ بدونه لا تفهم أسباب إعجاز القرآن.
وملأ كتابه بمباحث تدور حول النواحي التي ترفع قدر الكلام، وتكسوه جمالا وجلالا، والعيوب التي تحط من قدر القول، وتكسبه قبحا وسخافة.
وكانت علوم البلاغة تسمى علم البيان، حتى جاء عبد القاهر الجرجاني في العصر الذي يلي عصرنا، فأخرج للناس علما دقيقا ذا قواعد وأصول، في كتابين جليلين، اسم أحدهما «دلائل الإعجاز»، واسم الثاني «أسرار البلاغة».
بحث الأول عن الوجوه التي تكسب القول شرفا، وتكسوه جلالا من حيث اشتماله على استعارة مستحسنة، أو كناية لطيفة، أو تمثيل جليل، أو تشبيه طريف، وتعرض في كثير من المواضع إلى ما عد بعد من علم المعاني، وما عد من علم البيان.
وأما الذي قسم هذه المباحث إلى شطرين، علم يتعلق بالنظم، وسماه علم المعاني، وعلم يتعلق بالمجاز، والتشبيه، والاستعارة، والكناية، وسماه علم البيان، فهو السكاكي المتوفى سنة 626ه.
وكان ممن له فضل كبير في علم البلاغة الزمخشري في كتابه «الكشاف»، ولكنها كانت مباحث متفرقة هنا وهناك، فلم يعد من ضمن مؤلفي البلاغة.
وحدث أن أفرد بعض الأدباء أنواع البديع بالتأليف، وكان أول من فعل ذلك عبد الله بن المعتز في كتاب له سماه «علم البديع»، جمع فيه سبعة عشر نوعا من أنواع البديع، فجاء بعده قدامة بن جعفر، وأوصلها إلى عشرين، ثم جاء أبو هلال العسكري - الذي ذكرناه سابقا - وأوصلها إلى سبعة وعشرين. ولا زال يزيد من يأتي بعد، حتى أوصلها زكي الدين بن أبي الإصبع في كتاب له اسمه «التحرير» إلى تسعين.
ولم تزد البلاغة كثيرا، ولا النحو، ولا الصرف، ولا اللغة عما تكون في هذا العصر الذي نؤرخه، وكل ما فعله المتأخرون إنما هو جمع لمتفرق، أو تفريق لمجموع، أو شرح لغامض، أو تحديد لمتشتت، وفي آخر الأمر فقدت هذه العلوم روحها، وأصبحت أدوات جافة لا طعم لها.
وعلى الجملة، فإن العلماء جدوا في هذه الفروع كلها، وتحمسوا لها، بداعي خدمة القرآن، وتبيين ما فيه؛ فالنحويون - مثلا - اجتهدوا في إعراب القرآن، ومن هؤلاء الكسائي، والفراء، والزجاج، وكان نحوهم مشتملا على أشياء بيانية، كأسباب الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، وبعضهم اشتغل بمجاز القرآن، ككتاب أبي عبيدة المسمى «مجاز القرآن»، وقد أخذ منه البخاري كثيرا في صحيحه في باب التفسير، والبيانيون جدوا في معرفة أساليبه التي سببت الإعجاز، حتى إن عبد القاهر الجرجاني سمى كتابه «دلائل الإعجاز»، وألف أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في أسباب الإعجاز، فإن قلنا: إن هذه العلوم كلها كانت لخدمة القرآن، ومن أجله نمت وترعرعت لم نكن بعيدين عن الصواب.
الفصل الخامس
الفلسفة
لم يكن العرب يعرفون الفلسفة؛ لأنها ليست من طبيعتهم، فقد اشتهروا بأنهم أهل لسن، لا أهل فلسفة عميقة، وهم أقرب إلى الحكمة منهم إلى الفلسفة، ولكل منهما ميزة، إنما عرفوا الفلسفة بعد أن اختلطوا باليونان، والفرس، والهند، والروم، ونقلوا إليهم كتبهم الفلسفية، وقد تنقلت الفلسفة الإسلامية في أدوار ثلاثة :
الدور الأول:
نقل نتف فلسفية من هنا، ومن هنا، كالذي يحكي عن خالد بن يزيد الأموي ونحوه.
والثاني:
النقل المنظم من كتب فلسفية منسوبة إلى مؤلفيها، كالذي كان في عصر المأمون ومن بعده.
والدور الثالث:
هو الدور الذي توضحت فيه هذه العلوم، وبدأ فلاسفة الإسلام يتفهمونها، ويعلقون عليها، ويزيدون فيها.
وقد جاء عصرنا هذا، وقد تم النقل تقريبا، وبدأ المسلمون يستغلونها كما يظهر ذلك في مؤلفات محمد بن أبي بكر الرازي، ثم الفارابي، ثم ابن سينا.
وقد كان موضوع الفلسفة إذ ذاك أوسع من موضوع الفلسفة اليوم، فقد كانت تشمل المنطق، والطبيعيات، والكيميائيات، والإلهيات، والرياضيات، والنفس والاجتماع إلخ. ولكن على توالي العصور، بدأت علوم كثيرة تنفصل عن الفلسفة، وتستقل عنها، كالمنطق، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وربما انفصلت علوم أخرى عنها واستقلت.
وأول ما بدأت الفلسفة في الإسلام بدأت النواحي العملية منها، كالطب والتنجيم لحاجة الملوك، والشعوب إليها، كالذي قال الغزالي: «أردنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله»، وهكذا بدأت الفلسفة لسد الحاجة من طب وتنجيم، وانتهت بحب البحث المجرد.
لقد بدأت الفلسفة شبه خرافية، بدأ علم الفلك بالتنجيم، وبدأ الطب بالوصفات الشائعة، ثم تحول كل ذلك إلى بحث منظم، لا يراد به إلا الحق، فعلم التنجيم صار فيما بعد علم النجوم، وتحويل المعادن إلى ذهب أدى عندهم إلى علم الكيمياء، وهكذا.
وكلما تقدم الزمان كانت تتبلور الفلسفة، وصاروا يقصدون من علم الطبيعة معرفة العناصر التي تتألف منها المادة، والكيمياء تدرس القوانين التي تتركب بموجبها عناصر المادة، وتبين لنا مقدار العناصر الموجودة في الكون، وعلاقة بعضها ببعض، ونحو ذلك.
وأهم من ذلك كله أن الفلسفة تتجاوز هذه الموضوعات المختلفة من مادة وتكوينها، وتريد أن تجمع نتائج العلوم كلها، وتنسق بينها كالذي يرى معارك مختلفة فينظر إليها من طائرة، أو كجذور الشجرة بالنسبة إليها، فكل طائفة من العلماء تبحث في علمها، وتأخذ الفلسفة نتائجهم، وتؤلف بينها، وتتعمق فيها.
والفيلسوف الحق من استطاع أن يضيف إلى ذلك تجربته الخاصة، وقد استفاد فلاسفة عصرنا هذا مما سبقهم، ومن الثقافات المختلفة التي نقلت إليهم، فعدولها، ووفقوا بينها، ووصلوا من ذلك كله إلى نتائج باهرة، كانت معول الفلاسفة الأوروبيين في أول نهضتهم، وقد كان قائدهم ابن سينا في طبه، والرازي في أبحاثه، والغزالي في إلهياته.
نعم، إن الأوروبيين بعد أن اعتمدوا على أكتاف الفلاسفة الإسلاميين طاروا من فوقهم، ووصلوا إلى أشياء لم تصل إليها الفلسفة الإسلامية. ومن الأسف أن فلاسفتنا المسلمين لم يطيروا كما طار الغربيون، بل ظلوا يكرر الخلف ما قاله السلف، ولا يخرجون عما قالوه إلا في قليل.
وأول ما ظهرت الفلسفة الإسلامية ظهرت في علم الكلام؛ ذلك أن الأمم غير الإسلامية من يهود أو نصارى أو وثنيين، أثاروا مسائل لم تكن تثار من قبل كالجبر والاختيار، وعدل الله.
ووجدوا في الفلسفة منهلا عذبا لإرواء غليلهم، فتسلحت كل أمة بها، ولم يكتفوا ببحث المسائل، بل هاجموا الإسلام في بعض مسائله؛ فاضطرت طائفة من المسلمين أن تتسلح بسلاحها وتدفع عدوانها، فكان هذا سببا في وجود علم الكلام.
وكان المتكلمون أول من قام بهذه المهمة، وهؤلاء المتكلمون كان منهم بعض أهل السنة، لكن كان أقواهم وأشدهم بأسا، وأكثرهم دفاعا عن الإسلام المعتزلة، حتى إن المعتزلة جعلوا المناظرة والمجادلة، وهذا النوع من الثقافة ركنا كبيرا من أركان الإسلام.
وهذا الموقف من المتكلمين، وأهل الأديان أثار في الجو مسائل كثيرة مثل: هل الشر يصدر عن الله؟ وما فائدة الشر في هذا العالم؟ وهل الله يقدر على فعل الظلم؟ إلخ.
وكان علم الكلام هذا إرهاصا للفلسفة، وأهم فرق بين علم الكلام والفلسفة أن المتكلم يؤمن أولا بدينه، ثم يتلمس الدلائل والبراهين الفلسفية لتقويته، والدفاع عنه، والرد على مخالفيه.
أما الفيلسوف فيدخل في هذه المسائل مجردا عن كل اعتبار، وهو طوع الدليل حيثما يكن، فكان طبيعيا أيضا أن تكون الكراهية سائدة بين المتكلمين والفلاسفة، كما فعل الجاحظ المعتزلي مع الكندي أول فيلسوف؛ إذ هزأه في كتاب «الحيوان»، وسخر منه، وشهر به.
ولا بد أن تكون هناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل لم نقف عليها.
وكان من أشهر الفلاسفة في عصرنا هذا الفارابي، وإخوان الصفا، والبيروني، وابن سينا، فأما الفارابي فكان من أصل تركي، وكان فلاسفة الإسلام على العموم يسلكون مذهبين؛ يعرف أحدهما عند المناطقة بمذهب الاستنتاج، والآخر بمذهب الاستقراء، فالأولون يقررون القواعد الكلية، ثم يستنتجون منها الجزئيات، كما تقول: الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، تطبق الأمثلة الجزئية على هذه القواعد، والآخرون يستقرون الجزئيات، ثم يستنتجون منها القاعدة.
وكان المتكلمون أميل إلى طريق الاستقراء، والفلاسفة الأولون أميل إلى طريق الاستنتاج.
وكان الفارابي من فلاسفة الاستنتاج، ويسميهم «ديبور» الطبيعيين بهذا المعنى.
ولا يهمنا كثيرا تاريخ حياته الشخصي بالتفصيل، وإنما يهمنا أمره الفلسفي، فقد ذكروا أنه تعلم الفلسفة على معلم مسيحي هو يوحنا بن هيلان، وتعبيراته غامضة، ككل علم في أول أمره، حتى إن ابن سينا على عظمته اضطر - كما يقولون - إلى قراءة كتابه «ما بعد الطبيعة» أربعين مرة ليفهمه، والتحق بمجلس سيف الدولة، ولازمه حتى مات.
ومن الأسف أن فلسفة اليونان نقلت إلى العربية من غير تمحيص للمذاهب، ومعرفة نظريات كل فيلسوف على حدة، بل نسب إلى أرسطو ما ليس على مذهبه، وإلى أفلاطون ما ليس على مذهبه، حتى اضطر الفارابي أخيرا إلى تأليف كتاب للجمع بين نظريات أفلاطون وأرسطو؛ مع أن الجمع بينهما غير ممكن، كأنه يعتقد أن الفلاسفة الكبار منزهون عن الخلاف، ولم يكن يعبأ بالجزئيات كما ذكرنا، ولا يطيل الوقوف عندها.
وكان يعتقد أنه كل شيء فهو طبيب جسماني، وطبيب روحاني، وموسيقي بارع، وكان له فضل كبير في تقسيم العلوم وحصرها.
والفارابي أول فيلسوف إسلامي نظر إلى الفلسفة نظرة شاملة كاملة - كان الكندي قبله فيلسوف - وتحدث المعتزلة كالنظام، والجاحظ، وأبي هذيل العلاف في مسائل من صميم الفلسفة، ولكن أحدا منهم لم يعرض الفلسفة عرضا وافيا قبل الفارابي، وأتى من بعده كابن سينا وابن رشد، فحذا حذوه، وقد قلد في هذا الشمول والتنظيم أرسطو من قبل، فلئن قالوا عن الكندي: إنه المعلم الثاني، فالأولى بهذا اللقب الفارابي.
ومن مزاياه نظرته الفلسفية إلى المجتمع، متأثرا بقول أرسطو المشهور: «الإنسان مدني بطبعه»، فعنده أن المجتمع كالفرد، إذا تألم منه عضو تأثر بهذا الألم سائر الأعضاء، وكذلك إذا تلذذ عضو تلذذ سائر الأعضاء.
وقد كان للفارابي ثلاثة منابع يستمد منها فلسفته؛ فالفلسفة اليونانية، وخاصة مذهب أفلاطون وأرسطو، والديانة الإسلامية، والعقل الذي يوفق بين الفلسفة اليونانية بعضها مع بعض من جهة، وكلها مع الإسلام من جهة أخرى، وهذا التوفيق يحتاج إلى عقل قوي كبير؛ لأن للفلسفة اليونانية مذاهب مختلفة جدا، يصعب التوفيق بينها، ولأن عماد الفلسفة العقل المطلق، وعماد الدين القلب. ومن أظهر أمثلة ذلك من النوع الأول كتابه: «الجمع بين رأيي الحكيمين»، يعني: أفلاطون، وأرسطو، ومن النوع الثاني أنه ألف كتابه: «آراء أهل المدينة الفاضلة»، فحاكى في أجزاء كثيرة منها أفلاطون في جمهوريته، وأبعد منها ما لا يتفق مع الإسلام اتفاقا واضحا، وزاد عليه أشياء كثيرة من تعاليم الإسلام، مثال ذلك: الشروط التي شرطها في الإمام الذي يسيطر على مدينته الفاضلة، فقال: «ينبغي أن يكون هذا الرئيس سليم البنية، قوي الأعضاء تامها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة، سريع البديهة، حسن العبارة، محبا للعلم والاستفادة، متحليا بالصدق والأمانة، نصيرا للعدالة، عظيم الإرادة، ماضي العزيمة، قانعا، متجنبا للذاته الجسمية»، وهذه كلها مأخوذة من جمهورية أفلاطون.
وزاد عليها شرطا استمده من الدين، وهو أنه لا بد لرئيس المدينة أن يسمو إلى درجة العقل الفعال، الذي يستمد منه الوحي والإلهام، والعقل الفعال هو الله تعالى.
وعند الفارابي أن الوجود ينقسم إلى واجب الوجود، وممكن الوجود، وليس هناك غيرهما من الوجود، وطريق معرفتنا لله هو الموجودات التي تصدر عنه، فمن الله الواحد يصدر الكل، وعند الله منذ الأزل صور الأشياء ومثلها، ويفيض عنه الوجود الثاني، أو العقل الأول، وهو الذي يحرك الفلك الأكبر.
وتأتي بعد هذا العقل عقول الأفلاك الثمانية تباعا، يصدر بعضها عن بعض، وهذه العقول هي التي تصدر عنها الأجرام السماوية، والعقول التسعة هي التي تسمى ملائكة السماء.
وفي المرتبة الثالثة يوجد العقل الفعال، وهو المسمى أيضا روح القدس، وهو الذي يصل العالم العلوي بالعالم السفلي .
وفي المرتبة الرابعة النفس، وكل من العقل والنفس لا تكون على حالة واحدة، بل تتكثر بتكثر أفراد الإنسان. وفي المرتبة الخامسة توجد الصورة، وفي السادسة المادي أو الهيولا، وبهاتين تنتهي سلسلة الموجودات.
والمراتب الثلاث الأولى: الله، وعقول الأفلاك، والعقل الفعال، ليست أجساما، أما المراتب الثلاث الأخيرة، وهي: النفس، والصورة، والمادة، فهي تلابس الأجسام، وإن لم تكن ذواتها أجساما.
1
والفارابي لا يقر ما يقال من أحكام النجوم، وأن الإنسان يتلقى المعرفة عن هذه العقول، وهو لا يدرك ما يدركه إلا بمساعدتها، والعقول يؤثر كل منها في الذي يليه، بمعنى أن كلا منها يقبل فعل ما فوقه، ويؤثر فيما دونه. وقد سبق أنه قال: إن العقل الفعال في الإنسان؛ ولكنه في موضع آخر يقول: إن العقل الفعال هو عقل الفلك الأدنى؛ وهو فعال في العقل الإنساني، والعقل الإنساني منفعل به، ومفارقة النفس للبدن تعطيها كل ما للعقل من حرية.
وعنده أنه لا تبلغ الأخلاق كمالها إلا في مدينة فاضلة؛ لأن الإنسان مدني بطبعه كما ذكرنا. ونفوس أهل المدينة الجاهلة تكون خلوا من العقل، وهي تعود إلى العناصر لتتحد من جديد بكائنات أخرى من الناس، أو الحيوانات الدنيا، «وهذا القول أشبه ما يكون بالقول بالتناسخ»، والنفوس الضالة تلقى ما تلقاه النفوس الجاهلة، أما النفوس الخيرة فهي وحدها التى تبقى بعد مفارقتها الجسد، وتدخل العالم العقلي، وكلما زادت درجتها في المعرفة علا مقامها بعد الموت بين النفوس، وزاد حظها من السعادة الروحية.
وأدى تعمق الفارابي في التوفيق بين الفلسفة والدين أن يضع نظرية في النبوة، ذلك أن الكلام في النبوة كان شائعا بين مثبت لها ومنكر؛ ولذلك ألفوا كثيرا كتبا سموها: «دلائل النبوة»، أو «أعلام النبوة» كما فعل الجاحظ، والقاضي عبد الجبار، وغيرهما.
وألف آخرون في نفيها، كما فعل ابن الراوندي، وأبو بكر الرازي، وغيرهما، فجاء الفارابي يدعي في النبوة أمرا جديدا، يثبته بالعقل الفلسفي؛ ذلك أنه ربط النبوة بالأحلام، ولذلك عقد في بعض كتبه فصلين متتاليين، أحدهما في الأحلام، والثاني في النبوة، وجعلهما راجعين إلى القوة المخيلة في الإنسان، وربما أوحى إليه بذلك الإسلام نفسه، فقد جعل الإسلام الأحلام الصحيحة إرهاصا للنبوة، وفي الحديث: «أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان النبي إذا رأى الرؤيا جاءت مثل فلق الصبح واضحة صحيحة». وهو يرى أن الأحلام تابعة لأحوال النائم العضوية والنفسية، وإحساساته في اليقظة، فهي تختلف فيما بينهما؛ لاختلاف العوامل المؤثرة فيها، فالجائع يحلم أنه يأكل، والعطشان يحلم أنه يسبح في الماء، «وقد يتحرك الإنسان أثناء نومه تلبية لنداء عاطفته الخاصة، أو يجاوز مرقده، ويضرب شخصا لا يعرفه، أو يجري وراءه».
فإذا ارتقى الإنسان وإحساساته وتخيلاته، استطاعت مخيلته أن تشكل أحلامه بشكل العالم الروحاني، فيرى النائم السماوات وما فيها، ويشعر بما فيها من لذة وبهجة، وقد تصعد المخيلة إلى هذا العالم، وتتصل بالعقل الفعال، وتتقبل منه الأحكام المتعلقة بالأعمال الجزئية، والحوادث الفردية؛ وبذا يكون التنبؤ، وبه تفسر النبوة، ويقول الفارابي أيضا: «إن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جدا، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج، لا تستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها، ولا يستخدمها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين، فضل كثير تفعل به أيضا أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم، اتصلت بالعقل الفعال، وانعكست عليها منه صور في نهاية الجمال والكمال. وقال الذي يرى ذلك: إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود واحد منها في سائر الموجودات أصلا، ولا يمتنع إذا بلغت قوة الإنسان المتخيلة نهاية الكمال أن يقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، وسائر الموجودات الشريفة، فيكون له بما قبله من المعقولات نبوءة بالأشياء الإلهية وهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة، والتي يبلغها الإنسان بهذه القوة».
وعيب هذه النظرية ربط النبوة بالخيال، كأن ما يراه النبي متخيل، وربما عد أيضا من عيوبها، وإن كان غير واضح عد ما يراه النبي، وما يعدو إليه من قبيل الخيال لا من قبيل رؤية الواقع، وهذا يضعف من شأن النبوة، ولكن من مزاياها ميلها إلى جعل النبوة مرتبطة بالمواهب التي لبعض الناس، وهذا يوافق ما يقوله رجال الدين من أن النبوة منحة من الله لا مكتسبة.
ومع ذلك جرى على نظرية الفارابي هذه ابن سينا، وابن رشد، وبعض الشيعة في رسائلهم، وإخوان الصفا، والمتصوفة، وقد نشأ من اعتقاد المتصوفة بهذه النظرية إعلاء شأن الأولياء حتى قاربوا الأنبياء، فلما لم يكن الغزالي فيلسوفا، وكان سنيا لم يرض عن نظرية الفارابي، وفندها في كتابه «تهافت الفلاسفة»، فقال: «إن النبي يستطيع الاتصال بالله مباشرة، أو بواسطة ملك من الملائكة دون حاجة إلى قوة متخيلة خاصة، أو أي فرض آخر من الفروض التي يفترضها الفلاسفة».
وعلى كل حال، كان لنظرية الفارابي هذه في النبوة أثر كبير في المسلمين قلدوها، وأعادوها، وشرحوها، أو ردوا عليها وفندوها.
فنحن إن قلنا: إن الفلسفة الإسلامية وضعت أصولها على يد الفارابي في القرن الرابع، ولم يكن ما جاء بعدها في القرن الخامس وما بعده إلا شرحا وتفسيرا، وتعليقا لم نبعد.
وقد بحث الفارابي فيما بحث نظرية السعادة، وهي نظرية اهتم بها أرسطو من قبل، وظل الفلاسفة يزيدونها شرحا وتوسيعا إلى يومنا هذا، ما هي السعادة؟ وما علاقتها باللذة؟ وهل السعادة إلا اللذة؟ حتى إن بنتام، وجون استوارد مل ألفا كتابين عظيمين في السعادة، وأنها هي اللذة، وأن لا شيء يسبب السعادة إلا اللذة، وكل شيء تزيد لذائذه عن آلامه سمي فضيلة، وكل شيء تزيد آلامه عن لذائذه سمي رذيلة، وما مقياس الأخلاق الفاضلة، والرذائل، والجرائم إلا ما يتبع العمل من لذة أو ألم.
وكان ممن أدلوا بدلوهم في هذا الموضوع الفارابي في كتبه؛ فبحث السعادة، وشروطها، ودرجاتها، وأبان كما أبان بعده الفلاسفة المحدثون أن اللذة العقلية والروحانية خير من اللذات المادية الجسمية.
ونظرة الفارابي إلى السعادة نظرة صوفية متأثرة بطرق معيشته، فإذا كان العقل أرقى من الجسم، كانت السعادة الناشئة عن العقل خيرا من السعادة التي تنشأ عن الجسم، يقول في بعض كتبه: «والسعادة هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود بحيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد ... والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تطلب أصلا ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر، وليس وراءها شيء آخر أعظم منها، يمكن أن يناله الإنسان، والأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة، والهيئات، والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي النقائض، والرذائل، والخسائس».
وعلى الجملة، فلو جمعت كتب الفارابي، ورتبت وبوبت لكان منها دائرة معارف فلسفية واسعة، فما وضعه الفارابي من أسس فلسفية أكثر مما وضعه ابن سينا، وابن رشد، وأمثالهما.
ثم كان هناك عالم آخر من طراز آخر غير الفارابي، وهو أبو الريحان البيروني، وهو وإن توفي في القرن الخامس إلا أنه أزهر في القرن الرابع، فقد كانت ولادته سنة 362ه، وهو ينسب إلى بيرون، إحدى ضواحي مدينة خوارزم، وقلنا: إنه من طراز آخر؛ لأنه لم يشغل بالإلهيات، والنظريات المنطقية كما شغل الفارابي، ولكنه شغل بالجغرافيا والفلك، وأحوال الأمم، فهو عملي أكثر منه نظريا، وميزته الكبرى أنه وجه همه إلى دراسة الهند - ديانتها، ورياضياتها، وفلسفاتها، وعقائدها، وتقاليدها - ومكث في هذه الدراسة أربعين عاما منذ صحب محمودا الغزناوي فاتح الهند، واضطرته الرغبة في تعرف الهند إلى تعلم لغاتها السنسكريتية، وألف في ذلك كتبا لا يزال يعتمد عليها في معرفة الهند إلى اليوم، من أهمها كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرزولة»، قارن فيه بين رياضيات الهند، ورياضيات اليونان، وفضل الثانية على الأولى، كما قارن بين فلسفة الهند وفلسفة اليونان، وبادل الهنود معرفة بمعرفة، وكان من مزاياه أيضا عمق نظره، وسعة أفقه، وكثرة علمه بأحوال الأمم، وعدم تعصبه، لا يمنعه اعتقاده عن إنصاف مخالفه، فهو مثال للعالم الصحيح في الشرق والغرب .
وقد راسل ابن سينا، وراسله ابن سينا رسائل تدل على قدرته، وتمكنه من الفلسفة ، أما رسائل ابن سينا إليه فهي بين أيدينا؛ وأما رسائل البيروني إليه فموجودة في فارس لم نطلع عليها.
وللبيروني في الفلك كتابه الهام، وهو «القانون المسعودي في الهيئة والتنجيم»، يقول: إنه يشتمل على كل نواحي الفلك، على نحو لم يسبق إليه، وفيه كثير من علم الجغرافيا، ولم يخل علم لم يؤلف فيه حتى المختارات من الأدب العربي، وقد صرح في بعض كتبه أنه يفضل العربية على الفارسية؛ لأن العربية أكثر طواعية للعلم، ومصطلحاته من الفارسية. ويروى عنه أنه قال: «لأن أهجى بالعربية خير من أن أمدح بالفارسية»، وألف أيضا في طبيعة الأحجار الكريمة كتابا سماه «الجماهر في الجواهر»، وهو يحكم العقل في التاريخ، فلا يقبل منه إلا ما وافق العقل، كما فعل ابن خلدون فيما بعد، ويؤمن بأن للطبيعة قوانين ثابتة لا تتغير، ويحكي ابن خلكان أنه وهو يحتضر دخل عليه عالم فقيه يعوده، فسأله البيروني: عن مسألة مشكلة عليه من ميراث ذوي الأرحام، فقال له الفقيه: أفي مثل هذا الوقت؟ فقال له البيروني: «لأن ألقى الله عالما بها خير من أن ألقاه جاهلا بها». قال الفقيه: فما وصلت إلى الباب حتى فاضت روحه، وهو يدل على عقل جبار ينفر من الجهل بأي شيء.
ومنهجه في البحث العملي يشبه ما ذهب إليه مسكويه فيما بعد، مع الفرق بينهما في قوة العقل عند البيروني أكثر من مسكويه.
وعلى الجملة، فقد كان البيروني علما من أعلام العلماء الذين جاد بهم القرن الرابع، وقل أن يجود الزمان بمثله.
وبلغت الفلسفة الإسلامية ذروتها في عهد ابن سينا، وقد ولد ونشأ في عصرنا هذا؛ إذ قد ولد في سنة 370ه، وكان له عدة اتجاهات، فهو قصصي قصصا فلسفية، كقصة حي بن يقظان، ورسالة الطير، وقصة سلامان وأبسال، وهو شاعر كما يتجلى في أرجوزته الطبية:
للزنج حر غير الأجسادا
حتى كسى جلودها سوادا
وكما يتجلى في قصيدة النفس المنسوبة إليه، ومطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
إلخ.
وهو متصوف في بعض رسائله، ولكن قوة عقله، وقوة مزاجه منعتاه من التقدم الكبير في التصوف، وإنما قيمته الحقيقية في فلسفته، وقد بذل جهدا كبيرا في التوفيق بين فلسفة أرسطو، والأفلاطونية الحديثة، والإسلام، وهو يدور في فلسفته كثيرا على نظرية السعادة، وهو يعتقد أن الخير يفيض على العالم من المبدع الأول، وكل الموجودات سابحة في بحر من الخير، وكل منها ينال من الخير ما هو جدير به، وما هو موافق له، وهذا النظام الذي في الكون هو أحسن نظام يمكن أن يكون عليه الوجود، وهذا العالم هو أحسن العوالم التي يمكن أن يتصورها العقل، وبحث في: كيف وجد الشر في هذا العالم؟ وما هي حكمة الله من وجوده؟ وكيف فاض الشر عن المبدع الأول، وهو خير مطلق؟ وهل تتولد الظلمة من النور، أم ينشأ النقص عن الكمال؟ أليس من الشر أن يحرق بالنار ثوب الفقير المعدم؟ أليس من الشر أن يموت الطفل، وليس لأبويه ولد غيره؟ أليس من الشر أن يحرم الإنسان ما يستطيع إدراكه من الكمال؟ ألم يكن في وسع المبدع الأول أن يوجد خيرا مطلقا مبرأ من الشر، وأن يبدع اللذة، ولا يخلق الألم، وأن يبدع النور، ولا يخلق الظلمة؟! وبنى إجاباته على أن هذا العالم الذي نحن فيه عالم كون وفساد، وهو يقتضي وجود الخير مع الشر، وعنده أن الخير من طبيعة الوجود، والشر من طبيعة العدم، وهو يرى أن كل شيء جميل، كالذي يقول ابن المعتز:
قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحم القبح فيهواه
وعنده أن اللذات تنقسم إلى عالية وخسيسة، فهو يقول: «لا يجب أن يتوهم العاقل أن كل لذة كلذة الحمار».
نعم، إن للبهائم حالة طيبة ولذيذة، ولكن أية قيمة لهذه الحالات الطيبة الخسيسة إذا نسبت إلى اللذات العالية، فالجاهل الذي لا يدرك اللذات العالية، ولا يشعر بها أشبه بالأصم الذي لا يدرك الألحان اللذيذة، فعنده أن اللذات المعنوية أفضل من اللذات المادية، ولذلك كان في قصصه الثلاث المتقدمة يرى أن كمال الإنسان في تحرره من الشهوات البهيمية؛ لأن اشتغال النفس بالشهوات، واتصالها بالمادة يمنعانها من الالتفات للملأ العالي، وعنده أن النفوس تنقسم إلى مراتب، وخيرها النفوس التي تترفع عن الأمور المحسوسة، وتتطلع إلى المثل العليا؛ فتدرك من السعادة ما لا يخطر على قلب من ينزع إلى المادة، وقد وصف الرجل الراقي بأنه: «هش بش بسام، يبجل الصغير من تواضعه، كما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل كما ينبسط من النبيه، ولا فرق عنده بين الكبير والصغير؛ لأنه يعرف الحق في كل منهما، ولا يعرف الطمع سبيلا إلى قلبه، وهو لا يفرح لوجود الشيء، ولا يحزن على فواته، وهو لا يعنيه التجسس، ولا التحسس، وهو لا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر، وإذا أمر بالمعروف أمر برفق الناصح، لا بعنف المعير، وهو شجاع، لا يخاف الموت، جواد، صفاح للذنوب، نفسه أكبر من أن تجرحها ذلة بشر، نساء للأحقاد، يفضل التقشف على الترف»، فهو كأنه يصف بذلك الإنسان الكامل. «وإذا أمعن المريد في رياضة نفسه بلغ مبلغا يصير فيه المخطوف مألوفا، والوميض شهابا، وإذا ارتقى أكثر من ذلك قرب من الله، فيتمثل فيه جمال المبدع، وتفيض عليه اللذات الحقيقية، ويغيب عن نفسه، فلا يرى إلا المعبود المبدع، ولا يلحظ إلا جمال الحق، وينسى نفسه، وإن لحظ نفسه، فمن حيث هي لاحظة، لا من حيث هي ذات زينة. وهناك درجات يضيق عنها العاقل، ولا يحاول أن يعبر عنها، بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول:
وكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر».
وفي هذا - كما ترى - أسس من الأسس التي بني عليها ابن طفيل قصته «حي بن يقظان»، وفلسفته ممزوجة بالتصوف والتقشف، وبالحياة الروحية، وهو متفائل مؤمن بالإنسان، ويكتب وصية في كتابه «الإشارات» يقول فيها: «إنه يجب صون هذا العلم - أي الفلسفة - وحفظه، وعدم إذاعته بين الناس»، ويقول: «إني قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق، وألقمتك الحكم في لطائف الكلم، فصنه عن الجاهلين والمبتذلين، فإن أذعت هذا العلم أو أضعته، فالله بيني وبينك، وكفى بالله وكيلا».
وكان ابن سينا سياسيا عمليا، وفيلسوفا نظريا، وكان ناجحا في الفلسفة، فاشلا في السياسة، وهو يؤمن بخلود النفوس الفردية، وقد ألم بكل معارف عصره، وكتبه إذا رتبت كان منها دائرة معارف فلسفية. ولمع اسمه في الطب بصفة خاصة، وكان كتابه «القانون في الطب» معول الغربيين في جامعاتهم إلى عهد قريب، حتى إنه طبع باللاتينية ست عشرة مرة في القرن الخامس عشر، وعشرين مرة في القرن السادس عشر، وحلت كتبه في المشرق والمغرب محل كتب أرسطو، وقد اختلفت فلسفته عن فلسفة أرسطو في مسائل كثيرة، خصوصا ما لا يتفق من فلسفة أرسطو مع الإسلام، فإله أرسطو لا يعقل إلا ذاته؛ أما إله ابن سينا فيعقل ذاته، ويعقل الماهيات الكلية، كما يدرك الجزئيات، ولكن من حيث هي كلية، كذلك ألف في المنطق كتاب «منطق المشرقيين»، وخالف فيه أحيانا منطق أرسطو، ورد عليه، وهو يتبع الفارابي في المنطق، وفي نظرية المعرفة، وفي مسألة الكليات.
وعنده أن الأحداث الأرضية تتأثر بالأجرام السماوية، لا عن طريق الحرارة المنبعثة منها، وإنما عن طريق ما تشعه من الضوء، وهو في ذلك يقول ما تقول به الأفلاطونية الحديثة، وظل ابن سينا مؤثرا في الفلسفة في القرون التي بعده في الشرق والغرب على السواء، والنابغة النابه هو من يفهم فلسفته، ولا يزال العلم ينتظر من يحقق لنا: أي النظريات أخذها عن اليونان أو الهنود، وأيها خالصة له، ومن مبتكراته.
ومات ابن سينا سنة 428ه، فأغلب نتاجه كان في عصرنا الذي نؤرخه، وقد شل العقول الإسلامية بفلسفته، فلم تبتكر إلا القليل.
وقد أقيم قريبا مهرجان في بغداد لابن سينا لمرور ألف سنة على ميلاده، وقبله أقيم مهرجان في تركيا، وتزمع فارس على إقامة مهرجان له، وتدعيه روسيا؛ لأنه من تركستان الداخلة في نطاقها. والحق أن العالم ينبغي ألا تقتصر نسبته على قطر معين؛ بل هو ملك شائع للأمم كلها، كما هو شأن العلم والفلسفة نفسهما، وهو له نواح متشعبة؛ فولادته في تركستان ، وثقافته عربية إسلامية، وقد ألف بالعربية والفارسية، فله جوانب متعددة، فيجب ألا تقتصر نسبته على أمة بعينها.
إخوان الصفاء
وأما إخوان الصفاء، فهي جمعية سرية نشأت في البصرة، وكان لها فروع في أكثر البلاد كما جاء في الرسائل، فالبصرة قديما من عهد الحسن البصري كانت منشأ لمذاهب متعددة؛ فأول الصوفية تلاميذ الحسن البصري الذي كان يقيم في البصرة، والمعتزلة نشأت من تلاميذ الحسن البصري، ونشأت فيها مدرسة كبيرة نحوية تسمى مذهب البصريين، وهي تضارع مذهب الكوفيين. وهذه هي إخوان الصفاء، تنشأ في البصرة، والمصدر الوحيد الذي عرفنا منه مؤسسيها، هو قول أبي حيان في كتابيه، «الإمتاع والمؤانسة»، و«المقابسات» الذي نقله عنه القفطي؛ إذ سأل وزير صمصام الدولة أبا حيان في حدود سنة 373ه، فأجاب أبو حيان: إن زيد بن رفاعة أقام في البصرة زمنا طويلا، وصادف بها جماعة «جامعين لأصناف العلم، وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان البستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي، وغيرهم، وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله، وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية، وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علمها وعملها، وسموها «رسائل إخوان الصفاء»، وكتبوا فيها أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ووهبوها للناس.
قال الوزير: هل رأيت هذه الرسائل؟ قال: قد رأيت جملة منها، وهي مبثوثة من كل فن، بلا إشباع، ولا كفاية، وهي خرافات، وكنايات وتلفيقات، حملت عدة منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي، وعرضتها عليه، فنظر فيها أياما، وتبحرها طويلا، ثم ردها علي وقال: نقبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجروا، وحاموا وما وردوا، ظنوا أنه يمكنهم أن يدسوا الفلسفة «التي هي علم النجوم، والأفلاك، والمقادير، وآثار الطبيعة، والموسيقى ، والمنطق في الشريعة، وأن يربطوا الشريعة بالفلسفة، وهذا مرام دونه سدد، وقد تورك على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحد أنيابا، وأحضر أسبابا، وأعظم أقدارا، وأرفع أقطارا، وأوسع قوى، وأوثق عرى، فلم يتم لهم ما أرادوه، ولا بلغوا ما أملوه، وحصلوا على لوثات قبيحة، ولطخات موحشة، وعواقب مخزية»، فيفهم من هذا النص: (1)
أن منهجهم ربط الفلسفة بالدين، وهو منهج لم يرتضه أبو سليمان؛ لأن للدين منطقه، وللفلسفة منطقها. (2) «أن قوما كانوا أحد منهم أنيابا، وأوسع منهم عقلا حاموا حول هذه الطريقة، ولم يفلحوا»، فلعله أراد بهم فحول المعتزلة، أمثال أبي هذيل العلاف، والنظام، والجاحظ، وأمثالهم. (3) «أنهم فشلوا كما فشل من قبلهم».
فعنده أن للدين منهجا، وللفلسفة منهجا آخر مخالفا له، فمنهج الدين مخاطبة المشاعر، مثل قوله تعالى:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت .
أما منهج الفلاسفة، فيعتمد على المقدمات، والنتائج المنطقية، من مثل قولهم: العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، فالعالم لا بد له من محدث، فما أبعد الفرق بين المنهجين، والتوفيق بينهما هو الذي قصد إليه إخوان الصفاء.
ومن أكبر هذه الجماعة زيد بن رفاعة كما ذكرنا، وقد سئل عنه أبو حيان فقال: «هناك ذكاء غالب، وذهن وقاد، ومتسع في قول النظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة، وحفظ أيام الناس، وسماع المقالات، وتبصر في الآراء والديانات، وتصرف في كل فن». وقد سئل أبو حيان عن مذهب زيد بن رفاعة هذا فقال: «لا ينسب إلى شيء، ولا يعرف برهط؛ لجيشانه بكل شيء، وغليانه بكل باب، ولاختلاف ما يبدو من بسطته ببيانه، وسطوته بلسانه، وقد أقام بالبصرة زمانا طويلا، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم، وأنواع الصناعة». وهذا القول يبين مهارة إخوان الصفاء، وتبحرهم في علومهم، وعدم اقتصارهم على مذهب معين.
وقد ظن قوم أن من بين إخوان الصفاء هؤلاء أبا العلاء المعري، وأبا حيان التوحيدي، وابن الراوندي.
أما أبو العلاء فلأنه لما ذهب إلى بغداد رأى هناك مجمعا فلسفيا خاصا، يجتمع يوم الجمعة من كل أسبوع بدار عبد السلام البصري ، أمين مكتبة سابور بن أردشير. وهذا هو النظام الموضوع لإخوان الصفاء، فإن أتباعهم مأمورون أن يجتمعوا كل أسبوع للمدارسة والمذاكرة، فالمعقول أن يكون المجتمعون هم أتباع إخوان الصفاء، وقد قال أبوالعلاء نفسه:
تهيج أشواقي عروبة:
2
إنها
إليك زوتني عن حضور بمجمع
ويقول في موضع آخر:
كم بلدة فارقتها ومعاشر
يذرون من أسف علي دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى
لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خاللت توديع الأصادق للنوى
فمتى أودع خلي التوديعا
غير أننا نرى كلمة إخوان الصفاء هنا في أبيات أبي العلاء ليست تنطبق تماما على هؤلاء الجماعة؛ ولكنه وصف عام لكل أصدقائه وإخوانه، أما المجمع فلا نستبعد أنه هو مجمع فرع إخوان الصفاء، غير أننا نرى أن أبا العلاء قد قطع صلته بالعالم، وبالجمعيات منذ عاد إلى بغداد كسير النفس، كاسف البال، رهين المحبسين، وتدل عيشته بالمعرة بعد ذلك على نوع من المعيشة الانفرادية القاسية التي لا تسمح بأن يكون عضوا في جماعة.
وأما أبو حيان، فقد كان الظن أنه من هذه الجماعة؛ لأنه عرف بعض أسماء الجماعة الأصلية، وعرفنا بهم، ولأنه كإخوان الصفاء يؤلف في الصداقة، ويشيد بذكرها، شأن إخوان الصفاء، لولا أنه - كما رأينا - يعيب رسائل إخوان الصفاء بالتقصير والتلفيق، فهل هو يقول ذلك تقية، أو بناء على اعتقاد؟ ... لم نتأكد بعد من ذلك.
وأما ابن الراوندي فلشهرته بالجرأة والزندقة.
وهذه الجمعية السرية وضعت لنفسها منهجا دقيقا، فكانت ترسل رسلها إلى من تتوسم فيهم الخير من كل البلاد، وتدعوهم إلى الدخول في جماعتهم، وتوجه اهتماما كبيرا إلى الشبان؛ لعلمهم أن الشبان أقرب إلى قبول الدعوة من الشيوخ، وأنهم بجانب ذلك أشد سواعد، وأقوى منة.
وهم يطلبون من أتباعهم في أي قطر يعينوا وقتا دوريا يجتمعون فيه، ويتذاكرون العلم، وشئون الإخوان، يقولون: «ينبغي لإخواننا - أيدهم الله - حيث كانوا من البلاد أن يكون لهم مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة، لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم، ويتحاورون فيه أسرارهم، وينبغي أن تكون مذاكراتهم أكثرها في علم النفس ، والحس والمحسوس، والعقل والمعقول، والنظر والبحث عن أسرار الكتب الإلهية، والتنزيلات النبوية، ومعاني ما تضمنتها موضوعات الشريعة، وينبغي أيضا أن يتذاكروا العلوم والرياضيات الأربع، أعني: العدد، والهندسة، والتنجيم، والتأليف «الموسيقى».
3
وكانوا يرتبون أعضاء الجماعة مراتب أربعا حسب تفرقهم في القوى العقلية والسن، فالمرتبة الأولى هم الذين أتموا خمس عشرة سنة من العمر، فتنبهت فيهم القوة العاقلة، وهم يتميزون بصفاء جوهر النفس، وجودة القبول، وسرعة الميل إلى التصوف. والثانية: الإخوان الأخيار الفضلاء، وهم الذين بلغوا ثلاثين سنة، وميزتهم مراعاة الإخوان، وسخاء النفس، وإعطاء الفيض، والشفقة والرحمة، والتحنن على الإخوان. والطبقة الثالثة: الإخوان الفضلاء الكرام، وهم الذين بلغوا أشدهم، وبلغوا أربعين سنة، فتنبهت فيهم القوة الناموسية، الواردة بعد مولد الجسد بأربعين سنة.
والطبقة الرابعة: هم الذين بلغوا الخمسين، والمقصود من هذه الدرجة هو المقصود من جميع رياضات النفس، وفيها تبلغ النفس من القوة منزلة تشاهد فيها الحق عيانا، وتتصل بملكوت السماوات، وتدرك حقائق القيامة والبعث والحساب، ومجاورة الرحمن.
وهم ينصحون الرسل بنصائح دقيقة فيقولون: «ينبغي لإخواننا - أيدهم الله - حيث كانوا في البلاد إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقا مجددا، أو أخا مستأنفا أن يعتبر أحواله، ويتعرف أخباره، ويجرب أخلاقه، ويسأله عن مذهبه واعتقاده؛ ليعلم هل يصلح للصداقة، وصفاء المودة، وحقيقة الأخوة أم لا؟ ... وأن ينتقده كما ينتقد الدراهم والدنانير، والأرضين الطيبة التربة، للزرع والغرس، وكما ينتقد أبناء الدنيا في أمر التزويج، وشراء المماليك».
4
وكان أمامهم في تأليف هذه الرسائل منهجان: الأول: أن يكلفوا الأخصائيين بأن يجمع كل أخصائييهم مادة رسالته ومعلوماتها، ثم يكون المحرر واحدا، ولكن عيب هذه الطريقة أن المحرر ما لم يكن أخصائيا في العلم الذي يحرره لا يحسنه، فكيف يكتب في النجوم من لم يكن فلكيا. والمنهج الثاني: أن يكثر المحررون، فيكتب كل محرر رسالة أو أكثر في اختصاصه، ونرجح أن يكون المنهج الثاني هو الذي اتبعوه، بدليل اختلاف الأساليب، وبدليل تعدد الحكايات والإشارات، ولو كان المؤلف واحدا لأحال عليها ولم يعددها.
نقول هذا وإن كان الشهرزوري في كتابه «نزهة الأرواح» يقول: «إن ألفاظ رسائل إخوان الصفاء هي للمقدسي، فلا نظن ذلك صحيحا، فلو كانت لمؤلف واحد لم يكن فيها هذا التكرار المعيب».
ثم بنوا رسائلهم على الرموز، فالصلاة والزكاة، والصوم والحج، والبعث ويوم القيامة، ومحمد وعلي، وغير ذلك كلها رموز إلى أشياء معنوية.
وحملهم على كتابة هذه الرسائل أن لهم أتباعا متفرقين في البلاد يحتاجون إلى تعليمهم، ولو كانوا كلهم بينهم ما احتاجوا إلى ذلك، وألفوا على هذا النمط إحدى وخمسين رسالة، في الرياضيات، والإلهيات، والأخلاق، وغير ذلك، وكانوا عادة يتعاطفون مع القارئ، ويخاطبونه في رفق ودعة، ويخاطبونه دائما: بيا أيها الأخ، أو أيها الأخ الفاضل، ويدعون له، ويحببونه في المطالعة.
وهم عادة عندما يختمون رسالة يبشرون بموضوع الرسالة التي تليها، وفي أول كل رسالة ينوهون بالرسالة التي قبلها.
وذكروا أنهم بعد أن يتموا هذه الرسائل، سيذكرون رسالة ثانية وخمسين يضعون فيها خلاصة كل الرسائل، ويحلون فيها رموزها، ولكنها ليست مطبوعة في هذه الرسائل؛ إنما طبعت رسالة في الشام اسمها «الرسالة الجامعة»،
5
وقد نسبت إلى المجريطي الأندلسي، وقد وصلني منها الجزء الأول، ولما يصلني الثاني، وبقراءتي له تبينت أن هذه الرسالة الجامعة ليست للمجريطي هذا، وإنما هي الرسالة التي يعد بها إخوان الصفاء، فقد لخصوا فيها رسائلهم؛ وحلوا فيها رموزهم؛ وربما يتضح ذلك أكثر إذا قرأت الجزء الثاني.
ما الغرض من هذه الرسائل؟ أسياسي هو، أم شيعي إمامي، أم شيعي قرمطي، أم غير ذلك؟ احتار الباحثون عند إجابتهم على هذا السؤال - نعم: إن في بعض مواضعها إشارات إلى التشيع، ولذلك نسبها بعضهم إلى جعفر الصادق الإمام المعروف.
وقال الإمام ابن تيمية - في فتاويه عند الكلام على الباطنية الإسماعيلية: «إنهم يبنون قولهم على مذهب المتفلسفة، كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفاء»، ونرى فيها شواهد على هذا التشيع، مثل قولهم في أهل البيت: «وهذه الولاية المخصوصة لأهل بيت الرسالة، لا يحتاجون فيها إلى مدبرين غيرهم، وإلى علماء سواهم، ولا يطلع الناس على أسرارهم».
6
ويقولون في موضع آخر: «واعلم يا أخي أن البيت الذي فيه سر الخلافة، وعلم النبوة، هو البيت الذي وسموا أهله بالسحر العظيم؛ لما يظهر منه من الآيات، ويعلمونه من المعجزات، فلم يجد أعداؤهم حالا يضعون بها من منازلهم، لما عجزوا عن العمل بمثل ما يعملونه، وجهلوا العلم الذي يعلمونه، إلا أن قالوا: إنهم سحرة، وإن لهم أعوانا من الجن يمدونهم بذلك، وهيهات؛ حيل بينهم وبين ما يشتهون، إن هو إلا علم إلهي، وتأييد رباني، تنزل به ملائكه كرام كاتبون، وحفظة حاسبون، يلقونه بأمر الله، على من اصطفاه من خلقه، وارتضاه لخلافته في أرضه».
7
وفي موضع آخر أوردوا حديثا فيه تشيع مثل: «قيل: يا رسول الله، من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: نعم، من قالها مخلصا دخل الجنة. قيل له: وما إخلاصها؟ قال: معرفة حدودها، وأداء حقوقها. فقيل: يا رسول الله، ما معرفة حدودها، وأداء حقوقها؟ فقال: نعم، أنا مدينة العلم، وعلي بابها، فمن أراد ما في المدينة، فليأت الباب فيرشدهم إلى من يشرح لهم ذلك».
8
إلى كثير من أمثال ذلك، فكل من يقرأ مثل هذه النصوص، يفهم أنهم من الشيعة، خصوصا وأنهم قسموا أتباعهم طبقات كطبقات الشيعة، وأمروا دعاتهم أن يتلطفوا مع المدعو، وأن يخاطبوا كل مدعو بحسب ظروفه، شأن دعاة الشيعة.
ولكن نراهم في موضع آخر، ينكرون نظرية المهدي المنتظر، مع العلم بأنها أساس من أسس الشيعة، فكيف يكونون شيعة، وهم ينكرون ذلك؟ وقد عدوا من الآراء الفاسدة من يعتقد أن إمامه مختف خوف مخالفيه، قالوا: «واعلم أن صاحب هذا الرأي يبقى طول عمره منتظرا لخروج إمامه، متمنيا لمجيئه، مستعجلا لظهوره، ثم يفني عمره، ويموت بحسرة وغصة، لا يرى إمامه».
9
فهذا يقضي أنهم ليسوا بشيعة صرف.
ويؤيد ذلك أن الأستاذ السيد محسن العاملي صاحب أعيان الشيعة مع اجتهاده في ترجمة من ينسب إلى التشيع، قال عند الكلام عليهم: «وكيفما كان فلم يتحقق انتساب إخوان الصفاء إلى التشيع، ولا أنهم من موضوع كتابنا، وإنما ذكرناهم لنسبة بعض الناس لهم إلى ذلك».
ونستخلص من كل ذلك أنهم جماعة متخيرون، يتخيرون من كل دين ومذهب ما يناسب عقليتهم، لا يتورعون من اقتباس من النصرانية، واليهودية، ووثنيي اليونان، والفرس، والهند، وما يرون أنه معقول، فمن قال: إنهم سنيون سنية تامة فقد أخطأ، ومن قال: إنهم شيعة شيعة تامة فقد أخطأ، ولكنهم من غير شك ميولهم شيعية.
ثم هل لهم غاية سياسية؟
الذي يظهر لي أنهم أومأوا إلى انحلال الدولة العباسية، وعدم صلاحيتها، إذ قالوا في إحدى رسائلهم: «إن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، وغاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي، فإذا بلغت إلى أقصى غاياتها، ومنتهي نهاياتها، تسارع إليها الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف الآخرون «المعارضون» القوة والنشاط، والظهور والانبساط ... هكذا حكم الزمان في دولة أهل الخير، ودولة أهل الشر، تارة تكون الدولة والقوة، وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير، وتارة تكون لأهل الشر، وقد نرى أنه قد تناهت دولة أهل الشر، وظهرت قوتهم، وكثرت أفعالهم في هذا الزمان.
وليس بعد الزيادة إلا الانحطاط والنقصان، واعلم يا أخي أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من قوم علماء، حكماء، خيار، فضلاء، يجمعون على رأي واحد، ويتفقون على مذهب واحد، ودين واحد، ويعقدون بينهم عهدا وميثاقا ألا يتجادلوا، ولا يتقاعدوا عن نصرة بعضهم بعضا، بل يكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفس واحدة في جميع تدبيرهم، فيما يقصدون من نصرة الدين، وطلب الآخرة، لا يبتغون سوى وجه الله، فهل لك في أن ترغب في صحبة إخوان لك نصحاء هذه صفتهم؟».
10
وقد حكوا مرة أنهم يؤملون «تجديد ملك في المملكة، وانتقال الدولة من أمة إلى أمة، ويشيرون إلى أنه وقع اختيارهم على رجل تتحقق فيه الشروط، ولكن لم يتم مرادهم».
11
وأظن أنهم يشيرون بذلك إلى عضد الدولة ابن بويه، فقد اتسع ملكه في زمان إخوان الصفاء، وارتقب الناس زيادة سلطانه، فلا يبعد أن يكون هو أملهم، وهو يحقق غرضهم، من نواح متعددة، فهو شيعي معتدل، لا كالفاطميين في مصر، فإنهم شيعة متطرفون، وهو واسع الاطلاع في اللغة والأدب والفلك، حتى كان يناقش أستاذه أبا علي الفارسي في النحو، فيفحمه، وهو يشارك في العلوم الأخرى، وهو رجل فيه جوانب خير كثيرة، بنى مستشفى، وأنفق عليه أموالا طائلة، وهو الذي يقول فيه المتنبي لما قصده:
وقد رأيت الملوك قاطبة
وسرت حتى رأيت مولاها
ومن مناياهم براحته
يأمرها فيهم وينهاها
وفيه يقول:
فقلت إذا رأيت أبا شجاع
سلوت عن العباد وذا المكان
فإن الناس والدنيا طريق
إلى من ماله في الناس فاني
ويقول فيه آخر:
لقيته فرأيت الناس في رجل
والدهر في ساعة والأرض في دار ... إلخ.
ولكن مع هذا المجد كله كانت له هنوات ربما جعلته في نظر إخوان الصفاء أخيرا ليس المثل الأعلى للملوك.
من كل ذلك نستنتج: (1)
أنهم يعتقدون أن دولة زمانهم آخذة في الانحطاط، وأنها صائرة إلى الزوال، وهي الدولة العباسية التي تسيطر في زمنهم على البصرة وما حولها. (2)
أنهم يرتقبون حكومة تشبه الحكومة التي دعا إليها أفلاطون فيما مضى، من تولية الفلاسفة، فهم عقلاء الأمة، ويجب أن يكونوا حكامها. (3)
يظهر أيضا أنهم ليسوا راضين عن حكومة الشيعة الفاطميين؛ لأن لهم بعض عقائد فاسدة في نظرهم، كالإمام المختفي، ولجور بعضهم كبعض الخلفاء العباسيين.
يستنتج من كل ذلك أنهم يريدون حكومة عادلة كل العدل، يكون على رأسها علماء صلحاء، أخيار، يتخذون العدل فيها عليهم وعلى أتباعهم، وهم في كل مناسبة يشيدون بذكر العلم والمعرفة «والنظر في جميع الموجودات، والبحث عن مبادئها، وعلة وجدانها، ومراتب نظامها، والكشف عن كيفية ارتباط معلولاتها»،
12 «وأن عبادة الله ليس كلها صلاة وصوما، بل عمارة الدين والدنيا»،
13 «بل العبادة الشرعية ليست مقصودة لذاتها، بل هي إشارات إلى غاية قصوى»،
14 «والنجاة لا تكون بالعبادة والأخلاق فقط؛ بل بالإحاطة بالعلوم والمعارف أيضا».
15
فهم يتشددون في كل مناسبة في المطالبة بالعلم والمعرفة، فمذهبهم الأساسي العلم والمعرفة أولا؛ لأنهم على مذهب سقراط في أن الفضيلة هي المعرفة، وهذه المعرفة ينشأ عنها جودة الأخلاق، وصلاح الدين والدنيا ... إلخ.
هذه على ما يظهر هي غايتهم، نشر علم ومعرفة لا حدود لهما، والعمل على ذلك بكل الوسائل، ثم إقامة حكومة على رأسها صفوة هؤلاء العلماء، ثم تطبيق هذا العلم والمعرفة على الحياة الفردية والاجتماعية العملية.
ثم للوصول إلى ذلك لا بد من سرية حتى يقووا، وتقية كتقية الشيعة، حتى لا يضطهدوا إلى أن يكون لهم السلطان، وفي يدهم الأمر.
وكان لهم الحق في ذلك، فمع سريتهم وتقيتهم، نقم عليهم، ورموا الزندقة من العلماء المتزمتين، وأحرقت رسائلهم في بغداد، ولكن علمنا الزمان أن اضطهاد الأفكار إرهاص للخلود.
ولنذكر الآن بعض آرائهم في فروع مختلفة، لقد أرادوا أن يلفقوا مذهبهم من كل المذاهب، إسلامية كانت أو نصرانية، أو وثنية، ولذلك كان من أنبيائهم نوح وإبراهيم، وسقراط وأفلاطون، وزرادشت وعيسى، ومحمد، وعلي ... إلخ. وهم يعتقدون أن الفلسفة أرقى من الدين، فقد حكى أبو حيان أنه ألح على المقدس أحد جماعة إخوان الصفاء في مسألة، فلما أحرج قال: «إن الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء»،
16
يريد بذلك أن الأنبياء يطبون المرضى حتى لا يزيد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية، أما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض، ولا شك أن مدبر الصحيح خير من مدبر المريض، وبعبارة أخرى: إن ظاهر الشريعة إنما يصلح للعامة، أما الغذاء للنفوس القوية، فيكون بالنظر الفلسفي العميق.
وقالوا: «إن الجسم غايته الموت»،
17
ومعنى الموت عروج نفس الإنسان إلى الحياة الروحية الخالصة، وهذا إنما يكون لمن تفلسف في حياته الأرضية، أما من عاشوا في الأساطير والخرافات، فشأنهم شأن البهائم، وقد أخذوا هذا المعنى عن متأخري اليونان، وعن اليهود والنصارى، وعن مذاهب الفرس والهنود.
وهم يقسمون النشاط العقلي إلى علوم وصناعات، والعلم هو صورة المعلوم في نفس العالم، وأما الصناعة فهي إخراج الصانع الصورة التي في فكره، ووضعها في الهيولي، وعندهم أن المعرفة تأتي من طرق ثلاث: (1)
طريق الحواس الخمس، وهو أول الطرق، ومنه تنشأ جمهرة علوم الإنسان، وفي ذلك يشترك الناس كلهم. (2)
طريق العقل، وبه يتميز الإنسان عن سائر الحيوانات. (3)
طريق البرهان الذي ينفرد به قوم من العلماء دون قوم.
18
وعندهم أن النفس عند ولادتها لم تكن تعرف شيئا ألبتة؛ لقوله تعالى:
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ، ولا تعرف النفس شيئا إلا بتوسط الجسد، وهي نظرية تخالف نظرية أفلاطون التي تقول: «إن النفس كانت تعرف كل الأشياء قبل حلولها في الجسد، وإنما معرفتها في الدنيا تذكرها، فإذا رأت شيئا في عالمنا، تذكرت ما رأته في عالمها الأعلى قبل هبوطها إلى الأرض، واتصالها بالجسد». وعلى هذه النظرية جاءت عينية ابن سينا:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تدلل وتمنع
ويجب على الإنسان في نظرهم ألا يحصل المعارف مرة واحدة، بل على دفعات؛ لأن بعض المعارف أصعب من بعض، والنفس لا تستطيع الارتقاء في مدارج معرفة الله، معرفة صحيحة، إلا بالزهد، والانصراف عن الدنيا، والقيام بالأعمال الصالحة.
وعندهم أن يبتدئ المعلم بعلوم اللغة واللسان والأدب فتلك أسهل، ثم يتلقى علوم الدين، ومذاهب الكلام، فإذا أتقن ذلك درس الفلسفة مبتدئا بالرياضيات، وأصحاب إخوان الصفاء يعرضون للرياضيات على طريقة الهنود تارة، وعلى مذهب فيثاغورس الجديد مرة أخرى، مع الإمعان في الرموز، وتقديس بعض الأعداد، كعدد 7، ومن أجل ذلك كانت حروف الهجاء ثمانية وعشرين؛ لأنها حاصل ضرب 4 × 7.
واعتقدوا في الكواكب أنها أجسام نورانية عاقلة كمذهب اليونانيين القدماء، وأنها أرقى في عقلها من الإنسان، وأن للنجوم تأثيرات قوية في العالم الأرضي، وهذه النجوم تؤثر أحيانا بالسعد، وأحيانا بالنحس، فالمشترى والزهرة والشمس تؤثر أحيانا بالسعد، وأحيانا بالنحس، فالمشترى والزهرة والشمس تؤثر بالسعد، وزحل والمريخ والقمر تؤثر بالنحس، وعطارد يؤثر بالنحس والسعد جميعا، وطول أعمار الناس، أو قصرها خاضع لهذه التأثيرات إلخ إلخ. وهذه هي عقائد القرون الوسطى، طال فيها الجدل إلى يومنا هذا.
وفي المنطق ساروا على مذهب فورفوريوس مؤلف إيساغوجي، وقلما زادوا فيه شيئا من عندهم، فعندهم الألفاظ الخمسة التي وضعها، وهي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاص، والعرض العام، غير أنهم زادوا عليها لفظا سادسا وهو الشخص، وقالوا: إن الجنس والنوع والشخص تدل على الأعيان، وأما الفصل والخاصة والعرض فتدل على المعاني، وعرضوا في المنطق للمقولات العشر، أولها الجوهر، والتسعة الأخرى أعراض له، وقالوا: إن هناك مناهج منطقية، وهي: التحليل، والحد، والبرهان، فالتحليل منهج المبتدئين؛ لأنه يوضح الأمور الجزئية المحسوسة، أما الحد والبرهان، فبهما تعرف الأشياء المعقولة، وقالوا: إن كل شيء في هذا العالم إما أن يكون هيولي أو صورة، وهيولي الأشياء كلها واحدة، وإنما تختلف بالصورة، وهذا الكلام أشبه بما يقوله العلماء المحدثون من أن ذرات الأشياء كلها واحدة، وأنها عبارة عن كهربائية موجبة وسالبة، وأن الخلاف بينها خلاف في الكمية لا في الكيفية، فذرات النحاس مثل ذرات الحديد، مثل ذرات الذهب، فلو أضفنا إلى ذرات النحاس ما ينقصها عن ذرات الذهب كانت ذهبا، ولذلك قال إخوان الصفاء بإمكان تحويل المعادن إلى الذهب، وهو الذي يسمونه كيمياء.
وأفاضوا طويلا في النفس الإنسانية، لأنهم كانوا يعتمدون عليها، وقالوا: إنها فيض صادر عن النفس الكلية، ونفس الطفل في أول أمرها كصحيفة بيضاء، تتناول المعلومات عن طريق الحواس الخمس، وتجمعها، فإذا كبر دفع هذه المعلومات إلى القوى المفكرة، ثم إلى الحافظة، والقوة التي تعبر عن النفس بالألفاظ تسمى القوة الناطقة، وللإنسان قوى خمس باطنة تساوي قوى الجسم الخمس الظاهرة، وهي المتخيلة في الأمام، ثم المفكرة وسط الدماغ، ثم الحافظة في مؤخرة الدماغ، ثم الذاكرة، ثم القوة الناطقة.
وقد أكدوا أنهم متدينون؛ ولكن غايتهم فلسفة الدين، وتحصيل كل المعاني، قالوا: «وبالجملة، ينبغي لإخواننا - أيدهم الله - ألا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم كلها».
19
ولذلك يصح أن تعدهم مسلمين؛ ولكنهم مسلمون متسامحون لا بأس أن يأخذوا من اليهودية والنصرانية والوثنية، كما يصح أن يأخذوا من السنية والشيعة، وكلما قدر الإنسان على مزج العلم بالفلسفة بالدين كان أرقى، فإذا بلغت النفس منتهاها، كانت في مصاف الملائكة المقربين، وصار مقامها فوق دين العامة الموروث، وفوق الرسوم، والصور الحسية، وهم يرون أن الصور الحسية التي صورها القرآن من نعيم في الجنة، وما فيها من حور عين، وأنهار من عسل مصفى، وأن أهلها على الأرائك متكئون، وما في النار من عذاب، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها، ونحو ذلك، إنما هي صورة رمزية، وأن هناك دينا عقليا فوق الأديان كلها، وأن الاعتقاد أن الله يغضب ويعذب بالنار أمور لا يقبلها العقل، وأن النفس الجاهلة تلقى جهنمها في هذه الدنيا، وأن النفس العاقلة تلقى جنتها في هذه الدنيا أيضا، وأن البعث هو مفارقة النفس للجسم، والقيامة هي مفارقة النفس الكلية للعالم، ورجوعها إلى الله.
20
وهم في الأخلاق يرون الدعوة إلى الروحانية، والزهد، والعمل يكون فاضلا إذا صدر عن الروية العقلية، وهم كالمتصوفة يرون أن أرقى أنواع الفضائل هي المحبة، وإذا بلغت غايتها فنيت في الله المحبوب الأول.
وتظهر على صورة الصبر والرضا عن جميع الخلق، وهذا الحب يطمئن النفس، ويحرر القلب، ويبعث على الرضا بكل ما في هذه الدنيا.
وهم يقولون كأرسطو بنظرية الأوساط؛ أي أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين، فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والاقتصاد المالي وسط بين البخل والإسراف، والعدل وسط بين الظلم والانظلام.
وهم يبخسون الجسم حقه، ويقولون: إن الإنسان في الحقيقة هو النفس، أما الجسم فثوب ظاهري، والمثل الأعلى للرجل الكامل أن يكون «فارسي النسب، عربي الدين، عراقي الأدب، عبراني المخبر، مسيحي المنهج، شامي النسك، يوناني العلم، هندي البصيرة، صوفي السيرة، ملكي الأخلاق، رباني الرأي، إلهي المعرفة».
21
ورأوا أن البيئة الطبيعية والاجتماعية تؤثر في الإنسان، فاختلاف لغات الإنسان، وألوانهم، وأخلاقهم، وصورهم متأثرة ببيئتهم، وأن الأجرام السماوية من ضمن البيئة، فهي تؤثر في الأقطار المختلفة تأثيرا مختلفا، وخصوصا الشمس، ومن أجل هذا كان بعض الأقاليم، وهو الإقليم الرابع الأوسط هو إقليم الأنبياء والحكماء؛ لأنه وسط بين الثلاثة الجنوبية، والثلاثة الشمالية، وأهل الأقاليم الأخرى ناقصون عن طبيعة الأفضل.
ولهم في المرأة رأي سيئ، وأن لهن وظيفتين فقط، الإنسال، وأن يكن أزواجا للذين لا يستطيعون التعفف، وعلى الجملة وظيفة المرأة أن تطيع زوجها، وتقر في بيتها وتتعفف، وهي لا تصلح للنظر في العلوم، ولا للتفكير في أمر الدين، وقالوا: «اعلم يا أخي أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للنساء والصبيان، والجهال والعوام، ومن لا ينظر في حقائق العلوم لا يعرفها».
22
ويقولون في موضع آخر: «ولا يليق بالعقلاء أن يعتقدوا هذه العقائد فضلا عن الحكماء، بل النساء والجهال والصبيان»، وربما كان ما نراه في لزوميات أبي العلاء من الحملة على المرأة وفسادها، وطلب قصرها على منزلها دون القراءة والكتابة، ورميها بالاعتقاد في الخرافات والأوهام؛ نتيجة للقسم الأول من حياة أبي العلاء، حينما كان على الأرجح يدين بتعاليم إخوان الصفاء.
ثم إنه من أروع رسائلهم رسالة «الحيوان والإنسان»، فقد استغلوا الرمزية على نمط كتاب «كليلة ودمنة»، وكالوا للإنسان الشتائم أشكالا وألوانا، وخلاصة هذه الرسالة أنه انعقدت محكمة لمحاكمة الإنسان أمام محكمة الجن، اتهم فيها الإنسان ببطشه وظلمه، فالإنسان أول أمره كان يأوي في رءوس الجبال والتلال، وفي المغارات والكهوف؛ خوفا من كثرة السباع والوحوش، وكان يأكل من ثمر الأشجار، وبقول الأرض، وحبوب النبات، ويستتر بأوراق الشجر من الحر والبرد، ثم تحضر فبنى المدن والقرى والقصور، ثم أخذ يسخر الأنعام من البقر والغنم والجمال، ومن الخيل والبغال والحمير، وقيدها وألجمها، وصرفها في مآربها من الركوب والحمل، وأتعبها في استخدامها، وكلفها أكثر من طاقتها، ومنعها من التصرف في مآربها؛ بعد أن كانت حرة في الجبال والآجام والغياط، تذهب وتجيء حيثما أرادت في طلب مراعيها، ومشاربها، ومصالحها.
وشمر ابن آدم في طلبها بأنواع من الحيل، والقنص، والشباك، والفخاخ، واعتقد أنها عبيد له، هربت منه، وخلعت الطاعة وعصته.
واتفق أن ولي أمر المسلمين من الجن يقال له: بيراشست الحكيم، وحدث أن طرحت العاصفة في وقت من الأوقات مركبا من سفن البحر إلى ساحل الجزيرة التي يسكنها هذا الملك، وكان في المركب قوم من التجار والصناع وأغنياء الناس، فخرجوا إلى تلك الجزيرة، وفتنوا بما فيها من الفواكه والبقول والرياحين، وصادقوا ما فيها من البهائم والطيور، والسباع والوحوش، والهوام والحشرات، في ألفة لا يشوبها تنافر ولا شقاق.
واستطاب الناس المقام في تلك الجزيرة، وأخذوا يتعرضون لما فيها من الحيوانات؛ ليسخروها فيركوبها، ويحملوا عليها أثقالهم، فنفرت منهم وهربت، فخرج الناس في طلبها لاعتقادهم أنها عبيد خرجت عن طاعتهم، فلما رأت الحيوانات رغبة الإنسان في استبعادها، جمعت زعماءها وخطباءها، وذهبت إلى ملك الجن، وشكت إليه ما لقيت من جور بني آدم، فعقدت المحاكمة، وتكلم زعيم كل صنف من أصناف الحيوانات، باتهام الإنسان بظلمه وعنته، فدافع الإنسان أول الأمر بأن الله تعالى أباح له ذلك، فقال:
والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون
وقال:
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة . وقال:
لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه . فقال زعيم البغال: أيها الملك، ليس في شيء مما قرأ هذا الإنسي دلالة على ما زعموا أنهم أرباب ونحن عبيد؛ إنما هي آيات تذكار بنعمة الله عليهم، فقال: سخرها لكم، كما قال سخر الشمس والقمر، والسحاب والرياح. ووقف الثعبان يتحدث عن الحشرات والهوام، وقال: إن أكثرها صم بكم عمي، بلا يدين ولا رجلين، ولا جناحين، ولا منقار ولا مخلب، ولا ريش على أبدانها، ولا شعر ولا وبر ولا صوف، وإن أكثرها عراة حفاة، ضعفاء فقراء مساكين، بلا حيلة ولا حول ولا قوة؛ ومع ذلك فالإنسان هاجمها حيث كانت، وقتلها أينما وجدها. ورق قلب الثعبان، فدمعت عيناه من الحزن ... وهكذا أنطق مؤلف الرسالة قول زعيم كل صنف باتهام الإنسان بالظلم والعنت.
وكان قد حضر في المحاكمة وفود من الأمم، وتطرق من هذا بإنطاق زعيم كل أمة، ويجعل الجني يعقب على قول زعيم الأمة بما في تعداد مفاخرها بتعداد معايبها، ويندمج في ثنايا هذه المحاكمة طرف لطيفة في الفلسفة، وطبائع الحيوان.
ومن الأسف أن المحاكمة لم تنته إلى حكم، بل كانت مفاوضات لا نتيجة لها، واتهامات لا غاية لها ... وهي تستحق القراءة لما فيها من المتعة الفنية والفكرية.
23
وقد ألف إخوان الصفاء رسائلهم كلها بالعربية، وإن كان بعضهم فارسيا صميما، شأنهم في ذلك شأن ابن سينا الفارسي، والفارابي التركي، وعلي بن رين من مازندران بطبرستان، وكما فعل محمد بن زكريا الرازي، وهو من الري قرب طهران، والسبب في ذلك أن العربية أصبحت لغة العلم، والفلسفة كاللاتينية، بالنسبة للغات الأوروبية الحديثة، ولأن اللغة العربية أطوع في الصياغة، وأكثر مرونة في الاشتقاق، وأقدر على الاصطلاحات، كما أوضح ذلك البيروني في بعض كتبه.
وهناك جماعة أخرى كانت في بغداد أيضا، كان على رأسها الأستاذ الكبير أبو سليمان المنطقي، وكانت في بغداد بجانب فرع إخوان الصفاء، ولم يكن منهجها كمنهج إخوان الصفاء، فلم يكونوا رجال دعوة وتبشير، ولا ذوي مطامع ومطامح، وإن لم يكونوا يؤلفون رسائل أو كتبا، إنما كل همهم أن يجتمعوا في بيت رئيسهم للمتعة العقلية وكفى. ويجتمع في بيت الرئيس كثير ممن ينتسب من أهل الحكمة والفلسفة من مسلمين، ووثنيين، ونصارى، ويهود، مثل: ابن زرعة، وابن الخمار، وابن السمح، والقومسي، ومسكويه، ويحيى بن عدي، وعيسى بن علي، وأبي حيان التوحيدي، وغيرهم.
وكان أبو سليمان هذا رئيسهم، وجامع شملهم، يثيرون المسائل في مجلسه حيثما اتفق من سياسية، واجتماعية، ولغوية، ودينية، وكل يبدي رأيه، والكلمة الأخيرة لأبي سليمان.
وقد دون أبو حيان محاضر بعض هذه المجالس في كتابه «المقابسات»، ويصف أبو حيان هذا الرئيس بقوله: «كان أبو سليمان أدقهم نظرا، وأقعرهم غوصا، وأصفاهم فكرا، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر، مع تقطع في العبارة؛ ولكنه ناشئة من العجمة، وقلة نظر في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز». وهذا تحليل دقيق من أبي حيان لشخصية أبي سليمان؛ فهو قوي الفكر، ألكن العبارة، وهو يعتمد على قوة عقله، أكثر مما يعتمد على النقل من المؤلفات، وهو واثق بصدق رأيه، أكثر مما يثق بما يقول غيره، وهو بخيل بعلمه، لا يذكر بعضه إلا للخاصة إذا دعت الدواعي، ولعل من بخله بعلمه قلة تأليفه، وقد دعته الدواعي أن يقيم رهين بيته، فهو أعور العين، مصاب بالبرص، مشوه الخلق، يقول فيه الشاعر:
أبو سليمان عالم فطن
ما هو في علمه بمنتقص
لكن تطيرت عند رؤيته
من عور موحش ومن برص
وبابنه مثل ما بوالده
وهذه قصة من القصص
وكان فقيرا يمده عضد الدولة من الحين بعد الحين بنفحة قليلة مالية يسد بها رمقه، وكان مما يثار في مجلسه مثلا موقف الناس من الوحي ومن العقل، فيقول: «إن أساس الأديان أن الله تعالى شاء أن يتصل بخلقه عن طريق رسله، فأوحى إليهم بتعاليم الدين، علما منه بقصور العقل البشري، وضيق مجاله، فالعقل يستطيع إدراك المادة وقوانينها، ولكن لا يستطيع إدراك ما وراء ذلك من عالم الغيب، وهذا هو ما بينه الأنبياء».
وكان في أيام أبي سليمان أربع نزعات حول هذا الموضوع؛ نزعة تحكم العقل في الدين، كما فعل زيد بن رفاعة، ومحمد بن أبي بكر الرازي، وإخوان الصفاء، ونزعة تحكم الدين في العقل والفلسفة، فيعرضون نظريات الفلسفة على الدين، فما وافق منها الدين قبل، وإلا رد، وذلك شأن كبار المتكلمين، ونزعة ثالثة آمنت بالفلسفة، وأرادت أن تؤمن بالدين، فأولت الدين على وفق الفلسفة، كالكندي والفارابي، ونزعة رابعة تفصل بين الدين والفلسفة، فلكل منطق ونفوذ، مثل: أبي سليمان هذا، فقد قال: إن منهج الدين يخالف منهج الفلسفة ... إلى آخر ما قال، وكثيرا ما كانت تثار في مجلس أبي سليمان مسائل نفسية، كالبحث في النفس، وأن الإنسان جسم ونفس، وهما عنصران متباينان، فالجسم له أبعاد ثلاثة، والنفس لا أبعاد لها، وهي جوهر بسيط لا يجزأ، ولا يدرك بحاسة من الحواس الخمس، ولا يعتريه فتور، ولا ملال، وهي تخالف الجسم في قبولها للصور المختلفة من جنس واحد في وقت واحد، والإنسان يريد أن يعرف النفس، ولكن لا يعرف النفس إلا بالنفس.
ويقول أبو حيان: إن أبا سليمان كان إذا تكلم في النفس أفاض، وأتى بالعجب العجاب، ويتكلم أحيانا في الأخلاق بانيا تحديدها وموضوعاتها على معرفته الواسعة بالنفس، ويتكلم أحيانا في السياسة ، ككلامه عندما شكا ابن سعد أن الوزير البويهي شكا من كثر كلام الناس في السياسة، ومحاولتهم معرفة كل صغيرة وكبيرة يضعها الوزراء والأمراء، فرد على ذلك ردا لطيفا، ومن مثل ما حكى أمامه من أن كسرى لما تقلد الملك عكف على الصبوح والغبوق، فكتب إليه وزيره رقعة يقول فيها: «إن في إدمان الملك ضررا على الرعية، ونرجو تخفيف ذلك، والنظر في أمر المملكة»؛ فوقع كسرى على نفس الرقعة: «إذا كانت سبلنا آمنة، وسيرتنا عادلة، والدنيا باستقامتنا عامرة، وعمالنا بالحق عاملون، فلم نمنع فرحة عاجلة؟»، فعلق أبو سليمان على هذا الخبر: لقد أخطأ كسرى من وجوه، أولا: أن الإدمان إفراط، والإفراط مذموم. ثانيا: أنه جهل أن أمن السبل، وعدل السيرة، وعمارة الدنيا، والعمل بالحق ما لم يوكل بها الطرف الساهر، ولم تحط بالعناية التامة، ولم تحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النظام، دب إليها النقص. وثالثا: أن الزمان أعز من أن يبذل في الأكل والشرب، والتلذذ والتمتع، فإن في تكميل النفس الناطقة باكتساب الرشد لها، ما يستوعب أضعاف العمر، فكيف إذا كان العمر قصيرا. ورابعا: أن الخاصة والعامة إذا وقف على استهتاره باللذات، وانهماكه في طلب الشهوات، قلدته وقلت هيبتها وحشمتها منه، وارتفاع الحشمة باعث على الوثبة، والوثبة غير مأمونة من الهلكة، وما خلا الملك من طامع راصد قط». يقول أبو حيان: وكان أبو سليمان إذا تكلم في السياسة عجب سامعوه منه، وسألوه أن يؤلف لهم فيها.
وقد حلل في «المقابسات» أخلاق عضد الدولة تحليلا دقيقا، يدل على العلم والجرأة، ويقول أيضا: «إنه كان يأتيه أصحابه بالصفحة من كلام الصوفية أو كلام اليونان، ثم يملي من عنده خيرا منها، ومع هذا كله فكان مشغوفا بسماع الغناء، وكان يخرج بعض أيام الربيع إلى البساتين مع بعض أصحابه، ومعهم مطرب أو مطربة».
على كل حال، كان أبو سليمان شخصية ممتازة تركت دويا كبيرا في محيطه، وفي زمنه، وكان بيته مقصد العلماء ليلا ونهارا، يقرأ عليه أبو حيان كتاب «النفس» لأرسطو، ويعرض عليه علماء آخرون ما غمض عليهم، وفي ظني أنه أقدر من ابن سينا، والفارابي، وابن رشد، وأمثالهم، وأن له ميزة عليهم ، هي اعتماده على تفكيره أكثر من اعتماده على النقل، ولكن كان ينقصه أمران: (1)
تأليفاته الكثيرة التي تخلد ذكره. (2)
عنايته بتقعيد القواعد، ووضع الكليات التي تبين مذهبه، ولعل بؤسه وفقره كانا يمنعانه من القدرة على العلم والتأليف، فهو لم يجد رواجا لبضاعته فأتلفها.
هذا عضد الدولة يحن عليه بمائة دينار، وماذا تفعل المائة في أكل وشرب وأجرة بيت تجمعت عليه منذ شهور؟ ويوسط أبا حيان عند ابن سعدان لعطفه عليه، فيعد ثم يتلكأ، على أن الأمر شأنه كشأننا في زماننا، بعض الناس ليست له قدرة على التأليف، ولكن له قدرة على تكوين الرجال بحسن أحاديثه، وبعض الرجال يربي الأجيال القادمة بحسن تأليفه، ولله في خلقه شئون.
يقول الأستاذ مدكور: «وقد عرض الباحثون في القرن الرابع الهجري، وعدوه العصر الذهبي في تاريخ الدراسات العقلية الإسلامية، فاستقام لعلم الكلام أمره، بعد محنة خلق القرآن، واسترد اعتباره على يدي الأشعري، وسما التصوف إلى القمة، فانتقل من النسك والزهادة، إلى شرح أحوال النفس، ومقامات العارفين، والقول بالاتحاد، ونزول اللاهوت في الناسوت، كما كان يذهب الحلاج، وأخذت الفلسفة الإسلامية تستكمل أسسها ومبادئها بما أضافه إليها الفارابي من عمق وتحديد، وتوفيق وتنسيق، وبلغ الطب غايته، فلم يقف عند ما دونه بقراط وجالينوس، بل شاء الرازي أن يغذيه بتجاربه الشخصية، ودرسه المستقل، وخطا الفلك والرياضة خطوات فسيحة، ويكفي أن يذكر البيروني ومؤلفاته للتدليل عليهما».
ويمكن أن يقال بوجه عام: إذا كان المسلمون في القرنين الثاني والثالث للهجرة، قد شغلوا بنقل العلوم الأجنبية وتفهمها، فإنهم كانوا في القرن الرابع يدرسون بأنفسهم لأنفسهم، وانتقلوا من الجمع والتحصيل إلى الإنتاج الشخصي، وقد استوعبت ترجمتهم آثار الثقافات الأخرى، الفلسفية، والعلمية الهامة، على اختلافها؛ من يونانية، وفارسية، وهندية، وإذا قصرنا حديثنا على الفلسفة، أمكننا أن نلاحظ أن العرب إلى جانب ما وصلهم من شذرات عن الفلاسفة السابقين لسقراط، ترجموا أهم المحاورات الأفلاطونية، وهي الجمهورية والنواميس، وطيماوس ، والسوفيسط، وبولوطيقي، وفادن، ودفاع سقراط، وكانت العناية بأرسطو بالغة، فبحثوا عن مؤلفاته، وترجموها في عناية تامة، وتوفر لهم بها عدد غير قليل، وخلط بها بعض مؤلفات موضوعة نسبت إليه خطأ.
ولكي يفهم المعلم الأول فهما حقا، كان لا بد لهم أن يستعينوا بشراح من المشائين الأول، كفاوفراسطس، والإسكندر الإفروديسي، وقد ترجم لهما أكثر من شرح، وخاصة الثاني الذي كان له أثر واضح في بعض النظريات الفلسفية الإسلامية، وكان ابن سينا يعتد بآرائه اعتدادا كبيرا، ويسميه «فاضل المتأخرين»، وإلى جانب الإسكندر هذا ينبغي أن نضع شراح مدرسة الإسكندرية، وفي مقدمتهم فورفوريوس، وساميسقيوس، وسميليقيوس، ويحيى النحوي، فترجم كثير من شروحهم، وكان أكثرهم في العالم الإسلامي أشد عمقا، أحيانا من أثر المشائين الأول.
نقلت هذه الكتب والشروح إلى العربية، وتداولها مفكرو الإسلام فيما بينهم، وكثر تداولها، ومناقشاتها، والتعليق عليها في القرن الرابع الهجري» ا.ه.
وأزيد على ذلك فأقول: إن عنايتهم في القرن الرابع بالعلوم الدينية واللغوية كانت أقوى من عنايتهم بالعلوم الرياضية، والفلسفية لسببين:
الأول:
أن الباعث على العلوم الدينية كان دينيا، وهو أقوى من الباعث على الفلسفة، وعنايتهم بالعلوم اللغوية؛ لأنها تخدم الدين أولا، ولأنها أثر من آثار أسلافهم، ونتيجة لبيئاتهم.
والثاني:
أن المستعدين للتفلسف، والصبر على لغة الفلسفة، وفهم غوامضها، والتفكير في موضوعاتها أقل في كل أمة من الباحثين في اللغة والدين؛ لأن الفلسفة لا تناسب إلا الخاصة.
وهنا يصح لنا أن نتساءل: هل الفلسفة الإسلامية أصيلة، أم هي ترديد للفلسفة اليونانية؟ لقد اختلف المستشرقون في هذا اختلافا كبيرا، فذهب بعضهم إلى الرأي الأول، منهم الفيلسوف «تنمان»، فقد قال: «يكاد يكون أرسطو مع شراحه هو الذي استرعى أنظار العرب، وقد تلقوا جملة ما ألفه أرسطو، ولكنهم تلقوها على الحقيقة عن تراجم ناقصة جدا، بواسطة خادعة هي المذهب الأفلاطوني الحديث؛ ولكن وقفت في سبيل تقدمهم في الفلسفة عدة عقبات، وهي: (1)
كتابهم المقدس الذي يعوق النظر الحر. (2)
حزب أهل السنة، وهو حزب قوي متمسك بالنصوص. (3)
أنهم لم يلبثوا أن جعلوا لأرسطو سلطانا مستبدا على عقولهم. (4)
ما في طبيعتهم القومية من ميل إلى التأثر بالأوهام.
من أجل ذلك لم يستطيعوا أن يصنعوا أكثر من شرحهم لمذهب أرسطو، وتطبيقه على قواعد دينهم الذي يتطلب إيمانا أعمى، وكثيرا ما أضعفوا مذهب أرسطو وشوهوه ... على أن الآثار الفلسفية العربية لما تدرس إلا دراسة ضئيلة جدا، لا تجعل علمنا بها مستكملا، بينما يرى بعضهم كديبور أن الفلسفة الإسلامية أصيلة، وإن كانت استمدت فيما استمدت من اليونان، أو من الفلسفة اليونانية، ويرى رينان أن الفلسفة إنما يصلح لها العقل الآري لا السامي.
وكل هذا خلط، فليس كتاب الله يقيد حرية المسلمين في التفكير، كما أنه ليس هناك حدود فاصلة أثبتها العلم بين الآريين والساميين كما قال رينان.
ولئن كانت الفلسفة الإسلامية متأثرة بالفلسفة اليونانية قليلا أو كثيرا على اختلاف الأقوال، فإن الأصالة ظاهرة عند المسلمين في شيئين واضحين: في أصول الفقه، وفي علم الكلام، فأصول الفقه يحتوي على أفكار أصيلة في اللغات، ودلالة الكلام، وفلسفة التشريع، وقد وضعه الشافعي، وألف فيه كتابا سماه «الرسالة»، تكلم فيه على منزلة القرآن من الدين، فالقرآن هو تبيان لكل شئون الدين، وقد أوضح في الرسالة المراتب الخمس للبيان في القرآن، مع التطبيق عليها، ثم أبان أن السنة تخصص الكتاب، ثم عقد عنوانا سماه «العلل في الاحاديث»، ذكر فيه ما يكون بين الأحاديث من خلاف بسبب أن بعضها ناسخ ومنسوخ، وبسبب الغلط في الأحاديث، وبين منشأ الغلط، ثم تكلم عن الناسخ والمنسوخ من الأحاديث، ثم تكلم عن النهي وأقسامه إلخ.
وقد توسع الفقهاء فيما بعد في علم الأصول هذا، وأدخلوا عليه أبوابا لم تكن، فكان بذلك فلسفة إسلامية أصيلة رائعة، وعلم الكلام مملوء بالإلهيات.
نعم، إنه أخذ بعض أصوله من الفلسفة اليونانية، ولكن حورها بما يتفق والإسلام، وزاد عليها كثيرا، فيكاد يعد فلسفة أصيلة.
نعم، إن أصول الفقه، وعلم الكلام لم تشتمل على الرياضيات والطبيعيات؛ فهذه يصح أن تنسب في جوهرها لا في تفاصيلها إلى الفلسفة اليونانية.
ومهما اختلف الناس في أصالة العرب في الفلسفة الإسلامية، ومقدار تجديدهم في الفلسفة اليونانية، فلن ينكر أحد أصالة العرب في الحكم، فإن لهم حكما أصيلة منذ جاهليتهم، والفرق بين الحكم والفلسفة أن الحكم عبارة عن تركيز التجارب اليومية في جملة أو جمل، وهي أنسب لذوقهم، فقد شغف العرب بحب الإيجاز، وصوغ التجارب في «برشامة»، ونلاحظ أن الذي يقوله الأوروبيون في رواية طويلة في مئات من الصفحات يقوله العربي في حكمة وجيزة.
فقد قرأت لبرنارد شو رواية طويلة، مضمونها أن جماعة من قطاع الطريق خرجوا على سيارة، فقال قطاع الطريق: من أنتم؟ قالوا: نحن سراق الفقراء. فقال قطاع الطريق: ونحن سراق الأغنياء. وقرأت لرجل عباسي شاهد حاكما يقطع يد سارق فقال: «سارق السر يقطع سارق العلانية».
ومن قديم عرف العرب حكم لقمان، وحكاها القرآن الكريم، واشتهر في الجاهلية بالحكم أكثم بن صيفي، وزهير بن أبي سلمى في قوله: ومن ومن إلخ. ورويت عن النبي
صلى الله عليه وسلم
في الإسلام حكم كثيرة مثل: «اليد العليا خير من اليد السفلى - وما أملق تاجر صدوق - خير المال عين ساهرة لعين نائمة - رأس العقل بعد الإيمان مداواة الناس» إلخ ... كما اشتهر في الإسلام الأحنف بن قيس، والحسن البصري، فلهما حكم كثيرة مشهورة.
ولما نقلت الثقافات الأجنبية إلى العرب نقلوا الحكم أيضا، وعنوا بها، واستساغوها أكثر مما استساغوا الفلسفة؛ لأنها أقرب إلى عقول الأوساط، وهي أشبه ما تكون بالأمثال التي اعتادوها، كالذي نرى في كتاب «جاويدان خرد»، الذي نشر حديثا باسم «الحكمة الخالدة»، والذي عربه قديما الحسن بن سهل، وأبو علي مسكويه، وقد اشتهر بعد الذين ذكرناهم بالحكم عبد الله بن المقفع في كتبه «الأدب الصغير، والأدب الكبير، والدرة اليتيمة».
كما اشتهر بعد ذلك في الحكم الجاحظ في بعض كتبه، مثل قوله: «احذر كل الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم، فيمثل لك التواني في صورة التوكل، ويسلبك الحذر، بإحالتك على القدر، فإن الله - عز وجل - إنما أمرنا بالتوكل عند انقطاع الحيل، والتسليم للقضاء بعد الإعذار». كما اشتهر بالحكم الفارابي، فله وصايا كثيرة أوضح من فلسفته الغامضة، مثل قوله: «كل واحد من الناس متى رجع إلى نفسه، وتأمل أحواله ، وأحوال غيره من أفناء الناس، وجد نفسه في رتبة يشركه فيها طائفة منهم، ووجد فوق رتبته طائفة هم أعلى منه منزلة، ووجد طائفة دونها هم أوضع منه؛ لأن الملك الأعظم، وإن وجد نفسه في محل لا يرى لأحد من الناس في زمانه منزلة أعلى من منزلته، فإنه إذا تأمل حاله، وجد فيهم من يفضل عليه بنوع من الفضيلة؛ إذ ليس في أجزاء العالم ما هو كامل من جميع الجهات، وكذلك الوضيع الخامل الذكر، يجد من هو دونه بنوع من الضعف». ويقول: «إن لكل شخص من أشخاص الناس قوتين: إحداهما عاقلة، والأخرى بهيمية، ولكل واحدة منهما إرادة واختيار، وهو كالواقف بينهما، ولكل واحدة منهما نزاع غالب» إلخ إلخ.
وقد حكى له جاويدان خرد هذا نحو عشرين صفحة من الحكم، كما اشتهرت بالحكم مدرسة أبي سليمان المنطقي من مثل ما حكاه أبو حيان التوحيدي في كتابه «المقابسات»، وما حكاه أبو حيان لنفسه في كتبه الكثيرة، ومن مثل ما كتبه جاويدان خرد أيضا لأبي الحسن العامري، إذ روى له نحو خمس وعشرين صفحة من الحكم، والعامري هذا هو أبو الحسن محمد بن يوسف العامري، فيلسوف مشهور، حدثنا عنه كثيرا أبو حيان التوحيدي في كتبه، مثل قوله: «سل واهب العقل إضاءة العقل، وابدأ بالأول في إيثار الأولى، واعرف الأولى بإيثار الأول - أشرف أبواب النظر، ما أفاد تمييز الفناء من البقاء - من لم يعقل العقل، ويستضئ بنوره فقد صيره حجة عليه لا له - ليس الكمال في اقتناء النعم؛ بل الكمال في إضافة النعم - الجهل مع العفة خير من العلم مع الفسوق - لن يسعد العبد بالعيش الفاضل، إلا أن يكون مستنكفا من أن يكون سكونه إلى المال الممهد، والمجد المؤثل أقوى من سكونه إلى واهب المال، ومؤثل المجد» إلخ.
وربما كان هذا النوع أعني الحكمة ظل ينمو على مر السنين، فقد زاد عن نتاج القرن الرابع، فكل عصر يزيد هذه الثروة - يزيدها بعض الشعراء كالمتنبي، وأبي فراس في شعرهما، وحتى العوام كانوا قادرين على إنتاجه بأمثالهم العامية، وقصصهم الحكيمة. فلنا الحق فيما يظهر أن نستثني هذا النوع من أنواع العلوم التي وقفت عند القرن الرابع الهجري.
هوامش
الفصل السادس
الأخلاق
كانت الأخلاق من أول عهد الإسلام مبنية على الدين، فالصبر حميد؛ لأن الله تعالى يقول:
إن الله مع الصابرين ،
اصبروا وصابروا ، والعدل مطلوب؛ لقوله تعالى:
اعدلوا هو أقرب للتقوى ،
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، وكان بجانب ذلك حكم وأمثال وصلت إلى العرب من تجارب الزمان.
فلما دخل كثير من الفرس في الإسلام، وكانت لهم ثروة كبيرة من الحكم والأمثال في جميع مرافق الحياة نقلوها إلى العربية، وكان على رأس هؤلاء ابن المقفع، فقد نقل حكم الفرس وأمثالهم، وقصصهم، والقصص الرمزية التي تشير إلى الأخلاق ككليلة ودمنة، وملأ اللغة العربية بهذه الجمل اللطيفة الرشيقة التي تدل على عقل واسع، وتجربة ناضجة، هذه حكم في الأخلاق الفردية، وهذه حكم في الأخلاق الاجتماعية، وهذه حكم في السياسة، وفي الملك، وما يلزمهما، وفي البلاط، وما يتصل به كرسالة الصحابة التي يعنى بها صحابة الملك أو الخليفة، أو بعبارة أخرى بلاطه.
ثم حدث بعد ذلك أن نقلت كتب اليونان إلى اللغة العربية، فتدوولت فيما بين المسلمين، وكان من هذه الكتب كتب في الأخلاق ككتاب «الأخلاق» لأرسطو وغيره، فهضمها المسلمون، وأرادوا بعد ذلك أن ينقلوها، أو يحذوا حذوها، ويفلسفوا الأخلاق، ومنهم من من يعمل في الأخلاق ما عمل بعض الفلاسفة في الفلسفة؛ إذ عرضوا علم الأخلاق هذا على الإسلام، فما لم يقبله الإسلام رفضوه، وما قبله تقبلوه، ومزجوا ذلك بالدين.
ولعل أشهر المؤلفين في الأخلاق في عصرنا هذا ابن مسكويه، ومحمد بن أبي بكر الرازي، وإخوان الصفاء، فابن مسكويه - أو مسكويه فقط كما يرجحه أكثرهم - هو أحمد بن محمد بن يعقوب، وهو أصل مجوسي، وقد تبحر في الأخلاق الفارسية لفارسيته، وفي الأخلاق اليونانية لثقافته بها، صحب أولا الوزير المهلبي في أيام شبابه ولازمه .
وقد مكنته هذه الصحبة من معرفته بالطبقة الأرستقراطية، وطبقة بعض الأدباء، ومعرفته بالناس، ثم اتصل بخدمة الملك عضد الدولة، وكان خازنا لمكتبته، كاتما لأسراره، رسولا إلى نظرائه، ويظهر أنه عني من الفلسفة اليونانية بالناحية العملية من الأخلاق، وما إليها، وقصر في الإلهيات، ومن أجل ذلك وصفه أبو حيان في «الإمتاع والمؤانسة» بأنه «فقير بين أغنياء، وعيي بين أبيناء لأنه شاذ؛ وإنما أعطيته فيه هذه الأيام صفو الشرح لإيساغوجي، وقاطيغورياس، فلم يكن له فيهما حظ؛ لأنه كان مشغولا بطلب الكيمياء، مفتونا بكتب أبي زكريا، وجابر بن حيان»، وقد عاب عليه أنه كان في الري مع أبي الحسن العامري، وهو ما هو علما وفلسفة، فلم ينتفع منه، وعابه ابن سينا في بعض كتبه بأنه شرح له مسألة فلسفية، ثم أعادها عليه، فلم يفهمها، ودفع إليه مرة جوزة كانت في يده، وقال له: امسح هذه، أي أخرج مساحتها، فألقى إليه مسكويه أوراقا، وقال له: أصلح بهذه أخلاقك؛ مما يدل على أن مسكويه كان متجها إلى الناحية الخلقية لا الإلهية، فعابوه على ذلك من غير حق.
وشاء الله أن ينبغ في الأشياء التي هو مستعد لها، وقد ألف في الأخلاق كتبا كثيرة مثل: «تهذيب الأخلاق»، و«الفوز الأصغر»، وكتاب «جاويدان خرد» بمعنى العقل الخالد، إلى غير ذلك من كتب تدور كلها حول الأخلاق.
وكانت مصادره في الأخلاق: (1)
الفلسفة اليونانية. (2)
الكتاب والسنة. (3)
تعاليم الفرس، وحكمهم. (4)
تجاربه الشخصية؛ فقد عمر طويلا، وكان في شبابه منغمسا في الحياة، مستمتعا بها، ثم كان صديقا للوزير المهلبي، ومن جلسائه، والوزير المهلبي هو ما هو في ترفه ونعيمه، ينفق ما يشاء على الثلج، والورد، والشراب، ثم كان من أتباع عضد الدولة، ومصاحبا له في سفره وإقامته، ومشتغلا بالكيمياء، يخالط المشتغلين بها من صادقين ودجالين، ثم عمر طويلا حتى بلغ نحو المائة، كل هذا مزجه مزجا غريبا، وأخرج من هذا المزيج كتبه في الأخلاق.
وكان أيضا قد اطلع على فلسفة الكندي والفارابي، ففلسف الأخلاق بعد أن كانت حكما؛ وعني بمعرفة النفس ، وقرأ فيها كثيرا، وحللها كثيرا، وبنى فلسفته الأخلاقية على العلم بالأمور النفسية أيضا، واطلع في الأخلاق على آراء أفلاطون، وأرسطو، وجالينوس، واتبع مذهب أرسطو في نظرية «الأوساط» أيضا التي شرحناها في إخوان الصفاء.
وبدأ بالكلام في ماهية النفس؛ وعنده أن النفس جوهر بسيط غير محسوس لحاسة من الحواس، تدرك وجود ذاتها بذاتها، وتعلم أنها تعلم، وأنها تعمل، وهي ليست جسما، والدليل على ذلك أنها تقبل صور الأشياء المتضادة، فتقبل معنى الأبيض والأسود، ومعنى الشجاعة والجبن، مع أن الجسم لا يقبل في وقت واحد إلا شيئا واحدا كالسواد أو البياض، والنفس بطبيعتها تواقة إلى المعرفة، بل هي تكذب الحواس، وتميز منها الصادق والكاذب، وهي وحدة يكون فيها العقل والعاقل والمعقول شيئا واحدا، ويعرف الخير بأنه ما به يبلغ الكائن المريد غاية وجوده، والناس مختلفون في الاستعداد للأخلاق؛ فمن الناس من هم أخيار بطبعهم، وهم قليل، ولا يتقبلون الشر بحال.
ومن الناس من هم أشرار بطبعهم، وهم كثير، ولا يستطيعون أن يصدر عنهم الخير ألبتة، وقوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، مستعدون لأن ينتقلوا إلى الخير أو الشر بالتربية، وله نظرة صوفية: أن الله هو الخير المطلق، والأخيار جميعا يسعون في الوصول إليه، وهو يفرق بين الخير والسعادة، فالخير هو الذي يقصده الكل للشوق إليه، وهو الخير العام للناس من حيث هم ناس، أما السعادة فهي خير ما لواحد ما، والإنسان يكون سعيدا إذا تحققت مقتضيات طبيعته.
ويرى أن أساس الفضائل هي محبة الإنسان كافة، وبدون هذه المحبة لا تقوم جماعة قط، والإنسان لا يبلغ كماله إلا مع أبناء جنسه، وبمعونتهم.
وهذه المحبة لا تظهر آثارها إلا في جماعة أو مدينة، فإذا كان الرجل معتزلا أو راهبا ناسكا لا نستطيع أن نحكم على أعماله بالخير أو الشر، وهو في هذا يقول كما قال إخوان الصفاء، وله كلام طويل في تحليل المحبة، وتقسيمها إلى صداقة، ومودة، وعشق، ويبين أسبابها ودرجاتها، ومدة بقائها، وهي أنواع: أرقاها محبة العبد لخالقه، ثم محبة الحكماء بعضهم لبعض، ثم محبة عامة الناس. وكان الكلام في المحبة شائعا في هذا العصر، يتداوله الصوفية، والفلاسفة، والأدباء ، ويؤلف فيه أبو حيان «الصداقة والصديق» إلى غير ذلك.
واجتهد في أن يوفق بين المذاهب اليونانية المختلفة، ودين الإسلام، وهو من حين لآخر يعرج على النفس، ويزيدها إيضاحا، مما يدل على تبحره في علم النفس، وله أحيانا كلام في الأخلاق يشبه كلام ابن المقفع؛ ولذلك عني بكتاب «جاويدان خرد» الذي ترجم بعضه الحسن بن سهل، وترجم بعضه الآخر مسكويه، مثل قوله: «إذا آنستك السلامة فاستوحش من العطب، وإذا فرحت للعافية فاحزن للبلاء؛ وإذا بسطك الأمل فاقبض نفسك بقرب الأجل، الحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل من العجلة، والجهل في الحرب خير من العقل، والتفكير هناك في العاقبة مادة الجزع ... إلخ إلخ».
وله مع أبي حيان كتاب «الهوامل والشوامل»، وهو عبارة عن أسئلة من أبي حيان، وأجوبة من مسكويه، وهو إذا تعرض لمسألة خلقية أو نفسية أفاض فيها؛ وكان شيعيا بحكم خدمته للوزراء والملوك الشيعيين؛ ولذلك نرى في ثنايا كلامه في الكتاب آثارا شيعية، وإن كانت مختفية وراء المظاهر. ومما يدل على كثرة تجاربه الخاصة والعامة، أو بعبارة أخرى الفردية والجماعية، أنه في الفردية ألف كتاب «تهذيب الأخلاق»، وفي الجماعية ألف كتاب «تجارب الأمم» الذي سيأتي ذكره، وقد كان على ما يظهر رجلا فاضلا نبيلا، خصوصا في آخر أيامه. وقد أثرت عنه وصية أوصى بها من يأتي بعده، تعد من خير الوصايا، تدل على أنه كان حي الضمير، يحاسب نفسه، ويتمنى الخير والتهذيب لمن يأتي بعده. جرى فيها على وصية قس بن ساعدة ولقمان، وغير ذلك مما أثر عن الحكماء، ولا نطيل بذكرها؛ فهي مبثوثة في الكتب؛ وروي له شعر كان فيه متأثرا بمبادئه الخلقية، وكتابته في الأخلاق، مثل:
لا يعجبنك حسن القصر تنزله
فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في أبراجها مائة
ما زاد ذلك شيئا في فضائلها
ويقول:
والناس في العين أشباه وبينهم
ما بين عامر بيت الله والخرب
في العود ما يقرن المسك الذكي به
طيبا، وفيه لقى ملقى مع الحطب
لا تطيلوا المال من حول ومن حيل
فربما جاء مطلوب بلا طلب
ويقول:
ولقد نفضت بهذه الدني
يدي وحسمت دائي
ماذا يغرني الزما
ن وقد قضيت به قضائي
ويعتب على أبي العباس الغني فيقول:
ما كان أغنى أبا العباس عن شره
إلى لحوم سباع كن في الأجم
إني وإن كنت لا أرضى الخنا لفمي
ولا أحط لقول فاحش هممي
لا يستريح إلي القول أحوجه
حر السكوت إلى الترويح بالنسم ... إلخ.
وعلى الجملة، فقد نقل الأخلاق نقلة جديرة بفلسفتها؛ وإن كان شاركه في ذلك العمل غيره، مثل: محمد بن أبي بكر الرازي، وإخوان الصفا - لقد بدأ قبله الجاحظ في فلسفة الأخلاق، كما فعل في رسالة «الحاسد والمحسود»، وكما فعل في تحليل نفس أحمد بن عبد الوهاب، وكالذي نجده من حين إلى حين في بعض رسائله، وفي كتاب «الحيوان»، ولكن مزية مسكويه أنه وضع للأخلاق نظاما شاملا، وفلسفة كلية، أما الجاحظ وأمثاله فنتف هنا، ونتف هناك من غير تبويب، ولا ترتيب.
ولقد كان مسكويه - على ما يظهر - متدينا يحافظ على العقائد الإسلامية في أثناء كتابته، ولا يقبل من الفلسفة اليونانية، والفلسفة الوثنية على العموم إلا ما يتفق والإسلام.
والرازي هذا من الرجال المعدودين في قوة العقل، وكبر الأثر، ولد في الري، ويقول الشهرزوري: «إنه اشتغل بالكيمياء حتى أثرت العقاقير المستعملة في عينيه، وذهب إلى طبيب ليعالجهما، ففرض عليه خمسمائة دينار، فدفعها إليه، وأدرك ما في الطب من مكسب، فقال: «هذا هو الكيمياء لا ما ذهبت إليه».
ثم اشتغل بالطب حتى تقدم على من سبقه من الأطباء، وبلغ الغاية في فحص البول، ومرضى الجدري والحصبة، قالوا: إنه كان شيخا كبير الرأس، مسفط الوجه، وكان يجلس للتعليم بعظمة، ودونه التلاميذ، وكان كريما متفضلا بارا بالفقراء، وكان يجري عليهم الجرايات الواسعة، وقد ألف للمنصور كتابا في الطب الجسماني، ثم ألف على نمطه كتابا في الطب الروحاني، ويعني بالطب الروحاني، الأخلاق، واعتمد الفرنج كثيرا على كتابه في الطب المسمى ب «الحاوي»، وترجم له بالفرنسية رسالة في الحصوة في المثانة والكليتين، وترجم له إلى الألمانية رسائل كثيرة، وله شعر عليه طابع الفلسفة، كشعر أبي العلاء، وابن الشبل البغدادي، مثل قوله:
لعمري ما أدري وقد أذن البلا
بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجه
من الهيكل المنحل والجسد البالي
وكان يعتقد في النشوء، والارتقاء العلمي، وأنه أرقى من أرسطو وجالينوس، وسيخلفه من يكون أرقى منه على مر الزمان.
وقد قالوا: إنه اعتقد بعض العقائد الشاذة من أستاذيه البلخي، وعلي بن رين، وقالوا: إن الحلاج قد اعتقد بعض آراء فلسفية له، وقد نقده الفارابي، وابن الهيثم في بعض آرائه، وقد ترجم له البيروني ترجمة وافية.
ويظهر أنه كان من العقليين الذين يؤمنون بالله، وينكرون النبوة، فقد رويت لنا مناقشة حادة بينه وبين أبي حاتم الرازي، يستفاد منها إنكاره للنبوة، ورد أبي حاتم عليه، ولذلك نرى أن مسكويه يدعم نظرياته في الأخلاق بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية؛ على حين أن الرازي هذا يعتمد في كتابته في الأخلاق على العقل البحت، وربما كان لهذا السبب بدأ مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق» في بحث في النفس وقيمتها، بينما بدأ الرازي في البحث في العقل وقيمته.
وإذ كانت أبحاثه عقلية محضة، وأبحاث المعتزلة عقلية دينية، فقد نقدهم كثيرا، كما لم يرض عن إخوان الصفاء؛ لأنهم فلاسفة دينيون أيضا، وهو فيلسوف محض، وقد غذت أقواله المتطرفة في النبوة، القرامطة من المسلمين، والملاحدة من النصارى، وقالوا: إنه ألف كتاب اسمه «نقض النبوة» يذكر فيه أن النبوات أضرت الناس، في كسلهم، وعاداتهم السيئة، وضيق عقولهم، وأنها هي السبب في العداوة بين الناس، وإثارة الحروب بينهم.
ومن أجل ذلك كان المتدينون أعداء للفلسفة، وأن أمثال أفلاطون، وأرسطو، وإقليدس أفادوا الإنسانية أكثر من الأنبياء إلخ إلخ.
والذي يهمنا هنا نظراته الخلقية، فقد أسس الأخلاق على العلم كمسكويه، وزاد عليه أنه في كتابه - كما قلنا - عقلي لا نقلي.
ومن أحسن ما في كتابه بحث طويل عميق في اللذة والألم، وهو يرى أنهما أساس الفضائل والرذائل، وقد سبق بمئات السنين في ذلك بنتام ، وجون استوارت مل في تأسيس مذهب المنفعة على اللذة والألم.
فعندهما وعنده أن الفضيلة إنما عدت فضيلة لرجحان منافعها على مضارها، أو بعبارة أخرى رجحان ما ينتج عنها من اللذائذ، على ما ينتج عنها من الآلام، والرذيلة بالعكس، وفضيلة تفضل فضيلة لكثرة لذائذها، وعمل يفضل عملا، بما ينتج عنه من لذائذه.
وليست للفضيلة، ولا للرذيلة قيمة ذاتية، وعند الرازي أنه ليس هناك لذة إيجابية، وإنما اللذة عدم الألم، فالجوع مثلا مؤلم، والأكل لذيذ؛ لأنه يضيع ألم الجوع، وهكذا: إذا نحن حللنا كل لذة، وجدناها عبارة عن دفع ألم.
وله في العادات رأى لطيف أيضا، فيقول: «ينبغي أن يحتفظ بالعادات، ويجري مجازيها، إلا أن تكون مفرطة في الرداءة، فإذا كانت كذلك، فلينتقل عنها قليلا قليلا بالتدرج منها، وليحذر أن تجري العادة، وتتأكد بلزوم طعام أو شراب أو اجتنابهما، أو بنوم، أو بحركة، فإنها إذا تأكدت هذا التأكد، عظم الضرر من الإخلال بها، وليعتد الإنسان أن يمرن نفسه على لقاء الحر والبرد، والحركة والأغذية التي لا بد له منها، وتبديل أوقات النوم واليقظة» إلخ إلخ.
وبعد أن ذكر مجمل الأخلاق ذكر تفاصيلها، عاقدا فصلا لكل فضيلة أو رذيلة، فمثلا: فصل في قمع الهوى، وفي تعرف الرجل عيوب نفسه، وفي دفع العشق والإلف، وفي دفع العجب والحسد والغضب، وفي إطراح الكذب، وفي إطراخ البخل، إلخ. ولعلمه بالجسم، وتشريحه استطاع أن يشرح أثر الرذيلة في الجسم فيقول مثلا في قمع الهوى: «إن أول فضل للناس على البهائم هو ملكة الإرادة، وإطلاق الفعل بعد الروية؛ وذلك أن البهائم واقفة عند ما تدعوها إليه الطباع، وذلك أنك لا تجد بهيمة تمسك عن أن تتناول ما تغتذي به مع حاجتها إليه، وفضل الإنسان في ذم الطبع، فمن أراد أن يزين نفسه، ويكمل لها هذه القضية، فقد رام أمرا صعبا شديدا، ويحتاج أن يوطن نفسه على مجاهدة الهوى، ومجادلته، ومخالفته.
والهوى والطباع يدعوان أبدا إلى اتباع اللذات الحاضرة، وإيثارها من غير فكر، ولا روية في عاقبة؛ لأنهما لا يريان إلا حالتهما التي هما فيها لا غير» إلخ.
ويقول مثلا في تعرف الإنسان عيوب نفسه: «إن كل واحد منا لا يمكنه مع الهوى، ومحبة نفسه أن ينظر بعين العقل الخالصة المحضة إلى خلائقه وسيرته، وينبغي أن يسند الرجل أمره إلى رجل عاقل كثير اللزوم له، والكون معه، ويسأله ويضرع إليه، ويؤكد عليه أن يخبره بكل ما يعرف فيه من المعايب، ويعلمه أن ذلك أحب الأشياء إليه، فإذا أخذ الرجل المشرف يخبره، ولم يظهر له اغتماما، بل أظهر له سرورا بما يستمع، وتشوقا إلى ما لم يستمع، وينبغي أن يستخير، ويتحسس ما يقوله فيه جيرانه، ومعاملوه، وإخوانه، وبماذا يمدحونه، وبماذا يعيبونه». وقد كتب في هذا المعنى جاكينوس كتابا عنوانه: أن الأخيار ينتفعون بأعدائهم، ويعيب العشق، والمبالغة فيه، فإن العقلاء إذا رأوا آلام العشاق نفروا منه، وأنه لا يغرق فيه إلا الخنثون من الرجال، والرذلون، والفرار، والمترفون، ولا سيما إن أكثروا النظر في قصص العشاق، ورواية الرفيق الغزل من الشعر، وسماع الشجي من الغناء والألحان، واللذة التي يتصورها العشاق، وسائر من كلف بشيء، وغرم به، كالعشاق للرياسة، والتملك، وهي أن ينالوا المطلوب مع عظم ذلك في أنفسهم، ولو فكروا في وعورة هذا الطريق وخشونته، ومهاويه ومهالكه، لمر عليهم ما حلا، وصغر عندهم ما يحتاجون في جنب مقاساته ومكافحته.
والعشاق يجاوزون البهائم في عدم ضبط النفس، وذم الهوى، وهم لا ينالون من ملاذهم شيئا إلا بعد أن يمسهم الهم والجهل، ويأخذ منهم، وأما احتجاجهم بكثرة من عشق من الأدباء والشعراء، فحجة واهية؛ لأن الشعر والفصاحة والأدب، ليست أشياء لا تكون إلا مع كمال العقل والحكمة، بل قد تكون مع نقصهما، فالعشاق قد يكونون من أهل النفس في عقولهم وحكمتهم، وأما قولهم: إن العشق يدعو إلى النظافة واللباقة، والهيئة والزينة، فما يسمح بجمال الجسد، مع قبح النفس، وهل يحتاج إلى الجمال الجسماني، ويجتهد فيه إلا النساء ، وذوو الحنف من الرجال»، ويقول في الحسد: «إن الحسد يتولد من اجتماع البخل والشره؛ والحاسد هو من اغتم من خير يناله غيره؛ من حيث لا مضرة عليه منه ألبتة، ومن الغريب أنا نرى الرجل الغريب يملك أهل بلد ما، ولا يكادون يجدون في أنفسهم كراهة لذلك، ثم يملكهم رجل من بلدهم، فلا يكاد أن يتخلص ولا واحد منهم من كراهته، وقد كان الرجل المالك القريب لهم أرأف بهم، وأنظر إليهم من المالك الغريب. وإنما يؤتى الناس في هذا الباب من فرط محبتهم لأنفسهم، فمن أجل حب الرجل لنفسه يجب أن يكون سابقا لا مسبوقا، فإذا هو رأى من كان بالأمس معه سابقا له اليوم، مقدما عليه، اغتم لذلك، واشتد عليه سبقه إياه، ولذلك يكثر التحاسد بين الأقرباء والمعاشرين والمعارف». ويعقد فصلا للاتصال الجنسي يرى فيه أنه يضعف البصر، ويهد البدن، ويقلقه، ويسرع بالشيخوخة والهرم، ويضر بالدماغ والأعصاب، ويسقط القوة ويوهنها، «وهو كلام طبيب»، وله ضراوة شديدة كضراوة سائر الملاذ، بل أقوى وأشد منها، والإقلال منها يحفظ على الجسد رطوبته، فتطول مدة النشوء والنماء، وتبطئ الشيخوخة والجفاف، فينبغي للعاقل أن يذم نفسه عنها، ويمنعها منه، ويجاهدها على ذلك؛ لئلا تغرى به، وتضرى عليه إلخ.
ويختم الكتاب بالكلام على فلسفة الموت، والخوف منه، فيقول: إن علاج الخوف منه، هي أن تقنع النفس أنها تصير بعد الموت إلى ما أصلح لها مما كانت فيه؛ لأن الإنسان لا يناله بعد الموت شيء من الأذى ألبتة؛ لأن الأذى حسي، والحس ليس إلا للحي، وهو في حال حياته مغمور بالأذى، فالحالة التي لا أذى فيها أصلح من الحالة التي فيها الأذى، فالموت إذا أصلح للإنسان من الحياة، فإن قيل: «إن الإنسان وإن كان يصيبه الأذى في الحياة، فإنه يناله من اللذات ما ليس يناله في حال موته، فنقول له: إن الميت ليس بضره ألا ينال اللذت؛ لأن الحي هو الذي يحتاج إلى اللذة، دون الميت»، وقد أطال في ذلك.
وقد سقنا هذه الأمثلة لنبين منها منهجه في التأليف، وأسلوبه في التعبير، ومنحاه في الإدلاء بالحجج.
وقد وضع رسالة سماها «السيرة الفلسفية»، رسم فيها المثل الأعلى لأخلاق الفيلسوف.
وأما إخوان الصفاء فتكاد الأخلاق عندهم تشبه الأخلاق عند مسكويه، وعند الرازي، وعندهم أن الأخلاق نوعان: أخلاق فردية، وأخلاق جماعية، فالأخلاق الفردية يقولون: إنها تعرف بالعقل، فما أمرنا الله به فهو خير، وما نهانا عنه فهو شر، ويرون أن لبعض الناس عقولا يعرفون بها الخير ويأتونه، والقبيح ويبعدون عنه، وهؤلاء هم الحكماء والفلاسفة، أما غيرهم فقد يرى الخير ولا يفعله، والشر ويأتي به، وأرقى أنواع الأخلاق عندهم فعل الخير للخير، لا من أجل أي نفع عاجل أو آجل، كما يقول الصوفية، قالوا: أما الأخيار، فهم الذين يعملون ما رسم لهم في النواميس الإلهية، ويفعلون ما أوجبته العقول السليمة، ولا يطلبون على ذلك عوضا، من جر منفعة إلى أجسادهم، أو دفع مضرة عنها، فعند ذلك يقال لهم: أخيار على الإطلاق، وأنهم من أبناء الآخرة، ويقولون في العادة: «يجب أن تعود نفسك عمل الخير؛ لأنه خير لا تريد بفعلك عوضا، ولا يحملك على فعله خوف، فمتى فعلت لطلب المكافأة، لم يكن عملك خيرا، وكذلك إذا أردت من عمل الخير، الذكر والاسم، كنت منافقا، والمنافق لا يستأهل أن يكون في جوار الروحانيين».
ويقولون كما أشرنا قبل: «إن الفضيلة وسط بين الإفراط والتفريط، وإن الفضائل من مواهب، هي من أخلاق الملائكة»، ويجعلون للإرادة والرياضة قسطا كبيرا في نيل الفضائل، أما الأخلاق الاجتماعية، فعمادها البيئة، والمجتمع، وقد قالوا: إن من البيئة الأجرام السماوية، فلها تأثير كبير في الإنسان وأعماله، وبعض هذه التأثيرات خير أو شر، وقد قسموا الأقاليم إلى أقسام، وجعلوا كل إقليم له أثر في طباع الناس وأخلاقهم، وخير الناس من كان إقليمه أعدل إقليم، والناس يحتفلون من يوم الولادة، فأولاد ملوك، وأولاد تجار، وأولاد الفقراء والمساكين، وكل هؤلاء يتأثرون تأثرا كبيرا بطبقتهم.
والناس محتاجون إلى التعاون، ولذلك شاع بين الناس: الإنسان مدني بالطبع، والإنسان مشتق من الأنس، لا من النسيان، قالوا: إن الإنسان الواحد لا يقدر أن يعيش وحده، إلا عيشا نكدا؛ لأنه محتاج إلى طيب العيش، مع إحكام صنائع شتى، ولا يمكن الإنسان الواحد أن يبلغها كلها؛ لأن العمر قصير، والصنائع كثيرة، فمن أجل هذا، اجتمع في كل مدينة، أو قرية أناس كثيرون لمعاونة بعضهم بعضا، وقد أوجبت الحكمة الإلهية، والعناية الربانية، أن يشتغل جماعة منهم بإحكام الصناعات، وجماعة في التجارب، وجماعة في تدبير السياسات إلخ.
ومما يؤثر في الأخلاق الاجتماعية الدولة، وقد ذكرنا قبل رأيهم في الدولة، وأن لكل دولة عمرا محدودا، وأنها تنهار في آخر أيامها، وتؤثر في أهلها أثرا سيئا، وأنهم يؤملون قيام دولة رؤساؤها أهل خير، حتى ينصلح الشعب بهم، ويرون أن الدين والدولة لا يفترقان، والناس محتاجون في صلاح أمرهم إلى ملك، ولا بد لهم من سلطان يملكهم ويرأسهم، ويحكم بينهم فيما يختلفون فيه ويتنازعون، ويمنع الظالم القوي من التعدي على الضعيف المظلوم، وتأمن من خوفه السبل.
1
وقد يكون الملك نفسه جائرا، ومع ذلك فلا مندوحة عن قبول حكمه، ولكن عمره يكون عادة قصيرا؛ لأن الله قاصم كل جبار عنيد، ومهلك كل مارد معتد، وهو ينصف المظلوم من الظالم
2
والسياسات أنواع؛ سياسة خاصة، وهي معرفة كل إنسان كيفية تدبير منزله، أو أمر معيشته إلخ، وسياسة ذاتية، وهي معرفة كل إنسان نفسه وأخلاقه، وتفقد أفعاله وأقاويله في حال شهوته وغضبه ورضاه، والنظر في جميع أموره، ثم تنقسم إلى قسمين: سياسة جسمانية، وهي تدبير الجسم، وحفظ العافية عليه، وسياسة نفسانية، وهي السياسة التي يحتاج إليها في معاشرة الناس، ومراقبة نفسه إلخ إلخ.
فترى من هذا أنهم نقلوا الأخلاق أيضا إلى علم ذي أبواب وفصول، ونراهم في الحقيقة أيضا قد مزجوا بين العقل والدين، وبين الأخلاق، والنفس، والاجتماع، والاقتصاد، شأنهم في ذلك شأن أهل القرون الوسطى جميعا، وكانت كلها فروعا من فروع الفلسفة، حتى الطب كان أحد فروعها، ثم أخذت العلوم تنفصل عن الفلسفة، فعلم خاص بالنفس، وعلم خاص بالاجتماع، وعلم خاص بالأخلاق.
وعلى الجملة، كان لمسكويه، والرازي، وإخوان الصفاء فضل في نقل الأخلاق من نصائح أدبية إلى علم بأصول، كما فعل الفرنج اليوم، ولكن الفروق بين هؤلاء الثلاثة فروق دقيقة، لا نري فيها مذاهب، كالذي نراه اليوم بين مذهب المنفعة، ومذهب اللقانة، ومذهب النشوء والارتقاء إلخ. فقد كان مصدرهم كله الفلسفة اليونانية، غاية الأمر أن منهم من مزجها بالدين كإخوان الصفاء ومسكويه، ومنهم من حكم فيها العقل فقط غير ناظر إلى الدين كالرازي.
وعلى الجملة، فهناك منحيان للأخلاق: أحدهما الجمل الخلقية، والأمثال والقصص، كقصص كليلة ودمنة، وقد مهر في هذا النوع الأحنف بن قيس، والحسن البصري، وابن المقفع، وغيرهم، ونوع أسس على العلم خصوصا بعد نقل الفلسفة اليونانية، ك «تهذيب الأخلاق» لمسكويه، وقد شاهدت في حياتي هذين النوعين، فكان يدرس لنا الأخلاق أستاذ من دار العلوم يدرس لنا «أدب الدنيا والدين»، وهو على نمط الحكم والأمثال، ثم درس لنا أستاذ متشبع بالثقافة الإنجليزية، فدرس لنا كتاب الأخلاق لماكنزي، وهو يعرض النظريات المختلفة في الأخلاق وأسسها، ثم يبني عليها دراسة الفضائل مفصلة، ودرس لنا أيضا كتاب «مذهب المنفعة» لجون استوارت مل، ومذهب «النشوء والارتقاء» لسبنسر، ونحو ذلك، فهذان المنحيان ظلا يعملان في العصور المختلفة، وربما كان الغزالي جامعا بين المذهبين في كتابه «الإحياء»، فهو يبدأ الكلام في كل فضيلة أو رذيلة بالآيات والأحاديث، وما روي عن كبار الصحابة والتابعين، ثم يتبع ذلك بالتحليل النفسي للفضائل والرذائل.
وقد جمع بين المذهبين، كما حاول الجمع بين الفقه والتصوف، وبين الفلسفة والدين، وكثير من الأخلاق من النوع الأول عبرت عنه أشعار، كما فعل المتنبي وأبو نواس في حكمهما، وسايرهما من جاء بعدهما.
ومن الملاحظ أن المنحى الأول يسير إلى المنحى الثاني، ومن ظواهر المنحى الأول اعتماده على الدين كثيرا، وعلى الحكم الدينية، وأما المنحى الثاني فيميل إلى الاعتماد على العقل كثيرا، ولكل فضل؛ فالمنحى الأول يستقبل من الجماهير استقبالا حسنا لاعتماده على الدين ... والدين في أعماق كل نفس تقريبا، والمنحى الثاني يستقبل استقبالا حسنا من الفلاسفة وأمثالهم؛ لأنهم يميلون إلى استناد كل شيء على المبرر العقلي ...
هوامش
الفصل السابع
في العلوم
ونعني بالعلوم ما يسمى عند الفرنج
SCIENCES
كالرياضيات، والطبيعيات ، والكيمياء، ونحوها، وقد عنيت طائفة بها، وتقدمت تقدما كبيرا في هذا القرن الرابع، وتفاخر الملوك والأمراء بها، وزينوا أقطارهم بها، فجبريل بن بختيشوع في العراق، وابن الهيثم في العراق ومصر، وعلي بن رضوان في مصر، وابن البيطار النباتي وغيرهم، وألفوا في ذلك الكتب الكثيرة للأمراء، كما فعل الرازي في كتابه «المنصوري» باسم المنصور بن إسحاق، و«التاجي»، وكما فعل سعيد بن هبة الله الذي ألف كتابه «المغني في الطب» للمقتدي بأمر الله، ونقرأ كتاب «الفهرست» لابن النديم، و«كشف الظنون»، فترى فيهما مئات الكتب في العلوم. وكانت الرقعة الإسلامية مجالا للعلماء من كل جنس ودين، من نصارى ويهود ووثنيين، وكان بعض الأطباء مثلا ذوي اختصاص كالكحالين، والجراحين، والفاصدين، ومن يعالج النساء، إلخ، حتى كان بعضهم من النساء، وكانوا كاليوم يعنون بفحص البول، وجس النبض، والاستدلال منهما على نوع المرض، واستفاد الأطباء المسلمون من اليونان، والفرس، والهنود، والكلدان، واخترع بعضهم ما خالف به أطباء اليونان كمعالجتهم الفالج والاسترخاء بالأدوية الباردة بدل ما كان يستعمل عند اليونان من الأدوية الحارة، واستخدم أطباء المسلمين المرقد «البنج» في الطب، وتوسعوا في الكي، واستعملوا صب الماء البارد في أحوال النزيف، وكانوا أول من نظم الصيدلة، وتوسع فيها، واستجلبوا العقاقير من مختلف البلاد، وأنشئوا الحوانيت لها، وكان اشتغالهم بتحويل المعادن إلى ذهب سببا في وقوفهم على كثير من المواد الكيماوية، فاستحضروا ماء الفضة المسمى «حامض النتريك»، وزيت الزاج، المسمى «حامض الكبريتيك»، واكتشفوا البوتاسا، وروح النوشادر وملحه، وحجر جهم المسمى «نترات الفضة»، والسليماني المسمى «كلوريد الزئبق»، وغير ذلك من المركبات والعناصر، واكتشفوا مادة إذا طلي بها الخشب لم يحترق، وعرفوا الترشيح، والتقطير، والتصعيد، والبلورة، والتذويب، واستخدم مثلا ابن الهيثم علمه بالكيمياء، والطبيعة في المخترعات الميكانيكية، واشتغلوا بعلم الفلك، وبدءوا فيه بالتنجيم، ثم قلبوه إلى علم، فصنع الخوارزمي مثلا زيجا جمع فيه بين مذاهب الهند والفرس والروم، وزاد في ذلك أبوابا . وجاء البتاني فصنع زيجا آخر، عرف بالزيج الصابي، وجاء بعد ذلك في القرن الرابع والخامس أبو الوفاء البوزجاني والبيروني، فاخترعا كثيرا من الآلات الفلكية، استخدموها في المراصد، وفي مصر أنشئ مرصد على جبل المقطم عرف بالمرصد الحاكمي؛ نسبة إلى الحاكم بأمر الله.
واشتغلوا بالحساب، والجبر، والهندسة، بعدما نقلوا عن اليونانية بعض كتبها، واشتهرت كتب الخوارزمي في الجبر والمقابلة، حتى يظن بعضهم كلمة «اللوغارتم» محرفة عن الخوارزمي، وألف أبو حنيفة الدينوري كتابا عظيما في النباتات، وصفها وصفا دقيقا - ولكن والحق يقال - كان اشتغالهم بالعلوم أقل من اشتغالهم بالآداب، كما سنفصل ذلك في الخاتمة - إن شاء الله.
فأما ابن الهيثم فهو نموذج للعالم الإسلامي في القرون الوسطى، كما أنه نموذج لما زاد فلاسفة المسلمين على اليونانيين، وهو الحسن أبو علي بن الحسن بن الهيثم، ولد حوالي سنة 354ه، وكان أول أمره بالبصرة، وعني بتحصيل العلم والفلسفة في عصره من هندسة، ومخروطات، وجبر، وحساب مثلثات، وأرتماطيقا، وما يتصل بها من نظريات هندسية، وميكانيكا، ومراكز الأثقال، ورفع الأثقال، وأخذ يدرس كل ما وقعت عليه يداه من كتب متقدمة، ولم يكتف بقراءة الكتب الفلسفية، بل عني بتلخيصها، والتصنيف فيها، ويقول: «أنا ما مدت لي الحياة باذلا جهدي، فمستفرغا قوتي، إلا متوخيا أمورا ثلاثة: إفادة من يطلب الحق، ويؤثره في حياتي، وبعد مماتي، والارتياض بهذه الأمور، وجعله ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة، وأوان الهرم». وقد ألف في هذه المواضيع العلمية عشرات من الكتب، بلغ ما يتعلق منها بموضوعات الفلسفة، والعلم الطبيعي ثلاثة وأربعين كتابا، وما يتعلق منها بالرياضة والعلم التعليمي خمسة وعشرين، أورد أسماءها ابن أبي أصيبعة في كتابه «طبقات الأطباء».
ولم يكتف بالتلخيص، بل تحرر من التقيد بآراء السابقين، فأدلى بآرائه الشخصية، فألف مثلا كتابا في الرد على يحيى النحوي، واستقل أيضا في الرياضة، وزاد في برهانها وتصحيحها، ورد الخطأ فيها، واستخدم علمه في أمور إسلامية في كتابه «في سمت القبلة».
وأهم ما امتاز به معرفة نظريات الرياضة، ومن أهم مميزاته تطبيق علمه الرياضي والهندسي على العمل، فيروي ابن القفطي أن الحاكم بأمر الله الفاطمي بلغه نبأ ابن الهيثم، وعلو مقامه في العلم التعليمي ، وما يقوله ابن الهيثم من أنه لو كان بمصر لعمل في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال، وهو في طرف الإقليم المصري، فاستدعاه الحاكم، وأرسل إليه أموالا وهدايا. وخرج الحاكم نفسه لاستقباله خارج مدينة القاهرة، وأكرم وفادته، وأمر بإكرام مثواه، فلما استراح طالبه بما قال في أمر النيل، وأرسله إلى أعلى النيل مع جماعة من الصناع، فلما وصل إلى الشلال، لم يجده، كما بلغه من قبل، موضعا عاليا ينحدر منه الماء، ولم يجد الأمر متفقا وفكرته التي خطرت له، فعاد إلى القاهرة وهو في أشد حالات الخجل والانخذال، واعتذر إلى الحاكم، فقبل الحاكم عذره، وولاه منصبا من مناصب الدولة، فتولاه وهو كاره له؛ لأنه لم يكن يحب المناصب، ثم ادعى الجنون، حتى مات الحاكم، وتوفي بالقاهرة في أواخر سنة ثلاثين وأربعمائة، واستفاد الناس منه كثيرا، وكان - رحمه الله - متين الخلق، جميل التواضع، مع علمه وفضله، يقول ابن أبي أصيبعة: «إنه كان فاضل النفس، وافر التزهد، محبا للخير».
1
وابن الهيثم يبحث في مسائل قد نظن أنها لم تبحث في عصره، مثل وصوله إلى نتائج باهرة في علم الضوء، وامتداد الضوء على السماوات المستقيمة، وفي الأضواء العرضية والمنعكسة، وامتزاج الألوان، وانعكاس الضوء وانعطافه إلخ.
وأما البوزجاني فقد اشتهر بالرياضة، وله فضل في تقدم العلوم الرياضية، وهو محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل، ولد في بوزجان سنة 328ه، وانتقل إلى بغداد في سن العشرين، وتوفي سنة 376ه، وقد اشتهر كثيرا في علمي الفلك والرياضيات، وله فيها مؤلفات، يقول بعض الإفرنج: «إن له في الهندسة استخراجات غريبة، لم يسبق إليها، وله كذلك مبتكرات في الأوتار». وكتب في الجبر، وزاد على بحوث الخوارزمي، وكتب في العلاقة بين الهندسة والجبر، وله بحوث قيمة في المثلثات، وأدخل تجديدات على القطاع، وعلى يده تقدمت نظريات المثلثات.
ويظهر لي أنه هو الذي أورده أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، وأن أبا الوفاء طلب منه أن يؤلف له كتابا يذكر له فيه ما دار بينه وبين ابن سعدون من أحاديث وسمر؛ فألفه له.
واشتهر في أوائل القرن الرابع أيضا الخازن، وهو محمد بن حسن أبو جعفر. ويقولون: إنه أول من حول المعادلات التكعيبية بواسطة قطوع المخروط، وله بحوث كثيرة في المثلثات.
واشتهر في هذا العصر أبو عبد الله البتاني في الفلك والرياضيات، وكان من أقدر علماء الرصد، ولد في بتان من ناحية حران سنة 240ه، وتوفي سنة 317ه، وكان له باع طويل في الهندسة، وهيئة الأفلاك، وحساب النجوم، وله مؤلفات عدة أهمها زيجه المسمى «زيج الصابي»، وهو أصح الأزياج، وقد ترجم إلى اللاتينية، وطبع بروما سنة 1799م، وفيه بعض صور قيمة.
2
وأما الخازن، فقد غمر، ولم يعرف كثيرا؛ لأنه اختلط اسمه بابن الهيثم لقرب التشابه بين اسميهما بالحروف اللاتينية، فاسم الأول: الهازم، واسم الثاني: الكازن.
واشتهر أيضا في العلم أمية بن أبي الصلت، كما اشتهر بالشعر، وقد حكى عنه ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» شيئا كنا نظنه من أفكار العصر الحديث، وهي فكرة رفع المراكب الغارقة من قعر البحار، فقد حكى عنه أن مركبا مملوءا بالنحاس غرق قريبا من الإسكندرية، فعزم أبو الصلت على رفعه، فاجتمع بالأفضل أمير الجيوش - ملك الإسكندرية - وباحثه بما جال في خاطره، وطلب منه أن يهيئ له ما أراد، فأحضر الأفضل لأبي الصلت الآلات اللازمة، ولما تهيأت وضعها في مركب عظيم، هي موازاة المركب الذي غرق، وأرسى إليه حبالا مبرومة من الإبريسم؛ إذ لم تكن الحبال القوية المصنوعة من الأسلاك المعدنية معروفة، فأمر قوما لهم خبرة في البحر أن يغوصوا، ويوثقوا ربط الحبال بالمركب الغارق، وكان قد صنع آلات بأشكال هندسية؛ لرفع الأثقال في المركب الذي هم فيه، وأمر الجماعة بما يفعلونه في تلك الآلات، ولم يزل شأنهم ذلك، والحبال ترتفع إليهم أولا فأولا، وتنطوي على دواليب بين أيديهم، حتى بان لهم المركب الذي كان قد غرق، وارتفع إلى قريب من سطح الماء، ثم عند ذلك انقطعت الحبال، وهبط راجعا إلى قعر البحر، ولقد تلطف أبو الصلت جدا فيما صنعه، وفي التحيل لرفع المركب، إلا أن القدر لم يساعده، وحنق عليه الملك لما غرقه من الآلات، وأمر بحبسه، وبقي في الاعتقال إلى أن شفع فيه بعض الأعيان، فأطلق، وكان إلى علمه شاعرا رقيقا، شعر في الهيئة التي مهر فيها.
كذلك اشتهر في الرياضيات عمر الخيام الأديب المعروف، وقد انعزل عن الناس، وانعكف على البحث بالدراسة، وألف في الجبر والفلك، واستعمل كثيرا من المعادلات التي لم تكن معروفة من قبل، وربط بين الجبر والهندسة، وقسم المعادلات إلى أقسام متنوعة، وحصرها.
ووجد في كتب الخيام قانون لحل المعادلة ذات الدرجة الثانية، وله براعة أيضا في الفلك، حتى إن السلطان ملك شاه دعاه لمساعدته في تعديل التقويم السنوي.
ومما ساعد العرب على التوسع في العلوم أنهم حينما فتحوا بلاد فارس والشام، رأوا فيها خزائن من العلوم اليونانية، قد نقلت إلى اللغة السريانية، فنقلوها إلى اللغة العربية، وخاصة ما لم يكن نقل من قبل، ثم أخذوا يدرسونها، وساروا بها إلى الأمام، بل لم يكتفوا بالنقل عن السريانية، فتعلم بعضهم اللغة اليونانية، والدليل على ذلك المعاجم للغة اليونانية والعربية.
وكانوا في كل مدينة كبيرة يحلونها ينشئون فيها المكتبات والمختبرات والآلات، وزادوا على العلوم اليونانية تجاربهم الشخصية من استخراج المجهول من المعلوم، والعلل من المعلول، وعدم التسليم لما لا يثبت من غير تجربة، كما نجد ذلك من قديم في كتاب «الحيوان» للجاحظ، فهو يخطئ أرسطو في مسائل كثيرة، وربما فضل عليه عربيا بدويا.
وعرف العرب تركيب النار اليونانية واستخدموها، وقذفوا بها في شتى الطرق، وألقوا بها الرعب في قلوب الصليبيين، وربما كانوا هم مخترعي البارود، كما قال ذلك كثير من المستشرقين.
فقد ذكر بعض المؤرخين أن أول معركة استعمل فيها البارود كانت على يد الأمير يعقوب حين حاصر مدينة المهدية سنة 1205م. قالوا: «فضرب أسوارها بمختلف الآلات والقنابل، وضربها بآلات لم يرها الناس من قبل، فكانت كل واحدة منها ترمي قذائف كبيرة من الحجارة، وقنابل من الحديد، وتسقط في وسط المدينة»، وقد روي أن بعض الإنجليز شاهد ذلك، فنقل هذا الاختراع إلى بلادهم فورا.
هذا إلى كتب العرب الكثيرة في النباتات، وفي المعادن، واستخدموا النباتات في الطب، وزرعوا النباتات الطبية، وترجمت اكثر كتب الرازي إلى اللغة اللاتينية، وكانت كتبه مع كتب ابن سينا أساسا للتدريس في الجامعات الأوروبية، واشتهر أبو القاسم القرطبي بالجراحة، ووصف عملية سحق الحصاة في المثانة وإخراجها.
وأنشأ العرب في ذلك العصر وقبله كثيرا من المارستانات، واكتشف الأطباء كثيرا من النباتات التي في بلادهم لم يكن يعرفها اليونان، وعرفوا الكاويات والفتائل، والبنج الذي سموه «المرقد»، وقالوا: «إن هناك عمليات جراحية، تحتاج لتنويم المريض؛ حتى يفقد وعيه وحواسه».
وعلى الجملة، فقد مهر العرب في العلوم من حساب وجبر وهندسة، وفلك، وميكانيكا، وأخذوا علوم اليونان والهنود، ودلتهم تجربة حياتهم الخاصة على اكتشاف أشياء لم تكن معروفة عند اليونان، وقد اعترف كثير من المستشرقين العدول بابتكاراتهم أشياء كثيرة، لم يعرفها اليونان ولا الهنود؛ أما الذين غمطوهم حقهم فقد حملهم على ذلك تعصبهم ضدهم.
ثم أصاب العلماء من بعد، ما أصاب الأدب، فلم ينبغ بعد هذا القرن إلا القليل النادر، مثل: الطوسي الذي مهر في الفلك، وشهر بالرصد، وإدخاله بعض الأعمال الهندسية التي لم تعرف من قبله، وأوضح الطوسي كثيرا من النظريات الفلكية، وأصلح كتاب المجسطي، وحرره، وكتاب «الأكر»، ومثل ابن الهائم الذي اشتهر بالرياضيات، وشاع اسمه في مصر والشام، وألف في الجبر، وفي ضرب أعداد خاصة في أعداد أخرى، من غير إجراء عمليات الضرب، كقوله: «إن كل عدد يضرب في خمسة عشر أو مائة وخمسين، أو ألف وخمسمائة، يضاف عليه مثل نصفه، ويضرب حاصل الجمع في عشرة في الأول، ومائة في الثاني، وألف في الثالث». وقد بعثهم على المهارة في الرياضة حل مسائل معقدة في الميراث، ومهارتهم في الفلك حاجة الامراء إلى الرصد، عدا ما يجد الرياضي والفلكي من اللذة الذاتية، فالقول بأن العرب لم يخرجوا عما رسمه لهم اليونان والهنود والفرس قول جائر، والله لم يعقم العقل العربي، ولم يقصر الإنتاج على العقل اليوناني أو الهندي؛ بل جعل الأمر مشتركا كخيرات البلاد، وجمال أهلها، وحسن مقدرتها.
غاية الأمر، أن الخلف لم يحسن استخدام ما تركه السلف؛ إنما أحسنه الغربيون فكانوا ينقبون عن كتب العرب، ويترجمها من أتقن العربية، ويبنون عليها كما اعترف بذلك كثير ممن استفاد منهم، ولما جاءت النهضة الحديثة، اقتبسنا منها على أنها من صنع الأوروبيين، وأن آباءنا لا دخل لهم فيها، وهكذا الشأن في كل نوع من الثقافة.
هوامش
الفصل الثامن
التاريخ والجغرافيا
التاريخ
من قديم والعرب تعنى بالتاريخ، لا تاريخها وحدها؛ بل بتاريخ الأمم قبلها، فيحدثوننا أنهم كانوا يقرءون أخبار الفرس، وبعد مجيء الإسلام شجع ما في القرآن من قصص على تتبع ما في القرآن من قصص الأنبياء، كآدم ونوح - عليهما السلام - كما أن القرآن روى أحاديث كثيرة تاريخية، كقصة حرب الفرس مع الروم، فاشتاقت نفوسهم للتوسع في فهم هذه الآيات، وقد اتجهوا في التاريخ إلى جمع الأخبار، فحققوا الأماكن والأحوال التي كتبت بها الآيات، أو قيلت فيها الأحاديث، وحملتهم أيضا مسألة ضرب الخراج على البلاد، واختلاف المؤرخين في شأنها: هل فتحت عنوة أو صلحا، كما فعل البلاذري المتوفى سنة 279ه، وعني الخلفاء برواية تواريخ الملوك في الأمم المختلفة، وعدوا قراءتها عظة، واكتساب تجربة، وشاع بين الناس «علم الملوك والنسب والخبر، وعلم أصحاب الحروب، وكتب الأيام والسير، وعلم الكتاب والحساب»؛ وإذ كانوا يرون أن التاريخ يفيد الفطنة، وحسن التجربة، حكى صاحب كتاب «تجارب الأمم» أن الخليفة المكتفي طلب من وزيره كتبا يلهو بها، ويقطع بمطالعتها زمانه، فتقدم الوزير إلى النواب بتحصيل ذلك، وعرضه عليه، قبل حمله إلى الخليفة، فجاءوه ببعض الكتب، وفيها شيء مما جرى في الأيام السالفة من وقائع الملوك، وأخبار الوزراء، ومعرفة التحيل في استخراج الأموال، فلما رآها الوزير غضب، وقال: لنوابه: «والله إنكم أشد الناس عداوة لي، أنا قلت لكم: حصلوا له كتبا يلهو بها، ويشتغل بها عني وعن غيري، فقد حصلتم له ما يعرفه مصارع الوزراء، ويوجد له الطريق إلى استخراج الأموال، ويعرفه خراب البلاد من عمارتها. ردوها، وحصلوا له كتبا فيها حكايات تلهيه، وأشعار تطربه».
ولا تخلو كتب التاريخ من تملق للخلفاء المعاصرين، ففي الدولة العباسية تملق المؤرخون للعباسيين، وبالغوا في عظمة عبد الله بن عباس وهكذا، روى أبو إسحاق الصابي «أن عضد الدولة بن بويه أمره أن يؤلف له كتابا في أخبار الدولة الديلمية، فألف له تاريخا سماه «التاجي»، فاتفق وهو يؤلفه أن دخل عليه صديق له، فسأله عما يعمله، فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها».
وإذا كان المؤرخ ذا مذهب ديني معروف ظهر ذلك في تاريخه، كما فعل صاحب الفخري في كتابه، إذ كان شيعيا، وإذا كان سنيا تحامل على الشيعة، والعكس؛ اللهم إلا القليل النادر الذي يحكمه الدين والضمير، كالبلاذري والطبري.
ثم كثير من هؤلاء المؤرخين يؤخذ عليهم عدم تحرجهم من الألفاظ البذيئة، والأقوال الجارحة إلا القليل منهم كابن خلكان.
وفي هذا العصر تقدم التاريخ، وأصبح له منهج مرسوم بعد أن كان خبرا هنا وخبرا هناك، والمؤرخون في هذا العصر كثيرون، نكتفي منهم بثلاثة عظام: محمد بن جرير الطبري، والمسعودي، ومسكويه، وكلهم كتبوا حسب السنين، لا حسب الموضوع، فإذا حدثت جملة حوادث مختلفة في أماكن مختلفة، كان الذي يجمع بينها سنة حدوثها، لا موضوعها، وهو من غير شك نظر بدائي، مرت به الأمم المختلفة من شرقية وغربية.
فأما ابن جرير، فقد مضت ترجمته كمفسر، ونتعرض له الآن كمؤرخ، ولد في آمل، إحدى قرى طبرستان، وبدأ دراسته مبكرا، حتى قالوا: إنه حفظ القرآن وهو ابن سبع، ثم بعد أن تعلم على أبيه رحل إلى الري، ثم إلى بغداد.
وكان ينوي الأخذ عن أحمد بن حنبل، لولا أن ابن حنبل مات قبل وصوله إلى بغداد، وعزم على السفر إلى مصر، ولكن عرج في طريقه على إحدى بلاد الشام، ودرس بها الحديث، ثم سافر بعد ذلك إلى مصر، ثم رجع إلى بغداد.
والحق إنه كان مثقفا ثقافة واسعة وعميقة، هو في التفسير حجة، وفي التاريخ حجة، وفي الفقه حجة، وهو مع علمه الواسع قوي الخلق، لا يحيد عن قول ما يعتقده حقا، ولو رجم بالحجارة، ولو تألب الناس عليه جميعا.
والإنسان يعجب من برنامج تفسيره الذي يبلغ ثلاثين جزءا، وتاريخه الذي يبلغ ثلاثة عشر جزءا: كيف وجد الزمن، وكيف استطاع التأليف، ولكن يفسر ذلك حبه الأصيل للعلم، وعزوفه عن الدنيا ومباهجها، وهو يرفض وظيفة تعرض عليه، ومالا يقدم له، وحتى الشعر كان فيه أدبيا كبيرا، وكان - كما قالوا - نحويا صرفيا رياضيا، دارسا للطب.
ولم يقبل عقله الواسع أن يتبع مذهبا معينا، فاجتهد أن يكون له مذهب خاص، ولو عادى فقهاء المذاهب الأخرى، وخصوصا الحنابلة.
جمع الطبري مواده من الأحاديث، وأقوال من قبله من المؤرخين، مع التحري الشديد لصدق ما يجمع، وقد مكنته فارسيته الأصلية من أن يطلع اطلاعا واسعا على أخبار الأمم.
نعم، إن كثيرا من تاريخ الأمم القديمة ليس إلا خرافات وأوهاما، ولكن عذره في ذلك أن هذا هو ما كان معدودا في وقته، وليس له من الوثائق ما يستطيع أن يذكر به التاريخ الصحيح، وقد وصل إلينا كتابه «تاريخ الرسل والملوك»، فقد قالوا: إنه كان طويلا، ولكنه رأى الناس لا يصبرون على قراءته، فاختصره في هذا الذي بين أيدينا، وقد وصله إلى آخر حياته سنة 310ه، وهو أحسن ما يكون إذا تعرض لتاريخ الفرس، وتاريخ الإسلام؛ لأن المواد عنده غزيرة، ثم أكمله بعض تلاميذه.
والطبري يروي عن الحادثة الواحدة آراء كثيرة فيها، متأثرا بمنهجه التفسيري، فهو في كل آية ينقل آراء الصحابة والتابعين فيها، ولكنه كان ذا رأي ناضج، فهو يستطيع أن يرجح بعض الآراء على بعض، وقد عني الناس بتاريخه كثيرا، حتى ليكاد يكون عماد كل مؤرخ بعده، ودليل العناية به أنه ترجم من قديم إلى اللغة الفارسية، ووضع له ذيول مختلفة. وله كتاب آخر في تاريخ الرجال الذين ورد ذكرهم في أحاديثه، وكما اعتمد على كتب من قبله، اعتمد أيضا على الأحاديث الشفوية من الناس الذين يوثق بهم كأبي محنف، وعمر بن شبة، وسيف بن عمر، وابن طيفور، وغيرهم. ويظهر أنه بعد جمعه هذه الوثائق والأخبار رتبها وألفها، وكتابه هذا مع أنه تاريخي في أصله، فالقارئ له يقف على ثروة كبيرة في الأدب؛ لأنه في حكايته للروايات المختلفة يقصها في لغة رصينة، بليغة، غاية في القوة.
وهو جريء في قول الحق، يتعرض لذكر أشياء قد لايرضى عنها العباسيون أنفسهم، وهم الخلفاء ذوو السلطة، وإن أخذنا عليه شيئا فهو أنه يكثر من ذكر الحروب، والوقائع الحربية، وسير الخلفاء، ولا يعرض إلا لماما لذكر الأحاديث الاجتماعية، والمسائل الاقتصادية.
وقد طمح كثير قبله إلى كتاب في التاريخ العام، ولكن ذلك لم يتسن لأحد غير الطبري، فقد ألف بعضهم كتبا في التاريخ الخاص، كما فعل وهب بن منبه في تاريخ اليمن، وكما فعل حمزة الأصفهاني في تاريخ الفرس، وكما فعل بعضهم في تاريخ السيرة النبوية، وكما فعلوا في تاريخ قبائل العرب فيما سموه «الأيام».
أما التأليف في التاريخ العام، فلم يقدر أحد عليه، وجرد الطبري نفسه لذلك، فنظر إلى التاريخ نظرة عامة منذ الخليقة إلى آخر حياته، وقد ساعده على ذلك ما كتبه محمد بن إسحاق؛ فكان واسع العلم بالسيرة، وبالمغازي، واعتمد في كثير من أقواله على كثير من العبريين كوهب بن منبه، كما اعتمد على السيرة التي وضعها أبان بن عثمان بن عفان، وعاصم بن عمر بن قتادة، وابن شهاب الزهري، وغيرهم، كما ساعده وجوده في العراق، وكانت الثقافة فيه واسعة، وكان لعلماء الحديث فضل كبير في تدوين الأحاديث المتعلقة بالمغازي والسيرة. وكان لابن شهاب الزهري الفضل في المقارنة والتوفيق بينهما، ووضعها في نسق واحد.
وقد غلبت على الطبري طريقة المحدثين، فهو يروي الحادثة عن جملة من الرواة، ويترك للقارئ اختيار أحسن الآراء كما فعل في التفسير، وكان ممن أخذ عنهم الإمام الشافعي؛ نقل عنه بواسطة تلاميذه كيونس بن عبد الأعلى المصري المتوفى سنة 264ه.
وهذه الطريقة التي اتبعها الطبري في التاريخ بالرواية عن مالك بن أنس، كما روى عن الأوزاعي هي نفس الطريقة التي اتبعها في التفسير، وأخذ فقه الشافعي عن الربيع بن سليمان المرادي المصري المتوفى سنة 270ه، كما أخذ فقه الإمام أبي حنيفة وأصحابه من كبار رجال المذهب كالحسن بن زياد اللؤلؤي، وكما اعتمد في كتابة التاريخ على الصحف، والمؤلفات قبله، اعتمد أيضا على الروايات التي أخذها عن شيوخه، وخصوصا في السنين الأخيرة من كتابه، فيقول مثلا: ذكر لي بعض أصحابي، أو ذكر لي جماعة من أصحابنا، أو أخبرني جماعة من أهل الخبرة، أو ذكر هذه القصة بعض أصحابنا عمن حدثه أنه حضر.
وإذا ذكر روايات كثيرة عن حادثة أتبعها بمثل قوله: قال أبو جعفر: «واختلف السلف من أهل العلم فيه - ذكر من قال ذلك - فقال بعضهم ... وقال آخرون ... وأحيانا يقول: والصحيح عندنا ذلك ... أو: وأنا أشك في ذلك»، وإذ كان الطبري محدثا وفقيها، فقد أثر ذلك في كتابه.
وأما المسعودي، فكان ذا منحى آخر يغاير منحى الطبري، ولكل فضل، فألف لنا المسعودي كتابي «مروج الذهب»، و«التنبيه والإشراف»، وضاعت له كتب كثيرة، وهو ليس مؤرخا فقط؛ بل هو مؤرخ وجغرافي معا، فهو رحالة سائح، ولد في بغداد من عائلة عربية، ورحل وهو شاب إلى فارس، ثم إلى الهند، وزار «ملتان»، والمنصورة، وصحب بعض التجار في سفرهم في بحر الصين، ورجع إلى زنجبار، ثم رجع إلى عمان، ثم سافر إلى قزوين، وطبريا، وفلسطين، ثم زار أنطاكيا، وساح في بعض بلاد سورية، ثم عاد إلى البصرة، ثم عاد إلى سوريا، ورئي بعد ذلك في الفسطاط، وهكذا كان لا يستريح من الأسفار.
ولم تكن أسفاره للنزهة؛ بل كانت لمعرفة الأقطار وأخبارها، وإذا قارنا بينه وبين المقدسي والبيروني وجدناهما أدق وأعمق.
ويدل كتابه على معرفة واسعة باللغة، والعادات، والتقاليد، والأدب، والأخلاق، والسياسة، يقول في أول كتابه «مروج الذهب»: «إننا صنفنا كتابنا في أخبار الزمان، وقدمنا القول فيه في هيئة الأرض، ومدنها، وعجائبها، وبحارها، وأغوارها، وجبالها، وأنهارها، وبدائع معادنها ... ثم أتبعنا ذلك بأخبار الملوك الغابرة، والأمم الدائرة ... ثم أتبعناه بكتابنا الأوسط في الأخبار على التاريخ، ومن درج في السنين الماضية ... ونعتذر من تقصير إن كان، ونتنصل من إغفال، أو عرض لما قد شاب خواطرنا، وغمر قلوبنا من تقاذف الأسفار، وقطع القفار، تارة على متن البحر، وتارة على ظهر البر، مستعملين بدائع الأمم بالمشاهدة، عارفين خواص الأقاليم بالمعاينة، فتارة بأقصى خراسان، وتارة بأواسط أرمينيا، وأذربيجان، وطورا بالعراق، وطورا بالشام، فسيري في الآفاق سرى الشمس في الإشراق كما قال بعضهم:
تيمم أقطار البلاد فتارة
لدى شرقها الأقصى وطورا إلى الغرب
سرى الشمس لا ينفك تقذفه النوى
إلى أفق ناء يقصر بالركب
وفاوضنا أصناف الملوك على تغاير أخلاقهم، وتباين هممهم، وتباعد دارهم».
وهكذا يصف متاعبه في رحلاته، ودقته في أخلاقه، واطلاعه الواسع على ما ألف من قبله، وتعديد كتبه التاريخية والجغرافية.
ويمتاز المسعودي في كتبه بالتفاته الكثير إلى الأمور الاجتماعية، كبحثه في ديانات العرب، وآرائها في الكيمياء، والهواتف، والقيان، والزجر، والسانح، والبارح، ومقارنته بين العجم والعرب إلخ إلخ.
وعند كل ملك يذكر طرفا من أخباره الخاصة، وسيرته الداخلية، وملامحه، وتقاطيع وجهه إلخ؛ مما لا نجد له نظيرا في الكتب الأخرى، فهو مؤرخ مسلح من الوثائق التي تلزم المؤرخ.
وأما مسكويه - أو ابن مسكويه - فلم يعن بالرحلات، كما عني الطبري والمسعودي؛ ولكن نوع معيشته، وتقلباته في حياته، وفارسيته الأصيلة، ودراسته للفلسفة اليونانية، واشتغاله بالكيمياء، ومعاشرته للوزير المهلبي، ومخالطته لعضد الدولة، وابن العميد، وما حصل له من أزمات سياسية؛ كل ذلك جعل منه رجلا مجربا حقا، وقد خلف لنا من ذلك كتابه «تجارب الأمم»، يقصد منه إلى أن ما جرى على الأمم التي قبلنا، والملوك، والناس عبارة عن درس وعظ وإرشاد؛ ولذلك يلتفت إلى ما لا يلتفت إليه غيره، ويقف عند أمير صغير قد يكون منه درس كبير؛ كالذي يحكي لنا أن الأتراك كانوا يتعمدون أن يتخيروا من الخلفاء العباسيين حديثي السن، أو من فيهم بله وغفلة، أو من يعكفون على الملاهي، ثم يتعمدون ألا يطلعوه على كتاب جدي؛ حتى لا يحاسبهم على أعمالهم، ونحو ذلك من طرف لطيفة.
ولذلك كان له منحى خاص غير منحى الطبري والمسعودي، والقارئ له يستفيد منه فوائد كثيرة .
وكان ذا شغف بالأمور السياسية والاجتماعية، ومن آثاره التي وصلت إلينا كتاب «جاويدان خرد»، ومعناه العقل الأزلي، وهو كتاب ألفه العلماء القدماء بالفارسية، يشتمل على حكم وآداب، عني به مسكويه، فأتم ترجمته التي بدأ بها الحسن بن سهل، ولخصه.
وقد أعجب به لأن فيه نظرات دقيقة في السياسة والاجتماع، كتوصية أحد ملوك الفرس لولده، وللملوك من خلفه: «أخرج الطمع عن قلبك تحل القيد من رجلك، الظالم نادم وإن مدحه قومه، والمظلوم سالم وإن ذمه، والمقتنع غني وإن جاع وعري، والحريص فقير وإن ملك الدنيا، من ظلم من الملوك فقد خرج من كرم الملك والحرية، وصار إلى دناءة الشره والنقيصة، والشبه بالعبيد والرعية، استظهرعلى من دونك بالفضل، وعلى نظرائك بالإنصاف، وعلى من فوقك بالإجلال، يقول المسيح - عليه السلام: بماذا نفع امرؤ نفسه؟ باعها بجمع ما في الدنيا، ثم ترك ما باعها به ميراثا لغيره».
وقد اختار فيه: حكما للفرس، وحكما لليونان، وحكما للعرب، إلى غير ذلك، فالظاهر أن مسكويه كان شغوفا بالفضائل، شديد البحث عن خفايا السياسة، يرى أنه محتاج إلى ذلك لمعونة من حوله من الملوك والوزراء، وليكمل نفسه إذا كان يريد أن يحلي نفسه بكل فضيلة يعرفها، ولا أظن ابن حيان وقد ذمه إلا حاقدا عليه؛ إذ كان يرى نفسه عالما فاضلا، وهو مع ذلك محروم حتى من الرزق الضروري، فهو ينقم على كل من ناله خير، وخصوصا إذا كان من ينقم عليه دونه علما.
على كل حال، إن التاريخ وإن تقدم في هذا العصر، فقد كان لا يزال فيه عيبان كبيران:
الأول:
سيره في الأكثر حسب السنين لا حسب الموضوع.
الثاني:
الاعتماد على الجزئيات لا على الكليات؛ يضاف إلى ذلك أنه كان في نظرهم سير الحروب والملوك والانتصارات، أهم من سير الشعوب والحياة الاجتماعية؛ ولذلك يتعب المؤرخ الحديث كثيرا إذا أراد أن يؤرخ مسألة اجتماعية، فهو مضطر أن يغربل كثيرا ليعثر في آخر أمره على درر.
الجغرافيا
في هذا العصر حبب إلى الناس الهجرة من بلادهم، والاطلاع على البلاد الأخرى، شأن الأمم القوية في أيام عزها، أما الأمم الضعيفة فتحب مكانها، وتلتصق بأرضها، ولا تهتم بحياة غير حياتها، وكان يحمل على حب الهجرة شيئان: التجارة، والعلم؛ أما التجارة، فقد راجت في هذا القرن، وقام علماء الرحلات يضعون كتب الدليل لهذه الرحلات، وقامت الحكومات لبناء رباطات ينزل فيها المسافرون، ويتزودون منها، وكانت في أصل وضعها نقطا عسكرية لحفظ الحدود، من أن يتسرب إليها الأعداء، أو نقطا بريدية، ثم أضافوا إليها غرضا آخر، وهو معونة التجار، وكتب الدليل هذه ككتب الدليل اليوم، تبين المسافات بين البلاد، وأخلاق الأمم وعاداتهم، واعتقاداتهم، وما عندهم من أنواع السلع والمصنوعات، والحاصلات الزراعية، وما اعتادوه من مكاييل، ومقاييس، وأوزان، وأسماء المشهورين من الناس في كل قطر.
ومن أحسن ما ألف في هذا العصر كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة أحوال الأقاليم» للبشاري المشهور بالمقدسي، فقد قطع - كما يقول - ألفي فرسخ، وسافر إلى الصين وسرانديب، وككتاب «الأعلاق النفسية» لابن رسته، «والمسالك والممالك» للإصطخري، و«الممالك» للبكري، و«المسالك والممالك» لابن خرداذبة، و«البلدان» لابن الفقيه، إلى غير ذلك.
وأسس المسلمون في أيام عزهم مراكز تجارية يحضر إليها التجار بسلعهم وأموالهم من مختلف الأقطار، وبها السماسرة يبيعون ويشترون في مختلف الأقطار، وكان هناك صيارفة المال، ولهم وكلاء، يصرفون الصكوك، ويحررون الحوالات لوكلائهم في الأقطار الأخرى، وكان من أهم تلك المراكز جاوة، وكانت مركزا للبضائع الصينية، وعدن، وكازرون، والعريش.
وذهبوا إلى بلاد روسيا، وبلغوا كوتاهية، وذهبوا إلى أقصى السودان، وذهبوا إلى التتر لجلب جلود السمور، ووصلوا إلى كانتون، وحيثما وصلوا إلى بلد تعلموا لغتها وعاداتها، ونشروا لغتهم ودينهم، واختلطوا مع أهلها بالزواج.
وحكى لنا المسعودي في تاريخه قصصا كثيرة عن حال هؤلاء الرحالة، كابن وهبان، الذي كان غنيا كبيرا، وتاجرا عظيما، وكان من أهل البصرة، فرحل إلى سيراف، ورحل منها إلى الهند، ومنها إلى بلاد الصين، وأعمل الحيلة حتى قابل ملكها، وقد عاد فحدث أهلها بما رأى، وحث أهله على الرحلات، وتنظيم التجارات، وقد كانت لهم رحلات بحرية كالرحلات البرية، فأنشئوا المراكب الكبيرة للملاحة في البحر الأبيض، وكانت مراكبهم شراعية.
ويحدثوننا أن المركب تحمل بضعة آلاف راكب، وفيها حوانيت للبيع، وكانوا أحيانا يستحضرون أخشاب السفن من البندقية، وفيها غواصون لسد الثقوب من الحبشة، وبحارون لتنظيف السفن، والمحافظة عليها وخدمتها، وفيها الحمام الزاجل لإرسال الأخبار.
وقال المسعودي: إنه قد ركب عدة من البحار، كبحر الصين والروم، وأصابه فيها من الأهوال ما لا يحصى كثرة، فلم يجد أهول من بحر الزنج، وكانت أقصى ما تصل إليه المراكب في هذا البحر موزنبيه.
ومع أهوال البحار والبر تحملوا المشقات، حكى الإدريسي أنه في القرن الرابع «خرج جماعة من مدينة لشبونة، كلهم أبناء عم، وأنشئوا مركبا، وتزودوا فيه، ثم ركبوا بحر الظلمات واقتحموه؛ ليعرفوا ما فيه من الأخبار والعجائب، وليعرفوا إلى أين انتهاؤه، وهم يسمون المغررين».
ويظهر أنهم وصلوا إلى أمريكا؛ لأنها نهاية بحر الظلمات هذا، وهو المحيط الأطلنطي.
وأما العلم، فلم تكن كتب الحديث قد تم تكوينها، فكان العلماء يرحلون إلى الأقطار المختلفة يتلقون الحديث من أهلها، حتى ربما رحلوا المسافات البعيدة لرواية حديث واحد، وكان لا يعتد بعالم محدث أخذ حديثه من الكتب، ويسمونه الصحفي، أي أنه أخذ حديثه عن الصحف، ويفتخر العالم بكثرة مشايخه.
وهذا البيروني أصله خوارزم، وكان أهل بلده يسمونه الغريب؛ لطول غربته، بعد أن مهر في علوم اليونان الرياضية والهندسية، ثم أكب على ما للهند من تلك العلوم، وقارن ما عند الهنود بما عند اليونان، وأبان عيوب هؤلاء وهؤلاء، كما درس حالة الهند الاجتماعية، وألف فيها ... إلخ.
وكان المقدسي أعجوبة الأعاجيب، كما يحدثنا هو عن نفسه، دعاه إلى التأليف في الجغرافيا أنه عز عليه أن يرى غيره قد اخترع في العلوم وهو لم يخترع، فاتجه إلى جهة لم يتجهها أحد من قبله، قال: «رأيت أن أقصد علما أغفلوه، وأتفرد بفن لم يذكروه». ويعني بذلك: أن ينص على اختلاف أهل البلدان في كلامهم، وأصواتهم، وألسنتهم، وألوانهم، ومذاهبهم، ومكاييلهم وموازينهم، ونفوذهم، وصفة طعامهم وشرابهم، ومعرفة مفاخرهم وعيوبهم، ومراكز السعة والخصب ، ومواضع الضيق والجدب، وقال: «إن هذا علم لا بد منه للتاجر والمسافر، والملوك والكبراء، والقضاة والفقهاء».
نعم، إن بعضهم سبقه إلى ذلك، ولكنهم قصروا فكتبوا ما سمعوا، ومنهم من اقتصر على المدن المشهورة، ووضع لنفسه خطة: أن يرحل إلى الأقطار الإسلامية، ويشاهدها بنفسه، فإذا دخل بلدة، درسها أتم درس، وعلى حد تعبير: ذاق هواءها، ووزن ماءها، ولقي علماءها، وخدم ملوكها، وجالس القضاة والفقهاء، واختلف إلى الأدباء والقراء، وخالط الزهاد والمتصوفين، وحضر مجالس القصاصين، وتاجر فيها، وعاشر أهلها، ومسح إقليمها، ودار على تخومها، وفتش عن مذاهب سكانها، ودقق النظر في ألسنتهم وألوانهم».
وعلى الجملة، فلم يأل الرجل جهدا أن يحقق أغراضه النبيلة، قال: «ولم أترك شيئا مما يلحق المسافرين، إلا وقد أخذت منه نصيبي، فتفقهت وتأدبت، وتزهدت وتعبدت، وفقهت وأدبت، وخطبت على المنابر، وأذنت على المنائر، وأممت في المساجد، واختلفت إلى المدارس، وتكلمت في المجالس، وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الخانقائيين الثرائد، ومع النواتي العصائد، وطردت في الليالي من المساجد، وتهت في الصحاري، وسحت في البراري، وصدقت في الورع زمانا، وأكلت الحرام عيانا، وصحبت عباد جبال لبنان، وخالطت حينا السلطان، وملكت العبيد، وحملت على رأسي بالزنبيل، وأشرفت مرارا على الغرق، وقطع على قوافلنا الطرق، وصاحبت في الطرق الفساق، وبعت البضائع في الأسواق، وسجنت في الحبوس، وأخذت على أني جاسوس، وكم نلت العز والرفعة، ودبر في قتلي غير مرة، ورميت بالبدع، واتهمت بالطمع، وذهب لي في هذه الأسفار فوق عشرة آلاف درهم، ولم تبق رخصة مذهب إلا وقد استعملتها، وما سرت في جادة، وبيني وبين مدينة عشرة فراسخ، إلا فارقت القافلة، وانفلت إليها لأنظرها، فكم بين من قاسى من الألباب، وبين من صنف كتابه في الرفاهية، ووضعه على السماع؟».
أما ما لم يشاهده، فكان برنامجه فيه كما قال: «أن يسأل ذوي العقول من الناس ، ومن لم يعرف بالغفلة والالتباس، وأن يسأل عن الشيء الواحد جماعة مختلفة، فما اتفقوا عليه أخذه، وما اختلفوا فيه نبذه، وما حكوه ولم يقبله عقله أسنده إلى من رواه، أو قال فيه زعموا، وحلاه بالخرائط الملونة. وقد ساح في جزيرة العرب، والعراق، والشام، ومصر، والمغرب، ثم في بلاد فارس، والسند، والهند، ولخص آراءه في هذه البلاد كلها، فقال: أظرف الأقاليم العراق، وهو أخف على القلب، وأحد للذهن، وبه تكون النفس أطيب، والخاطر أدق، وأغزرها فواكه، وأكثرها علماء، وأجلة المشرق «الدولة السامانية»، وأكثرها صوفا وقزا الديلم «جرجان وطبرستان»، وأجودها ألبانا وأعسالا، وألذها أخبازا، وأمكنها زعفرانا الجبال «إقليم يشمل الري، وهمذان، وأصفهان، وقاشان»، وأسفلها قوما، وشرهم أصلا وفصلا خوزستان، وأحلاها ثمورا، وأوطؤها قوما كرمان، وأكثرها فانيدا، وأغزازا، ومسكا السند، وأكيسها قوما وتجارا فارس، وأشدها حرا وقحطا جزيرة العرب، وأكثرها بركات، وصالحين، وزهادا، ومشاهد الشام، وأكثرها عبادا، وقراء، وأموالا، ومتجرا، وحبوبا مصر.
ولم أر أطمع من أهل مكة، ولا أفقه من أهل يثرب، ولا أعف من أهل بيت المقدس، ولا آدب من أهل هراة، ولا أذهن من أهل الري، ولا أصح موازين من أهل الكوفة، ولا أحسن من أهل حمص، ولا أشرب للخمور من أهل بعلبك ومصر».
ولما جاء مصر أعجب بالفسطاط، وقال: إنه لم ير في الأمصار آهل منه، وليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه، وقد أعجب بأطعمتها وحلواها، وكثرة بقولها، وفواكهها، ونغمة أهلها بالقرآن، ودهش من كثرة المراكب في النيل، ومن كثرة المصلين في المساجد، ولكن لم تعجبه كثرة البراغيث فيها، وعدم عناية المسلمين بالنظافة، وازدحام مساكنهم بالسكان، وكثرة اختلافهم، وشرب الخمور، وانتشار الفجور، وكثرة السباب، وقال: «إن أهل الشام يعيبون على أهل مصر ثلاثة أشياء: أن مطرهم الندا، وطيرهم الحدا، وكلامهم رخو مثل النسا».
ومن أكثر ما امتاز به التفاته في جميع ما دخله من البلاد إلى اللهجات واللغات والأساليب، واختلاف الأقاليم في استعمال بعض الكلمات في قطر دون آخر.
وحكي عن قصة بعض ملوك خراسان إذ جمع رجالا من خمس كور خراسان، فلما حضروا تكلموا جميعا، فقال عن السجستاني: هذا لسان يصلح للقتال، والنيسابوري يصلح للتقاضي، والماروزي يصلح للوزارة، والبلخي يصلح لكتابة الرسائل، أما لسان هراة فيصلح للكنيف.
ويحكى أن كل بلد تغير أسماء الأعلام على شكل خاص، ففي فارس يقولون بدلا من علي: علكا، ومن حسن: حسكا، ومن أحمد: حمكا، للتلميح، وفي همدان يقولون: بدلا من أحمد: أحمدلا، ومن محمد: محمدلا، ومن عائشة: عشلا. وفي ساوة يقولون في أبي العباس: أبو العباسان، وفي حسن: حسنان، وفي جعفر: جعفران، وهكذا.
وعلى الجملة، فقد كان دقيق الوصف، حسن الالتفات إلى دقائق الأمور، ومن أجل ذلك أفادنا فوائد كثيرة، ونكتفي به عن أمثاله فهو خيرهم.
والعرب منذ اتصلوا بالعالم الخارجي أثبتوا أنهم مرنون قابلون لمسايرة الحضارات المختلفة، وأقلمتها، وأنهم أذكياء ذوو حيوية، وخيال فسيح، وقد كان العرب في هذا العصر في غاية من النشاط، وحسن الرحلات، كونوا علائق تجارية في أقصى الأرض، فكونوا علائق بالصين، وبعض البقاع الروسية، وبعض مجاهل إفريقيا، ولم تمنعهم صعوبة المواصلات، وسوء الاستعدادات من الرحلات إلى أقصى البلاد، فسياحة التاجر سليمان لبلاد الصين، ورحلته من سيراف الواقعة على الخليج الفارسي، وقطعه المحيط الهندي، حتى يبلغ شواطئ الصين معروفة مشهورة، وقد قضى المسعودي خمسا وعشرين سنة من حياته يطوف في أرجاء الأرض، وهو وصاف للآفاق، يصف أحوال الأمم في عهده، ويذكر نحلهم، وعوائدهم، ويصف البلدان، والجبال، والبحار، والممالك، والدول. وجاء ابن حوقل بعد أن تمت رحلات المسعودي، فعمل رحلات أخرى، وقال: «قد عملت كتابي هذا في صفة أشكال الأرض، ومقدارها في الطول والعرض، وأقاليم البلدان، ومحل الغامر منها والعمران، من جميع بلاد الإسلام، بتفصيل مدنها، وتقسيم ما تفرد بالأعمال المجموعة إليها، وقد جلعت لكل قطعة أفردتها تصويرا، وشكلا يحكي موضع ذلك الإقليم، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع، وما لها من القوانين والارتفاع، وما فيها من الأنهار والبحار، وما يشتمل عليه ذلك الإقليم من وجوه الأموال والجبايات، والأعشار والخراجات ، والمسافات في الطرقات ... إلخ».
وقد رافق البيروني الذي سبق ذكره السلطان محمود الغزنوي في حملته على الهند، فنشر ما شاهده في بلاد السند، وشمال الهند، وحاول أن يصحح طريقة تلك البلاد، مستندا على حسابه الفلكي، وجاء بعده أبو الحسن، فجاب الأرض من شمال إفريقيا إلى مصر، وعين مواضع واحد وأربعين مركزا تعيينا فلكيا، فهم وإن اتخذوا اليونان والرومان أدلاء لهم في علم الجغرافيا فقد فاقوا أساتذتهم، وزادوا عليهم، وصححوا لبطليموس مواضع المدن الكبيرة التي كانت قد غلط في تعيينها، مع صعوبة التحديد؛ إذ لم يكن عندهم آلات كافية، فلم تزد أغلاطهم على درجتين، بينما بطليموس كان يغلط أحيانا نحو 18 درجة.
وجاء الإصطخري، وكان معاصرا للمسعودي، فألف كتابا في إحصاء ما في الولايات من أنهار، ومدن، وجبال، وغير ذلك.
وغامر الإدريسي مغامرات خطيرة، واشتهر بخريطته التي تحتوي على منابع النيل، والبحيرات الاستوائية، إلى كثير غيرهم، حتى إن أبا الفداء ذكر أسماء ستين عالما جغرافيا من الذين ظهروا قبله، وأبدع ما كان لهم ربطهم الجغرافيا بالفلك، وهي نظرة كان يظن أنها نظرة حديثة.
الفصل التاسع
وسائل العلوم
نريد بوسائل العلوم الوساطات التي كانت تتخذ لنشر العلم، وتعين عليه، وأهم ذلك المكتبات، ومناهج الدراسة، والرحلات، والوراقة، والخط، وسنتكلم كلمة عن كل منها.
فأما المكتبات، فإن الدولة الإسلامية لما تقسمت أقساما كثيرة، واستقل كل قسم تنافس أمراء هذه الدول في كل ما من شأنه تجميل دولهم، من الحرف الدقيقة، ونتائج الفنون الجميلة، والشعراء، والعلماء، والفلاسفة، وغير ذلك، حتى إذا ظهرت حرفة جميلة تسابق هؤلاء الأمراء في اقتنائها، وتاريخ المتنبي مثلا يدلنا على هذه المسابقة.
فسيف الدولة يحرص عليه؛ لأنه له بمثابة جريدة اليوم تشيد بذكره، ولما وصل إلى كافور بمصر حرص عليه، ولما وصل إلى عضد الدولة اعتز به، وكان من موضوع هذه المسابقات المكتبات، فكل أمير كان له مكتبة عظيمة يفتخر بها، ويسعى في تنميتها، ويحدثوننا أن الحكم صاحب الأندلس بعث رجالا إلى جميع بلاد الشرق؛ ليشتروا له الكتب عند أول ظهورها، فقالوا : إن فهرس مكتبته كان يتألف من أربعة وعشرين كراسة، كل كراسة عشرون ورقة، ولم يكن في تلك الكراسات إلا أسماء الكتب.
وفي الدولة الفاطمية كان الخليفة العزيز بالله ، المتوفى سنة 386ه يقتني الكتب، ويحفظها في مكتبته، وذكر عنده كتاب «العين» للخليل بن أحمد، فأمر خزان دفاتره فأخرجوا من خزائنه نيفا وثلاثين نسخة؛ منها نسخة بخط المؤلف، وحمل إليه رجل نسخة من تاريخ الطبري اشتراها بمائة دينار، فأمر العزيز الخزان فأخرجوا ما ينيف على عشرين نسخة، منها نسخة بخط الطبري، وذكر عنده كتاب «الجمهرة» لابن دريد، فأخرجوا من الخزانة مائة نسخة.
1
وصف المقدسي خزانة كتب عضد الدولة، فقال: «إنها حجرة على حدة، عليها وكيل، وخازن، ومشرف من عدول البلد، ولم يبق كتاب صنف إلى وقت عضد الدولة من أنواع العلوم إلا وحصله فيها، وهي أزج طويل، في صفة كبيرة، فيه خزائن من كل وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الأزج والخزائن بيوتا طولها قامة، في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوق، عليها أبواب تنحدر من فوق، والدفاتر منضدة على الرفوف، لكل نوع بيوت، وفهرستات، فيها أسامي الكتب، لا يدخلها إلا كل وجيه».
2
ونحن نعلم أن خازن هذه الخزانة كان ابن مسكويه، وهو ما هو في العلم، وسعة الاطلاع.
وكان لسيف الدولة خزانة كتب كبيرة، عليها الخالديان، وهما الشاعران المشهوران.
ويحدثنا المعري في «رسالة الغفران» أنه وهو في بغداد كان يزور مكتبة أردشير، وكان على المكتبة فتاة سوداء تعير الكتب، وتحضرها إلى كثير من أمثال ذلك، وهذا إلى أن كثيرا من الأغنياء والوزراء كانت لهم مكتبات خاصة كابن العميد وزير عضد الدولة، كان له مكتبة، فلما نكب حمد الله كثيرا على أنه بقيت له مكتبته؛ لأنها أهم شيء عنده.
وكان ابن مسكويه في بعض الأوقات خازنا لمكتبته، وكان فيها كل علم، وكل نوع من أنواع الحكم والآداب، يحمل على مائة وقر، وكان كذلك للصاحب بن عباد مكتبة، حتى إنه لما استدعاه السلطان نوح بن منصور الساماني ليوليه وزارته، كان مما اعتذر به أن عنده من كتب العلم ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر، وكان فهرس كتبه يقع في عشرة مجلدات.
وحكوا أن علي بن يحيى المنجم كان ممن جالس الخلفاء ، وكانت له خزانة كتب عظيمة في ضيعته، وسماها خزانة الحكمة، وكان يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها ويتعلمون، والكتب مبذولة لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى.
وحكوا أن أبا معشر المنجم المشهور قدم من خراسان يريد الحكمة، وهو لا يحسن كبير شيء من النجوم، فلما وصفت له هذه الخزانة ورآها، هاله أمرها، وأقام بها، وأضرب عن الحج، وتعلم فيها علم النجوم، وقالوا: إن القاضي أبا مطرف الأندلسي جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من أهل عصره في الأندلس، وكان له ستة وراقين ينسخون له دائما، وكان متى علم بكتاب حسن عند أحد من الناس، طلبه ليشتريه منه، وبالغ في ثمنه، وكان لا يعير كتابا من أصوله ألبتة، فإذا سأله أحد ذلك، وألحف عليه، أعطاه للناسخ فنسخه، وقابله، ودفعه إلى المستعير.
فيستفاد من هذا وأمثاله أنه كان هناك مكتبات كثيرة في جميع الأقطار يغشاها الناس، ويتعلمون منها، حتى كان من العادات المأثورة أن كل جامع كبير يكون من مكملاته مكتبة كبيرة.
وإذا نحن علمنا أنه لم يكن في ذلك العصر مطابع، وإنما هناك مؤلفون يؤلفون، ونساخ ينسخون، أدركنا ما يقتضيه عمل مكتبة من الجهد العظيم، والمال الوفير.
ولم تكن المكتبة مقصورة على الكتب، بل كانت أحيانا مجتمعا يجتمع فيه طلاب العلم والعلماء، ويتداولون فيما بينهم المسائل العلمية ... وهذا ما جعل هذا العصر يزخر بالعلم والعلماء.
وكان بجانب هذه المكتبات العامة مكتبات خاصة لكل عالم تشمل على الكتب التي يحتاج إليها، فالغني منهم يطلب من النساخين أن ينسخوا له الكتب التي يريدها؛ والفقير ينسخ بنفسه.
ورووا عن السجستاني المحدث أنه كان له كم واسع، وكم ضيق، فسئل عن ذلك، فقال: «الواسع للكتب، والآخر لا أحتاج إليه».
وروي عن أحد علماء أصبهان الأغنياء، أنه أنفق في شراء كتبه ثلاثمائة ألف درهم، وقالوا: إن أبا يوسف القزويني المعتزلي دخل بغداد، ومعه عشرة جمال عليها كتب، وتفنن بعضهم في تجليد الكتب، وزخرفتها، والعناية بخطها، وأحيانا تحلى بالذهب . ويتنافس رواة الكتب فيما كتبه كبار الخطاطين كابن مقلة، وابن البواب، ومن ذلك الحين ظهرت وقفيات على المكتبات، وعلى من يغشاها من فقراء القراء، كما فعل العزيز بالله الخليفة الفاطمي؛ إذ أجرى ألف دينار كل شهر على جماعة من أهل العلم، والوراقين، والمجلدين.
وكاتب المكتبات على وجه العموم تزود بالحبر والورق، وبعض الأغنياء يتبرع بذلك حسبة لوجه الله، حتى يحكي ابن خلكان أنه في إحدى مدارس نيسابور كان يوجد خمسمائة دواة معدة لمن يريد أن يكتب في المكتبة، ووجدت وثيقة مما ينفق على مكتبة في القاهرة، وهي دار العلم التي انشأها الحاكم بأمر الله، فإذا فيها:
دينار
90
للورق
48
للخازن
15
للفراشين
12
للناظر في الورق، والحبر، والأقلام
12
لمرمة الكتب
12
ثمن ماء
10
حصر
5
لبود للفرش في الشتاء
4
طنافس
1
لمرمة الستارة
أما طرق التعليم، فكانت مختلفة، منها مكاتب، أو كتاتيب للتعليم الابتدائي، وقد عقد ابن خلدون فصلا في تعليم الأطفال، واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه، يستفاد منه أن المشارقة كانوا يبدءون بتعليم القرآن، حتى يرسخ في قلوبهم أول ما يرسخ ويجعلون عماد تعليمهم القرآن والكتابة.
أما أهل الأندلس، فمذهبهم تعليم القرآن والكتابة، ثم يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب، والترسل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجويد الخط والكتابة، إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية، والشعر، والبصر بهما، فبعد ذلك يعيدون النظر في القرآن ويتفهمونه.
وقد روى ابن خلدون عن أبي بكر بن العربي في رحلته أنه يرى رأيا يذهب فيه إلى البدء في تعليم الحساب، واللغة، والشعر، ثم بعد أن يتقدم في ذلك يبدأ في تعليم القرآن لتكون قراءته لهم على فهم، ثم يقول: «ويا غفلة أهل بلادنا، في أن يؤخذ الصغير بكتاب الله في أول أمره، ويتعب في أمر غيره أهم منه»، ونهى أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك لجودة الفهم والنشاط، ومنها مدارس، ومجالس للتعليم العالي.
وقد ذكر المقدسي أنه أحصى في المسجد الجامع بالقاهرة وقت العشاء مائة وعشرين مجلسا من مجالس العلم، وربما كانت هذه المجالس أشبه ما تكون بحلقات الدراسة في الجامع الأزهر لكل شيخ عمود، وكان جامع المنصور ببغداد أشهر مركز للتعليم في المملكة الإسلامية، لا يمنع الناس حر ولا برد، حتى حكوا في سنة 314ه أن الهواء برد بردا شديدا ببغداد، وتساقط الثلج، فجلس أبو ذكرة في وسط دجلة على الجليد، وأملى الحديث.
وكان من أكبر العلماء على مذهب داود الظاهري إبراهيم بن محمد نفطويه، وكان يجلس إلى أسطوانة بجامع المنصور، خمسين سنة لم يغير محله منها، وبعض هذه الحلقات كان للفقه، وبعضها للنحو والصرف، وبعضها للغة، وبعضها للتاريخ، قالوا: وكان الفقهاء أكثر العلماء تلاميذ؛ لأن الفقه يؤهل أصحابه لتولي مناصب يتعيشون منها، وكانت أشهر الطرق طريقة الإملاء؛ ولذلك سمي بعض الكتب بالأمالي، كأمالي القالي، وأمالي الزجاج، وأمالي المرتضى.
يجلس الأستاذ وحوله الطلبة فيملي عليهم من علمه، ورووا أن الجبائي المعتزلي أملى مائة ألف ورقة وخمسين، وما رئي ينظر في كتاب، وكان للمشايخ طرق مختلفة، فمنهم من يملي من عقله، وهو الذي يتحكم فيما يمليه، وما لا يمليه، كأمالي القالي، ومنهم من وثق بنفسه لدرجة أنه يترك الدرس للظروف، فالطلبة هم الذين يسألون، وهو يجيب على أسئلتهم، وكان المستملي يكتب أول الدرس: «مجلس أملاه شيخنا فلان، في جامع كذا، يوم كذا».
وشاعت هذه الطريقة في مجالس المتكلمين، فلما جاء القرن الرابع غلبت طريقة ثالثة، وهي قراءة الكتب القديمة وشرحها، فهذا يقرأ كتاب سيبويه، وهذا يقرأ كتابا في تفسير القرآن للفراء، وهذا يقرأ مجموعة من أشعار الهذليين، وهذا يقرأ كتابا في الحديث، وهكذا. ومن طريف ما يروى لنا أن أبا عمرو المطرف ألف كتابا في اللغة اسمه «الياقوت»، قال: إنه ابتدأه يوم الخميس لليلة بقيت من المحرم سنة 326ه، أملاه على الطلبة في جامع المنصور ببغداد ارتجالا من غير كتاب ولا دستور، ومضى في الإملاء مجلسا مجلسا إلى أن انتهى إلى آخره، ثم رأى الزيادة فيه، فزاد أضعاف ما أملى، وكتب هذه الزيادة أحد تلاميذه ، ثم قرأه عليه أبو إسحاق الطبري، وسمعه الناس، ثم زاد فيه بعد ذلك، وقرئ عليه بالزيادة يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذي القعدة سنة 329ه، وفرغ منه في ربيع الثاني سنة 331ه، وأحضر جميع النسخ التي كتبت فقورنت، ثم زاد المؤلف بعد ذلك أشياء أخرى، كتبها محمد بن وهب، ثم جمع الناس، ووعدهم بعرض الكتاب وتقريره، وألا يكون بعدها زيادة.
وعلى الجملة، فقد كانت المساجد والمكتبات والمكاتب هي أمكنة الدراسة.
هذا عدا المجالس الخاصة في بيوت العلماء والوزراء، كمجلس أبي سليمان المنطقي في بيته، والوزير المهلبي في بيته، والوزير ابن سعدان في بيته، يجتمع العلماء أو الأدباء مع رئيسهم، ويفتتح الرئيس المجلس بمسألة حيثما اتفق لغوية أو أدبية، أو نفسية، أو اجتماعية، فيجيب من حضر من العلماء، ثم يتركون الحديث على سجيته يتشعب إلى أن ينتهي المجلس، ويعلمنا أبو حيان في ذلك العصر طريقة أخرى للاستفادة، كالتي اتبعها أبو حيان مع ابن مسكويه، فقد بعث أبو حيان إلى ابن مسكويه بكتاب يشتمل على جملة أسئلة، مما احتار فيها: بعضها لغوي، وبعضها ديني، وبعضها أخلاقي، وبعضها اجتماعي، ووضع هذه الأسئلة في كتاب سماه «الهوامل»، والهوامل: هي الإبل المهملة السائمة، فرد عليه ابن مسكويه بكتاب يجيب فيه على أسئلته سؤالا سؤالا، وسماه: «الشوامل»، كأنه شمل الهوامل وضبطها، فهذه طريقة أيضا في التعليم، تدل على اهتمام المعلمين بأسئلة طلبتهم، وإعداد الأجوبة على أسئلتهم، كالدروس التي تلقى في المسجد، كما يدلنا ابن مسكويه على أنه كان يهتم بهؤلاء الطلبة.
ويستطرد أحيانا بالتنبيه على ضعف خلق الطالب، ومعالجته حسبما يراه، ويدلنا أبو حيان أيضا في كتابه «المقابسات» على ما كان يثار في مجلس أبي سليمان من مناظرات، ومجادلات في أنواع المشاكل التي كانت تعرض لهم، وكان يغلب على كل أستاذ ناحيته الخاصة، فتغلب على أبي سليمان الناحية الفقهية، وتغلب على الوزير المهلبي الناحية الفنية والأدبية، وتغلب على الفقهاء الناحية الفقهية، وعلى المحدثين ناحية الحديث، وعلى مجالس الصوفية ناحية التصوف، وهكذا من ثروة زاخرة متنوعة، يصورها لنا «المقابسات »، وما روي في ترجمة الوزير المهلبي، وما يروي من مجالس الصوفية ... إلخ.
وأحيانا يكون العلم بطريق المراسلة، فيشتهر عالم بفن، أو فنون في الأقطار الإسلامية، فتأتيه الرسائل من جميع الأقطار، تسأله في مسائل هامة، في التفسير، أو النحو، أو الفقه، فيجيب الأستاذ بأجوبة مختلفة، كالذي روي لنا عن أسئلة عديدة وردت على السيرافي من ملوك الأقطار، يسأل فيها عن مسائل في النحو، والصرف، والتفسير، وكما روي لنا عن أسئلة وردت من داعي الدعاة من مصر على أبي العلاء المعري، تسأله: لم كان نباتيا، وحرم على نفسه أكل الحيوان، وقد أحله الله؟ ... إلخ. فأسئلة وأجوبة، ومجالس خاصة، وحلقات العلماء في المساجد، وكتاتيب ومكتبات مفتوحة يتلاقى فيها العلماء والطلاب، ويتساءلون ويتجاوبون، كل هذه كونت حركات شديدة عنيفة في نشر العلم، وإخراج عدد كبير من العلماء، وربما لم يساوهم عصر آخر من العصور، ويتصل بذلك ما شاع في هذا العصر، والذي قبله من نمط «الإجازة العلمية»، وربما كان أول من اتبع ذلك المحدثون؛ للدلالة على ثقتهم، وهي أن يجيز ثقة من الثقات لغيره بأن يروي عنه حديثا أو كتابا، ثم يعطيه مستندا كتابيا على ذلك. وتسابق علماء الحديث في أخذ هذه الإجازات عن شيوخهم، فكان الطلبة إذا سمعوا حديثا استكتبوا الشيخ إجازة، وكان الناس ينتهزون فرصة اجتماعهم بالعلماء ليقرءوا عليهم تصانيفهم، أو تصانيف غيرهم، ويفتخرون بأخذ كتابة منه، وكان العلماء قسمين: قسما يتشدد فلا يعطي إجازة إلا من سمع عليه، ووثق به. وقسما متساهلا يجيز كل من أراد الإجازة، ولو لم يسمع منه، حتى كان بعض العلماء قبل وفاته يجيز جميع مسلمي عصره في رواية الأحاديث التي كان يعرفها، وتفننوا في الإجازة حتى جعلوها شعرا، كالذي ورد في ديوان صفي الدين الحلي، واستمر هذا إلى عهد قريب منا، فقد روي أن السلطان عبد الحميد أخذ إجازات في الحديث من المرتضى الزبيري صاحب كتاب «تاج العروس».
وكانت العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه علاقة الأب بابنه، فكان الطالب يخدم أستاذه، وقد سمعنا في عهدنا ممن شاهدناهم ان الطالب يغسل يد أستاذه، بل ويعد له حماره عند ركوبه، ويجري وراء الحمار، فكذلك كانت العلاقة في العصر الذي نؤرخه.
وكثيرا ما كانت تحدث علاقات مصاهرة بين الأستاذ وتلميذه، وربما زاد ذلك الصوفية، فقد طلبوا من المريد أن يكون بين أستاذه كالريشة في مهاب الريح، وفي كتاب «وفيات الأعيان» قصص كثيرة من هذا القبيل.
وقد رووا أن أبا الزناد كان يذهب إلى مسجد المدينة محاطا بتلاميذه كأنه ملك، ويؤخذ من مجموع ما روي أنه لم يكن هناك منهج خاص، بل كان للأستاذ مطلق الحرية يتكلم كما يشاء في أي موضوع شاء.
وكان أكثر المعلمين يعلمون بأجر، وقد رأينا قبل أن المبرد كان يتقاضى أجرا على تعليمه، وأن الزجاج كان يعطيه درهما كل يوم، وربما كان علماء اللغة والنحو أكثر الناس استحلالا للأجر، أما المحدثون فكثيرا ما كانوا يحدثون لوجه الله، وكان الفلاح الذي يعطي ابنه لمعلم يضمن لمعلمه قوته.
على كل حال، انتشرت المجالس على اختلاف أنواعها - في البيوت، وفي المساجد - في الأدب، وفي الفلسفة، وكان بعض الأمراء والوزراء ذا ولع شديد بالعلم ومدارسته؛ فأحيوا هذه العادة وشجعوها، وساعد على انتشارها الخلاف الذي كان بين المذاهب المختلفة من شيعة وسنية، فرأوا أن هذه المجالس تقوم مقام الجرائد اليوم في نشر الدعوة، فما أكثر ما عقد الفاطميون مجالس للدعوة، وما أكثر مما رد عليهم السنيون. مثال ذلك: ما كان من الوزير الفاطمي يعقوب بن كلس، فقد عقد مجلسا للمناظرة في الفقه، والأدب، والشعر، وعلم الكلام، وكان أصله يهوديا، ومثقفا ثقافة واسعة، كثير المال، يصرفه في خدمة العلم، ونشطت حركة المناظرة والجدل حتى وضع لذلك علم سمي علم آداب البحث والمناظرة، وكان يحضر هذه المجالس بعض أهل الأديان الأخرى، فنرى في مجلس أبي سليمان المنطقي يحيى بن عدي النصراني، وغيره من أهل الأديان، ورووا أن يوحنا بن ماسويه كان يعقد مجلسا في بغداد، فيحضره العلماء على اختلاف مذاهبهم من فلاسفة، وأطباء، وأدباء، ومتكلمين، وكان لأبي حامد الإسفرائيني مجلس، قالوا: إنه يحضره ثلاثمائة فقيه، هذا غير مجالس الطرب مما كانت تتداول فيها الخمور، وتتناشد فيها الأشعار، وتغمر بالأزهار، ويستحضر فيها الثلج بكثرة للشراب، كالذي روي عن الوزير المهلبي؛ إذ كان يحضر فيه مثل أبي الفرج الأصفهاني، وابن مسكويه أيام استهتاره وشبابه؛ وغيرهما، وقد ذكرنا قبل ما كان من إخوان الصفاء، وانتشارهم في البلاد، ونصح الرؤساء لأتباعهم أن يعقدوا مجالس خاصة كل أسبوع مرة، أو كل اثني عشر يوما مرة، يتذاكرون فيها شئون العلم، ويتدارسون فيها مراحل الدعوة.
ويظهر لما كثرت المناظرات والجدل لم تخل المناظرة من نزاع وهجاء وسباب، مما يجب أن تتنزه عنه المساجد، ففكروا في أبنية خاصة تقام فيها هذه المناظرات، وتنتقل إليها حركة التعليم، فكانت المدارس.
نعم، كانت الكتاتيب منتشرة في المدن والقرى حتى من عهد الرسالة؛ ولكن الدراسة العالية هي التي لم يكن لها مدارس خاصة؛ وإنما كانت تقام في الجوامع - كما ذكرنا - إلى هذا العصر، وقد ذكر بعضهم أن أول من بنى مدرسة للعلماء هو نظام الملك في النصف الثاني من القرن الخامس، ولكن ثبت أنه قبل ذلك وجدت مدارس كان من أولها مدارس نيسابور، يقول الحاكم النيسابوري المؤرخ: إن أول مدرسة هي التي بنيت لمعاصري أبو إسحاق الإسفرائيني المتوفى سنة 418ه في نيسابور، وبنيت مدرسة أخرى لابن فورك، ويقولون: إن أبا بكر البستي المتوفى سنة 429ه بنى لأهل العلم مدرسة على باب داره، ووقف عليها جملة من ماله الكثير؛ وكان هذا الرجل من كبار المدرسين والمناظرين بنيسابور، وكان في المجالس الكبيرة يجلس الأستاذ على مقعد مرتفع ليسمع المحاضرين، ثم إن المعيد يعيد كلام الأستاذ حتى يسمعه من كان بعيدا عنه، كل هذا حدث قبل نظام الملك، أما مدرسة نظام الملك قد ضمت الكثيرين من كبار العلماء، كالغزالي وغيره، ويحكي الغزالي أن من أسباب اعتزاله التدريس ما غلب على أهل عصره من حب الجدل والمناظرة، وأنهم لا يقصدون من هذه المناظرة وجه الله والوصول إلى الحق، وإنما يرومون التعاظم، وحب الغلبة، والسيطرة على نظرائهم؛ مما بعثه على هجر المدرسة ، واللجوء إلى التصوف ... ثم تتابعت المدارس على هذا المنوال ...
ومن الخطأ أن نظن أن حالة العلماء في ذلك العصر كحالة عصرنا اليوم، فإن المطبعة في عصرنا قد قلبت الأوضاع، وجعلت العلم ديموقراطيا، وجعلت الشعوب هي التي تكافئ العلماء؛ أما في ذلك العصر فلم تكن مطابع، وإنما الكتاب العظيم ينسخ الوراقون منه عشر نسخ، أو خمسين، أو مائة، لا تسمن ولا تغني من جوع، فلم يكن التأليف مصدر ثروة، إنما مصدر ثروة العلماء والأدباء هو اتصالهم بالخلفاء والأمراء، أما من لم يتصل بهم، وبعد عنهم، فمصيره الفقر، إلا أن يكون ذا ثروة موروثة.
هذا أبو العلاء المعري يعيش طول السنة على ثلاثين دينارا كانت وقفا عليه، وينتدب بعضهم للتعليم الخاص، ولكن هذا لا يجزئ ... فالذين اتصلوا بالخلفاء والأمراء سعدوا واطمأنوا على رزقهم، كابن دريد المتوفى سنة 321ه، إذ أجرى الخليفة المقتدر عليه خمسين دينارا في كل شهر، وسيف الدولة بن حمدان أجرى على الفارابي أربعة دراهم في كل يوم؛ لأنه فيلسوف، أما المتنبي فمنح الآلاف ... ويحكون أن أبا بكر البصري كان يبيع الصبغ بنفسه، أو يعمله في الحانوت ليستطيع أن يتعيش، وكان حانوته مجمع الحفاظ والمحدثين، وأن أبا العباس الخياط الفقيه الشافعي المصري المتوفى سنة 373ه كان واسع المعرفة بالفقه، وكان قوته وكسبه من خياطته، فكان يخيط قميصا في جمعة بدرهم، ودانقين، ينفقها في طعامه وكسوته، وكان هناك عالم آخر في مصر أيضا يقتات مما يبيع من الخلع. ويقول ابن فارس اللغوي المشهور:
إذا كلفت في حاجة مرسلا
وأنت بها كلف مغرم
فأرسل حكيما ولا توصه
وذاك الحكيم هو الدرهم
وكان فقيرا فيقول:
يا ليت لي ألف دينار موجهة
وأن حظي منها فلس فلاس
قالوا: فما لك منها؟ قلت: يخدمني
لها ومن أجلها الحمقى من الناس
على كل حال، فلم يكن من العلماء والأدباء من يستطيع العيش الرغد إلا من موائد الأغنياء، وإلا من كان يتكسب من غير علمه وأدبه كتجارته أو صناعته، ومن عدا ذلك فقير مدقع، خصوصا إذا كان عزيز النفس ، أو لا يحسن الملق كأبي حيان التوحيدي.
وساعد على انتشار العلم ما أدخل على الخط من تحسينات، فقد كان الناس قبل هذا العصر يكتبون الخط الكوفي، وهو خط صعب معقد مؤسس على زوايا قائمة، وكان زيادة على ذلك غامضا، فالألف إذا جاءت حرف مد في وسط الكلمة حذفت ولم تكتب، كالكتاب، تكتب هكذا «الكتب»، حتى جاء ابن مقلة المتوفى سنة 327ه فنقل الخط نقلة جديدة، وغير الخط الكوفي إلى الخط النسخي، ووضع للخط النسخي قاعدة جميلة.
وربما كان هذا سببا في سهولة النسخ، وكثرة كتبه.
وساعد أيضا على انتشار الكتابة كثرة الورق، ويسمونه «الكاغد»، فقد كانوا يكتبون على الجلود والقراطيس، والورق الصيني، حتى جاء جعفر بن يحيى البرمكي، فشجع صناعة الورق، وكثر في عصرنا هذا كثرة جعلته رخيصا، فكان يستجلب الورق من مصر، ومن سمرقند، وغيرهما؛ مما مكن العلماء والوراقين من كثرة الكتابة، وحرفة الوراقة كانت منتشرة، إذ كانت تقوم مقام المطابع اليوم، وأحيانا يكون بعض الوراقين علماء، دعاهم الفقر إلى احتراف الوراقة، كياقوت الحموي، وأبي حيان التوحيدي. وكانت حرفة شاقة، تذهب فيها الأعين، وكان مما سبب الخصومة بين الصاحب ابن عباد وأبي حيان التوحيدي أن الصاحب كلفه أن ينسخ له كتبا كثيرة، استكثرها أبو حيان، ولحفظ المحدثين صحة الأحاديث المنسوخة كانوا ينسخون كتب الأحاديث بأنفسهم.
وكان الفقر يضطر بعض الناس إلى احتراف الوراقة على كره منهم، وكان أبو بكر الدقاق يعول والدته وزوجته، وبنتا من الوراقة.
وحكي عن أبي زكريا يحيى بن عدي المتوفى سنة 264ه وهو نصراني على المذهب اليعقوبي أنه نسخ بخطه نسختين من تفسير الطبري، وأنه كان يكتب في اليوم والليلة مائة ورقة، وكان بنيسابور وراق اسمه أبو حاتم، ورق بها خمسين سنة، وهو القائل:
إن الوراقة حرفة مذمومة
محرومة عيشي بها زمن
إن عشت وليس لي أكل
أو مت مت وليس لي كفن
ومن الطريف أن حكى وراق أنه نام ليلة فرأى في المنام كأن القيامة قامت، وحوسب، وأدخل الجنة، فلما دخل الباب استلقى على قفاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: «آه، والله استرحت من النسخ».
هوامش
الفصل العاشر
الفن
إن فن كل أمة يتأثر بأمور: (1)
الذوق العام للأمة. (2)
التقليد للأمم المختلفة، خصوصا الأمم التي حكمتها كفرس، أو روم، أو غير ذلك. (3)
الدين الذي تعتنقه الأمة، فبعض الأديان تميل إلى شيء، وتنصرف عن شيء.
وكان العرب في جاهليتهم بدائيين في ثقافتهم، منتقلين في حياتهم، وهذا التنقل والبدائية جعلاهم غير مترفين في حياتهم وأدواتهم، وغير ملتفتين إلى الجمال الفني، فكانت حتى معبوداتهم من اللات والعزى، وغيرهما معبودات بسيطة الشكل، بل قد يعبدون حجرا على طبيعته الأصلية، وما كان عندهم من فن فهو - حتى اسمه - مستعار من الأمم الأخرى، فكلمة نجار، وأسلحة، وصانع مأخوذة من اللغة الآرامية، وكلمة مصحف، وشباك، وسوار، وحداد مأخوذة من اللغة الحبشية، وما ورد من الفن في الشعر فبدائي أيضا، كتشبيه عمرو بن كلثوم في معلقته أرجل امرأة جميلة بأعمدة من الرخام، وصدرها بقطعة من العاج، وحتى لما احتاجوا إلى إصلاح الكعبة، اعتمدوا على أناس من الأمم الأخرى، فقالوا: إنهم اعتمدوا في إصلاحها على نجار رومي صادف أن كان على ظهر سفينة مارة بجدة، ساعده صانع قبطي، فلما جاء الإسلام، وفتح المسلمون البلاد المتحضرة من فرس وروم رأوا ما عندهم من الفنون فتأثروا بها، ودعاهم الترف إلى أن يتذوقوها، ويقلدوها، حتى الشعر تأثر بهذا الفن، كقول رجل في العهد الأموي على ما أظن:
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلها
وكان من أثر هذه الفتوح، وغنى الدولة الإسلامية، ووضع المسلمين أيديهم على القصور الفخمة، والمعابد العظيمة، والتحف النادرة، أن تحضروا هم أيضا، وأخذوا ينشئون الفنون الجميلة، كالمسجد الأموي، وما فيه من زينة تدل على استعانة الأمويين بغيرهم ممن سبقوهم إلى هذه الفنون، وكالقصور الجميلة التي بناها الخلفاء الأمويون في صحراء الشام، واكتشفت حديثا، فدلت على تقدم كبير في الفن، حتى إذا جاءت الدولة العباسية عظم غناها، وغنم تأثرها بالفن، فبنيت بغداد بناء فنيا، وبنيت فيها القصور الفخمة للخلفاء والأمراء والأعيان.
وكان أثاثها من فراش ، ورياش جميلا فخما، يناسب جمال القصور وفخامتها. ويحدثنا ابن بشار عن كأس صورت عليه تصاوير لكسرى، يعلم من هذه التصاوير مقدار ما يوضع في الكأس من الخمر، وما يمزج بها من الماء ... إلخ.
ومن الحق أن نقول: إن الإسلام حارب الأصنام والتماثيل، وأمعن في محاربتها، وشنع على عبادها، وكسر ما كان منها في الكعبة، وكره في التصوير والمصورين، فلم ينم التصوير والتمثيل في الإسلام نموا كافيا، ولكن الطبيعة البشرية، وحبها الشديد للفن، حاولت دائما أن تجد لها منفذا، فرأينا المسلمين يجودون ما شاءوا في الخط، لما حرموا التصوير، وفي الزار والذكر، لما حرموا الرقص، وفي الغناء بالقرآن لما حرموا الغناء، وهكذا.
ولذلك نراهم يصورون الأشجار والحيوانات، ويتحرجون من رسم الأشخاص، وبجانب ذلك اجتهدوا في الفنون الأخرى، كالصياغة، والحرف الأخرى.
ولما دخل الإسلام كثير من المتحضرين من الفرس والروم، وكان لهم ذوق نام في الفنون، ابتدءوا يقلدون ماضيهم القديم في الإسلام الجديد. وفي القرن الرابع ظهرت الصورة المجسمة للحيوانات، ولكنها كانت بعيدة عن الطبيعة. وربما منع المسلمين من التقدم في التصوير الشخصي نهي الإسلام عن التصوير، محافظة على عقيدة الوحدانية المطلقة، والناس لا يزالون حديثي عهد بالوثنية، خصوصا وقد كان منتشرا فيهم عبادة الأبطال والصالحين.
وجاء في الحديث عن عائشة «أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه».
1
وروى البخاري «أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما رأى الصور التي في البيت، لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال: قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط».
وقال النووي: قال أصحابنا، وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بالوعيد الشديد، سواء ما كان في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو إناء، أو حائط.
وأما تصوير صورة الشجر، وجبال الأرض، وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام، وقال بعضهم: إنما ينهى عن تصوير ما كان له ظل ، ولا بأس بالصورة التي ليس لها ظل. وعن عائشة: «أنها نصبت سترا وفيه تصاوير، فدخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فنزعها، قالت: فقطعته وسادتين، فكان يرتفق عليهما»؛ كأنه كان يجيز ذلك إذا امتهن الشيء الذي فيه تصاوير، كأن استخدم في سجادة أو نحوها. وقال رسول الله: «أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك الليلة، فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه، إلا أنه كان فيه تمثال رجل»، وعن ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم».
وإنما كان يباح تصوير الشجر، وما لا نفس له، وفي الحديث أيضا: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تمثال». والغرض من كل هذا الخوف من عبادة التصاوير، والأوثان، والتماثيل، والأبطال والصالحين، خصوصا والناس قريبو عهد بهذه العبادة، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقالوا: إن التحريم على الإطلاق، وقال آخرون: إنه تحريم لعلة، وإذا زالت العلة زال التحريم.
وعلى كل حال، أثر هذا في المسلمين، فامتنعوا إلا قليلا عن تصوير الإنسان والحيوان، وأباحوا تصوير الأشجار، والمناظر الطبيعية، ولذلك نبغوا في فن العمارة، وتفننوا في الجمادات كدواة وأبواب، ومشربيات، ونحو ذلك، ومع ذلك فقد مهر قوم من المسلمين في تصوير الأشخاص والحيوان، كما فعل بعض الفرس، حتى لقد سمعت محاضرة ألقاها بعض المستشرقين عن مصحف فارسي مصور صورت فيه مثلا صورة يوسف وزليخا ... إلخ.
ونما في هذا القرن تطعيم الأدوات والأواني المختلفة مثل: الخزف، والقاشاني، والنحاس، والخشب، بمواد ثمينة كالعاج، والصدف، وتزيينها برسوم مختلفة.
ورأى المسلمون ان يحوروا الرسوم المحرمة إلى نقوش غير محرمة، كرسوم هندسية ونباتية، وكثر ذلك في الدولة السلجوقية.
ووجدت عمائر كثيرة قد دخل فيها فن الزخرف، وإذا كان القرآن مقدسا مبجلا معظما، دار كثير من الفن حول المصاحف، من كتابة جميلة للمصحف، على ورق جميل، وتجليده بالجلد الفاخر، وتذهيبه وتحليته، كذلك بعث الدين على الإشادة بالحياة الأخرى، فكان من أثر ذلك بناء المقابر، وزخرفتها، وبناء الأضرحة فوقها ... إلخ.
وقد زين المسلمون المحاريب بالنقش بالجص، وكلما أمعنوا في الترف أمعنوا في الزينة الفنية بعد أن كانوا يعيشون في الصدر الأول عيشة بسيطة ساذجة، ووجدناهم يستخدمون الذهب المذاب في طلاء الأواني الخزفية، وفي النحاس؛ ولكن على العموم لم يبلغوا في تزيين المساجد ما بلغه المسيحيون من الأرثوذكس، والكاثوليك في تزيين كنائسهم.
وبعد أن تحرر العرب من المؤثرات الأجنبية، وهضموا فنونها، صار لنقوشهم وعمارتهم طابع خاص، حتى لا يمكن نسبتها لغيرهم، فابتدعوا فنا جديدا.
حتى في التحف الصغيرة كالدواة، والخنجر، ونقوش الغمد، وجلد القرآن، وأصبح لها طابع خاص، غير ما كان عند غيرهم، وليس يضرهم اقتباس فنها من الأمم الأخرى، إنما يضرهم وقوفهم عند تقليدهم المحض، وهو ما لم يفعلوه، فالعرب أنشئوا في سرعة حضارة جديدة، وفنا جديدا، مختلفين عن الحضارات والفنون التي قبلهما، حتى إن الحكام الذين قهروا العرب، وأرغموهم لحكمهم، كالتتار وغيرهم، اعتنقوا دينهم، وأسسوا حضارتهم عليها، وكانت الحضارة الإسلامية، والفنون الإسلامية ذات أثر عظيم في العالم غربية وشرقية، ولا فرق بين أن يكون منشئو الحضارة عربا، أو فرسا، أو مغاربة، فكلها حضارة إسلامية، فليس يعود فضل العرب إلى أنهم نقلوا الفنون والعلوم اليونانية، بل إنهم زادوا عليها من مخترعاتهم ومبتكراتهم.
هوامش
الفصل الحادي عشر
التجارة، والصناعة، والزراعة
نشطت الحركة التجارية في القرن الرابع الهجري نشاطا عجيبا، سواء في البر، أو في البحر، وهذا ما وسع أفق الناس الجغرافي، وحسنت سمعة التجار المسلمين في المعاملات، وضرب بهم المثل، حتى النساء اشتركن في هذه الحركة التجارية، فقد ذكروا أنه في بلاد فارس الشمالية كانت حركة البيع في المنازل، وكان اللائي يبعن هن النساء.
وكانت بغداد والإسكندرية تتحكم في الأسواق والأسعار، وكان اليهود مشتهرين ببيع الرقيق، وكانوا يستحضرونه من النواحي الشمالية، ويتاجرون فيه، وكان التجار - على العموم - يركبون الجمال إلى السويس، ويعدون البحر الأحمر، ثم يعبرون الصحراء ثانية إلى جدة، أو يبحرون إلى الخليج الفارسي، والهند، والصين، أو يرحلون إلى أنطاكية، إلى الفرات، إلى بغداد، إلى فارس، واضطرتهم التجارة إلى معرفة لغات كثيرة من فارسية، وإسبانية، وصينية، وكانوا يستحضرون من كل بلد خير ما فيه، ويبيعونه في البلاد الفقيرة إليه، وبعض التجار الكبار كانوا يعملون الحيل في الاتصال بملوك الأقطار، وإنشاء علاقات معهم لتسهيل الشئون التجارية، فيحكى أن بعض التجار المسلمين اتصلوا بملوك الصين، وأن بعض تجار اليونان والفرس اتصلوا بملك سيلان.
ولكثرة الأعمال التجارية، وصعوبة نقل الأموال، وخطورتها عرفوا الحوالات المالية، وسموها «السوفتجة»، وناصر خسرو تسلم صكا من تاجر بأسوان بخمسة آلاف درهم، معنونا بوكيل تاجر في عيذاب ليتسلمه منه، وكان في الصك: «أعط ناصرا كل ما يطلبه، وقيد الحساب عليه».
ويحكي ابن حوقل أنه رأى صكا باثنين وأربعين ألف دينار لتاجر في سدنماسة؛ مما يدل على اهتدائهم إلى المعاملات التجارية بطريق الصكوك، وكان الصرافون والوكلاء يقومون مقام البنوك.
وقد عدت في ذلك الوقت أسماء كثيرة من التجار المشهورين بالغنى، واشتهر كل قطر ببعض السلع، وكان التجار الماهرون ينقلون السلع من مكان إلى مكان، حسب المهارة التجارية، ومن أجل هذه الحركة وجدت أماكن للمبيت والاستراحة في كل مرحلة تجارية، وكانت هذه الأماكن تستخدم لمبيت التجار، ورباطات للمجاهدين، وأمكنة لعمال البريد، وهكذا.
ولم يكن نشاطهم في البحر بأقل من نشاطهم في البر، ومن هذه الحركات نشأت أسطورة «السندباد البحري»، وكان أهم بحار المسلمين في التجارة هو البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الهندي، فكانوا ينقلون التجارة على الجمال إلى السويس، ثم إلى الحجاز، ثم إلى المحيط الهندي؛ وكانوا يقطعون على الجمال الصحراء من الخرما، إلى القلزم، أو البحر الأحمر في سبعة أيام، واستخدموا لهذه الرحلات البحرية المراكب الشراعية الكبيرة، حتى حكوا أن بعض المراكب كانت تعمل آلافا من الناس، ومعهم كثير من السلع التجارية، وقالوا: إن سفن البحر الأبيض كانت أكبر من سفن المحيط، وكانت البصرة أهم ميناء يبحر منه التجار إلى أنحاء العالم، وكان نجاح هؤلاء التجار مشجعا لأمثالهم على أن يشتغلوا في التجارة، ويربحوا منها. وكتاب «ألف ليلة وليلة» مملوء بالقصص عن هؤلاء التجار، وغيابهم وطول أسفارهم، وكانت الصين وروسيا ميدانا فسيحا لهذه التجارات.
وقد أثرت حركة التجار الواسعة هذه في الحياة العامة للشعب، سواء في الحركة الاقتصادية أو الاجتماعية، فمن الناحية الاقتصادية كانت التجارة مصدر ثروة لعدد كبير من الناس، وأتباعهم، وأتباع أتباعهم، ومن الناحية الاجتماعية ملأت التجارة البيوت بالرقيق من مختلف الأصناف، وتأثير الرقيق في الحالة الاجتماعية لا يخفى، وربطت التجارة بين الأقطار الإسلامية ربطا محكما، وقلما كان يخلو ركب من التجار من أن يصحبهم بعض العلماء يطلبون العلم، وخصوصا الحديث، وحببت التجارة إلى الناس كثرة المغامرات، واكتساب اللذائذ من المخاطرات، وكانوا كلما اجتازوا مخاطرة، واطمأنوا عن لهم أن يبدءوا مخاطرة جديدة، كالذي يصوره لنا «السندباد البحري»، بل إن هذه التجارة كانت تغذي الفقهاء بالمسائل الكثيرة التي تعرض للتجار، ولم تكن معروفة من قبل، كالذي نرى في كتب الفقه من الكلام على السوفتجة، والسلم، والمزارعة، ونحو ذلك.
وكان بعض الأرقاء يأبقون مع ركب التجارة، فكثر قول الفقهاء في إباق العبيد، وهكذا. فأعمال التجار، وما يصادفونه في حياتهم كانت مبعث أسئلة توجه للفقهاء ليبحثوها، ويجيبوا عنها؛ بل تعرضت رحلة التجار لإثارة مسائل تتعلق بالعبادات، فإنهم لما رحلوا إلى الشمال البعيد، ورأوا مدنا تستمر الشمس طالعة فيها أشهرا، وتغيب أشهرا، سألوا عن حكم الصيام في هذه البلاد، وأوقات الصلوات، وهكذا، ولكن مع الأسف لم يتعرض الفقهاء لتاريخ الحوادث التي أثارت هذه الأبحاث، بل تكلموا عنها مجردة عن أي اعتبار آخر، ومن غير ربطها بما كان يحدث، ولذلك كانت جافة، ولو ربطت بهذه الأحداث لكانت لطيفة مستساغة.
وهذه التجارة أشاعت في الناس خلق الاستقلال، وجعلتهم أفضل من العلماء والأدباء الذين لا يجدون رزقهم، إلا من فتات الأمراء، فالتاجر كان ينشأ صغيرا، ويغامر حتى يكسب الكثير، وبعضهم كان يكسب مائة وعشرين ألف دينار، أو أكثر.
هذا هو الكسب المادي، أما الكسب المعنوي فاللذة الحادثة من رؤية بلاد قد يخالف دينها دينه، وتخالف عوائدها عوائده، ولا بأس أن تغرق المركب يوما ببضاعته، فيحمد الله على السلامة، ويبدأ من جديد، وهكذا.
وأما الصناعة ، فقد ازدهرت في هذا العصر، وذلك بفضل تقدم العلوم كما شرحنا، فاستخدموا ما اكتشفوا من العلوم، وما عرفوه من علوم اليونان، وما اقتبسوه من الأمم الأخرى في ترقية صناعتهم، وكانت المدن الكبرى في البلاد الإسلامية تنقسم الصناعات الكبرى، كصناعة المنسوجات، والورق في مصر، وصناعة الورق أيضا في سمرقند، والبسط والسجاجيد في فارس ... إلخ. واشتهرت صناعة النسيج في مصر في تنيس، وكانت تصنع من الكتان والحرير، وكانت الأقمشة التنيسية بيضاء، أما اليمنية فمنقوشة كأزهار الربيع.
واشتهرت في تنيس مدينة تسمى «الديبق»، وإليها ينسب القماش المسمى بالديبقي، وربما بلغ الثوب الديبقي مائة دينار، وفيها كانت تصنع المنسوجات للخليفة البغدادي، ولا يدخل فيه من الغزل غير أوقيتين، وينسج باقيه بالذهب بصناعة محكمة، لا تحوج إلى تفصيل، ولا خياطة، وتبلغ قيمته نحو ألف دينار، وكانت تنيس وحدها سنة 360ه تصدر إلى العراق من الأقمشة ما يبلغ 20 ألف دينار إلى 30، وكانت تصدر تنيس أيضا ثيابا رقيقة جيدة، كأنها المنخل، يسمى بالقصب، وكان هذا القصب يلون، ويعمل عمائم للرجال، وكان النساء في مصر يغزلن الكتان في منزلهن، كما يفعل أهل سويسرا في صناعة الساعات، وقلدت فارس مصر في صنع ثياب الكتان، وخصوصا مدينة كازارون، فكانوا يبلون الكتان في البرك، ويغسلون خيوطه في نهر يسمى نهر الرهبان، وكان من خصائص هذا النهر تبييض خيوط الكتان، ولا يغسل فيه إلا بتصريح من الأمير. ولم يشتهر القطن كثيرا في هذا الزمان، واشتهرت مرو بصناعة نسيج القطن، فكانت تنتج ملابس ثقيلة؛ حتى إن المتنبي يسميها «لباس القرود».
وانتشرت صناعة الحرير، وأعظم مصانع الحرير في ذلك العصر كانت بفارس، أخذها الفرس عن الروم، واشتهرت خوزستان بذلك، وكانت الطنافس التي تفرش على الأرض تصنع بالعراق في مدينة الحيرة، وقد استمدت صناعتها من الروم ، واشتهرت صناعة الحصر في كل البلاد الإسلامية.
وكان المصريون يصنعونها من البرد، كما اشتهرت صناعة ماء الورد، وأهم ما تصنع فيه مدينة «جور» لشهرتها بالورد الجوري، وينقل من جور إلى سائر البلدان كالمغرب، والأندلس، ومصر، واليمن، وبلاد الهند، والصين، ومما قدم الصناعة في القرن الرابع اكتشافهم قوة المياه، واستخدامهم لها في إدارة الطواحين؛ كما أن أهل البصرة استخدموا حركة المد والجزر، فأنشئوا عليها الأرحية؛ ذلك أن الجزر والمد يحدثان عندهم مرتين في كل يوم وليلة، ففي أثناء المد يدخل الماء الأنهار، وفي أثناء الجزر ينحسر الماء، فعمدوا إلى أرحية أقاموها على أفواه الأنهار، أما الجهات التي ليس بها أنهار، فكانوا يستعملون الدواب في إدارة الطواحين.
وقد اشتهرت مطاحن الموصل، فكانت تصنع من الخشب والحديد، وتسمى الواحدة منها عربة، وبعض الطواحين يستخدم فيه شدة هبوب الريح، حتى كان من دقتهم تنظيم سرعتها بواسطة منافذ تغلق وتفتح.
وقد نقل المصريون صناعة الورق عن الصين، ولكن تقدموا فيها بواسطة تنقيته مما كان يعلق به من ورق التوت ونحوه، وانتشرت صناعته في دمشق، وطبرية، وطرابلس، وسمرقند، ولولا كثرته ما انتشرت العلوم انتشارها في هذا العصر، واشتهرت حران بصناعة آلات الفلك، كالإصطرلاب، وبصناعة الموازين الصحيحة؛ واشتهرت المقدس بصناعة السبح؛ لكثرة الزوار.
وأما الزراعة، فاشتهرت في هذا العصر، حتى ربما أمكن العالم الإسلامي أن يكفي نفسه، فكانت العراق تكثر من زراعة الحنطة، والهند من الأرز، وفلسطين ومصر من القلقاس، واشتهرت في البلدان كلها زراعة الكروم، واشتهرت زراعة العنب في اليمن، وهو كثير الأصناف، يجود كل صنف منه في بلد. واشتهرت في هذا العصر فاكهتان، وهما: الأترج، والنارنج، وكانت هاتان الفاكهتان نادرتين في هذا العصر، وقد جلبتا من الهند إلى عمان، والبصرة، والعراق، والشام، واشتهرت زراعة البطيخ، واشتهر شمال فارس بجودة الفاكهة، حتى بلغ أن كان البطيخ يقدد، ويحمل إلى العراق، وعلا شأن الرمان؛ وكان أحسن التفاح في ذلك العصر تفاح الشام، حتى كان مضرب المثل في الحسن، ويحدثنا الثعالبي في «لطائف المعارف» بأنه كان يحمل إلى الخلفاء في كل سنة منه ثلاثون ألف تفاحة.
واشتهر في العراق، والحجاز، ومصر تصدير مقادير كبيرة من الثمر، وكان الناس في مصر يستخدمون زيت المصابيح، من جذور البنجر واللفت، ويسمونه الزيت الحار، ولحاجتهم إلى السكر كان يزرع في كثير من البلدان، وعملوا المربات، والفواكه المحفوظة، وملحوا السمك، وأكلوا نوعا من الطين الأخضر كالسلق، كانوا يستعملونه بعد الأكل، يجلب من نيسابور، ويسمى بالنقل، وكان الرطل منه ربما يباع في مصر بدينار.
وعلى الجملة، كانت الزراعة والصناعة والتجارة متعاونة، يمد بعضها بعضا، ولكثرة عدد الأهالي نمت هذه العناصر الثلاثة في ذلك العصر، حتى ليحكي بعضهم أشياء عنها قد لا يصدقها العقل، وربما كانت الزراعة هي العنصر الوحيد الذي لم يتغير في الشرق إلى اليوم، فلا يزالون يستعملون آلات الزرع العتيقة من ساقية، وشادوف، وطمبور، ونحو ذلك مما كان يستعمله قدماء المصريين.
قد تغيرت التجارة والصناعة كثيرا عن قبل، ولكن الزراعة لم تتغير كثيرا عما كانت، إلا عند القليل الذين استعملوا الآلات الحديثة.
الفصل الثاني عشر
القضاء والإدارة
من قديم وكبار الفقهاء يكرهون تولي القضاء، كالذي روي عن مالك، وأبي حنيفة من كراهية تحمل المسئولية، وخوفا من الحيد ولو قيد شعرة عن العدل، إنما يتولاها من أكره عليها، أو كان شرها يحب المال، ويقوي ضميره على تحمل المسئولية، وكانت أكبر مشكلة في زماننا، وقبله اختلاط الاختصاص بين الوالي والقاضي، فكلاهما يرجو توسيع الاختصاص، وكثيرا ما اصطدما، فمثلا: تزوجت امرأة رجلا ليس بكفء لها، كحادثة الشيخ علي مع بنت السادات، وأنكر وليها الزواج، وطلب من القاضي فسخه، فامتنع، فذهب أهلها إلى الأمير، فأمر القاضي بالفسخ، فامتنع أيضا، ثم فرق الأمير بينهما، وسبب ذلك الاختلاط بين سلطة القضاء، وسلطة التنفيذ. وكان القاضي يتولى سلطانه من قبل الخليفة، وكان كثير من القضاة ذوي عظمة وجلال، حتى يحضروا الولاة في مجالسهم إذا احتاج الأمر، ويحكون عن القاضي ابن حربويه الذي توفى سنة 329ه أنه كان آخر من ركب إليه الأمراء، وكان لا يقوم للأمير إذا حضر، وكان عزيز النفس، عدلا، حتى إن مؤنسا الوالي الكبير مرض، فأرسل إلى القاضي يطلب شهودا، يشعرهم أنه أوصى بوقف على جهة من جهات الخير، فقال القاضي: لا أفعل حتى يثبت عندي أنه حر، وكتب إلى الخليفة المقتدر يسأله إذا كان قد أعتقه ، ولما وصل الكتاب أبى القاضي إلا أن يشهد عدلان أنه كتاب أمير المؤمنين، وكان ابن حربويه هذا مثلا عاليا للقاضي، فلا يفعل أمام الجمهور ما يحط من كرامته، وكان لا يتقيد بمذهب من المذاهب، بل يجتهد. ومن القضاة العظام في هذا العصر أبو حامد الإسفرائيني قاضي بغداد المتوفى سنة 406ه، كتب إلى الخليفة يقول له: «اعلم أنك لست بقادر على عزلي عن ولايتي التي ولانيها الله تعالى، وأنا أقدر أن أكتب إلى خراسان بكلمتين أو ثلاث، أعزلك عن خلافتك»، حتى لقد كان بعضهم من القوة، بحيث يستطيع أن يأمر بسجن أمير أو وزير، وكان من أعظم القضاة في ذلك العصر أبو الحسن بن أبي الشوارب، فكان قاضيا عادلا مهيبا، وكان قاضي البصرة سنة 399ه.
ولم تكن عرفت المحكمة، ولكن عرفوا أن القضاء يجب أن يكون مباحا للجمهور، فكان القضاة يجلسون في المسجد، أو على بابه، أو في دار القاضي، ويتقدم المتقاضون برقاع فيها اسم المدعي، والمدعى عليه، وهي المسماة اليوم «عريضة الدعوى»، ويعطونها للكاتب، وإذا حضر القاضي دفعها إليه، فيفصل فيها كلها أو بعضها، وإذا لم يستطع أجل ما لم يستطعه إلى الغد، ويحكون أن إبراهيم بن الجراح كان مكروها من المصريين، فكان يقضي في داره، ولما ولي هارون بن عبد الله قضاء مصر جعل مجلسه في الشتاء في مقدم المسجد، واستدبر القبلة، وأسنده ظهره بالجدار، واتخذ مجلسه في الصيف في صحن المسجد، واستمر الحال على ذلك إلى منتصف القرن الثالث الهجري، فمنع الخليفة المعتضد من جلوس القاضي في المسجد، ولكن هذا النهي لم ينفذ، وكره أبو العلاء المعري في عصره سيرة القضاة، والشهود المسمون بالعدول، فقال:
في البدو خراب أذواد مسومة
وفي الجوامع والأسواق خراب
فهؤلاء تسموا بالعدول أو التج
ار واسم أولاك القوم أعراب
ويعني بمن في الجوامع: القضاة، والشهود، ويقول في موضع آخر:
عدول لهم ظلم الضعيف سجية
يسمون أعراب القرى والجوامع
وكان الفقهاء أولا يكرهون أن يأخذوا أجرا في نظير قضائهم، ثم عين لهم أجر قليل، فكان ابن حجيرة في مصر يتقاضى مائتي دينار في السنة، وكان عبد الرحمن بن سالم قاضي مصر أيضا يتقاضى عشرين دنيارا في الشهر.
وكان بعض القضاة يتجر بجانب منصبه ليعيش عيشة محترمة، وقد رفع العباسيون ماهية القضاة، فكان مرتب عبد الله بن لهيعة ثلاثين دينارا في الشهر، وفي عصر المأمون، جعل للفضل بن غانم مائة وثمانية وستين دينارا في الشهر، ويقول الرحالة ناصر خسرو: «إن مرتب قاضي القضاة في مصر ألفا دينار في الشهر» ... إلخ.
وقد انحط القضاء على توالي الأزمان، فقل أن ترى قاضيا محترما مهيبا وقورا، كالذي كنت تراه من قبل.
أما الإدارة، فكان على رأسها الخلفاء، وقد رأيت من قبل كيف انحطت رتبهم، واستبد بهم الوزراء، كما انحطت ثقافتهم؛ لأن الوزراء كانوا يكرهون خليفة مثقفا.
ويحكي صاحب كتاب العلوم أن الوزير أبا أحمد العباس بن الحسن كان راكبا، ومعه أحد الكتاب الأربعة الذين يتولون الدواوين، فشاوره فيمن يرشح للخلافة بعد المعتضد، وكان الوزير يميل إلى ابن المعتز، فأجابه الكاتب: إنه يجب ألا يولى في هذا الأمر من عرف دار هذا، ونعمة هذا، وبستان هذا، ومن لقي الناس ولقوه، وعرف الأمور، وحنكته التجارب. قال له الوزير: صدقت، فمن نقلد؟ فأشار الكاتب عليه بجعفر بن المعتضد، وقال: إنه صغير، لا يدري أين هو، وعامة سروره أن يصرف من المكتب، فعمل الوزير على تقليده، وكان صبيا في الثالثة عشرة من عمره، وهكذا حتى كانوا يفتشون الكتب التي يقرؤها المرشح للخلافة؛ لئلا تكون فيها منفعة، بل تكون لهوا صرفا، كالسندباد البحري، وألف ليلة وليلة، فما أكره الوزراء للخلفاء المتعلمين، ولذلك ضعف شأن متولي الإدارة، وكانت دواوين كثيرة، لكل ولاية ديوان يدير شئونها، حتى وحد المعتضد هذه الدواوين، وجعل منها ديوانا واحدا أسماه «ديوان الدار» له ثلاثة فروع: ديوان المشرق، وديوان المغرب، وديوان السواد، أي العراق، ولم تكن العدالة مرعية، فكثرت المصادرات، بل كثر التعدي على الأرواح، ولم يعد أحد يأمن على نفسه، وعلى ماله حتى الخليفة، فكم صودر، وكم سلبت أمواله، أو سلمت عينه، وفشا في هذا العصر أخذ المسائل الإدارية كالقضاء التزاما يلتزمون المرفق العام للخليفة، ثم يستبدون بمن يليهم. يقول ابن المعتز:
أفما ترى بلدا أقمت به
أعلى مساكن أهله خص
وولاته نبط زنادقة
ملأى البطون، وأهله حمص
وتهافت أرباب الدواوين على الألقاب، وقد كانت العادة من قبل أن يكتب للناس من فلان إلى فلان، ففي أول القرن الرابع كان يخاطب الوزراء والكبراء بيا سيدنا ومولانا، وكان ابن سعدان يخاطب الوزير ابن عباد، بالصاحب الجليل، ويخاطب الصاحب ابن سعدان بالأستاذ مولاي ورئيسي، ثم زادت الألقاب، حتى قال الخوارزمي:
ما لي رأيت بني العباس قد فتحوا
من الكنى ومن الألقاب أبوابا
ولقبوا رجالا، لو عاش أولهم
ما كان يرضى به للحش بوابا
قل الدراهم في كفي خليفتنا
هذا، فأنفق في الأقوام ألقابا
ولقبوا المارودي القاضي بلقب «أقضى القضاة»، وزادت الألقاب فيما بعد زيادة كبيرة، وتشكلت بالشكل التركي، وزادت حتى فقدت قيمتها.
وكانت الإدارة المالية سيئة جدا؛ لأنها شديدة الحساسية، يحلها مليم، ويعدلها مليم؛ وذلك لأنها كانت سيئة في دخلها، تعتمد كثيرا على المصادرات التي شرحناها من قبل، وفي خرجها إذ كثرت النفقات للإسراف في الترف، كما بينا، وكانت جباية الأموال غير عادلة، ولا دقيقة.
ويروي لنا المؤرخون أن بعض الملاك يبيعون أرضهم بيعا صوريا لأولاد الأمراء ليقل الخراج عليهم، وبدأت ميزانية الدولة تنحط، ويزيد الخرج على الدخل، فكان مقدار الميزانية حسب ما وصلنا في عهد المقتدر على حسب تقدير الوزير المشهور علي بن عيسى نحو 1904ه 1450 دينارا، أضاعها كلها الخليفة المقتدر، كما أضاع ما تجمع عنده من الخلفاء قبله؛ وذلك بسبب كثرة الجند، وشغبهم، ومطالبتهم بالزيادة، حتى اضطر أن يبيع دياره، وفرشه، وآنية الذهب التي عنده، وبلغ من فقر بيت المال في أيام المطيع لله سنة 361ه أن باع ثيابه، وأنقاض داره؛ ليدفع 400 ألف درهم طلبت منه للجند في أثناء الفتنة ببغداد.
والسبب في قلة الدخل أن كثيرا من الممالك انفصلت عن الدولة العباسية واستقلت، كإفريقيا، وخراسان، ومصر، وفارس، وما وراء النهر، وكلها كانت تدر مالا كثيرا على الدولة في بغداد. وتململ الناس في عصرنا هذا من كثرة الضرائب، فبدأ الخلفاء يخفضونها من عهد المأمون، ونقصت الجزية، وكانت موردا كبيرا للمال بسبب اندفاع الناس إلى الدخول في الإسلام، وكان العهد عهد إقطاع، وهو عهد ظالم، كالذي شاهدناه في عصرنا، وزاد الطين بلة إفراط الخلفاء، ومن إليهم في أسباب الترف، فانغمسوا في اقتناء الجواري من كل الأصناف، واتخذوا الفرش من الخز والديباج والحرير، والمسامير من الفضة، وأكثروا من المتنزهات، والقصور، والمدن، ومجالس البيوت، وتأنقوا في الطعام واللباس تقليدا للفرس، وتحول الغنى من الخلفاء إلى النساء والخدم والقواد، حتى حكى صاحب المستطرف أنه كان بين رياش أم المستعين بساط أنفقت على صنعه 130 مليون دينار - على ما يقولون - فيه نقوش على أشكال الحيوانات والطيور، أجساما من الذهب، وعيونها من الجواهر، حتى ليذكروا أن شاعرا مدح امرأة فأعطته درا قوم بعشرين ألف دينار، وكثر الإعطاء للمداح من الشعراء، كما يحدثنا صاحب الأغاني، حتى لا يكاد الإنسان يصدق ما يحكيه من العطاء لكثرته.
وكثر الإعطاء من المال للوزراء والقضاة والقواد، حتى بلغت ماهية الحسين بن علي الماذراني والي مصر في أول القرن الرابع 3000 دينار في الشهر؛ هذا عدا ما يفرضه الخلفاء لأنفسهم وأهليهم، خصوصا وقد منعوا السلطة، فصارت في يد وزرائهم من الأتراك.
والحق أن الإدراة المالية إذا اختلت اختل تبعا لها كل شيء، من علم، وتجارة، وزراعة، وصناعة، فعجيب أن يزهر العلم في هذا العصر، حتى يبلغ ذروته، ويختل النظام المالي، وهذا يدلنا على أنه قد تختل السياسة، ويختل المال، ويزهر العلم؛ لأن اختلال السياسة، واختلال المال لا يظهران إلا بعد عهد طويل.
وكان من أهم المصالح الإدارية مصلحة البريد، وقد عني بها المسلمون من العهد الأموي، كما عني به العباسيون، وكانت مصلحة البريد تقوم بوظائف أكثر مما تقوم به مصلحة البريد اليوم، فكانت تقوم بما تقوم به اليوم مصلحة المخابرات؛ إذ كان رجال البريد مكلفين بإخبار الخلفاء بكل حركة يقوم بها كبار العمال؛ حتى يتأهبوا لها، ولذلك يروى أن طاهرا أمير خراسان، وأول من انفصل عن الدول، وأسس الدولة الطاهرية قطع الخطبة للمأمون على المنبر؛ وكلمه في ذلك صاحب البريد، فاعتذر بأنه نسيان منه، وتقدم إليه ألا يكتب للخليفة، وتكرر منه ذلك ثلاث مرات، فقال له صاحب البريد: إن كتب التجار لا تنقطع عن بغداد، وإن اتصل هذا الخبر بأمير المؤمنين من غيري لم آمن أن يكون سبب زوال نعمتي، فقال: اكتب إليه. وكان الخلفاء لا يحجبون صاحب البريد، ولو جاء في نصف الليل، علما منهم بأن مبادرة الأمور في أوائلها خير من الانتظار عليها.
ولذلك قال المنصور: «ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أعف منهم، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والثاني: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث: صاحب خراج يستقصي، ولا يظلم الرعية، والرابع: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة». ولذلك كان العمال يخافون من صاحب البريد، ويعتبرونه جاسوسا عليهم عند الخليفة، وأحيانا يجعل الخلفاء بينهم وبين أصحاب البريد رموزا، أشبه ما تكون بالشفرة اليوم، حتى لا تقع في يد العامل، فيعرف محتوياتها، هذا ما يتعلق بالخلفاء، يضاف إلى ذلك مكاتبات الناس، وأحيانا ينتهز بعض الناس فرصة البريد، فيركبون معه؛ لأن ذلك آمن لهم، وفي بعض الأحيان كانت ميزانية البريد 159100 دينار في السنة.
أما وسائل البريد، فكانت أمورا كثيرة: (1)
الجمال والأفراس، وربما كان المقصود بالجمال هو ما يسمى الآن «الهجين»؛ لسرعة سيره، وربما بلغت قافلة البريد أربعين أو خمسين جملا، وقد أعدت للبريد شبكة من الطرق، تشبه شبكة القطارات اليوم. (2)
السفن في البحار، وقد يستعملان معا. (3)
الرجال العداءون، وخاصة في المدن الكبيرة كبغداد. (4)
الحمام الزاجل؛ فيربطون ورقة، ويعلقونها بعد تمرين الحمام على السير على مواقع يعلمونها. (5)
أحيانا يستعملون سهما يضعون فيها قصبة فيها ورق، ثم يطلقونها، فيستلمها آخر، ويفعل بها مثل ذلك. (6)
وأحيانا يستعملون ماء النهر فيضعون فيه الخرائط من الجلد، مكتوبا عليها اسم صاحبها.
وأحيانا يستعمل البريد لحمل بعض الناس الذين يأمر الخليفة بإحضارهم، وكانت توضع في أعناق الدواب سلاسل وأجراس تسمعها المدينة، فتعرف أن البريد حضر، ويسمونها عادة «قعقعة البريد»، وكانت تقسم الطرق إلى مراحل، وفي كل مرحلة فندق كبير ينزل فيه عمال البريد ليرتبوا شئونهم فيه، وهكذا إلى أقصى المملكة الإسلامية.
وقد أدت مصلحة البريد هذه خدمات كبيرة إلى المملكة الإسلامية من مثل قمع الفتن، ومنع المشاكل من الحدوث بسبب التأهب لها، وكثيرا ما حملت العلماء من مكان إلى مكان ليحصلوا العلم، والتاريخ مملوء بذلك.
وهناك عمال آخرون لحفظ طرق البريد، وإمدادها بالأفراس، أو الإبل الملاح، وحماة يحمونها من القطاع والسراق.
خاتمة
من هذا نرى أن الحركة العلمية في القرن الرابع كانت على أشد ما يكون، وأنه لم يشهد مثلها القرن الذي قبلها، ولا الذي بعدها، وأنه لم يخل فرع من فروع العلم المعروفة في زمنهم من علماء يبحثون فيه ويوسعونه، وأن الفقر كان نصيب العلماء إلا من اتصل بالقصور، وأنه رغم انحطاط السياسة لم يتأثر العلم بها، فكان العلم والسياسة في ذلك الزمان ككفتي ميزان رجحت إحداهما، وهي كفة العلم، وشالت الأخرى، وهي كفة السياسة، وربما كان السبب في ذلك أن السياسة تحتاج إلى زمن طويل، حتى يظهر أثر ضعفها في الحياة العامة، وهذا ما كان لأنها أثرت في العلم أثرا سيئا في القرون التي بعد هذا القرن، بل ربما كانت السياسة في قرننا هذا سببا غير مباشر لرقي العلم من جهتين: الأولى: أن العلماء لما رأوا سوء السياسة، وظلمها، وعنتها، واضطرابها، كرهوها، وانصرفوا إلى العلم، وهو الملجأ الآمن المطمئن، حتى كان بعضهم يأنف كل الأنفة أن يتصل بأمير أو وزير، ويتعفف عن زيارة السلطان وأعوانه، ويفضل العيش النكد مع السلامة، على العيش الرغد مع الخوف، والثانية: اتخاذ الأمراء، والوزراء العلماء زينة يزينون بها مملكتهم، فلفت ذلك نظر بعض الناس أن يتعلموا ليتصلوا بهم، وينتفعوا مما في أيديهم، فكان هذا السبب سببا في كثرة العلم، سواء المعرضون عن الولاة، أو المقربون إليهم.
ونرى أنه في هذا العصر زاد التصوف، ونما وازدهر، وذلك لجملة أسباب: (1)
الارتقاء الطبيعي مع مرور الزمن. (2)
فساد الدنيا، فحمل بعض الناس على أن يتركوها لأصحابها، ويطلبوا الله والآخرة. (3)
ما كان من قيام الفقهاء على الصوفية، وتحريض الأمراء على التنكيل بهم، كالذي رأينا من قصة غلام الخليل والحلاج، فدعا إلى ذلك إلى اضطهاد الصوفية، والناس دائما أعطف ما يكونون على المضطهد، والفكرة إذا اضطهدت كان اضطهادها علامة حياتها.
ورأينا في هذا العصر كثرة المذاهب، وكثرة الاحتكاكات بينها، كالاحتكاك بين المذاهب الفقهية المختلفة، والاحتكاك بين الشيعة والسنية، والاحتكاك بين الفقهاء والصوفية، والاحتكاك بين المحدثين والفلاسفة، وهذه الاحتكاكات المختلفة سببت نشاطا عجيبا في الحركة العلمية؛ إذ كان كل فريق يرى أن يتسلح أمام الخصوم بكل الوسائل ليتغلب عليهم.
ولعل ذلك كان من الأسباب التي روجت الفلسفة اليونانية بين المسلمين؛ لأن منطقها أقوى سلاح يتسلح به.
وربما كان هذا العصر خاتمة العلم الإسلامي، نعم كان بعده علم، ولكن ليس إلا ترديدا لعلم القرن الرابع.
وربما كان السبب في ذلك إقفال باب الاجتهاد في هذا العصر، فشمل الخمود والجمود كل علم، وكل أدب، وانتشر في العلماء قلة الثقة بأنفسهم، وزعمهم أن ليس للآخرين ما كان للأولين، وربما كان من الأسباب أيضا السياسة الفاسدة بعد أن طال زمنها، ووصل تأثيرها السيئ إلى العلم، ثم جاءت نكبة التتار، فذهبت بالبقية الباقية من هذه الحركة العلمية.
ومما يؤسف له أن نرى العلماء في ذلك العصر الزاهر انطووا على أنفسهم، وتركوا الظالمين من غير أن يقفوا في سبيلهم، ولم يستطيعوا أن يضحوا، فيجهروا بالحق أمام الظالمين، والأدباء الذين ارتفع صوتهم ارتفعوا بمدح الظالم لا بردعه، وتحريضه لا قمعه، ولم يكن عندهم شعور بأنهم مسئولون عن ظلم الظالم، والصوفية الذين كانوا مظنة الجهر بالحق انطووا أيضا على أنفسهم، وغسلوا أيديهم من هذا العالم، والوعاظ الذين كانوا يعظون، كانوا يعظون الشعب بتحمل الظلم، ولا يعظون الظالم بالارتداع عن الظلم ...!
وكان إحساس الناس بالظلم والعدل ليس إحساسا مرهفا، بل قد يعدون الظلم فضيلة، فنحن نرى أن الزجاج النحوي المشهور كان يفرض جعلا على أصحاب المظالم؛ ليرفع الرقاع إلى الوزير، والوزير هو الذي مكنه من ذلك، والناس يصفونه بالصلاح والتقوى، والشعراء يمدحون إذا أعطوا، ويهجون إذا لم يعطوا، وقل أن يمدحوا أميرا بالعدل، أو يهجوه للظلم، والقصيدة في المدح أو الهجاء يصلح أن تنطبق على كل أحد سواء من استحق المدح أو الذم، وليس فيها تحليل دقيق لنفسية الممدوح أو المهجو.
والناس يحترمون العالم ويوقرونه؛ لأنه زهد فيما في أيديهم، لا لأنه سعى في خيرهم أو كشف الغمة عنهم.
على كل حال، لو سار العلم على طول الخط، كما سار في القرن الرابع الهجري؛ لكان شأننا غير شأننا اليوم، ولكان منا المخترعون المبتكرون، ولكن الجمود من جانب، والظلم من جانب؛ أماتا النفوس، وجعلا اليقظة صعبة.
ثم من الأسف أيضا أن أقبل الناس كثيرا على النظريات المجردة، أكثر من إقبالهم على العمليات المجربة، مما نرى في مثل فلسفة الفارابي، والإمعان فيما وراء الطبيعة التي هي عبارة عن خيال في خيال، فأما نمط أمثال ابن الهيثم في ابتكاراته، فقد مات تقريبا.
وانصب الأدب في قوالب هي عبارة عن زينة لفظية، لا معنى غزير، ووقفوا عند المنهج الذي رسمه من قبلهم، فلا وزن يخترع، ولا نوع يبتكر، إلا أنواعا سخيفة كالغزل بالمذكر الذي اخترعه أبو نواس، او الفحش الفاجر الذي أفاض فيه ابن حجاج، وابن سكرة، أو استجداء وحيل لكسب، كالذي اخترعه بديع الزمان، والحريري.
وغلب منهج المحدثين في كل شيء، بما فيه من خير أو شر، فما فيه من الخير، هو الدقة في الرواية، ونقد الرواة، والحرص على السند والإجازة، والشر في الاعتماد على النقل دون العقل، وتقديس ما في الكتب، وتخريج عبارات المؤلفين، وإن كانت تصرخ بالخطأ إلى غير ذلك، وظل هذا المنهج يعمل به في الأوساط الشرقية، وأخيرا فقد ظل العالم الإسلامي طوال القرون العديدة يتغذى بعلم القرن الرابع، وأدبه، ومنهج علمائه إلى اليوم.
ونرى من كل هذا العلم العربي، وإن شئت فقل الإسلامي، بلغ في هذا العصر ذروته، وكان مظهره مصداقا لما قلنا من قبل، من أن العلم ليس بضروري أن يلازم السياسة في رقيها وانحطاطها، فقد ترتقي السياسة، وينحط العلم، وقد يكون العكس كما ذكرنا، والسبب في الارتقاء يعود إلى: (1)
امتزاج العلوم والثقافات لم يكن تم نضجه إلا في عصرنا هذا. (2)
أن العلماء المسلمين وجدوا أساسا صالحا، فكان من نشاطهم أن بنوا عليه. (3)
أن المعتزلة كانت فرقة جادة مفكرة، أثمرت ثمارها في هذا العصر، ولكن مع الأسف لم يمض هذا العصر حتى أخذ نجمهم في الأفول، وبحر العلوم في الانحسار.
ولذلك أيضا أسباب عكسية:
أولا:
غزوة التتار، وما أعقبته من تخريب ودمار، حتى أهلكت الأنفس، وأغرقت الكتب.
وثانيا:
سد باب الاجتهاد لما رأى العلماء أنهم عاجزون عن بلوغ شأو من قبلهم، وكان كل ما يأملون أن يسيروا على منهجهم، ويجروا على منوالهم.
وثالثا:
اضطهاد المعتزلة على يد المتوكل ومن بعده، حتى خفت صوتهم، وقد كانوا دعاة الحرية والتفكير، والتحذير من الخرافات والأوهام، وغلبهم المحدثون، وهم دعاة النقل، والرواية، والوقوف عند النص.
ورابعا:
غلبة الأتراك، وهم - والحق يقال - عنصر لم يكن مثقفا ثقافة تامة، ولا مشجعا للثقافة، وقد كانت العصور الماضية على العموم يعتمد علماؤها وأدباؤها على الولاة والأمراء الذين يفهمون علمهم وأدبهم، فلما عز من يفهم، لم يتشجع العلماء على أن يظهروا علمهم، فظللنا من آخر القرن الرابع تقريبا، ونحن في عماء، ومصداق ذلك ما نراه من الموسوعات «كالمسالك والممالك»، و«صبح الأعشى»، و«نهاية الأدب»، فكلها تقريبا ليست إلا جمعا لأشتات المتشابهات من غير تجديد.
ومن ملاحظتنا أن الأدب قد نما وترعرع أكثر من العلم بالمعنى الدقيق، فقد بلغ الأدب ذروته، وكانت الفوضى السياسية التي بدأت من قديم تعمل عملها، وتظهر نتائجها ؛ وكان الأدب في الجاهلية أسلوبا أكثر منه موضوعا، وكان في العصر الأموي أدب أحزاب أكثر منه أدب أمة، وجاء العصر العباسي الأول ثم الثاني، فانتقلت معاني الفرس، والهنود، وفلسفة اليونان إلى اللغة العربية، وكانت غذاء صالحا للأدب، وجاء أمثال ابن المقفع، والجاحظ، وجعلوا للأدب موضوعا ، وجعلوا له أسلوبا، وجاء بشار وأبو نواس، فعبرا التعبير الصادق عن الحياة الاجتماعية الجميلة، لا الحياة الجاهلية القديمة، وجرى الشعراء على أثرهما، فلما جاء القرن الرابع، كان قد نضج كل ذلك، وأخذ الكتاب والشعراء يدخلون المعاني الجديدة في الأدب الجديد، فكان النثر والشعر يعبران تعبيرا صادقا عنه في الغالب. هذا إلى أن كثرة الأموال في الدولة، وعيشة الترف والنعيم عدت الأدب، فأخذ هو الآخر، يتزين ليعجب المترفين، وأخذ ما كان يبنى على الذوق الفطري من نقد يتحول إلى علم ذي قوانين، وكان القرن الرابع نهاية المطاف.
إنك لتقرأ تاريخ كثير من الأدباء فتراهم نكبوا؛ لأنهم ناصروا بعض البويهيين، فلما انتصر عليهم خصومهم، أهينو أشد أنواع الإهانة، وابن سينا الفيلسوف الكبير لعبت به السياسة لعبا كبيرا حتى فر أحيانا، وإذا كان الخلفاء والأمراء يقتلون أحيانا، وتسمل أعينهم أحيانا، ويستجدون الناس على أبواب المساجد أحيانا، فما بالك بالعلماء والأدباء؟ إن هؤلاء كلهم لو عاشوا في جو هادئ لأنتجوا خيرا مما أنتجوا، ولاستفاد الناس منهم أكثر مما استفادوا، فسلسلة الاضطرابات السياسية قطعت سلسلة العلم والأدب، فقد ظلا نائمين خادمين إلى النهضة الحديثة، حتى لو أننا فقدنا نتاج القرون الماضية من القرن الخامس إلى عصر النهضة لم نكن فقدنا كثيرا.
والعلم والأدب عادة في أشد الحاجة إلى هدوء بال، وطمأنينة نفس، وراحة في الرزق، فما لم توجد هذه الثلاثة لا يستوي لهما طريق، ولا يؤمل لهما نجاح، شأنهما شأن الزهرة الناعمة؛ إذا عصفت بها العواصف، ولم ترو في أوقاتها ذبلت، أو ضعفت.
وقد أخرج هذا العصر كثيرا من الأمراء والوزراء الذين شجعوا الحركة العلمية، إما لرغبتهم في العلم، وإما لتزيين مجالسهم بالعلماء، كما تزين بالتحف الطريفة؛ ذلك أنهم فيما مضى من العصور العباسية، كانت بغداد وحدها هي مقصد العلماء، والشعراء، والأدباء؛ لأنها عاصمة المملكة الإسلامية كلها، فلم يك ينبغ نابغ في أي قطر، ويحب أن يشتهر إلا ويقصد بغداد لينال هذه الشهرة.
فلما انقسمت الدولة الإسلامية إلى دول ودويلات صغيرة، تعددت العواصم، وتعددت رحلات العلماء والأدباء، فمنهم من كان يقصد القاهرة، ومنهم من كان يقصد حلب، ومنهم من كان يقصد الري، أو شيراز، أو بغداد، أو غيرها من البلاد، وكانت هذه المدن تتنافس في اجتذابها للعلماء، واشتهر في هذا العصر من الأمراء البويهيون في العراق، والفاطميون في القاهرة، والحمدانيون في حلب والجزيرة، والسامانيون فيما وراء النهر، وكل هؤلاء قربوا العلماء والأدباء إليهم، وأنفقوا على العلوم العربية، والآداب العربية، حتى إن بني بويه مع فارسيتهم، شجعوا اللغة العربية، والأدب العربي أكثر مما شجعوا الأدب الفارسي، واللغة الفارسية. ومن غريب أمرهم أنهم عدوا البلاغة وسيلة الوزارة؛ ذلك لأن الأدباء كانوا هم السياسيين، يتثقفون في السياسة ثقافة عامة مع الأدب، ولم تكن السياسة قد أصبحت علما كما هو اليوم، إنما كانت تدرك بالذوق الفطري، وتستفاد من التجارب، ومن كتب التاريخ؛ لهذا رأينا من أشهر الوزراء ابن العميد، والوزير المهلبي، والصاحب ابن عباد، وفي القاهرة يعقوب بن كلس، وغيرهم، وكلهم علماء أدباء، ولذلك تجد في كتبهم ورسائلهم كثيرا من المعلومات السياسية العامة، فابن العميد كان أديبا كبيرا، وله مذهب في الأدب معروف، مؤسس على السجع والجناس، وسائر أنواع البديع، وله كذلك شهرة كبيرة في السياسة، وقصده الناس والعلماء من كل ناحية، فهو يملي عليهم، ويقترح على الأدباء موضوعات يقولون فيها الشعر. وهذا الوزير المهلبي كان فقيرا وبائسا، وكان من قوله:
ألا موت يباع فأشتريه
فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي
يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبرا من بعيد
وددت لو أنني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر
تصدق بالوفاة على أخيه
فلما ظهر أدبه استوزر، وعاش عيشة مترفة ناعمة، وكان يجلس الأدباء والشعراء في مجلسه، ومن جلسائه أبو الفرج الأصفهاني، وهذا الصاحب ابن عباد يقول الشعر وينقده، ويقود حركة فكرية رائعة، ومن حبه للعلم والأدب أنه كان يرسل إلى بغداد كل عام خمسة آلاف دينار تفرق في الأدباء والفقهاء، وكان يطمح أن يتملك العراق، فيستكتب أبا إسحاق الصابي.
وهذا ابن سعدان ، كان وزير صمصام الدولة، وكان يأنس بالفلسفة أكثر مما يأنس بالأدب، وكان من جلسائه أبو حيان التوحيدي، وتدل أسئلته التي كان يسألها أبا حيان في النفس وخلودها، ونحو ذلك على أنه ذو عقلية فلسفية، وكان يعتز بجلسائه، ويفتخر بأنهم خير من ندماء المهلبي، فكان من جلسائه عيسى بن زرعة النصراني المتفلسف، وابن عبيد الكاتب، وابن حجاج الشاعر، وأبو الوفاء المهندس، ومسكويه، وأبو القاسم الأهوازي، وبهرام بن أردشير، وكان يقول: «ما لهذه الجماعة بالعراق شكل ولا نظير، وإنهم لأعيان أهل الفضل، وسادة ذوي العقل، وإذا خلا العراق منهم خلا من الحكمة المروية، والأدب الغزير، وهل عند ابن عباد إلا صاحب الجدل الذين يشغبون ويحمقون؟»
1
وهذا سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة البويهي، كان كاتبا سديدا، جمع كثيرا من الشعراء كغيره من الوزراء كالسلامي، والببغاء، والنامي، والحاتمي.
ومن العجيب أن آل بويه هؤلاء شهروا بالظلم، وكثرة المصادرة للأموال، والنهب من الأغنياء، حتى إنا نجد بعض الرسائل التي وصلت إلينا من هذا العهد البويهي مملوءة بالشكوى من الظلم، فيقول الصابي مثلا في بختيار البويهي: «فما زال بختيار يسيء الاختيار، ويتنكب الصواب، ويتجنب الإصلاح، ويمزق الأموال، ويعرض الدولة للزوال، ويهرج الأولياء أشد الإهراج، ويحملهم على أعوج المنهاج، ويخرب الأوطان، ويشتت الأقران، ويقتل الكفاة، ويستكفي الغواة؛ إلى أن بلغ من فاسد سيرته، وضال طريقته، أن استكتب محمد بن بقية، المحيط بكل خلة دنية»، وربما كان هذا الوصف ينطبق على أكثر البويهيين وعمالهم.
ويقول أبو بكر الخوارزمي في وصف سيرة حاكم: «فما زال يفتح علينا أبواب المظالم، ويحتلب فينا ضرع الدنانير والدراهم، ويسير في بلادنا سيرة لا يسيرها السنور في الغار، ولا يستجيزها المسلمون في الكفار، حتى افتقر الأغنياء، وانكشف الفقراء ، وحتى ترك الدهقان ضيعته، وجحد صاحب الغلة غلته، وحتى نشف الزرع والضرع، وأهلك الحرث والنسل، وحتى أخرب البلاد، بل أخرب العباد، وحتى شوق إلى الآخرة أهل الدنيا، وحبب الفقر إلى أهل الغنى ... والله ما الذئب في الغنم بالقياس إليه إلا من المصلحين، ولا السوس في الخز في الصيف عنده إلا من المحسنين»، ويصف بديع الزمان الهمذاني أحد قضاتهم فيقول: «يا للرجال، وأين الرجال؟ ولي القضاء من لا يملك من آلاته غير السباب، ولا يعرب من أدواته غير الاختذال، وما رأيك في سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، ولص لا ينتقب إلا على خزانة الأوقاف». ويقول بعض الشعراء:
إن شئت أن تبصر أعجوبة
من جور أحكام أبي السائب
فاعمد من الليل إلى صرة
وقرر الأمر مع الحاجب
حتى ترى مروان يقضي له
على علي بن أبي طالب
ومع ذلك؛ كانوا يغدقون على العلماء إغداقا كبيرا، فهم على الجملة نهابون وهابون.
فإن نحن تجاوزنا بني بويه في العراق، وما حوله وجدنا في القاهرة الفاطميين الذين شجعوا العلم والأدب أكبر تشجيع، فهذا الحاكم بأمر الله ينشئ «دار الحكمة»، وهؤلاء العلماء يجتهدون في كل أنواع العلوم، وهذا وزيرهم - مثلا - يعقوب بن كلس الذي كان من أصل يهودي وأسلم، قال فيه ابن خلكان: «كان يحب أهل العلم، ويجمع عنده العلماء، ورتب لنفسه مجلسا في كل ليلة جمعة، يقرأ فيه مصنفاته على الناس، ويحضره القراء والفقهاء، والنحاة، وغيرهم من وجوه الدولة، فإذا فرغ من مجلسه قام الشعراء ينشدونه المدائح، وكان في داره قوم يكتبون القرآن، وآخرون يكتبون كتب الحديث، والفقه، والأدب، حتى الطب، وكان يقيم كل يوم خوانا لخاصته من أهل العلم والكتابة، وخاصة أتباعه»، ولعل خير ما يمثل ميلهم إلى العلم بناؤهم للأزهر الخالد إلى اليوم.
وهذا سيف الدولة في حلب والجزيرة، كان مجلسه مملوءا بالشعراء والأدباء، وفيه بعض الفلاسفة كالفارابي، وبعض النحويين كابن خالويه.
وكان أيضا حاكما ظالما كالبويهيين، سهل له قاضيه كل مظلمة، حتى قال القاضي يوما: «من هلك فلسيف الدولة ما ملك»، فكان سيف الدولة أيضا نهابا وهابا، يصادر الناس في أموالهم، ليمنحها للمتنبي وأمثاله، فيصوغون له قلائد المدح؛ وينطبق عليه الحديث: «ليتها ما زنت، ولا تصدقت».
لهذا كله أنتج القرن الرابع هذا كثيرا من العلماء في كل علم ، مثل: إبراهيم المروزي، والقدوري، والطحاوي، وابن السريج في الفقه، والدارقطني، والنيسابوري، وغيرهما في الحديث؛ وأبي على الفارسي، وابن دريد، والنحاس، وابن فارس، وابن جني، والزجاج، وابن درستويه، وابن السراج في النحو واللغة؛ والمتنبي، وأبي فراس، والناشئ، والنامي، وابن حجاج، وابن سكرة، وابن طباطبا، والخالديين في الشعر، وأبي هلال الصابي، والخوارزمي، وجحظة البرمكي، وبديع الزمان الهمذاني، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني في الأدب؛ والطبري وابن زولاق، والشابشتي، والمسبحي في التاريخ، وابن جنزابة، والإصطخري، وغيرهما في الجغرافية، وابن مقلة في الخط، والجبائي، والحسن الأشعري، والكعبي، والبلخي في علم الكلام، وابن نباتة في الخطابة، فكل هؤلاء نشطت حركتهم، وكثر علمهم وأدبهم، مما لا أظن أن عصرا من العصور أخرج مثلهم، حتى جاءت الحركة الحديثة التي نشأت من الاحتكاك بالأجانب، والاقتباس من مدينة تغاير المدينة الإسلامية في كل ناحية من نواحي العلم والفن والحضارة، فأخذنا عنهم، وسرنا سيرهم، وتفتحت عيوننا بعض الشيء، فأخذنا نغربل القديم وننقده بأعيننا الجديدة، وصار أمامنا مدينتان مختلفتان: لعل المدينة الغربية منهما أوفر علما بمعنى العلم الحديث، وعلى أثر ذلك بدأت الحياة العلمية في الشرق تدب من جديد، وأمامها مادة وفيرة من المدنية الإسلامية، ومادة وفيرة من المدنية الغربية.
والمتأمل فيما يجري يرى أننا متجهون إلى اقتباس العلم والمخترعات بقدر كبير من المدنية الغربية، ومقتبسون الروحانية، والتصوف، والأسلوب، ونحو ذلك من المدنية الإسلامية؛ فنحن نمثل في الحقيقة الإسكندرية أيام كانت تقتبس من الشرق دينه، وروحانيته، وإلهامه، ومن اليونانية طبيعتها، وكيمياءها، وطبها، ونحو ذلك، أو كما فعل المسلمون في العصر العباسي الأول؛ إذ أخذوا الثقافة الهندية، والفارسية، واليونانية، والرومانية، ومزجوها بعضها ببعض، وكونوا ثقافة هي مزيج من كل ذلك، وصدق التعبير المشهور: «التاريخ يعيد نفسه»، ولكن قد يختلف شكل الإعادة حسب اختلاف الهيئات والظروف، وحقيقة الجوهر لا تختلف.
ونحن نؤمل أن العالم يسير إلى الأمام على العموم، قد تختلف بعض الأمم فتموت، وقد تتخلف بعض الأمم في بعض النواحي؛ ولكن العالم في جملته يسير إلى الأمام دائما؛ فعالم اليوم خير من عالم الأمس، قد كان العالم محكوما بحفنة من الملوك المستبدين، لا يرعون للشعوب حقا، وكانت تكفي الكلمة لقتل من شاءوا، ومصادرة من شاءوا - كما رأينا - ثم أصبح للشعوب حقوق، وللشعوب قوة، تعزل بها، وتولي، وتشرع، ولم يصل العالم إلى منتهاه بعد، فلا تزال فيه حفنة من قادة السياسة تقوم مقام الملوك، تعلن الحرب، وتخرب الممالك، ونحو ذلك، من أفعال سيئة، ولكن العالم سيتقدم، والعلم سيتقدم، والنظريات الغامضة ستتضح، ويفهم العالم في المستقبل القوانين التي تحكم العالم، والحقوق التي لهم على رؤسائهم، وستكون الشعوب هي التي تتحكم في أمورها، وترعى مصالحها ... قد يكون ذلك قريبا، وقد يكون بعيدا، ولكنه سيحدث على كل حال.
وهناك مسألة أخرى، وهي النظر إلى نوع ما شاع بين المسلمين كما رأينا من عظمة الثقافة الأدبية، دون العلمية، ونعني بالثقافة الأدبية، الأدبية بالمعنى الواسع الذي استعملت فيه كلمة الآداب، فتشمل الدراسة الأدبية، الشعر والنثر، والجغرافيا والتاريخ، وآداب اللغات؛ كما نعني بالثقافة العلمية المعنى الذي استعملت فيه كلمة كلية العلوم، من طبيعة وكيمياء، ورياضة، وجيولوجيا، ونحوها.
والناظر في هذا العصر الذي نؤرخه، والذي قبله وبعده، يرى طغيان الثقافة الأدبية على الثقافة العلمية، وعناية الشعوب بالآداب أكثر من العلوم، ومصداق ذلك أننا لو دخلنا مكتبة عربية رأينا ما يساوي واحدا في المائة منها علما، والباقي أدبا، فلو حصرنا كتب التراجم مثل ابن خلكان، وجدنا أن أكثره أدباء، بالمعنى الواسع، وأقله علماء، خصوصا إذا ضممنا المفسرين، والمحدثين، والفقهاء إلى باب الأدب، فنجد مئات الأدباء، بينهم قليل من أمثال ابن الهيثم، وأبي الوفاء البوزجاني.
نعم، إن لكل نوع من هذين النوعين مزايا وعيوبا، فمن ميزات الثقافة الأدبية توسيع الذهن، وتربية العواطف، وفهم الحياة الاجتماعية على وجهها ، ومن أضرارها عمومها، وعدم دقتها، واستعداد من يتثقف بها الجدل، وقدرته عليه، واستطاعته إقامة البرهان على الشيء ونقيضه.
ومزية الثقافة العلمية التحديد والدقة، إذ كلها تقريبا مثل: 1 + 1 = 2، أو مضاعفات ذلك. ومن ميزاتها أن أصحابها لا يقبلون الجدل الكثير، فالمسألة إما صحيحة، وإما خطأ، وليس هنالك وسط، ومن عيوبها خلوها من العواطف، واقتصار أصحابها على دائرة معينة لا يسبحون في غيرها إلا إذا تثقفوا ثقافة أدبية، ولذلك ترى أنه إذا تزحزحوا عنها قيد شعرة، كانوا أشبه بالعوام.
والثقافتان معا لازمتان لكل أمة؛ إذ لا يمكن أن تخلو أمة حية من ثقافة أدبية تغذي العواطف، وثقافة علمية تغذي العقل.
وقد حرصت كل الأمم تقريبا على أن يكون لها كلية آداب، وكلية علوم، كلية آداب تحيي النثر والشعر، وتدرس التاريخ اتعاظا بالماضي، والجغرافيا لمعرفة شئون العالم؛ وكلية علوم تضبط الذهن، وتقوي العقل.
وربما كان السبب في غلبة الميل إلى الأدب أكثر من العلم أن الأدباء بطبيعة أدبهم، وبطبيعة طول لسانهم كانوا أقرب إلى قلوب الملوك والأمراء، يمدحونهم، ويتزلفون إليهم، بينما رجال العلم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا من ذلك، إذ هم قصيرو اللسان لا يتكلمون إلا بقدر ... هذا إلى أن الأدباء عادة أقدر على السمر اللطيف، والحديث الممتع، والنكت الطريفة، على حين أن العلماء متزمتون، غير قادرين على المرح والنكت.
وكان ذلك تقريبا ظاهرا في كل العصور الإسلامية من مبدأ عصر الإسلام إلى قرب عهدنا بقليل، فلما جاءت المدنية الحديثة، وكانت قد أسست أكبر ما يكون على العلم، وعلى الاختراعات والصناعات اقتبسنا منها، ونحونا نحوها.
نعم، إن المدنية الحديثة لم تهمل الأدب، ولكنها مع ذلك قومت العلوم تقويما كبيرا، فأخذنا نؤسس حياتنا على العلم أيضا، حتى لا يكون عالة على غيرهم، وكان من نتيجة كثرة عنايتهم بالأدب كثرة كلامهم، وكثرة جدلهم، حتى لا يتناسب محصول فعلهم مع محصول كلامهم، ومجالسهم مملوءة بالجدل والمناقشة، ومشروعاتهم مملوءة بالبحث النظري من غير نتيجة.
بل نرى أن اتجاه الغربيين إلى العلوم، وتوسعهم فيها جعلهم يلونون أدبهم بلون العلم، وكان دائما لأدبهم موضوع، على عكس ما نرى، ما نرى عند الخوارزمي، والعماد الأصفهاني، والقاضي الفاضل من كلام كثير لا موضوع له.
بل أظن أن الثقافة الأدبية تجعل صاحبها أقدر على الميوعة في الأخلاق، والقدرة على التأويل، وكما قال البوصيري في إحدى قصائده:
وما أخشى على أموال مصر
سوى من معشر يتأولونا
ونحن لو درسنا الشرق لرأينا فيه من الكفايات ما يكفي العلم والأدب جميعا، فالجو الذي أخرج ابن الهيثم يستطيع أن يخرج أمثاله من العلماء لولا أن الشعب لظروفه وجه ناشئيه إلى الأدب، ولو وجهوا إلى العلم، لكانوا بحسن استعدادهم نابغين، فعلى الشرق الآن عبء ثقيل هو أن يعوض عن القصور في العلم فيما مضى، النهوض بالعلم في الحاضر، ونحن إن فعلنا ذلك ملئت كتب تراجمنا بالعلماء والأدباء على السواء، والله الموفق.
هوامش
المراجع
نفح الطيب.
دائرة المعارف الإسلامية.
المكتبة الأندلسية.
بغية الوعاة في أخبار النحاة: السيوطي.
مقدمة ابن خلدون.
المغرب: لابن سعيد.
العقد الفريد وما إليه: لجبريل جبور.
الأمالي لأبي علي القالي.
الشعر الأندلسي: للأستاذ نيكل.
مطمح الأنفس.
قلائد العقيان: للفتح بن خاقان.
تاريخ ابن عذارى.
المعجب في أخبار المغرب: لعبد الواحد المراكشي.
أخبار الحكماء: للقفطي.
طبقات الأطباء: لابن أبي أصيبعة.
ابن رشد وفلسفته: للأستاذ فرح أنطون.
الأغاني: لأبي الفرج الأصفهاني.
العقد الفريد: لابن عبد ربه.
بحوث في تاريخ إسبانيا: لدوزي.
الفصل في الملل والنحل: لابن حزم.
الملل والنحل: للشهرستاني.
الفتوحات المكية: لابن عربي.
العواصم من القواصم: لأبي بكر بن العربي.
تاريخ الموسيقى العربية: لريبيرا.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد: لابن رشد.
الفكر السامي في الفقه الإسلامي: الحجوي.
تاريخ الفقه الإسلامي: للشيخ الخضري.
تهافت الفلاسفة: للغزالي.
تهافت التهافت: لابن رشد.
فصل المقال فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال: لابن رشد.
الإمتاع والمؤانسة: لأبي حيان التوحيدي.
الجمهورية: لأفلاطون.
حي بن يقظان: لابن طفيل.
رحلة ابن جبير.
رحلة ابن بطوطة.
روبنسن كروسو.
الزهرة: لابن داود.
طوق الحمامة: لابن حزم.
تراث الإسلام: ترجمة لجنة الجامعيين.
الحلل السندسية: لشكيب أرسلان.
شرح المقامات للحريري: للشريعتي.
سراج الملوك: الطرطوشي.
وفيات الأعيان: لابن خلكان.
فوات الوفيات.
بلاغة العرب في الأندلس: للدكتور أحمد ضيف.
النثر الفني: للدكتور زكي مبارك.
المخصص: لابن سيده.
تاريخ الفلسفة في الإسلام: ترجمة الأستاذ أبي ريدة.
ديوان ابن زيدون.
ديوان ابن هانئ.
الإحاطة في أخبار غرناطة: للسان الدين بن الخطيب.
معجم الأنساب والأسرات الحاكمة: لزانباور، ترجمة للدكتور زكي حسن وآخرين.
الذخيرة: لابن بسام.
الجامعة: لمسلمة المجريطي.
التوابع والزوابع: لابن شهيد.
تاريخ العرب: لبروكلمان.
الأخلاق والسير: لابن حزم.
ابن حزم: للأستاذ سعيد الأفغاني، ومعه كتاب فضائل الصحابة لابن حزم أيضا.
الرسالة الهزلية، والرسالة الجدية: لابن زيدون.
شرح قصيدة ابن بدرون: لابن عبدون.
أطلس فني: لآثار الحمراء.
سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون.
قصة الأندلس: للين بول.
رسائل مخطوطة: لابن سبعين.
رسالة الشعوبية: لابن غرسية.
تاريخ الآداب الأندلسية: للمؤلف آسين بلاثيوس، ترجمة الدكتور حسين مؤنس.
رواية آخر بني سراج وذيلها: لشكيب أرسلان.
الإحكام في أصول الأحكام: لابن حزم.
المكتبة الجغرافية.
جذوة المقتبس: للحميدي.
أزهار الرياض: للمقري.
الروض المعطار.
نهاية الأندلس: للأستاذ محمد عبد الله عنان.
تاريخ إسبانيا المسلمة: لدوزي بالإنجليزية.
الجزء الثالث
الحياة العقلية في الأندلس
مقدمة
بقلم أحمد أمين
بسم الله الرحمن الرحيم
من أول ظهور الجزء الأول من «ضحى الإسلام»، وعدت القراء بتخصيص جزء «للأندلس»، وانتهى ضحى الإسلام من غير أن يكون فيه شيء عنها؛ لأنها لم تكن ازدهرت في عصر ضحى الإسلام، فلما جاء ظهر الإسلام يؤرخ القرن الرابع الهجري، رأيت الفرصة سانحة لتأريخ الحياة العقلية في الأندلس، ولكن لم أكتف بتأريخها في القرن الرابع وحده، بل رأيت أن حضارتها وحياتها العقلية تكاد تكون وحدة، ففضلت في شأنها أن أنهج منهجا جديدا، فلا ألتزم القرن الرابع، بل أؤرخ حياتها العقلية متسلسلة من وقت فتح المسلمين لها إلى وقت خروجهم منها؛ أي: نحو ثمانية قرون، حتى تكون كلها مربوطة برباط واحد، معروضة عرضا واحدا.
وكان أمامي أن أؤرخها تأريخا أفقيا، أو تأريخا رأسيا؛ بمعنى أن أؤرخ الحياة العقلية في كل عصر ، ثم أتبع ذلك بالعصر الذي بعده وهكذا، أو أن أؤرخ كل علم من مبدأ ظهوره في الأندلس وكيف تدرج، حتى آخر أمره فيها، ففضلت الطريق الثاني؛ لأنه أنسب.
ولم يكن قصدي أن أؤرخ الحياة السياسية؛ لأن مهنتي هي الحياة العقلية لا السياسية، وذلك شأني في كل أجزاء السلسلة، فلم أتعرض لشرح الحياة السياسية والاجتماعية إلا بالقدر الذي يلقي ضوءا على الحياة العقلية، خصوصا وأن أكثر ما رأيت من الكتب التي ألفت في الأندلس عربية أو إفرنجية كانت تدور حول السياسة، فإن زادت شيئا ففصل أو فصلان فقط في شرح الحياة الفكرية، فكانت الحاجة إلى شرح الحياة العقلية أمس، والعناية بها أوجب.
فأقدم الكتاب على هذا النحو للقراء راجيا منهم - لا كما كان يقول السابقون - أن يغضوا الطرف عما فيه من عيوب، بل أن يقيدوها ويشرحوها ويبينوها لي حتى أتدارك ما لا يخلو منه مؤلف من خطأ. فالحياة العلمية في كل فرع إنما تحيا بالنقد، وتتقدم بتمحيص الآراء، وإظهار العيوب، وحسن التوجيه.
وهذا رجاء أرجوه في كتابي هذا، وفي كل كتبي، فما أردت إلا الحق.
ويبقى علي من هذه السلسلة في القرن الرابع الهجري، وهو الذي عنونته ب «ظهر الإسلام» الجزء الرابع والأخير من المذاهب الدينية وتطورها.
والله أسأل أن يعينني عليه كما أعانني على سوابقه.
القاهرة
14 ربيع الثاني سنة 1373ه
21 ديسمبر سنة 1953م
الفصل الأول
الحياة الاجتماعية في الأندلس
في سنة (91ه) أرسل موسى بن نصير عاملا على إفريقيا فعزم على فتح الأندلس، وأرسل طارق بن زياد البربري الأصل لمباشرة الفتح أول الأمر، فعبر طارق البحر بقصد فتح الأندلس، وكان حسن سمعة العرب في الفتح وشجاعتهم واستماتتهم في نشر الدعوة سببا في انتصارهم، يضاف إلى ذلك سوء حكم الإسبانيين وما بين ولاتهم من ضغائن وإحن، وتمم موسى بن نصير ما بدأه طارق.
وقد كان الفاتحون من قبائل العرب المختلفة، فمنهم العدنانيون من هاشميين وأمويين، ومنهم اليمنيون كقبيلة كهلان والأزد، وانضم إلى هؤلاء في الفتح مصريون وشاميون وعراقيون وجمع كبير من البربر. وقد امتزج هؤلاء جميعا ببعض أهل البلاد من قوط وإسبانيين وغيرهم إما بالمصادفة أو بالمصاهرة، ولكن مع الأسف أنه ما لبثت العصبية القديمة التي كانت ظاهرة في المشرق أن عملت عملها في المغرب، فكان إذا ولي الأمر قيسي نكل باليمنيين وقرب المضريين، وإذا ولي الأمر يمني نكل بالقيسيين وأعلى شأن اليمنيين، حتى سالت الدماء في كل مقاطعة، وحتى اصطلحوا أخيرا على أن تكون الولاية في القيسية سنة، وفي اليمنية سنة.
وكل يوم نسمع واليا هزم وواليا نصب حتى بلغ عدد الولاة نحو أربعين واليا في مدة وجيرة.
على كل حال كانت العناصر التي سادت الأندلس أربعة: (1)
العرب: وكانوا يحسون إحساسا قويا بأرستقراطيتهم لغلبتهم على الإسبانيين والبربر وإدخالهم في الإسلام، وبلغتهم التي تفوق غيرها. (2)
البربر: وهم يشاركون العرب في البداوة والإسلام والعصبية القبلية والشجاعة؛ ولذلك وجد منهم العرب الأمرين عند فتحهم للمغرب. (3)
الإسبان: وهم مسيحيون كاثوليك، يرون أن البربر والعرب دخلاء عليهم وأنهم أحق بملك بلادهم. (4)
المسلمون المولدون من تزاوج العرب بالبربر، أو العرب بالإسبانيات والصقالبة، وكان لذلك سبب كبير، وهو أن الجيش الفاتح كان من الرجال النازحين من الشرق الذين قطعوا مسافات بعيدة حتى وصلوا إلى الأندلس، فكان طبيعيا ألا يرحل معهم عدد كبير من النساء، فاضطرتهم الحاجة إلى أن يتزوجوا من الإسبانيات أو من البربر ويستولدوهن. وقد خرج من هذا الازدواج بين عربي وبربرية، أو عربي وإسبانية جيل جديد مولد، يشبه ما كان في الشرق من تزاوج بين عربي وفارسية، وقد عرف المولدون من النساء الإسبانيات بالذكاء والشجاعة والجمال، وكان لهم في تاريخ الأندلس تاريخ طويل.
وقد حبب العرب في هذا الزواج ما عرف عن الإسبانيات والبربريات من جمال وبياض بشرة، واصفرار شعر وزرقة عيون، وهي صفات يحبها العربي كثيرا؛ لأنها جديدة عليه.
وقد دخل كثير من أهل البلاد في الإسلام وتكلموا العربية، وتعصبوا لها ضد لغتهم وديانتهم، ولما رأى العرب والبرابرة الأندلس أعجبوا بها، وافتتنوا بمحاسنها حتى قال قائلهم:
إن للجنة بالأندلس
مجتلى مرأى وريا نفس
فسنا صبحتها من شنب
ودجى ظلمتها من لعس
فإذا ما هبت الريح صبا
صحت وا شوقي إلى الأندلس
ويقول آخر:
وليس في غيرها بالعيش منتفع
ولا تقوم بحق الأنس صهباء
وكيف لا يذهب الأبصار رؤيتها
وكل روض بها في الوشي صنعاء
أنهارها فضة والمسك تربتها
والخز روضتها والدر حصباء
وللهواء بها لطف يرق به
من لا يرق وتبدو منه أهواء
فيها خلعت عذاري ما بها عوض
فهي الرياض وكل الأرض صهباء
وقد وصف لسان الدين بن الخطيب عرب غرناطة وبرابرها وصفا ينطبق على جميع عرب الأندلس تقريبا وبرابرتهم، خصوصا بعد مضي زمن من بدء الفتح، فقال: «أحوال هذا القطر في الدين وصلاح العقائد أحوال سنة ... صورهم حسنة، وأنوفهم معدلة غير حادة، وشعورهم سود مرسلة، وقدودهم متوسطة معتدلة إلى القصر، وألوانهم زهر مشربة بحمرة، وألسنتهم فصيحة عربية، يتخللها إعراب كثير، وتغلب عليهم الإمالة ... ولباسهم الغالب على طرقاتهم الفاشي بينهم الملف المصبوغ شتاء ... فتبصرهم في المساجد أيام الجمع كأنهم الأزهار المفتحة في البطاح الكريمة، وأنسابهم العربية ظاهرة، يكثر فيها القرشي، والفهري، والأموي، والأنصاري، والأوسي، والقحطاني، والحميري، والمخزومي، والتنوخي، والغساني، والأزدي، والقيسي ... إلخ.
وجندهم صنفان: أندلسي وبربري، والأندلسي منهم يقودهم رئيس من القرابة، وحصي من شيوخ
1
المماليك ... وزيهم في القديم شبه زي أقيالهم وأضدادهم من جيرانهم الفرنج، إسباغ الدروع، وتعليق الترس، واتخاذ عراض الأسنة ... إلخ، والبربري يرجع إلى قبائله المرينية، والزنانية ... إلخ، والعمائم تقل في زي هذه الحضرة، إلا ما شذ في شيوخهم وقضاتهم وعلمائهم ... ومواسمهم متوسطة، وأعيادهم حسنة، مائلة إلى الاقتصاد، والغنى بمدينتهم فاش، وقوتهم الغالب البر الطيب عامة العام، وربما اقتات في فصل الشتاء الضعفة والبوادي والفعلة في الفلاحة والذرة العربية، وفواكههم اليابسة متعددة، يدخرون العنب سليما من الفساد إلى شطر العام، إلى غير ذلك من التين والزبيب والتفاح والرمان والقسطل
2
والجوز واللوز إلى غير ذلك مما لا ينفد ولا ينقطع إلا مدة. وصرفهم فضة خالصة وذهب إبريز ... وعلى عهدنا في شق - يعني من النقود الفضية: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وفي شق: لا غالب إلا الله ... ودينارهم في شق منه:
قل اللهم مالك الملك ، إلى
بيدك الخير ؛ ويستدير به قوله تعالى:
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (البقرة: 163). وفي شق اسم الأمير، ويستدير به: لا غالب إلا الله.
وعادة أهل المدينة البروز إلى الفحوص
3
بأولادهم وعيالهم، معولين في ذلك على شهامتهم وأسلحتهم ... وحريمهم حريم جميل، موصوف بالحسن، وتنعم الجسوم، واسترسال الشعور، ونقاء الثغور، وطيب النشر، وخفة الحركات، ونبل الكلام، وحسن المجاورة، إلا أن الطول يندر فيهن. وقد يبلغن في التفنن في الزينة، والمظاهرة بين المصبغات، والتنافس بالذهبيات والديباجيات، والتماجن في أشكال الحلي إلى غاية».
لهذا اختلف أهل الأندلس عن أهل الشرق، فبيئة الأندلس الطبيعية والاجتماعية مختلفة عن بيئة الشرق في كثير من الشئون، وبذلك اختلف النتاج الأندلسي عن النتاج المشرقي.
على كل حال ظلت ولاية الأندلس ولاية تابعة للخلافة الأموية في دمشق، يرسل الخلفاء الأمويون الوالي على الأندلس من قبلهم، أو يرسل والي إفريقيا واليا تابعا لهم إلى الأندلس، وظل الحال كذلك حتى سقطت الدولة الأموية، وتتبع الخليفة العباسي السفاح بني أمية يقتلهم وينكل بهم، ففر حفيد لهشام بن عبد الملك، وهو عبد الرحمن الملقب بالداخل وبصقر قريش إلى الأندلس، وانتهز فرصة الخلاف بين القيسية واليمنية فتغلب على الولاة، وبايعه الناس بالإمارة وجعل قرطبة عاصمة إمارته، ولم يسلم من ثورة عدد كبير عليه، من عرب وبربر، حتى شارلمان مؤسس الإمبراطورية الفرنجية الكبيرة، أراد أن يتقرب إلى هارون الرشيد بالتنكيل بعبد الرحمن، وبالفعل بعث جنده غازيا الأندلس ولكنه لم ينجح، فرد عبد الرحمن جنوده، ونزلت بشارلمان هزيمة كبيرة في عودته، وشاء الحظ أن تطول مدة عبد الرحمن الداخل فاستطاع أن يؤسس دولته على أسس متينة ثابتة الأركان، كما فعل أبو جعفر المنصور في الدولة العباسية، وخدم بهذا أبناءه من بعده، فلما مات سلم لابنه هشام دولة قوية يؤيدها جيش قوي، ولكن لم يستطع عبد الرحمن الداخل، ولا أبناؤه من بعده، أن يقضوا قضاء تاما على الإسبانيين في جزء من الشمال، فظلوا شوكة في جنب المسلمين، يتحركون ويحاربون كلما سنحت لهم الفرصة، ينهزمون مرة وينتصرون مرة، حتى تم لهم النصر أخيرا. وظلت الإمارة الأموية في الأندلس حتى جاء عبد الرحمن الناصر، فتجرأ ولقب نفسه أمير المؤمنين، ونقل عبد الرحمن هذا مظاهر الترف والنعيم التي كانت في الدولة العباسية إلى الأندلس، وتبعه بعد ذلك في تدعيم الترف أبناؤه خصوصا على يد زرياب، واستطاع عبد الرحمن الناصر أن يصبح أعظم الأمراء الأمويين في إسبانيا، وشاء له الحظ أن يحكم خمسين سنة، أمكنه فيها أن ينشر السلام في البلاد، ويرضي الخاصة والعامة، وفي عهده حاول الفاطميون أن ينشروا تعاليمهم، ويثيروا البلاد لينشروا مذهبهم الفاطمي، فلم يمكنهم من ذلك، وقضى على مؤامرتهم.
وقلد عبد الرحمن الناصر الخليفة العباسي المعتصم، فإن المعتصم أنشأ جيشا من الأتراك يعتمد عليه لما تعب من العرب، فكذلك أنشأ عبد الرحمن الناصر جيشا من المماليك يوطد به سلطته، ولكن المماليك هنا كانوا يسمون الصقالبة، وهو اسم كانوا يطلقونه على أسرى الحرب من جميع البلاد الأوربية، وعلى من وقع من أيدي المسلمين من الرقيق، وذلك أن تجارة الرقيق كانت منتشرة، وكان بعض البيزنطيين يقدمون للمسلمين في الأندلس أنواعا أخرى من الرقيق من غزواتهم لشواطئ البحر الأسود، وكانت هناك إلى ذلك كله مراكب لقرصان إسبانيين يغزون السواحل، ويصيدون بعض الناس، ويبيعونهم في سوق الرقيق بالأندلس، وكان اليهود أهم من يقوم بتجارة الرقيق هذه.
وعظمت منزلة الصقالبة كثيرا، كما عظم الأتراك في عهد المعتصم ومن بعده، حتى كان كثير منهم من الأرستقراطيين في المال والجاه، وكان عبد الرحمن الناصر يثق بهم أكثر مما يثق بالعرب والبربر، حتى لقد يعهد بقيادة جيش كبير إلى صقلبي. ومن أجل هدوء البلاد وطمأنينتها وطول عهد عبد الرحمن استطاعت الحضارة الأندلسية أن تزهو وتزدهر، حتى كانت قرطبة تفوق كثيرا من مدن أوربا، وازدهرت التجارة والزراعة، حتى بلغ دخل الدولة السنوي من طريق الضرائب والمكوس في عهد عبد الرحمن الناصر 20 مليون دينار، ويقول الأستاذ بروفنسال: إنها بلغت فيما بعد 40 مليونا، والدينار لا يصح أن يقارن بالجنيه اليوم؛ لأن قيمة كل منهما إنما هي في قدرته على الشراء، وكانت قدرة الدينار إذ ذاك أكبر، وربما كان وصف العمارة التي أنشئت في عهد عبد الرحمن من أكبر الدلائل على حضارته، كالأوصاف البديعية التي وصفوا بها مدينة الزهراء التي بناها عبد الرحمن هذا، وأسماها باسم جارية حظية عنده. قالوا: إنه عمل في بنائها عشرة آلاف عامل في خمس وعشرين سنة. وبني فيها قصر للخليفة ومنازل للموظفين، إلى البساتين والقاعات من الذهب والرخام ذي الألوان المتعددة، وبجانب هذه الحضارة المادية كانت الحضارة الفكرية من شعر وفلسفة وتصوف وحركات دينية وعلمية، وسيأتي وصفها فيما بعد.
وبعد أن ضعفت الدولة الأموية في الأندلس جاءت الدولية العامرية، فزلزلت البيت الأموي، ولولا قوة شخصية ابن أبي عامر، وطفولة الأموي المرشح للخلافة، وألاعيب أمه لظل الناس متمسكين بالبيت الأموي مدة طويلة.
ثم تفتتت الدولة الأندلسية وتغلب عليها ملوك الطوائف، فكل ملك ثار في بلد، واستولى عليها، فتعددت الملوك، وتفرق أهل البلاد، وأصبح في كل بلد أمير ومنبر، حتى أهل البيت الواحد انقسموا فيما بينهم، ولم يمكنوا الحاكم من الاستمرار، فبعضهم ينزل الأمير عن عرشه، ويستولي هو، وبعضهم يحالف ملوك إسبانيا ضد الأمراء من أهل بيته، حتى انتهى كل هذا إلى خروجهم جميعا من الأندلس، وسقوطها في يد الإسبانيين بعد حكم دام نحو ثمانية قرون.
وقد حاول أمراء المغرب من مرابطين وموحدين أن يعيدوا الأندلس إلى الوحدة والترابط، ولكن مع الأسف سرعان ما ضعفوا أيضا. ولم يكونوا من سعة الأفق والعراقة في المدنية والحضارة، بحيث يستطيعون أن يحكموا الأندلس طويلا، فزلزلت الأرض من تحتهم، فسقطوا وزال ملكهم سريعا، وخلفهم دويلات صغيرة كانت أعجز من أن تقاوم الإسبانيين وتقف أمامهم، فانهزموا تباعا إلى أن رحلوا أخيرا من غرناطة، وتركوا الديار تنعي من بناها.
نعود إلى ما كنا فيه فنقول: إن العرب والبربر الفاتحين تغلبوا على الإسبانيين ولم يتغلبوا بالسيف وحده، بل كذلك تغلبوا أيضا بروحهم ولغتهم ودينهم، حتى دخل كثير من الإسبانيين في الإسلام، وتقمصوا النفسية العربية، ونسوا لغتهم اللاتينية، وتعاليمهم النصرانية، وتعددت شكوى القسيسين من أن الإسبانيين ينسون دينهم ولغتهم، ويقبلون على الإسلام ولغته. ولعل من أسباب ذلك أن اللغة العربية كانت فضلا عن أنها لغة الفاتحين تزخر بالعلوم والمعارف التي افتقرت إليها لغتهم.
وعرفت للأندلسيين صفات خاصة، فمثلا اشتهروا بالنظافة، حتى إن بعضهم ليفضل أن يكون نظيفا في ملبسه ومأكله ولو بسيطا، عن أن يأكل أكلا فخما قذرا، وقد اعتادوا أن يسيروا في الشوارع ورءوسهم عارية، حتى لقد ترى القاضي أو المفتي وهو عاري الرأس، ويندر أن يتعمم، واعتادوا أيضا أن يلبسوا البياض عند الحداد، وقال القائل:
يقولون: البياض لباس حزن
بأندلس فقلت: من الصواب
ألم ترني لبست بياض شعري
لأني قد حزنت على الشباب
وكان الأندلسيون شديدي التعصب لبلادهم، تلحظ ذلك في تراجم علمائهم، فهذا يلقب بالمالقي، وهذا بالبلنسي، وهذا بالغرناطي، أو بالشاطبي، أو الجيني، أو نحو ذلك، كما كان الحال في الشرق مثل: البغدادي، والبخاري، والهمذاني، والبصري، والواسطي، وكانوا يميلون في كلامهم إلى الإمالة، حتى ليقولون في كتاب: كتيب تقريبا، كلغة أهل حماة وحلب.
ويحدثنا ابن خلدون وأبو بكر بن العربي أن للأندلسيين طريقة في التعليم غير طريقة أهل الشرق، فإنهم في المشرق يحفظون القرآن أولا قبل أن يستطيع الصبي فهم معناه، ثم يعلمون اللغة العربية، وعيب هذه الطريقة أن الحافظ للقرآن من غير معنى عرضة لفهم المعاني الخاطئة التي قد تبقى في ذهنه على مر الأيام، أما في الأندلس فيعلمون اللغة أولا، ثم يحفظون القرآن بعد القدرة على الفهم، وعيب هذه الطريقة التعرض لأن يتخلف بعض المتعلمين عن حفظ القرآن أو يتعلمون العلوم العربية، ثم ينقطعون عن التعلم؛ ولذلك نصح بعضهم أن يحفظ الطفل القرآن أول الأمر ولو من غير فهم ثم يتعلم العلوم العربية، ثم يعود إلى القرآن ثانية وقد استطاع الفهم.
وشهروا بعلو الهمة حتى لقد يفرطون في ذلك فيطمح كثير منهم أن يكونوا ملوكا فتنشب الفوضى في البلاد، كما اشتهروا بالرغبة في العلم، حتى لقد وضع ابن حزم رسالة فضل علماء الأندلس، وعاب على أهل الأندلس تقصيرهم في تخليد أخبار علمائهم ومآثر فضائلهم مع كثرتهم، ووفور أدبائهم، وجلالة ملوكهم، وقد تدورك هذا فألف بعده كثير من كتب تراجم علماء الأندلس وأدبائها، وما أكثرهم، وقد عد في رساله هذه الكتب المؤلفة في الحديث وفي الناسخ والمنسوخ، وكتب الفقه المؤلفة على مذهب الإمام مالك، وفي اللغة ككتاب «البارع» و«المقصور والمهموز»، وكتاب «الأفعال» لابن القوطية، وفضل كتاب «الأمالي» على كتاب «الكامل» للمبرد؛ لأنه أكثر لغة وشعرا، وكتاب «الحدائق» لأبي عمر أحمد بن فرج على كتاب «الزهرة» لابن داود، وكتاب «التشبيهات»، وكتب ألفت مقصورة على شعراء الأندلس، كالكتب التي ألفت مقصورة على شعراء المشرق، كما ألفوا كتبا كثيرة في التاريخ.
وقال ابن حزم أيضا: «إنه رأى كتبا في الفلسفة لسعيد بن فتحون السرقسطي، ولأبي عبد الله المذحجي، وفي الطب لابن الهيثم في الخواص والسموم والعقاقير ما لا يقل عن كتب المشرق». وقد اعترف بأن الأندلسيين في الحساب والهندسة لم يجاروا المشرقيين. قال: «وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الفصل، ولا اختلفت فيها النحل؛ لذلك قل تصرفهم في هذا الباب. وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال ويؤلفون على أصوله». وقال: «وبلدنا هذا على بعده من ينبوع العلم ونأيه من محلة العلماء، فإن له من تآليف أهله، ما إن طلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر، لم يوجد، ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا ابن دراج القسطلي، لما تأخر عن شأو بشار وحبيب والمتنبي، وكيف ولنا معه فحول آخرون؟» وعلى كل حال فصاحب البيت أدرى بما فيه، وابن حزم رجل واسع الاطلاع، صادق الحكم.
وخلاصة رأي ابن حزم: أن الأندلسيين لا يقلون عن المشرقيين في سائر العلوم، ما عدا علم الكلام، لقصر نفسهم في الجدل، وإلا في الحساب والهندسة. والضعف في علم الكلام لا يضيرهم؛ لأنه في المشرق ملأ العقول آراء لا طائل تحتها، وعلم الناس السفسطة، ولعل سبب انتشاره في المشرق دون الأندلس أن المشارقة من قديم ورثوا آراء قديمة عن زرادشت، ومزدك وغيرهما، وعن فلاسفة الهند والصين والفرس، حتى وصل بهم الجدل إلى آراء غريبة. أما الأندلسيون فلم يكن لديهم هذا الميراث الثقيل، وأما قصورهم في الحساب والهندسة، فقلة استعداد في الغالب، كالذي نراه عند أرسطو، والجاحظ، وابن سينا، وأخيرا السيوطي، فقد اعترف السيوطي بأنه لا يحسن حل المسائل الحسابية ولو كانت بسيطة.
وأما الشقندي فله رسالة أخرى تعصب فيها للأندلسيين على طول الخط في كل علم وفن، فقال: «إن الإجماع حصل على فضل الأندلس، وقد نشأ فيهم من الفضلاء والأدباء والشعراء ما اشتهر في الآفاق إلى أن ذهبوا، وذهبت أخبارهم، ودرسوا ودرست آثارهم.
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم
بعد الممات جمال الكتب والسير
وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم، وكان من ملوكهم العلماء: المنصور بن أبي عامر، وبنو عباد، وبنو صمادح، وبنو الأفطس، وبنو ذي النون، وبنو هود. ومن أعظم ما يحكى عنهم أن أبا غالب اللغوي ألف كتابا فبذل له فيه ألف دينار فقال: «كتاب ألفته لينتفع به الناس، لا يصح أن آخذ عليه أجرا» ... وكان لبني عباد من الحنو على الأدب ما لم يقم به بنو حمدان في حلب، وكانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدورا في بلاغتي النظم والنثر، مشاركين في فنون العلم، ولم يكن لغيرهم في الفقه مثل: عبد الملك بن حبيب، وأبي الوليد الباجي، وأبي بكر بن العرب، وأبي الوليد بن رشد؛ وليس في المشرق في الحفظ مثل ابن حزم الذي زهد في الوزارة ومال إلى رتبة العلم، ورآها فوق كل رتبة، ولا مثل ابن عبد البر، وليس في حفاظ اللغة كابن سيده، صاحب كتاب المحكم، ولا في النحو مثل: أبي محمد بن السيد، وأبي علي الشلوبيني، ولا في علم الفلسفة كابن باجة، ولا في علم النجوم كالمقتدر بن هود، ولا في الطب مثل ابن طفيل، ومثل بني زهر، ولا في الأدب كابن عبد ربه صاحب العقد، ولا في تخليد مآثر قومه كابن بسام صاحب الذخيرة، ولا في بلاغة النثر كالفتح بن عبيد الله بن خاقان الذي إن مدح رفع، وإن ذم وضع؛ وقد ظهر له من ذلك كتاب القلائد، ولا في الشعر مثل المعتمد بن عباد، وقد ألف المظفر بن الأفطس ملك بطليوس كتابا في نحو مائة مجلد، ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همة الأدب. وليس في الوزراء مثل ابن زيدون، ولا في الشعر مثل ابن دراج الذي قال فيه الثعالبي في اليتيمة: «إنه في الأندلس كالمتنبي في الشام»، ثم عدد المعاني اللطيفة التي وردت على لسان الشعراء، ثم قال: «وهل في النساء من برعن في الأدب مثل ولادة صاحبة ابن زيدون، وزينب بنت زيادة؟» ثم عدد فضائل البلاد الأندلسية، كإشبيلية، وقد قارن بين نهرها وبين نيل مصر، فقال: «هي غابة بلا أسد، ونهرها نيل بلا تمساح، وليس لمثلها ما لها من أدوات الطرب، نعم في البلاد الأخرى مثلها، ولكن إشبيلية تفوقها، وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم، ومركز العلم، ومنار التقى، ومحل التعظيم والتقدير. وبلاد جيان أكثر البلاد زرعا، وأصرمها أبطالا، وأعظمها متعة؛ وأما غرناطة، فإنها دمشق بلاد الأندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخل من أشراف أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل، نبغ فيها من الشواعر ما لا يحصى. وأما «مالقة» فقد جمعت بين منظر البر والبحر، وكثرة المراكب البحرية، وقد خصت بطيب الشراب، حتى قيل لأحد الخلفاء، وقد أشرف على الموت: اسأل ربك المغفرة، فرفع يديه، وقال: رب، أسألك من جميع ما في الجنة، خمر مالقة، وزبيب إشبيلية.
واشتهر أهل «المرية» باعتدال المزاج، ورقة البشرة، وحسن الوجوه والأخلاق، والحصى الملون العجيب الذي يتزين به. واشتهر أهل «مرسيه» بالصرامة والإباء والنواعير المطربة الألحان، والأطيار المغردة، والأزهار المنضدة، وكان أهل الأندلس يقصدونها لتجهيز العروس. واشتهرت «بلنسيه» بكثرة بساتينها، وأن أهلها أصلح الناس مذهبا، وأمتنهم دينا ... إلخ إلخ».
وعلى كل حال اشتهر أهل الأندلس بالعلم في كل ميدان، وكانوا يعجبون ببلادهم، ويفتخرون بها، كما اشتهروا بالجد في التحصيل ، والرغبة في التفوق.
ومما لا شك فيه أن المنهج الذي سلكه ابن حزم، والشقندي، ليس منهجا علميا دقيقا، إنما هو كلام يقال، فمن الصعب جدا الحكم بأن فردا أذكى من فرد، فكيف الحكم بأن أمة أذكى من أمة، بل إنها أذكى من الأمم، ومسلكهما الذي سلكاه هما وغيرهما أنهما يحكمان حكما كليا، ثم يستدلان عليه بمسألة جزئية، فيقولون: إن أهل الأندلس عرفوا بعلو الهمة، أو الاعتناء بالنظافة أو شدة الحفظ والذكاء، ويستدلون على ذلك بحادثة حدثت لرجل أو من رجل، فكيف يصح هذا في العقل؟ إنما المنهج الصحيح هو مثلا في توزيع مقياس الذكاء على الناشئين، وعمل ذلك في أمة أخرى، والمقارنة بينهما، ونحو ذلك؛ وبذا تطمئن النفس بعض الشيء عند النتيجة. أما القول جزافا بأن أمة أذكى والاستدلال بأن فلانا ألف كتابا قيما، فبرهان قاصر؛ ومحال أن تكون أمة كبيرة العدد، كالأمة الأندلسية لا ينتج منها علماء أعلام، وأدباء فطاحل. كل ما في الأمر أنهما لم يأتيا ببرهان واضح حازم، وإنما أتيا بشيء أصح أن يستأنس به فقط.
وقد وصف المقدسي سيد الجغرافيين الأندلس في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، ولكنه لم يذهب إليها، وإنما اعتمد في وصفه على السماع من أهلها، ويقول عن الأندلس: «إنه إقليم جليل، كبير طويل، كثير النخل والزيتون، به مواضع الحر، ومعادن البرد، كثير اليهود، جيد الهواء والماء ... وأهل الأندلس على مذهب مالك، وقراءة نافع، وهم يقولون: لا نعرف إلا كتاب الله، وموطأ مالك، فإن ظهروا على حنفي أو شافعي نفوه، وإن عثروا على معتزلي أو شيعي ربما قتلوه ... يدخلون الحمامات بلا مآزر إلا القليل، وكل مصاحفهم ودفاترهم في رقوق ... وأهل الأندلس أحذق الناس في الوراقة، خطوطهم مدورة ... وبه تجارات تحمل من برقة ومن صقلية ومن فاس. وبالأندلس السفن
4
يتخذ منه مقابض للسيوف، ويقع إليهم من البحر المحيط عنبر كثير في وقت من السنة» ... إلخ إلخ.
وقال الحجاري: «كانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقر سرير الخلافة المروانية ، وفيها تمخضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية، وإليها كانت الرحلة في الرواية، إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء، وهي من الأندلس بمكان الرأس من الجسد، ونهرها من أحسن الأنهار، مكتنف بديباج المروج، مطرز بالأزهار، تصدح في جنباته الأطيار، وتنعر النواعر ... وإن كان قد أخنى عليها الزمان، وغير بهجة أوجهها الحسان ... وسل الخورنق والسدير وغمدان».
ولما دخل الأندلس أمير الموحدين يوسف بن تاشفين، وأمعن النظر فيها وتأمل وصفها وحالها: قال: «إنها تشبه عقابا مخالبه طليطلة، وصدره قلعة رباح، ورأسه جيان، ومنقاره غرناطة، وجناحه الأيمن باسط إلى المغرب، وجناحه الأيسر باسط إلى المشرق».
وقد وصف الشريف الإدريسي الأندلس وصفا مطولا نختصره فيما يأتي: قال: «إن الأندلس في ذاتها شكل مثلث بها يحيط بها البحر من جميع جهاتها الثلاث ... والأندلس طولها ألف ومائة ميل، وعرضها ستمائة ميل، وجزيرة الأندلس مقسومة من وسطها في الطول بجبل طويل ... وفي جنوب هذا الجبل تأتي مدينة طليطلة، وهي مركز لجميع بلاد الأندلس، وكانت في أيام الروم مدينة الملك، ومدارا لولاتها ... وما خلف الجبل في جهة الشمال يسمى قشتالة».
وقد عدد هنا المدن، وذكر مواقعها، ومزايا كل مدينة، والبعد بين كل مدينة وأخرى بالمراحل أو الأيام، وأبدع ما وصف وصفه لمسجد قرطبة إذ قال: «وفيها - أي: قرطبة - المسجد الجامع الذي ليس بمساجد المسلمين مثله بنية وتنميقا، وطولا وعرضا، وطول هذا الجامع مائة باع مرسلة، وعرضه ثمانون باعا، ونصف مسقف، ونصفه صحن للهواء، وعدد قسي مسقفه تسعة عشر قوسا، وفيه من السواري ألف سارية، وفيه 113 ثريا للوقيد أكبرها واحدة تحمل ألف مصباح، وأقلها تحمل 12 مصباحا ... وجميع خشب هذا المسجد من عيدان الصنوبر الطرطوشي ... وبين العمود والعمود 15 شبرا، ولكل عمود منها رأس رخام، وقاعدة رخام ... ولهذا المسجد الجامع قبلة يعجز الواصفين وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وكل ذلك من الفسيفساء والمذهب والملون، مما بعث صاحب القسطنطينية إلى عبد الرحمن الناصر، وعلى وجه المحراب أنواع كثيرة من التزيين والنقش، وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة، اثنان أخضران، واثنان لازورديان لا تقوم بمال ، وعلى رأس المحراب خصة رخام قطعة واحدة مشبوكة محفورة، منمقة بأبدع التنميق، ومن الذهب واللازورد وسائر الألوان، وعلى وجه المحراب مما استدار به حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريبة، وعن يمين المحراب المنير الذي ليس بمعمور الأرض مثله ... صنع في نجارته ونقشه سبع سنين. وكان عدد صناعه ستة رجال غير من يخدمهم، وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطشوت ذهب وفضة، ومسك لوقيد الشمع، في ليلة سبع وعشرين من رمضان. وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله فيه أربع أوراق من مصحف عثمان وفيه نقط من دمه، وهذا المصحف يخرج في صبيحة كل يوم جمعة ...
وفضائل أهل قرطبة أشهر من أن تذكر، ومناقبهم أظهر من أن تسطر، وإليهم الانتهاء في الثناء والبهاء، بل هم أعم البلاد، وأعيان العباد، ذكروا بصحة المذهب، وطيب المكسب، وحسن الزي في الملابس والمراكب، وعلو الهمة في المجالس والمراتب، وجميل التخصص في المطاعم والمشارب ... ولم تخل قرطبة قط من أعلام العلماء، وسادات الفضلاء، وتجارها مياسير لهم أموال كثيرة وأحوال واسعة، ولهم مراتب سنية، وهمم علية، وهي في ذاتها مدن خمس يتلو بعضها بعضا. بين المدينة والمدينة سور حاجز، وفي كل مدينة ما يكفيها من الأسواق والفنادق، والحمامات، وسائر الصناعات». وكل هذه الأخبار تعطينا صورة من صور الأندلس؛ مما يدل على حضارتها وثروتها، وجميل موقعها.
وإذا كانت البيئة الاجتماعية في الأندلس تتفق مع المشرق من نواح غير النواحي التي تختلف فيها، ظهرت الشعوبية هنا وهناك، والسبب فيها واحد وهو أن العرب تخلقوا بالأخلاق الأرستقراطية وشمخوا بأنوفهم على من عداهم؛ لأنهم ناشرو الدين وأصحاب اللسن، وزعموا أنهم خير الأمم، فاضطرت الأمم الأخرى أن تدافع عن نفسها بقولهم: إن لكل أمة مزايا وعيوبا، وليست الفضائل كلها مقصورة على العرب، بل فيهم بعضها، وفي غيرهم بعضها. وكان من ذلك في المشرق حركة جدال عنيف بين العلماء، ووجهت الأسئلة الكثيرة إليهم أي الأمم أفضل؟ فوجهت مثلا إلى ابن المقفع، وإلى أبي سليمان المنطقي وغيرهما، ووجد في الأندلس من يقول بالشعوبية من أشهرهم ابن غرسية، واسمه يدل على أنه من أصل أجنبي.
وما لبث الأندلسيون بعد أن اختلط العرب بالإسبانيين وظهر نشء مولد بسبب التزاوج أن وجدت لهم لغة عامية بحكم صعوبة الإعراب، وأثر البيئة في الألسنة والحناجر. فيحدثوننا أن أبا علي الشلوبيني كان نحويا كبيرا، طبقت شهرته الآفاق في النحو ومع ذلك كان لحانا، وكان لا يكاد يبين.
واشتهرت بعض البلاد بأنواع من الفواكه والصناعات، فقالوا: التين المالقي والزبيب المنكبي، ونحو ذلك. وبالأندلس مقاطع للرخام الأبيض الناصع اللون والخمري، وفي البلدة المسماة (ناشرة) مقطع للعمد، واشتهرت المرية بحصاها الذي يشبه الدر في رونقه؛ وله ألوان عجيبة. قال ابن سعيد: «اختصت المرية ومالقة ومرسيه بالموشى المذهب الذي يتعجب من صنعته أهل المشرق. و... وبالمرية ومالقة الزجاج الغريب العجيب، وفخار مزجج مذهب، ويصنع بالأندلس نوع من المفضض المعروف بالمشرق بالفسيفساء، ونوع يبسط به في قاعات ديارهم يعرف بالزليجي، يشبه المفضض، وهو ذو ألوان عديدة، يقيمونه مقام الرخام الملون، وفي إشبيلية من دقائق الصنائع ما يطول ذكره، واشتهرت المرية أيضا بأنها كانت مرسى للأسطول الإسلامي في الأندلس، وفيها دار للصناعة. قالوا: وكان في المرية ألف إلا ثلاثين فندقا مقيدة في ديوان الخراج».
وذكر ابن سعيد أيضا أن الأرض الشمالية الغربية فيها المعادن السبعة، وأن أعظم معادن للذهب في الأندلس في جهة شنت ياقوب قاعدة الجلالقة على البحر المحيط، وفي جهة قرطبة الفضة والنحاس في شمال الأندلس كثير، والصفر الذي يكاد يشبه الذهب، وغير ذلك من المعادن المتفرقة في أماكنها ... إلخ ... إلخ.
وقد اعتاد الأندلسيون والشرق أيضا ألا يحكموا أنفسهم بأنفسهم، ولا يعتمدوا على أنفسهم في النظام وتدبير الشئون، وإنما اعتادوا الاعتماد على رجل قوي حازم يحكمهم ويقودهم. هذا في الأندلس، ومثله في الشرق؛ ولذلك نرى أن الأمور تستقيم ما دام على رأس المملكة رجل قوي حازم، فإذا زال كان الاضطراب والفوضى، وكان هذا في الأندلس أقوى؛ لأن سكانها ذوو عناصر مختلفة، فهؤلاء العرب بقبائلها، وهؤلاء البربر، وهؤلاء الصقالبة، وهؤلاء الإسبان، فما لم يثبت الحاكم كفايته للضغط على هذه العناصر المتباينة أخرجت هذه الشعوب كلها أنيابها للفتنة والاضطراب، فضلا عن اختلاف بعضهم وبعض في الدين بين نصراني كاثوليكي في الشمال ومسلم في الجنوب؛ ولهذا كان تاريخ الأندلس حوادث متعاقبة تختلف في النظام والفوضى، فتستقر عند وجود الحاكم الحازم وتضطرب عند عدمه ، والقارئ لتاريخهم يعجب من ازدهار الحضارة والعلم في وسط هذا الاضطراب، ويفسر هذا شيئان:
الأول:
أن بعض الأمراء الحازمين حكموا مدة طويلة كخمسين سنة، أو نحو ذلك استقامت فيها الأمور وازدهرت فيها الحضارة والعلم؛ كعبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، والمنصور بن أبي عامر ونحو ذلك.
والثاني:
أنه يظهر أن العملاء أو بعضهم كانوا يكونون لأنفسهم جوا هادئا يسود فيه العلم، ويبتعدون فيه ما أمكن عن السياسة رغم الفتن والقلاقل التي حولهم، وربما شهدت الأندلس أكثر من غيرها تحاسد الزعماء، ووجود عدد كبير من العتاة من البربر والعرب والصقالبة والإسبان، وقليل من الأمراء من استطاع أن يصون وحدة المملكة مدة طويلة، فإذا هدأت البلاد قليلا كانت ثورة إما من زعيم يريد أن يتغلب، وإما من النصارى في الشمال يريدون أن يسترجعوا بلادهم، وإما من بربر يحز في نفوسهم غلبة العرب، إلى غير ذلك.
وكان للأندلسيين خطط لتنظيم أعمال الحكومة وهي التي نسميها التنظيم الإداري، فوظيفة القضاء عندهم أكبر الوظائف وأسماها لتعلقها بالدين؛ ولأن القضاة كانت لهم سلطة كبيرة، حتى ليستطيع القاضي إحضار الخليفة أو الأمير ليسمع كلامه، وعلى رأس القضاء قاض كبير كان يسمى قاضي الجماعة، وله الحق أن يأمر بالقتل على من استحق القتل من غير رجوع إلى السلطان، وهو الذي يحد على الزنا وشرب الخمر، وكان بجانب وظيفة القضاء وظيفة (الحسبة) يتولاها عالم وجيه فطن، وكان صاحب هذه الوظيفة يمر على الأسواق راكبا، ومعه موازينه وأعوانه، فيزن الخبز، ويمتحن الأسعار، ويراقب البطاقات على السلع إذ كانت البطاقات توضع على الخبز واللحم، وقد يرسل المحتسب إلى البائع من يمتحنه سرا فإن عهدت عليه خيانة ضرب أولا وجرس، فإن لم يرتدع نفي من البلد، وكان في كل بلد محافظ يطوف بالليل، وكان المحافظون يسمون بالدرابين؛ لأن بلاد الأندلس لها دروب بأقفال تقفل عليها، ولكل زقاق خفير يخفره وسراج يعلق على باب الزقاق، وكلب يحرسه وسلاح معد لوقت الحاجة ... وأهل الأندلس من أكثر الناس محافظة على الشعائر الدينية والاستنكار لمن يعطلها ، وهم أكره ما يكونون للتسول، فإذا رأوا شخصا صحيح الجسم قادرا على العمل وهو يتسول، سبوه ونصحوه بأن يبحث له عن صناعة يرتزق منها ... إلخ.
وكانت هناك وظائف كتابية، والكتابة عندهم على ضربين: كاتب الرسائل وكاتب الزمام. فكاتب الرسائل كاتب أديب، يتولى كتابة الرسائل الرسمية وغير الرسمية. وأما كاتب الزمام فهو كاتب حسابي. وكانوا يلاحظون ألا يكون كاتب الزمام يهوديا ولا نصرانيا؛ لأن عظماء الناس ووجوههم يحتاجون إليهم، وهم يأنفون أن يحتاج المسلم لمن ليس من دينه.
والشعر عندهم له حظ عظيم، والشعراء من ملوكهم وجاهة، والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم، ويوقع لهم بالصلات على أقدارهم ... وإذا كان الشخص بالأندلس نحويا أو شاعرا، فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف، ويظهر العجب، عادة قد جبلوا عليها».
5
وكانت لهم عناية كبرى بالشرطة (البوليس) ورئيسهم يعرف بصاحب المدينة أو صاحب الليل. قالوا: وإذا كان عظيم القدر عند السلطان كان له القتل لمن وجب عليه دون استئذان، كالذي للقاضي ولا يكون ذلك إلا نادرا.
ومن الصعب تحديد عدد سكان الأندلس في العصور المختلفة. ويروي بعض المؤرخين أنهم كانوا في أيام الرومان بين ثلاثين وأربعين مليونا، ولكن ليس هناك وثائق تاريخية تؤكد ذلك، ولم نقف على عددهم في أيام العرب. وقالوا: «إن هذه السكة لدار ضربها ثلاثة آلاف درهم وأربعمائة دينار»، وأيا ما كان فإن عدد السكان قد قل لما انتصر الإسبانيون على المسلمين، وتفرق كثير منهم ورحلوا إلى المغرب والمشرق، وسبب آخر لهبوط العدد، وهو اكتشاف أمريكا على يد الإسبان والبرتغال وهجرة كثير منهم إليها؛ حتى إنه في سنة (1768ه) كان عدد السكان تسعة ملايين ومائة وستين ألفا، وفي أوائل القرن الثامن عشر كانوا نحو عشرة ملايين، وبلغوا الآن اثنين وعشرين مليونا وثلاثمائة وثلاثين ألفا. ومعدل كثافة السكان بالنسبة إلى مساحة الأرض هو أربعون نسمة في الكيلو متر المربع الواحد. وعلى الجملة فهذا يعطينا فكرة ولو ساذجة عن سكان العرب في إسبانيا.
وتمتاز الأندلس بأنها كانت بدخول العرب والمغاربة فيها مسكن كثير من الأوربيين والأسيويين. فقد تجمع فيها العرب والبربر، كما تجمع فيها الإسبانيون والفرنسيون ويهود أمم مختلفة؛ وبعبارة أخرى تجمع فيها العنصر السامي والعنصر الآري. وإسبانيا هي كذلك إلى الآن، ولا عبرة بخروج العرب والبربر من بينهم، فإن دم العرب سرى في عروق الإسبان إلى الآن مما جعلهم أمة فيها العنصر الشرقي والعنصر الغربي، ويظهر ذلك في لغتهم وموسيقاهم وعاداتهم وتقاليدهم. وقد يعلل السائحون ذلك بأنها أمة منعزلة عن سائر الأمم، ولكن التعليل الصحيح أن في دمهم بقايا العرب والبربر، حتى إن المقاطعات البعيدة كأهل قشتالة لا يزال فيهم أثر الدم العربي والعادات العربية.
وقد تلاقى في الأندلس جملة أمم: الإيبيريون، والسلتيون، واللاتينيون، واليونانيون من العنصر الأوربي، والقرطاجنيون، والفينيقيون، واليهود من العنصر الأسيوي؛ وطرأت على إسبانيا أمم جرمانية مثل: الفندال، والقوط، وهؤلاء القوط كانوا هم الطبقة السائدة عندما فتحها العرب.
ولما جاء العرب دخلها آلاف منهم ومن البربر، وبذلك اختلطت فيها أوربا، وآسيا وإفريقيا وامتزجوا امتزاجا غربيا؛ وهذا هو ما يمثلها حتى الآن. والعنصر الأوربي، أو السلالة الآرية، هو العنصر الغالب على القسم الشمالي الغربي من الأندلس، وأجسامهم قوية وعضلاتهم صلبة، وكانوا هم الشوكة الكبرى في جنب المسلمين أيام دولتهم، ومن هؤلاء القشتاليون الذين يعدون أنفسهم محرري البلاد، وفيهم حمية شديدة، وتعصب قوي؛ ويشبههم في هذه الحمية أهل أراغون؛ ولذلك لما تزوج ملك قشتالة بملكة أرغون - أي: تزوج فرديناند بإيزابلا - كان أهل المملكتين قوة كبيرة اجتاحت المسلمين، أما سكان جنوب الأندلس فيقول جوسه صاحب كتاب جغرافية إسبانيا والبرتغال: «إنهم أهل ذكاء وجمال ومرح وترف، وبلاد الأندلس تتصل بأوربا ببرزخ، وهو جبال البرانس، وكثيرا ما ذكر هذا الاسم في تاريخهم».
ويظهر أن نشأة العلوم في البيئات كلها كانت متشابهة أو متقاربة، فتبدأ الأرض جرداء لا نبات فيها، ثم تمهد الأرض، ثم توضع البذرة، وتسمد بالغذاء الصالح، وتتعاهد بالسقي حتى تنمو، وبعد ذلك تثمر. هذا ما حدث للعلم في المشرق، وهذا بعينه ما حدث للعلم في الأندلس.
لقد جاء الإسلام في المشرق، فمهد الأرض للنبات، ثم وضعت بذور العلوم الدينية من تفسير، وحديث، وسيرة، وتاريخ، ومضى على ذلك زمن طويل، تتطور فيه هذه العلوم، ثم زادت الحضارة، وأتي بالكتب من كل مكان، وترجم غير العربي إلى العربية، فعكف أهلها عليها يتفهمونها، ثم هضموها، وأخرجوا نتاجا عظيما، حتى في العلوم التي لم يكن لهم بها عهد، ومثل ذلك حدث في الأندلس، فقد دخل المسلمون الأندلس واصطدموا بالإسبان، وكانت صدمة عنيفة أذهلت العقول من البحث في العلوم، وكثر بين المسلمين الخلاف بسبب العصبيات من يمنية ومضرية، وانقسم اليمنيون أنفسهم إلى عصبيات، وكذلك المضريون. وكان الخلاف بين العرب والبرابرة، وبين العرب والإسبان مما لا يجعل للعلم مكانا، حتى إذا بدأت الأمور تهدأ، بدءوا يفكرون في العلم، وأول ما فكروا فيه الدين، وتلا ذلك بعد زمان العلوم الداخلية كالفلسفة والرياضيات.
ولما هدءوا وفكروا في العلم كان لذلك وسائل كثيرة: (1)
أن يدعى قوم من المشرق إلى الأندلس فيملئوها أدبا ولغة، كما فعل أبو علي القالي، فقد كان مشرقيا، ورحل إلى الأندلس بدعوة من أميرها، وكان قد تثقف ثقافة واسعة في المشرق، وأخذ كثيرا عن شيوخه، وخاصة ابن دريد، وكانت لابن دريد أخبار طريفة بعضها صحيح، وبعضها مصطنع، مثل وصايا الأعراب لأبنائهم وبناتهم، وما قيل فيها من كلام لطيف، خلقه ابن دريد على الأرجح؛ ولذلك ينسب إليه أنه واضع أصول المقامات قبل بديع الزمان، وكان المشرقيون قد قطعوا شوطا بعيدا في جمع اللغة، وجمع الأشعار، وأخذوا ينتقون منها المختارات المختلفة، كما فعل الأصمعي، والمفضل الضبي، فحوى ذلك كله أبو علي القالي، وسافر بعلمه إلى الأندلس، وكان رجلا عالما، وقورا، حافظا، فنشر ما شاء الله أن ينشر في الأندلس، وأخذ يروي مختارات حيثما اتفق، ثم يشرح ما احتاج إلى الشرح نظما كان أو نثرا.
نعم إنه روي عنه أنه أرتج عليه حينما حاول أن يخطب أول أمره، كما أخذ عليه أنه روى أول أمره بيتا غير مستقيم الوزن، ولكن يظهر أن اختصاصه كان في رواية ما تعلمه عن شيوخه في المشرق، ويكفي العالم نبوغه في ناحية واحدة من النواحي لا في كل النواحي، كالذي روى عن صاعد وقد رحل من المشرق إلى الأندلس، أيضا أنه أخطأ في وزن كلمة عويصة، وأخطأ في فهم مسألة من كتاب سيبويه، وقد يكون ذلك صحيحا، ولكن مهارته ونبوغه كانا في حسن بديهته الأدبية، ورواياته الشعرية.
وانتشر علم أبي علي القالي وصاعد، بين تلاميذهما، ومن تلاميذهما إلى تلاميذهم، وهكذا، وكانا من أول من وضعا أساس الثقافة المشرقية في الأندلس في اللغة والأدب.
ثم نشأت طائفة من أهل الأندلس نفسها تؤلف كما ألفا، كابن عبد ربه المالقي في العقد، فقد اختار زبدة أدب المشرقيين واعتمد على كتبهم، وخصوصا كتاب ابن قتيبة المسمى «عيون الأخبار» وبوبه تبويبا أشبه بتبويبه، إلا أنه سمى كل باب بنوع من الأحجار الكريمة، وجعله كالقلادة، وكان قصده منه أن ينقل إلى الأندلسيين أدب الشرقيين. وقد قال الصاحب بن عباد لما قرأه: «إن بضاعتنا ردت إلينا»؛ لأنه رأى فيه علوم المشرق التي يعرفها، وابن عبد ربه معذور، والصاحب مخطئ، فإنه لم يرد جمع مختارات أدباء الأندلسيين كما فعل ابن بسام في الذخيرة، وإنما أراد تعريف الأندلسيين بعلوم المشارقة. (2)
أما الوسيلة الثانية: فقد رحل بعض الأندلسيين إلى المشرق، وندبوا أنفسهم لتحصيل علم من علومه، والتبحر فيه، ثم الرجوع إلى الأندلس لنشر ذلك العلم بين أهله. ومن خير الأمثلة على ذلك: يحيى بن يحيى الليثي، فقد رحل إلى المدينة، وتتلمذ للإمام مالك، وأخذ عنه الموطأ، ولازمه، وخدمه كما سافر إلى مصر وأخذ من الليث بن سعد. وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وكان يحيى معروفا بالأمانة والدين، معظما عند الأمراء، متعففا عن الولايات، ثم نشر علمه في الأندلس، ومع تعففه عن القضاء أسند إليه اختيار القضاة، فكان يختار من كان على مذهب مالك، وألف حوله مجلسا يسمى مجلس الشورى، عين أعضاءه، ووكل إليهم أمر الفتيا، وإن كنا لم نعرف الكثير عن نظام مجلس الشورى؛ لأنه لم يذكر في كتاب التاريخ إلا لماما. وكان عظيم الجاه، حتى قال أحد مؤرخيهم: «إنه لم يعط أحد من أهل الأندلس منذ دخلها الإسلام ما أعطي يحيى من الحظوة، وعظم القدر، وجلالة الذكر، هذا إلى صراحة في التزام الحق، وفي تنفيذ الحقوق، وإقامة الحدود».
ومثل ذلك كثير، فمنهم من رحل لتعلم الفقه، ومنهم من تعلم النحو، والصرف، والتفسير، والحديث والقراءات ... إلخ. ويجد القارئ في النفح ثبتا طويلا بأسماء من رحلوا من الأندلس إلى الشرق للتزود بالعلم، وبلغ من إقبالهم على ذلك أن كان الشخص يعاب بأنه لم يرحل إلى الشرق.
ومن هؤلاء جميعا ظهرت بعد ذلك طبقة من الأندلسيين أنفسهم يتقنون العلم، ويحملون عبء نشره، حتى نرى فيهم مثل ابن القوطية، وكنيته تدل على أنه قوطي الأصل، وفي الحقيقة كانت جدته أميرة قوطية، وقد نبغ في اللغة حتى فاق كثيرا من المشرقيين، وألف لنا كتاب «الأفعال» وغيره من الكتب التي تدل على علمه وفضله، وأمثاله كثيرون في كل فرع من فروع العلم كما سيأتي بيانه. (3)
جمع الكتب: ذلك أن الكتب أيضا من أهم وسائل الحركة العلمية، وقد روي عن الأندلسيين أنهم أدركوا ذلك كل الإدراك، ومن أبرزهم في ذلك الخليفة الحكم الثاني المعروف بالمستنصر من خلفاء بني أمية في الأندلس، ملك من سنة 350 إلى سنة 366ه، فقد انتدب نفسه للعناية بالعلوم (واستجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار المشرق والمغرب عيون التأليف والمصنفات الغربية في العلوم القديمة والحديثة، وجمع منها ما كاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة، وتهيأ له ذلك لفرط محبته في العلم، وبعد همته في اكتساب الفضائل، وسمو نفسه إلى التشبه بأهل الحكمة من الملوك، فكثر تحرك الناس في زمانه إلى قراءة كتب الأوائل، وتعلم مذاهبهم، حتى بلغت مكتبته الآلاف من الكتب).
على كل حال، كانت الأندلس والمشرق أشبه برقعة واحدة يسير فيها النمل ذهابا وجيئة، وتتقابل النمال فتتسار، علماء يضيق بهم الشرق من الفاقة فيرحلون إلى الغرب، وعلماء من الغرب يعوزهم العلم فيرحلون إلى الشرق، منهم من تقصر رحلته، فيكتفي بالرحلة إلى المغرب، فإذا زاد شيئا رحل إلى مصر، ومنهم من له جرأة ومقدرة على الرحلة الطويلة، فيرحلون إلى المغرب، ومصر، والشام، والعراق وما إلى ذلك، وهؤلاء الرحالون كانوا يتبحرون في علوم مختلفة، فمنهم من يقصد في رحلته الفقه، والتفسير، والحديث، والقراءات وهم العدد الكثير، أمثال عبد الملك بن حبيب السلمي، وقد كان فقيها مشهورا، رحل إلى المشرق وجمع من الأحاديث ما شاء الله أن يجمع، وطوف في البلاد ما شاء الله أن يطوف، ثم عاد وألف نحو ألف كتاب، وسمي عالم الأندلس، وكان علمه بحرا يزخر، وألف في الفقه كتابا مشهورا اسمه «الواضحة»، وربما قورن بيحيى بن يحيى الليثي الذي مر ذكره؛ ومثل القاضي أبي عبد الله محمد بن عيسى، ولي القضاء بقرطبة بعد رحلة رحلها إلى المشرق، وكان يتغنى بالعراق، إذ حمد المقام به أيام طلبه للعلم؛ ومنهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي، وكان لا يخاف في الله لومة لائم، وقد وقف وقفة مشهورة، وهي وقفته أمام عبد الرحمن الناصر، لما أراد أن يشتري بيتا لأيتام ليوسع به قصره، فما زال يمانعه، حتى دفع فيه الناصر مبلغا كبيرا؛ وكالقاضي أبي بكر بن العربي، وبقي بن مخلد، وقاسم بن أصبغ.
ومنهم من طلب الفقه والكلام، كابن حزم العالم المشهور، ويرجح بعض المستشرقين أن أصله من جهة الأم إسباني، وقد كان واسع العلم، غلب عليه المذهب الظاهري، فكان يدعو إليه ويدافع عنه، وله في الكلام باع واسع، ونفس طويل في الجدل، وكان أرستقراطي الأصل، إذ كان أبوه وزيرا، وكان هو نفسه وزيرا فلم يعبأ بذلك، ولم يعبأ بالاضطهاد ممن اضطهده، ولا بنفيه، ويقولون: إنه خلف نحو أربعمائة مؤلف. ولما أحرق المعتضد بن عباد كتبه بإشبيلية قال:
فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
وكان إلى علمه في الفقه والكلام أديبا، قوي العاطفة، حسن التعبير عما في نفسه كالذي يدل عليه كتابه «طوق الحمامة».
ومنهم من رحل يطلب الأخلاق، وعلم السياسة، كابن أبي رندقة الطرطوشي، صاحب كتاب «سراج الملوك»، ومنهم من رحل في طلب الأدب كالشريشي وابن عبد ربه صاحب العقد، ومنهم من رحل للتبحر في النحو والصرف كابن مالك صاحب الألفية، ومنهم من رحل للتصوف كمحيي الدين بن عربي، وأبي العباس المرسي، وياقوت العرشي، ومنهم من رحل لطلب الفلسفة والعلوم الدخيلة كابن زهر.
وبعض هؤلاء الرحالين استقر في البلد الذي رحل إليه، فقد أعجبه فلم يعد إلى بلاده، ولكن الأكثر عاد إلى بلاده، وتحلى بصفة المعلم، ووضعوا أيديهم في أيدي من رحل إليهم من المشرق، وكونوا مدرسة واسعة، حدودها حدود الأندلس، فأخذوا يدرسون، ويؤلفون، ويترجمون، وكانت هذه هي النواة الأولى التي أنتجت العلماء في الأندلس من كل صنف، وكانت هذه الرحلات منها وإليها، لها منفعة ومضرة؛ فمنفعتها أنها نشرت العلم ما شاء أن ينشر، وكونت علماء نابغين، ووسعت الثقافة بين الشعب الأندلسي، ولكن مضرتها أنها صبت العلم الأندلسي في قالب يشبه القالب الشرقي، ولو نشأ بعيدا عن التأثر الشرقي لرأينا علما مبتكرا له منحى خاص، وهذا مع الأسف لم نره، فالجداول التي مر بها العلم في المشرق، هي بعينها الجداول التي مر بها العلم في الأندلس، ولا نعثر على ابتكار إلا قليلا، وكانت هذه القوالب المشرقية أقوى من البيئة الأندلسية، فمع اختلاف بيئة الأندلس عن بيئة المشرق، سواء كانت بيئة طبيعية أو اجتماعية، كانت قوالب المشرق العلمية أقوى من البيئة الأندلسية. وكما قلد علماء المشرق الأقدمين منهم، فساروا في نفس طريقهم، قلد الأندلسيون علماء المشرق، فساروا في نفس الطريق؛ ولذلك نقرأ الكتب المؤلفة في الأندلس فكأنك تقرأ كتب المشرق في لغتها وأبوابها وفصولها.
وربما كان الأدب مع تأثره أيضا بالأدب المشرقي أميز من سائر العلوم في الابتكار؛ لأن الأدب يتأثر بالعواطف الشخصية، والحوادث المحلية أكثر من تأثر العلم، ولكن حتى هذا مع الأسف كان الاختلاف فيه في الشكل لا في الجوهر، مثل شكل الموشحات، واللعب بالتشبيهات، أما موضوعات شعرية أو نثرية لم تعرف عند المشرقيين، فهذا لم نره، وشأن العلم الأندلسي في ذلك شأن العلم والأدب في مصر، والمغرب، والشام، فكلها قلدت العراق في علمه، وأدبه؛ حتى إنه لما عهد إلينا تدريس الأدب المصري في الجامعة، صرفنا زمنا طويلا في تعرف الشخصية المصرية الأدبية، وما تمتاز به عن غيرها من الآداب. فلم نعثر إلا بعد جهد، ولم نعثر بعد الجهد إلا على القليل. فإن قلت: إن العلم الإسلامي سار في طريق واحدة، وأهمل البيئات المختلفة لم تبعد عن الصواب؛ وربما كان السبب في ذلك أن الحياة الدينية من فقه وتفسير وحديث اعتمدت على القرآن، فكان طبيعيا وقد اتحد المصدر، أن تتحد النتيجة أو تتقارب، فإذا وصلنا إلى العلوم الدخيلة من فلسفة، وطب وتنجيم، وطبيعة، وكيمياء، وإلهيات، رأينا أنها اعتمدت هي الأخرى في الأندلس على الفلسفة اليونانية، والتعاليم الهندية، وما إلى ذلك، إما عن الترجمات اليونانية إلى العربية مباشرة، وإما عن طريق ما ترجمه المشارقة، فاتحدت النتيجة في العلوم الدخيلة أيضا، ولو كانت الأصول التي اعتمد عليها مختلفة لاختلفت النتائج.
ثم كان من أسباب هذا الاتحاد أن العالم الإسلامي كله كان معتبرا دارا واحدة، فالعالم كله كما قال الفقهاء: «دار حرب ودار إسلام»، ودار الإسلام كلها مشرقا ومغربا معتبرة وطنا واحدا للعلماء، فإذا رحل الأندلسيون إلى المشرق، أو رحل المشارقة إلى الأندلس فإنما يرحلون في دارهم، وتحت جو واحد مشبع بالروح الإسلامية. وسواء من دخل من الفرس والهند في الإسلام، ومن دخل من الإسبان في الإسلام، فهم إنما يستنشقون هواء إسلاميا واحدا، ويتكونون تحت تأثير لغة عربية واحدة.
إن العلماء المحدثين يجعلون أكبر المؤثرات في تكوين الأمم دينها ولغتها، ونظامها الاجتماعي الاقتصادي، وكانت هذه كلها في العالم الإسلامي متقاربة، فلا بد أن تكون الحياة العقلية والعلمية والنفسية متقاربة. وتعجبني حكاية قرأتها أن الغزال الشاعر الأندلسي، والسفير الأندلسي لدى بعض الأمم الأجنبية، لما رحل إلى العراق، وأسمع العراقيين شعره، فضلوا عليه شاعرهم أبا نواس مع أنهم فهموه حق الفهم، ولكنهم قالوا: إنه وأمثاله من الأندلسيين لم يبلغوا في الشعر مبلغ أبي نواس فرد عليهم، وفي يوم من الأيام أتاهم بقطعة من شعره، وقد نسبها إلى أبي نواس، فاستحسنوها، فقال لهم: إنما هي لي.
6
فهذه قصة تدل على تعصب كل من المشارقة والمغاربة لشعره، كما تدل على أن ما يقوله الأندلسي يفهمه المشرقي ويتذوقه، وما ينسب إلى المغربي قد ينسب إلى المشرقي فتجوز نسبته.
وما دام المؤذنون يؤذنون في المساجد بألفاظ واحدة، فالصدى يكون واحدا، وكذلك العلم والأدب.
وقد كان الأندلسيون يدينون بمذهب الأوزاعي، متأثرين في ذلك بالشاميين الذين كانوا في الجند الذي فتح الأندلس، إذ كان الأوزاعي بيروتيا، وكان إماما كبيرا، وفقيها معدودا، ثم انتقلوا إلى مذهب الإمام مالك كما ذكرنا، ويظهر أن السبب في ذلك أمور: (1)
أن مذهب مالك أقرب لمزاجهم، فهو يعتمد على الحديث وعلى إجماع أهل المدينة، أكثر مما يعتمد على القياس والعقل وهذا المنهج أكثر ملاءمة وأوفق لعقلية الأندلسيين. (2)
أن رجالا عظاما كيحيى بن يحيى الليثي الذي ذكرناه من قبل تتلمذ لمالك في المدينة، وأخذ عنه، ومنحه الله من القوة والسلطان ما مكنه من نشر مذهب مالك، وعهد إليه في اختيار القضاة فكان يختارهم على مذهبه.
وقد تأثر الأندلسيون بمذهب مالك في الشدة والعصبية، ووقاهم الله ما كان في العراق وغيره من البلاد المشرقية في الخلاف المذهبي، كالذي كان بين الشافعية والحنفية، والذي كان بين الشافعية والحنابلة. وربما كان هذا أيضا سببا في قلة الفرق الدينية، فلم يكن بين الأندلسيين ما كان لأهل العراق من مذاهب مختلفة في العقائد كشيعة وخوارج، وغير ذلك، والسبب الأول في هذا أن العراق كان حتى قبل الإسلام مملوءا بالمذاهب المختلفة؛ كالمزدكية، والزرادشتية، ومذاهب الهنود في التناسخ ونحوه. فلما جاء الإسلام واستقر في العراق ظهرت هذه المذاهب بلونها الأصلي أو بلون معدل، وتفرق من أجلها الناس إلى فرق كثيرة، ولعل من أسباب عدم ظهورها أيضا في الأندلس اتحادهم في اعتناق مذهب مالك، وهو مذهب سني يعتمد على الحديث، فلا حاجة للأمة التي تعتنقه إلى اعتناق غيره. نعم إنه ظهر في الأندلس بعض الناس يعتنقون الاعتزال، وبعضهم يتشيعون، وبعضهم يعتنق مذهب الظاهرية، ولكن كان كل هؤلاء قليلين بالنسبة لمن يعتنق مذهب مالك.
وكانت نساؤهم على العموم أشبه بنساء المشرق أكثرهن أميات، وفيهن الجواري اللائي يحسن الغناء والموسيقى، ويبعن بعد أن يتعلمن بأثمان غالية.
وكان يغلب على الحرائر من النساء الحجاب، كأهل المشرق، بل ربما كان حجابهن أعنف، ولكن يتسامح في الحجاب مع الإماء والسراري؛ ولذلك لما سفرت ولادة بنت المستكفي وجلست في مجلس الرجال، وشاركت في الشعر والأدب، وكانت أرستقراطية من البيت المالك، قوبل سفورها بشيء من الاستغراب، وما حدث في المشرق حدث نظيره في المغرب، فقد رحلت إلى الأندلس فرقة من الجواري المشرقيات اللائي أخذن من إبراهيم الموصلي، واتخذن إمامهن زريابا الذي سبقهن إلى الأندلس، فكون نواة لمجالس الغناء في الأندلس، وعلمن الفتيات الأندلسيات الغناء والموسيقى والرقص، كما علم أبو علي القالي اللغة والنحو؛ ولذلك لم يخل عصر من عصور الأندلس فيما بعد من مغنيات أندلسيات وموسيقيات، وراقصات، وكان هذا يشبه أن يكون تقليدا في البيوت الأرستقراطية، وحتى في بيوت الأوساط، وتدل الحكايات الكثيرة الأندلسية على أن الأندلسيين كانوا شغوفين بالسماع، حتى ليفضلون الضروري من العيش مع السماع، على العيش المترف مع الحرمان.
وكانت البيوت الأندلسية حتى القصور الملكية مملوءة بالحرائر والإماء من الإسبانيات وغيرهن، والبيت يتعدد فيه الأولاد من هؤلاء وهؤلاء، والبيوت مملوءة بالحقد والنزاع بين الأحرار والإماء، ثم يسري ذلك إلى أولادهن، بل كثيرا ما تدخلت النساء في السياسة، فكان أهلهن إسبانيات مسيحيات، وتظاهرن بحب العروبة والإسلام، ولكنهن في الحقيقة لم ينسين نصرانيتهن، ولا إسبانيتهن، فكان بعضهن جاسوسات على الخلفاء، ينقلن لقومهن دقائق الأمور، ويوقعن المسلمين في أشد أنواع الحرج.
وهن كالمشرقيات نبغ منهن عدد محصور في الأدب، مثل ولادة مع ابن زيدون، وأم الكرام بنت المعتصم، وحفصة بنت الحاج، واعتماد جارية المعتمد، ونحوهن، فكان يعد في كل مدينة أندلسية أديبات مشهورات، يعددن شذوذا في الحياة الاجتماعية العامة.
وبلغ من تأثيرهن أن قال بعض مؤرخي الإفرنج: إن عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي استخلفه أبوه على الأندلس، قد تنصر من أجل امرأة، ولكن الذي ذكره مؤرخو العرب يدل على أن عبد العزيز لم يتنصر، وبعيد ذلك حقا؛ لأن واليا كبيرا وابن فاتح عظيم يبعد أن يغير دينه من أجل امرأة. وقد اشتهر المسلمون بالأندلس بعصبيتهم لدينهم، وصعوبة تحولهم إلى غيره، وهذا في العامة فضلا عن الخاصة، والذي ذكره المسلمون أن عبد العزيز تزوج زوجة الأمير لذريق، وهو الذي فتح العرب في أيامه بلاد الأندلس، وقد صالحت على نفسها، وأقامت على دينها إلى أن تزوجها عبد العزيز، فتمكنت منه تمكنا كبيرا، وتكنت بأم عاصم. ويقال: إنه سكن معها في كنيسة بإشبيلية، وهذا بعيد أيضا. ويقال: إنها قالت له: لم لا يسجد لك أهل مملكتك، كما كان يسجد للذريق أهل مملكته؟ فقال لها: إن هذا حرام في ديننا. فلم تقتنع منه بذلك، وفهم أنه إن لم يفعل ذلك نزل قدره عندها، مع أنه يحبها حبا جما، فاتخذ بابا صغيرا قبالة مجلسه، فإذا دخل عليه الناس اضطروا إلى الانحناء، وأفهمها أن ذلك كالسجود، ويقال: إنها قالت له: إن الملوك إذا لم يتوجوا فلا ملك لهم، فهل أعمل لك ما بقي عني من الجواهر والذهب تاجا؟ فقال لها: ليس هذا في ديننا. فقالت له: من أين يعرف أهل بيتك ما أنت عليه في خلوتك؟ فلم تزل به حتى فعل فرآه خلسة ومصادفة بعض الجند، فقالوا: تنصر. ثم هجموا عليه فقتلوه.
وعلى كل حال، فهذا يدل على تأثير الإسبانيات في أزواجهن من الأمراء، فكيف بمن دونهم؟ ومن الأدلة على ذلك ما حكي عن عبد الرحمن الناصر أنه بنى الزهراء على اسم حظية له، وأنفق فيها أموالا لا تحصى، وتفنن فيها ما شاء أن يتفنن، وقالوا: إن المعتمد بن عباد تلقب بهذا اللقب من أجل جارية له إسبانية الأصل كانت تسمى اعتماد.
وقد حكى عبد الواحد المراكشي في كتابه «المعجب» أنه كان بمدينة قرطبة نحو 150 امرأة تكتب القرآن بالخط الكوفي، فكيف بغيرها ؟
وكما عني الأندلسيون بالعلوم عنوا أيضا بالفنون؛ ولقربهم من الفنون الإيطالية، والفنون الإسبانية والفرنسية، طبعت عمارتهم بطابع خاص غير طابع الفنون المشرقية. وآثارهم الباقية في جميع مدن الأندلس تدل على عظمة ذوقهم، في قرطبة، وغرناطة، وطليطلة، وغيرها. وقد بنى عبد الرحمن الناصر لجاريته الزهراء مدينة سماها كما ذكرنا باسمها، وجعلها متنزها ومسكنا له ولحاشيته، ونقش صورتها على الباب، وكان الأندلسيون يجلبون الصور والتماثيل من البلاد الأخرى كالقسطنطينية، وقلدوا بعض النقوش التي رأوها في كنائس إسبانيا وصقلية، وروى بعض المؤرخين أن ثلاثة أعمدة في مسجد قرطبة كانت عليها نقوش وصور، كان على أحدها صورة عصا موسى، وعلى الثاني صورة أهل الكهف، وعلى الثالث غراب نوح، وأكثروا من عمل الآنية والأثاث، ورسم الأشكال الهندسية العجيبة على الأبواب، وفي السقوف، مما لا تزال آثاره باقية حتى اليوم، مع تفننهم العظيم في الموسيقى، والغناء، وربما كان الفضل الأول في ذلك لزرياب الذي قدم من المشرق سنة (206ه)، فأجزل الخليفة عبد الرحمن بن الحكم العطاء له، وأسكنه، وأجرى عليه في كل شهر مائة دينار، وعلى من حضر معه عشرين دينارا لكل شخص. وقد زاد زرياب في العود وترا خامسا، وكان يحفظ الأصوات التي قبله، فقالوا: إنه كان يحفظ عشرة آلاف صوت، وكان له جارية اسمها متعة، أدبها وعلمها، فصارت تحسن أغانيه، ومن رغبته الشديدة في الغناء والأصوات أنه كان يحلم بالصوت، وكيفية توقيعه، فكان يقوم في الليل بعد أحلامه يسمعها لجواريه، حتى إذا حفظنها نام، ولم يكتف بتعليم الغناء، بل كان له حظ عظيم من آداب اللياقة في مأكله وملبسه وعوائده، بثها في الأندلسيين، وأعجبوا بها حتى قلدوها، وإلى الآن ينسب نوع من الحلوى إليه في الشرق ويسمونه «زلابيا»، والغالب أنه تحريف عن «زريابيا»، وقد عرف عنه أنه كان يقيم الولائم العظيمة يتفنن في ترتيبها، وكان ذاك كله هو النواة الأولى في فخامة قصور الأمراء الأندلسيين وبيوت الأغنياء وأناقتهم.
وكان زرياب إلى ذلك كله مثقفا ثقافة واسعة، فهو عالم في النجوم والجغرافيا والطبيعة والسياسة، وكان له خصوم أقوياء خصوصا من الفقهاء، وكان من خصومه المقتدر بن يحيى الغزال، فقد هجاه هجاء مقذعا، فنفاه عبد الرحمن الأوسط إلى العراق، ولولا أن خلفاء زمانه أخذوا بيده ونصروه على خصومه لذهب ضحيتهم. ولرقة عواطف الأندلسيين أغرموا بالغزل، واستعانوا عليه بالموسيقى، والغناء والرقص، فكنت تسمع في كثير من الأحياء حين تمر بالليل صوت الغناء والموسيقى في كثير من البيوت.
وكثر بجانب مجالس الغناء مجالس الأدب، وربما حضرها النساء أيضا ... قال بعضهم يصف مجلسا:
وفتية كالنجوم حسنا
كلهم شاعر نبيل
منفذ الجانبين ماض
كأنه الصارم الثقيل
في مجلسه زانه التصابي
وطاردت وصفه العقول
ومن أعجب العجب ما رووه في صنعة الأندلسيين وفنهم عن عباس بن فرناس، فقد اخترع فن الطيران، وقالوا: إنه عمل آلة لها جناحان، فطار بها مسافة لا بأس بها، وسقط عند النزول؛ لأنه لم يحسن تصميم الذيل عند النزول.
وقد أثرت الأندلس في العالم الأوربي بعلومها وفنونها أكثر مما أثر المشرق؛ لأنها قريبة من أوربا؛ ولأنه كان يقصدها كثير من الأوربيين، فيتثقفون على العرب، ويتعلمون منهم، ويشاهدون حركاتهم، ويقلدونها في بلادهم. وكان كثير من اليهود يتعلمون العربية والعلوم والآداب وينقلونها إلى أوساط أخرى؛ ولأن الأندلسيين غزوا جنوب فرنسا، وفتحوه إلى بلدة «بواتييه»، والأفكار سريعة الانتقال سرعة البرق، فلو قلنا: إن الحضارة الأوربية طارت من على أكتاف الحضارة الإسلامية، وخاصة الأندلس، لم نكن بعيدين عن الصواب.
والتاريخ كل يوم يبين سلسلة من الأحداث يتشابه نتاجها مع نتاج العرب، ولا يجعل مجالا للشك في أن أصولها مستمدة من العرب، في اللاهوت، وفي القصص، وفي الطبيعة، والكيمياء، وفي الرياضة والهندسة، وغير ذلك. والعصبية الأوربية تحول كثيرا بين الاعتراف بالحق، ولكن التاريخ كفيل بكشف الحقيقة.
وكانت المدة الطويلة التي عاشتها الحضارة الأندلسية، إذ بلغت ثمانية قرون كفيلة بقوة الاحتكاك بين الشرق والغرب، واستفادة الغرب منها. هذا مع ما عرف عن الأندلسيين من نزاع شديد على الخلافة وغيرها، وكثرة الثورات، والثوار، ولو أنه أتيح لها الاستقرار، وقل هجوم الإسبانيين عليها كل حين، وخروجهم هم على أنفسهم لأتت بأضعاف ما أتت، واستفاد العالم من حضارتها أضعاف ما استفاد، ولكن لله في خلقه شئون.
وفي الحق أن الأندلسيين كالمشرقيين أنتجوا في الأدب أكثر مما أنتجوا في العلوم، سواء النثر أو الشعر، وأكثروا من وصف الحياة الاجتماعية، وما تستدعيه مجالس اللهو والغناء والشراب، والعلاقة بالنساء، والحروب، والقول في ألم الفراق، والرقص، والراقصات، والمناظر الطبيعية، والملاحم في تاريخ الأندلس، وغير ذلك؛ ولكل هذا مع ما عرف من طبيعة العرب من كثرة القول وطواعية اللسان، مما جعلهم ينتجون من الأدب أكثر مما ينتجون في العلوم الرياضية والطبيعية، وتقرأ تراجم علمائهم فترى كأن كل عالم شاعر، حتى الفلاسفة والفقهاء. والطبيعة العربية في الأندلس كالطبيعة العربية في المشرق، ما هو إلا أن يتجه الذهن إلى شيء، حتى يدر القول، وينساب الكلام.
ولقد كانت واقعة «شارل مارتل» وقعة فاصلة بين المسلمين في الأندلس، والنصارى في أوربا. إذ لولا هزيمة المسلمين لتقدموا حتى فتحوا أوربا كلها، واستفاد الفاتحون مما يرون من أخلاق وعادات وفنون، ولاستفاد الأوربيون من دين العرب ولغتهم وعلمهم، ولكان العالم أشبه ما يكون بوحدة، ولكن شاء الله أن يقفوا عند هذا الحد؛ ورأى النصارى تمجيد «شارل مارتل»؛ لأنه حماهم من غزو العرب، واعتقدوا أنه لو غلبهم المسلمون لما كانت نهضتهم، ولا استقلالهم، ولا علمهم، ولا فنهم.
ومن يدرينا؟ فالعالم كله ليس يتسع لسلطة واحدة، ولا لجنس واحد، واختلاف الناس إلى أجناس وشعوب وأديان يجعل الاحتكاك أتم، والصراع أشد، والتسابق إلى الفضائل أقوى. ومن كل ذلك يكسب العالم رقيا وتقدما، ألا ترى أن الحروب على شدتها وويلاتها وكوارثها تسفر آخر الأمر عن تقدم عظيم في العلوم والفنون، كما أسفرت الحرب الأخيرة عن تقدم في الطيران، والعقاقير الطبية، والعمليات الجراحية، والشئون الاقتصادية، بل وفي كل مرفق من مرافق الحياة. والتجارب علمتنا أن ليس هناك خير محض، ولا شر محض، وأن الشر الكثير قد يأتي بخير كثير.
ولما تقسمت الدولة الأندلسية إلى طوائف، كانت ملوك كل مدينة تزهى بالعلماء، وتقربهم، وتعتقد أنهم أحسن دعاية لهم؛ وقد ساعد على ذلك أن البلاغة، وإتقان الأدب، كانا أيضا وسيلة للوزارة، كذلك كان الخلفاء في الأندلس في حاجة شديدة إلى الطب والتنجيم، فقربوا الأطباء والمنجمين، وكان الطب والتنجيم المدخل إلى الفلسفة.
واشترك اليهود في الحياة الثقافية مشاركة فعالة، وكانوا منبثين في طول البلاد وعرضها، ومنهم من اشتغل بالطب، ومنهم من أمسك مالية الدولة مثل «حسداي بن شبروط» الذي كان يسيطر على مالية الدولة في عهد عبد الرحمن الناصر، ومنهم من ارتقى إلى منزلة الوزارة مثل «إسماعيل بن نغزلة» في ظل الأمير البربري «حبوس» في غرناطة، وكان لليهود تأثير كبير في مساعدة بعض الأمراء، وخذل بعضهم.
وأحيانا يضيق المسلمون ذرعا بسوء تصرفهم، وتعسفهم، فيضطهدونهم، وينكلون بهم.
وكانت المملكة الإسلامية بالنسبة للعلماء والرحالين كرقعة شطرنج، يذهبون فيها ويجيئون من غير مراقبة أو تشديد؛ لذلك سرعان ما رأينا علماء من المشرق يذهبون إلى الأندلس، وعلماء من الأندلس يذهبون إلى المشرق، وهم لا يستقرون على حال واحدة وهم كلما حلوا في بلدة استفادوا وأفادوا؛ ولذلك تجد في تراجم كثير من العلماء الرحلة من هنا إلى هناك، وبالعكس.
ولما ضعف شأن أمراء الأندلس بتفرقهم، وكثرة حروبهم، وغلبة النصارى عليهم، استنجدوا بأهل المغرب، فأولا: استنجدوا بالمرابطين فكان في المغرب قبيلة اسمها «لمتونة» إحدى قبائل صنهاجة، وهي قبيلة ضاربة في الجنوب، حتى بلاد السنغال، ومسيطرة على الشعوب الزنجية المجاورة، حتى آل أمر هذه القبيلة «ليوسف بن تاشفين»، فلما استدعي لمعاونة الأندلسيين عدى البحر بجنوده، وصار إلى إشبيلية، فحارب الإسبان وغلبهم، وتغلب على أكثر بلاد الأندلس، حتى لقد عزل الملوك المسلمين لضعفهم، وعدم قدرتهم على الدفاع عن بلادهم. وكان يوسف بن تاشفين ذا نزعة دينية تخالف نزعة الغزالي، وكره منه إفراطه في الدعوة إلى محاسبة النفس، فأصدر قاضي قرطبة وزملاؤه فتوى بأن الغزالي مبتدع زنديق، وعلى ذلك أحرقوا كتابه «إحياء علوم الدين» في قرطبة على مرأى من الشعب، وفرضت عقوبة الإعدام على كل من يقرؤه، واضطهدوا اليهود حتى فر كثير منهم، ودعوا إلى تفسير جميع الآيات المجسمة للذات العلية، كوجه ربك، ويداه مبسوطتان، تفسيرا حرفيا، وسفهوا رأي المعتزلة في تأويل كل هذه الآيات.
ثم حدث أن رحل إلى بغداد رجل اسمه «محمد بن تومرت» من قبيلة (مصمودة) البربرية، ومن أبناء جبل السوس في الجنوب الغربي من مراكش، بعد أن قضى مدة في قرطبة، شهد فيها إحراق كتب الغزالي، وقرأ فيها كتب ابن حزم، وفي بغداد وقف على تعاليم الأشعري واعتنقها، فلما رجع إلى المغرب، أعلن حربا شعواء على مذهب المرابطين في التجسيم، ودعا إلى التأويل والتنزيه، وقد عرف أتباعه بالموحدين، كما عرف أتباع يوسف بن تاشفين بالمرابطين. واستولى هو على الأندلس، ونشر تعاليمه بين أفرادها.
قال في المعجب: «وفي عهد المرابطين عظم أمر الفقهاء؛ لأن أمراءهم لم يكونوا يقطعون أمرا، ولا يبتون في صغير من الأمور ولا كبير، إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامهم مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس ... فكثرت لذلك أموالهم، واتسعت مكاسبهم. وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
أهل الرياء لبستمو ناموسكم
كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك
وقسمتم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب الدواب بأشهب
وبأصبغ صبغت لكم في العالم»
7
وفيه أيضا: «أن الفقهاء قرروا في مجالس أمراء الموحدين تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له، وهجرهم من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة من الدين، وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد، وكتبوا إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه. ولما دخلت كتب الغزالي المغرب، أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد من سفك الدم واستئصال المال إلى من وجد عنده شيء منها».
8 «ثم اختلت أحوالهم اختلالا شديدا، فظهرت في البلاد مناكير كثيرة، واستولى النساء على الأحوال وأسندت إليهن الأمور، وصارت كل امرأة من أكابر لمتونة مشتملة على كل مفسد وشرير، وقاطع سبيل، وصاحب خمر وماخور. وأمير المسلمين في ذلك يتزيد تغافله، ويقوى ضعفه، ويقنع باسم إمرة المسلمين».
9 «ولما رأى أعيان بلاد الأندلس ما ذكرناه من ضعف أحوال المرابطين، أخرجوا من كان عندهم من الولاة، وكادت الأندلس تعود إلى سيرتها الأولى، وقام بغرب الأندلس دعاة فتن واستفزوا عقول الجهال واستمالوا قلوب العامة»،
10
فكان ذلك سببا في دخول الموحدين، وحلولهم محل المرابطين، وكان زعيم الموحدين محمد بن تومرت، وفي أيامه انتشر الصالحون والمتبتلون وأهل علم الحديث فقامت لهم سوق ... وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب ... فأحرق منها جملة في سائر البلاد. قال صاحب المعجب: «وقد شهدت ذلك وأنا بمدينة فاس، يؤتى منها بالأحمال، فتوضع ويطلق فيها النار، وتقدم إلى الناس في ترك الأشغال بعلم الرأي، والخوض في شيء منه، وأمر جماعة ممن كانوا عنده من علماء المدينة بجمع أحاديث من المصنفات المشهورة في الأحاديث، كالبخاري ومسلم، فجمعوا ما أمرهم بجمعه، فكان يمليه بنفسه على الناس، ويأخذهم بحفظه».
11
وفي عهد دولة الموحدين هذه ظهر ابن طفيل وابن رشد الفيلسوفان الكبيران، ولكن دولة الموحدين التي انتظمت الأندلس والمغرب إلى تخوم مصر، واتسعت اتساعا لم يكن له نظير من قبل أصابها الانحلال، وانغمس خلفاؤها في الترف، بينما كان الإسبان يقوون شيئا فشيئا، ويتسلطون على البلاد شيئا فشيئا. وأعقب المرابطين والموحدين في السيادة على غرناطة (بنو نصر) ويسمون بني الأحمر، وكان أجداد بني الأحمر هؤلاء من قبل ملوكا على سرقسطة، فتصدروا بعد خروج الموحدين لجهاد الإسبانيين، ولم يكونوا يقاومون النصارى وحدهم، بل كانوا يقاوموا أيضا بعض الملوك المسلمين الذين يهاجموهم، حتى اضطروا أخيرا إلى أن يكونوا في حماية فردينند الثالث ملك قشتالة. وازدهرت العلوم والآداب في عهد بني الأحمر، ومن أشهر رجالهم، وأكبر أدبائهم «لسان الدين بن الخطيب» الذي ألف فيه المقري نفح الطيب، وكان ابن الخطيب وزيرا لأحد ملوك بني الأحمر، وقد ألف كتبا كثيرة، وهو الذي كانت بينه وبين ابن خلدون مكاتبات وصداقة، عكرها التنافس بينهما؛ إذ كان ابن خلدون قد سفر لبني الأحمر إلى صاحب قشتالة ونجح في سفارته، فلما أحس بتغير قلب ابن الخطيب هاجر ابن خلدون إلى إفريقيا ثم مصر. هذا إلى غير ابن الخطيب من العلماء والخطباء.
ثم كان من مفاخر بني الأحمر ظهور النابغتين المشهورين وهما: ابن بطوطة، وابن جبير. فابن جبير أبحر من جزيرة طريف إلى الإسكندرية ومكة، ولما فرغ من حجه انقلب إلى العراق، فالموصل، فحلب، فدمشق، فعكه؛ ومن ثم ركب البحر إلى صقلية، وكان في القاهرة أيام صلاح الدين، فوصف ما شاهده وصفا دقيقا، وكان من توفيق الله له أن طاف هذه البلاد والحضارة الإسلامية في أشد ازدهارها، فوصفه بحق يعد وصفا دقيقا للحضارة الإسلامية في عهدها.
وابن بطوطة رحل، واستغرقت رحلته نحوا من خمس وعشرين سنة، وطاف في أمصار فارس، وآسيا الصغرى، وشبه جزيرة القرم، ثم القسطنطينية، ثم الهند، وشغل سنين منصب قاض في دلهي، ووفق بعد إلى رحلة أخرى إلى الصين، فزار سوتنج وكانتون، ثم قفل إلى جزيرة العرب من طريق سومطرا، حتى بلغ فارس، ثم رحل رحلة أخرى إلى بلاد الزنوج، واستقر بعدها في مراكش، وربما عد زعيم الرحالين إذ لم يبلغ أحد مبلغه.
وبعد أن ازدهر بنو الأحمر في حروبهم وعلومهم وفنونهم، عدا عليهم الزمان، فأنزل أواخرهم من عروشهم، وأفقدهم سلطانهم، وماتوا في حسرة على عزهم، وسطوتهم، وأبهتهم، وعظمتهم، وكانوا آخر من ملك بالأندلس. وذلك أنه لما فتح المسلمون الأندلس، تركوا جزءا منها في الشمال، في جبال البرانس، وكان جزءا وعرا، يسكنه بعض النصارى البدو الأجلاف، فتركهم المسلمون، ولم يعبئوا بهم، ولكن ظلوا يقوون شيئا فشيئا، واستطاع هذا العدد القليل أن يضم حوله كثيرا من نصارى إسبانيا، وفرنسا، وغيرهما، وكانوا يحمسونهم بإثارة العاطفة الدينية، فكانوا شوكة دائما في جنب المسلمين، يخرجون عليهم من حين لآخر، وكانوا ينكمشون إذا أحسوا من الأمير الأندلسي قوة، كعبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، والمنصور بن أبي عامر، أما إذا شموا أية رائحة ضعف، فإنهم يعيثون في الأرض فسادا، وظلوا يقوون شيئا فشيئا، والمسلمون يضعفون شيئا فشيئا بتخاذلهم، وكل يوم تسقط في أيديهم إحدى المدن، حتى وقعت الأندلس كلها في قبضة أيديهم . فهذا القسم الصغير الذي تركه المسلمون في الشمال استصغارا لشأنه، ووعورة مسلكه، جر على المسلمين فيما بعد الوبال.
فالدولة الأندلسية كانت أشبه ما تكون بشجرة مقلوبة فروعها في الأرض، وجذورها في السماء، فجذورها أول ما عرفت الأندلس المسلمين هم الجنود والولاة الذين كان يرسلهم الخلفاء الأمويون من بعد الفتح إلى دخول عبد الرحمن، وذلك من سنة 92 إلى سنة 138ه. وفي هذه الفترة لم يكن تقررت في الأندلس قواعد الملك، ولا ثبتت جذوره، ولا وضع للثقافة منهج معروف، بل كانت نتفا هنا أو هناك. وكانت تكثر الخلافات بين العرب أنفسهم من يمنية ومضرية، وبين العرب والبربر من ناحية، والمولدين من ناحية أخرى؛ ولذلك كانت الإمارة مقلقة مضطربة.
وجذع الشجرة هو الخلافة الأموية من عهد عبد الرحمن الداخل إلى سقوط الأمويين، ومجيء عصر الطوائف، والأمويون هم الذين وضعوا دعائم الدولة، ووضعوا لها نظما ثابتة، ساروا عليها حياتهم، من أهمها وحدة البلاد، فلا يصح لداخلي ولا خارجي أن يقتطع جزءا منها إلا ما يضطرون إليه بحكم الانهزام في الحرب. ولما استقلوا عن العباسيين حافظوا على استقلال البلاد من أي تدخل داخلي أو أجنبي، ثم كان أمامهم مطمح سعوا إليه، وهو أن تكون البلاد كلها مسلمة أولا، مالكية المذهب ثانيا. ثم لما كانوا من نسل الأمويين في الشرق، وكانت دعامة الأمويين في الشام، وعاصمتهم في الشرق دمشق، وكان عدد كبير من الفاتحين من الشاميين آثروا نقل التقاليد الشامية إلى الأندلس، وهي تخالف التقاليد العراقية، والتقاليد المصرية، والمدينية، وغيرها.
وقد مجدوا هذه التقاليد، حتى عرف أن من أراد الخروج عليهم خرج عليها، كما يفعل الخارجون على بني العباس بلبس البياض؛ ولذلك رأينا خارجين عليهم يتخذون علامة خروجهم الخروج من مذهب مالك، أو الانضمام إلى العباسيين، أو محاولة الاستقلال، أو نحو ذلك. وكان من أمجد أعمالهم اتجاههم نحو الثقافة، فعبد الرحمن الناصر مثلا وضع فكرة انتداب العلماء من المشرق، والحكم ابنه وضع فكرة إنشاء مكتبة عظيمة في الأندلس، وغيرهما وضع فكرة تشجيع العلماء وتقديرهم، وهكذا؛ ولذلك إذا أرخنا الحياة الفكرية في الأندلس وجب أن نسند الفضل الأكبر إلى الأمويين، فالحق أن ازدهار العلم أيام ملوك الطوائف يرجع إلى سببين هامين: (1)
أن البذرة الأولى التي وضعها الأمويون نضجت فيما بعد في عهد الطوائف. (2)
أن انقسام الدولة في عهد ملوك الطوائف جعل الأمراء يتنافسون على تزيين إماراتهم بالعلم والأدب، كالذي حدث في المشرق عند انقسام الدولة العباسية بين طولونية، وفاطمية، وحمدانية وغيرها. فهذان العاملان أكبر ما رأينا في تنشيط الحركة العلمية في الأندلس، ولعل أصدق شاهد على ذلك نبوغ ابن حزم وابن شهيد في أواخر عهد الأمويين، وأوائل الدولة العامرية، فالذي يستحق فضل ظهورهما هم الأمويون، وكلاهما معروف أنه كان له ميول أموية، وإن ازدهر آخر وقته في عهد العامريين.
أما فروع الشجرة فنجدها عند ملوك الطوائف، فقد كان جذر الشجرة قد تأسس ولم يبق إلا عامل عرضي، وهو تشجيع الملوك للحركة الثقافية، فهؤلاء أمراء يميلون للأدب، كبني الأفطس، فتزدهر الآداب في عهدهم، وهؤلاء يميلون إلى الاجتهاد وحرية الفكر وحب الفلسفة فيزدهر ذلك عندهم، وهؤلاء يميلون إلى الفقه فيزدهر الفقه، كبني جهور. وبذرة هذه الشجرة دخول الفاتحين، وحكم الولاة من قبل الأمويين والعباسيين من سنة 92 إلى سنة 138ه، ثم تولاها ملوك أمويون من سنة 138 إلى سنة 424ه، ثم تولاها ملوك الطوائف، ومن أشهرهم بنو عباد في إشبيلية، وبنو جهور في قرطبة، وبنو هود في سرقسطة، وبنو نصر في غرناطة، وبنو ذي النون في طليطلة، وظلت ملوك الطوائف هذه تسقط واحدة بعد أخرى، وكان آخرها سقوط غرناطة، وانتهاء الأندلس سنة 898ه.
وقد توقع بعض المؤرخين والفقهاء سقوط الأندلس، لما رأى أن النصارى يزدادون قوة وتوحدا، والمسلمين يزدادون ضعفا وتفرقا، حتى إن ابن حيان مؤرخ الأندلس الكبير توقع سقوط الأندلس من عهد بعيد، فإنه لما رأى سقوط بربشتر في يد النصارى في سنة 456ه قال: «وقد استشففنا
12
بشرح هذه الحالة الفادحة، مصائب جمة، مؤذنة بوشك القلعة
13 ...» ولما سقطت طليطلة قال شاعرهم:
يا أهل أندلس شدوا رواحلكم
فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى
سلك الجزيرة منثورا من الوسط
من جاور الشر لا يأمن بوائقه
كيف الحياة مع الحيات في سفط
وقد ساعد الإسبان دعوتهم النصرانية الواسعة وحماستهم الدينية لطرد المسلمين أعدائهم في الدين، واعتبارهم المسلمين دخلاء على البلاد يجب طردهم منها، وإعادتها كما كانت. أما من ناحية المسلمين، فكانوا على العكس من ذلك متخاذلين، ينظر كل أمير إلى شخصه، لا إلى المصلحة العامة، ولعلنا نستطيع أن نعرض على القارئ صفحة من مظاهر هذا:
فمثلا كان ابن هود أميرا على مرسية، ودعا إلى تحرير الأندلس من الموحدين والنصارى على السواء، وكان المأمون الموحدي أميرا على بلنسية، فوقع العداء بين ابن هود والمأمون، واضطر ابن هود أن يتحالف مع ملك قشتالة النصراني وأن يتنازل له في نظير ذلك عن عدد من القواعد والحصون، وأن يتعهد بمنح النصارى في أرضه بعض الامتيازات. وكانت بلنسية في يد الموحدين، وتولى إمارتها أبو عبد الله محمد أخو المأمون، وتلقب بالعادل، فلما رأى لجوء ابن هود إلى ملك قشتالة لجأ هو أيضا إلى الاستغاثة بملك أرجوان، وتعهد له بأداء الجزية، فلما رأى سخط شعبه عليه من أجل ذلك، التجأ إلى ملك أرجوان واعتنق النصرانية، وكذلك فعل أبو جميل الزيان أمير مرسية إذا طلب حماية ملك قشتالة، ووقع معه عقد مهادنة، ولما ظهر بنو الأحمر في غرناطة واستولوا عليها، خاصم ابن الأحمر عتبة بن يحيى المغيلي، وكان المغيلي هذا يأمر بسب ابن الأحمر على المنابر، فوقع بين الخصمين قتال عنيد. ثم رأينا والي مرسية، ووالي لقنت وأريولة، وغيرها يعقدون الصلح مع ملك قشتالة على أن يعترفوا بطاعته، ويؤدوا له الجزية، وأن يظلوا في ظله، يحكمون ويستأثرون بموارد بلادهم تحت حمايته، ولما كثرت المعارك بين ابن الأحمر، وملوك النصارى، وأمراء الولايات اضطر ابن الأحمر إلى لقاء ملك قشتالة في معسكره وتقديم الطاعة له، وتأدية جزية له قدرها مائة وخمسون ألف قطعة من الذهب، واشترط ملك قشتالة على ابن الأحمر أن يعاونه في حروبه ضد أعدائه، وأن يحضر المجلس النيابي لقشتالة مثل سائر الأمراء التابعين للعرش.
هذه صفحة صغيرة ترينا كيف كان الأمراء يعبثون في وقت الجد، وكيف كان العداء بين بعض الأمراء المسلمين وبعض، يجعلهم يهرعون إلى ملوك النصارى يعاهدونهم، وينزلون لهم عن بعض أرضهم، ويؤدون لهم الجزية، والعدو يستخدم هذه المعاهدات والمخالفات في ضرب بعض المسلمين بعضا، ولم تقتصر هذه المأساة على فعل أمير واحد، بل قلد بعضهم بعضا، وسار من العادات المألوفة أن الأمير المسلم إذا اضطر لجأ إلى ملك من ملوك النصارى.
وحدث مرة أن تولى غرناطة الأمير إسماعيل من بني الأحمر، وانتصر في عدة مواقع، وسقط في يده كثير من المدن والقلاع. وكان من أكبر سبب نصرته استعمال الحديد والنار من آلات قاذفة، تشبه المدافع كانت تدك الحصون، وتوقع الناس فتوحات له متعاقبة، فلما عاد مرة من انتصار رائع قتل بباب قصره غيلة بعد ثلاثة أيام من رجوعه؛ قتله ابن عمه؛ لأنه اختلف معه على فتاة رائعة الحسن، كانت من السبايا في إحدى المواقع.
ثم حدث أن كان بلاط بني الأحمر في آخر أيامهم في أسوأ حالة، فمن ذلك أن أمير غرناطة وهو أبو الحسن تزوج بابنة عمه التي تسمى عائشة الحرة، وكان من أشجع الناس وأذكاهم، وظل معها زمنا طويلا، وولدت منه ولدين، أكبرهما أبو عبد الله وهو الذي سقطت الأندلس في عهده، والثاني أبو الحجاج يوسف، ولكن تزوج أبو الحسن هذا في آخر أيامه بفتاة جميلة نصرانية، اسمها ثريا، وكان اسمها النصراني إيزابيلا، كانت قد أسرت واتخذت مولاة في دار أبي الحسن، ثم تزوجها، وحظيت عنه، وفضلها على السيدة العجوز عائشة، وأولدها ولدين أيضا، وتدخلت في شئون الدولة ، وعرفت بالدهاء وسعة الحيلة، ولا نستبعد أنها كانت جاسوسة على البيت الغرناطي المالك للنصارى المحاربين؛ حنانا إلى أصلها، وإن كنا لم نر نصا في ذلك. وأصبح البيت المالك بذلك قطعة من نار، الزوجة تكره ضرتها، وأولاد كل زوجة يعادون أولاد الزوجة الأخرى، وما لبثت غرناطة نفسها أن انقسمت انقسام البيت المالك، حتى أصبح أبو عبد الله يعادي أباه، ويعمل لمناهضته، وكذلك يفعل الأب، وكل يستنصر بملوك النصارى ليعاونوه على خصمه، فكيف بعد كل هذا الفساد تقوم مملكة؟
وزاد الطين بلة أن المسلمين كانوا قد أجادوا استعمال النفات وهي آلات تشبه المدفع في أبسط أشكاله، واستخدموه في حروب الصليبيين وأتقنه الأندلسيون وأخذه الإسبانيون عنهم وزادوا في تحسينه، واتخذوه وسيلة فعالة لدك الحصون، فكان هذا قوة كبرى في انتصار الإسبان إلى ضعف المسلمين وسوء تصرفهم، وفساد علاقاتهم.
يضاف إلى ذلك أن المسلمين بالأندلس استنجدوا بملوك المسلمين في أنحاء العالم من مغاربة ومصريين وأتراك، فلم يغيثوهم، ونظرت كل مملكة إلى نفسها، والاقتصار على مشاكلها، بينما كان النصارى في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها يتعاونون على طرد المستعمرين من الأندلس، وإعادتها مملكة نصرانية كما كانت، فاجتمعت الألفة والقوة والحماسة على الضعف والتفرق والتخاذل، فكانت النتيجة طبيعية، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
فمثل هذه الأمور هي التي جعلت بعيدي النظر من أهل الأندلس يرون الخاتمة محققة، وهي طردهم من البلاد واستيلاء الإسبانيين عليها، وقد كان ...
هذه خلاصة وجيزة لحالة الأندلس الاجتماعية، وحياتها الفكرية، نفصلها فيما يأتي إن شاء الله.
هوامش
الفصل الثاني
الحركة الدينية
بدأت العلوم الدينية في الأندلس بانتقال بعض الصحابة والتابعين حينما هم موسى بن نصير بغزو الأندلس وفتحها، فكان معه بعض الصحابة والتابعين؛ نذكر منهم: المنيذر أو المنذر على اختلاف فيه، وهو صحابي، وممن دخلها من التابعين موسى بن نصير الفاتح، وعلي بن رباح، وحنش بن عبد الله الصنعاني، كانوا جنودا في الجيش الفاتح، وهم مع ذلك حملة علم، وربما كان حنش هذا أعلم التابعين، وهو من أصل يمني؛ كان من أصحاب علي بن أبي طالب، وخرج مع عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان، وكان أهل الأندلس يفخرون بوجوده بينهم. وأما علي بن رباح فبصري تابعي، وكان له مكانة عند عبد العزيز بن مروان في المشرق.
هؤلاء وأمثالهم بذروا البذرة الأولى في العلوم الدينية في الأندلس، وكانت أشبه ببذرة المشرق، فكانت عبارة عن قرآن كريم يتلى ويحفظ ويقرأ بالقراءات، وحديث يفسر عن النبي وعن الصحابة. والحديث يتضمن أحكاما دينية، وأخبارا عن سيرة الرسول وغزواته، وأعماله، وأخبار أصحابه وآرائهم وروايتهم ... إلخ. والثقافة الأولى في المشرق والمغرب فيها دين وفيها أخلاق، وفيها تاريخ، وفيها غير ذلك، وكانت هذه الأقوال تنتشر انتشارا كبيرا، حتى لتترجم إلى اللغة البربرية، ويتثقف بها البرابرة والمولدون، وكان هذا عملا جليلا قام به هؤلاء الصحابة والتابعون وكانوا يعدون الرعيل الأول. وأما الطبقة الثانية فمن أشهرهم رجال ثلاثة: (1)
عبد الملك بن حبيب السلمي. (2)
يحيى بن يحيى الليثي. (3)
عيسى بن دينار.
فأما عبد الملك بن حبيب، فله فضل نشر مذهب مالك في الأندلس، إذ كان مالكيا، وفي بعض الأقوال أنه لقي الإمام مالكا وأخذ عنه وكان فقيها عالما، ومعلما ممتازا في إلقائه وسعة اطلاعه. وكان يقال في الأندلس: «فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها عبد الملك بن حبيب، وراويها يحيى بن يحيى». وقد كانت الثقافة العامة بين المتعلمين الفقه والأدب، ثم التخصص، فترى أكثر علماء الأندلس فقهاء أدباء أولا، ثم متخصصين، وهكذا كان عبد الملك هذا أديبا مؤرخا عالما باللغة والإعراب، له الأشعار الكثيرة، ثم متخصصا في الفقه.
نعم؛ طعن بعضهم في بعض أحاديثه، وقالوا: إن له غرائب لم يعرفها المحدثون، ولكن الأكثرين على توثيقه. وأما يحيى بن يحيى الليثي، فقد أتم نشر مذهب الإمام مالك إذ كان رجلا وقورا مهيبا ذا سلطة ونفوذ، فعمد إليه خلفاء الأندلس أن يختار هو القضاة وإذ كان مالكيا كان لا يختار إلا المالكية، وإذ ملأ الناس حب الدنيا رغبوا في المذهب للمنصب. وأسس يحيى لقضاة الأندلس أسسا متينة، فقد وضع نظام القضاة، وسمي قاضي القضاة، وقاضي الجماعة، ورتب مجلسا للشورى، وسمى أعضاءه، فكان إذا ترجم لشخص منهم كان من شرفه أنه من رجال الشورى. ومن الأسف أننا لم نقف على النظام الدقيق لهذا المجلس إلا نتفا هنا ونتفا هناك، وكل ما نستطيع أن نقوله: إنه كان ينظر في الفتيا وفي المشاكل الفقهية، ويبدي فيها رأيه. وكان عددهم في بعض الأزمان كما روى بعض المؤرخين ستة عشر، وأصل يحيى هذا من البربر، خرج إلى مالك في المدينة، وتفقه عليه، وروى الموطأ عنه، وروايته مشهورة في الشرق كله، وسمع من غير مالك، فسمع في مصر من الليث بن سعد، وفي مكة من سفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن قاسم العتقي، وكان عفيفا أمينا، فكان في الأندلس كأبي يوسف في المشرق، إلا أن يحيى تعفف عن القضاء، وعن المناصب الحكومية، فزادت قيمته.
ومما يدل على جلالته وجاهه أن الأمير عبد الرحمن الناصر، اتصل بجارية يحبها في رمضان ثم ندم على ما فعل ندما كبيرا، فسأل يحيى عن الكفارة، فقال له: تصوم شهرين متتابعين. فلما خرج قيل له: لم لم تفت بمذهب مالك في التخيير بين الصوم وعتق رقبة، فقال: «لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يتصل كل يوم بجواريه، ثم يعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمرين؛ لئلا يعود». وقد اتهم بإثارة الشغب في وقعة الربض المشهورة، ضد الأمير الحكم، ثم عفا عنه، وقد كان في الأندلس ملكا غير متوج، ومات سنة 234ه.
وأما عيسى بن دينار فقد كان فقيها بارعا، ومؤلفا مكثرا، ألف كتاب الهداية. ويقول ابن حزم: «إنه أرفع كتب جمعت في معناه على مذهب مالك، وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب». وقال بعض المؤرخين: «إنه لم يكن أحد في وقته أعلم منه». وقد جمع بين الفقه والزهد، وتولى قضاء طليطلة، ورأس الشورى بقرطبة، وعدوه أفقه من يحيى بن يحيى الليثي، وقد توفي سنة 212ه على أشهر الأقوال.
وعلى الجملة: فقد كان هو وابن حبيب ويحيى أفراس رهان، كل له ميزته.
هؤلاء كانوا ناشري العلم الأولين في بلاد الأندلس، وجاء بعدهم طبقة أخرى قدمت العلم خطوة جديدة؛ من أشهرهم: قاسم بن أصبغ من أهل قرطبة، فقد ساح بالقيروان وبمصر وبالعراق، ثم عاد إلى الأندلس بعلم كثير، وكان بصيرا بالحديث والرجال، ألف كتابا طويلا ثم اختصره، وسماه «المجتنى»، وقدمه للحكم المستنصر؛ وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثا في سبعة أجزاء. فهو كذلك أكثر من الحديث وصنفه على أبواب الفقه، وكان له الفضل في نشر العلم بالأندلس على هذه الطريقة، وله مصنف جليل القدر، احتوى على بيان صحيح الحديث وغريبه، كما ألف في أحكام القرآن، وفي فضائل قريش، وفي الناسخ والمنسوخ، وقد ولد سنة 247ه.
وبقي بن مخلد، وقد ساعد أيضا على تدعيم مذهب مالك، وكان واسع الاطلاع، وإنما قلنا: إنه نقل العلوم نقلة جديدة؛ لأنه جمع أحاديث كثيرة كما فعل الإمام أحمد، وصنفها على حسب أبواب الفقه، وبين الاستنباط منها، فكانت كتبه كتب حديث وفقه معا. هذا إلى سعة في التحصيل، فقد رووا أنه كان له مائتان وأربعة وثمانون شيخا. ولما أراد ابن حزم أن يفخر بمن في الأندلس من علماء، كان بقي هذا أحد الذين افتخر بهم وعده من مفاخرها. وقد ألف بقي هذا تفسيرا كبيرا اطلع عليه ابن حزم، وقال: «أقطع أنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسيره، لا تفسير محمد بن جزير الطبري ولا غيره». وله كتاب في الحديث كبير، رتب فيه حديث كل صحابي على أبواب الفقه، فهو مسند ومصنف، قال ابن حزم: «وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه، واحتفاله في الحديث». وله مصنف في فتاوى الصحابة والتابعين. وعلى كل حال فقد كان دعامة من دعائم العلم في الأندلس.
وخطوة ثالثة: وهي التوسع في استنباط الأحكام من القرآن والأحاديث الصحيحة، وربما كان من خير من يمثل هذه الطبقة أبو عمر يوسف بن عبد البر، فقد ألف كتابا سماه «التمهيد»، وكان كتابا واسعا، ملأه بالكلام على فقه الحديث، وألف كتابا كبيرا سماه «الكافي في الفقه» على مذهب مالك، قصره على ما بالفتى حاجة إليه؛ كما ألف كتابا في الصحابة جليلا اسمه «الاستيعاب» يترجم فيه لكل صحابي، ويورد أخباره، فكان أول كتاب من نوعه قبل أن يؤلف ابن حجر العسقلاني كتابه «التهذيب».
فإذا خطونا خطوة أخرى، رأينا في المشرق أن الخلافات بين الفقهاء تصارعت وألفت الكتب المختلفة فيها، وجمع بعض الفقهاء المذاهب المختلفة في كل مسألة، وألف في اختلاف الرأي كتب كثيرة، كما فعل الطبري في كتابه «اختلاف الفقهاء»، فانتقل هذا إلى الأندلس، فرأينا مثلا حفيد ابن رشد الفيلسوف يؤلف كتابا في اختلاف المذاهب وعللها، ويسميه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد».
1
ومن محاسن هذا الكتاب أنه يذكر الخلاف في كل مسألة حدث فيها الخلاف بين الفقهاء، ويرجع ذلك إلى سببه، ويضع قاعدة عامة فيقول: «إن أسباب الاختلاف ستة؛ أحدها: تردد الألفاظ بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص، أو خاصا يراد به العام، أو عاما يراد به العام، أو خاصا يراد به الخاص، وثانيها: الاشتراك الذي في الألفاظ كلفظ القرء الذي ينطلق على الطهر وعلى الحيض، ولفظ الأمر، هل يحمل على اللزوم؛ أو على الندب، والسبب الثالث: اختلاف الإعراب، والرابع: تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة، أو حمله على نوع من أنواع المجاز، والخامس: عد اللفظ مطلقا تارة ومقيدا تارة أخرى، كإطلاق الرقبة على كل عبد، وقيد يقيد بالعبد المؤمن، والسادس: التعارض بين القياسات أو الإقرارات، أو معارضة القياس للأفعال، أو نحو ذلك». وقد طبق هذا المبدأ على كل أنواع الخلاف في الفقه تطبيقا بديعا. فكان هذا خطوة جديدة.
ولنسق مثلا في كيفية تطبيق هذا المبدأ، فهو مثلا يعرض لمسألة قصر الصلاة في السفر، فيرى أن بعض الفقهاء حدد للسفر عدة أميال معينة، وبعضهم أطلق السفر على كل سفر، فيقول: إن بعضهم راعى السبب العقلي في القصر، وهو المشقة الشديدة، وبعضهم وقف عند النص. فكان هذا سبب خلاف، وهكذا في كل موضوع.
ثم كان أن اخترع الشافعي أصول علم الفقه كالذي عليه أكثر المؤرخين، فانتقل هذا إلى الأندلس، فألف فيه ابن حزم أصول الأحكام، وتبعه الشاطبي في كتابه «الموافقات»، فنرى أن الشاطبي أخذ فكرة الأصول عن الشافعي وأمثاله، ولكنه بحث موضوعات لم يبحثها المشارقة، وعرضها في أسلوب ألطف من الأسلوب الذي اتبعه المشارقة في كتابة الأصول، واستشهد أيضا ببعض أحداث حدثت في الأندلس، وهكذا.
وأما علوم القراءات فقد نمت أيضا في الأندلس، فالشاطبي
2
الذي ألف رسالته المسماة «حرز الأماني»، والتي تسمى بالشاطبية نسبة إليه قد اشتهرت في الشرق والغرب جميعا، وأخذت عمادا للقراءات في مختلف العصور والأقطار؛ كما عنوا بتفسير القرآن، واشتهر عندهم تفسير القرطبي،
3
وقد اتبع في تفسيره ذكر الآية، ثم يذكر ما فيها من اللغة ووجه الإعراب، والمعنى العام، وما يستنبط منها من أحكام ... إلخ، وقد جمع فيه بين المنهجين: منهج الرواية كالطبري، ومنهج الدراية كالزمخشري، وشاع الانتفاع به في العالم الإسلامي.
وكان عالم الأندلس الديني غير مدافع ابن حزم: فقد كان واسع الاطلاع، قوي النفس في الجدل، متعدد نواحي النبوغ، لينا، يهاجم من خالفه، حتى يدخله في قمقم. يظن من يقرأ له علما أنه لا يحسن غير هذا العلم لمهارته فيه، فإذا هو كذلك يحسن كل علم تقريبا، فهو نابغة في الحديث، وفي علم الكلام، وفي التاريخ، وفي أصول الفقه، وفي الأدب. وقد ألف في ذلك تأليفات كلها قيمة، حتى في المنطق والفلسفة، ولعله تعلم الجدل أول أمره، إذ نشأ شافعيا يناضل أهل المذاهب الأخرى، وقد اشتهر الشافعية بذلك، ثم انتقل إلى مذهب الظاهرية بتأثير أستاذه الظاهري أبي الخيار؛ ولعل ما يوضح ما هو مذهب الظاهرية، ما كتبه هو نفسه، في كتابه أصول الفقه، المسمى «الإحكام في أصول الأحكام»، وقد سلك فيه مسلكا يدل على الابتكار، وتكلم في مسائل لم يتكلم فيها أهل المشرق من الظاهرية، ومن خير ما فيه فصل في الدفاع عن الحجج العقلية، ووجوب الأخذ بها، وفصل آخر في معنى الصحابي، وأنه ليس كل من رأى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفصل في كيفية ظهور اللغات ، وفصل في معنى الظاهرية. وملخصه أن الظاهري لا يعتمد في استنباط الأحكام الشرعية على القياس، بل على النص، وإذا كان النص مطلقا أخذ على إطلاقه، إلا إذا قيده نص آخر. واعتماد الظاهرية على النصوص فقط أسلمهم أحيانا إلى بعض المتناقضات، مثل: أنهم يوجبون غسل الإناء من ولوغ الكلب لوجود النص، ولا يغسلونه من ولوغ الخنزير لعدم نص في ذلك ، وبينما يبيحون الرخص في بعض المسائل، يشددون في بعضها الآخر، فهم مثلا يجيزون للجنب قراءة القرآن والجلوس بالمسجد، وهم لم يشترطوا في البيع صيغة خاصة كبعض المذاهب، وهذا يسر ظاهر، ولكنهم أوجبوا غسل اليد ثلاثا بعد النوم، وحكموا بنجاسة الماء الذي مسته يد مستيقظ لم يغسل يده ... إلخ.
4
وقد دافع عن هذا المذهب إلى أن مات، وقد تأثر ابن حزم إلى درجة كبيرة أيضا بأستاذه أبي علي الفاسي، وكان كما قال ابن حزم عاقلا عالما عاملا، متقدما في الصلاح والنسك. قال: «وما رأيت مثله علما وعملا ودينا وورعا، فنفعني الله به كثيرا، وقد علمت منه موقع الإساءة وقبح المعاصي».
وقد تعلم ابن حزم الحديث وتبحر فيه، وقد اتبعه كثيرون على مذهبه الظاهري، وخرجوا من مذهب مالك إليه، كما أن كثيرين ضاقوا به ذرعا، وأنكروا عليه صراحته، وأعلنوا الحرب على كتبه، حتى بلغ بهم الغيظ أن أحرقوها علنا في إشبيلية.
وقد وصف هو حالته واضطهاده من الخلفاء العامريين الذين أتوا بعد الأمويين، لميله السياسي إلى الأمويين، قال: «ثم شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام بالنكبات، وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والتغريب، والإغرام الفادح، وأرذمت
5
الفتنة، وعمت الناس وخصتنا، إلى أن توفي أبي الوزير، رحمه الله».
وقال في موضع آخر: «ثم ضرب الدهر ضرباته، وأجلينا عن منازلنا وتغلب علينا جند البربر، وخرجت عن قرطبة سنة 404ه، وتقلبت في الأمور ... إلخ». وظل يتلقى العذاب من خصومه السياسيين، وخصومه العلماء، والحق يقال: إن المذهب الظاهري، تغلغل في نفس ابن حزم، فلو قرأت مذهبه وكتبه وجدت أمثلة من نظرة الظاهري، ووقوفه عند حرفية النصوص.
ويظهر أنه كان ضيق الصدر حسب مزاجه، حاد اللسان، يصك به معارضه، مما أثار عليه خصومه، ولم يخلفه في الدفاع عن الظاهرية إلا ابن تيمية فيما بعد، وقد اختلف الناس في أصله، أكثر مؤرخي العرب يقولون: إن جده الأعلى كان نصرانيا وأسلم، وأن جده هذا كان مولى فارسيا ليزيد بن أبي سفيان. وذهب ابن سعيد وتبعه بعض المستشرقين إلى أن جده الأعلى هذا كان من القوط الذي غزوا إسبانيا، وأقاموا فيها. وأيا ما كان فقد كان أبوه وزيرا للحاجب المنصور بن أبي عامر. فعاش عيشة أرستقراطية، وعني بابنه علي بن حزم، وعلمه على يد كثير من المشايخ، ولكن نكبه ابن أبي عامر، ونكب معه أهل بيته فشردوا، ونفوا، وتحملوا العذاب بعد العز والترف، وتوفي والده سنة 402ه، وفارق ابن حزم قرطبة، وذهب إلى المرية، وعاش هناك في هدوء، مشتغلا بالعلم والتأليف، ثم عادت دولتهم واختير ابن حزم نفسه وزيرا، ولكنه لم تطل وزارته، إذ نكبه سيده. وعكف أكثر وقته على التأليف حتى ذكر ابنه أنه ألف أربعمائة كتاب، قال صاعد: «كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة، والشعر، والسيرة، والأخبار».
وقال الذهبي: «وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسعة العمل بالكتاب والسنة، والمذاهب والملل والنحل، والعربية والآداب، والمنطق والشعر مع الصدق والديانة، والحشمة، والسؤدد والرياسة والثروة».
وقد قارب ابن حزم في عصره عبد الواحد المراكشي، فقال عنه: «إنه بعد أن استوزر نبذ الوزارة، واطرحها اختيارا، وأقبل على قراءة العلوم، وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينل أحد قبله بالأندلس، ومبلغ تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والمثل، وكتب الأدب، والرد على المخالفين له، نحو من أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله، إلا ابن جرير الطبري، فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفا ... ومن أجود ما أحفظ له بيتان قالهما في رجل نمام :
أنم في المرآة في كل ما درى
وأقطع بين الناس من قضب الهند
كأن المنايا والزمان تعلما
تحيله في القطع بين ذوي الود
وهو أشهر علماء الأندلس اليوم، وأكثرهم ذكرا في مجالس الرؤساء، وعلى ألسنة العلماء، وذلك لمخالفته مذهب مالك بالغرب، واستبداده بعلم الظاهر، ولم يشتهر به قبله عندنا أحد ممن علمنا، وقد كثر أهل مذهبه وأتباعه عندنا بالأندلس اليوم، أقول : وقد بقيت شهرته كبيرة بعد وفاته وقد ماتت العداوات بموته، وظل موضع إجلال وتقدير من العلماء بعده».
6
واطلع الغزالي على كتاب له في أسماء الله الحسنى، فقال: «إنه يدل على عظم حفظه، وسيلان ذهنه»، وكل ما أخذوه عليه أنه طعن في كثير من العظماء بلسان حاد لاذع، ومنحه الله طولا في العمر فعاش اثنتين وسبعين سنة، إذ توفي سنة 456ه. ومن أهم تأليفه كتاب «الفصل في الملل والنحل»،
7
فحكى المذاهب المختلفة في أهم العقائد وأهلها، وناقش كل فرقة من المخالفين له كالمعتزلة، والأشعرية، والشيعة، وغيرهم. ومكنه من ذلك أنه لم يقلد طائفة معينة، بل قال ما يوحيه إليه اجتهاده هو، ومن خالفه في شيء هاجمه في شدة وقسوة. ومع أن الأشعري كاد يكون مقدسا في المشرق والمغرب، فابن حزم لم يعبأ به، وهاجمه مهاجمة عنيفة، كما هاجم الصوفية، ومن يعتقد في التنجيم، وفي الأولياء.
ولم يكتف ابن حزم بمهاجمة أصحاب الفرق الإسلامية، بل هاجم اليهودية والنصرانية، واستغل العقيدة الإسلامية بأن التوراة والإنجيل حرفا عن أصلهما استغلالا عظيما، وحاول بكل إمكانه أن يجد تناقضا في كتبهم؛ ليبرر اتهامهم في تحريف النصوص.
ويظهر أنه ألف في ذلك رسالة خاصة، ثم أدمجت في الكتاب؛ كما تضمن الكتاب رسائل أخرى، وهذا ما سبب أن هذا الكتاب لم يخضع للمنهج المنطقي الدقيق، والقارئ له يدهش من طول نفسه، وقوة حجته، وسعد اطلاعه، وبلاغته التي قد تفوق بلاغة الغزالي في إحياء العلوم. ومن مبتكرات ابن حزم في هذا الكتاب أنه أراد أن يستنبط من المذهب الظاهري الذي ذكرناه عقائد خاصة، مطبقة على هذا المذهب، والإنسان يعجب: كيف استطاع ابن حزم - هذا الذي عاش عيشة مترفة في القصور وبين الجواري - أن يؤلف مثل هذه الكتب، وربما ساعده على ذلك أنه كان ذا عقل لاقط يرى كل شيء، فيفهم سره، حتى دلال الجواري ومغازلتهن. وهاجم في كتابه القياس، والرأي، والاستحسان، والتقليد، والتعليل، وله رسالة بهذا الاسم لا تزال مخطوطة. وقد قال المنصور من الموحدين عند وقوفه على قبره: «كل العلماء عيال على ابن حزم». وقد صدق؛ فقلما نجد له نظيرا، فقد شغل الناس في المشرق والمغرب بين مؤيد ومعارض.
وعلى الجملة، فقد قال فيه ابن حيان بحق: «إنه يصك معارضه صك الجندل»، فكان لا يأبه بمن يعارضه، عظيما أو غير عظيم، مبجلا أو غير مبجل، كالأشعري، وأبي حنيفة، ومالك وغيرهم. ومن الأقوال الشائعة أن قلم ابن حزم كسيف الحجاج، كلاهما ماض حاد. وقد اعتذر في بعض كتبه عن حدته بأنها كانت ترجع إلى مرض كان يلازمه؛ ولذلك كان محسدا من فقهاء عصره من سنيين، وشيعة، ومعتزلة، يدسون له الدسائس عند الملوك، حتى يبعد من القصور، وربما كان هذا نعمة؛ لأنه أتاح له أن يتحفنا بتآليفه العظيمة القيمة.
وقد قال الذهبي فيه: «وقد امتحن هذا الرجل وشدد عليه، وشرد عن وطنه، وجرت عليه أمور لطول لسانه، واستخفافه بالكبار، ووقوعه في أئمة الاجتهاد بأقبح عبارة، وأفظ محاورة، وأمنع رد»، وظل صلبا في مذهبه صلابة تستدعي الإعجاب. قال ابن حيان: «وأكثر معايبه عند المنصف له جهله بسياسة العلم»، ويعني بسياسة العلم: الملاينة والرد في هدوء ووقار.
والحق عندنا أن ابن حزم كان موضع إعجاب في حرية رأيه ووقوفه عند النصوص، مهما خالفه الكبار، فليس يهمه رأي مالك أو أبي حنيفة في المسائل الفقهية، ولا الأشعري ونحوه في العقيدة، أما ما يعاب عليه حقا، فهو طعنه في العلماء والكبار، بكل صراحة مع التجريح الشديد. وقد وصل إلينا أخيرا من تأليفاته رسالة في «المفاضلة بين الصحابة»،
8
وهي المسألة التي ثار فيها الخلاف الشديد بين الشيعة وأهل السنة.
والمطلع عليها يعجب لمنطقه الدقيق فيها، فهو يذكر أولا معنى الفضل، وبم يتفاضل الصحابة كقاعدة للبحث مع الحجج المقنعة، العقلية والنقلية، ثم يفاضل على هذا الأساس بين الصحابة بالدليل. وهو يدل على سعة اطلاع وكبر عقل.
على كل حال حرك عقول الأندلسيين بتآليفه ودعوته إلى المذهب الظاهري، وقد كان الأندلسيون مقلدين مذهب مالك من غير بحث، فكنت ترى في أكثر مجالس العلماء من يؤيده، ومن يهاجمه، حتى اشترك في ذلك الأمراء أنفسهم، وربما كان أقواهم في الرد عليه والوقوف أمامه الفقيه الأندلسي المشهور «أبو الوليد الباجي» وكان فقيها متكلما، ولي القضاء مدة، وأكثر من التصانيف، ورحل إلى الشرق، ولقي كثيرا من علمائه، وأخذ عنهم، وكان فقيرا يعمل بيده ليعيش، وظل في الشرق نحو ثلاثة عشر عاما يتبحر في العلوم، فلما قدم الأندلس، وجد أن ابن حزم لطلاوة حديثه، وقوة حجته، وقد أمال إليه كثيرا من الناس، وشكك بعضهم، ورأى أن أهل الأندلس ليس منهم من هو في قوة جدله، فكلمه الأندلسيون في ذلك، وكانت له معهم مجالس مشهورة، في بعضها ينتصر ابن حزم، وفي بعضها ينتصر الباجي، فإذا انتصر الباجي هلل الناس وكبروا.
وربما كان أكثر ما يدل على قيمة هذه المناظرة وقوة كل، وتفوق ابن حزم على الباجي حكاية صغيرة لطيفة، إذ قال الباجي لابن حزم: «أنا أعزم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت معان عليه: تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته أنا وأنا أسهر بقنديل بائت السوق، فقال ابن حزم: هذا كلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم، وأنت في تلك الحال، رجاء تبديلها بمثل حالي، وإنما طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة» فأفحمه.
وقد قال عياض العالم المشهور: «قال لي أصحاب الباجي: كان يخرج إلينا للإقراء وفي يده أثر المطرقة يحصل رزقه، إلى أن فشا علمه ونوهت الدنيا به، وعظم جاهه، وأجزلت صلاته، حتى مات عن مال وافر». ومن مثل ما كانت تدور عليه المناظرة بين الباجي وابن حزم حديث روي، وهو أن النبي
صلى الله عليه وسلم
وقع على صلح الحديبية، فظاهر الحديث يدل على أن محمدا - عليه الصلاة والسلام - كتب اسمه، والقرآن يقول: إنه نبي أمي، فكيف التوفيق بين ذلك؟ أما ابن حزم فقال: إنه وقع كالظاهر، ولكن توقيعه لا ينفي أميته ككثير من الملوك يوقعون بإمضاءاتهم وهم أميون، أما الباجي وغيره، فيؤولون التوقيع.
ولنسق لك صورة مما كان يجرى بين الظاهرية وخصومهم، فأصحاب المذاهب يقولون للظاهرية: إنكم جامدون عند اللفظ، لا تنظرون للمعاني المقصودة من روح التشريع، وكان الله ينعي على الكفار اقتصارهم على فهم ظواهر الدنيا، فقال:
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا
فكيف بمن اقتصر على ظاهر الشريعة؟ فيقول الظاهرية: إن القصد من الشريعة هو التعبد، وظهور سر الامتثال، أما التعمق في القياس والعلل، فيخرجها من حد التشريع الإلهي إلى التشريع الوضعي البشري.
نعم إن هناك عللا للأحكام إذا نص عليها عملنا بها، أما إذا لم ينص عليها لم نستطع العمل بها. فمن أين يستفاد أن العلة في تحريم الربا هي الاقتيات والادخار، أو الكيل والوزن كما يقول أهل القياس، ومن أين يستفاد من قوله - عليه السلام: «الولد للفراش» أنه لو قال له الولي بحضرة الحاكم: زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق، وهي بأقصى الغرب، فقال: قبلت هذا التزويج، وهي طالق ثلاثا، ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر: إنه ابنه؛ لأنها صارت فراشه. فنحن ننكر هذا التمثيل وهذا التشبيه، والله تعالى يقول:
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ، ولم يقل: إلى آرائكم وأقيستكم. ويرد عليهم القياسيون بأن قوله:
فحكمه إلى الله
لا يمنع القياس؛ لأن ما قيس على كلام الله فهو حكم الله أيضا. فالنظر إلى المقاصد وهي اللب واجب، وهكذا. واستمر الباجي يناظر ابن حزم عهدا طويلا، والحرب بينهما سجال.
وكان ابن حزم كثير الاعتداد بنفسه، وقد نعى نفسه قبل وفاته فقال:
كأنك بالزوار لي قد تبادروا
وقيل لهم: أودى علي بن أحمد
فيا رب محزون هناك وضاحك
وكم أدمع تذرى وخذ مقدد
عفا الله عني يوم أرحل ظاعنا
عن الأهل محمولا إلى ضيق ملحدي
وأترك ما قد كنت مرتبطا به
وألقى الذي أنسيت دهرا بمرصد
فوا راحتي إن كان زادي مقدما
ويا نصبي إن كنت لم أتزود
ومما يدل على اعتداده بنفسه قوله:
قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت
أقوالهم وأقاويل العدا محن
فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا
أقول بالرأي إذ في رأيهم فتن
وأنني مولع بالنص لست إلى
سواه أنحو، ولا في نصره أهن
لا أنثني نحو آراء يقال بها
في الدين بل حسبي القرآن والسنن
يا برد ذا القول في قلبي وفي كبدي
ويا سروري به لو أنهم فطنوا
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا
من مات من قوله عندي له كفن
إني لأعجب من شأني وشأنهم
وا حسرتا إنني بالناس ممتحن
ما إن قصدت لأمر قط أطلبه
إلا وطارت به الأظعان والسفن
أما لهم شغل عني فيشغلهم
أو كلهم بي مشغول ومرتهن
كأن ذكري تسبيح به أمروا
فليس يغفل عني منهم لسن
إن غبت عن لحظهم ماجوا بغيظهم
حتى إذا رأوني طالعا سكنوا
دعوا الفضول وهبوا للبيان لكي
يدري مقيم على الحسنى ومفتتن
وحسبي الله في بدء وفي عقب
بذكره تدفع الغماء والإحن
وهي قصيدة تدل على مذهبه بالأخذ بالنص مع تصوير لطيف لحال أعدائه معه.
واستمرت هذه الحركة طويلا، منهم من يكفره، ويحذر منه العوام والسلاطين، ومنهم من يدس له الدسائس ويتهمه بالسياسة التي تغضب الأمير، ومنهم من يقوله ما لم يقل. وفي ذلك يقول مخاطبا لبعض أصحابه:
وخذني عصا موسى وهات جميعهم
ولو أنهم حيات ضال نضائد
يريغون في عيني عجائب جمة
وقد يتمنى الليث والليث رابض
ويرجون ما لا يبلغون كمثل ما
يرجي محالا في الإمام الروافض
حتى بعض أهله حسدوه على فضله، وناصبوه العداء، وذو الفضل دائما محسود، وقد كان - رحمه الله - كما قال ابن حيان: «إذا حرك بالسؤال يتفجر معه بحر علم لا تكدره الدلاء». وقد روض نفسه على ذلك، فكان يكثر من قوله تعالى:
وأعرض عن الجاهلين . وقوله - عليه الصلاة والسلام: «صل من قطعك، واعف عمن ظلمك»، وقول بعض الحكماء: «كفاك انتصارا لمن تعرض لأذاك، إعراضك عنه»، ويقول هو:
فإني أبيت طلاب السباب
ونزهت عرضي عما يعاب
فقل ما بدا لك من بعد ذا
وأكثر فإن سكوتي خطاب
وقد نبع في تخريج المذهب الظاهري نبوغا جعله إماما يقتدى به، حتى عد صاحب مذهب ظاهري، وعرف أتباعه بالحزمية، وكان له أتباع على هذا المذهب مثل: ابن عبد البر المحدث، والحميدي المؤرخ، وقد مال إلى مذهبه ابن تومرت زعيم الموحدين. وقد انتصر مذهبه في المشرق أيضا، فاعتنق مذهبه ابن سيد الناس الإمام المصري، وقد أخذ بلون منه محيي الدين بن عربي الصوفي الكبير، وابن رشد الفيلسوف الكبير.
وظلت الحركة بعده بين مؤيد ومهاجم، حتى ظهر بعد قرن تقريبا العالم المشهور أبو بكر بن العربي، وانتشر ذكره في المشرق كما انتشر في الأندلس، وكان قد رحل إلى الشرق، وتتلمذ للإمام الغزالي في دمشق، فجاء إلى الأندلس موطنا نفسه على مهاجمة تعاليم ابن حزم. وكان لسنا قوي الحجة، فخلف أثرا كبيرا في الأندلس وغيرها.
وكان ابن الباجي يعمل على تفنيد مذهب الظاهرية، وكان يوفق أحيانا، ولا يوفق أحيانا، وكان واسع العلم، وقالوا: إن كل من رحل لم يأت بمثل ما أتى به ابن العربي إلا الباجي. وكان متفننا في المعارف كلها، مع خلق متين، وقضاء صائب، والتزم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى أوذي في ذلك. قال فيه القاضي عياض: «إنه أقبل على نشر العلم وبثه، وكان فصيحا حافظا، كثير الملح، مليح المجالس».
ولنذكر بعض كلامه في الرد على ابن حزم قال: «وكان أول بدعة لقيت في رحلتي القول بالباطن، فلما عدت وجدت القول بالظاهر قد ملأ به المغرب سخيف كان من بادية إشبيلية، يعرف بابن حزم نشأ وتعلق بمذهب الشافعي، ثم انتسب إلى داود، ثم خلع الكل، واستقل بنفسه، وزعم أنه إمام الأمة، يضع ويرفع، ويحكم ويشرع، ينسب إلى دين الله ما ليس فيه ، ويقول عن العلماء ما لم يقولوا، تنفيرا للقلوب، وعضدته الرياسة ... فحين عودي من الرحلة ألفيت حضرتي منهم طافحة، ونار ضلالتهم لافحة» فنازلهم. ورمي ابن حزم بالسخف قول فيه إجحاف، وقد أنصفه ابن حيان، والذهبي، وشكا ابن حزم نفسه من علماء وقته، فقال: «إن المثل السائر: أزهد الناس في عالم أهله»، وقرأت في الإنجيل أن عيسى - عليه السلام - قال: «لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده»، وكان يعتقد أن من سوء حظه أنه أندلسي، ولو كان مشرقيا لعرفوا فضله، وشادوا بذكره، وكان له شأن آخر غير شأنه.
وقال ينعي أهل الأندلس: «إن الأندلس خصت بحسد أهلها للعالم الظاهر فيها، الماهر منهم، واستقلالهم كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته، إن أجاد، قالوا: سارق مغير، ومنتحل مدع، وإن توسط قالوا: غث بارد، وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق، قالوا: متى كان هذا؟ ومتى تعلم؟ وفي أي زمن قرأ؟ ولأمه الهبل، فإن تعرض لتأليف غمز ولمز، واستشنع هين سقطه، وعظم يسير خطئه، وذهبت محاسنه، وسترت فضائله، فتنكسر لذلك همته، وتقل نفسه، وتبرد حميته».
وهكذا عودي كثيرا، وخوصم كثيرا، وتألم كثيرا، وإن كان ذلك كله قد أورثه تجارب دونها في كتابة «الأخلاق».
وقد قرأت لابن العربي كتاب «العواصم من القواصم»،
9
فإذا هو كتاب يدخل على شخصية كبيرة لصاحبه، يروي لنا فيه مثلا أنه لقي الغزالي في دمشق، ويدون محضرا لجلساته معه، وأحيانا يوافقه على ما يقوله، وأحيانا يخالفه، ويذهب مثلا فيه إلى أن الحسين بن علي - رضي الله عنه - خارج على إمام الجماعة يزيد بن معاوية، ثائر عليه، وأنه إنما قتل بشرع جده، ويروي لنا كيف كان الفرس يدخلون في الإسلام شعائرهم الدينية القديمة، فيذيعون التجمير في المساجد للتبخير، وهي عادة فارسية قديمة أدخلوها على الإسلام من أثر عبادتهم للنار، وحكى له ابن خلدون طرفا لطيفة في مقدمته.
على كل حال كان حربا على الظاهرية، وخصوصا ابن حزم، ومع ذلك لم يستطع محو هذا المذهب، فظل بعده أيضا، وعد ابن العربي بحق خاتمة المحققين، وكل من أتى بعده مقلد صغير، وانحط شأن العلوم الدينية، وضعف أمرها.
شأن الأندلسيين في ذلك شأن المشارقة، فالعالم الإسلامي كله وحدة، وهو يخضع لقوانين واحدة، فما حدث في قطر من أقطاره يحدث مثله في الأقطار الأخرى غالبا، فلما ضعف الفقه في المشرق ضعف في المغرب إلا أفرادا قلائل، وقد ضعف الفقه في المشرق لعدم الاجتهاد ولغلبة الأتراك، وغير ذلك من الأسباب التي ذكرناها في الجزء الثاني من ظهر الإسلام، وكتابنا يوم الإسلام، إذ أغلقوا باب الاجتهاد، أما في الأندلس فقد داهمهم الإسبان، كما داهم الترك الشرق، فكانت العلل واحدة، إلا أفرادا شواذ كانوا هنا وهناك، أعادوا مجد الفقه الإسلامي في الأندلس، فلما أتى الموحدون بالأندلس أعادوا القول بالاجتهاد، ورأوا أن المختصرات الفقهية جنت على الفقه، فأرادوا إحياءه بالرجوع إلى الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام منهما، وعدم العمل بأي مذهب من المذاهب المعروفة، وذلك في حدود سنة 550ه، وأمر عبد المؤمن بن علي الموحدي بإحراق كتب الفروع كلها؛ فخافه الفقهاء، وأمر جماعة ممن كانوا عنده من العلماء بجمع الأحاديث من المصنفات العشرة المشهورة، ونشر هذا المجموع في الأندلس والمغرب.
قال بعضهم: «لما دخلت على أمير المؤمنين يعقوب وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر، أنا أنظر في هذه الآراء المتشبعة التي أحدثت في دين الله، فالمسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أو أكثر، فأي هذه الأقوال هي الحق؟ وأيها يجب أن يأخذ بها المقلد يا أبا بكر؟! ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا وأشار إلى سنن أبي داود، أو هذا وأشار إلى السيف»، وأمر الفقهاء ألا يفتوا إلا من الكتاب أو السنة، وألا يقلدوا أحدا، بل تكون أحكامهم بالاجتهاد، وسار الناس على هذه الطريقة، والتزموا ظاهر الكتاب والسنة، وتحرروا في الاجتهاد، وكان من هؤلاء فقهاء على هذه الطريق مثل: أبي الخطاب، ومحيي الدين بن عربي، وغيرهما، وبذلك نصر الموحدون مذهب الظاهرية ومنهم ابن حزم. ومن الأسف أن بني مرين لما جاءت دولتهم نقضت ذلك كله، وجددت كل الفروع، وأحيت كتب الفقه على مذهب مالك من جديد.
وتاريخ الأندلس في ذلك التاريخ كتاريخ المشرق، إذ المدنية كلها واحدة.
وقد رويت حوادث كثيرة لفقهاء أندلسيين تدل على صدقهم وإخلاصهم وظرفهم، وقد روينا من قبل حكاية يحيى بن يحيى الليثي الذي وقف أمام عبد الرحمن الداخل، وألزمه بالصيام شهرين متتابعين، ومثل ممانعة القاضي الذي تقدم ذكره في استيلاء عبد الرحمن الناصر على بيت أيتام حتى يدفع لهم أكثر من ثمنه، ومثل إضراب أبي عمر بن المكي الإشبيلي شهرين عن الفتوى لقتل ابن أبي عامر عبد الملك بن منذر البلوطي ظلما، ومثل ما يروى أن قاضي قرطبة محمد بن عبد الله بن يحيى كان مارا بمدينة إلبيرة أيام قضائه فيها فرأى فتى يتمايل سكرا، فلما رأى القاضي أراد الفرار فخانته رجلاه، فاستند إلى الحائط، فلما دنا منه القاضي رفع الشاب رأسه، وأنشأ يقول:
ألا أيها القاضي الذي عم عدله
فأضحى به في العالمين فريدا
قرأت كتاب الله ألفين مرة
فلم أر فيه للشروب حدودا
فإن شئت أن تجلد فدونك منكبا
صبورا على ريب الزمان جليدا
وإن شئت أن تعفو تكن لك منة
تروح بها في العالمين حميدا
وإن أنت اخترت الحدود فإن لي
لسانا على هجو الرجال حديدا
فلما سمع القاضي شعره، أعرض عنه ومضى لشأنه.
ومثل أن أبا إبراهيم التميمي القرطبي تخلف عن الحضور في وليمة دعاه إليها عبد الرحمن الناصر، وكان صديقا لابنه الحاكم، فلما سئل في ذلك رد فقال: إن من قبلك من الأمراء والخلفاء كانوا يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بما يشينها ويرد منها، يستعدون بها لدينهم، ويتزينون بها عند رعايهم؛ ولهذا تخلفت. وأراد الناصر أن يدعوه هو وابنه الحكم فاعتذر أيضا، وخاف أن الناس يقولون: إنه يستجلب الدراهم بدعوة الخليفة وابنه. وفي ترجمته ما يعطينا شيئا عن نظام الشورى عندهم، فقد قالوا: إن مجلس الشورى كمل عدده به ستة عشر.
ومثل أن أحد القضاة لمح ما عليه ملوك الطوائف من تخاذل وافتراق رأي، فندب نفسه لجمع كلمتهم، والتوفيق بينهم، وجعلهم جبهة واحدة ضد العدو.
وأخيرا لم يفلح في ذلك، فاستثقله الأمراء، وأيقن بالفشل، وكف عن سعيه ... إلخ إلخ، فهذا يعطينا بعض الفكرة عن مجلس الشورى وقوة رجاله وعددهم وأحيانا ظرفهم.
ولما كثرت المذاهب من ظاهرية ومالكية ومن شيعة إلخ، كثر حبهم للجدل بعد أن كانوا منصرفين عنه، حتى حكى بعضهم أنهم كانوا كثيرا ما يتجادلون في مجلس العزاء، وسبب آخر لهذا الجدل وهو كثرته في المشرق، حتى ألف المشارقة علما سموه علم المناظرة أو أدب البحث، وألفوا علما سموه علم «الخلافيات»، وقد نقل ذلك إلى الأندلس فازداد نشاطهم في البحث والمناظرة.
وقد رأينا أن تاريخ العلم كتاريخ الأفراد، له صبا وشباب وشيخوخة وهرم، فلما انتهى هؤلاء الأعلام كابن حزم، والباجي، وابن العربي، وصل العلم إلى دور الهرم، فأصبح كالرجل الهرم، لا يقوى على المسير، حتى انتهى الفقه.
وهناك ناحية أخرى جديدة بالبحث في الحركة الدينية وهي ناحية التصوف، وكما نشأ التصوف في المشرق في القرن الثاني كذلك نشأ التصوف في الأندلس في القرن الثاني بعد الفتح العربي؛ غير أن تصوف الشرق كان مزيجا من تعاليم الإسلام وتعاليم الفرس والهند واليونان، وتصوف الأندلس كان مزيجا من تعاليم الإسلام وتعاليم الأفلاطونية الحديثة، والتعاليم اليونانية والرومانية، لا الفارسية ولا الهندية إلا ما جاء من قبل المشرق؛ إذ كانت هذه التعاليم كلها هي التي تجاوز الأندلس. يضاف إلى ذلك أن الأندلسيين كان كثير منهم برابرة، وكثير منهم أولاد مسيحيين متصوفين، وقد اشتهر البربر من قديم بأنهم أهل خيال واعتقاد بالمغيبات، وسرعة تصديق لمن يأتي لهم بدعاوى غيبية، ولسنا ننسى ما لقيه العرب عند فتح المغرب من عناء وشدة قتال، وانتفاض على يد من تدعى «الكاهنة» إذا التفوا حولها فآمنوا بها، وأذاقوا العرب في الفتح الأمرين، وهذا يدل على الطبيعية البربرية. وإلى الآن في كثير من البلاد يأخذ البرابرة سمعة قوية في فتح الكتاب، وفتح الكنوز، وقراءة الكف، والادعاء بمعرفة المغيبات، وهي أشياء من قبيل التصوف بعد أن يتدلى؛ ولذلك كله كبرت عند الأندلسيين حركة التصوف.
ولنسلسلها كما سلسلنا الفقه. فأول من علمنا تصوفه ابن مسرة، وهو محمد بن عبد الله بن مسرة، ولد سنة 296ه، وكان أبوه من قرطبة، وعرف أبوه بالاعتزال، وكان الاعتزال في الأندلس قليلا وغير مرغوب فيه، فاضطر أن يخفي ذلك على الناس، ومعروف أن الاعتزال يثير بحث كثير من الإلهيات، ويتسلح أصحابه بالفلسفة اليونانية للدفاع عن الإسلام ضد النصرانية واليهودية كما رأينا في المشرق، فأورث ذلك كله لابنه، ورأى أباه يسر الاعتزال وما إليه، فأسر هو أيضا مذهبه؛ ولهذا اعتزل ابن مسرة الناس أيضا قبل أن يبلغ الثلاثين، والتجأ إلى جبل في قرطبة، يتحنث فيه، وجبال الأندلس عادة خضراء، تبهج النفس، وانضم إليه بعض أتباعه، وساعدته عزلته والمناظر الطبيعية التي أمام بصره على سعة الخيال، وعمق التفكير، وظل أتباعه في الأندلس قرونا طويلة، ومع ذلك لم يستطع هو وأتباعه الكثيرون أن يحافظوا على السرية محافظة تامة، واتهم بالإلحاد، ففر من البلاد مدعيا أنه يريد الحج، وظل خارج الأندلس، حتى تولى عبد الرحمن الثالث الذي اشتهر بالتسامح وتأييد العلماء، وزادت تلاميذه بعد، ويظهر أنه كان يعتنق التقية، فكان مظهره ورعا تقيا، وهو يبث التعاليم العميقة لأخص تلاميذه ومريديه. ولم نعرف له آثارا نستدل منها على آرائه ومذهبه، ولكن مستشرقا إسبانيا عثر على بعض آرائه، وقال: إن كثيرا من تعاليمه تشبه تعاليم أمبيدوقليس وهو فيلسوف يوناني مشهور، عده المسلمون أول الحكماء السبعة اليونانيين، ونسبت إليه كرامات كما تنسب إلى الصوفية، ولم يقتصر أثره على مسلمي الأندلس، بل أثر أيضا في يهودها ونصاراها.
وهنا نتساءل: هل بلغ تصوف الشرق ابن مسرة فتصوف، فيكون تصوف الغرب من تصوف الشرق، أو أن ميله الطبيعي ومزاجه، وتعاليم النصارى الإسبانيين والفلاسفة اليونانيين أنتجت ابن مسرة هذا، فيكون التصوف الأندلسي مستقلا عن التصوف الشرقي؟ هذا سؤال صعب الجواب، ليس بين أيدينا ما يكشف غموضه، خصوصا وقد كان في الأندلس قبل الإسلام زهاد انقطعوا للعبادة.
على كل حال كان ابن مسرة أول من نعرف في الأندلس من المتصوفة، وكان من تلاميذه فيما يروون الهاشمي، وهو أبو بكر محمد، أخذ عن ابن مسرة، وأخذ عنه محيي الدين بن عربي، وكان متقشفا زاهدا، وإن لم نعرف له كتبا، وقد عاصره صوفي كبير آخر، وهو أبو عبد الله القرشي الهاشمي أيضا، نسبوا إليه أقوالا صوفية كثيرة مثل: «من لم يدخل في الأمور بلطف الأدب، لم يدرك مطلوبه منها. من لم يراع حقوق الإخوان بترك حقوقه حرم بركة الصحبة ... إلخ».
وقد مات سنة 559ه بعد أن رحل إلى بيت القدس ودفن به - وكان الناس يتبركون به وبضريحه - والهاشمي هذا هو أحد أساتذة محيي الدين بن عربي. وإذا وصلنا إلى محيي الدين، وصلنا إلى إمام كبير من أئمة التصوف، نثر نصوصه في الشرق والغرب، وهو محيي الدين أبو بكر محمد بن على بن عربي الحاتمي الطائي، وهو عربي من نسل حاتم الطائي، ولد بمرسية بلد أبي العباس المرسي سنة 560ه، وقرأ القرآن وتعلم في إشبيلية، تعلم القرآن والحديث، وأقام بإشبيلية نحو ثلاثين عاما، ثم رحل إلى المشرق، وأخذ الحديث عن ابن عساكر والجوزي، وساح في بغداد والموصل وبلاد الروم، واتسعت معارفه المتعددة. ومن الأسف أنه بعد أن رحل لم يعد إلى الأندلس ثانيا، فقد توفي في دمشق، وقد أعطي بلاغة في القول، وعمقا في التفكير، وسعة في الخيال، وكلما نزل بلدا اتصل بمتصوفيها، له النثر الكبير، والشعر الكثير، لا يعبأ بمال، ولا جاه، وكان كثير الشطح، كثير التأويل، وربما كانت له قصص كثيرة تبين منحاه في القول، فقد قال:
يامن يراني ولا أراه
كم ذا أراه ولا يراني
فاعترض عليه، كيف لا يراه الله؟ فقال:
يا من يراني مجرما
ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعما
ولا يراني لائذا
وله كلام كثير من هذا القبيل، ظاهره الإلحاد، وباطنه الإسلام مع التأويل، واشتهر شهرة واسعة، وكانت شهرته تسبقه إلى كل مكان يحل فيه، وهو متوكل على الله، ينتقل من بلد إلى بلد، فقيرا زاهدا، فيعطف عليه بعض الأغنياء، فيوزع ما يأخذه هنا وهناك، حتى لقد أعطي مرة بيتا يسكنه، وجاءه سائل يسأله: ويقول: شيء لله، فأعطاه البيت.
وهو من أكبر الناشزين بين الصوفية لفكرة وحدة الوجود، أي: إن الله والعالم شيء واحد، يختلفان في الصورة فقط، ولا يختلفان في الحقيقة، وأن رؤية الأشياء مختلفة، كمنزل ورجل وشجرة ليس إلا أمرا قضت به الضرورة، وليس إلا خداعا من الحواس، ومطاوعة للعقل الإنساني القاصر، فهو يشبه ما يقول من الفلاسفة المحدثون من أن كل شيء أساسه الذرة، وإنما تختلف الأشياء باختلاف النواة الذرية وكمية شحناتها الكهربائية، وإلا فالحقيقة في الكل واحدة، وربما عبر عن هذا بقوله: «سبحان من خلق الأشياء وهو عينها»، فهو يعين خالقا ومخلوقا في الظاهر، ولكنها في الحقيقة شيء واحد. وهو شيء كما يقول لا يدرك بالعقل، بل بالقلب، وليس هناك خالق ومخلوق إلا في الظاهر، وفي ذلك يقول:
يا خالق الأشياء في نفسه
أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه
فيك فأنت الضيق الواسع
ومن ناحية الظاهر والحديث المألوف، هناك خالق ومخلوق، وحق وخلق، وظاهر وباطن، وأول وآخر. وعنده أن إقامة البرهان المنطقي لا يفيد في هذا الباب، إنما يدل عليه الشعور، والرياضة، والذوق، ويرى أن كل المخلوقات من جماد ونبات، وحيوان وإنسان، خاضعة لهذا المعنى، بمعنى أنها كلها تسير على مقتضى طبيعتها وحقيقتها، فالجماد يسكن أو يؤدي طبيعته الطبيعية، بحكم طبيعته، أو بعبارة أخرى: بحكم القانون الإلهي، وكذلك الإنسان والحيوان؛ ولذلك لا يعول كثيرا على تفرقة بين يهودية ونصرانية، ووثنية وإسلام، ويقول في ذلك:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
ولأن كل إنسان ميسر لما خلق له، وليس في باطن الأمر إلا الله، وهذا لا يمنع من أن الخلق يعشق الحق، فهي كلها اعتبارات، والشيء عادة يحن إلى جنسه، ولولا ذلك ما كانت هذه الجاذبية المبعوثة في عالم الأرض والسماء، وقد تأثر بتعاليم الأفلاطونية الحديثة في قوله: «بلحظات التجلي» فقد عرف عن أفلوطين زعيم هذا المذهب أن الحق تجلى له مرة، فكاد يصعق. والحقيقة عنده أن الأسماء المختلفة هي في الواقع أسماء لمسمى واحد وهي الحقيقة الوجودية وضعت اصطلاحا للفهم والتفاهم:
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، والله خلق آدم على صورته. والذي يقرأ كتابه «الفتوحات المكية» يعجب من سعة خياله، وقدرته على التعبير والتأويل، وربما دل على مذهبه هذه القصيدة:
حقيقتي همت بها
وما رآها بصري
ولو رآها لغدا
قتيل ذاك الحور
فعندما أبصرتها
صرت بحكم النظر
أبيت مسحورا بها
أهيم حتى السحر
يا حذري من حذري
لو كان يغني حذري
والله ما هيمني
جمال ذاك الخفر
في حسنها من ظبية
ترى بذات الحمر
إذا رنت أو عطفت
تسبي عقول البشر
كأنما أنفاسها
أعراف مسك عطر
كأنها شمس الضحى
في النور أو كالقمر
إن أسفرت أبرزها
نور صباح مسفر
أو سدلت غيبها
سواد ذاك الشعر
يا قمرا تحت دجى
خذي فؤادي وذري
عيني لكي أبصرك
إذ كان حظي نظري
وقد عرف في تاريخ ابن عربي أنه وهو في مكة أحب فتاة تسمى «نظام»، ألف فيها كتابه «ترجمان الأشواق» ظاهره عشق هذه الفتاة، وباطنه الله والفناء فيه. ومثل ذلك ما رووه عن ابن الفارض في مصر.
وقد أكثر محيي الدين بن عربي في التأليف، حتى ألف في الأدب والتاريخ، فله ديوان أشعار، وتفسير قرآن، وكتاب في أسرار العلوم.
وإذ كان الناس عادة من طبيعتين مختلفتين ومزاجين متباينين، حتى إن علماء النفس يقسمونهم إلى هذين القسمين، كان النزاع دائما بين الحسيين والمعنويين، بين أهل الظاهر والباطن، بين من مزاجه ذوقي، ومن مزاجه عقلي، بين من يأخذ بالظواهر، ومن لا تقنعه الظواهر، بين أهل الكشف وأهل العقل، بين الفقهاء والمتصوفة ... اختلف الناس في ابن عربي: هل هو مؤمن أشد الإيمان، أو ملحد أشد الإلحاد؟ فينعته بعضهم بالعارف بالله، وقطب الله، وولي الله، وينعته آخرون بأنه زنديق وملحد، وتؤلف فيه التآليف الكثيرة، ويثور الخلاف حوله، كما ثار في المشرق مثلا بين الحلاج والفقهاء،
10
فكان ممن ناصره الفيروزأبادي صاحب القاموس، وكمال الدين الزملكاني، والبلقيني، وشهاب الدين السهروردي، وفخر الدين الرازي، وابن السبكي، وغيرهم. وكان من الناقمين عليه ابن الخياط، والحافظ الذهبي، وابن تيمية، وابن إياس، والتفتازاني، وغيرهم.
وتشهد مصر في عهد الأيوبيين مشهدا كبيرا بين الفقهاء الذين ينكرون على الصوفيين نزعتهم، وعلى رأسهم ابن تيمية الحنبلي، وبين المتصوفة؛ ويؤلفون في الخلاف بين الطائفتين الكتب، وأخيرا ألف كتاب «جلاء العينين في محاكمة الأحمدين».
قال ابن النجار: «اجتمعت بابن عربي في دمشق في رحلتي إليها، وكتبت عنه شيئا من شعره، ونعم الشيخ هو، ذكر لي أنه دخل بغداد سنة 601، فأقام بها اثني عشر يوما، ثم دخلها ثانيا مع الحجاج سنة 608ه وأنشدني بنفسه:
أيا حائرا ما بين علم وشهوة
ليتصل، ما بين ضدين من وصل
ومن لم يكن يستنشق الريح لم يكن
يرى الفضل للمسك الفتيق على الزبل
وسألته عن مولده فقال: ليلة الاثنين 17 رمضان سنة 560 بمرسية». وقال ابن مسدي: «إنه كان جميل الجملة والتفصيل، محصلا لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق. سمع ببلاده من ابن زرقون، والحافظ ابن الجد، وأبي الوليد الحضرمي، وبسبتة من أبي محمد بن عبد الله». وقال في حقه الذهبي: «إن له توسطا في الكلام، وذكاء وقوة خاطر، وحافظة، وتدقيقا في التصوف، وتآليف جمة في العرفان، لولا شطحه في كلامه وشعره، ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته، فيرجى له الخبر».
ومن نظم ابن عربي:
بين التذلل والتدلل نقطة
فيها يتيه العالم النحرير
هي نقطة الأكوان إن جازوتها
كنت الحكيم وعلمك الإكسير
وقوله:
يا درة بيضاء لاهوتية
قد ركبت صدفا من الناسوت
جهل البسيطة قدرها لشقائهم
وتنافسوا في الدر والياقوت
ولعله يخاطب بذلك الإنسان.
وجاء في نفح الطيب أن المقريزي حكى في ترجمة عمر بن الفارض أن الشيخ محيي الدين بن عربي بعث إلى الفارض يستأذنه في شرح التائية، فأجابه: «كتابك المسمى بالفتوحات المكية شرح لها». قالوا: «ولما صنف الفتوحات المكية كان يكتب كل يوم حيث كان، وحصلت له بدمشق دنيا كثيرة، فما ادخر منها شيئا»، وقال صفي الدين حسين في رسالته: «رأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف محيي الدين بن عربي، وكان من أكبر علماء الطريق، جمع بين سائر العلوم الكسبية، وما وقر له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة، وتصانيفه كثيرة، وقد غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا، لا يكترث بالوجود، مقبلا كان أو معرضا . وله علماء وأتباع، أرباب مواجيد وتصانيف، وكله بينه وبين سيدي الأستاذ الخراز إخاء ورفقة في السياحات». ومن نظمه:
لما تبدى عارضاه في نمط
قيل: ظلام بضياء اختلط
وقيل: سطر الحسن في خديه خط
وقيل: نمل فوق عاج انبسط
وقيل: مسك فوق ورد قد نقط
وقال قوم: إنها اللام فقط
وقوله:
لك والله منظر
قل فيه المشارك
إن يوما ما نراك في
ه ليوم مبارك
وقوله:
ساءلتني عن لفظة لغوية
فأجبت مبتدئا بغير تفكر
خاطبتني متبسما فرأيتها
من نظم ثغرك في صحاح الجوهري
ويقول:
وعلمت أن من الحديد فؤاده
لما انتضى من مقلتيه مهندا
آنست من وجدي بجانب خده
نارا ولكن ما وجدت بها هدى
إلى كثير من شعره الذي ملئ به ديوانه وكتابه «الفتوحات المكية». وقد ألف السيوطي فيه كتابا سماه «تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي»، وقد روي أن بعضهم كفر ابن عربي في مجلس شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، وقال فيه: إنه زنديق. ولم يرد عليه الشيخ، فعد سكوته إقرارا، ولكن فسر عز الدين موقفه هذا فيما بعد بأن مجلسه كان مجلس فقهاء، والفقهاء أشد الناس على المتصوفة.
وروى الشعراني أن ابن عربي وصف السلطان الذي يفتح القسطنطينية. وقال: إنها تفتح سنة كذا، فكان الأمر كما قال، وبينه وبين السلطان محمد الفاتح نحو مائتي سنة؛ ولذلك بنى عليه قبة عظيمة، وتكية بالشام. وكانت وفاة ابن عربي سنة 638ه بالصالحية بدمشق. وقال بعضهم: «إن من يتسامح في كلام ابن عربي ويتأول، يسهل عليه المراء، وإن كان ممن يلتزم الظاهر، صعب عليه».
وقد نقده أهل الديار المصرية، وسعوا في إراقة دمه، فخلصه الله على يد الشيخ البجائي، فإنه تأول كلامه. ولما سأل البجائي ابن عربي عن بعض ما ورد على لسانه قال له: «يا سيدي تلك شطحات في محل سكر، ولا عتب على سكران». ومما يدل على مذهبه قوله:
نبه على السر ولا تفشه
فالبوح بالسر له مقت
على الذي يبديه فاصبر به
واكتمه حتى يصل الوقت
وكان يقول ابن عربي: إن كل العالم مظاهر للألوهية، وكان يعتقد أنه رأى محمدا
صلى الله عليه وسلم ، وأنه يعرف اسم الله الأعظم، ويعرف الكيمياء بالتنزيل لا بالتعليل. ومما طبع من كتبه «الفتوحات المكية»، وديوان يسمى «ترجمان الأشواق»، وكتاب «محاضرات الأبرار»، وكتاب «فصوص الحكم»، و«مجموع الرسائل الإلهية».
وأيا ما كان، فقد خلف محيي الدين بن عربي تراثا يلعب بالأفكار والعقول إلى اليوم في الشرق وفي الغرب.
ومن أشهر متصوفة الأندلس ابن سبعين وكان أديبا صوفيا متفلسفا متزهدا متقشفا، وهو من خريجي مرسية كمحيي الدين بن عربي وأبي العباس المرسي، وقد كان تلاميذه يعتقدون أنه ليس له نظير في العلم اللدني، وكان مشهورا بحبه الإيثار، وعطفه على الإنسانية كلها ومحبته لأعدائه، وبيته كان بيت عز ومجد في بلاد المغرب وهو بيت علوي، وقد زهد في رياسة أهل بيته وتركها لإخوته، وقد قالوا: إنه ألف كتابا اسمه «بدء العارف» وسنه خمس عشرة سنة. ولثقافته الأدبية كان يؤدي ما عنده من المعاني أداء حسنا، ويروون أن ابن هود الأمير المشهور تعاقد مع طاغية النصارى، فلم يف الطاغية بعهده فاضطر ابن هود إلى مخاطبة البابا، وأرسل ابن سبعين سفيرا عنه إلى روما.
وذكر ابن خلدون في تاريخه أن السلطان المستنصر ملك إفريقيا بايعه أهل مكة، وخطبوا له بعرفة، وأرسلوا له رسالة بتنصيبه، قال: وهي من إنشاء ابن سبعين، وقد ذكرها ابن خلدون بجملتها وهي طويلة بليغة، وهو يشير في هذه الرسالة إلى أن المستنصر هو المهدي المنتظر. وكان لابن سبعين أتباع كثيرون يتحمسون له، وله تأليفات كثيرة ورسائل كثيرة، ونشأ ترفا موقرا، وكان وسيما جميلا، ملوكي البزة، عزيز النفس، قليل التصنع، آية من الآيات في الإيثار والجود بما في يده.
وقد اشتهر ابن سبعين حتى وصلت أخباره كما يقولون البابا في روما، وقد ذكروا أن الإمبراطور فردريك الثاني النرماني ملك صقلية عرضت له بعض مسائل فلسفية، عرضها على كثير من علماء المسيحيين والمسلمين فلم يتصد للرد عليها ردا شافيا أعجب فردريك مثل رد ابن سبعين . وكانت الأسئلة هي: (1)
ما هو المقصود من العلم بالله؟ وما مقدماته؟ (2)
ما معنى المقولات؟ وكيف تستخدم في العلوم؟ وما عددها؟ (3)
ما الدليل على خلود النفس؟
وإجابة ابن سبعين في رسالة لا تزال محفوظة إلى اليوم، وهي تدل على اطلاع ابن سبعين على ما ترجم من الفلسفة اليونانية. وله شطحات ورموز على نحو طريقة ابن عربي في نظرية وحدة الوجود. ونقل عبد الرءوف المناوي: أن ابن سبعين كان له سلوك عجيب على طريق أهل الوحدة، وله في علم الحروف والأسماء اليد الطولى. ومن أقواله التي تروى عنه في تلاميذه: «عليكم بالاستقامة على الطريق، وقدموا فرض الشريعة على الحقيقة ولا تفرقوا بينهما من الأسماء المترادفة، واكفروا بالحقيقة التي في زمانكم هذا وقولوا عليها وعلى أهلها اللعنة».
وقد ذكر المرحوم السيد محمد رشيد رضا عن ابن سبعين أنه قال: لقد حجر ابن آمنة واسعا بقوله: لا نبي بعدي، وهو كالذي يقوله القاديانية اليوم، وهو يشير من طرف خفي بهذا القول - إن صح - إلى أنه بلغ حد النبوة، وهي نزعة موجودة عند كثير من الصوفية، بل منهم من اعتقد أن الولاية أرقى من النبوة، وقد انقسم الناس فيه أقساما شأنهم في ذلك شأنهم مع كبار المتصوفة كابن عربي، وابن الفارض. فمن تمسك بظاهر الشرع أنكر كل هذه الشطحات وأنكر نزعة الصوفية؛ كما فعل ابن تيمية مع محيي الدين بن عربي؛ ومنهم من يضع الصوفية فوق الفقهاء والعلماء والفلاسفة، فيؤمن بهم ويلتمس بركتهم، كالسيوطي والمقري وأمثالهما، ومنهم من يذهب مذهب التحفظ كالذهبي في تاريخه، فمثلا يقول في ابن سبعين: «كان ابن سبعين من زهاد الفلاسفة، ومن القائلين: بوحدة الوجود، له تصانيف وأتباع، يقدمهم يوم القيامة». وفي رأينا أن كتبه ورسائله لا تزال تحتاج إلى دراسة عميقة لمعرفة قيمته ومنحاه.
11
وخلفه قوم كثيرون من الصوفيين في الأندلس، حتى لا يكاد يخلو عصر من عصور الأندلس من الصوفية؛ من أشهرهم أبو العباس المرسي، وهو صاحب المقام المشهور في الإسكندرية، والمرسي نسبة إلى مرسية، وهي أيضا بلد محيي الدين بن عربي، قالوا: إنه كان يكرم الناس على نحو رتبهم عند الله؛ حتى إنه ربما دخل عليه مطيع فلا يحفل به، وربما دخل عليه عاص فأكرمه؛ لأن ذلك الطائع أتى وهو متكثر بعمله ناظر لفعله، وذلك العاصي دخل متواضعا لمعصيته، ذليلا لمخالفته، وكان شديد الكراهية للوسواس في الصلاة. قالوا: إن له كلاما بديعا في تفسير القرآن كقوله في
الحمد لله رب العالمين (الفاتحة: 2): «علم الله عجز خلقه عن حمده، فحمد نفسه بنفسه في أزله، فلما خلق الخلق اقتضى منهم أن يحمدوه بحمده ... إلخ»، ويقول: «التقوى في كتاب الله على أقسام: تقوى النار، قال تعالى:
واتقوا النار ، وتقوى اليوم الآخر، قال:
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، وتقوى الربوبية، قال:
اتقوا ربكم ، وتقوى الألوهية، وتقوى الله، وتقوى الإنية قال:
واتقون يا أولي الألباب ، وقال عند سماعه قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر». «أي: أنا أفتخر بالسيادة، وإنما الفخر لي بالعبودية لله. ولما سمع قول سمنون المحب:
وليس لي في سواك حظ
فكيفما شئت فاختبرني
قال: كان الأولى أن يقول: «فكيفما شئت فاعف عني»، إذ طلب العفو أولى من طلب الاختبار. وقال: «الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعراف جاء من الآخرة إلى الدنيا»، وهكذا له كثير من الأقوال. وألف فيه تلميذه ابن عطاء الله كتابا يذكر فيه فضائله وكراماته.
وممن نعرفهم من المتأخرين أحمد بن فاس، كان شيخا من المتصوفة، ادعى أنه المهدي المنتظر، واستولى على بعض البلاد، وكان في أيام الموحدين، وقتله أحد أتباعه ، وألف كتابا سماه «خلع النعلين في التصوف».
والذى نلاحظه أن الحركات علمية كانت أو أدبية، تتلون حسب ميول الأمراء، فإذا كان البيت الحاكم متصوفا، ساد التصوف، أو متفلسفا انتشر التفلسف. وقد شاهدنا أن أسرة جاءت تميل إلى الغزالي، فحييت كتبه، ومجد شخصه، وجاءت أسرة أخرى تخالفه، فأحرقت كتبه، وأعلنت كراهيته.
على كل حال لم ينقطع التصوف في أي زمان كان، ولكن لم يبلغ شأنه كما بلغ على يد محيي الدين بن عربي، وانتقل أكثره إلى تخريف وتدجيل كما كان الحال في الشرق.
ويطول القول لو عددنا أسماء المتصوفة كلها في الأندلس وترجمنا لهم، وأبنا عيوبهم ومزاياهم. فلنكتف بهذا القدر.
هوامش
الفصل الثالث
الحركة النحوية واللغوية والتأليف الأدبي
نذكر في هذا الفصل حركة اللغة والنحو والصرف في الأندلس، وكلها علوم رواية، أكثر منها علوم دراية. ولا بد أن العرب الفاتحين من عهد موسى بن نصير إلى عهد الخليفة الناصر، كانوا ينقلون في البلاد ما عرفوه في الشام من لغة وأشعار ونحوها، إذ كان بعضهم من غير شك مثقفين، يتناقلون الأشعار وأيام العرب والأخبار في سمرهم، إنما لم يكن ذلك علما منظما، حتى جاء عبد الرحمن الناصر فطمح أن يقوي مملكته بما قوى به العباسيون دولتهم. وكان من أسباب قوة العباسيين العلم والشعر والأدب، وغير ذلك، فأراد أن يقلدهم، ورأى أن ليس عنده معلمون كبار ينشرون الثقافة العربية بين أهل الأندلس، فقرر أن يندب لذلك بعض أهل المشرق، وبعد تفكير طويل رأى أن أصلحهم أبو علي القالي، إذ كان أبوه مولى لعبد الملك بن مروان الأموي، فيكون أموي النزعة كعبد الرحمن الناصر، فاستدعاه إلى قرطبة، وأمر ابنه الحكم باستقباله مع طائفة من أعيان البلد، فاستقبل أحسن استقبال.
وكان أبو علي هذا قد نشأ في بغداد، وتعلم على شيوخها، وجد في التحصيل، فحصل الحديث، واللغة، والأدب، والنحو، والصرف. من مشايخ مشهورين كالهروي في الحديث، وابن درستويه أحد النحاة المشهورين والأدباء المعروفين، والزجاج أحد تلامذة المبرد، والأخفش الصغير، وهو أيضا تلميذ المبرد، ونفطويه، وابن السراج، وابن الأنباري، وابن أبي الأزهر، وابن قتيبة وغيرهم، ووعى أكثر علمهم، وأقام في بغداد خمسا وعشرين سنة يحصل مع الجد، حتى أتقن هذه العلوم. وعرف بين الأندلسيين بسعة الاطلاع في العلم والرواية، وطول الباع في اللغة وفنونها، قال ابن الفرضي: «فسمع الناس منه، وقرءوا عليه كتب اللغة، والأخبار، والأمالي، وعظمت استفادتهم منه».
ويكاد المؤرخون يجمعون على أنه كان أحفظ أهل زمانه، وساعد على الانتفاع به ذكاء أهل الأندلس، وقوة حفظهم. لقد كان أبو علي القالي يروي أنه في طريقه إلى الأندلس نزل المغرب، فكان كلما أمعن في المغرب من تونس إلى طنجة يرى أهله يقلون في الذكاء تدريجيا، فحزر أن أهل الأندلس يكونون من أغبى الناس على هذا القياس، فخاب ظنه ورآهم من أذكى الناس. وربما كان له فضل كبير في حب الحكم بن عبد الرحمن الناصر للعلم، إذ كان أبو علي أستاذه؛ ولذلك جمع الحكم في الأندلس مكتبة عظيمة ذكرناها من قبل. ومن أشهر كتبه كتاب الأمالي ونوادره. قال ابن حزم: كتاب نوادر أبي علي وهو «ذيل الأمالي» مبار لكتاب «الكامل» الذي جمعه المبرد.
ولئن كان كتاب المبرد أكثر نحوا وخبرا، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعرا. وله غير كتاب «الأمالي» كتاب «الممدود والمقصور»، وكتاب «الإبل ونتاجها»، وكتاب «حلى الإنسان»، وكتاب «فعلت وأفعلت»، وكتاب «تفسير المعلقات السبع»، وكتاب «البارع في اللغة» رتبه على حروف المعجم. قالوا: إنه نحو ثلاثة آلاف ورقة. وقالوا: إنه لم يؤلف مثله.
وقد ظل في قرطبة يبث علمه إلى وفاته سنة 358ه، وقد علمنا أنه رحل إلى الأندلس سنة 330ه، فتكون مدة إقامته في الأندلس، ونشره علمه 28 سنة، وهي مدة لا يستهان بها. ويظهر أنه تأثر كثيرا بشيخه ابن دريد، فإنه يروي عنه كثيرا بعض القطع الأدبية، وكان ابن دريد هذا لا يتحرج من أن يخترع حديثا لأعرابي وأعرابية، أو حتى قصيدة من القصائد؛ شأنه في ذلك شأن الروائيين اليوم، ولكنه يرويها على أنها حقيقة وقعت، وقصده منها التعليم أكثر من أن يكون قصده التاريخ، ولكن أبا علي القالي أخذها كما يأخذ الحديث على أنها حقائق تاريخية. وطريقته في «الأمالي» أنه يذكر نصا من النصوص؛ آية قرآنية، أو حديثا، أو خبرا، أو قصيدة، ويراعي في اختيار كل قطعة أن تكون مشتملة على لفظ غريب، أو ألفاظ غريبة، ثم بعد رواية النص يشرح الغريب شرحا دقيقا، فمثلا يسوق الآية:
وغدوا على حرد قادرين ، ثم يأخذ في شرح كلمة
حرد
وعلى هذا القياس. ويظهر أيضا أنه كان يعد موضوعا خاصا في ذهنه لكل درس؛ درس في ترتيب أسنان الإبل وأسمائها، ودرس في تفسير كلمة أمر، وإيراد آية:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا
إلخ، ودرس في قصيدة ذي الإصبع العدواني، التي منها:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... ... ... إلخ
وتفسير ما ورد فيها من الغريب، وهكذا.
وقد فات ابن حزم أن يلاحظ أيضا أن كتاب «الأمالي» أخف روحا من كتاب «الكامل»، وأن أبا علي القالي حدد مقصده من الكتاب أن يكون أدبا محتويا على غريب يشرحه، ولم يخرج عن ذلك.
وكان يعاصره تقريبا ويؤدي نفس الغرض، ابن عبد ربه، فقد ألف كتابه «العقد»؛ لينقل إلى أهل الأندلس معارف المشارقة، غاية الأمر أن ابن عبد ربه أندلسي صميم من مالقه، وأبا علي القالي مشرقي رحل إلى الأندلس؛ وكتاب «الأمالي» أدب يعني بالغريب، وكتاب «العقد» يعنى بالأخبار والسير والطرائف والظرائف من كل باب، وإن شئت فقل: إن كتاب «الأمالي» لفظي، و«العقد» معنوي، وربما كان هذا سببه أن ابن عبده ربه أديب يشرب ويحب ويسمع الغناء، ويقول الشعر الظريف في الغزل وفي الشراب وغير ذلك، أما أبو علي فعالم فقط في اللغة والأدب.
وقد كان ابن عبد ربه متعدد النواحي، تعلم النحو والعروض والفقه والتاريخ والأدب، وكان قد تعلم في أهل بلده، وكان قد نضج العلم فيه بعض الشيء، ثم رحل إلى مصر وغيرها وأخذ علمها، ثم وضع برنامجا أن ينقل ما علم إلى أهل بلده.
وقد اقتبس ابن عبد ربه كثيرا من أسلاف له، وإن كان قد قصر في نسبة كل قول إلى قائله، شأن كثير من علماء المشرق، حتى لقد ينقل الأصل من أصوله عن مصدر، فيظن القارئ أنه أخذه منه مباشرة، مع أنه يكون قد نقله عمن نقل عن الأصل من غير نسبة إلى من نقل عنه. فمثلا ينقل قطعة على أنها من كليلة ودمنة مباشرة، مع أنه قد يكون نقلها بالواسطة عن ابن قتيبة عن كليلة ودمنة، وكذلك شأنه فيما ينقل عن التوراة والإنجيل ونحو ذلك.
وقد تخيل كتابه عقدا منظوما يحتوي على خمس وعشرين حبة من جهة، وخمس وعشرين حبة من جهة أخرى، وفي وسطها كلها واسطة العقد، وسمى كل باب من الأبواب التي في ناحية باسم حجر كريم، كأن يقول: اللؤلؤة في السلطان، الزبرجدة في الأجواد، الياقوتة في العلم والأدب، ثم يسمي الباب الذي يقابلها بنفس التسمية مع إضافة كلمة «الثانية» فيقول: اللؤلؤة الثانية في الفكاهات والملح، الزبرجدة الثانية في طبائع الإنسان، الياقوتة الثانية في الألحان، وهكذا.
وجعل واسطة العقد في الخطب، وبالضرورة لم يكن هناك واسطة عقد إلا واحدة، والكتاب كان يسمى عند الأقدمين «العقد» فقط، ويظهر أنه لما ألف أديب كتابا سماه «العقد الفريد في الملك السعيد» سرت إلى الناس كلمة الفريد، فضموها إلى عقد ابن عبد ربه؛ ولذلك نرى اسمه عند قدماء المؤلفين كابن حزم وأمثاله «العقد» فقط.
وكان من أشهر من استقى منه «العقد» كتاب ابن قتيبة «عيون الأخبار»، فهو ينقل عنه كثيرا، ويقلده في ترتيب الأبواب، كما اقتبس من كتاب الجاحظ، كاقتباسه منه «باب العتاب، واستنجاز الوعد، والاعتذار، والموالي والعرب»، واقتبس من المبرد في كتابيه «الكامل والروضة»، ومع اقتباسه منهما واستفادته طعن المبرد في الصميم إذ قال عنه: إنه لم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له، حتى انتهى إلى الحسن بن هانئ «أبي نواس»، فأبو نواس قلما يأتي ببيت ضعيف، لدقة فطنته، وعذوبة ألفاظه، فيأتي المبرد فيروي له أبياتا، لا ندري من أين وقع عليها، كما اقتبس ابن عبد ربه من ابن المقفع في كتابيه «كليلة ودمنة» و«الدرة اليتيمة»، وأخذ شيئا من كتاب سيبويه، ومن طبقات ابن سلام، ومن بعض كتب أبي عبيدة، ومن ابن هشام في السيرة، ومن ابن وحشية في النبات إلى غير ذلك، حتى لقد يأخذ من التوراة والإنجيل، ومن دواوين الشعراء.
وربما كان يعتقد أن رواية الأدب ليس ينبغي أن يتزمت فيها، كرواية الحديث، فنراه يروي أشياء لم تثبت تاريخيا، ولم ينقلها الثقات، كوفود العرب على كسرى ونحو ذلك ، وأحيانا يعارض ما يختاره بشعره هو على أنه خير مما روى. وقد كان مقربا إلى عبد الرحمن الناصر، فنظم فيه ملحمة طويلة لطيفة على قلة الملاحم في الأدب العربي، تبلغ أكثر من أربعمائة بيت، وإذ كانت الملحمة في سيرة عبد الرحمن الناصر، وهو بالضرورة أموي، فقد سار فيها على مذهب الأمويين، فعد الخلفاء الراشدين مثلا أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وحذف عليا من أرجوزته، ثم وصل الخلفاء الأمويين في الشرق بالأمراء الأمويين في الأندلس؛ ولذلك عابه بعض العلماء، إذ كتب مثلا منذر بن سعيد البلوطي الإمام المشهور على هامش الأرجوزة، البيتين الآتيين:
أوما علي - لا برحت ملعنا
يا ابن الخبيثة - عندكم بإمام؟
رب الكساء وخير آل محمد
داني الولاء مقدم الإسلام
ومن عدم تدقيقه في الأخبار روايته شيئا من الأوهام، فيقول عن رجل مثلا: إنه عاش ثلاثمائة سنة أو مائة وتسعين سنة، وبعد أن عاش هذه المدة اسود شعره، وقد نبتت له أضراس إلى غير ذلك. كما أن كثيرا مما رواه عن الحيوان لم يصح علميا.
ومن مزايا العقد أن مؤلفه ابن عبد ربه قوي في النثر والشعر، تظهر قوة نثره في الفرش الذي يفرشه أمام كل باب، فهو فرش لطيف بليغ، وتظهر قدرته الشعرية في معارضته لما يختار أحيانا بشعر لطيف له. وقد روي عنه أنه كان يعيش أول أمره عيشة الأديب المستهتر، مر مرة على قصر فيه غناء فطارت نفسه وهام بالغناء وقال في ذلك قولا لطيفا؛ ومن أجل ذلك يبرر في الكتاب سماع الغناء ويرد على من حرمه، كما يظهر أنه كان يشرب الخمر وخصوصا النبيذ؛ ولذلك يميل من طرف خفي في كتابه إلى تأييد الرأي القائل بالحل. ويقولون: إنه في آخر أيامه تاب، وشعر في الزهد والورع والتقوى، على نحو ما شعر في اللهو والغزل.
والكتاب يفيدنا تاريخيا أيضا، كما يفيدنا أدبيا في تعريفنا بأشياء كثيرة عن عادات الأندلس وتقاليدها، ونظرة الأندلسيين إلى اليهود والنصارى، كما يدلنا على حروب الناصر واحدة بعد أخرى في أي سنة، ونحو ذلك.
وإذا قارنا بين ما كتبه ابن قتيبة في الشعوبية، وما كتبه ابن عبد ربه، رأينا ابن عبد ربه أعدل رأيا، وأصدق حكما، ومن ظرفه أنه أكثر في كتابه هذا من الفكاهات والملح، والنوادر والقصص، فيروي للأشعب وللممرورين. وفي الأجوبة المسكتة أشياء لطيفة ظريفة مسلية، فهو أقرب إلى الجد من ألف ليلة، ولكنه مسل مثلها؛ ولذلك ذاع بين الأدباء. وقد قلنا: إنه لم يكن متزمتا كالمحدثين، وبعض الأدباء كصاحب الأغاني فلم يملأ كتابه بالأسانيد كما فعل هؤلاء؛ ولذلك انتشر كتابه انتشارا كبيرا في الشرق والغرب، فهو يتنقل من شعر إلى نثر إلى قصة إلى فكاهة إلى مثل، حتى لا يمل قارئه بحال. ويظهر أنه قد دس عليه بعد وفاته أشياء لم يقلها، وإنما رأى القارئ أشياء حدثت بعد وفاته، فأراد أن يكمل بها الكتاب.
على كل حال انتفع الناس بهذا الكتاب أكثر مما انتفعوا بغيره لخفة روحه، وسهولة مأخذه، وكثرة تنقلاته من باب إلى باب. فكما انتفع الناس بالأمالي، ومؤلفه شرقي رحل إلى الأندلس، انتفعوا بالعقد، ومؤلفه أندلس رحل إلى المشرق.
وقد قلنا من قبل: أن ليس أبو علي أول من بذر البذرة، فقد بذرها العرب والبرابرة فاتحو الأندلس، وإنما أبو علي نماها، ونظم تعليمها، وربما كانت هناك كتب من المشرق تتسرب إلى المغرب، فيأخذ منها الأندلسيون أدبهم، والدليل على ذلك ابن القوطية أبو بكر محمد بن عمر، وسمي ابن القوطية نسبة إلى القوط، وهم الذين غزو الإسبان من قبل؛ لأن أحد أجداده تزوج من أميرة إسبانية بنت ملك من ملوك القوط، كانت ذهبت إلى دمشق، ووفدت على هشام بن عبد الملك متظلمه من عمها، فتزوجت عناك من عربي كان جدا لابن القوطية، وأرسل مع الحملة التي ذهبت لفتح الأندلس.
وكان ابن القوطية هذا عالما كبيرا من علماء العربية، وصحب أبا علي القالي، وقدمه أبو علي إلى الحكم الثاني الخليفة قائلا: إنه علم أهل بلاده. وكان ابن القوطية لغويا كبيرا، ونحويا كبيرا، وشاعرا، ومؤرخا، يفد عليه الناس للاستفادة منه. مات سنة 367ه بعد أن ألف كتاب «الأفعال»، وكتاب «فعلت وأفعلت»،
1
فهذا يدل على أن العلم باللغة والمحو أقدم من القالي، وبالفعل قد روي أن ابن القوطية أخذ العلم باللغة والنحو على رجل يسمى الزبيدي، وآخر يسمي سعيد بن جبير، وهما لا شك معلمان بالأندلس قبل القالي.
وكان ممن تتلمذ لأبي علي القالي أبو بكر الزبيدي، وهو نحوي مشهور، ألف كتاب «مختصر العين»، وألف «أخبار النحويين»،
2
ورتب نحويي الأندلس على طبقات.
على كل حال كان المؤلفون في اللغة والأدب كثيرين، ونعني بالأدب هنا الأدب التأليفي، أما الأدب الإنشائي فسنتكلم عليه في الباب الآتي إن شاء الله.
فمن أشهر من ألف في الأدب من الأندلسيين «الشريشي» الذي شرح مقامات الحريري شرحا لطيفا. وقد انتقلت المقامات من الشرق إلى الأندلس، فأقبل الأندلسيون عليها، وافتتنوا بها، وأثرت فيهم أثرا كبيرا، فمنهم من قلدها ووضع مقامات على نمطها، كالأزدي المتوفى سنة 575ه.
والحق أنه كان شرحا وافيا؛ إذ كان مؤلفه جماعا للفوائد، واسع الاطلاع، وما شرح مقامات الحريري أحد بعده إلا استفاد منه، حتى دوزي في شرحه اعتمد عليه، وقد عرف هذا الكتاب بالدقة في الشرح وامتلائه بالفوائد، واتخاذ المقامات تكأة لرواية الأخبار.
وممن ألف أيضا في اللغة والأدب ابن السيد البطليوسي مؤلف كتاب «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب» لابن قتيبة، كما ألف شروحا على كتب أدبية مختلفة، ومثل البكري الذي ألف كتاب «التنبيه على أغلاط الرواة» وغيرهم. على كل حال نقل هؤلاء وأمثالهم الأدب القديم من دواوين وغير دواوين، وشرحوها وقدموها لأمتهم ، حتى لم يكد يبقى شيء لم يطلعوا عليه.
كما كان من أهم مؤلفي اللغة من الأندلسيين ابن سيده، وهو أبو الحسن علي بن إسماعيل، وكان ضريرا، وكان أبوه على علم باللغة فأخذ عنه، وقد ألف مؤلفات كثيرة لم يبق منها فيما نعلم إلا كتاب «المخصص»
3
في سبعة عشر جزءا، ألفه على حسب المعاني، لا على حسب الألفاظ، فالألفاظ التي تتعلق بالمائدة وما يتصل بها وضعت في مكان واحد، وهي فكرة سبقه إليها الثعالبي في فقه اللغة، ولكن ابن سيده وسعها وجعلها في سبعة عشر جزءا بدل جزء واحد للثعالبي. والظاهر أنه رتب «المخصص» حسب الإنسان وأعضائه وأجزائه، ثم ما يتصل به، الأقرب فالأقرب، ثم كتاب «المحكم والمحيط الأعظم» وهو معجم كبير في اللغة، رتبت فيه الكلمات حسب حروف الحلق، كما فعل الخليل في «العين»، وابن دريد في «الجمهرة»، وقد مات سنة 458ه.
وممن اشتهر في اللغة أيضا الأعلم الشنتمري، وكانت له ميزة أخرى غير جمع اللغة، وهي حفظه لأشعار العرب، وعنايته بضبطها، وقد استفاد منه كثيرون من أهل الأندلس، وكانوا يرحلون إليه، وسمي الأعلم؛ لأنه كان مشقوق الشفة العليا، والشنتمري نسبة إلى شنتمارية مدينة في غربي الأندلس، وقد شرح دواوين كثيرة، ويكاد يكون اختصاصه في ذلك، وتوفي سنة 476ه.
وممن اشتهر من الأندلسيين أبو الحجاج بن يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي، ألف كتابا في جزأين كبيرين وضعه لابنه وسماه «ألف باء»، وهو موسوعة كبيرة، تكلم فيها في الحساب والطبيعة والنبات والحيوان والإنسان وعلم الاجتماع والشريعة والأديان وفقه اللغة ومخارج الحروف والنحو والصرف والشعر والحكايات والأساطير، حتى لو رتب على حسب حروف الهجاء لكان دائرة معارف عجيبة. وقد رحل إلى الشرق ووصف فيه أشياء كثيرة كمنارة الإسكندرية وصفا دقيقا. وعاش من سنة 526ه إلى سنة 603ه.
أما النحو فقد بدأ في الأندلس، كما بدأ في المشرق عبارة عن قطعة مختارة فيها لفظ غريب يشرح، ومشكلة نحوية توضح، على النحو الذي نراه في «أمالي» القالي، و«الكامل» للمبرد، ثم ألفوا نحوا في مسائل جزئية، كما فعل أبو علي القالي نفسه في «فعلت وأفعلت» و«المقصور والممدود»، وكما فعل ابن القوطية في كتابه «الأفعال»، فلما انتقل إلى الأندلس كتاب الكسائي وسيبويه، ألف الأندلسيون في النحو من حيث هو كل يشمل جميع الأبواب، وكان أشهر كتب النحو في أيام ابن حزم تفسير الحوفي لكتاب الكسائي.
وكان من الأندلسيين أبو علي الشلوبيني،
4
وكان إماما في النحو، يجله تلاميذه ويغالون في فضله، ألف كتبا في النحو مثل: كتاب «التوطئة»، ولد بإشبيلية سنة 562ه، وتوفي سنة 645ه.
ونبغ في النحو بعد الشلوبيني نحويان شهيران هما ابن خروف وابن عصفور، ولهما في كتب النحو آراء ينفردان بها، فأما ابن خروف فمن إشبيلية، وكان إمام أهل زمانه في العربية في الأندلس، له شرح على كتاب سيبويه وشرح لكتاب الجمل وغير ذلك من الكتب، وكان إلى علمه أديبا لطيفا كثيرا ما تلاعب باسمه، فكتب مرة لقاضي القضاة يستعفيه من الإشراف على عمل؛ لأن بوابه اسمه السيد وهو الذئب فقال:
مولاي، مولاي أجرني فقد
أصبحت في دار الأسى والحتوف
وليس لي صبر على منزل
بوابه السيد وجدي خروف
ومن شعره اللطيف في صبي مليح:
أقاضي المسلمين حكمت حكما
أتى وجه الزمان به عبوسا
حبست على الدراهم
5
ذا جمال
ولم تحبسه إذ سلب النفوسا
ولما رأى نيل مصر قال فيه:
ما أعجب النيل، وما أحلى شمائله
في ضفتيه من الأشجار أدواح
من جنة الخلد فياض على ترع
تهب فيها هبوب الريح أرواح
6
ليست زيادته ماء كما زعموا
وإنما هي أرزاق وأرواح
ومات سنة 609ه.
وأما ابن عصفور فإشبيلي الأصل أيضا، حمل لواء العربية بالأندلس بعد أستاذه أبي علي الشلوبيني، ودرس العربية في بلاد أندلسية مختلفة، في إشبيلية وشريش ومالقة ولورقة ومرسية، وألف كتبا كثيرة في النحو والصرف، وقد أخذ عليه ابنه أنه كان مستهترا يغشى مجالس الشراب ويتهتك فيها، ومات سنة 669ه.
وجاء بعد ذلك ابن مالك وهو جمال الدين محمد بن عبد الله، ولد ببلدة جيان إحدى مدن الأندلس حوالي سنة 600ه، وأخذ عن نحوييها، وأخذ عن أبي علي الشلوبيني، ثم رحل إلى مصر ودمشق، وأخذ العلوم الشرعية وتبحر فيها، وقد اشتهر شهرة سيبويه. وأهم ميزة ابن مالك أنه ربط قواعد النحو ربطا محكما، وبسطها كما يتجلى ذلك بالنظر في ألفيته وقواعده، والقواعد التي ذكرها سيبويه في كتابه، وقد ألف الألفية. ونالت حظوة كبيرة، حتى حفظها أكثر المتعلمين في الشرق والغرب إلى اليوم، ومن مؤلفاته: الكافية والشافية، والتسهيل، ولامية الأفعال، والمفتاح في أبنية الأفعال، وتحفة الموجود في المقصور والممدود، والأعلام في مثلث الكلام، وإيجاز التعريف بعلم التصريف، ورسالة في المترادفات، والاعتداد في الفرق بين الزاي والصاد، ومنظومة في 49 بيتا في الأفعال الثلاثية المعتلة بالواو أو الياء، نقلها السيوطي في كتابه «المزهر». وقد تتلمذ له كثيرون في الشرق والمغرب، كابن النحاس المصري، والفقيه المشهور النووي، والمحدث المشهور اليونيني، وغيرهم. وقد رزق الحظوة في تآليفه، واستفاد منه كثيرون، ودوى اسمه في الأندلس وفي المشرق، ومات سنة 672ه.
فإن قلنا: إنه نظم نحو سيبويه، ووضحه، وفصله، وقربه إلى الناس، وعممه لم نكن بعيدين عن الصواب، وكان إماما في القراءات وعالما بها، واسع العلم باللغة. قال الصفدي: «أخبرني أبو الثناء محمود قال: ذكر ابن مالك يوما ما انفرد به صاحب المحكم عن الأزهري في اللغة، وهذا أمر معجز؛ لأنه يحتاج إلى معرفة جميع ما في الكتابين»، وكان في النحو والتصريف لا يشق لجه، وكان واسع الاطلاع على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو واللغة، حاضر البديهة في الاستشهاد، وكان مذهبه أن يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهد، استشهد بالحديث، فإن لم يكن استشهد بأشعار العرب. وكان نظم الشعر عليه سهلا، رجزه وطويله، وأكثر من التآليف في أبواب مختلفة، وكان مشهورا بنظم الضوابط التي تسهل الأمور الصعبة على المتعلمين، فينظم مثلا في المقصور والممدود، وفيما ورد بالضاد والظاء، وفي ترتيب خيل السباق، ونحو ذلك. وكان - رحمه الله - كثير المطالعة، سريع المراجعة، لا يكتب شيئا من محفوظه، حتى يراجعه في محله، وقد أخذ عليه أبو حيان «أنه لم يلازم المشايخ، ولم يصحبهم طويلا، وإنما أخذ أكثر علمه من الكتب والاطلاع عليها؛ ولذلك كان ينفر من المنازعة والمباحثة والمراجعة. وهذا شأن من يقرأ بنفسه، ويأخذ العلم من الصحف بفهمه»، مع أنه قرأ على جملة من المشايخ كأبي علي الشلوبيني، وثابت بن خيار.
وربما عد من أكبر علماء النحو في الأندلس أبو حيان الغرناطي، وهو لغوي عربي، ولد من أصل بربري سنة 654ه، وتنقل في البلاد بعد أن تعلم على علماء الأندلس، وكان ظاهريا على مذهب ابن حزم، وكان نحويا مفسرا محدثا شاعرا.
وبلغت مصنفاته في العلوم المختلفة نحو 65 كتابا لم يصلنا منها إلا نحو عشرة، وأهميته أنه كان لغويا بمعنى أنه يعرف لغات كثيرة، فألف كتابا في الفارسية، وآخر في اللغة التركية، والمصنفان موجودان إلى اليوم، وهما عظيما القيمة، كما ألف كتابا في اللغة الحبشية، وتوفي بالقاهرة سنة 745ه، ولكن كما قلنا من قبل: إن هؤلاء النحويين جميعهم كانوا يدورون في فلك سيبويه، فإن اجتهد أحد كابن مالك وأبي حيان، فكالذي نسميه في الفقه اجتهاد مذهب لا اجتهادا مطلقا. فقد وضع الخليل وتلميذه سيبويه بناء في النحو قوي الدعائم لم يسهل هزه ولا نقضه، إنما الذي خرج واجتهد اجتهادا مطلقا هو ابن مضاء الأندلسي القرطبي، وقد كان أيام الموحدين، فقد كان الموحدون هؤلاء مجتهدين، لم يرضوا عن مذاهب الفقه المختلفة. وقد كان عبد المؤمن بن علي الذي يعد المؤسس الحقيقي لدولة الموحدين «مؤثرا لأهل العلم، محبا لهم، محسنا إليهم، يستدعيهم من البلاد إلى الكون عنده، والجوار بحضرته، ويجري عليهم الأرزاق الواسعة، ويظهر التنويه بهم والإعظام»، ويقول فيه بعضهم: «إنه كان فقيها عالما بالأصول والجدل والحديث، مشاركا في كثير من العلوم الدينية والدنيوية».
وكان من بعده من أبنائه متعلمين تعلما واسعا، وحسب هذه الدولة فخرا أنها أنجبت ابن طفيل، وابن زهر، وابن رشد، إذ أفسحت صدرها للفلسفة. يقول ابن خلكان في أحد ملوك الموحدين: «إنه أمر برفض فروع الفقه، كما أمر الفقهاء بألا يفتوا إلا بالكتاب والسنة ، ولا يقلدون أحدا من الأئمة المجتهدين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم»، وأمر بإحراق كتب المذاهب، والآراء تعدى، فلما شرع الاجتهاد في الفقه، ظهر مجتهد يريد هدم كتاب سيبويه، كما اجتهد قوم في هدم المذاهب الأربعة، ووضع مذهب جديد في النحو. فالفلسفة تحرر العقول، والأخذ بالكتاب والسنة يعطل المذاهب، وابن مضاء يريد أن يهدم مذهب سيبويه، وألف في ذلك ثلاثة كتب: المشرق في النحو، وتنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان، والرد على النحاة. وفي هذه الكتب الثلاثة على ما يظهر رد على نحو سيبيويه وأنصاره، والنظر إلى نحو جديد.
لقد كان نحو سيبويه مبنيا على نظرية العامل، فلا يرفع فاعل إلا بعامل، ولا تنصب كلمة إلا بعامل، ولا تجر إلا بعامل، فإن لم يكن العامل ظاهرا، فهو عامل مؤول، فنادى ابن مضاء بأن الذي يصنع الظواهر النحوية في الكلمات من رفع ونصب وجر، إنما هو المتكلم نفسه، لا ما يزعمه النحاة من الأفعال وما شاكلها، وقد أشار ابن جني في الخصائص إلى هذه النظرية، ولكن ابن مضاء وسعها وأوضحها. وقد جرت النحويين نظرية العامل وتأويله إن كان محذوفا إلى علل وأقيسة، وأحيانا تكون مقبولة، وأحيانا تكون غير مقبولة. وكان يريد ابن مضاء إنشاء نحو جديد على أساس جديد، ولكن يكفيه فخرا أنه هدم وإن لم يبن، فكان النحو محتاجا إلى يد جديدة، تبني بناء جديدا بعد هدم القديم. وفي كتابه الذي نشر حديثا ما يشير إلى أحجار قيمة توضع في البناء الجديد، ولكن مع الأسف كانت دعوته إلى نحو جديد، كدعوة أبي نواس في الشرق إلى شعر جديد، فكلتاهما كتبت ولم تتحقق.
على كل حال كان ابن مضاء داعيا دعوة جديدة، متأثرا فيها بالدعوة إلى اجتهاد الفقهاء، كما أنه متأثر بمذهب الظاهرية، فنظريات العوامل تحتاج إلى تأويل كبير، والظاهرين أكثر ما يكرهون التأويل، وقد أسس كتابه هذا «الرد على النحاة»
7
بعد قراءة طويلة في النحو، فقد قرأ كتاب سيبويه، وشرح السيرافي عليه ... وهو يرى أن الناس ضلوا بالنحو القديم ، باتباعهم نظرية العامل فيقول: «قصدي من هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه، وأنبه على ما أجمع على الخطأ فيه، فمن ذلك دعاؤهم أن النصب والخفض والجزم لا تكون إلا بعامل لفظي ... فقالوا في ضرب زيد عمرا: إن الرفع الذي في زيد، والنصب الذي في عمرو، إنما أحدثه ضرب، وذلك بين الفساد. وقد صرح بخلاف ذلك ابن جني وغيره ... وفي الحقيقة ومحصول الحديث أن العمل من الرفع والنصب والجر والجزم، إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره». وقال: «ربما ظن شخص أن معاني هذه العوامل هي العاملة، ويرد ذلك بأن العامل أو الفاعل إما أن يفعل بإرادة كالإنسان والحيوان، وإما أن يفعل بالطبع كما تحرق النار، ويبرد الماء، والعامل في النحو ليس فاعلا بالإرادة ولا بالطبع. وإذا فتصور النحاة له بأنه عامل أو فاعل تصور واهم».
ويبين سخف النحويين في تأويل عامل إذا لم يوجد، فيقول: «إن النحويين يقولون في يا عبد الله: أدعو عبد الله، مع أن المعنيين مختلفان، فأدعو عبد الله جملة خبرية، ويا عبد الله جملة إنشائية، ويقولون في:
إذا السماء انشقت (الانشقاق: 1)، إذا انشقت السماء انشقت، وهو كلام واهم». ويقول في موضع آخر: «إن إجماع النحاة على ذلك ليس حجة علينا، مهما اتفق البصريون والكوفيون على ذلك». ويهاجم فكرة الضمائر المستترة، فإن النحاة يقولون في مثل زيد ضارب عمرا: إن في ضارب ضميرا مستترا تقديره هو فاعل. ويقول: إن ضارب تدل على الصفة وصاحبها، فلا داعي للتأويل. كما هاجم العلل النحوية غير العلة الأولى، فإذا قلت: إن الفاعل مرفوع فهذه هي العلة الأولى وقد أقرها، أما أنه مرفوع؛ لأنه عمدة فقد رفضه ابن مضاء. ومن الأسف أن الناس لم يأخذوا بقوله، وعادوا سريعا إلى نحو سيبويه.
وابن مضاء هذا رجل عظيم النسب، عظيم المنصب، فقد كان قاضي القضاة في عهد الموحدين، وكان عظيم الجاه عندهم، فهو وحده الذي ثار على نحو المشرق كما ثار كثير غيره على فقه المشرق.
ويطول بنا القول لو ترجمنا لنحويي الأندلس واحدا فواحدا، وأنت إذا قرأت كتاب «بغية الوعاة في أخبار النحاة» وجدت في كل صفحة تقريبا واحدا فأكثر من نحاة الأندلس: فلنكتف بما ذكرنا.
هوامش
الفصل الرابع
الحركة الأدبية
الشعر والنثر
نريد بالحركة الأدبية مظاهر الأدب الإنشائي
1
من شعر ونثر، وقصص ونحو ذلك. ونلاحظ في الحركة الأدبية ما يأتي: (1)
أن الثقافة الأدبية في الأندلس كانت تكاد تكون عامة بين المثقفين، فلا نكاد نقرأ ترجمة لفقيه، أو أمير، أو متصوف، إلا نجد له شعرا، البيتين أو المقطوعتين أو أكثر. (2)
ما وضع العرب أرجلهم في الأندلس حتى صبغوها بالصبغة العربية، ونقلوا معيشتها إلى معيشة عربية في عاداتها وتقاليدها، ومن ذلك أدبها. فالعربي حيثما حل ذكر أوطانه، وحن إليها. وكانت السنون الأولى بعد الفتح سني دهشة وتخمر، فالبلاد غريبة عن العرب، والمناظر مختلفة عن مناظر الصحراء، وعادات البلاد وتقاليدها تختلف عن عادات الصحراء وتقاليدها، فهم يحتاجون إلى زمن يتأقلمون فيه لمواجهة هذه الحالة الجديدة؛ ولذلك نراهم لم يقولوا الشعر كثيرا كما كانوا يقولونه في جزيرة العرب، أو في الشام، شأنهم في ذلك شأن العرب الفاتحين لمصر، فقد رأى الفاتحون من العرب النيل، وهو يفوق ألف مرة غدرانهم، والأهرام التي تفضل ألف مرة خيامهم ومساكنهم، وشاهدوا الوديان الخضراء، والمراعي الخصبة، والمياه المتدفقة. وكل ذلك كان حريا أن ينتج أدبا غزيرا، وشعرا كثيرا، ولكنهم لم يفعلوا، وقلما نجد شعرا روي عنهم في العصر الأول للفتح، بل إن الشعر الذي روي كان يأتي على ألسنة الوفود الذين يأتون مصر من الخارج لعبد العزيز بن مروان وأمثاله، وهو أمر غريب حقا في الأندلس ومصر، حتى ظننت أن العربي أول أمره لا يشعر إلا في بيئته.
على كل حال نجد في العصور الأولى في الأندلس قبل عبد الرحمن الداخل شعرا قليلا، وأدبا شحيحا، تقتضيه المناسبات، أو المسامرات، أو تحرك العواطف تحركا وقتيا لسبب من الأسباب.
مثل ذلك ما روي عن طارق بن زياد فاتح الأندلس أنه قال:
ركبنا سفينا بالمجاز معبرا
عسى أن يكون الله منا قد اشترى
نفوسا وأموالا وأهلا بجنة
إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسرا
ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا
إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا
ومثل ما روي عن عبد الرحمن الداخل، وقد رأى نخلة وحيدة منفردة، فقال:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت: شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن في المنتأى الذي
يسح ويستمري السماكين بالوجل
وقول الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل:
رأيت صدوع الأرض بالسيف راقعا
وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا
فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة
أبادرها مستنضي السيف دارعا
تنبئك أني لم أكن في قراعهم
بوان، وقدما كنت بالسيف قارعا
وأني إذ حادوا جزاعا من الردى
فلم أك ذا حيد من الموت جازعا
حميت ذماري فانتهبت ذمارهم
ومن لا يحامي ظل خزيان ضارعا
ولما تساقينا سجال حروبنا
سقيتهم سما من الموت ناقعا
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم
فوافوا منايا قدرت ومصارعا
فهاك بلادي إنني قد تركتها
مهادا ولم أترك عليها منازعا
ومثل قول الأمير عبد الله بن عبد الرحمن بن الحكم:
ويلي على شادن كحيل
في مثله يخلع العذار
كأنما وجنتاه ورد
خالطه النور والبهار
قضيب بان إذا تثنى
يدير طرفا به احورار
فصفو ودي عليه وقف
ما اطرد الليل والنهار
ومثل قول زرياب:
علقتها ريحانة
هيفاء عاطرة نضيره
بين السمينة والهزي
لة والطويلة والقصيره
لله أيام لنا
سلفت على دير المطيره
لا عيب فيها للمتي
م غير أن كانت يسيره
وقول عبد الرحمن الناصر:
كيف وأنى لمن يناجي
من لوعة الشوق ما أناجي
يطمع أن يستريح وقتا
أو يقتل الراح بالمزاج
كنت كما علمت ألهو
إذ أنا مما شكوت ناجي
فصرت للعين في علاج
طم وأربى على العلاج
الورد مما يزيد حزني
ويبعث السوسن اهتياجي
لا ترج ما أردت شيئا
أو يأذن الهم بانفراج ... إلخ إلخ.
ولم نعثر فيما قرأنا على أديب يتخصص للأدب في هذه الفترة؛ خصوصا وأن هذه الأيام الأولى كانت أيام فتن واضطرابات بين العرب والبربر الفاتحين، والإسبان المفتوحين، بل وبين العرب أنفسهم؛ فهذا عدناني يتعصب لعدنانيته، وهذا قحطاني يتعصب لقحطانيته، وهذا بينه وبين الوالي عداوة شخصية فينتهز الفرصة فيقتله وهكذا، وهؤلاء لا يمكن تأريخ أدبهم. (3)
من الصعب أن نطبق ما ذهبنا إليه من قبل من تدرج «الحركة الدينية واللغوية والنحوية» على الأدب وتطورها تطورا منطقيا، فإن الأدب في ظاهره لا يخضع لهذا القانون، فقد يأتي قرن ينبغ فيه أدباء وشعراء كثيرون بارزون لأسباب مختلفة، ثم يعقبه قرن خمود يخلو من الأدب البارز، ثم يعقبه أدب غزير، ونبوغ عظيم، تعمل في ذلك عوامل كثيرة، وعبقريات لا تعرف كيف نضجت ولا كيف نبغت؛ فأولى بنا أن نخضع لهذا القانون، ونكتفي بذكر الأدباء من ناثرين وشاعرين، ونبين قيمة أدب كل منهم مع عرض شيء من مختاراتهم نبرهن بها على ما نقول. ولنترك الأدباء الذين يتخذون أدبهم على هامش فقههم أو علمهم أو نحوهم، ولنكتف بذكر من غلب عليه الأدب فكان حرفته ووظيفته والظاهرة العظمى في حياته. (1) الشعر والشعراء
نلاحظ أن العالم الإسلامي كله من أندلس ومصر وشام وعراق ... إلخ، كان أشبه ما يكون بجسم موصل جيد للكهرباء، فما تملأ جزءا منه بشحنة كهربائية حتى تسري في الجسم كله ويتأثر بها.
كان الشعر الجاهلي يمتاز بصدق العاطفة وجزالة التعبير، والاقتصار على مشاهدات ما عندهم من جمل وصحراء وجبال ووديان وغدران ... إلخ، وكانت لهم تقاليد مرعية في الشعر من البدء بالغزل، والبكاء على الأطلال، ثم الانتقال منه إلى الغرض الذي يقصد إليه الشاعر من مديح ونحوه، واستمر ذلك في العصر الإسلامي الأول، فكان هذا الوضع أكبر مؤثر للعرب الفاتحين للأندلس إذا قالوا الشعر؛ لأن هذا كل ما وصل إليهم، ثم تطور الشعر آخر الدولة الأموية لغزل عمر بن أبي ربيعة، وخمريات الوليد بن يزيد، فانتقل ذلك أيضا إليهم، فلما جاء العصر العباسي تطورت الحياة الاجتماعية وتطور معها الشعر، فهذا بشار بن برد يعد مجددا، وأهم معنى للتجديد أنه أقلم الشعر بالبيئة الاجتماعية مثل قوله:
عسر النساء إلى مياسرة ... ... ... إلخ
وقوله هو، أو أبي نواس، يصب الكأس ومقدار ما فيها من الخمر، ومقدار ما يصف فيها من الماء إلى نحو ذلك؛ وجاء أبو نواس فملأ الجو غزلا بالمذكر، وتحليلا دقيقا للخمر وتشبياتها، وشاربيها وندمائها، وغير ذلك. ثم جاء أبو تمام فأفرط في البديع، وجاء المتنبي فملأ شعره جزالة وقوة بدوية، وتقييدا للحروب الصليبية، وحلى شعره بالحكمة إلى غير ذلك. ثم جاء مثل أبي العلاء فقال في معايب زمنه وأهله، من ملوك وأمراء وقضاة، ونساء ووعاظ ومنجمين، ونحو ذلك. وجاء مثل ابن حجاج وابن سكرة فملأوا أشعارهم بالهزل والمجون والسخرية إلى غير ذلك كل هذا انتقل إلى الأندلس بسرعة الشرارة الكهربائية، فكان مثلا لهم يحتذونه ويسيرون على منواله.
ونلاحظ أن الشعر العربي جميعه كان أدبا رومانتيكيا، أو كما يقولون شعرا غنائيا، ونعني بالرومانتيكية أنها تعنى بالخيالات الواسعة والعواطف الهائجة، والألفاظ الجميلة أكثر مما تعنى بالأفكار الذهنية العميقة، والمعاني الدقيقة. والشعر العربي أيضا له تقاليد خاصة من التزام لبحور لا تتجاوز ستة عشر، وقافية تلتزم في كل القصيدة، وموضوعات خاصة من مديح ونسيب ورثاء إلى غير ذلك مما يظهر من الأبواب التي وضعها أبو تمام، واختار شعر العرب على وفقها في كتابه الحماسة.
فانتقل كل ذلك إلى الأندلس وكان عمادهم في شعرهم، ولكن الأندلس بلاد الإسبان من قديم، وهم كانوا يقولون الشعر متأثرين باللاتينية وبالآداب اليونانية والرومانية، ولها منحى آخر غير منحى العرب، فلما امتزج العرب بالإسبان - إذ كان الأولون يتزوجون من الآخرين، وأنتج هذا الامتزاج مولدين، فيهم أثر من الدم العربي وأثر من الدم الإسباني؛ وخير مثل لذلك الوالي عبد العزيز بن موسى بن نصير، فقد تزوج أميرة من الأمراء الإسبانيين، وأيضا لما امتزج العرب بالإسبان بالسكنى والمعاملة والاشتراك في البيئة الطبيعية والاجتماعية - ظهر ذلك في الشعر، كما ظهر في المولدين، فكنت ترى شعرا أندلسيا شرقي النسيج، ولكن فيه خيوط دقيقة إسبانية ، ويحتاج تحليل هذا وذاك إلى حس مرهف، ونظر دقيق، ومعلومات واسعة. وأيا ما كان، فشعراء الأندلس في نظرنا لم يفلحوا كثيرا في استقلالهم عن الشرق، وابتكارهم، وتجديدهم، كما لم يفلح في ذلك اللغويون، والنحويون والصرفيون.
ولذلك لو أغمضنا أعيننا وجهلنا قائل القصيدة أهو شرقي أم أندلسي، لم نكد نحكم حكما صحيحا جازما على الشاعر أغربي هو أم شرقي؛ ولذلك كثيرا ما تنسب بعض الأبيات إلى أندلسي، وينسبها بعينها بعضهم إلى مشرقي، لعدم التميز الواضح، حتى عند الخبراء. وربما كان مصداق ذلك ما حكي أن الشاعر الأندلسي الملقب بالغزال، وجد في بغداد في جماعة من المثقفين، فأنشدهم شعرا لنفسه، وادعى أنه لأبي نواس لعظم قدر أبي نواس عندهم، فصدقوه، ثم قال لهم: إنها لي، ولو كانت شخصية الأندلس واضحة في شعر أهلها، لصعب نسبة أبيات أندلسية إلى شاعر شرقي؛ غاية ما عندهم من فروق: (1)
أن الطبيعة الأندلسية الجميلة مكنتهم من أن يقولوا كثيرا في شعر الطبيعة. وهذا لم يكن معدوما في المشرق، فإن الصنوبري مثلا وهو الشاعر الحلبي خلف لنا ديوانا كله تقريبا في ذلك. (2)
أن لهم أحيانا أخيلة ذهنية ولعبا بالمعاني يكاد يكون خاصا بهم، وقد يفوقون فيها المشارقة. وهذا ما أولعوا به كل الولع، حتى إنه لما وقفوا على شعر المتنبي لم يقلدوه في قوة معانيه، وبديع حكمه، وقوة شاعريته، وثورة نفسه، إنما أخذوا منه أسلوبه، وفخامة تعبيراته، وعمق خيالاته، كما فعل ابن هانئ الأندلسي. فنحن نأسف إذ نرى الأندلسيين اقتصروا على أوزان الشرق، وموضوعات الشعر في الشرق، واتخذوا أخيلة الشرق أساسا، ومعانيه دعامة، فالمديح هو المديح، والغزل هو الغزل، وشعر الزهد هو شعر الزهد. وكان الأمل أن يبتكروا غير هذا؛ خصوصا وأن بيئتهم أغنى، واتصالهم بالعالم الأوربي غير اتصال المشارقة بالعالم الفارسي أو الهندي أو التركي. فما بالهم اتخذوا نفس القوالب، وصبوا فيها عصارة ذهنهم، وبديع خيالاتهم. وعندنا أنهم لو تحرروا من ذلك؛ لأتوا بالعجب في القصة، في القصائد غير الموحدة الأبيات، في ترتيب الأبيات ترتيبا منطقيا حسب المعاني، في الاعتماد على وحي النفس أكثر من الاعتماد على العادات المألوفة، والتقاليد الموروثة، حتى لنرى مادح الناصر كمادح الرشيد، وتشبيب ابن عبد ربه، كتشبيب أبي نواس، وحتى نرى في الشرق والغرب شاعرا يعرف أن ممدوحه ظالم للرعية، نهاب لأموالها، سفاك لدمائها، ثم يمدحه بالعدل والجود وأصالة الرأي نظير نفحة من المال ينفحه بها. والأمثلة على ذلك كثيرة هنا وهناك. (3)
انفراد الأندلسيين في ابتكار الموشحات والأزجال، خضوعا لحكم الظروف، وسيأتي توضيح ذلك عند الكلام في الموشحات، وأيضا استكثارهم من المقطعات التي تصف أشياء كثيرة كوصف العاصفة، وبركة فيها سلاحف، وباذنجان، وجمال الخال، وفرس أصفر، ورداء أحمر، ووصف الليل، وغلام خياط، ووصف معركة، وملابس حداد، وقوس، ونهر، ومشهد حب، ومجلس شراب ... إلخ؛ مما يطول ذكره.
ونحن لا نستطيع أن نترجم لكل شاعر لأنهم كثيرون، وقلما يخلو مترجم له من شعر، سواء كان أميرا، أو وزيرا، أو قاضيا، أو عينا من الأعيان. فلنكتف بذكر من شهر بالشعر، وتخصص له، وعرف به.
وربما كان من طليعة الشعراء الذين احترفوا الشعر يحيى الغزال، ولقب بالغزال لحسن شكله؛ ولذلك ضبطناه بهذا الضبط، وكانوا يلقبونه بشاعر الأندلس، وقد رأينا هذا اللقب منح لكثير من الشعراء؛ فابن شهيد شاعر الأندلس، والرمادي شاعر الأندلس، ويحيى الغزال شاعر الأندلس، وتعليل ذلك، إما أن أصحاب التراجم كانوا يفرطون في منح هذا اللقب فيطلقونه على كثيرين، ناسين في كل واحد ما قالوه في مواضع أخرى، وأما أنهم أرادوا به شاعر الأندلس في وقته. فالغزال شاعر الأندلس في وقته، وابن شهيد في وقته، وهكذا. أو أن كلمة شاعر الأندلس لا يراد بها شاعر الأندلس الأوحد، كما يتبادر إلى الذهن، ولكن تدل على أن صاحبها شاعر أندلسي كبير.
وكان يعرف الغزال إلى جانب شعره بأنه حكيم، ومعنى حكيم أنه يحسن التصرف في الأمور، وفي الكلام، وإذا فوجئ بكلام خطير، عرف كيف يرد عليه، ويخلص من المأزق، ولهذه الخصلة كان سفيرا لخلفاء الأندلس لدى بعض الدول الأجنبية، سفر لخمسة من الخلفاء الأمويين، أولهم عبد الرحمن الثاني، وآخرهم محمد بن عبد الرحمن بن الحكم. وفي ذلك يقول:
أدركت بالمضر ملوكا أربعه
وخامسا هذا الذي نحن معه
ويظهر أنه وقع عليه الاختيار ليكون سفيرا لاتصافه بجملة صفات؛ منها حسن الشكل، ومنها حضور البديهة، ومنها صواب الرأي. وأشهر سفارته كانت في أيام عبد الرحمن الأوسط وهو عبد الرحمن بن الحكم، ففي أيامه سفر لملك الروم، ويظهر أنه ملك القسطنطينية، ونراه سفر مرة أخرى عند ملك الدانمرك، ذلك أنه خرج في عهد النرمانيين، بعض أهل النرويج، في مراكب كثيرة على شكل قرصنة ، وغزوا شواطئ الأندلس، حتى وصلوا جليقية، فتصدى لهم ملك أشتوريش هو وقومه وأحرقوا لهم - كما يقول ابن عذارى في تاريخه - سبعين سفينة، فهربوا وساروا بحذاء الساحل الغربي للأندلس، وظهروا أمام إشبونة، فكتب عامل عبد الرحمن الأوسط إليه يقول له: إن أربعة وخمسين مركبا من مراكب المجوس ظهرت على الساحل. فكتب إليه عبد الرحمن بالتحفظ، ولكن أهل إشبونة لم ينتظروا، بل حاربوهم، وهزموهم، وأرغموهم على العودة بسفنهم.
وعلى العموم فقد أوقعوا الرعب في غرب الأندلس بكثرة قتلهم، ونهبهم، وسلبهم، وإحراقهم، وقد كانوا سببا في إنشاء عبد الرحمن أسطولا كبيرا ليدفع أذاهم، وأخيرا وبعد حروب طويلة، وبعد أن قتل منهم كثيرون طلبوا الصلح، فأجابهم عبد الرحمن إلى ذلك، وأرسل الغزال هذا سفيرا لهذا السبب إلى ملك الدانمرك. ويظهر أن الغزال وصحبه لاقوا عناء شديدا من البحر، فقد هاج بهم. وقد وصف الغزال هذا الهياج بقوله:
قال لي صحبي وصرنا
بين موج كالجبال
وتولتنا رياح
من دبور وشمال
شقت القلعين وانبت
ت عر ىتلك الحبال
وتمطى ملك المو
ت إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأي ال
عين حالا بعد حال
لم يكن للقوم فينا
يا رفيقي رأس مال
ولكنه على كل حال وصل سالما، وقد تلقاهم ملك الدانمرك لقاء حسنا، وأنزلهم منزلة كرامة، وقابلهم بعد يومين، واشترط الغزال ألا يسجد له، وأن لا يخرجه عن شيء من عاداته، فأجابه إلى ذلك. وقد حمل معه كتابا من الأمير عبد الرحمن وهدية. وتقول المصادر العربية: إنه أغرم بحب امرأة الملك وهي أغرمت بحبه، وأنه قال فيها الأبيات التي نذكرها فيما يأتي، وكان الغزال مع كهولته وسيما جميلا. «وقد سمى النرمانيين مجوسا؛ لأنهم كانوا مجوسا قبل أن يتنصروا». ويقولون: إنه لما أنشدها شعره سرت منه لما ترجم لها، وأمرته بالخضاب ففعل. ثم عاد بعد أن نجح في سفارته. ولم نعرف أحدا سفر إلى هذه الجهات إلا ما كان من يحيى الغزال.
وعمر ما شاء الله طويلا، فعاش إلى أربع وتسعين سنة، كان يقول فيها الشعر، ويظهر أنه مع حكمته كان غزلا، ولوعا بالنساء والخمر، يقول فيهما الشعر مع فكاهة لطيفة، كقوله في الهجاء:
سألت في النوم أبي آدما
فقلت والقلب به وامق
أبنك بالله أبو حازم
صلى عليك الملك الخالق
وكقوله في مقابر الأغنياء والفقراء مما فيه حكمة:
أرى أهل اليسار إذا توفوا
بنوا تلك المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا
على الفقراء حتى في القبور
فإن يكن التفاضل في دراها
فإن العدل فيها في القعور
رضيت بمن تأنق في بناء
فبالغ فيه، تصريف الدهور
ألما يبصروا ما خربته الده
ور من المدائن والقصور
لعمر أبيهم لو أبصروها
لما عرفوا الغني من الفقير
ولا عرفوا العبيد من الموالي
ولا عرفوا الإناث من الذكور
ولا من كان يلبس ثوب صوف
من البدن المباشر للحرير
إذا أكل الثرى هذا وهذا
فما فضل الكبير على الحقير؟ •••
لا ومن أعمل المطايا إليه
كل من يرتجي إليه نصيبا
ما أرى ها هنا من الناس إلا
ثعلبا يطلب الدجاج وديبا
أو شيئا بالقط ألقى بعيني
ه إلى فارة يريد الوثوبا •••
قالت: أحبك قلت: كاذبة
غري بذا من ليس ينتقد
هذا كلام لست أقبله
الشيخ ليس يحبه أحد
سيان قولك ذا وقولك إنم
الريح نعقدها فتنعقد
أو أن تقولي: النار باردة
أو أن تقولي الماء يتقد
فهذا شعر يظهر فيه أثر ما اتصف به من الحكمة. أما ما يظهر فيه أثر لهوه فقوله:
ولما رأيت الشرب أكدت سماؤهم
تأبطت زقي واحتسبت عنائي
فلما أتيت الحان ناديت ربها
فثاب خفيف الروح نحو ندائي
فليل هجوع العين إلا تعلة
على وجل مني ومن نظرائي
فقلت: أذقنيها، فلما أذاقها
طرحت عليه ربطتي وردائي
وقلت: أعرني بذلة أستتر بها
بذلت فيها طلاق نسائي
فوالله ما برت يميني ولا وفت
له غير أني ضامن بوفائي
فأبت إلى صحبي ولم أك آيبا
فكل يفديني وحق فدائي
ويروى أنه لما سافر إلى بغداد وجدهم يعجبون جدا بشعر أبي نواس، ولا يعجبهم غيره من أهل الأندلس، فنسب هذه القصيدة إلى أبي نواس، وأسمعهم إياها، فأعجبوا بها ثم عرفهم أنها له، وهي التي تقدمت في قوله:
ولما رأيت الشرب أكدت سماؤهم.
والحق أنهم خدعوا أنفسهم بالإعجاب بها، إعجابهم بشعر أبي نواس؛ لأنها أقل قيمة من شعره. وكم خدع الناس بالأسماء، ولما سافر إلى ملك الدانمرك - كما ذكرنا - استملح الملكة فأعجب بها وأعجبت به.
2
وكان اسمها: تودا. وقال في ذلك:
كلفت يا قلبي هوى متعبا
غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسية
تأبى لشمس الحسن أن تغربا
3
أقصى بلاد الله في حيث لا
يلقي إليه ذاهب مذهبا
يا تود يا رود الشباب التي
تطلع من أزرارها الكوكبا
يا بأبي الشخص الذي لا أرى
أحلى على قلبي ولا أعذبا
إن قلت يوما: إن عيني رأت
مشبهه لم أعد أن أكذبا
قالت: أرى فوديه قد نورا
دعابة توجب أن أدعبا
قلت لها: ما باله إنه
قد ينتج المهر كذا أشهبا
فاستضحكت عجبا بقولي لها
وإنما قلت لكي تعجبا
ويريد بالمجوسية النصرانية، وقال فيها:
بكرت تحسن لي سواد خضابي
فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف
إلا كشمس جللت بضباب
تخفى قليلا ثم يقشعها الصبا
فيصير ما سترت به لذهاب
لا تنكري وضح المشيب، فإنما
هو زهرة الأفهام والألباب
وله:
كم جفاني ورمت أدعو عليه
فتوقفت ثم ناديت قائل
لا شفى الله لحظه من سقام
وأراني عذاره وهو سائل
ويقول في الخسوف:
شأن الخسوف البدر بعد جماله
فكأنه ماء عليه غثاء
أو مثل مرآة لخود قد قضت
نظرا بها، فعلا الجلاء غشاء
وله من قصيدة عتاب:
ولقد كسبت بكم علا لكنها
صارت بأقوال الوشاة هباء
فغدوت من بين الصحابة أجربا
كل يحاذر مني الأعداء
لو لم يكن قيد لما فتكت ظبا
أنت الذي سيرتهم أعداء ... إلخ.
أحبابنا عودوا علينا عودة
ما منكم بعد التفرق مرغب
كم ذا أداريكم بنفسي جاهدا
وكأنما أرضيكم كي تغضبوا
وأريد بعدا ما اقتربت إليكم
كالسهم أبعد ما يرى إذ يقرب
وأجوب نحوكم المنازل جاهدا
ومع اجتهادي فاتني ما أطلب
كالبدر أقطع منزلا في منزل
فإذا انتهيت إلى ذراكم أغرب •••
أنا شاعر أهوى التخلي دون ما
زوج لكيما تخلص الأفكار
لو كنت ذا زوج لكنت منغصا
في كل حين رزقها أمتار
كم قائل: قد ضاع شرخ شبابه
ما ضيعته بطالة وعقار
إذ لم أزل في العلم أجهد دائما
حتى تأتت هذه الأفكار
مهما أرم من دون زوج لم أكن
كلا ورزقي دائما مدرار
وإذا خرجت لنزهة هنيتها
لا ضيعة ضاعت ولا تذكار
وهي تدلنا على أنه لم يكن متزوجا على الأقل إلى إنشاء هذه القصيدة، وأنه صرف وقته في تحصيل العلم وتحصيل اللذة:
ما كنت أحب أن أضيع وأنت في الد
نيا وأن أمسي غريبا معسرا
أنا مثل سهم سوف يرجع بعدما
أقصاه راميه المجيد ليخبرا ... إلخ، وقوله:
يا واطئ النرجس ما تستحي
أن تطأ الأعين بالأرجل؟
هذا عرض صغير لشعره، ونرى فيه أنه يمتاز ببعد الخيال، وحسن التشبيه، وأنه صادق التعبير عن نفسه، يلون كثيرا من شعره بالحكمة اللطيفة.
وعلى كل حال، فليس شعره إعجازا، بل إرهاصا لابن عبد ربه، ومن بعده. (1-1) ابن عبد ربه
هو شاعر عبد الرحمن الناصر، وقد ذكرنا ترجمته فيما سبق،
4
والذي يهمنا هنا هو أدبه الإنشائي، ومن الأسف أننا لم نعثر له على ديوان، وكل ما نعرف له أبيات في كتب الأدب هنا وهناك، وأبيات في عقده من نظمه عارض بها من حكى لهم، فقال مثلا:
أنت دائي وفي يديك دوائي
يا شفائي من الجوى وبلائي
إن قلبي بحب من لا أسمي
في غناء، أعظم به من غناء
كيف لا، كيف أن ألذ بعيش
مات صبري به، ومات عزائي
أيها اللائمون ماذا عليكم
أن تعيشوا، وأن أموت بدائي
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
ويقول:
ما لليلى تبدلت
بعدنا ود غيرنا
أرهقتنا ملامة
بعد إيضاح عذرنا
وقال في فتاة أخرى:
ذات دل وشاحها قلق
من خمور وحجلها شرق
بزت الشمس نورها وحباها
لحظ عينيه شادن خرق
ذهب خدها يذوب حياء
وسوى ذاك كله ورق
ويقول:
ودعتني بزفرة واعتناق
ثم نادت: متى يكون التلاقي
وتصدت فأشرق الصبح منها
بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم
بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أفظع يوم
ليتني مت قبل يوم الفراق
ويقول:
هيج العين دواعي سقمي
وكسا جسمي ثوب الألم
أيها البين أقلني مرة
فإذا عدت فقد حل دمي
يا خلي الذرع نم في غبطة
إن من فارقته لم ينم
ولقد هاج لقلبي سقما
ذكر من لو شاء داوى سقمي
ويقول معارضا قصيدة مسلم بن الوليد:
أديرا علي الراح لا تشربا قبلي
أتقتلني ظلما، وتجحدني قتلي؟
وقد قام من عينيك لي شاهدا عدل
أطلاب ذحلي ليس بي غير شادن
بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلي
5
أغار على قلبي فلما أتيته
أطالبه فيه أغار على عقلي
بنفسي التي ضنت برد سلامها
ولو سألت قتلي وهبت لها قتلي
إذا جئتها صدت حياء بوجهها
فيعجبني هجر ألذ من الوصل
وإن حكمت جارت علي بحكمها
ولكن ذاك الجور أشهى من العدل
كتمت الهوى جهدي، فحرده الأسى
بماء البكاء، هذا يخط، وذا يملي
وأحببت فيها العذل حبا لذكرها
فلا شيء أشهى في فؤادي من العذل
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى
إذا ما أتيت العز فاصبر على الذل
برأيك لا رأيي تعرضت للهوى
وأمرك لا أمري، وفعلك لا فعلي
وجدت الهوى نصلا من الموت مغمدا
فجردته، ثم اتكيت على النصل
فإن تك مقتولا على غير ريبة
فأنت الذي عرضت نفسك للقتل
وقد أعجب هو نفسه بهذه القصيدة فقال في العقد: «فمن نظر في سهولة هذا الشعر، مع بديع معناه، ورقة طبعه، لم يفضل شعر مسلم عنده إلا بفضل التقدم».
ويقول:
أعطيته ما سألا
حكمته لو عدلا
وهبته روحي فما
أدري به ما فعلا؟
أسلمته في يده
عيشه أم قتلا؟
قلبي به في شغل
لا مل ذاك الشغلا
قيده الحب كما
قيد راع جملا
وقال:
لعمري لقد باعدت غير مباعدي
كما أنني قربت غير مقربي
بنفسي بدر أخمد البدر نوره
وشمس متى تبدو إلى الشمس تغرب
لو ان امرأ القيس بن حجر بدت له
لما قال: مرا بي على أم جندب
وقال:
محب طوى كشحا على الزفرات
وإنسان عين خاض في غمرات
فيا من بعينيه سقامي وصحتي
ومن في يديه ميتتي وحياتي
بحبك عاشرت الهموم صبابة
كأني لها ترب وهن لداتي
فخدي أرض للدموع ومقلتي
سماء لها تنهل بالعبرات •••
أدعو عليك فلا دعاء يسمع
يا من يضر بناظريه وينفع
للورد حين ليس يطلع دونه
والورد عندك كل حين يطلع
لم تنصدع كبدي عليك لضعفها
لكنها ذابت فما تتصدع
من لي بأجرد ما يبين لسانه
خجلا، وسيف جفونه ما يقلع
منع الكلام سوى إشارة مقلة
منها يكلمني وعنها يسمع •••
بزمام الهوى أمت إليه
وبحكم العقار أقضي عليه
بأبي من زها علي بوجه
كاد يدمي لما نظرت إليه
ناول الكاس واستمال بلحظ
فسقتني عيناه قبل يديه
وله في أبواب الشعر التقليدية الأخرى الشيء الكثير من مديح وهجاء ووصف ورثاء، فيقول في الهجاء:
ما بال بابك محروسا ببواب
يحميه من طارق يأتي ومنتاب
لا يحتجب وجهك الممقوت عن أحد
فالمقت يحجبه من غير حجاب
فاعزل عن الباب من قد ظل يحجبه
فإن وجهك طلسم على الباب
وكان كثيرا ما يمزج الهجاء بالسخرية:
رجاء دون أقربه السحاب
ووعد مثل ما لمع السراب
ودهر سادت العبدان فيه
وعاثت في جوانبه الذئاب
وأيام خلت من كل خير
ودنيا قد تدرعها الكلاب
كلاب لو سألتهم ترابا
لقالوا: عندنا انقطع التراب
وفي الوصف يقول في روضة:
وروضة عقدت أيدي الربيع بها
نورا بنور، وتزويجا بتزويج
بملقح من سواديها وملقحة
وناتج من غواديها ومنتوج
توشحت بملاة غير ملحمة
من نورها ورداء غير منسوج
فألبست خلل الموشي زهرتها
وجللتها بأنماط الديابيج
وقال يمدح القائد أبا العباس:
الله جرد للندى والباس
سيفا فقلده أبا العباس
ملك إذا استقبلت عرة وجهه
قبض الرجاء إليك روح الياس
وبه عليك من الحياء سكينة
ومحبة تجري مع الأنفاس
وإذا أحب الله يوما عبده
ألقى عليه محبة للناس
ويمدح آخر بأنه سهل اللفظ، حسن الكلام، وهو يدل على رأيه في البلاغة:
قول كأن فرنده
شحذ على ذهن اللبيب
لا يشمئز على اللسا
ن ولا يشذ على القلوب
لم يغل في شنع اللغا
ت ولا يوحش بالغريب
سيف تقلد مثله
عطف القضيب على القضيب
هذا تحز به الرقا
ب وذا تحز به الخطوب
وله شعر كثير في مدح عبد الرحمن الناصر؛ إذ كان شاعره، مثل:
يا ابن الخلائف إن المزن لو علمت
نداك ما كان منها الماء ثجاجا
والحرب لو علمت بأسا تصول به
ما هيجت من جبال الدين أهياجا
في نصف شهر تركت الأرض ساكنة
من بعد ما كان فيها الطير قد ماجا
وجدت في الخبر المأثور منصلتا
من الخلائف خراجا وولاجا
تملا بك الأرض عدلا مثلما ملئت
جورا، وتوضح للمعروف منهاجا
يا بدر ظلمتها، يا شمس صبحتها
يا ليث حومتها، إن هائج هاجا
إن الخلافة لن ترضى ولا رضيت
حتى عقدت لها في رأسك التاجا
ويقول في مدحه أيضا:
بدا الهلال جديدا
والملك غض جديد
يا نعمة الله زيدي
إن كان فيه مزيد •••
يا ابن الخلائف والعلا للمعتلي
والجود يعرف فضله للمفضل
نوهت بالخلفاء بل أهملتهم
حتى كأن نبيلهم لم ينبل
أذكرت، لا أنسيت ما ذكر الألى
من فعلهم فكأنه لم يفعل
وأتيت آخرهم وشأوك فائت
للآخرين ومدرك للأول
الآن سميت الخلافة باسمها
كالبدر يقرن بالسماك الأعزل
تأبى فعالك أن تقر لآخر
منهم وجودك أن يكون لأول
وله أرجوزة في مدح الخليفة الناصر أيضا وقعت في نحو أربعمائة وخمسين بيتا وصف فيها حروبه وغزواته، وتاريخ كل غزوة، وهي تخالف الملاحم القديمة كالإلياذة، بأنها أشبه ما تكون بالتاريخ المنظوم، ليس فيها خيال ولا افتخار، ولا شيء من ذلك، مثل قوله:
وبعدها غزاة ثنتي عشره
وكم بها من خبرة وعبره
غزا الإمام حوله كتائب
كالبدر محفوفا به الكواكب
وفي أولها يقول:
فالحمد لله على نعمائه
حمدا كثيرا وعلى آلائه
يا ملكا ذلت له الملوك
ليس له في ملكه شريك
ثبت لعبد الله حسن نيته
واعطفه بالفضل على رعيته
وقد جاء بعده من الأندلسيين أيضا أبو طالب عبد الجبار فنظم أرجوزة خيرا من أرجوزته، إذ كانت أطول وأشمل، وليست مجرد سرد لحوادث، بل مزجت بمعلومات كثيرة، فيها مثلا الأدلة على وجود الله، والحث على التفكر في العالم، والكلام على بدء الخليقة وسير الخلفاء الأربعة، وبني أمية، وبني أمية في الأندلس، وملوك الطوائف، ودولة المرابطين، بدأها بقوله:
أبدأ باسم الله في الترجيز
رب الأنام الملك العزيز
ثم بذكر المصطفى محمد
صلى عليه الله طول الأبد
وبعده:
والحمد لمبتدع السماء
والأرض ذي الآلاء والنعماء
سبحانه من خالق جبار
يعلم ما في البر والبحار
ويقول في التفكر في الملكوت:
يا من يجيل فكره للعبره
في كل موضوع له بالفكره
انظر إلى الموات والنبات
والحيوان نظر استثبات
كيف ترى التكوين فيها مائلا
ينبيك أن لقواها فاعلا
يؤلف الأربعة العناصرا
يمنع من أضدادها التنافرا
فإذا وصل إلى أبي بكر مثلا قال:
فاستخلف الصديق ثاني اثنين
ذاك أبو بكر بغير مين
جرد في جهاد أهل الردة
ولم يكن يرضى بغير الشدة
ثم توفاه الإله راضيا
وكان في ذات الإله ماضيا
إلى أن يقول في المرابطين:
فإذا أراد الله نصر الدين
استصرخ الناس ابن تاشفين
فجاءهم كالصبح في إثر غسق
مستدركا لما تبقى من رمق
وافى أبو يعقوب كالعقاب
فجرد السيف عن القراب
ووصل السير إلى الزلاقه
وساقه ليومها ما ساقه
لله در مثلها من وقعة
قامت بنصر الدين يوم الجمعة
وهي أرجوزة طويلة أقرب إلى الملحمة من أرجوزة ابن عبد ربه، وقد أثبتها كلها ابن بسام في الذخيرة.
ومن شعر ابن عبد ربه أنه أحب فعزم محبوبه على الرحيل، فأتت السماء بمطر جود حال بينه وبين السفر فقال:
هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر
هيهات يأبى عليك الله والقدر
ما زلت أبكي حذار البين ملتهفا
حتى رثا لي فيك الريح والمطر
يا بردة من حيا مزن على كبد
نيرانها بقليل الشوق تستعر
آليت ألا أرى شمسا ولا قمرا
حتى أراك، فأنت الشمس والقمر
وقد حكى أنه وقف تحت روشن لبعض الرؤساء، وقد سمع غناء حسنا، فرش بماء، فمال إلى مسجد قريب وطلب بعض ألواح الصبيان فكتب فيها:
يا من يضن بصوت الطائر الغرد
ما كنت أحسب هذا البخل في أحد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة
أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد
فلا تضن على سمعي تقلده
صوتا يجول مجال الروح في الجسد
لو كان زرياب حيا ثم أسمعه
لذاب من حسد أو مات من كمد
أما النبيذ فإني لست أشربه
ولست آتيك إلا كسرتي بيدي
وقد كان له أشعار كثيرة سماها الممحصات؛ لأنه نقض فيها كل قطعة قالها في الصبا والغزل بقطعة في المواعظ والزهد، فقال: إنه محصها بها؛ كالتوبة منه، والندم عليها، فمثلا محص القطعة الرائية التي مضت ومطلعها: هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر ... إلخ برائية أخرى قال فيها:
يا قادرا ليس يعفو حين يقتدر
ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عاين بقلبك إن العين غافلة
عن الحقيقة واعلم أنها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا زفرت
للظالمين فلا تبقي ولا تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة
لكان فيه عن اللذات مزدجر
إن الذين اشتروا دنيا بآخرة
وشقوة بنعيم، ساء ما تجروا
أنت المقول له ما قلت مبتدئا «هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر؟»
ومن شعره السائر قوله:
الجسم في بلد والروح في بلد
يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد
إن تبك عينك لي يا من كلفت به
من رحمة فهما سهمان في كبدي
وقد عمر حتى بلغ الثانية والثمانين فقال:
كلاني لما بي عاذلي كفاني
طويت زماني برهة وطواني
بليت وأبلتني الليالي بكرها
وصرفان للأيام معتوران
وما لي لا أبلى لسبعين حجة
وعشر أتت من بعدها سنتان
فلا تسألاني عن تباريح علتي
ودونكما مني الذي ترياني
وإني بحمد الله راج لفضله
ولي من ضمان الله خير ضمان
ولست أبالي من تباريح علتي
إذا كان عقلي باقيا ولساني
هما ما هما في كل حال تلم بي
فذا صارمي فيها وذاك سناني
وقد ذكر المؤرخون أنه مات في تلك السنة عن إحدى وثمانين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام. وقد حكى الحميدي أنه رأى شعره مجموعا في نيف وعشرين جزءا جمع للحكم بن عبد الرحمن الناصر.
ويظهر أنه كان في شبابه ماجنا لاهيا شاربا غزلا، فلما كبرت سنه زهد، وأصبح إمامه في الشعر ليس صريع الغواني مسلم بن الوليد في غزلياته، ولا أبا نواس في خمرياته، إنما إمامه أبو العتاهية في زهده وورعه، وخوفه وتقواه، فيقول مثلا:
بادر إلى التوبة الخلصاء مبتدئا
والموت ويحك لم يمدد إليك يدا
وارقب من الله وعدا ليس يخلفه
لا بد لله من إنجار ما وعدا •••
يا ويلنا من موقف ما به
أخوف من أن يعدل الحاكم
أبارز الله بعصيانه
وليس لي من دونه راحم
يا رب غفرانك عن مذنب
أسرف إلا أنه نادم •••
أتلهو بين باطية وزير
وأنت من الهلاك على شفير
فيا من غره أمل طويل
يؤديه إلى أجل قصير
أتفرح والمنية كل يوم
تريك مكان قبرك في القبور
هي الدنيا فإن سرتك يوما
فإن الحزن عاقبة السرور
ستسلب كل ما جمعت منها
كعارية ترد إلى المعير
وتعتاض اليقين من التظني
ودار الحق من دار الغرور
وله جملة من الشعر في العقد وفي يتيمة الدهر، وفي تاريخ ابن الفرضي، فنراه في شعره مقيدا نفسه بموضوعات الشعر الشرقية، لا يخرج عنها ، وببحور الشعر المأثورة وقوافيه، لا يخرج عنها أيضا، ونراه يعارض المشارقة ويسير في ركابهم، ويجتهد ما استطاع أن يأخذ معانيهم، ويزيد عليها، ويختار في كل نوع من الشعر إماما من المشارقة، فطورا إمامه الغواني، وطورا أبو نواس، وطورا أبو العتاهية وغيرهم. لم يتحرر تحررا كافيا، ولم يصغ إلى قلبه فقط، وقد روي أن له شيئا جديدا عن المشرق، هي موشحاته، ولكنه أيضا يقلد فيه من سبقه من الوشاحين الأندلسيين، ولعل له شعرا يستقل فيه بنفسه لم يصل إلينا، إذ كان له - كما يقولون - ديوان كبير يتألف من أجزاء. فحكمنا الذي نصدره على ما بين أيدينا حكم ناقص، يحتاج إلى استقصاء أكثر، أما ما بين أيدينا، فشعره العاطفي من غزل وزهد وهجاء، شعر جيد العاطفة، قوي الخيال، رصين الأسلوب، وإن كان يسقط أحيانا في بعض أساليبه، وبعض ألفاظه، فكلمة مقلة بدل عين ليست كلمة شعرية، وبعض الكلمات فسرت قسرا على أن تكمل القافية، ومعانيه لطيفة جيدة؛ أما كلامه في المديح، فمتكلف ليس فيه عاطفة، إنما هو صادر عن رغبة في عرض من أعراض الدنيا، وأرجوزته ليست بذات خطر شعري، وأظن أننا لو عددناه من الطبقة الثانية في الشعراء أجمعين، لم نعد الصواب، ونعني بالطبقات تقسيم الشعراء حسب الجودة، لا حسب التواريخ، وأجودهم أعلاهم، وأيا ما كان، فقد أفسح المجال لمن يأتي بعده، أن يحتذي أو يفوق عليه.
كان الغزال وابن عبد ربه من شعراء الدولة الأموية في الأندلس، وغيرهم من شعرائها كثير.
استمر حكم الأمويين في الأندلس، ما استقامت أمورهم، وحكمها في أول أمرها خلفاء عظماء، مثل: عبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، والحكم، وأمثالهم، ولكن خلف من بعدهم خلف ضعيفو النفوس، ينغمسون في الشهوات، ففسد أمرهم. وأخذت الدولة الأموية في الضعة، وعمل على ذلك عوامل كثيرة؛ منها ما كان يوقعه الخلفاء وعمالهم على الناس من مظالم، ومنها أن الدولة الأموية في الأندلس عملت ما عمله الخلفاء في بغداد، هؤلاء اعتمدوا على الأتراك وملكوهم كل سلطة، فكانوا وبالا عليهم، وهؤلاء الأندلسيون اعتمدوا على الصقالبة، وهي كلمة تجمع أسرى الحروب من الإفرنج، وما كان يأخذه القراصنة من الأهالي الأوربيين، فكان هؤلاء بعد حين قوة كبيرة في الدولة تعيث في الأرض فسادا، ومنها أن عنصر البربر كان متعبا، يتحين الفرصة دائما للوثوب على الدولة، والرغبة في الاستقلال ... يضاف إلى ذلك أن النصارى في إسبانيا وفرنسا كانوا ينظرون إلى المسلمين من عرب وبربر على أنهم أعداء دين، وغزاة فاتحون، ودخلاء غاصبون، فما يحس قوم منهم بقوة إلا ويهجمون على المسلمين حيثما استطاعوا، فيقلقون راحتهم؛ وكل ذلك أضعف الدولة من غير شك.
وزاد الطين بلة أن ولي آخر الأمر هشام بن الحكم، وكان طفلا في نحو العاشرة من عمره، بويع بالخلافة، وعينت أمه «صبح» وصية عليه، وهي نصرانية نافارية، ذات شخصية قوية، استطاعت أن تبسط سلطانها على زوجها الحكم، وتتدخل في شئون الدولة، مع قوته وعظمته، فلما وجدت ابنها هشاما طفلا صغيرا، أعلى ذلك من شأن سلطانها بمعاونة صاحبها جعفر المصحفي، ولكن سرعان ما ظهر في الأفق رجل اسمه محمد بن عبد الله بن أبي عامر، من أصل عربي قح، كان جده من العرب الوافدين على الأندلس مع طارق بن زياد.
درس ابن أبي عامر هذا دراسة واسعة على نمط الدراسات في الأندلس، واتخذته «صبح» هذه كاتبا لها أول الأمر، قبل وفاة زوجها الحكم، وعين في بعض الأوقات رئيسا للزكاة وللمواريث، ثم توثقت الصلة بينه وبين «صبح» وتمكن في قلبها، وتمكنت في قلبه، فعينته حاجبا - أي: رئيس وزارة - وأطلقت يده في الحكم، فتسلم كل أعمال الخلافة، وحجر على هشام، فلم يسمح له إلا باللهو واللعب، ومغازلة النساء، حتى ينهار، ولكن لغط الناس كثيرا، فهم قد ألفوا البيت الأموي وأطاعوه قرونا، والناس عبيد الإلف لا يرضون أن يغيروا من استعبدهم، ولو ظلمهم. فعمل المنصور بن أبي عامر كثيرا في إغداق الأموال، وقتل منافسيه أو تشريدهم، وتنظيم الجيش، عن عرب وبربر، حتى جند فرقة من النصارى، وسيرهم في محاربة أهل دينهم، ووضع خطة جديدة، وهي أنه لا ينتظر الإسبان ليهاجموا البلاد، بل يبدأ هو بالهجوم، واتخذ سمة الملك، وضربت باسمه النقود، ودعي له على المنابر، وأمر أن يحيا تحية الملوك، ووفقه الله في الحروب، فانتصر في نحو خمسين غزوة. ومن غير شك إذا غضضنا النظر عن ألاعيبه مع «صبح» وحجره على الخليفة، واختيار الخلافة لنفسه، رأينا أنه رجلا عظيما، استطاع أن يتغلب على كل العقبات، وساس البلاد نحو عشرين سنة.
وقد سقنا هذه الأحداث التاريخية؛ لأنها كانت ذات أثر فعال في الشعر، فالخلافة الأموية لما ضعفت ضعف الشعر، كضعفه لما ضعفت الدولة العباسية، فلما جاءت الدولة العامرية، ورأت أن تستعين بالشعراء في تحويل أنظار الشعب عن الملوك الأمويين، والاعتماد عليهم في تحسين سمعتهم، وتمجيد ذكرهم، خصوصا وقد أغدق عليهم ابن أبي عامر المال الجزيل - علا شأن الشعر بعد ضعفه، وقد روي أنه كان يستعين بالشعراء في إعلاء شأنه، ويأخذ معه طائفة منهم في غزواته. فعاد شأن الشعر رفيعا كما كان في عهد الدولة الأموية أيام عزها، ورأينا أمثال ابن شهيد، وابن حزم، وابن دراج - وحكى المقري أن الشعراء اجتمعوا مرة لمديح المنصور، وكان فيهم الرمادي الشاعر الكبير فأعطاه، ثم سأله: كيف عطائي لك؟ قال الرمادي: «أعطيتني فوق قدري ودون قدرك». فغضب المنصور، فلما خرج الرمادي، كان في المجلس من يحسده على مكانه، فوقع فيه، وعابه، فنهره المنصور، وأحقه فيما قال، وقال: والله لو حكمته في بيوت الأموال لرأيت أنها لا ترجع ما تكلم به ذرة، وأنبه على ذلك، ثم أمر أن يرد الرمادي وطلب منه أن يعيد ما قال، وزاد في عطائه، والتفت إلى العائبين عليه، وقال: العجب من قوم يقولون: الابتعاد عن الشعراء أولى من الاقتراب. نعم، ذلك لمن ليس له مفاخر يريد تخليدها، ولا أياد يرغب في نشرها، فأين الذي قيل فيه:
إنما الدنيا أبو دلف
بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف
ولت الدنيا على أثره
لقد كان في الإسلام أكرم منه، ولكن خلدته الأمداح، وخصته بمفاخر عصره.
6
قال في المعجب: «إن المنصور بن أبي عامر كان يعقد طول أيام مملكته في كل أسبوع مجلسا، يجتمع فيه أهل العلم للمناظرة بحضرته، ما كان مقيما بقرطبة، وكان كثير الغزوات، وملأ الأندلس غناء، وسبيا من بنات الروم وأولادهم ونسائهم، وفي أيامه غالى الناس بالأندلس فيما يجهزون به بناتهم من الثياب والحلي والدروع، وذلك لرخص أثمان بنات الروم، فكان الناس يرغبون في بناتهم بما يجهزونهن به مما ذكرنا، ولولا ذلك لم يتزوج أحد حرة؛ بلغني أنه نودي على ابنة عظيم من عظماء الروم بقرطبة، وكانت ذات جمال رائع، فلم تساو أكثر من عشرين دينارا».
7
وقد روى لنا في موضع آخر مثلا من أمثلة هذه المناظرات، فقال مثلا: «إن أبا العلاء صاعدا سأل جماعة من أهل الأدب في مجلس المنصور بن أبي عامر عن قول الشماخ:
دار الفتاة التي كنا نقول لها
يا ظبية عطلا حسانة الجيد
تدني الحمامة منها وهي لاهية
من يانع المرد قنوان العناقيد
ما هي الحمامة؟ قالوا: هي الحمامة تنزل على غصن الأراكة أو الكرمة، فتنفضه، فتتمكن الظبية منه فترعاه، فأنكر ذلك عليهم صاعد وقال: إن الحمامة في هذا البيت هي المرأة، وهي اسم من أسمائها، فأراد أن هذه الجارية المشبهة بالظبية، إذا نظرت في المرآة أدنت المرآة من شعرها الذي هو كقنون العناقيد من يانع الكرم أو المرد فرأته»، وهذا يعطينا مثلا من أمثلة ما كان يجري في مجلس ابن أبي عامر من المناظرات.
ولما مات المنصور تولى الإمارة من بعده ابنه إلى باقي أسرته، وسميت دولتهم الدولة العامرية.
ومع كل ما تقدم ظل قوم طول مدة دولتهم يدبرون المكائد لإسقاط العامريين وإعادة الأمويين؛ ولذلك كانت أكبر تهمة يتهم بها الرجل أعداءه عند المنصور وأولاده، أنه أموي، أو أن له ميلا أمويا، أو أنه يعمل مع المتآمرين لإرجاع الدولة الأموية، وأخيرا رجعت الدولة الأموية إلى حين، ولكن لم تدم طويلا.
وإتماما لهذا نقول: إنه أثناء هذه الفتن في قرطبة، وإشبيلية كان هناك رجل اسمه «ابن جهور» لم يدخل في فتن الناس، فلفت أنظارهم فساروا إليه، يطلبون توليته قرطبة، فرفض أولا، ثم قبل على شرط أن يكون حوله مجلسا شوريا لا يقطع أمرا دونه. وسار سيرا عادلا، وكسر دنان الخمر، وغسل يده من مال الدولة، فوكل عليه من يحفظه، وظل في مسكنه، ولم يرض أن ينتقل إلى مساكن الخلفاء قبله، ورفع المظالم عن الناس، وكلما ورد عليه طلب خاص حوله على مجلس الشورى للنظر فيه، وحسن العلاقة بينه وبين الممالك المجاورة، وظل هو الآخر يخشى من الدسائس التي تريد عودة البيت الأموي.
وفي هذا العهد تفرقت الأندلس بعد الخلافة الأموية والدولة العامرية، وتفرق أهلها شيعا، وقام في كل ناحية أمير دولة، وسمي هذا العهد لأجل ذلك «عهد ملوك الطوائف». قال ابن حزم: «كانت طرطوشة وسرقسطة ولاردة في يد بني هود، وبلنسية في يد عبد العزيز، والثغر - أي: ما فوق طليطلة من جهة الشمال - في يد بني زرين، وطليطلة في يد ذي النون، وقرطبة في أيدي أبناء جهور، وإشبيلية في يد بني عباد، ومالقة والجزيرة الخضراء في يد بني برزال من البربر، ودانيه والجزائر الشرقية في يد مجاهد العامري، وبطليوس ولشبونة وشنترين في يد بني الأفطس».
وكل هذه الأحداث والاضطرابات والفتن كان لها دخل كبير في سيرة الشعراء الذين سنتكلم عنهم، كابن دراج القسطلي، وابن شهيد، وابن حزم، وابن زيدون. وسنلقى في سيرهم كلهم أحداثا وأشعارا، لا نستطيع أن نفهمها إلا بفهمنا هذا الوضع السياسي. (1-2) ابن دراج القسطلي
هو أبو عمر أحمد بن محمد، ولد سنة 347ه ومات سنة 421ه، يعد من كبار شعراء الأندلس، أو أكبر شاعر في عصره. وقد قال تلميذه ابن حزم: «إنه في المغرب، كالمتنبي في المشرق». واشتهرت هذه الجملة، فكانت على لسان كل من ترجم له. ووصل شعره إلى المشرق، فمدحه الثعالبي في اليتيمة وقال هذا القول.
والحق أنه كان هناك بذور في الأندلس مشرقية مختلفة الأنواع، فأخذ كل شاعر أندلسي البذرة التي تناسبه، وامتصت من نفسه كل ما يناسبها، هذا يألف شعر أبي نواس فيقلده، وهذا يألف شعر المتنبي فيحاكيه، وهذا يألف شعر العباس بن الأحنف فيتشبه به. وكان ابن دراج هذا على رأس أربعين شاعرا تقريبا يمدحون المنصور بن أبي عامر، ويأخذهم معه في غزواته، فكان أيضا ممن مدحه، وكان في ديوان الإنشاء له، وشعره تقريبا كله أو أكثره فيما وصل إلينا مديح ابن دراج المنصور ومن بعده ومن بعده، وهذا أيضا وجه شبه آخر، وهو من أصل بربري، ولد في قسطلة من أعمال البرتغال.
وكان للمنصور بن أبي عامر مجلس تتبارى فيه الشعراء، فكان هو من أعظمهم، وإن شئت فقل: أعظمهم، وكما حسد المتنبي حسد هو، واتهموه بأنه سراق لمعاني غيره، فرد عليهم بقدرته على الارتجال فيما يقترح عليه. ومن أحسن قصائده قصيدة قالها عند فتح المنصور «شنتياقوب»، وقد مدحها مدحا كبيرا ابن حزم.
وبعد موت المنصور بن أبي عامر كان شاعر البلاط لابنه المظفر، وبسقوط الدولة العامرية اتصل ببقايا الدولة الأموية التي عادت من بعد، ثم رأيناه يذهب إلى بلنسية، ثم سرقسطة، ويمدح أميرها المنذر بن يحيى الذي آواه وأكرمه، وبقي عنده حتى مات؛ ومدحه أيضا ابن خلدون في مقدمته، وعده من كبار أدباء الأندلس. والحق أن شعره كما سترى يشبه شعر المتنبي في المظهر دون المخبر، فشعر المتنبي في مظهره أسلوب فخم قوي، تسمعه كأنه قعقعة سلاح، ومكنته قدرته على أن يأتي بألفاظ جزلة، وأساليب عربية يستطيع أن يرغمها على التقديم والتأخير، والذكر والحذف ... إلخ. ولكم لم يكن لابن دراج قوة المتنبي في المعاني الذهنية الدقيقة، ولا حكمه الرفيعة، إنما هو تلميذ المتنبي في فخامة شكله. وهي مدرسة كان على رأسها ابن دراج، ومن تلاميذها ابن شهيد، وابن هانئ، وقد قال المعري في ابن هانئ: «إن شعر ابن هانئ يشبه رحى تطحن قرونا» أي: أنه قعقعة ولا طحن، أو طحن من غير جدوى.
وفي الحقيقة أنك إذا قرأت شعر هؤلاء الثلاثة أدركت أن شعرهم من رأسهم، على حين أنك تشعر أن شعر الغزال وابن زيدون الذي سيأتي بعد وأمثالهما من قبلهم لا من رأسهم. وفرق بين الصوت القوي الأقرع الذي يخرج من الرأس، وبين الصوت الحنون الذي يخرج من القلب. ومن السهل تقسيم الشعر الأندلسي، بل والشعر العربي عامة إلى مدارس: فهؤلاء الثلاثة مدرسة، وابن عبد ربه والغزال وابن زيدون مدرسة أخرى.
وقد روي أن لابن دراج ديوانا من جزأين ولكن مع الأسف لم يصل إلينا، وقد روى لنا صاحب نفح الطيب قطعتين في المديح، وشاد بذكرهما، أولاهما:
ألم تعلمي أن الثواء هو التوى
8
وأن بيوت العاجزين قبور
وأن خطيرات المهالك ضمن
لراكبها أن الجزاء خطير
تخوفني طول السفار وإنه
بتقبيل كف العامري جدير
مجير الهدى والدين من كل ملحد
وليس عليه للضلال مجير
تلاقت عليه من تميم ويعرب
شموس تلاقى في العلا ويدور
هم يستقلون الحياة لراغب
ويستصغرون الخطب وهو كبير
ولما توافوا للسلام ورفعت
عن الشمس في أفق الشروق ستور
وقد قام من زرق الأسنة دونها
صفوف ومن بيض السيوف سطور
رأوا طاعة الرحمن كيف اعتزازها
وآيات صنع الله كيف تنير
وكيف استوى بالبر والبحر مجلس
وقام بعبء الراسيات سرير
فجاءوا عجالا والقلوب خوافق
وولوا بطاء والنواظر صور
يقولون والإجلال يخرس ألسنا
وحارت عيون ملئها وصدور
لقد حاط أعلام الهدى بك حائط
وقدر فيك المكرمات قدير •••
قالت وقد مزج الفراق مدامعا
بمدامع وترائبا بترائب
أتفرق حتى بمنزل غربة
أم نحن للأيام نهبة ناهب
ولئن جنيت عليك نزحة راحل
فأنا الزعيم لها بفرحة آيب
هل أبصرت عيناك بدرا طالعا
في الأفق إلا من هلال غارب
قال ابن شهيد وهو من هو: «الفرق بين ابن دراج وغيره، أن ابن دراج مطبوع النظام، شديد أسر الكلام، زاد في أشعاره من الدليل على العلم بالخبر واللغة والمثل، وما تراه من حوكه للكلام، وملكه لأحرار الألفاظ، وسعة صدره، وجيشة بحره، وصحة قدرته على البديع، وطول طلقه في الوصف، وبغيته للمعنى وترديده، وتلاعبه به وتكريره، وراحته بما يتعب الناس، وسعة نفسه فيما يضيق الأنفاس».
ومن شدة متابعته للمتنبي أنه رأى المتنبي يمدح ابن العميد فيقول:
من مبلغ الأعراب أني بعدها
جالست رسطاليس والإسكندرا
ولقيت بطليموس دارس كتبه
متبديا في ملكه متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا
فقال ابن دراج:
أبني لا تذهب بنفسك حسرة
عن غول رحلي منجدا أو مغورا
فلئن تركت الليل فوقي داجيا
فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا
وحللت أرضا بدلت حصباؤها
ذهبا يرف لناظري وجوهرا
ولتعلم الأملاك أني بعدها
ألفيت «كل الصيد في جوف الفرا»
ورمى علي رداءه من دونهم
ملك تخير للعلا فتخيرا
كلا وقد أنست من هود هدى
ولقيت يغرب في القيول وحميرا
وأصبت في سبأ مورث ملكها
يسبي الملوك ولا يدب له الضرا
فكأنما تابعت تبع رافعا
أعلامه ملكا يدين له الورى
وحططت رحلي بين ناري حاتم
أيام يقري موسرا أو معسرا
وأتيت نجدك وهو يرفع منبرا
للدين والدنيا ويخفض منبرا
تلك البدور تتابعت وخلفتها
سعيا فكنت الجوهر المتخيرا
فترى من هذا محاكاته للمتنبي في الوزن والقافية، وتقليده له في أسلوبه ومعانيه، وقد وصف الأسطول وصفا لطيفا إذ قال:
إليك شحنا الفلك تهوي كأنها
وقد ذعرت من مغرب الشمس غربان
على لجج خضر إذا هبت الصبا
ترامى بنا فيها ثبير وثهلان
موائل ترغى في ذراها موائلا
كما عبدت في الجاهلية أوثان
يرددن في الأحشاء حر مصائب
تزيد ظلاما ليلها وهي نيران
إذا غيض ماء البحر منها مددنه
بدمع عيون تمتريهن أشجان
وإن سكنت عنها الرياح جرى بها
زفير إلى ذكرى الأحبة حنان
يقلن وموج البحر والهم والدجى
تموج بما فيها عيون وآذان
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا
سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان؟ ... إلخ.
وحتى هذا الوصف الجميل للأسطول إنما ورد أثناء مدحه للأمير، وكذلك وصفه لأشياء أخرى، فهو قد جنى على نفسه بتوجيهها إلى المديح فقط، والمديح غالبا لا ينبع من القلب وإنما ينبع من غريزة الطمع؛ وحتى الأسطول والإشادة به، كان أولى أن يشاد بعظمته، لا أنه من نتاج أمير؛ بل لأنه دليل على عظمة الأمة وقوتها، واعتزازها بأدوات القتال المتنوعة.
9 (1-3) ابن هانئ الأندلسي
يلقب بابن هانئ الأندلسي تمييزا له عن ابن هانئ المشرق وهو أبو نواس، وقد ولد في قرية من قرى إشبيلية بالأندلس نحو سنة 320ه، وعده بعضهم أشعر شعراء الأندلس من المتقدمين والمتاخرين، وقال عليه: إنه متنبي المغرب، وهو من أصل أزدي يمني، حتى قالوا: إنه من نسل المهلب بن أبي صفرة، وهو كذلك أزدي؛ ولذلك توصف قصائده بأنها أزدية يمنية. اتصل بصاحب إشبيلية أول أمره فأكرمه، وأقام معه زمانا، ثم غضب الناس عليه لاتهامهم إياه بالفلسفة، ويظهر ذلك من مزجه الدعوة الفاطمية في شعره بشيء من التفلسف، وكانت الفلسفة في جوه مكروهة. والظاهر أنهم نقموا عليه دعوته الفاطمية، وهم ذوو نزعة أموية، وتعددت نقمتهم عليه إلى ملك إشبيلية فأشار عليه بالمغيب عن البلدة مدة ينسى فيها خبره، فخرج إلى المغرب، ولقي القائد جوهرا، ومدحه فأعطاه مائتي درهم، فاستقلها.
وأخيرا بلغت مقدرته الشعرية المعز لدين الله فاتح مصر، فبالغ في إكرامه، ورأى أنه إن فتح مصر احتاج إليه كثيرا في مدحه وإعلاء شأنه، كما يحتاج الفاتحون عادة إلى الجرائد، فأكرمه إكراما عظيما، وأهدى إليه تحفا كثيرة، وأقام له قصرا في القيروان، ودعاه إلى أن يسافر معه في فتح مصر، فطلب أن يتخلف قليلا حتى يعدل أمره، ويصطحب أهله، فلما وصل إلى برقة أضافه شخص من أهلها، ثم عربدوا عليه فقتلوه وهو سكران، وقيل: إنه وجد في ساقية من سواقي برقة مقتولا. ويظهر أن دعاة الأمويين خافوا من دعوته الشيعية الفاطمية، وكرهوا ذلك منه فقتلوه، وذلك سنة 362ه، فيكون عمره إذ ذاك نحو اثنتين وأربعين سنة.
وقد أجمع المؤرخون على أنه من فحول الشعراء، قال ابن الخطيب: «كان ابن هانئ من فحول الشعراء، لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، مع المشاركة في العلوم». وقال ابن شرف: «إنه نجدي الكلام، سردي النظام، وإذا ظهرت معانيه في جزالة مبانيه، رمى بها عن منجنيق لا يؤثر في النفيق. وله غزل معدي
10
لا عذري ... كان في دينه في أسفل منزلة، ولو عقل ما ضاقت عليه معاني الشعر ، حتى يستعين عليه بالكفر». ويقول ابن رشيق في تعداد أصناف الشعراء: «وفرقة أصحاب جلبة وقعقعة بلا طائل معنى، إلا القليل النادر، كأبي القاسم ابن هانئ ومن جرى مجراه، فإنه يقول أول مذهبته:
أصاخت فقالت: وقع أجرد شيظم
وشامت فقالت: لمع أبيض مخذم
وما ذعرت إلا بجرس حليها
ولا رمقت إلا برى في مخدم
11
وليس تحت هذا كله إلا الفساد وخلاف المراد. وما الذي يفيدنا أن تكون هذه المنسوب بها لبست حليها فتوهمته بعد الإصاخة والرمق وقع فرس، أو لمع سيف».
والحق أن شعره فخم ضخم مملوء بالقعقعة، جاهلي الأسلوب، يشبه في ذلك المتنبي، غير أن المتنبي أدق معنى، وابن هانئ أطول نفسا. وسميت قصيدته هذه مذهبة؛ لأنه أنشأها على نحو معلقة عنترة، وكانت المعلقات تسمى المذهبات. وقال فيه فون كريمر الألماني: «إنه قوي البيان، كثير التمثيل، جيد الألفاظ، حسن الوصف، لا يقدر على مسايرته في هذا الوصف إلا القليل». وأكثر شعره في مدح الفاطميين، وإشاعة محامدهم، ومن قرأه شعره يرى أنه فيه خصائص: (1)
أن من فهم كلامه بعد التعب، تلذذ من شعره، وأعجب بفنه. (2)
طول نفسه، فهو يتعرض للمعنى حتى يصفيه، شأن ابن الرومي لولا كثرة غريبه. (3)
عنايته بالمقابلة بين الشطر الأول، والشطر الثاني في كثير من أبياته مثل قوله:
ففي ناظري عن سواكم عمى
وفي أذني عن سواكم صمم
ولا كل ما في أكف ندى
ولا كل ما أنوف شمم
فما فارق البشر لما اكفهر
ولا نسي العفو لما انتقم (4)
شبه شعره بالشعر الجاهلي في القوة، ومتانة السبك، وقدرة استخدام الألفاظ، وبساطة المعاني عند فهمها. (5)
اتصال شعره اتصالا كبيرا بالدين، إذ كانت دعوته فاطمية فكان متأثرا بتعاليمهم، معتمدا نشرها بين قرائه. ويقع أحيانا على معان كثيرة عرض لها المتنبي، فمثلا يقول المتنبي:
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام
ويقول ابن هانئ:
وكل أناة في المواطن سؤدد
ولا كأناة من قدير محكم
ويقول ابن هانئ:
وإذا خامر الهوى قلب صب
فعليه لكل عين دليل
ويقول ابن هانئ :
ألم يبد سر الحب أن من الضنا
رقيبا وإن لم يهتك السر هاتك؟
ويقول المتنبي:
يكاد من صحة العزيمة ما
يفعل قبل الفعال ينفعل
ويقول ابن هانئ:
عرفت في كل صنع الله عارفة
فما تهم بأمر غير منفعل
والقارئ لديوانه يرى تعالم الشيعة مبثوثة فيه، فشروط الدعوة والإمام المعصوم، وحقه في الخلافة، وبطلان الدعوة العباسية، وكل الاصطلاحات الإسماعيلية مبثوثة في ديوانه، فهو يضفي على الممدوحين من الخلفاء صفة التقديس تقريبا، فيقول مثلا:
وما هو إلا أن يشير بلحظه
فتمخر فلك أو تهز مقانيب
12 •••
هو علة الدنيا ومن خلقت له
ولعلة ما كانت الأشياء
من صفو ماء الوحي وهي محاجة
من حوضه الينبوع وهو شفاء
واتبع تعاليم الشيعة في القول بتقديس الإمام، وأن فيه قبسا من نور الله:
هذا أمين الله بين عباده
وبلاده إن عدت الأمناء •••
هو الوارث الأرض عن أبوين
أب مصطفى وأب مرتضى •••
بالله من سبب بالله متصل
وظل عدل على الآفاق ممدود
هذا الشفيع لأمة تأتي به
وجدوده لجدودها شفعاء
وهم يقولون بعصمة الإمام:
من كان سيما القدس فوق جبينه
فأنا الضمين بأنه لا يجهل •••
مؤيد باختيار الله يصحبه
وليس فيما أراه الله من خلل
والإمام قد عصمه الله، وهو مظهر من نور الله:
وما كنه هذا النور نور جبينه
ولكن نور الله فيه مشارك •••
وبذا تلقى آدم من ربه
عفوا وفاء ليونس اليقطين •••
لو كان علمك بالإله مقسما
في الناس ما بعث الإله رسولا •••
لو كان لفظك فيهم ما أن
زل القرآن والتوراة والإنجيلا
هذا ضمير النشأة الأولى التي
بدأ الإله وغيبها المكنون
من أجل هذا قدر المقدور في
أم الكتاب وكون التكوين
ويقول:
تالله لو كانت الأنواء تشبهه
ما مر بؤس على الدنيا ولا قنط
أبدى الزمان لنا من نور طلعته
عن دولة ما بها وهن ولا سقط
إمام عدل وفى في كل ناحية
كما قضوا في الإمام العدل واشترطوا
قد بان بالفضل عن ماض ومؤتنف
كالعقد عن طرفيه بفضل الوسط
لا يغتدي فرحا بالماء يجمعه
ولا يبيت بدنيا وهو مغتبط
إن الملوك وإن قيست إليك معا
فأنت من كثرة بحر وهم نقط
ويقول:
ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه
ومن كان أسمى كان بالمجد أجدرا
ويقول:
فليس لمن لا يرتقي النجم همة
وليس لمن لا يستفيد الغنى عذر
ويقول:
صدق الفناء وكذب العمر
وجلا العظات وبالغ النذر
إنا وفي آمال أنفسنا
طول وفي أعمارنا قصر
لنرى بأعيننا مصارعنا
لو كانت الألباب تعتبر
ويصور ابن هانئ مجلسا من مجالس الشراب أحسن تصوير في قصيدته المعروفة بقصيدة النجوم فيقول:
أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا
وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا
13
وبات لنا ساق يقوم على الدجى
بشمعة نجم لا تقط ولا تطفا
14
أغن غضيض خفف اللين قده
وأثقلت الصهباء أجفانه الوطفا
15
ولم يبق إرعاش المدام له يدا
ولم يبق إعتاق التثني له عطفا
16
يقولون: حقف فوقه خيزرانة
أما يعرفون الخيزرانة والحقفا
17
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا
وقدت لنا الظلماء من جلدها لحفا
18
فمن كبد تدني إلى كبد هوى
ومن شفة توحي إلى شفة رشفا
19
بعيشك نبه كأسه وجفونه
فقد نبه الإبريق من بعد ما أغفى
20
وقد فكت الظلماء بعض قيودها
وقد قام جيش الليل للفجر واصطفا
21
وولت نجوم للثريا كأنها
خواتيم تبدو في بنان يد تخفى
22
ومما استحسنوا له:
ولما التقت ألحاظنا ووشاتنا
وأعلن سر الوشي ما الوشي كاتم
تأوه إنسي من القدر ناشج
فأسعد وحشي من السدر باغم
23
مؤيد العزم في الجلى إذا طرقت
مندد السمع في النادي إذا نودي
24
لكل صوت مجال في مسامعه
غير العنيفين من لوم وتفنيد
25
وعند ذي التاج بيض مكرمات وما
عندي له غير تمجيد وتحميد
أتبعته فكري حتى إذا بلغت
غاياتها بين تصويب وتصعيد
26
رأيت موضع برهان يبين وما
رأيت موضع تكييف وتحديد
27
ومن محاسن قوله:
أبني العوالي السمهرية والسيو
ف المشرفية والعديد الأكبر
28
من منكم الملك المطاع كأنه
تحت السوابغ تبع في حمير
كل الملوك من السروج سواقط
إلا الملك فوق ظهر الأشقر
ومما يتغنى له قوله:
فتكات طرفك أم سيوف أبيك
وكئوس خمر أم مراشف فيك
29
أجلاد مرهفة وفتك محاجر
ما أنت راحمة ولا أهلوك
يا بنت ذي السيف الطويل نجاده
أكذا يجوز الحكم في ناديك
30
قد كان يدعوني خيالك طارقا
حتى دعاني بالقنا داعيك
عيناك أم مغناك موعدنا وفي
وادي الكرى نلقاك أو واديك
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو
عثروا بطيف طارق ظنوك
31
ودعوك نشوى ما سقوك مدامة
فإذا تثنى عطفك اتهموك
حسبوا التكحل في جفونك حلية
تالله ما بأكفهم كحلوك
32
وقد عد له الأدباء مزايا وعيوبا، فمن مزاياه: (1)
قوة بيانه وجودة كلامه وشدة تأثره في سامعيه، إذا فهما معانيه. (2)
شعره جزل السبك، مليح التأليف، حتى إنك لو سمعت المصراع الأول، تكاد تحزر المصراع الثاني. (3)
شعره مطبوع تلمح فيه الجزالة التي في الشعر الجاهلي.
أما عيوبه: (1)
فكثرة استعماله للغريب من الألفاظ، مثل: اطلخلم الأمر، وارجحن الشباب، وتغشمرت، وتكعكعت. (2)
أن شعره أحيانا كثير الجلبة، قليل المعنى، كما ذكر ابن رشيق. (1-4) ابن شهيد وابن حزم
كانا متعاصرين، وكان صديقين، وكانا وزيرين، وكان يعملان للدولة العامرية، وكان ذوي ميول أموية، مكنت من الدسائس لهما، وكانا في الشعر وسطا، ولعب الحب بهما معا. فأما ابن شهيد، فقد قعد به عن الجودة في الشعر تفوقه في النثر، فهو في الشعر أضعف منه في النثر، وقلما نجد في التاريخ من ملك ناصية النوعين، وبرز في القولين، فغاية الأديب أن يكون قويا في أحدهما، وسطا في الآخر، وقد اشتهر ابن شهيد بفصوله ورسائله وروايته «التوابع والزوابع»، وسيأتي الكلام عليها في النثر. وقد شعر في المديح والوصف والغزل، حتى خافت جاريته منه مرة أن يتغزل فيها فيفضحها، واشتهر بالنادرة اللطيفة الحلوة، ورووا أنه أصيب بالصمم فمنعه ذلك عن الاشتغال بالسياسة.
قال فيه ابن حيان: «كان ابن شهيد يبلغ المعنى، ولا يطيل سفر الكلام ... والعجب منه أنه كان يدعو قريحته إلى ما شاء من نظمه ونثره في بديهته ورويته، فيقول الكلام كما يريد، من غير اقتناء لما كتب، ولا اعتناء بالطلب، ولا رسوخ في الأدب ، فإنه لم يوجد له فيما بلغنا بعد موته كتاب يستعين به على صناعته، ويشحذ من طبعه، إلا ما لا قدر له، فزاد ذلك في عجائبه، وإعجاز بدائعه. وكان في تنميق الهزل والنادرة الحارة أقدر منه على سائر ذلك، وشعره حسن عن أهل النقد، وله رسائل كثيرة في فنون الفكاهة، وأنواع التعريض، والأهزال. وكان في سرعة البديهة وحضور الجواب وحدته آية من آيات الله، «مع هواه الشديد»
33
وعدم تقصيره في ارتكاب أي قبيحة، من أصح الناس رأيا لمن استشاره، وأضلهم عنه في ذاته، وكان له في الكرم والجود انهماك ، حتى شارف الإملاق».
فمن شعره:
كلفت بالحب حتى لو دنا أجلي
لما وجدت لطعم الموت من ألم
وعاقني كرمي عمن ولهت به
ويلي من الحب أو ويلي من الكرم
34
وقوله:
أصباح شيم أم برق بدا
أم سنا المحبوب أورى زندا
هب من مرقده منكسرا
مسبلا للكم مرخ للردا
يمسح النعسة من عيني رشا
صائدا في كل يوم أسدا
فهو من دل عراه زبدة
من صريح لم يخالط زبدا
قلت: هب لي يا حبيبي قبلة
تشف من عمك تبريح الصدا
فانثنى يهتزم من منكبه
مائلا لطفا وأعطاني اليدا
كلما كلمني قبلته
فهو إما قال قولا رددا
كاد أن يرجع من لثمي له
واكتشاف الثغر منه أدردا
شربت أعطافه ماء الصبا
وسقاه الحسن حتى عربدا
ويقول في وصف عاصفة:
وقد فغرت فاها دجى كل زهرة
إلى كل ضرع للغمامة حافل
ومرت جيوش المزن رهوا كأنها
عساكر زنج مذهبات المناصل
وقد طلب منه أن يجيز قول الشاعر: «مرض الجفون ولثغة في المنطق».
فقال بديهة:
مرض الجفون ولثغة في المنطق
سيان جرا عشق من لم يعشق
من لي بألثغ لا يزال حديثه
يذكي على الأكباد جمرة محرق
ينبي فينبو في الكلام لسانه
فكأنه من خمر عينيه سقي
لا ينعش الألفاظ من عثراتها
ولو أنها كتبت له في مهرق
وقال يتغزل:
مر بي في فلك من ربرب
قمر مبتسم عن شنب
زينوا أعلاه بالدر كما
ثقلوا أسفله بالكتب
فازدهتني أريحيات الصبا
واستخفتني دواعي طربي
فتعرضت لتسليم له
فإذا التياه لا يعبأ بي
قال هذا العبد من دلله:
ما الذي أمنه من غضبي؟
يا ظبا لحظي خذي لي رأسه
فهو لا شك من أهل الريب
فانبرت ألحاظه تطلبني
وأنا قدامها في الهرب
لو تراني وأنا ألطفه
وأداريه مداراة الصبي
خلته جبار قوم مردوا
وأنا في لطف الوعظ نبي
ويقول في وصف وقعة:
سقيا لأسد تساقي الموت أنفسها
وتلبس الصبر في يوم الوغى حلقا
قامت بنصرك لما قام مرتجلا
خطيب جودك فيها ينثر الورقا
سريت تقدم جيش النصر متخذا
سبل المجرة في إثر العلا طرقا
في ظل ليل من الماذي معتكر
يجلو إلى الخيل منه وجهك الفلقا
وصفح قرن غداة الروع يكتبه
من الظبا فلم لا يعرف المشقا
أجريت للزنج فوق النهر نهر دم
حتى استحال سماء جللت شفقا
وساعد الفلك الأعلى بقتلهم
حتى غدا الفلك بالناجي به غرقا
إلخ ... إلخ.
وله من قصيدة:
فريق العدا من حد عزمك يفرق
وبالدهر مما خاف بطشك أولق
عجبت لمن يعتد دونك جنة
وسهمك سعد والقضاء مفوق
ومن يبتني بيتا ليقطع دونه
ممر رياح النصر وهو الخورنق
توهم فيه الرعن حصنا فزرته
بأرعن فيه مرعد الموت مبرق
وحولك أسياف من السعد تنتضى
وفوقك أعلام من النصر تخفق
بأبيض مسود الدلاص كأنه
شهاب عليه من دجى الليل يلمق
وخيل تمشى للوغى بجفونها
إذا جعلت بالمرتقى الصعب تزلق
ويقول وقد أزمع على الخروج من قرطبة:
أرى أعينا ترنو إلي كأنما
تساور منها جانبي أراقم
أدور فلا أعتام غير محارب
وأسعى فلا ألقى امرأ لي يسالم
ويجلب لي فهمي ضروريا من الأذى
وأشقى امرئ في قرية الجهل عالم
وأوجع مظلوم لقلب وذي حجا
فتى عربي تزدريه أعاجم
سلام عليكم لا تحية شاكر
ولكن شجى تنسد منه الحلاقم
وما قرعت سني عليكم ندامة
وأوشك غدا أن يقرع السن نادم
عليكم بداري فاهدموها دعائما
ففي الأرض بناءون لي ودعائم
لئن أخرجتني عنكم شر عصبة
ففي الأرض إخوان علي أكارم
وفيها يقول:
ولما فشا بالدمع من سر وجدنا
إلى كاشحينا ما القلوب كواتم
أمرنا بإمساك الدموع جفوننا
ليشجى بما تطوي عذول ولائم
فظلت دموع العين حيرى كأنها
جلال مآقينا لآل توائم
أبى دمعنا يجري مخافة شامت
فنظمه بين المحاجر ناظم
وراق الهوى منا عيون كريمة
تبسمن حتى ما تروق المباسم
وقد مرض ابن شهيد في آخر أيامه وأصيب بالفالج في سنة 425ه، فمنعه عن الحركة والتقلب، وكان أولا يمشي على عصا، واعتمادا على إنسان، إلى ما قبل وفاته بعشرين يوما، فإنه صار حجرا لا يبرح ولا يتقلب ، ولا يحتمل أن يحرك.
وفي ذلك يقول:
أنوح على نفسي وأندب نبلها
إذا أنا في الضراء أزمعت قتلها
رضيت قضاء الله في كل حالة
علي وأحكاما تيقنت عدلها
أظل قعيد الدار تجنبني العصا
على ضعف ساق أوهن السقم وجلها
ألا رب خصم قد كفيت وكربة
كشفت ودار كنت في المحل وبلها
ورب قريض كالجريض بعثه
إلى خطبة لا ينكر الجمع فضلها
فمن مبلغ الفتيان أن أخاهم
أخو فتكة شنعاء ما كان شكلها
عليكم سلام من فتى عضه الردى
ولم ينس عينا أثبتت فيه نبلها
يبين وكف الموت يخلع نفسه
وداخلها حب يهون ثكلها
وكتب للفقيه ابن حزم في مرضه الذي مات به قال:
ولما رأيت العيش ولى برأسه
وأيقنت أن الموت لا شك لاحقي
تمنيت أني ساكن في غيابة
بأعلى مهب الريح في رأس شاهق
خليلي من ذاق المنية مرة
فقد ذقتها خمسين: قولة صادق
كأني وقد حان ارتحالي لم أفز
قديما من الدنيا بلمحة بارق
فمن مبلغ عني ابن حزم وكان لي
يدا في ملماتي وعند مضايقي
عليك سلام الله إني مفارق
وحسبك زادا من حبيب مفارق
فلا تنس تأتيني إذا ما فقدتني
وتذكر أيامي وفضل خلائقي
فلي في ادكاري بعد موتي راحة
فلا تمنعونيها علالة زاهق
وإني لأرجو الله فيما تقدمت
ذنوبي مما درى من حقائقي
وأما ابن حزم فقد عاقه عن بلوغ الغاية في شعره كثرة علمه وفقهه ، فالأسلوب العلمي الفقهي غلب عليه فنجد له معاني لطيفة جدا، ولكنها في أسلوبها تتلون بألوان أساليب الفقهاء، كالذي لاحظه ابن خلدون من أنه هو قعد به عن الشعر حفظه المتون، وذكر أن فقيها شعر فقال:
لم أدر حين وقفت بالأطلال
ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال: إن التعبير ب «ما الفرق» بين كذا وكذا، أشبه بتعبير الفقهاء، وقد تربى ابن حزم تربية عالية، فأبوه كان وزيرا عظيما، تسرح في داره الفتيات الجميلات من المغربيات، ومن فتيات الحروب المأسورات، وكان يحضر له المعلمين والمعلمات، حتى روى أنه أحفظته القرآن جارية في القصر، كما أحضر له بعض مشاهير شيوخ العلم. فوقع بين رغبتين: رغبة في العلم والدين والتقى، ورغبة في مغازلة الجواري والسير مع الهوى، والجمع بينهما كالجمع بين الماء والنار، ولكن يظهر أنه استطاع الجمع بينهما، فحمله ذلك من العذاب ألوانا، وأكثر شعره الذي بلغنا ما كان في كتابه «طوق الحمامة» يصف في خلجات نفسه، وضناه من حبه، نثرا ونظما.
والقارئ لشعره يرى أنه صادق العاطفة، لطيف المعاني الذهنية، بعيد الخيال، ولكنه مقصر بعض الشيء في الأسلوب، وهو معذور في ذلك، فالذي يؤلف «الفصل في الملل والنحل»، و«الإحكام في أصول الأحكام» وما إلى ذلك من مئات الكتب الشرعية، ليس من السهل عليه أن يبلغ القمة في الشعر. وقد عد عند كثير من الناس أعلم أهل الأندلس، ولكن لم يعدوه أشعرهم. وكان ابن حيان دقيقا في قوله: «إن شعره حسن» من غير طنطنة ولا فخفخة كعادته في وصف الشعراء الكبار.
وحدثت له حادثتان أثرتا في حياته، وفي شاعريته الأولى: حبه كالذي ذكرنا، والثانية: ما كان من اتهامه في عهد الدولة العامرية بأنه يعمل لإعادة الخلافة الأموية.
وقد كان العداء بين العامريين والأمويين في الغرب، كالعداء بين العلويين والعباسيين في الشرق، فعزل عن الوزارة من أجل ذلك، وعذب، وأهين، ونفي، وخربت دياره، وزال عنه النعيم الذي كان يعيش فيه، فكان ذلك نقمة عليه، ونعمة على العلم والأدب، ومن مزايا نشأته في بيت العز، وتمكنه من نفسه، ونزعته إلى الزهد، أنه لم يهن نفسه في شعره بمديح مفرط، أو غزل فاجر، إنما قال الشعر استجابة لخلجات نفسه، أو تفريجا لهمه، أو إرضاء لفنه، أو إرضاء لخاطرة خطرت له. وله قصيدة لطيفة قوية بلغة مائة وأربعين بيتا، أجاب بها ملك الروم عن رسالة أرسلها إلى المسلمين، يهددهم ويتوعدهم.
35
ونشأته العلمية حمته من اللعب بالألفاظ، والإطالة في القول، وتفكيره الخلقي، وتجاربه الاجتماعية، أنطقاه بالحكم، مثل:
أفعال كل امرئ تنبي بعنصره
والعين تغنيك عن أن تطلب الأثرا
وهل ترى قط دقلى أنبتت عنبا
أو تذخر النخل في أوكارها الصبرا؟
وقد امتلأ كتابه «طوق الحمامة» بالنثر والشعر الذي يمليه عليه حبه، مع دعابة أحيانا كقوله:
وذي عذل في من سباني حسنه
يطيل ملامي في الهوى ويقول
أمن أجل وجه لاح لم تر غيره
ولم تدر كيف الجسم أنت عليل
فقلت له: أسرفت في اللوم فاتئد
فعندي رد لو أشاء طويل
أم تر أني ظاهري وأنني
على ما أرى حتى يقوم دليل؟
وتجد في هذه القطعة مصداق ما قلناه «فعندي رد طويل» تعبير علماء الكلام، والبيت الأخير ينضح بذلك. ويقول:
لئن أصبحت مرتحلا بجسمي
فقلبي عندكم أبدا مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى
له سأل المعاينة الكليم
وهو أيضا نضح للثقافة الدينية، وخصوصا البيت الثاني. ويقول:
لا تلمني لأن سبقة حظ
فات إدراكها ذوي الألباب
يسبق الكلب وثبة الليث في العد
ويعلون النخال فوق اللباب
فقوله: «لأن» في هذه الأبيات تعبير فقهي. ويقول:
لي خلتان أذاقاني الأسى جرعا
ونغصا عيشتي واستهلكا جلدي
كلتاهما تطبيني
36
نحو جبلتها
كالصيد ينشب بين الذئب والأسد
وفاء صدق فما فارقت ذا مقة
فزال حزني عليه آخر الأبد
وعزة لا يحل الضيم ساحتها
صرامة منه بالأموال والولد
فترى في هذه القطعة التقسيم المنطقي الذي يتبعه العالم، وقل أن يسلكه الشاعر. ويقول:
جعلت اليأس لي حصنا ودرعا
فلم ألبس ثياب المستضام
وأكثر من جميع الناس عندي
يسير صانني دون الأنام
إذا ما صح لي ديني وعرضي
فلست لما تولى ذا اهتمام
تولى الأمس والغد لست أدري
أأدركه ففيما ذا اهتمامي؟
فالشطرة الأخيرة علمية أكثر منها شعرية، وكذلك قوله: «فلست لما تولى ذا اهتمام».
وأحيانا يسمو بشعره فيما وراء الطبيعة كقوله:
أمن عالم الأملاك أنت أم إنسي
أبن لي: فقد أزرى بتمييزي العي
أرى هيئة إنسية غير أنه
إذا أعمل التفكير فالجرم علوي
تبارك من سوى مذاهب خلقه
على أنك النور الأنيق الطبيعي
ولا شك عندي أنك الروح ساقه
إلينا مثال في النفوس اتصالي
37
عدمنا دليلا في حدوثك شاهدا
نقيس عليه غير أنك مرئي
ولولا وقوع العين في الكون لم نقل
سوى أنك العقل الرفيع الحقيقي
ومن قوله، وهو يدل على عاطفة حارة مشبوبة أضناها الحب:
وددت بأن القلب شق بمدية
وأدخلت فيه ثم يطبق في صدري
فأصبحت فيه لا تحلين غيره
إلى مقتضى يوم القيامة والحشر
تعيشين فيه ما حييت فإن أمت
سكنت شغاف القلب في ظلم القبر
فهذا القول صادق العاطفة، وهو ترجمة صحيحة لمشاعره، ولكن قوله: «إلى مقتضى يوم القيامة والحشر» تعبير ديني.
وعلى الجملة فهو شاعر عالم، طغى علمه على شعره.
انظر قوله:
ودادي لك الباقي على حسب كونه
تناهى فلم ينقص بشيء ولم يزد
وليست له غير الإرادة علة
ولا سبب حاشاه يعلمه أحد
إن ما وجدنا الشيء علة نفسه
فذاك وجود ليس يفنى على الأبد
وإما وجدناه لشيء خلافه
فإعدامه في عدمنا ما له وجد
وقوله:
ما على النصر في الأعداء نعرفها
وعلة الفر منهم أن يفرونا
إلا نزاع نفوس الناس قاطبة
إليك يا لؤلؤا في الناس مكنونا
من كنت قدامه لا ينثني أبدا
فهم إلى نورك الصعاد يعشونا
ومن تكن خلقه فالنفس تصرفه
إليك طوعا فهم دأبا يكرونا
وقوله:
أرعى النجوم كأنني كلفت أن
أرعى جميع ثبوتها
38
والخنس
فكأنها والليل نيران الجوى
قد أضرمت في فكرتي من حندس
وكأنني أمسيت حارس روضة
خضراء وشح نبتها بالنرجس
لو عاش بطليموس أيقن أنني
أقوى الورى في رصد جري
39
الكنس
وقال على عادة الشعراء المتماجنين:
خلوت بها والراح ثالثة لنا
وجنح ظلام الليل قد مد واتلج
فتاة عدمت العيش إلا بقربها
فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج؟
كأني وهي والكأس والخمر والدجى
ثرى وحيا والدر والتبر والثبج
40 •••
وصفوك لي حتى إذا أبصرت ما
وصفوا علمت أنه هذيان
فالطبل جلد فارغ وطنينه
يرتاع منه ويفرق الإنسان
يعيبونها عندي بشقرة شعرها
فقلت لهم: هذا الذي زانها عندي
يعيبون لون النور والتبر ضلة
لرأي جهول في الغواية ممتد
وهل عاب لون النرجس الغض
ولون النجوم الزاهرات على البعد
وأبعد خلق الله من كل حكمة
مفضل جرم فاحم اللون مسود
به وصفت ألوان أهل جهنم
ولبسة باك مثكل الأهل محتد
41
ومذ لاحت الرايات سودا تيقنت
نفوس الورى أن لا سبيل إلى الرشد
42
فتعبيراته كلها مقتبسة من الفقه والكلام والمنطق، وإلهيات الفلسفة، فيصعب علينا أن نعده من الشعراء الخالصين، وإن امتاز بصدق الشعور، وصدق التعبير، وجمال الخيال. وسيأتي مقامه في النثر عند الكلام على النثر.
إلى هنا كان الشعر قد بلغ حدا كبيرا من الرقي في عهد الأمويين والعامريين، وسبب ذلك أن الأمويين والعامريين كانوا يجزلون العطاء ويقدرون قيمة الشعراء في الدعوة لهم، حتى كانوا يحملون الشعراء على السفر معهم في غزواتهم، وسبب آخر، وهو أن آخر عهد الأمويين، ومدة العامريين كانت عهود فتن واضطرابات، والفتن والاضطرابات تحرك المشاعر، وأذكر أن ابن سلام في طبقاته قال عن قبيلة من القبائل: إنها لم تقل شعرا؛ لأنها لم تكن قبيلة محاربة ... هذا إلى طبيعة الأندلسيين الشعرية، فيكاد يكون كل مثقف، ولو ثقافة بسيطة شاعرا. وقد قال الأندلسيون في كل فن وباب مقلدين في ذلك المشرق من الزهد والوصف والرثاء والغزل ... إلخ. فإذا نحن وصلنا إلى عصر ملوك الطوائف رأينا الشعر قد نما وكثر أيضا؛ بسبب أن المملكة قد انقسمت إلى إمارات كثيرة، يحكم كل قسم منها أمير، وكان بين الأمراء تنافس على التعمير والعلم، ومن ذلك الشعر؛ ولذلك وجد شعراء لا يقلون شأنا عن السابقين، إن لم يفوقوهم أحيانا ، أمثال: ابن زيدون وابن عباد وابن سهل الإسرائيلي وغيرهم. وربما عمل في تكوينهم أكثر من الأولين أنهم انتفعوا بمن سبقهم، فقد خلفوا ثروة كبيرة من الأخيلة والأساليب والمعاني؛ يضاف إلى ذلك أنه ما كاد يظهر شاعر في المشرق إلا وينقل شعره سريعا إلى المغرب ثم يقلد، ويدهش الإنسان لهذه السرعة، فقد كانت حركات الرحلات شديدة قوية، مع صعوبة المواصلات، وكان الحج موسما تتلاقى فيه العلماء والأدباء، فيتناقلون كتبهم، فكان الشعر في عهد الطوائف أرقى منه على ما يظهر في العهود التي كانت قبلهم، وإن كان الأندلسيون من الناحية السياسية والحربية أضعف.
وشاهد هذا العصر تغلب النصارى الإسبان على بلاد الأندلس، بلدا فبلدا، فإذا حل النصارى بلدا هجرها أهلها، ورثوها بشعرهم، فوجد عندنا في الأندلس ما لا نجده في الشرق إلا نادرا من رثاء البلاد رثاء قويا يدل على عاطفة مشبوبة، ولكن هناك ظاهرة أخرى، وهي أن الحروب بين الإسبان والأوربيين عموما وبين المسلمين لم تنقطع، فيكاد يكون في كل سنة حرب ووقائع، تشيب لها النواصي، ولكن مع الأسف كمية الشعر التي رويت في هذا الباب أقل مما يلزم كشأن المسلمين في الحروب الصليبية، وفي حروب صلاح الدين وخلفائه، فقل الشعر العربي في هذا المعنى. ولعل السبب في ذلك أن الأولين لم يشعروا كثيرا في باب الحروب، وشعرهم كان شعرا تقليديا، فلما رأوا أن من قبلهم لم يشعروا كثيرا في هذه المعاني، لم يشعروا هم أيضا كثيرا، والواقع أن حروب الأندلس، وحروب الصليبيين، كان يجب أن تغذي الشعراء بما يصوغون من قصائد. (1-5) ابن زيدون
هو أحب شعراء الأندلس إلى نفسي، وأقربهم إلى قلبي، ويظهر أنه استصفى غزل العباس بن الأحنف، ومسلم بن الوليد، وغيرهما، وأخذ ديباجة البحتري، وحسن سبكه، ونصاعة أسلوبه، وأخذ طول نفس ابن الرومي وتدفقه حتى يأتي على آخر المعنى الذي يرده. وقد حدثت له حادثتان ألهبتا قلبه، وجعلتاه يشعر من قلبه، لا من رأسه؛ أولاهما: حبه لولادة، فقد هام في حبها، وجرب كل أنواع التجارب في الحب من لذة وصال، وألم فراق، وأحاديث نفس، وغيرة من عذول ... إلخ. وثانيتهما: كثرة حساده وتآمرهم عليه، ووضع الدسائس له عند الأمير المقرب إليه، حتى سجنه، فذاق ألوانا من العذاب في سجنه، وكانت له قدرة على صياغة أدق المشاعر في شعر جميل، وأسلوب جذاب، ومع هذا لم يخل من قول الشعر الرقيق في الموضوع التقليدي الذي هو المديح.
وقد رويت له مدائح كثيرة لأمراء كثيرين، وهو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب المخزومي، من نسل أحد أفراد قبيلة مخزوم الذين رحلوا إلى الأندلس أيام الفتح، وكان أبوه مشهورا بأنه فقيه أديب، فأورث ابنه حبه الأدب. وقد ولد ابن زيدون في قرطبة سنة 394ه، ومات في إشبيلية سنة 463ه، ومع أنه تعلم الشعر ممن ذكرنا من الشعراء، فهناك خيوط يظهر فيها أثر بيئته.
ويدل شعره على أنه واسع الاطلاع على شعر المشرق، وشعر من قبله من الأندلسيين واستفادته من كل ذلك، مع احتفاظه بشخصيته. وقد أخذ عن عالمين كبيرين في الأندلس، هما أبو بكر مسلم بن أحمد بن اللبانة، وأبو بكر بن ذكوان، وقد لفت نظر الناس إلى شعره منذ شبابه.
وشاء حظه أن يقع في حب ولادة بنت الخليفة المستكفي، وقد كان المستكفي هذا فاجرا، مستهترا، سيئ الحكم، قل ماله فأحب أن يرضي الناس بوعوده، وبما يوزعه من ألقاب، حتى زهد الناس فيها، وخلف بنتا اسمها ولادة، خلفها من مولاة له إسبانية، وكانت ولادة هذه بيضاء اللون، حمراء الشعر، زرقاء العينين، لا تلتزم الحجاب المعتاد للنساء فاتخذت في بيتها ناديا (صالونا) يجتمع فيه الأدباء من شاعرين وناثرين، وتسمع منهم، ويسمعون منها. وكانت هي الأخرى قادرة على الشعر، وكانت حادة المزاج، قاسية، صريحة، فما أن رآها ابن زيدون وجالسها، حتى ملأت قلبه. وقد وصفها ابن بسام في الذخيرة بقوله: «كانت في نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وقناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب، على أنها - سمح الله لها وتغمد زللها - اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل؛ لقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها، كتبت - فيما زعموا - على أحد عاتقي ثوبها:
أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وكتبت على الآخر:
وأمكن عاشقي من صحن خدي
وأعطي قبلتي من يشتهيها»
ولسنا نظن كما قال ابن بسام أنها كانت على طهارة أثواب، وقد وصف ابن زيدون ليلة معها من ليالي شبابه فقال: «وبتنا بليلة نجني أقحوان الثغور، ونقطف رمان الصدور، فلما انفصلت عنها صباحا أنشدتها:
ودع الصبر محب ودعك
ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن
زاد في تلك الخطا إذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسنى
حفظ الله زمانا أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم
بت أشكو قصر الليل معك
فكانت ولادة في حياتها ومنتدياتها أشبه بعلية بنت المهدي في المشرق، وقد بدأ حب ابن زيدون لها، وعلاقته بها في سنة 422ه؛ أي: وهو في سن التاسعة والعشرين بعد سقوط الدولة الأموية، وولاية أبي الحزم بن جهور على قرطبة، وكان ابن زيدون مقربا من ابن جهور، يشغل عنده منصبا عاليا، ولكن سرعان ما تغير عليه قلب ابن جهور، وأودعه في السجن، وأجرى عليه أنواعا من العذاب. ولكن ما تهمة ابن زيدون؟
الغالب على الظن أنه طمح لأن يكون أميرا، فليس هو أقل ممن وثبوا على إمارات الأندلس، واستولوا عليها. وهو شاب حسيب نسيب، مملوء قوة، أديب كبير، فما يمنعه أن يكون كابن جهور، وابن عباد، وابن الأفطس، وأمثالهم، فلما سجن اجتمع له في سجنه الغرام بولادة، وحزنه على نفسه في السجن، وبلوغه أن ابن عبدوس وزير ابن جهور الغني الكبير يغازل ولادة بدله، ويريد أن يحل محله، كما بلغه أن ولادة من ناحيتها استجابت له، أعرضت عن ابن زيدون؛ كل هذا مع دقة مشاعره، جعله يلتهب نارا ، فهو يشعر في كل هذه المعاني، طورا بألمه في الفراق، وطورا في عتاب ابن جهور، وغير ذلك، فلئن كان سجنه نقمة عليه، فقد كان نعمة على الأدب. ويظهر أنه في هذه الآونة قال في ولادة:
متى أبثك ما بي
يا راحتي وعذابي
متى ينوب لساني
في شرحه عن كتابي
الله يعلم أني
أصبت فيك لما بي
فلا يطيب طعامي
ولا يسوغ شرابي
يا فتنة المتعزي
وحجة المتصابي
الشمس أنت توارت
عن ناظري بالحجاب
ما البدر شف سناه
على رقيق السحاب
إلا كوجهك لما
أضاء تحت نقاب
ويقول أيضا:
ألا هل لنا من بعد هذا التفرق
سبيل، فيشكو كل حب بما لقي
وقد كنت أوقات التزور في الشتا
أبيت على جمر من الشوق محرق
فكيف وقد أمسيت في حال قطعة
لقد عجل المقدور ما كنت أتقي
تمر الليالي لا أرى البين ينقضي
ولا الصبر من رق التشوق معتقي
سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا
بكل سكوب هاطل الوبل مغدق
ويقول:
شحطنا وما بالدار نأي ولا شحط
وشط بمن نهوى المزار وما شطوا
وأما الكرى مذ لم أزركم فهاجر
زيارته غب وإلمامه فرط
إذا ما كتاب الوجد أشكل سطره
فمن زفرتي شكل ومن عبرتي نقط
مئون من الأيام خمس قطعتها
أسيرا وإن لم يبد شد ولا قحط
بلغت المدى إذ قصروا فقلوبهم
مكامن أضغان أساودها رقط
فررت فإن قالوا: الفرار إرابة
فقد فر موسى حين هم به القبط
ويقول:
فديتك ليس لي قلب فأسلو
ولا نفس فآنف إن جفيت
فإن يكن الهوى داء مميتا
لمن يهوى فإني مستميت
أسر عليك عتبا ليس يلقى
وأضمر فيك غيظا لا يبيت
وما ردي على الواشين إلا
رضيت بحب قاتلتي رضيت •••
أنى أضيع عهدك
أم كيف أخلف وعدك
وقد رأتك الأماني
رضا فلم تتعدك
يا ليت ما لك عندي
من الهوى لي عندك
وطال ليلك بعدي
كطول ليلي بعدك
سلي حياتي أهبها
فلست أمك ردك
الدهر عبدي لما
أصبحت في الحب عبدك
ولما كان ابن زيدون مكلوم الفؤاد، معذب القلب بالحب، أجاد في الرثاء كلما أجاد في الغزل، ورأى الرثاء وسيلة من وسائل دموعه، فله في ديوانه قصائد جيدة في الرثاء، منها رثاء في أستاذه القاضي أبي بكر بن ذكوان وكان قاضيا عدلا، مطلعه:
انظر لحال السر وكيف تحال
والدولة العلياء كيف تدال
من سر لما عاش قل متاعه
فالعيش نوم والسرور خيال
ويقول فيها:
نقصت حياتك حين فضلك كامل
هلا استضيف إلى الكمال كمال
من للقضاء يعز في أثنائه
إيضاح مشكلة لها إشكال
من لليتيم تتابعت أرزاؤه
هلك الأب الجاني وضاع المال
هيهات لا عهد كعهدك عائد
إذ أنت في وجه الزمان جمال
ورثى أبا الحزم بن جهور بقصيدة مطلعها:
ألم تر أن الشمس قد ضمها القبر
وأن قد كفانا فقدها القمر البدر
وقال في رثاء أم أبي الوليد بن جهور قصيدة مطلعها:
هو الدهر فاصبر للذي أحدث الدهر
فمن شيم الأحرار في مثلها الصبر
فإن أنثت فالنفس أنثى نفيسة
إذ الجسم لا يسمو بتذكيره ذكر
حصان إذا التقوى استبدت بذكرها
فمن صالح الأعمال يستوضح الدهر
إلخ ... إلخ.
ومن مشهور قصائده التي عارضها كثير من الشعراء من بعده، فلم يبلغوا مبلغه، قوله:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ألا
43
وقد حان صبح البين صبحنا
حين فقام لنا للحين ناعينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم
حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا
أنسا بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغص فقال الدهر: آمينا
فانحل ما كان معقودا بأنفسنا
وانبت ما كان موصولا بأيدينا
وقد نكون وما يخشى تفرقنا
فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم
هل نال حظا من العتبى أعادينا؟
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا ... إلخ. وكلها على هذا النمط من الجمال.
وله أشعار من نوع آخر غير النمط التقليدي كقوله:
سقى الله أطلال الأحبة بالحمى
وحالك عليها ثوب وشي منمنما
وأطلع فيها للأزاهر أنجما
فكم رفلت فيها الخرائد كالدمى
إذ العيش غض والزمان غلام
أهيم بجبار يعز وأخضع
شذا المسك من أردانه يتضوع
إذا جئت أشكوه الجوى ليس يسمع
فما أنا في شيء من الوصل أطمع
ولا أن يزور المقلتين منام
قضيب من الريحان أثمر بالبدر
لواحظ عينيه ملئن من السحر
وديباج خديه حكى رونق الخمر
وألفاظ في النطق كاللؤلؤ النثر
وريقته في الارتشاف مدام
ومن قوله أيضا على النمط المأثور:
يجوز على قلبي هوى ويجير
ويأمرني: إن الحبيب أمير
أغار عليه من لحاظي صيانة
وأكرمه: إن المحب غيور
أخف إلى لقيا الحبيب وإنني
لعمرك في جلي الأمور وقور
وقال:
رعى الله من يصلي فؤادي بحبه
سعيرا وعيني منه في جنة الخلد
غزالية العينين شمسية السنا
كثيبية الردفين غصنية القد
شكوت إليها حبها بمدامعي
وعلمتها ما قد لقيت من الوجد
فجادت وما كادت علي بخدها
وقد ينبع الماء النمير من الصلد
فقلت لها: هاتي ثناياك إنني
أفضل نوار الأقاحي على الورد
وميلي على جسمي فانثنت
تعيد الذي أملت منها كما تبدي
فيا ساعة ما كان أقصر وقتها
لدي تقضت غير مذمومة العهد
وله يتغزل في ولادة أيضا:
يا نازحات وضمير القلب مثواه
أنستك دنياك عبدا أنت مولاه
ألهتك عنه فكاهات تلذ بها
فليس يجري ببال منك ذكراه
عل الليالي تبقيني إلى أمل
الدهر يعلم والأيام معناه
ويقول:
غريب بأقصى الشرق يشكو معصبا
يحملها منه السلام إلى الغرب
فما ضر أنفاس الصبا في احتمالها
سلام فتى يهديه جسم إلى قلب
وحدث أن كان لولادة جارية سوداء تغني لها، وربما كانت إرثا من قصر أبيها، فغازل ابن زيدون هذه الجارية السوداء، فاغتاظت ولادة غيظا شديدا، وربما فعل ابن زيدون هذا ليثير فيها غريزة الغيرة، فقالت:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا
لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصنا مثمرا بجماله
وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني بدر السما
لكن ولعت لشوقتي بالمشتري
وربما اتصلت ولادة هي الأخرى بابن عبدوس انتقاما منه، وإثارة لغيرته، جزاء وفاقا.
ولما علم ابن زيدون أن ابن عبدوس اتصل بها، قال فيه:
أكرم بولادة ذخرا لمدخر
لو فرقت بين بيطار وعطار
قالوا: أبو عامر أضحى يلم بها
قلت: الفراشة قد تدنو من النار
عيرتمونا بأن قد صار يخلفنا
فيمن نحب وما في ذاك من عار
أكل شهي أصبنا من أطايبه
بعضا، وبعضا صفحنا عنه للفار
والظاهر أنها لم تكن تحب ابن عبدوس كابن زيدون، وإنما بهرها ابن عبدوس بماله، أو حدث ما جعلها تغيظ ابن زيدون في التظاهر بحب ابن عبدوس.
على كل حال بقي في السجن على حسب قوله نحو خمسمائة يوم، أي: سنة ونصف تقريبا، وزارته أمه يوما في السجن، فبكت وأثارت شجونه، فقال في ذلك قصيدته الجميلة التي مطلعها:
ألم يأن أن يبكي الغمام على مثلي
ويطلب ثأري البرق منصلت النصل
وهل أقامت أنجم الليل مأتما
لتندب في الآفاق ما ضاع من نثلي
44
ومنها:
ولو أنني أسطيع كي أرضي اليدا
شريت ببعض الحلم حظا من الجهل
وفيها يخاطب أمه فيقول:
أقلي بكاء لست أول حرة
طوت بالأسى كشحا على مضض
وفي أم موسى عبرة أن رمت به
إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي
لعل المليك المجمل الصنع قادرا
له بعد يأس سوف يجمل صنعا لي
45
ثم استرسل في عتاب ابن جهور. ولكن يظهر أن التهمة التي اتهم بها كانت لم تحتمل الشك، فقد تركه ابن جهور في السجن، وكان لا يفارقه حب ولادة، فبعث إليها بقصيدة طويلة يقول فيها:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا
والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله
كأنه رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضي مبتسم
كما شققت عن اللبات أطواقا
46
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا
إليك لم يعد عنها الصدر أن ضاقا
لا سكن الله قلبا عن ذكركم
فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم
سلوتم وبقينا نحن عشاقا
وبعثها إليها فلم ترد عليه، واستشفع بأستاذه الذي ذكرناه قبل، وهو أبو بكر مسلم بن أحمد، ورجاه أن يتوسط له عن ابن جهور، وبعث إليه بقصيدة مر بعضها ويقول فيها:
عليك أبا بكر بكرت بهمة
لها الخطر العالي وإن نالها الحط
أبى بعدما هيل التراب على أبي
ورهطي فذا حين لم يعبق لي رهط
ولولاك لم تقدح زناد قريحتي
فينتهب الظلماء من نارها سقط •••
أتدنو قطوف الجنتين لمعشر
وغايتي السدر القليل أو الخمط •••
يولونني عرض الكراهة والقلى
وما دهرهم إلا النفاسة والغمط
وقد وسموني بالتي لست أهلها
ولم يمن أمثالي بأمثالها قط •••
وإني لراج أن تعود كبدئها
لي الشيمة الزهراء والخلق السبط
فما لك لا تختصني بشفاعة
يلوح على دهري لميسمها علط
47
ويظهر أن تدخل أستاذه قد نجح، فقد رأيناه عاد إلى البلاط، ونراه بعد ذلك يمدح ابن جهور، ولكن لم نر ولادة قد عادت إلى صداقتها القديمة لابن زيدون، بل نرى أنها انسحبت بعد ذلك من الميدان الأدبي، وعاشت سنين في بيت ابن عبدوس، ورأينا بعد ذلك أن أبا الوليد بن جهور بعد أن مات أبوه وتولى هو مكانه، قد أشفق على ابن زيدون من ضناه في الحب، فأرسله سفيرا عنه إلى بعض أمراء الأندلس، لعله ينسى حبه.
ثم إن الزمان الذي يشيب كل شاب، ويهرم كل فتى وفتاة، ويميت كل حي، قد عدا على ولادة، فأذهبها نضرة شبابها، ونظرت فإذا هي في الثمانين من عمرها من غير زواج، ولكنها كانت خليلة هذا أو ذاك.
ونظرت أيضا فرأت أن حرارتها في الحب قد هدأت، وأن من كانوا يحبونها لم يعودوا يتشببون بها؛ لأن الناس إنما كان يعجبهم فيها شبابها، فإذا ولى الشباب ولى الحب، وسلا ابن زيدون، وسلا ابن عبدوس، وعاشت هي بذكريات أمسها لا بيومها.
وقد رووا أن ولادة أخذت على ابن زيدون بعض معايب كانت تقصها على الوسطاء، وتعتذر بها عن نبوتها عنه. ولسنا نبرئ ابن زيدون من كل عيب، فلا بد له من عيوب فيه حالت بينه وبين استمرار ولادة في حبه، وكثرة الناقمين عليه من أصحابه. والناس يخلطون كثيرا في الصفات فينسبون إلى النابغة في ناحية كمالا في النواحي الأخرى، وهذا غير صحيح، فقد يكون زعيما كبيرا، أو شاعرا عظيما في نواح خاصة، على حين أنه ساقط كل السقوط في نواح أخرى، بل قد تكون نقطة قوته نامية على حساب ضعفه في النواحي الأخرى، كالأعمى ينمو سمعه على حساب بصره. ولعل مترجمي ابن زيدون قد وقعوا في هذا الخطأ، فجندوا أنفسهم للدفاع عنه في كل منقصة تنسب إليه، ولعل خصومه كانوا محقين في توجيه اللوم له على بعض تصرفاته، ولكن لعلنا لم نظفر بأشعار ابن زيدون الجميلة إلا لما فيه من مزايا وعيوب، وأي الناس تصفو مشاربه؟!
ولما استطال ابن زيدون مدة سجنه، كتب إلى أبي الوليد بن جهور أن يستشفع له عند أبيه أبي الحزم، فعفا عنه، ثم لما مات أبو الحزم وتولى مكانه ابنه أبو الوليد قربه إليه، ولكن سرعان ما سمع أبو الوليد لأقوال وشاة ابن زيدون؛ وهم بإعادته إلى السجن، فخاف ابن زيدون إذ كان قد ذاق مرارة السجن، واعتزم أن يفر من قرطبة إلى إشبيلية، حيث كان يحكمها المعتضد بن عباد، ولم يشأ أن يفر مفاجأة، فراسل أصدقاءه هناك، والمعتضد نفسه، فوعدوه أن يستقبلوه استقبالا حسنا، ففر إليها، وصادف أن كان وقت نزوله عيد الأضحى، فجاشت نفسه بالشعر فقال:
خليلي لا فطر يسر ولا أضحى
فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى
وظل مدة المعتضد بن عباد مكرما معززا، ولما مات المعتضد رثاه رثاء طويلا في قصيدة مطلعها:
أعباد يا أوفى الملوك لقد عدا
عليك زمان من سجيته الغدر
وكذلك كان شأنه مع ابنه المعتضد بن عباد. ثم إن حساد ابن زيدون نشطوا من جديد، كشأنهم معه في كل بلد حل فيه، فأرادوا أن يغيروا عليه قلب المعتضد بن عباد، فكانوا يرمون الرقع، ويقصدون القصائد في تحذيره من ابن زيدون، فلم يأبه لهم، ولم يسمع لكلامهم، فلما يئسوا من ذلك أوعزوا إلى ابن عباد أن يرسل ابن زيدون في جيش لإخماد فتنة حتى يستريحوا منه، وقالوا لابن عباد: إن له من الشجاعة والفتوة، وحب الناس له ما يجعله أهلا لذلك. فسمع لكلامهم، فأمره بالسفر مع الجيش مع أنه كان مريضا، فخضع للأمر، وسافر، وعاد فلم يلبث إلا قليلا حتى مات رحمه الله ... ولابن زيدون ناحية نثرية بديعة سنتكلم عنها في النثر. (1-6) ابن عباد
أسرة بني عباد أسرة تنتمي إلى النعمان بن المنذر اللخمي، آخر ملوك الحيرة، الملقب بماء السماء، وكثيرا ما كان يمدحه الشعراء بماء السماء، مستخدمين الاسم والمعنى، وأفرادها يعتزون بالانتساب إليها، وقد كانوا أشهر ملوك الطوائف، فملكوا إشبيلية وقرطبة، وفيهم يقول القائل:
من بني النذرين وهو انتساب
زاد في فخرهم بنو عباد
فتية لم تلد سواها المعالي
والمعالي قليلة الأولاد
عرفوا بالفقه والأدب والشجاعة وعلو الهمة، وكان المعتضد أبو المعتمد شاعرا، ولكنه دون ابنه المعتمد.
وقد تجمعت للمعتمد أسباب كثيرة ألهبت عواطفه، على اختلاف أنواعها، فهو محب شريب تلعب به عواطف الحب، ثم تلهبها الخمر، ومن ناحية أخرى يعتز أحيانا في ملكه، فتمدحه الشعراء ويلهبون عنده عواطف المجد والفخر؛ ومن ناحية يفقد ولديه في الحروب، وكانا شابين ماجدين، فتثور عنده عاطفة الحزن، وأخيرا يذهب عنه عزه وملكه، فيذل بعد العزة، ويهون بعد العلو، ويفتقر بعد الغنى، وينظر لحاله من جميع النواحي، فيرثى لها، ويبكي عليها بكاء مرا، كل هذه الأسباب إذا اجتمعت في شاعر، أنطقته بخير الأقوال، وهو في شعره هذا لا يتملق بمديح، ولا يتزلف لسلطان، إنما يشعر لنفسه، فحياته شعره، وشعره حياته.
ويمكن تقسيم حياته إلى ثلاث فترات: (1)
حياته الأولى في شبابه، تغمرها مجالس الأنس: خمر ونساء، ومجالس أنس وأدب، وحرب أحيانا. وهذا قبل أن يتولى الملك. وفي هذه الفترة كان يسير مرة مع صديقه الشاعر الكبير ابن عمار على شاطئ نهر، فخطر على بال ابن عباد شطر بيت وهو:
صنع الريح من الماء زرد ... ... ... ...
ثم أرتج عليه فام يستطع إكماله ، فقال لابن عمار: أجز. فأرتج عليه أيضا، فسمع جارية وراءه تقول: ... ... ... ...
يا له درعا منيعا لو جمد
وفي رواية أخرى: ... ... ... ...
أي درع لقتال لو جمد
فالتفت وراءه، فرأى فتاة أعجب بجمالها، وبحسن بديهتها، وكان مولاة يظهر أنها أسرت في الحروب، أو مولدة، فسأل عن اسمها، فقيل: إن اسمها «اعتماد»، وكان سيدها يسمى «رميك بن الحجاج» فاشتراها منه، وأحبها وملأت قلبه، وشغلت جزءا كبيرا من حياته، وتسمى «اعتماد الرميكية». وقد أنجب منها بعض أبنائه فشاركته في نعيمه وبؤسه، ويحكون أنها رغبت مرة أن تسير في طين كعادتها قديما، فعمل لها ابن عباد وحلا من مسك وعنبر وكافور، تدليلا لها، فلما غضبت مرة كعادة النساء أيام بؤسه وقالت له: «لم أنل منك يوم سرور»، رد عليها وقال: «ولا يوم الطين؟» فخجلت وسكتت.
على كل حال كانت هذه فترة مرح وسرور وترف ونعيم. (2)
ثم تولى الملك، فزاد ترفه ونعيمه وعظمته ومسئوليته، وقصده الناس من كل فج، واتسع ملكه اتساعا كبيرا، فضم قرطبة إلى إشبيلية، وفي ذلك الحين قالوا: إنه لم يقف بباب أحد من الشعراء ما وقف ببابه. ثم عدا عليه الزمان الذي لا يرحم، فجاءت فترة قوي فيها ملك الإسبان، حتى وضع الجزية على ابن عباد. وأخيرا لما أحس ملك الإسبان بقوته رفض أن يأخذ الجزية، وأرسل رسولا إليه، فضرب ابن عباد الرسول، وقتل من معه، وقال كلمته المشهورة: «لأن أكون راعي جمل عند يوسف بن تاشفين،
48
خير من أكون قائدا كبيرا عند الأذفونش».
أحس الناس في ذلك الوقت الخطر الداهم عليهم من الإسبانيين، حتى قال قائلهم:
حثوا رواحلكم يأهل أندلس
فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى
سلك الجزيرة منثورا من الوسط
من جاور الشر لم يأمن عواقبه
كيف الحياة مع الحيات في سفط
فلما سمع رجال الأندلس، أعيانها وفقهاؤها بذلك، اجتمعوا وقالوا: هذه مدن الإسلام قد تغلب عليها الفرنج، وملوكنا يقاتل بعضهم بعضا، وإن استمر الحال على هذا المنوال ملك الفرنج جميع البلاد، وجاءوا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، وفاوضوه فيما نزل بالمسلمين، وتشاوروا فيما يفعلون، وآخر ما اجتمع عليه رأيهم أن يكتبوا إلى يوسف بن تاشفين ملك الملثمين «المرابطين» بالمغرب يستنجدونه، فاجتمع القاضي بالمعتمد، وأخبره بما جرى، فوافق على أنه مصلحة، وقال له: تمضي إليه بنفسك، فكتب القاضي إليه، فما لبث ابن تاشفين أن خرج مسرعا إلى مدينة «سبتة» وعبر هو وعسكره إلى الجزيرة الخضراء، وهي مدينة في بر الأندلس، وأرسل إلى جيوشه أن يلحقوا به، وكتب إلى ابن عباد بذلك، ووقعت وقعة كبيرة بين ابن تاشفين ومن تبعه من رجال الأندلس، وبين الأذقونش ، وهي الوقعة المشهورة بوقعة الزلاقة، وفيها انهزم الإسبانيون ومن معهم بعد قتال شديد، وكان ذلك في سنة 479ه، واتخذ هذا عاما مشهورا يؤرخون به، فيقولون: «عام الزلاقة». وحارب مع ابن تاشفين ابن عباد، وأبلى بلاء حسنا، وجرح مرارا، وتعرض للموت مرارا.
49
وكان المظنون أن يرحل ابن تاشفين عن الأندلس نهائيا بعد انتصاره ويعود إلى بلاده، ولكن أطمعه أصحابه في البلاد فسمع لقولهم بعد أن رأى ثروتها ونضارتها، وكثرة مالها، وربما فكر أيضا من ناحية صلاح المسلمين، فرأى أن البلاد مقسمة إلى أمراء لا رابطة بينهم، وأنهم بهذا الوضع لا يستطيعون أن يصدوا الإسبانيين، وأن القوة في الوحدة؛ فعزم أن يزيل ملوك الطوائف، ويضع يده على البلاد. وأيا ما كان فقد رحل يوسف بن تاشفين، ثم عاد إلى الأندلس ببربره الأجلاف، وأزال ملوك الطوائف، ومن بينهم المعتمد بن عباد. (3)
قاتل ابن عباد أشد قتال، دفاعا عن بلاده، حتى اضطربت إشبيلية اضطرابا خرج الناس معه من منازلهم، وبعضهم ألقى نفسه في البحر. وفي ذلك يقول:
لما تماسكت الدموع
وتنهنه القلب الصديع
قالوا: الخضوع سياسة
فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضو
ع على فمي السم النقيع
إن تستلب عني الدنا
ملكي وتسلمني الدموع
فالقلب بين ضلوعه
لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطبا
ع أيسلب الشرف الرفيع
قد رمت يوم نزالهم
ألا تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القمي
ص عن الحشا شيء دفوع
وبذلت نفسي كي تسي
ل إذا يسيل بها النجيع
أجلي تأخر لم يكن
بهواي ذلي والخشوع
ما سرت قط إلى القتا
ل وكان من أملي الرجوع
شيم الألى أنا منهم
والأصل تتبعه الفروع
وشنت الغارة في البلد، ولم يترك البربر لأحد من أهلها ثبدا ولا لبدا، وانتهبت قصور المعتمد نهبا قبيحا، وأخذ هو وأهله ووضعوا في السفن، وكان له ولدان؛ المعتمد بالله، والراضي بالله، وكانا بمعقلين من معاقل الأندلس المشهورة، لو شاءا أن يمتنعا بهما، لم يصل أحد إليهما، فضيق على المعتمد بن عباد، وأثقل بالحديد، ليكتب لابنيه بأن يسلما، فلما أكثر أبوهما من ذلك استسلما، ثم قتلا غيلة. وللمعتمد شعر كثير في رثاء ولديه هذين، كقوله:
يقولون صبر لا سبيل إلى الصبر
سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
هوى الكوكبان الفتح ثم شقيقه
يزيد فهل بعد الكواكب من صبر
أفتح لقد فتحت لي باب رحمة
كما بيزيد الله قد زاد في أجري
هوى بكما المقدار عني ولم أمت
وأدعى وفيا! قد نكصت إلى الغدر
توليتما والسن بعد صغيرة
ولم تلبث الأيام أن صغرت قدري
فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى
إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
يعيد على سمعي الحديد نشيجه
ثقيلا، فتبكي العين بالحس والنقر
معي الأخوات الهالكات عليكما
وأمكما الثكلى المضرمة الصدر
فتبكي بدمع ليس للقطر مثله
وتزجرها التقوى فتصغي إلى الزجر
أبا خالد أورثتني البث خالدا
أبا النصر مذ ودعت ودعني نصري
50
وقبلكما ما أودع القلب حسرة
تجدد طول الدهر، ثكل أبي عمرو
51
ولما انهزم ابن عباد، وخرج بجواريه وأمواله، أخذ الناس يبكون بدموع غزار عندما علموا بخروجه، وقال في ذلك الشاعر المشهور ابن اللبابة قصيدة مطلعها:
تبكي السماء بدمع رائح غادي
على البهاليل من أبناء عباد
ومنها:
يا ضيف أفقر بيت المكرمات فخذ
في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
وقال ابن حمديس:
ولما رحلتم بالندى في أكفكم
وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني ب «القيامة قد دنت»
فهذي الجبال الراسيات تسير
وأخرج من ملكه، ووضع في بلدة تسمى «أغمات» قرب مراكش، وقال في ذلك أبو بكر الداني وهو ابن اللبانة أيضا:
لكل شيء من الأشياء ميقات
وللمنى من مناياهن غايات
والدهر في صبغة الحرباء منغمس
ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده
وربما قمرت بالبيدق الشاة
انفض يديك من الدنيا وساكنها
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وملء لعالمها الأرضي قد كتمت
سريرة العالم العلوي أغمات
فكان في أسره فقيرا معذبا، وما زال حاله يسوء حتى أصبح في عيشة ضنك ... مر العيد عليه مرة، فذكر ما هو فيه من بؤس، وما كان فيه من عز، فقال:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا
فردك الدهر منهيا ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به
فإنما بات بالأحلام مغروا
وثقلت عليه القيود مرة، وعضت ساقيه، فقال:
قيدي: أما تعلمني مسلما
أبيت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللحم قد
أكلته! لا تهشم الأعظما
يبصرني فيك أبو هاشم
فينثني والقلب قد هشما
ارحم طفيلا طائشا لبه
لم يخش أن يأتيك مسترحما
وارحم أخيات له مثله
جرعتهن السم والعلقما
منهن من يفهم شيئا فقد
خفنا عليه للبكاء العمى
والغير لا يفهم شيئا فما
يفتح إلا لرضاع فما
والغريب أن الشعراء لم يخجلوا أن يسألوه وهو على تلك الحال فقال:
سألوا اليسير من الأسير وإنه
بسؤالهم لأحق منهم فاعجب
لولا الحياء وعزة لخمية
طي الحشا لحكاهم في المطلب
وهكذا كان كل شيء يذكره بماضيه، فيشعر فيه، وشعره كله صادق، إن كان في لهوه وعزه فشعره عزة ولهو، وإن مات بعض أولاده فشعره رثاء وحنين، وإن وقف فارسا في موقف البطولة فشعره بطولة، وإن أسر وسجن فشعره بكاء وحزن وذكر لماض، وكلها أدب صادق حي، يستطيع القارئ أن يلحظ هذه الفترات كلها في شعره، فهو ظل له. فإن رأيت غزلا هادئا، وحبا صادقا، فذلك في الفترة الأولى، مثل قوله:
فتكت مقلتاه بالقلب مني
وبكت مقلتاي شوقا إليه
فحكى لحظه لنا سيف عبا
د ولحظي له سحاب يديه
وقوله:
كتبت وعندي من فراقك ما عندي
وفي كبدي ما فيه من لوعة الوجد
وما خطت الأقلام إلا وأدمعي
تخط سطور الشوق في صفحة الخد
ولولا طلاب المجد زرتك طيه
عميدا كما زار الندى ورق الورد
ومثل قوله:
ولقد شربت الراح يسطع نورها
والليل قد مد الظلام رداء
حتى تبدى البدر في جوزائه
ملكا تناهى بهجة وبهاء
وتناهضت زهر النجوم يحفه
لألاؤها فاستكمل اللألاء
لما أراد تنزها في غربه
جعل المظلة فوقه الجوزاء
وترى الكواكب كالمواكب حوله
رفعت ثرياها عليه لواء
وحكيته في الأرض بين مواكب
وكواعب جمعت سنا وسناء
إن نشرت تلك الدروع حنادسا
ملأت لنا هذي الكئوس ضياء
وإذا تغنت هذه في مزهر
لم تأل تلك على التريك غناء
وقوله:
يا صفوتي من البشر
يا كوكبا، بل يا قمر
يا غصنة إذا مشت
يا رشأ إذا نظر
يا نفس الروضة قد
هبت لها ريح سحر
يا ربة اللحظ الذي
شد وثاقا إذ فتر
متى أداوي بندا
ي السمع مني والبصر
ما بفؤادي من جوى
بما بفيك من خصر
وإذا رأيت شعره فخرا وشمما مملوءا حماسة أو رثاء فذلك في الفترة الثانية، وإذا رأيت بكاء على الماضي، ومقارنة بين ماض زاهر، وحاضر بائس فاعلم أن هذا ظل للفترة الثالثة كقوله:
قبح الدهر فماذا صنعا
كلما أعطى نفيسا نزعا
قد هوى ظلما بمن عادته
أن ينادي كل من يهوى «لعا»
راح لا يملك إلا دعوة
جبر الله العفاة الضيعا
وقوله:
بكيت إلى سرب القطا إذا مررن بي
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
ولم يك والله المعيد حسادة
ولكن حنينا أن شكلي لها شكل •••
لنفسي إلى لقيا الحمام تشوق
سوائي بحب العيش في ساقه حجل
ألا عصم الله القطا في فراخها
فإن فراخي خانها الماء والظل
وقوله:
كنت حلف الندا ورب السماح
وحبيب النفوس والأرواح
إذ بيميني للبذل يوم العطايا
ولقبض الأرواح يوم الكفاح •••
وأنا اليوم رهن أسر وفقر
مستباح الحمى مهيض الجناح
لا أجيب الصريخ إن حضر النا
س ولا المعتفين يوم السماح
عاد بشري الذي عهدت عبوسا
شغلتني الأشجان عن أراحي
فالتماحي إلى العيون كريه
ولقد كان نزهة اللماح ... إلخ.
وشعره من روح شعر ابن زيدون، وقد كانا متعاصرين، وكان ابن زيدون يمدح ابن عباد، فلئن كان ابن عباد أرفع شأنا وأعلى نفسا فابن زيدون أغزر معنى، وأطول نفسا.
وتبعة ابن تاشفين قوية على كل حال، فمهما كانت الأسباب التي حملت على إزالة ملوك الطوائف، سواء كانت أسبابا وضيعة كحبه لمال الأندلس وخيراتها، أو كانت أسبابا شريفة كتوحيد المملكة ضد أعدائه، فقد كان يستطيع أن يحبس ابن عباد في قصر فخم يليق به، من غير قيود وأغلال، ويجري عليه من الرزق ما يكفيه عن سعة. وبذلك يضمن تحصيل رغبته، ويخفف من وقع الألم عن ابن عباد، ولكنه بدوي جلف، لا يفهم كثيرا معنى الإنسانية.
وقد كان حول ابن عباد شعراء كثيرون يمدحون ويلهون معه، وهو فيهم كالبدر حوله الهالة، من أشهرهم ابن عمار، وابن زيدون وابن اللبانة، والحصري، وابن حمديس الصقلي، وعلي بن حصن وغيرهم. فابن عمار شاعر كبير، ويظهر أنه نشأ نشأة فقيرة في شلب وقرطبة، أخذ يتجول في بلاد الأندلس، يمدحهم وينال منهم، حتى حط رحاله عند المعتمد بن عباد، فوجد منه ابن عباد أنيسا لطيفا، وسميرا وأديبا، يشعر فيما يشعر فيه ابن عباد، غاية الأمر أن ابن عمار خضع لنشأته الفقيرة، فكان لا يأمن الدهر، ولا يطمئن إليه، ولكنه مع ذلك كان يشارك ابن عباد في التهام المسرات، فأخذ يمدحه ويقول فيه مثلا:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى
والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لنا كافوره
لما استرد الليل منا العنبرا
والروض كالحسنا كساه زهره
وشيا وقلده نداه الجوهرا
أو كالغلام زها بورد رياضه
خجلا وتاه بآسهن معذرا
روض كأن النهر فيه معصم
صاف أطل على رداء أخضرا
وتهزه ريح الصبا فتخاله
سيف ابن عباد يبدد عسكرا
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد
ونحاه لا يردون حتى يصدرا
كان المعتمد بن عباد واليا أول الأمر على إشبيلية من قبل أبيه المعتضد، فصاحبه ابن عمار، وحضه على الإسراف في الترف والنعيم، واللهو والمجون، فلما علم المعتضد بذلك أراد أن يصرفه عن ابنه، حتى يلتفت إلى أمور الولاية، فنفاه عن إشبيلية، فلما مات المعتضد وصار الأمر للمعتمد استقدمه إلى غرناطة وجعله شاعره كما كان، وجعله وزيرا له ، ولكن يظهر أنه كان طموحا وكان شجاعا غازيا، ويظهر أنه قد حدثته نفسه أن يحل محل سيده ابن عباد، فاتهموه بأنه يدبر الدسائس لذلك، وكان له أعداء في البلاط يدسون له ويدس لهم كابن زيدون. وأخيرا وبعد جملة حوادث غضب عليه الأمير ابن عباد وقتله. وله شعر كثير مبثوث في كتب الأدب يدل على عظيم شاعريته وانتحائه منحى أميره. ولم يكن ابن عباد فيما يظهر متجنيا، فقد عثر على قصيدة لابن عمار عنيفة جدا ذم فيها المعتمد وآله وزوجه، ويظهر أن بلاط الأمراء كعادته مملوء بالدسائس والأكاذيب والفتن، وهذا الذي وقع لابن عمار وقع قريبا منه لابن زيدون كما ذكرنا ذلك من قبل.
وأما ابن اللبانة فكان شاعرا كبيرا، وكان أستاذا لابن زيدون. وأكبر ما يؤثر عنه في هذه الكارثة أنه وصف وصفا مؤثرا رحيل ابن عباد لما وقع أسيرا في يد المرابطين ونفيت أسرته، قال:
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا
سيقوا على نسق في حبل مرتاد
وأنزلوا عن متون الشهب واحتملوا
فويق دهم لتلك الخيل أنداد
وعيث في كل طوق من دروعهم
فصيغ منهن أغلال لأجياد
والناس قد ملئوا العبرين واعتبروا
من لؤلؤ طافيات فوق أزياد
حط القناع فلم تستر مخدرة
ومزقت أوجه تمزيق أبراد
حان الوداع فضجت كل صارخة
وصارخ من مفداة ومن فادي
سارت سفائنهم والنوم يصحبها
كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت
تلك القطائع من قطعات أكباد
من لي بكم يا بني ماء السماء إذا
ماء السماء أبى سقيا حشا الصادي
وأما الحصري فهو صاحب «زهر الآداب» المشهور، وقد أخذ عليه أنه استجدى ابن عباد من منفاه، وكان فقيرا، فأخذت ابن عباد أريحيته وبعث إليه بكل ما معه، وبعث مع ذلك بقطعة يعتذر فيها عن قلة ما منحه. واستبشع مؤرخو الأدب فعلة الحصري وقالوا: «إنه جرى مع المعتمد على سوء عادته، من قبح الكدية، وإفراط الإلحاف».
وأما ابن حمديس فصقلي الأصل، ولد حوالي سنة 447ه في سرقوسة بصقلية، واشتهر بالشعر من صغره، ولما سقطت صقلية في يد النورمانديين سنة 471ه فر ابن حمديس إلى الأندلس، وكان شاعرا في بلاط المعتمد أيام كان أميرا على إشبيلية، فلما أصيب ابن عباد بالمحنة وفى له ابن حمديس، وعاش معه. وله ديوان شعر كبير، نشره «أماري» وهو يمثل حياته حينما عاش في صقلية، وحينما كان في بلاط ابن عباد في إشبيلية، وحين كان مع ابن عباد في سجنه.
أما علي بن حصن فهو شاعر يمثل خاصة شعراء الأندلس في التكلف في الاستعارة والاصطناع في التشبيه، كقوله يصف فرخ حمام:
وما هاجني إلا ابن ورقاء هاتف
على فنن بين الجزيرة والنهر
مفستق طوق لازوردي كلكل
موشى الطلا أحوى القوادم والظهر
أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ
وصاغ من العقيان طوقا على الثغر
جديد شبا المنقار داج كأنه
شبا قلم من فضة مد في حبر
توسد من فرع الأراك أريكة
ونام على طي الجناح مع النحر
ولما رأى دمعي مراقا أرابه
بكائي فاستولى على الغصن النضر
وحث جناحيه وصفق طائرا
وطار بقلبي حيث طار ولا أدري
وهو نوع من الشعر لا أحبه؛ لأنه لا يدل على عاطفة صادقة، وإنما يدل على لعب بهلوانية.
وعلى الجملة فقد كان ابن عباد أيام نعيمه وأيام بؤسه نعمة على الأدب بما قاله في وصف مشاعره، وبما قاله الأدباء فيه. (1-7) ابن سهل
هو إبراهيم بن سهل الإسرائيلي، كان إسرائيليا فأسلم وتعلم العلم عن رجال الأندلس، وكانت حلقات العلم شائعة بين المسلمين والنصارى واليهود، لا يحجب عنها من أراد، فمن أساتيذه مثلا أبو علي الشلوبيني، واشتهر ابن سهل بهوى يهودي اسمه موسى، كاد يخصص فيه كل شعره، فأعاد لنا ذكرى أبي نواس في شعره في المذكر، غير أن ابن سهل كان أسهل لفظا، وأحسن معنى، أما أبو نواس فكان أجزل لفظا، وأمرح في غزله نفسا، وكان أبو نواس متعدد النواحي، يقول في المديح وفي الرثاء وفي غزل المذكر والمؤنث، وفي الزهد. أما هذا فشعره كله تقريبا في غزله في محبوبه موسى، وهو في الرقة كابن زيدون. وقد قالوا: إنه أحب بعد ذلك فتى اسمه محمد، وقال في التورية في ذلك:
تركت هوى موسى لحب محمد
ولولا هدى الرحمن ما كنت أهتدي
وما عن قلى مني تركت وإنما
شريعة موسى عطلت بمحمد
ومن شعره:
ردوا على طرفي النوم الذي سلبا
وخبروني بقلبي أية ذهبا
علمت لما رضيت الحب منزلة
أن المنام على عيني قد غضبا
إني له عن دمي المسفوك معتذر
أقول حملته في سفكه تعبا
نفسي تلذ الأسى فيد وتألفه
هل تعلمون لنفسي في الجوى نسبا
قالوا: عهدناك من أهل الرشاد فما
أغواك؟ قلت: اطلبوا في لحظه السببا
من صاغه الله من ماء الحياة وقد
أجرى بقيته في ثغره شنبا
كم ليلة بتها والنجم يشهد لي
رهين شوق إذا غالبته غلبا
مرددا في الدجى لهفا ولو نطقت
نجومها رددت من حالتي عجبا
ماذا ترى في محب ما ذكرت له
إلا بكى أو شكا أو حن أو طربا؟
وقوله:
كأن الحال في وجنات موسى
سواد العتب في نور الوداد
أخط لصدغه في الحسن واوا
قنقطة خاله بعض المداد
لواحظه محيرة ولكن
بها اهتدت الشجون إلى فؤادي
وقوله:
بكيت على النهر أخفي الدموع
فعرضها لونها للظهور
وقفت سحيرا وغالبت شوقي
ونادى الأسى حسنه: من مجير؟
أنار وقد نفحت زفرتي
فصار الغدو كوقت الهجير
أموسى: تهن نعيم الكرى
فليلي بعدك ليل ضرير
وقوله:
سل في الظلام أخاك البدر عن سهري
تدري النجوم كما تدري الورى خبري
أبيت أسجع بالشكوى وأشرب من
بين الرياض وبين الكاس والوتر
بعض المحاسن يهوى بعضها، عجبا
تأملوا كيف هام الغنج بالخفر
إن تقصني فنفار جاء من رشأ
أو تضنني فمحاق جاء من قمر
وقال:
وإني لثوب الحزن أجدر لابس
وموسى لثوب الحسن أحسن مرتدي
تأمل لظى شوقي وموسى يشبها «تجد خير نار عندها خير موقد»
إذا ما رنا شزرا فقل: لحظ أحور
وإن يلو إعراضا فصفحة أغيد
وعذب بالي أنعم الله باله
وسهدني، لا ذاق طعم التسهد
شكوت فجاءوا بالطبيب وإنما
طبيب سقامي في لواحظ مسعد
إلى أن يقول:
وكان الهوى ما بين عينيك كامنا
كمون المنايا في الحسام المهند
أظل ويومي فيك هجر ووحشة
ويومي بحمد الله أحسن من غدي
وصالك أشهى من معاودة الصبا
وأطيب من عيش الزمان الممهد
عليك فطمت العين من لذة الكرى
وأخرجت قلبي طيب النفس من يدي
ويقول:
يقولون: لو قبلته لاشتفى الجوى
أيطمع في التقبيل من يعشق البدرا
ولو غفل الواشي لقبلت نعله
أنزهه أن أذكر الجيد والثغرا
وما أنا من يستحمل
52
الريح سره
أغار حفاظا أن أذيع له سرا
إذا فئة العذال جاءت بسحرها
ففي وجه موسى آية تبطل السحر
وقال فيه موشحات أيضا ربما تذكر بعضها بعد، وقد مات غريقا سنة 649ه قبل سقوط الأندلس بقليل، وشعره يدل على أن الأندلس انهارت سياسيا بتفرق أهلها وأمرائها، ولكن لم تسقط أدبيا. (1-8) ابن قزمان
هو شاعر من نوع آخر. لئن كان الذين سبقوا شعروا لخلفاء وأمراء ووزراء وعلماء، أو شعروا لأنفسهم من غزل ونسيب ونحو ذلك فابن قزمان شعر للشعب، وقد رأى أن يطرب الناس بالزجل والموشحات، فقال في ذلك شعرا، وجال به في الآفاق، فنراه في إشبيلية وقرطبة وبلنسية وغير ذلك من البلاد، ويظهر أنه كان من صميم الشعب، وإن كان بعض المترجمين لقبه بالوزير، فيظهر أن أكثر من واحد لقب بابن قزمان. وإذ كان ديوانه باللهجة الشعبية، ولهجة الأندلس تخالف بقية اللهجات، كان فهم ديوانه عسيرا. يضاف إلى ذلك أن الأزجال والموشحات وأدب الشعب على العموم ليس كالأدب الكلاسيكي، وديوانه طرفة من الطرف الشعبية، لولا أن لغته الدارجة صعبة الفهم علينا؛ لأن فيها تعبيرات أندلسية تخالف ما لنا، وهذا عيب اللغة الدارجة، فلئن كانت اللغة الفصحى قدرا شائعا بين المتكلمين باللغة العربية في جميع الأقطار، فاللغة الدارجة لهجة محلية قل أن يفهمها إلا أهلها. وهذا الديوان يخرج عن حد الوقار كديوان ابن حجاج وابن سكرة، يشيع فيه الفحش والعبث ولا يخضع لأي نوع من أنواع المنطق، ولما استحسنها الشعب لانسجامها مع ذوقه شاعت بينهم ، وترفعت عنه الفئة المهذبة المثقفة.
والأدب الشعبي يسمع أحسن مما يقرأ؛ لذلك صعبت قطع كثيرة في ديوانه عن أن تفهم. وقد عني بعض المستشرقين بشعره كثيرا؛ لأن شعره أكثر دلالة على حالات الشعب من الشعر الكلاسيكي. والغالب أنه كتب باللغة القرطبية وهو مجال دراسة طويلة لمن يريد أن يدرس الزجل والموشحات، وتدل أشعاره على فقره وتعبه في الحياة، ومجاهدته في تحصيل العيش، ولا يزال ديوانه المنشور موضع دراسات كثيرة من نواح مختلفة مع التصحيح والتعليق، وعلى يده تقدم الزجل والموشحات، ويظهر من ديوانه أنه مثقف ثقافة أدبية، فهو يذكر أسماء كثيرة من الشعراء وهو يذكرنا بزجالي مصر الأدباء، أمثال النجار، والقوصي.
ومن قوله:
يملك الفارس رمحا بيد
وأنا أمسك فيها قصبه
فكلانا بطل في حربه
إن الأقلام رماح الكتبه
وطلب منه صديق أن يدعوه إلى مجلس مؤانسة فقال:
أتى من المجد أمر لا مرد له
نمشي على الرأس فيه لا على قدم
رقز
53
ورقص وما أحببت من ملح
عندي وأكثر ما تدريه من شيمي
حتى يكون كلام الحاضرين بها
عند الصباح وما بالعهد من قدم «يا ليلة السفح هلا عدت ثانية
سقى زمانك هطال من الديم»
54
ويقول:
لا تطمئن إلى أحد
واحذر وشمر واستعد
فالكل كلب مؤسد
إلا إذا وجدوا أسد
وهو عادة يخلط المديح بالغزل، بالطلب، بالفكاهة، وهكذا. وسنأتي أمثلة من زجله وموشحاته عند الكلام على الزجل والموشحات.
هذا الذي ذكرنا يمثل إلا شعر الشعراء الذي تخصصوا للشعر، مع أن جزءا كبيرا من الشعر صدر عن جماعة غير متخصصين له، لا بد أن نضيف نموذجا منه، فمثلا يقول أحدهم في ساقية:
لله دولاب يفيض بسلسل
في جنة قد أينعت أفنانا
أضحت تطارحه الحمائم شجوها
فيجيبها ويرجع الألحانا
وكأنه دنف أطاف بمعهد
يبكي ويسأل فيه عمن بانا
ضاقت مجاري جفنه عن دمعه
فتفتقت أضلاعه أجفانا
ويقول آخر في زجاجة سوداء:
سأشكو إلى الندمان أمر زجاجة
تردت بثوب حالك اللون أسحم
صببت بها شمس المدامة بيننا
فتغرب في جنح من الليل مظلم
وتجحد أنوا الحميا بلونها
كقلب حسود جاحد يد منعم
ويقول آخر في الخال:
ألوامي على كلفي بيحيى
متى من حبه أرجو سراحا
وبين الخد والشفتين خال
كزنجي أتى روضا صباحا
تحير في جناه فليس يدري
أيجني الورد أم يجني الأقاحا
ويقول آخر في مشهد حب:
يا حسنه والحسن بعض صفاته
والسحر مقصور على حركاته
بدر لو ان البدر قيل له: اقترح
أملا، لقال: أكون من هالاته
وإذا هلال الأفق قابل شخصه
أبصرته كالشكل في مرآته
والخال ينقط في صحيفة خذه
ما خط فيها الصدغ من نوناته
صاحبته والليل يدني تحته
نارين من نفسي ومن وجناته
وضممته ضم البخيل لماله
أحنو عليه من جميع جهاته
أو ثقته في ساعدي؛ لأنه
ظبي أخاف عليه من فلتاته
وأبى عفافي أن أقبل ثغره
والقلب مطوي على جمراته
فاعجب لملتهب الجوانح غلة
يشكو الظما والماء في لهواته
وقال آخر في وصف الحبيب:
وضعت في الزجاج فالتهبت
وكسته ثوبا من اللهب
وعلا فوقها الحباب فلم
تبصر العين مثل ذا العجب
ضرم النار فوقه برد
كائن عنه منه في النسم
وقال آخر في وصف زورق:
وسابح بان لا تثنى قوائمه
كالصقر ينحط مذعورا لثعبان
كأنه مقلة للجو شاخصة
ومن مجاذيفه أهداب أجفان ... إلخ.
فكان غير الشعراء الرسميين يتظرفون بذكر ما يعرض من مناظر، وفي مجالس الأنس وفي الغزل، لا في المديح وأمثاله، مما تركوه للشعراء الرسميين. وهذا الذي فعله غير الرسميين أقرب إلى معنى الشعر. وعلى العموم فهو يكمل الصورة التي للشعر الأندلسي. (2) الموشحات والأزجال
بقي الشعر في الأندلس مقلدا للشعر الكلاسيكي في الشرق، ثم سبق الأندلس إلى نوع طريف من الشعر الشعبي، هو الموشحات والأزجال، لا يقصدون منهما إلى المثقفين وحدهم، بل يقصدون بهما الشعب كله، عالمه وعاميه، ولا يزال البحث مستمرا في علة ذلك، وسبب ظهوره، وهل كان اختراعه عربيا بحتا، أو متأثرا بآداب أخرى مجاورة. على كل حال تمتاز الموشحات بطابع مخصوص من الأوزان والتقاطيع، غير الأنواع المألوفة في الشعر القديم.
وقد عقد ابن خلود فصلا دقيقا في مقدمته في الشعر، تعرض فيه للموشحات والأزجال، ملخص ما قاله: إنهم في الموشحات «ينظمونها أسماطا أسماطا، وأغصانا أغصانا، ينسبون فيها ويمدحون، كما يفعل في القصائد، وقد استظرفها الناس وجملة الخاصة والكافة، لسهولة تناولها، وقرب طريقها، وكان المخترع لها في جزيرة الأندلس مقدم بن معافى القبري، من شعراء الأمير عبد الله بن محمد، وأخذ عنه ذلك ابن عبد ربه صاحب العقد، ثم برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز، شاعر المعتصم بن صماح، ثم جاءت الحلبة التي كانت في أيام الملثمين «المرابطين» فظهرت لهم البدائع».
ولنذكر بعض الأمثلة من هذه الموشحات:
موشحة منسوبة لابن زهر:
أيها الساقي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته
ويشرب الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليه واتكا
وسقاني أربعا في أربع
ما لعيني عشيت بالنظر
أنكرت بعدك ضوء القمر
فإذا ما شئت فاسمع خبري
عشيت عيناي من طول البكا
وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بان مال من حيث التوى
بات من يهواه من فرط الجوى
خفق الأحشاء موهون القوى
كلما فكر في البين بكى
ويحه يبكي لما لم يقع
ليس لي صبر ولا لي جلد
يا لقومي عذلوا واجتهدوا
أنكروا دعواي مما أجد
مثل حالي حقه أن يشتكي
كمد اليأس وذل الطمع
كبد حرى ودمع يكف
يذرف الدمع ولا ينذرف
أيها المعرض عما أصف
قد نما حبي بقلبي وزكا
لا تخل في الحب أني مدعي
ولابن سهل الإسرائيلي الأندلسي:
هل درى ظبي الحما أن قد حمي
قلب صب حله من مكنس
فهو في حر وخفق مثلما
لعبت ريح الصبا بالقبس
يا بدورا أشرقت يوم النوى
غررا تسلك بي نهج الغرر
ما لنفسي في الهوى ذنب سوى
منكم الحسنى ومن عيني النظر
أجتني اللذات مكلوم الجوى
والتداني من حبيبي بالفكر
كلمات أشكوه وجدي بسما
كالربا بالعارض المنبجس
إذ يقيم القطر فيها مأتما
وهي من بهجتها في عرس ... إلخ.
وقال لسان الدين بن الخطيب :
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس •••
إذ يقود الدهر أشتات المنى
ينقل الخطو على ما يرسم
زمرا بين فرادى وثنى
مثلما يدعو الوفود الموسم
والحيا قد جلل الروض سني
فثغور الروض عنه تبسم
وروى النعمان عن ماء السما
كيف يروي مالك عن أنس
فكساه الحسن ثوبا معلما
يزدهي عنه بأبهى ملبس
ولأبي بكر الأبيض الوشاح:
ما لذ لي شرب راح
مما أباد القلوبا
على رياض الأقاح
يمشي لنا مستريبا
لولا هضيم الوشاح
يا لحظه رد نوبا
إذا أسا في الصباح
ويا لماه الشنيبا
أو في الأصيل
برد غليل
أضحى يقول:
صب عليل
ما للشمول
لا يستحيل
لطمت خدي
فيه عن عهدي
وللشمال
ولا يزال
هبت فمال
في كل حال
هبت اعتدال
يرجو الوصال
ضمه بردي
وهو في الصد
وقد انتقل فن الموشحات والأزجال من الأندلس إلى سائر البلاد الشرقية، وكل نظمه بلغته لاختلاف اللغات الدارجة في الأمصار، فإن أزجال ابن قزمان وموشحات الأندلس كانت تروى في جميع البلاد. قال ابن سعيد: ورأيت أزجال ابن قزمان مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب، فاشتهر في تونس مثلا مدغليس، فقال في زجله:
ورذاذ دق ينزل
وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض
وترى الآخر يذهب
والنبات يشرب ويسكر
والغصون ترقص وتطرب
وتريد تيجي إلينا
ثم تستحيي وتهرب
ووضع ابن سنا الملك المصري موشحة أولها:
حبيبي ارفع حجاب النور
عن العذار
ننظر المسك على الكافور
في جلنار
كللي يا سحب تيجان الربا بالحلي
واجعلي سوارها منعطف الجدول
وقال أحد أهل فاس:
المال زينة الدنيا وعز النفوس
يبهي وجوها ليس هي باهيه
فها كل من هو كثير الفلوس
ولوه الكلام والرتبة العاليه
يكبروا من كتر ماله ولو كان صغير
ويصغروا عزيز القوم إذا يفتقر
من ذا ينطبق صدري ومن ذا يغير
وكاد ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومه كبير
لمن لا أصل عندو ولا لو خطر
وعلى أساس الزجل هذا اخترع عامة بغداد فنا من الشعر سموه المواليا، وتبعهم في ذلك أهل مصر والقاهرة. قال:
ناديتها ومشيبي قد طواني طي
جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
قالت وقد كوت داخل فؤادي كي:
ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
ومنها:
عيني التي كنت أرعاكم بها باتت
ترعى النجوم، وبالتسهيد اقتاتت
وأسهم البين صابتني ولا فاتت
وسلوتي عظم الله أجركم ماتت ... إلخ.
وهنا ملاحظات نذكرها على فن التوشيح والزجل: (1)
أن طبيعة التوشيح والزجل تجعلهما يسمعان أحسن مما يقرآن، وبعبارة أخرى يقومان بالأذن أكثر مما يقومان بالعين؛ وذلك لأنها في كثير من الأحيان يعوض فيها نقص الوزن بمد الحرف أو قصره أو غنته أو نحو ذلك. فهذه كلها تعوض في زيادة حرف أو نقصان حرف، فكانت تسمع خيرا مما تقرأ. (2)
تخضع الموشحات والأزجال لخصائص كل بلدة؛ لأن اللغة العربية الفصحى عامة في جميع الشعوب العربية. أما اللغة الدارجة فخاصة بكل قطر؛ ولذلك نرى أن الشعر الكلاسيكي قل أن يفرق بينه باختلاف الأقطار، أما الموشحات والأزجال فخاضعة لألفاظ كل قطر وأساليبه؛ ولهذا كان من الصعب أن يفهم قطر زجل القطر الآخر أو موشحاته؛ ولهذا أيضا صعب علينا مثلا أن نفهم ديوان ابن قزمان؛ لأن اللغة الأندلسية الدارجة تختلف عن اللغة المصرية الدارجة. (3)
أخطأ المؤلفون الأرستقراطيون في احتقار الموشحات والأزجال؛ لأنها شعبية، واعتذر المقري عن إيراد بعض ذلك في كتبه، فقال في كتابه «أزهار الرياض»: «كأن بمنتقد ليس له خير، يسدد سهام الاعتراض ويتولى كبره، ويقول: ما لنا وإدخال الهزل في معرض الجد الصراح، وما الذي أحوجنا إلى ذكر هذا المنحى، والأليق كرحه كل الاطراح؟» وأجاب عن ذلك بأنه من باب ترويح القلب، والعون على الجد، واستشهد بقول القائل:
قل للأحبة والحديث شجون:
ما ضر أن شاب الوقار مجون
مع أنا نلاحظ أن الموشحات والأزجال فيها من البلاغة والاستعارات والمجازات ما لا يقل عما في اللغة الفصحى، وليست كلها هزلا ومجونا، بل قد يكون فيها جد ووعظ ودعوة إلى أخلاق عالية، عدا ما فيها من بلاغة. فنحن لا ننقد المقري ولا ابن خلدون وأمثالهما بروايتهم هذا الضرب من الأدب، بل ننقد غيرهم لعدم روايته، والسكوت عنه، فإذا كان للأرستقراطيين متعة في الأدب الأرستقراطي، فللشعب حق في أن يستمتع بأزجاله وموشحاته. ومؤرخ الأدب لا يصح أن يغفل هذا الضرب منه؛ لأن فيه خيرا كثيرا. وقد اقتصر جامعو المختارات على الفنون الجميلة كأنها وحدها هي الأدب.
على أن الأدب بمعناه الواسع أشمل من ذلك، فمقدمة ابن خلدون أدب، وسراج الملوك للطرطوشي أدب، والموشحات والأزجال أدب، وشعر التصوف أدب، فاقتصارهم في الاختيار على الغزل والمديح ونحوهما باللغة الفصحى جعل كثيرا من الناس يرمون الأدب العربي بالقصور، ولو وسعوا اختيارهم لأبانوا غنى الأدب العربي وتعدد مناحيه.
والواقع أن الأدب الشعبي يحتاج إلى تأريخ كأدب اللغة الفصحى، كيف نشأ وكيف تطور، وله مناح كثيرة تحتاج إلى التأريخ كالفكاهة والأمثال العامية، وكيف نبعت وانتشرت، والأزجال والموشحات وخصائص كل قطر فيها. ومع الأسف لم يؤرخ ذلك تأريخا شاملا من مبدئه إلى منتهاه.
55 (4)
الفرق بين الموشحة والزجل: أن الموشحة باللغة الفصحى إلا قليلا، وأما الزجل فهو باللغة الدارجة. وكان للأندلسيين لغة خاصة هي خليط من اللغة العربية والبربرية والإسبانية، وإن شئت فقل: واللاتينية، والأزجال في أغلب الأحيان متبذلة وخصوصا أزجال ابن قزمان، ليس فيها أي تحفظ أو احتشام، فيها ما يجري بين الماجنين في الملاهي، وفيها فحش مخجل، والغالب أنها كانت لشهرتها وملاءمتها لروح الشعب تقال جماعيا، على العود والطنبور والدف، في الشوارع وفي الأندية الشعبية، وفي دور الملاهي؛ ولأن أزجاله وأزجال غيره على هذه الحال، صعب فهمها، حتى لنرى أحيانا في ابن قزمان بعض عبارات عربية وبعض عبارات إسبانية، فالإسبانية مثل قوله في بعض زجله:
مخشل دشول، وهي مأخوذة من الإسبانية
mijell des sol ، بمعنى: خد كأنه الشمس.
56
على كل حال ابتكر الأندلسيون فن الموشحات والأزجال في أوربا، وهذا يضاف إلى تأثير الأندلسيين في الغرب، وقد دعاهم إلى ذلك ما أحسوا من ثقل القيود في الشعر الفصيح، من أوزان ووحدة قافية وقيود إعراب، فجاءت نوبة هاجوا فيها على هذه الأوضاع كما هاج أبو نواس على بكاء الأطلال، وكما هاج الموحدون على التقليد في الفقه والنحو وغير ذلك.
غاية الأمر أن دعوة كل هؤلاء ضاعت، فعاد أبو نواس يبكي الأطلال كما بكوا، ويشعر الشعر الجاهلي كما شعروا، وعاد النحو إلى تقدير العوامل، وعاد الموحدون إلى اضطهاد الفلاسفة بعد أن قربوهم إليهم. أما الموشحات والأزجال فقد نجحت؛ لأن الناس استجابوا إليها في حماسة، إذ رأوها تعفيهم من القيود، وتحررهم من التزام قافية واحدة، وتسمح لهم باستعمال الكلمات العامية، والتعبيرات العامية الظريفة، وتحررهم من قيود الإعراب؛ ولذلك كانت البدع الشائع. كما امتازت الموشحات والأزجال بأنها تتبع النغمات الموسيقية، لا التفاعيل العروضية؛ ولذلك تجدهم يزيدون كلمات لحفظ الوزن، مثل: يا لللي، ونحو ذلك، وبذلك ربطوا بين الشعر والغناء والرقص، كما هو العادة في نشأة هذه الفنون.
قال ابن سنا الملك في دار الطراز: «ليس للموشحات عروض إلا التلحين، ولا ضرب إلا الضرب، ولا أوتار إلا الملاوي، وأكثرها مبني على الأرغن»، وتحرروا أيضا من التقيد بستة عشر بحرا، فقالوا من الأوزان ما شاءوا أن يقولوا، فالأذن الموسيقية هي الحكم، لا أبحر الخليل.
قال ابن سنا الملك أيضا في هذا الكتاب: إنه حاول حصر أوزان الموشحات فأخفق، «وكنت أردت أن أقيم للموشحات عروضا يكون دفترا لحسابها، وميزانا لأوتارها، فعز ذلك وأعوز لخروجها عن الحصر، وانفلاتها من الكف».
وتعددت قوافي الموشحة، حتى بلغت العشرات، لما رأوا أن التزام القافية لا يترك وراءه إلا السآمة والملل، كالنغمة الواحدة تكرر مرارا، وخرجوا عن أعاريض الشعر المعروفة، حتى قال ابن بسام صاحب الذخيرة: «إن أكثر الموشحات على غير أعاريض الشعراء، وعلى أشطار، كما أن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة، وقد أخذ واضع الموشحة اللفظ العامي والعجمي، وسماه المركز، ووضع عليه موشحة دون تضمين ولا أغصان». وامتازت الموشحات والأزجال بالسهولة، وهذه هي التي أكسبتها الحياة، فمن أراد في الموشحة أو الزجل أن يتقعر كان سخيفا، قال ابن حردون: «ما الموشح بالموشح، حتى يكون عاريا على التكلف»، ولم يتورع الخاصة عن الاشتراك في التأليف في الموشحات والأزجال، فرويت لنا موشحات عن الطبيب ابن زهر، والفيلسوف ابن باجة، والوزير الخطير لسان الدين بن الخطيب. ومما قاله ابن خلدون في بحثه: «وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنسيق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنا منه، وسموه بالموشح» ... إلى آخر ما ذكرناه من هذا البحث في صدر الكلام عن الموشحات.
وكان أول من برع بعد «مقدم» و«ابن عبد ربه» في هذا الشعر هو عبادة القزاز، إذ قال:
بدر تم شمس ضحى
غصن نقا مسك شم
ما أتم ما أوضحا
ما أورقا ما أنم
لا جرم من لمحا
قد عشقا قد حرم
ثم جاءت حلبة في مدة الملثمين فظهرت لهم البدائع، وفرسان حلبتهم الأعمى التطيلي، وله من الموشحات قوله:
كيف السبيل إلى
صبري وفي العالم
أشجان
والركب وسط الفلا
بالخرد النواعم
قد بانوا
وذكروا أن جماعة من الموشحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل واحد قد صنع موشحة وتأنق فيها، فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان
سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان
وحواه صدري
مزق الباقون موشحاتهم، ولابن بقي موشحه مطلعها:
أما ترى أحمد
في مجده العالي
لا يلحق
أطلعه المغرب
فأرنا مثله
يا مشرق
ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته، وتنميق كلامه، وتصريح أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا على طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيه إعرابا، واستحدثوا فنا سموه بالزجل ... وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان، وهو إمام الزجالين على الإطلاق، ولقبوه شيخ الصناعة. يقول وقد خرج إلى متنزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش، وأمامهم تمثال أسد من رخام يخرج الماء من فيه على صفائح من حجر:
وعريش قد قام على دكان
بحال رواق
وأسد قد ابتلع ثعبان
في غلظ ساق
وفتح فمو بحال إنسان
به الفواق
وانطلق يجري على الصفاح
وألقى الصياح ... إلخ.
وتبعه بعده كثيرون من الزجالين.
57
وليست الأزجال إلا موشحات تقال بلغة عامية، وإنما أكثرنا من نماذج الموشحات والأزجال لنبين كثرة أشكالها، واختلاف أوزانها.
من كل ما عرضنا من شعر الشعراء الرسميين والوشاحين والزجالين نرى مصداق ما قلنا من أن الشعر الأندلسي جرى مجرى الشعر المشرقي، من مديح وهجاء ونسيب ورثاء ... إلخ، وأنه كما حذا المشرقيون حذو الجاهليين في الموضوعات والأساليب، حذا الأندلسيون حذو المشارقة. غاية الأمر أن شعراء الأندلس اختلفوا فيمن يقلدون من شعراء المشرق، كل حسب مزاجه، فمنهم من يقلد أبا نواس، ومنهم من يقلد المتنبي ونحو ذلك. وكانت القصيدة، سواء عند الأندلسيين والمشارقة على النمط الجاهلي، من بدء بالنسيب، وانتقال منه إلى وصف الشاعر لرحلته، ثم الانتقال إلى المديح، وقد يجعلون في النسيب أيضا أبياتا خمرية، جرى على هذا المنوال شعراء الجاهلية، ثم الشعراء الإسلاميون، ثم الأندلسيون، وكل قصدهم هو استجداء الممدوحين. ويمتاز شاعر عن شاعر، بحسن تخلصه من الرحلة إلى المديح؛ ولذلك اشتهرت في الأندلس النونية في مدح إدريس بن يحيى بن حمود التي مطلعها:
قد بدا لي وضح الصبح المبين
فاسقنيها قبل تكبير الأذين
اسقنيها مزة مشمولة
لبثت في دنها بضع سنين
وظل على هذا المنول إلى أن وصل للمديح فقال:
وكأن الشمس لما أشرقت
فانثنت عنها عيون الناظرين
وجه إدريس بن يحيى بن علي
ابن حمود أمير المؤمنين ... إلخ ... إلخ.
وربما كان من الإنصاف لأهل الأندلس أنهم فاقوا شعراء الشرق في وصغ الطبيعة خاصة، وفي الوصف عامة، وربما كان هذا أثرا من جمال بيئتهم الطبيعية. ونلاحظ أيضا أن الأندلسيين قصروا على المشرقيين في الحكم والزهد.
وهناك نوع آخر فاق فيه الأندلسيون المشارقة، وهو البكاء على البلاد، فما سقطت بلدة، أو أشفت على السقوط حتى قالوا فيها شعرا قويا حزينا، وربما كان من خير الأمثلة على ذلك قصيدة ابن عبدون، ومطلعها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر
فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك معذرة
عن نومة بين ناب الليث والظفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة
والسود والبيض مثل البيض والسمر
وقد استطاع أن يذكر فيها مصائب الزمان، ونوائب الحدثان، وكل ما جرى من مصائب للأمراء والأعيان، مما جعلها سجلا تاريخيا للمصائب، وقلده فيها كثيرون، وشرحها ابن بدرون.
ومثل قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس وغلبة النصارى على قواعدها، ومطلعها:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
وهي أقل من الأولى بلاغة وعظمة، وفيها يطلب من المسلمين أن يسرعوا إلى إنجاد الأندلس التي كادت تسقط. ولكنها كانت صرخة في واد، فلم ينقذ الأندلس أحد كما لم ينقذ فيما بعد فلسطين أحد.
ثم لهم المقطعات اللطيفة في موضوعات طريفة، مثلنا ببعضها فيما سبق.
ومع تعداد كل هذه الميزات لا يزال التقليد عليهم غالبا، وربما كان خير مقياس للتقليد والابتكار، أن أساس التشبيهات عند الشرقيين والأندلسيين يكاد يكون واحدا. غاية الأمر أن الأندلسيين قد يتفوقون في إجادة التشبيه وتزويقه، واللعب فيه، ولكن أساس التشبيه واحد، وهو التشبيه الشرقي. (3) النثر الفني
تطور النثر العربي في الشرق تطورا كبيرا، بحيث يمكننا أن نقسمه إلى خمس مراحل: المرحلة الأولى يمثلها أقوال الخلفاء الأربعة، والخلفاء والأمراء الأمويين، والمرحلة الثانية يمثلها عبد الحميد الكاتب، والثالثة عبد الله بن المقفع، والرابعة الجاحظ، والخامسة ابن العميد، ولكل مرحلة من هذه خصائص. وعلى العموم، فالذوق العربي في مراحله المختلفة يحب في النثر الفني السجع، وخصوصا ما وافق الطبع، فإن لم يكن سجع، فهو يحب المزاوجة، مثل المؤمنين، وعظيم؛ لأن عنده الحاسة الموسيقية نامية، فأذنه تستعيض عن السجع بالمزاوجة، وهذا فاش في كل العصور، ولكن حدث له ما حدث للشعر، فبعد أن كان الشعر الجاهلي مثلا يتزين ببعض أنواع البديع يأتي عفوا، أغرقه أبو تمام ومن بعده في البديع المتصنع، فكذلك النثر بدأ فيه سجع مطبوع، أو مزاوجة مطبوعة من غير التزام، وختمه ابن العميد بالسجع الملتزم، والتكلف المصطنع.
فأما المرحلة الأولى التي يمثلها أقوال الخلفاء والأمراء، ففيها سجع أحيانا من غير تكلف، وأحيانا مزاوجة، وأحيانا استرسال.
ومن خصائص هذا العصر الجمل المتقطعة من غير رابطة يربطها، وإلى ذلك إيجاز تام من غير إشباع للمعنى وتوليد للأفكار، حتى ليصعب عليك إذا سئلت أن تحدد موضوع الكلام، مع جمال في المعنى واللفظ.
وقد نشأ هذا من الطبيعة العربية، تحب الجمال وتأنس به، وتلهج بذكره، ويدل على ذلك غزلهم، والبكاء حتى على أطلالهم، وإلفهم لأوطانهم، ونحو ذلك، فهم يحبون البلاغة ويعتبرونها أقوى ملكة، ويفخرون بها، ويعجبون بفنها. ولأمر كان أهم معجزة للإسلام المعجزة التي تأتي من الناحية الفنية أو من ناحية البلاغة (القرآن)، وقد تأثرت بلاغة هذا العصر به أثرا كبيرا، واحتذوه وزينوا به كلامهم، فنحن نرى أن أسلوب النثر كان أسلوبا يزينه السجع والمزاوجة، ويعتمد على الجمل القصار، وتوضع الجمل في إطار محكم، ويؤتى بالجملة، ثم يوضع لفق لها من جملة تشبهها أو تقاربها. حتى جاء عبد الحميد الكاتب وهو من أصل فارسي، فأطنب في موضوع الكتابة، وفصله وجعل من الكتابة موضوعا يشرحه ويولده، حتى يأتي على آخره، وضع أنماطا للكتابة في الشئون الخاصة بتدبير الملك، ولم يلتزم السجع كذلك، وإن أتى في كتابته عرضا، ونظرته إلى الكتابة تستفاد بوضوح من رسالته إلى الكتاب، وهذا يسلمنا إلى مرحلة ابن المقفع، فقد عني ببسط المعاني وتأكيدها، وتكرير الجمل المتقاربة في معناها، وعني بالتحليل النفسي، والتجارب الأخلاقية ، ولم يعن بالسجع إلا ما جاء عفوا، وله فضل كبير في تطويع اللغة للمعاني المستحدثة، والمدنية الواسعة.
وجاء بعد ذلك الجاحظ، فأسهب في الكلام وأطنب، ونوع موضوعات الأدب، وجعل كل شيء يصلح لأن يكون أدبا، من معلمين، وجوار، ولصوص، وحسدة إلى غير ذلك، وكان قلمه طيعا، فوسع معاني الأدب في كل نواحيه، ولولا أنه كان مرحا فكها مستطردا لمل. ثم جاء بعده ابن العميد ومدرسته، فالتزم السجع وأمعن فيه، ولم يخرج عنه، وقصر الجمل لتؤدي مهمة السجع، وملأ كتابته بأنواع البديع، حتى أصبحت كتابته كقطعة من الفن المعماري المملوءة بالتزاويق.
كل هذا الذي في المشرق كان مثله في الأندلس، وكان الانتقال من فن إلى فن يكاد يكون متبعا نفس التطور الذي حدث في المشرق، فقد رأينا المكاتبات التي تصدر عن الأمراء الأولين وعن صدور الخلفاء الأمويين تشبه تلك التي كانت تصدر عن الخلفاء الأمويين في المشرق، ثم تحولت بعض الشيء إلى تحليل نفسي، وغزارة معنى كالذي عند ابن المقفع على يد ابن حزم الأندلسي، ثم كان ما يشبه أسلوب الجاحظ عند العلماء الذين رحلوا من المشرق إلى الأندلس، أمثال صاعد بن الحسن البغدادي، فقد كانت كتابته أشبه ما تكون بكتابة الجاحظ من تلاعب بالمعاني وغزارة فيها، من غير التزام سجع، كقوله من رسالة له يستعطف فيها الوزير أبا جعفر ليشفع عند الخليفة للوزير عبد الله بن مسلمة لما نكب: «لما جمع الله طوائف الفضل عليك، وأذلق بك الألسن، وأرهف فيك الخواطر، ورفرف عليك طير الآمال، ونفضت إليك علائق الرجال، لم أجد لابن مسلمة، حين عضه الثقاف، وضاق به الخناق، وانقطع به الرجاء، وكبا به الدهر، ملجأ غيرك. فعطفك على واله نبهه النحس من سنة السعد، وأيقظته الآفات رقدة الغفلة، ورشقته سهام الزمان بصنوف الامتهان، حتى لقب المنية أمنية، وسمى الموت فوتة ... إلخ».
ورأيناهم وقد طلع عليهم بديع الزمان والحريري، وأمثالها يقلدونهم ويجرون على منوالهم، ويصنعون رسائل ومقامات تشبه رسائلهم ومقاماتهم كابن شهيد في التوابع والزوابع. ثم لما بلغتهم صنعة ابن العميد ومدرسته رحبوا بها كل ترحيب؛ لأنها وافقت أذواقهم، حتى التزموها في رسائلهم الخاصة، وكتبهم المؤلفة، فإذا نحن قرأنا لابن بسام في الذخيرة أو لابن حيان في تاريخه، أو في قلائد العقيان ومطمع الأنفس في ملح الأندلس، رأينا سجعا ملتزما قل أن يشذ، ورأيناهم يحتذون حذو «الفيح القسي في الفتح القدسي» للعماد الأصفهاني ونحو ذلك. غاية الأمر أنه كان لهم أنواع من الابتكار سبقوا بها المشرق كما سننبه عند الكلام تفصيلا على بعض الناثرين.
وكثير من الأدباء كان يجمع بين النثر والشعر، وكان عند الأدباء ملكة لطيفة يميزون بها بين الموضوعات التي تصلح للشعر والتي تصلح للنثر، فهم يشعرون حين تهيم عواطفهم، ويحسون أنهم في حاجة إلى تعبير وجداني يغذيها، ويلجئون إلى النثر عندما يكون الموضوع أميل إلى العقل. وشاع عند الأندلسيين الوصف الدقيق لنفوس الكبراء والأمراء، والقواد عند مديحهم، كما نبغوا في المناظرات الخيالية كالمناظرة بين السيف والقلم، والمناظرة بين بلاد الأندلس، كما كاتبوا في الابتهالات ومناسك الحج. وكانوا أحيانا يخلعون على النثر من الأخيلة والسجع ما يجعله أقرب أن يكون شعرا منثورا. وقد امتازوا بالإطناب كما امتاز المشارقة بالإيجاز. وسيظهر كثير من هذه الخصائص عند كلامنا على الكتاب الناثرين تفصيلا. (3-1) ابن عبد ربه
ذكرنا قبل
58
ابن عبد ربه مؤلفا لكتاب كبير في الأدب وهو العقد، وعرضنا لشيء من شعره،
59
وهو أيضا ناثر كبير تتجلى قوته في النثر في فرش الكتب التي قدمها بين يدي أبواب كتابه، فقد تصنع فيها ما شاءت له الصنعة، وجود ما شاء له التجويد، ونراه فيه قد يسجع، ولكن لا يلتزم السجع، فإذا فاته السجع عمد إلى المزواج، فاستغنى به السجع، وهو أشبه ما يكون برجل يلبس طقما خاصا عند المقابلات الرسمية، فلا يترك الكلام على سجيته، وإنما يتعمل له ويتصنع، فمثلا يقول في أول كتاب الياقوتة في العلم والأدب: «قد مضى قولنا في مخاطبة الملوك ومقاماتهم، وما تفننوا فيه من بديع حكمهم، والتزلف إليهم بحسن التواصل، ولطيف المعاني، وبارع منطقهم، واختلاف مذاهبهم. ونحن قائلون بحمد الله في العلم والأدب، فإنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا، وفرق ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطبيعة الملكية والطبيعة البهيمية، وهما مادة العقل، وسراج البدن، ونور القلب، وعماد الروح، وقد جعل الله لطيف قدرته، وعظيم سلطانه بعض الأشياء عمدا لبعض، ومتولدا من بعض، فإجالة الوهم فيما تدركه الحواس، تبعث خواطر الذكر، وخواطر الذكر تنبه روية الفكر، وروية الفكر تثير مكامن الإرادة، والإرادة تحكم أسباب العمل ... والعلم علمان علم حمل، وعلم استعمل. فما حمل منه ضر، وما استعمل منه نفع ... وقليل العلم يستعمله العقل، خير من كثيره يحفظه القلب».
ويقول في أول باب الأمثال: «والأمثال وشي الكلام وجوهر اللفظ، وحلي المعاني والتي تخيرتها العرب، وقدمتها العجم، ونطق بها في كل زمان وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عم عمومها، حتى قيل: أسير من مثل، وقال الشاعر:
ما أنت إلا مثل سائر
يعرفه الجاهل والخابر
وقد ضرب الله الأمثال في كتابه، وضربها رسول الله في كلامه ... إلخ». فهو يذكرنا في ذلك من حيث أسلوبه وغزارة معانيه، واستعماله للمزاوجة أحيانا، والسجع أحيانا بالجاحظ في كل ذلك. (3-2) ابن برد
من أشهر كتاب الأندلس، ويلقب بأبي حفص بن برد، وكان هناك ابنا برد أحدهما يلقب بالأكبر، والثاني بالأصغر، لم يعرف من أخباره - أي: الأصغر - إلا القليل، والذين ترجموا لابن برد الأكبر وصفوه بأنه كاتب بليغ، وأنه غذي بالأدب، وعلا إلى أسمى الرتب، وقد اعتز به حفيده فقال:
من شاء خبري فأنا ابن برد
حد حسامي قطعة من حدي
وأرفع الناس بناء جدي
من نظم الألفاظ نظم العقد
ونقد الكلام حق النقد
وكف بالأقلام أيدي الأسد
وربما كان من أسباب شهرته أنه كان رئيس ديوان الإنشاء للمكتفي، ومن آثاره في هذا المنصب ما قاله فيمن يجب أن يشغل هذه الوظيفة. ومن الأسف أننا لم نعثر على كتاباته الإخوانية، ولا بد أن يكون له منها الكثير، وإنما بقي لنا بعض كتبه الديوانية. ويظهر من أخلاقه أنه كان موظفا مطيعا، يؤمر فيأتمر، ويكتب لأميره المعاني التي يريدها منه؛ كما كان يفعل القاضي الفاضل لصلاح الدين. وقد كتب أخيرا لابن أبي عامر وأولاده، فمن أقواله على لسان المظفر بن أبي عامر: «ومن أعجب العجب، ما يجترئ عليه بعض خدمتنا من نبذ عهودنا، ولا أحسب الذي غرهم بنا، إلا ما وهبه الله لنا من القدرة من الحلم والكظم، وقد كانت سجية غالية، وخليقة لازمة».
وقد روى ابن بسام في كتابه الذخيرة بعض كتبه، وهو الذي وضع العهد الذي تنازل فيه هشام المؤيد لعبد الرحمن بن المنصور عن الملك، ويقول فيه:
بعد اطراح الهوى، والتحري للحق ... لم يجد أحدا أجدر أن يوليه عهده، ويفوض إليه الخلافة بعده، لفضل نفسه، وكرم خيمه، وشرف مرتبته وعلو منصبه، مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه ونقاوته، من المأمون الغيب، الناصح الجيب، عبد الرحمن بن منصور.
وقد توفي ابن برد هذا سنة 418ه بعد أن عاش نحو ثمانين سنة.
ونرى من هذا أن كتابته التي وصلت إلينا أشبه بكتابة رؤساء دواوين الإنشاء في مصر، وهم الذين روى القلقشندي أمثلة لهم في صبح الأعشى وغيره. (3-3) ابن شهيد وابن حزم
ذكرنا ابن حزم قبل عالما دينيا
60
وشاعرا وابن شهيد شاعرا،
61
ونذكرهما هنا ناثرين، فابن شهيد كاتب كبير، ويظهر أنه كان من بيت كبير، ولكن منعه صممه عن البقاء في الوزارة. ومن مجموع رسائله نرى أنه كاتب قدير مبتكر، قد رويت له رسائل كثيرة تدل على قدرته الكتابية والخيالية، وله رسائل أشبه بالمقامات، ومن أشهرها رسالة «التوابع والزوابع» وهي رسالة مشهورة، ومعنى التوابع: الجن تصحب الإنسان، كالقرين والقرينة؛ والزوابع: العواصف، وتستعمل الزوبعة أيضا بمعنى رئيس الجن. وسماها بهذا الاسم؛ لأن الرسالة وضعت لبيان آراء ابن شهيد في الكتاب والأدباء والمشكلات الأدبية، على لسان الجن. وأشبه ما يكون بها رسالة الغفران لأبي العلاء.
وقد ظن قوم أن التوابع والزوابع وضعت تقليدا لرسالة الغفران، ورأى بعض الباحثين من المستشرقين أن العكس هو الصحيح، وأن أبا العلاء هو الذي قلد ابن شهيد، ورجح أن التوابع والزوابع ألفت قبل رسالة الغفران بنحو عشرين سنة؛ وذلك لأن ابن شهيد ذكر في رسالته ما يدل على أنه ألفها في عهد المستعين، وهو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وكانت مدة حكم المستعين هذا من سنة 400ه إلى 407ه، كما نعلم أن أبا العلاء ألف رسالة الغفران ردا على ابن القارح. وكان أبو العلاء قد بلغ نحو السبعين، كما تدل عليه فقرة في الرسالة نفسها، فيكون كتب رسالته حوالي سنة 422ه، وعلى هذا تكون رسالة التوابع والزوابع كتبت قبلها بنحو 20 سنة، وقد أخذ أبو العلاء الفكرة وطبقها تطبيقا لطيفا، ونحا بها نحوا يخالف بعض الشيء رسالة ابن شهيد، وإن كان أساس الفكرة عند ابن شهيد، وأبي العلاء، ودانتي واحدا.
وقد روى ابن بسام في الذخيرة أكثر هذه الرسالة. وقد حشا ابن شهيد رسالته هذه بالملح والتعبيرات اللطيفة، فجنيه مثلا أطلعه على بركة فيه أوز، فيقول في وصفها: «أوزة بيضاء شهلاء، في مثل جثمان النعامة، كأنما ذر عليها الكافور، أو لبست غلالة من دمقس الحرير ... في ظهرها صفاء، تثني سالفتها، وتكسر حدقتها، وتلولب فترى الحسن مستعارا منها، والشكل مأخوذا عنها».
وقد أنطق الجن في هذه الرسالة بكل آرائه في الأدباء والشعراء، وأصدقائه وأعدائه، وآرائه في الأدب وفي السجع، وغير ذلك، فمثلا ينطق الجني بقوله في أعدائه: «عدمت ببلدي فرسان الكلام، ودهيت بغباوة أهل الزمان ... ويصيح الجني: إنا لله ذهبت العرب بكلامها، ارمهم بسجع الكهان، فعسى أن ينفعك عندهم، ويطير لك ذكرا فيهم. وما أراك مع ذلك إلا ثقيل الوطأة عليهم، كريه المجيء إليهم». وأحيانا يمدح نفسه فيقول له الجني مثلا: «إن لسجعك موضعا من القلب، ومكانا من النفس، وقد أغرته من طبعك، وحلاوة لفظك، وطلاوة سوقك، ما أزال أفنه، ورفع غبنه، وقد بلغنا أنك لا تجارى في أبناء جنسك، ولا يمل من الطعن عليك، والاعتراض لك ... إلخ».
ويظهر من مجموعة ما نقل عنه أنه كان واسع الاطلاع، غزير المعاني والخيال، ولكن إذا نحن قارناه ببديع الزمان وابتكاراته، كان بديع الزمان أخف روحا، وأرشق لفظا ومعنى.
وقد أثرت عن ابن شهيد أقوال في البلاغة والنقد تدل على ذوقه ومنهجه، نسوق هنا بعضا منها: من ذلك أنه يرى أن البلاغة لا تكون إلا إذا وهب الأديب ملكة بيانية، فإن لم يوهبها لم ينفعه نحو ولا صرف ولا بلاغة. وقد جرب ذلك في شابين أحدهما مسلم والآخر يهودي. فالتمرين على الأدب جعل اليهودي أقرب إلى أن يكون أديبا، لما عنده من استعداد. فالمسلم لم يستطع ذلك؛ لأنه ليس له استعداد موهوب. ويقول: إن للخطباء والكتاب شياطين، وإنه صادف في أرض الجن شيطان الجاحظ، وشيطان بديع الزمان، وشيطان عبد الحميد، وهو يعيب على لسان الجني التزام السجع، فالجني يخاطب ابن شهيد بقوله: «إنك لخطيب، وحائك للكلام مجيد، لولا أنك مغرم بالسجع، فكلامك لا نثر ولا نظم». وقد روي عنه أنه خاف في آخر حياته من الموت كثيرا، واستودع إخوانه بقوله:
أستودع الله إخواني وعشرتهم
وكل خرق إلى العلياء سباق ... إلخ.
وأوصى أن يكتب على قبره: «بسم الله الرحمن الرحيم،
قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون (ص: 67، 68)، هذا قبر أحمد بن عبد الملك بن شهيد المذنب، مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، والبعث حق،
وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (الحج: 7)».
وأما ابن حزم الناثر، فأكبر أثر أدبي له في النثر كتابه «طوق الحمامة» فهو كتاب فذ، ترجم فيه لنفسه، ودون خلجاتها، مما يدل على أنه كان حيي النفس، دقيق الحس، وقد علمنا أن أباه كان وزيرا كبيرا، وأنه هو نفسه كان وزيرا خطيرا، حتى كن هن اللائي علمنه القرآن، فلما شب أحب، ولوعه الحب وذاق ألم الضنى، ودون كل ذلك في كتابه «طوق الحمامة» وشرح لنا فيه حبه أول ما لقي، فقال: «إني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر، فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس، أو على الحسن نفسه، وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، ولا تواتيني نفسي على سواها، ولا تحب غيره البتة، وهذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه».
ويذكر لنا أن خلفاء بني مروان كانوا يحبون الشقر من النساء، حتى أتى أغلبهم أشقر أشهل، نزاعا إلى أمه. ويحدثنا عن فاجعة له بحبيبة حلت من قلبه أسمى محل، فظل ابن حزم بعدها يطيب له عيش، ولا يجد عنها سلوى، وقد أثرت في نفسه أبلغ الأثر، حتى ما كاد ينتفع بنفسه بعد، وحتى فاضت قريحته بمقطوعة من أصدق الشعر. ويقول: «إن محبوبته ماتت فأقام بعدها سبعة أشهر لا يتجرد عن ثيابه، ولا تجف له دمعة، مع جمود عينه، وإنه ما سلاها حتى مر عليه خمس عشرة سنة، ولم يطب له عيش بعدها، ولا نسي ذكرها».
ويخبرنا عن محبوبة أخرى لم تستجب له، وبقي متسعرا عليها سنين طويلة، ثم برد فجأة حين رأى محبوبته هذه بعد غياب وقد غاض جمالها، وهو يصف غير الحب أيضا النكبات التي نزلت به وبقومه، فقد كان هو وأبوه مواليين للأمويين، فلما جاء المنصور بن أبي عامر وأراد محو آثار الأمويين، اضطهد وأهين وعذب. ويقول في هذه الرسالة: «إننا امتحنا بالاعتقال والتغريب، والإغرام الفادح والاستتار، وأرزمت
62
الفتنة وألقت باعها، وعمت الناس وخصتنا، وأجلينا عن منازلنا، وتقلبت بي الأمور إلى الخروج عن قرطبة، وسكني مدينة المرية، واعتقلنا أشهرا، وأخبرني بعض الواردين من قرطبة أنه رأى دورنا وقد انمحت رسومها، وطمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيرها البلى، وصارت صحارى مجدبة بعد العمران، وفيافي موحشة بعد الأنس، وخرائب منقطعة بعد الحسن، وشعابا مفزعة بعد الأمن، ومأوى للذئاب، وعازف للغيلان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش ... فكأن تلك المحاريب المنمقة، والمقاصير المزينة، التي كانت تشرق إشراق الشمس، ويجلو الهموم حسن منظرها، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب أهلها، وتخبرك عما يصير إليه كل من تراه قائما فيها، وتزهد في طلبها، بعد أن طالما زهدت في تركها ».
وعلى الجملة فقد ملأ طوق الحمامة بتجاربه في حبه، وأحاديث نفسه، وما اعتراه من فتن، وما أصيب به من محن، وملأه شعرا ونثرا، أما شعره فقد بينا قبل رأينا في قيمته. وأما نثره فقيمته في صراحة معناه وغزارته، لا في ناحيته الفنية، فهو من حيث تأليفه في الحب من أول الناس وأسبقهم إلى قيد منازع الحب. نعم قد سبقه إلى التأليف في ذلك محمد بن داود الظاهري أيضا في كتابه الزهرة، ولكن ابن حزم تفوق عليه فكان كتابه «طوق الحمامة» أبرع وأثمن وأوفى.
ومما يدل على لوعته في الحب وتقديره للوصال قوله: «ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان، ولا المال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن بعد الخوف من الموقع في النفس ما للوصل، لا سيما بعد طول الامتناع، وطول الهجر، حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتنصرم نار الرجاء، وما ازدها النبات بعد غب القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب ... ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تألق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض الخضر، بأحسن من وصل حبيب، فقد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه».
ويؤخذ من كلامه أنه قد مضى عليه زمان أحب فيه حبا عذريا، صوره تصويرا لطيفا، ودل فيه على عاطفة نبيلة رفيعة، حتى لقد يكفيه من محبوبه، شعوره بسلامة الحبيب، وتقبيله أثره، والتراب الذي وطئه.
وروعة ابن حزم في تعدد مناحيه من دين وفقه وأصول وشعر وتأليف في الغرام، وغير ذلك، أكثر من روعته في فن الأدب وحده. (3-4) ابن زيدون
63
لابن زيدون ناحية نثرية بجانب ناحيته الشعرية، ومن أهم نثره رسالتان شهيرتان: إحداهما رسالته الهزلية كتبها يسخر من منافسه في حب ولادة، وهو ابن عبدوس، فهو يؤنبه أحيانا، وينسب إليه سخرية كل حادث عظيم في الدنيا أحيانا، ويقول فيها: «أما بعد، أيها المصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب! فإن العجب أكذب، ومعرفة المرء نفسه أصوب، وإنك راسلتني مستهديا من صلتي ما صفرت منه أيدي أمثالك، متصديا من خلتي لما قرعت دونه أنوف أشكالك، مرسلا خليلتك مرتادة، مستعملا عشيقتك قوادة، كاذبا نفسك أنك ستنزل عنها إليه، وتخلف بعدها عليه ... زاعمة أن المروءة لفظ أنت معناه، والإنسانية أنت جسمه وهيولاه، قاطعة أنك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال ... حتى خيلت أن يوسف - عليه السلام - حاسنك فغضضت منه، وأن امرأة العزيز رأتك فسلت عنه، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت، والنطف عثر على فضل ما ركزت، وكسرى حمل غاشيتك، وقيصر رعى ماشيتك ... وأن مالك بن نويرة إنما أردف لك، وعروة بن جعفر إنما رحل إليك ... وإياس بن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك، وسحبان إنما تكلم بلسانك ... وأن الحجاج تقلد ولاية العراق بجدك، وقتيبة فتح ما وراء النهر بسعدك، والمهلب أوهن شوكة الأزارقة بيدك، وأن أفلاطون أورد على أرسطاطاليس ما نقل عنك، وبطليموس سوى الإصطرلاب بتدبيرك، وصور الكرة على تقديرك» ... إلخ.
وهو في هذه الرسالة يذكرنا برسالة التربيع والتدوير التي كتبها الجاحظ في السخرية بأحد كتاب عصره، وهو أحمد بن عبد الوهاب، فهو فيها يهزأ بجسمه وينسب إليه سخرية علم كل شيء، إلا أن رسالة ابن زيدون أدق وأوفى وألذع، وهي تدل على علم واسع بأحداث التاريخ، وقدرة فائقة في التهكم بها على غريمه.
وأما الرسالة الجدية فهي رسالة كتبها وهو في السجن لابن جهور، يعتب ويستعطف ويبرأ مما اتهم به، وأسلوبها أيضا في غاية القوة، يذكرنا بعض معانيها بمعاني علي بن الجهم، وقد سجن هو أيضا فأرسل يستعتب ويتعزى ويعتذر. يقول ابن زيدون فيها: «يا مولاي وسيدي، الذي ودادي له، واعتمادي عليه، واعتدادي به ... ومن أبقاه الله ماضي حد العزم، واري زند الأمل ... إن سلبتني لباس نعمائك، وعطلتني من حلى إيناسك ... ونفضت مني كف حياطتك، وغضضت عني طرف حمايتك، بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الأصم ثنائي عليك، فلا غرو ، قد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفي به، ويؤتى الحذر من مأمنه، وتكون منية المتمني في أمنيته ...
كل المصائب قد تمر على الفتى
وتهون غير شماتة الأعداء
هل أنا إلا يد أدماها سوارها، وجبين غض به إكليله ... هذا العتب محمود عواقبه، وهذه النبوة غمرة ثم تنجلي، وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع ... وأعود فأقول: ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك، والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك ...
إلا يكن ذنب فعدلك واسع
أو كان لي ذنب ففضلك أوسع
حنانيك، قد بلغ السيل الزبى، ونالني ما حسبي به وكفى، وما أراني إلا أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت، وقال لي نوح: اركب معنا، فقلت: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، وأمرت ببناء الصرح لعلي أطلع إلى إله موسى، وعكفت على العجل، واعتديت في السبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من النهر الذي ابتليت به جيوش طالوت، وقدت الفيل لأبرهة ... ونفرت إلى العير ببدر، وانخذلت بثلث الناس يوم أحد ... إلخ.
وعلى الجملة، فرسالتاه سواء الهزلية أو الجدية، تدلان على باع طويل في كتابة النثر، ومقدرة فائقة في تنويع الأساليب، وغزارة المعاني، فإذا أضيفت هذه الموهبة النثرية إلى موهبته الشعرية، عثرنا فيه على أديب بارع في الشعر والنثر، وقل أن يجتمعا في أديب. (3-5) ابن أبي الخصال
لا يفوتنا هنا أن نذكر كلمة عن كاتب كبير من أواخر كتاب الأندلس، وهو ابن أبي الخصال: كان من قرية من قري جيان، وكان يلقب برئيس كتاب الأندلس، وكان صديقا لابن عبدون وابن بسام. قال فيه صاحب المعجب: «هو آخر الكتاب وأحد من انتهى إليه علم الأدب، وله مع ذلك في علم القرآن والحديث والأثر وما يتعلق بهذه العلوم الباع الأرحب، واليد الطولى». وقد روي لنا أنه ألف كتابا اسمه «سراج الأدب» لم يصل مع الأسف إلينا، وقد روى له القلقشندي في «صبح الأعشى» جملة كثيرة متفرقة من رسائله ومن شعره، من أرادها فلينظرها هناك. (3-6) ابن الخطيب
هو لسان الدين بن الخطيب، وهو وزير مشهور، من أجله ألف المقري الكتاب الكبير «نفح الطيب وغصن الأندلس الرطيب في ترجمة لسان الدين بن الخطيب» في أربعة أجزاء كبار، ذكر فيها الأندلس وما جرى لها من مبتدئها ومنتهاها، ولسان الدين وشيوخه ورسائله ... إلخ. فكان الكتاب نعمة من آثار ابن الخطيب. وقد ولد لسان الدين بمدينة غرناطة في سنة 713ه، وكان أبوه ذا شأن عظيم عند ملوك بني الأحمر، فرباه تربية دقيقة واسعة، علمه الطب والفلسفة والأدب والفقه والتفسير والحديث، فكان عالما أديبا. وقد ألف في ذلك، وقالوا: إنه أصيب بالأرق، فاستعان بالتأليف عليه، وكان واسع بالتاريخ، وألف في علماء غرناطة كتابه «الإحاطة».
64
وله رسائل أدبية وسياسية تتصف بالإطناب والتزام السجع حتى تمل ، وابتلي كما ابتلي غيره من علماء الأندلس بالحسد من خصومه، ودس الدسائس له، حتى اتهم في دينه بالزندقة، وقوله في كتبه أشياء لا يقرها الدين. ولعب في السياسة كثيرا حتى احترق بها، واتخذت الزندقة ذريعة للنيل منه.
وأخيرا أفتى الفقهاء بقتله، فخنق في سجنه، وألف كتبا كثيرة، وكان صديقا لابن خلدون بعض الوقت، ثم فسد ما بينهما. وتمتاز رسائله بدقة الوصف، وغزارة المعنى، مثال ذلك ما كتبه في استدعاء إمداد، وحض على الجهاد: «أيها الناس، رحمكم الله تعالى، إخوانكم المسلمون بالأندلس قد دهم العدو ساحته، ورام الكفر استباحته، ورجفت أحزاب الطواغيت إليهم، ومد الصليب ذراعيه عليهم، وأيديكم بعزة الله أقوى، وأنتم المؤمنون أهل البر والتقوى، وهو دينكم فانصروه، وجواركم القريب فلا تخفروه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه. الجهاد الجهاد فقد تعين، فالجار الجار، فقد قرر الشرع حقه وبين، الله الله في الإسلام، الله الله في أمة محمد - عليه السلام - الله الله في المساجد المعمورة بذكر الله، الله الله في وطن الجهاد في سبيل الله. قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، وقد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكثوه. أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة، أعانكم الله عند الشدائد، جددوا عوائد الخير، يصل الله تعالى لكم جميل العوائد، صلوا رحم الكلمة، واسوا بأنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة: كتاب الله بين أيديكم، وألسنة الآيات تناديكم، وسنة رسول الله قائمة فيكم، والله يقول:
يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم .
ماذا يكون جوابكم لنبيكم
وطريق هذا العذر غير ممهد
إن قال: لم فرطتم في أمتي
وتركتموهم للعدو المعتدي
تالله لو أن العقوبة لم تخف
لكفا الحيا من وجه ذاك السيد
اللهم اعطف علينا قلوب العباد، اللهم بث لنا الحمية في البلاد، اللهم دافع عن الحريم والضعيف والأولاد، اللهم انصرنا على أعدائك بأحبائك وأوليائك، يا خير الناصرين» ... إلخ.
ويقول مثلا في ترجمة ابن عبد ربه صاحب العقد: «عالم ساد بالعلم ورأس، واقتبس به من الحظوة ما اقتبس، وشهر بالأندلس حتى صار إلى المشرق ذكره ، واستطار شرر الذكاء فكره ... وكانت له عناية بالعمل وثقة، ورواية متسقة، وأما الأدب فهو كان حجته، وبه غمرت الأفهام لجته، مع صيانة وورع، وديانة ورد ماءها فكرع، وله التأليف المشهور الذي سماه بالعقد، وحماه عن عثرات النقد؛ لأنه أبرزه مثقف القناة، مرهف الشباة، تقصر عنه ثواقب الألباب، وتبصر السحر منه في كل باب، وله شعر انتهى منتهاه وتجاوز سماك الإحسان وسماه ... إلخ».
وله مقامة في السياسة على نحو مقامات الحريري بناها على أن هارون الرشيد ضاق صدره يوما، فطلب أن يحضر إليه من يعثر عليه، فحشر له بعض القوم، وكان منهم رجل غريب المنظر؛ فسأله الرشيد عن أصله وفنه، فقال: إنه فارسي وفنه الحكمة، فسأله عن السياسة فأبدع فيها حتى انتصف الليل، ثم استدعى عودا وظل يغني عليه حتى أنام الحاضرين كلهم، وخرج فلم يعثر له على خبر.
وقد تعرض في هذه المقامة إلى الرعية والسلطان والوزير والجند والعمال والولد والخدم والحرم، فقال في الرعية: «رعيتك ودائع الله قبلك، ومرآة العدل الذي عليه جبلك، ولا تصل إلى ضبطهم إلا بإعانة الله التي وهب لك. وأفضل ما استدعيت به عونه فيهم، وكفايته التي تكفيهم، تقويم نفسك عند قصد تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، وحراسة كهلهم وربيعهم، والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة بما عليها وما لها، أخذا يحوط ما لها، ويحفظ عليها كمالها، حتى تستشعر عليتها رأفتك وحنانك، وتعرف أوساطها في النصب امتنانك، وتحذر سفلتها سنانك ... وامنع أغنياءها من البطر والبطالة، والنظر في شبهات الدين بالتمشدق والإطالة، وحدد البخل على أهل اليسار، والسخاء على أولي الإعسار».
وقال للسلطان: «واعلم يا أمير المؤمنين سدد الله سهمك لأغراض خلافته، وعصمك من الزمان وآفته، أنك في مجلس الفصل، ومباشرة الفرع من ملكك والأصل ... فلتكن قدرتك وقفا على الاتصاف بالعدل والإنصاف، واحكم بالسوية، واجنح بتدبيرك إلى حسن الروية، وخف أن تقعد بك أناتك عن حزم تعين، أو تستفزك العجلة في أمر لم يتبين، وأطع الحجة ما توجهت إليك، ولا تحفل بها إذا كانت عليك، فانقيادك إليها أحسن من ظفرك، والحق أجدى من نفرك ... واحرص على أن لا ينقضي مجلس جلسته، أو زمن اختلسته، إلا وقد أحرزت فضيلة زائدة، أو وثقت منه في معادك بفائدة ... والمال نعمة الله، فلا تجعله ذريعة إلى خلافه، وتجمع بالشهوات بين إتلافك وإتلافه».
وقال في الوزير: «والوزير الصالح أفضل عددك، وأوصل مددك ... وليكن الوزير معروفا بالإخلاص لدولتك، معقود الرضا والغضب برضاك وصولتك، زاهدا عما في يديك، مؤثرا لكل ما يزلف لديك، بعيد الهمة، راعيا للأذمة، رحيب الصدر، رفيع القدر، معروف البيت، نبيه الحي والميت، مؤثرا للعدل والإصلاح، دريا بحمل السلاح، جادا عند لهوك، متيقظا في حال سهودك ... إلخ».
وقد استقى هذه الأمور كلها من تجاربه، إذ كان وزيرا، وكان مطلعا على التواريخ، وخصوصا تاريخ بلاده، وقال في الإحاطة في ترجمة ابن خلدون إذ كان صديقا له، بعد أن ذكره نسبه: «رجل فاضل، حسن الخلق، جم الفضائل، باهر الخصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصي الزي، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرياسة، متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، باع الحظ، حسن العشرة، مبذول المشاركة ... مغفل التحفظ مما يريب، وقع من أجل ذلك في محنة فلم يخشع ولم يتوسل، وأباد المكسوب في سبيل النفقه»
65 ... ولما استقر ابن خلدون في الحضرة، جرت بيني وبينه مكاتبات، وأقطعها الظرف جانبه، وأوضح الأدب مذاهبه ... فمن ذلك ما خاطبته به وقد تسرى - أي: ابن خلدون - جارية رومية اسمها هند صبيحة الابتناء بها، وقد أطال في هذا الكتاب فيما يتخيله من سرور ابن خلدون بالابتناء بها، وقضاء ليلة سعيدة معها بالتفصيل والتصريح، من غير إجمال ولا إيماء. «وقد شرح ابن خلدون البردة شرحا بديعا، دل به على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه، وغزارة حفظه، ولخص كثيرا من كتب ابن رشد، ولخص محصل الإمام فخر الدين الرازي، وألف كتابا في الحساب».
ويظهر أنه كتب هذه الترجمة قبل أن يؤلف ابن خلدون كتابه التاريخي الذي اشتهر به ، وقد ذكر ابن خلدون في بعض كتبه «لسان الدين» وأثنى عليه ولكنه قال: «إنه لما كان بالأندلس، وحظي عند السلطان أبي عبد الله، شم من ابن الخطيب رائحة الانقباض، فقوض الرحال، ولم يرض عن الإقامة بحال. ولعبت بكرته صوالجة الأقدار، حتى حل بالقاهرة المعزية، واتخذها خير دار ... إلخ».
ومن نثر ابن الخطيب مثلا قوله في تقلب الأحوال بالعظماء ما رآه من أمرائه أو سمعه عن ابن حزم وأمثاله: «بينما ترى الدست عظيم الزحام، والموكب شديد الالتحام، والوزعة تشير والأبواب يقرعها البشير، والسرور قد شمل الأهل والعشير، والأطراف تلثمها الأشراف، والطاعة يشهرها الاعتراف، والرايات تعقد، والأعطيات تنقد، إذ رأيت الأبواب مهجورة، والدسوت لا مؤملة ولا مزورة، والحركات قد سكنت، وأيدي الإدالة قد تمكنت، فكأنما لم يسمر سامر، ولا نهى ناه ولا أمر آمر، ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة، إنما
مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح (الكهف: 45)».
وقال في الحب على طريقة المتصوفة: «المحبة رقة، ثم فكرة مسترقة، ثم ذوق يطير به شوق، ثم وجل لا يبقى معه طوق، ثم لا تحت ولا فوق:
أينما كنت لا أخلف رحلا
من رآني فقد رآني ورحلي
الهوى هوان، وحمام له ألوان، دمع ساجم، ووجد هاجم، وهيام لا يبرح، ثم وراءه ما لا يشرح .
قال: بمن جن؟ وهل في الورى
ما يبعث الخبل سوى حبه؟
من اقتحم بحر الهوى هوى، لا تدخل في بحر الهوى حتى تشاور صبرك، وتجاور قبرك ... الهوى طريق، ولسلوكه فريق، الزاد سر مكتوم، ووفاء معلوم.
وللميادين أبطال لها خلقوا
وللدواوين حساب وكتاب
الحب حج ثان، لا يثني نفس المريد عنه ثان، طريقه التجريد، وزاده الذكر، وطوافه المعرفة، وإفاضته الفناء،
فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم » (البقرة: 198). الغرام صعب المرام، والدخول فيه حرام، ما لم يكن فيه شرط كرام. من عرف ما أخذ، هان عليه ما ترك،
وربك يخلق ما يشاء ويختار (القصص: 68). ظهر الهوى طريقا سهلا، فكثر التائهون جهلا.
إذ لم يكن عون من الله للفتى
أتته الرزايا من وجوه الفوائد»
وله كتب كثيرة نحا فيها نحو المتصوفة، فله مثلا كتاب اسمه «المحاضرات»، وهو عبارة عن جمل مختارة من أقوال مشاهير المتصوفة، وله المواعظ الصوفية اللطيفة، ثم له إلى جانب ذلك كتب في الأدب. قال المقري: «إن كتبه الآن في المغرب قبلة أرباب الإنشاء، التي إليها يصلون، وسوق دررهم النفيسة التي يزينون بها صدور طروسهم ويحلون، وخصوصا كتابه «ريحانة الكتاب، ونجعة المنتاب»، فإنه وإن تعددت مجلداته، على فن الإنشاء والكتابة مقصور».
وكما برز ابن الخطيب في النثر، فقد برز في الشعر، فله الشعر الكثير، وله الموشحات اللطيفة، والأزجال الظريفة، وهي لا تقل شأنا عن قيمته في النثر.
فالذي يظهر لنا أن الثقافة الأندلسية من أولها في الأندلس إلى آخرها قد صفيت، وتقطرت في لسان الدين بن الخطيب في تعدد مناحيه، وسعة علمه، وكثرة إنتاجه. ولعل هذا المعنى هو الذي شعر به المقري فألف فيه كتابه «نفح الطيب» وفيه كل ثقافة الأندلس، وسماه باسمه كأنما هو هي. (3-7) ابن خلدون
وقد عددناه من كتاب الأندلس، وإن عاش أكثر حياته في بلاد المغرب وفي مصر؛ لأنه أندلسي الأصل، فهو من إشبيلية، من أصل عربي يمني، وهو إن ولد في تونس، فقد درس على علماء أندلسيين وأقام في الأندلس زمنا، وهو مع ابن الخطيب يتوجان الحركة الثقافية الأندلسية، وهما يمتازان بسعة الاطلاع وكثرة العلم وتنوعه، ولكن ابن خلدون يمتاز بالعمق في التفكير السياسي الاجتماعي، وابن الخطيب يمتاز بأدبه بالمعنى الواسع.
وقد سفر ابن خلدون إلى الملك بدرو في إشبيلية سنة 764ه، فأعجب بدرو بعقله، وطلب منه أن يقيم في بلده في نظير أن يرد عليه أموال أسرته فاعتذر. وكما قلنا من قبل: إنه صحب ابن الخطيب نحو سنتين، ثم تعكر الجو بينهما. وابن خلدون من العلماء القلائل من المسلمين الذين ابتكروا ولم يقلدوا، فهو واضع أساس علم الاجتماع بمقدمته، وإن كان أكمله علماء الإفرنج لا العرب، وقد تعرض لطبائع البشر وأسباب تغيرها، وقيام الدول وأن لها عمرا كعمر الأفراد، كل ذلك في عمق. ومن أبدع نظراته نظرته إلى التاريخ وأنه يجب أن ينبني على تعليل الحوادث، ومعرفة أسرارها ومطابقاتها لقانون السبب والمسبب، ولا يصح أن يبنى التاريخ على مجرد النقل إذا خالف العقل. والمؤرخ محتاج إلى معارف متنوعة وحسن نظر وتثبت تؤدي به إلى الحق، وتنكب به عن المزلات والمغالط.
وفي قسم من المقدمة أرخ العلوم الإسلامية كلها تأريخ خبير عالم، وأسلوبه فيها أسلوب رزين لم يعمد فيه إلى فخفخة السجع الكاذب، ولا إلى الإطناب الممل. فإذا كان عند البلاغيين ثلاثة أنواع؛ إيجاز وإطناب ومساواة، فإن أسلوبه ينطبق على المساواة، فاللفظ بقدر المعنى لا أكثر ولا أقل. وقد تقلب في مناصب سياسية كثيرة من سفارة وقضاء، ويظهر أنه كان حسن الحديث، قوي التأثير في النفوس، فقد رأينا أنه لما سفر إلى بدرو وأعجبه وقربه إليه، ومرة ثانية لما سفر إلى تيمورلنك بدمشق، وتيمورلنك هو القاسي الجبار الفاتك، دخل ابن خلدون في مزاجه، ودعاه إلى أن يقيم معه، فرأى ابن خلدون من الحيلة أن لا يرفض، ولكنه قال: إنه يذهب ليحضر أهله ويعود، فذهب ولم يعد، كما يظهر أنه خبير بنفسية من يخاطبه ولو كان من غير جنسه، فإذا حدثه استلب عقله، وعرف من أين تؤكل الكتف.
ولكن هناك ظاهرة أخرى في حياة ابن خلدون وهي النفور منه، وتنحيته عن المنصب بعد أن يعين فيه، وعداؤه بعد الصداقة. وقد رأينا أن ابن الخطيب عاداه بعد أن صادقه، وأنه تولى مناصب خطيرة في تونس ثم عزل، وولي منصب قاضي القضاة في القاهرة ست مرات، يعزل ثم يولى ثم يعزل ثم يولى. وقد يفسر هذا إما بصلابته في رأيه فليس يلين، وإما بأنه محسد لفضله، فإذا رئي منه كثرة الصلابة في الحق، واعتداده بنفسه، حرض ذلك غيره ممن هم أقل منه على الدس له، والنيل منه كما يظهر أنه صريح، يقول ما يعتقده من الحق، ولم آلم الناس كقوله: إن العرب إذا نزلوا بلدة أسرع إليها الخراب، وإن أكثر العلماء من الموالي لا من العرب ونحو ذلك، كما أنه كان في قضائه يحكم بين الناس بالعدل ولو أغضب في ذلك ملوك زمانه وأمراءه. ولا نبرئه من حدة في المزاج وسرعة في الانفعال، كما لا نبرئه من جمود في العواطف، فقد غرقت زوجته وأولاده في البحر، ثم لا نراه يبكي لذلك، ولا يتحسر عليهم، بكاء أو تحسرا يتناسب مع الفجيعة.
ومقدمته كاملة مصقولة. أما تاريخه فمهوش لم يصقل، ولم يسر فيه على القواعد التي وضعها في مقدمته. ويظهر أن الزمن لم يمهله حتى يحقق كل مطالبه. ومن الأمثلة على أسلوبه وتفكيره قوله في الفرق بين البدو والحضر مثلا: «إن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الرحلة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم، والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم، والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة، ولا ينفر لهم صيد، فهم قارون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان ... حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة». «وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم، ولا يتقون فيها بغيرهم ، فهم دائما يحملون السلاح، ويتلفتون عن كل جانب في الطريق، ويتجافون عن الهجوع إلا غرارا في المجالس، وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات، ويتفردون في الفقر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقا، والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داع، أو استنفرهم صارخ».
نعم: إن المقدمة لها أصول من كتب عربية كسراج الملوك للطرطوشي، وكتب مترجمة عن اليونانية، ولكن إذا قارن الإنسان بينها وبين ما كتب ابن خلدون وجده ابتكر فيها وزاد عليها، وأخرجها مخرجا جديدا - قد يظهر بعض خطئه في نظريات قالها إذا نحن نظرنا إليها على ضوء ما وصل إليه علم الاجتماع الحديث، ولكن من من الناس لا يخطئ، ولا يصحح قوله؟ خصوصا وقد مرت على أقواله أجيال، وكفاه فخرا أنه أدرك في زمانه ما لم يدركوه إلا بعد قرون طويلة، وتعد مقدمته وتاريخه من غير شك تدوينا يكاد يكون تاما للحضارة الإسلامية.
وله كتب أخرى في علم الكلام وفي التصوف ولكنها كلها لا تبلغ مبلغ مقدمته. وعلى الجملة، فابن الخطيب وابن خلدون جمعا في شخصهما ما وصل إليه العلم العربي في الشرق قبلهما، ثم هضماه وعرضاه عرضا وافيا، كل حسب استعداده وميوله، ابن الخطيب في الأدب والتصوف والتاريخ، وابن خلدون في التاريخ والاجتماع، وقل أن يكون هناك علم عربي لم يتعرضا له إجمالا أو تفصيلا، ونكاد نقول: إن العلم والأدب والتاريخ تحجرت بعدهما إلى أن أتت النهضة الحديثة. (4) أثر النساء في الأدب
كان للنساء أثر كبير في الأدب من ناحيتين: (1)
ناحية ما لهن من جمال وفتنة حركا نفوس الأدباء للغزل والنسيب. (2)
أنه كان منهن الأديبات اللاتي ساهمن في الحركة الأدبية بما أنتجن من أدب، وكان هذا هو الشأن في المشرق، فكان كذلك في المغرب، غاية الأمر أن النساء الجميلات الأديبات كن في المشرق فارسيات أو بربريات أو تركيات، وكن في الأندلس إسبانيات أو أوربيات من أسرى الحروب، فكن يسكن قصور الخلفاء والأمراء والأغنياء، ويعلمن الأدب فيخرج منهم أديبات. وأول ما بلغنا من النساء الأديبات ما روي عن جملة من النساء القادمات من المشرق على الأندلس، وذلك أن الخطة التي وضعها الخلفاء الأمويون بالأندلس كانت نقل ما تزين به قصور الخلفاء من أمويين وعباسيين، فرأوا أن قصور الخلفاء تزين بالشعراء واللغويين والفتيات المغنيات، فأوفدوا لإحضار كل ذلك من المشرق، حتى يوجدوا نواة في الأندلس تثمر فيما بعد. فكما استوفدوا أبا علي القالي اللغوي المشهور، وصاعدا وغيرهما، استوفدوا أيضا جواري من المشرق للغناء والأدب، فذهبت إليهم فرقة ممن نشأن في المدينة أو في بغداد، كما تذهب الفرق المصرية اليوم إلى الشام أو العراق، وكان ممن ذهب إلى الأندلس في أول العهد عايدة، وكانت من خريجات المدينة، وكانت جارية سوداء حالكة اللون، وكذلك «فضل» المدنية، وكانت حاذقة في الغناء، وأصلها من جواري إحدى بنات هارون الرشيد، واشتراها عبد الرحمن الداخل، ومنهن «قمر» وكانت أديبة تعرف صوغ الألحان، واشتهرت بالظرف والأدب والجمال، ولا ننسى هنا ذكر الجواري اللائي علمهن زرياب كما أسلفنا من قبل.
كل هؤلاء وأمثالهن علمن بعض نساء الأندلس الغناء والألحان والأدب، فنشأ بعدهن جيل جديد من نساء أهل الأندلس يغنين ويقلن الشعر، كالذي رأينا من ولادة مع ابن زيدون، وكان لولادة هذه صاحبة اسمها «مهجة» القرطبية، اشتهرت بجمالها وأحبتها ولادة، ولازمت تأديبها، وكانت من أخف النساء روحا، ثم وقع بينها وبين ولادة ما يقع بين الفتيات الجميلات عادة، كما اشتهر من النساء الأديبات «اعتماد» جارية المعتمد وقد تقدم ذكرها، وبثينة بنت المعتمد، وحفصة بنت حمدون، و«غاية المنى»، و«نزهون»، والغرناطية وغيرهن، كل أولئك ملأن كتب الأدب شعرا ونكتا وأحداثا استوجبت غزلا كثيرا، وعتابا كثيرا، وملاحاة كثيرة، وعلى الجملة فقد كن سببا في الحياة الأدبية بجانب السبب الآخر، وهو عطاء الأمراء ورغبتهم في المديح والثناء، وكانا هما السببين في الحياة الأدبية في الشرق والغرب على السواء.
وعلى الجملة فنحن إذا نظرنا إلى الحياة الأدبية في الأندلس رأينا خطوطها الرئيسية تشبه تماما الخطوط الرئيسية في المشرق، سواء من حيث الموضوعات الأدبية، أو من حيث الأوزان العروضية أو من حيث البواعث النفسية. ولم يكن شيء يظهر في المشرق حتى يكون له صدى في الأندلس، يؤلف الثعالبي يتيمة الدهر في ترجمة الشعراء ترجمة مسجوعة، فيقلده ابن بسام في الأندلس، ونرى هذا الشاعر الأندلسي كالغزال يقلد أبا نواس، وابن زيدون يقلد البحتري، وابن هانئ يقلد المتنبي، وصاعدا يقلد الجاحظ، وابن الخطيب يقلد ابن العميد، وجواري الأندلس يقلدن جواري المدينة وبغداد وهكذا؛ ولهذا قلنا: إن الخطوط الرئيسية تكاد تكون واحدة في الشرق والأندلس إلا خيوطا ضعيفة قليلة يظهر فيها أثر الأندلس. فإن قلنا: إن الأدب العربي نهر جار، فالأندلس رافد من روافده؛ لا نهر مستقل مواز له. وبعبارة أخرى: فالأندلسيون وسعوا النهر الأصلي، ولم ينشئوا نهرا جديدا.
ولئن دمغ الأدب الجاهلي الأدب المشرقي، فالأدب المشرقي مع الأدب الأندلسي، وكان الظن أن يؤثر الأدب الإسباني والفرنسي أثرا غير تأثير الأدب الفارسي واليوناني في المشرق، ولكن حدث أن تأثر الأندلسيون بالمشرق أكثر من تأثرهم بالإسبانيين لوحدة اللغة وحدة الدين، والخلاصة أن الأندلسيين في أدبهم وسعوا الإنتاج أكثر مما نوعوه، فبدل أن ينتجوا باء بجانب الألف وهو الأدب المشرقي، أنتجوا ألفا أخرى تتشابه مع الأولى في الموضوع والوزن والقافية والسجع ونحو ذلك. وكأنهم كانوا يحسون مركب النقص بالنسبة لأدباء المشرق، فكملوه بمجاراتهم بدعوى التفوق عليهم، ولكنهم لم يتفوقوا، والظاهر أن تيار المشرق كان قويا حتى استحوذ على أدب المغرب، ولم يسمح له بالخروج عنه، وكان شأن الأدب في ذلك شأن الفقه والتصوف واللغة والفلسفة وسائر فروع العلم.
نذكر هذا بعد أن قرأنا كثيرا من آثار الأندلسيين، وقد دخلنا في بحث الموضوع، ونحن نعتقد أننا قادمون على شيء جديد مبتكر، فإذا نحن أمام ثروة كبيرة مقلدة، وقد حدث لنا هذا مرة أخرى عندما دسنا الأدب المصري، وكنا نظن أن المصرية ستتضح في فروع العلوم والآداب، وأن سنكون أمام شخصية تنتج من الأدب أنواعا جديدة غير التي أنتجها العراق، فلم نر بعد الدرس هذا الرأي، اللهم إلا مسحة خفيفة عارضة كالمسحة التي رأيناها في الأندلس، ولعل الزمن يظهر هذا لمن بعدنا أكثر مما ظهر لنا.
هوامش
الفصل الخامس
الحركة الفلسفية والعلمية
يظهر أن منشأ الفلسفة في الأندلس كمنشئها في المشرق، فقد نشأت الفلسفة في المشرق من الطب والتنجيم لعناية الخلفاء بهما، إذ كانوا يحتاجون إليهما كثيرا، وكان بعضهم يؤمن بالتنجيم، وبما سيحدث في الكون، وكان من الموظفين الرسميين أطباء ومنجمون، وكان الطب والتنجيم عند اليونان فرعين من فروع الفلسفة، كالطبيعيات والإلهيات، وكذلك كان الشأن في الأندلس. فقد احتاج الخلفاء الأولون إلى أطباء يداوونهم، خصوصا أن الترف وكثرة الأكل أضعفا أجسامهم، وكان بعضهم يؤمن بالتنجيم. والاشتغال بالطب والتنجيم يسلم إلى الفلسفة؛ لأن الطب - كما هو معروف - يحتاج إلى معرفة النباتات وخصائصها، والعقاقير وما إليها، وهو المسمى «بالأقرباذين»، ومتى سار الطبيب في ذلك، احتاج إلى المنطق لمعرفة الأقيسة والاستنتاجات الصحيحة في معالجة الأمراض، ومتى اتصل بذلك، اتصل بجالينوس وأفلاطون وأرسطاطاليس، فاتصل بالفلسفة اليونانية. كذلك من اشتغل بالنجوم اتصل ببطليموس، ورأى نفسه محتاجا إلى رياضة دقيقة، وهندسة عميقة، فاتصل بأقليدس وفيثاغورس، ثم اتصل بأفلاطون وأرسطو كذلك.
ولذلك نرى الفلاسفة الأندلسيين الأولين أطباء فقط، مثل: الكرماني، وأبي جعفر أحمد بن خميس، وحمدين بن أبان، أو منجمين مثل: ابن السمينة، ومسلمة بن أحمد المجريطي، والزهراوي وغيرهم. وقد أعانهم على التفلسف عوامل مختلفة:
الأولى:
أنه رحل إلى الأندلس في أول عهدها بعض البغداديين، فعلموا أهل الأندلس ما وصل إليه أهل بغداد في الطب، كالذي روي عن إسحاق بن عمران، وأنه كان بغدادي الأصل، وكان طبيبا مشهورا، إلى كثير غيره، وأنه رحل إلى الأندلس.
والثاني:
أن الحكم كما قدمنا نقل كثيرا من الكتب، ومنها الكتب الفلسفية التي ترجمت عن اليونانية، ولم يظهر كتاب عظيم في الفلسفة إلا وينقل فورا إلى الأندلس؛ كالذي حدثنا ابن أبي أصيبعة من أن الكرماني من أهل قرطبة رحل إلى المشرق، وجلب معه عند عودته إلى الأندلس رسائل إخوان الصفاء.
والثالث:
أن العلاقات كانت تحسن في بعض الأحيان بين خلفاء بني أمية الأندلسيين وبين القسطنطينية، فهؤلاء الأخيرون يهدون إلى خلفاء بني أمية بعض الكتب الفلسفية والأدبية. ومن أظرف ما كتب في ذلك ما ذكره ابن جلجل من أن «كتاب ديسقوريدس» في النبات كان قد ترجم ببغداد أيام المتوكل، ترجمه إسطفن بن باسيل من اليونانية إلى العربية، وصحح الترجمة حنين بن إسحاق. وقد وضع إسطفن للكلمات اليونانية أسماء عربية للنباتات التي يعرف لها اسما عربيا، وما لم يعرفه تركه. وورد هذا الكتاب إلى الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر، وانتفع الناس بالمعروف منه، فلما اتصل عبد الرحمن بأرمانيوس ملك القسطنطينية نحو سنة 338ه أهداه أرمانيوس هدايا عظيمة، منها كتاب ديسقوريدس مصورا، وكان الكتاب مكتوبا بالإغريقي الذي هو اليوناني، كما أهدى إليه كتاب هيروسيس في القصص والتاريخ، وقال له أرمانيوس: «إن ديسقوريدس لا تجتنى إلا برجل يحسن اللسان اليوناني، ويعرف أشخاص تلك الأدوية. وأما كتاب هيروسيس فعندك في بلدك من اللاتينيين من يقرءوه باللسان اللاتيني، وينقله إلى اللسان العربي. فقال عبد الرحمن الناصر: إنه ليس عنده من يقرأ اللسان الإغريقي، وسأل الملك أن يبعث إليه رجلا يتكلم الإغريقية ليعلم عبيدا له. فبعث إليه أرمانيوس راهبا كان يسمى نيقولا، فوصل إلى قرطبة سنة 340ه، فعلمهم ما جهل من أسماء عقاقير ديسقوريدس، وحظي نيقولا الراهب عند عبد الرحمن الناصر، وفسر للناس العقاقير المجهولة، وتتلمذ له كثير من الأطباء».
فهذه العوامل كلها عملت في تكوين طبقة كانت تشتغل بالطب والتنجيم أولا، ثم بمناسبة تغلغلهم في كتب اليونانيين اتصلت الأجيال التي أتت بعد الفلسفة على عمومها، والحق أن أهل الأندلس تلقوا الطب والتنجيم قبولا حسنا، ولكن لم يتلقوا الإلهيات هذا القبول الحسن؛ لميلهم إلى الفقه المتزمت، وتشددهم في التفسير والحديث وما إلى ذلك فقط؛ ولذلك لم يسلم فيلسوف خرج عن الطب والتنجيم إلى الفلسفة من رمي له بالزندقة والكفر والإلحاد، وطلب توقيع العقوبات الشديدة عليه كالإعدام. ويكاد تاريخ الفلاسفة الأندلسيين يكون سلسلة اتهامات من هذا القبيل إلى آخرهم، كالذي حدث لابن باجة وابن رشد، وأخيرا لابن الخطيب.
وقد أخذ الطب والتنجيم يتبلوران إلى فلسفة مدة سنين، حتى ظفرنا بالفلاسفة الحقيقيين، وسنقتصر على ذكر أشهرهم على التتابع.
ويظهر أن الاشتغال بالفلسفة كان منوعا إلى نوعين: نوع أميل إلى التصوف منه إلى الفلسفة البحتة، وهؤلاء اتبعوا من الفلاسفة أفلوطين، وربما عددنا من أوائلهم ابن مسرة، وقد ذكرنا المشتغلين بالتصوف متسلسلين في الحركة الدينية فانظرهم هناك.
ومن هذه المدرسة كان ابن سبعين، وهي تعتمد على الذوق والكشف ومراقبة النفس أكثر مما تعتمد على العقل والمنطق ومقدمات القياس ونتائجه.
والنوع الثاني: من اشتغلوا بالفلسفة الصرفة على النحو الذي سار عليه أرسطو، وربما عددنا من أولهم بمعنى الكلمة «ابن باجة» وهو بعينه المعروف بابن الصائغ، وقد وصف ابن طفيل الأندلسي حالة الفلسفة في بلده وحالة ابن الصائغ الفيلسوف وصف خبير، فقال: «إن هذا العلم - الفلسفة - أندر من الكبريت الأحمر، ولا سيما في هذا الصقع - يعني: صقع الأندلس - الذي نحن فيه؛ لأنه - أي: هذا العلم - من الغرابة في حد لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد، ومن ظفر بشيء منه لم يكلم الناس إلا رمزا، فإن الملة الحنيفية والشريعة المحمدية قد منعت من الخوض فيه وحذرت منه ... ولا تظنن أن أحدا من أهل الأندلس كتب فيه شيئا فيه كفاية، وذلك أن من نشأ بالأندلس من أهل الفطرة الفائقة، قبل شيوع علم المنطق والفلسفة فيها، قطعوا أعمارهم بعلوم التعاليم والرياضيات، وبلغوا فيها مبلغا رفيعا، ولم يقدروا على أكثر من ذلك ... ثم خلف من بعدهم خلف زادوا عليهم بشيء من علم المنطق، فنظروا فيه، ولم يفض بهم إلى حقيقة الكمال، فكان فيهم من قال:
برح بي أن علوم الورى
اثنان ما إن فيهما من مزيد
حقيقة يعجز تحصيلها
وباطل تحصيله ما يفيد
ثم خلف من بعدهم خلف آخر أحذق منهم نظرا، وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثقب ذهنا، ولا أصح نظرا، ولا أصدق رؤية من أبي بكر من الصائغ،
1
غير أنه شغلته الدنيا، حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه، وبث خفايا حكمته، وأكثر ما وجد له من التآليف «نوعان : كتب مخرومة من أواخرها، ككتابه في النفس وتدبير المتوحد، وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة. وكاملة وهي كتب وجيزة ورسائل مقتبسة».
2
وترتيب عبارته في بعض المواضع على غير الطريق، ولو اتسع له الوقت مال لتبديلها، فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل، ونحن لم نلق شخصه».
وابن باجة هذا كما يظهر من كلام ابن طفيل من أكبر مفكري عصره، ولكن مع الأسف لم تصلنا أكثر مؤلفاته، على أنه روي أن له كتبا في المنطق لم تتم موجودة في مكتبة الأسكوريال.
ومن أهم ما وصل إلينا من تآليفه رسالة الوداع، وكتاب «تدبير المتوحد»، فأما رسالة الوداع فقد أبان فيها فضل المعرفة وفضل التأمل الفلسفي، وأنهما وحدهما يؤديان بالإنسان إلى معرفة الطبيعة، ويعينانه على تعرف نفسه ويوصلانه إلى العقل الفعال، كما يتعرض فيها للنفس الإنسانية ونهايتها ... إلخ.
وأما كتاب تدبير المتوحد، ومعنى المتوحد «النبتة تنبت من تلقاء نفسها، وتنتحي ناحية وحدها»، فإنه تعرض فيه للمدينة ووصفها على نحو مختصر من جمهورية أفلاطون. وعنده أن المدينة الفاضلة هذه قد خلت من صناعة الطب وصناعة القضاء؛ لأن أهلها لا يمرضون لاغتذائهم بالأغذية الصحيحة، ولعدلهم في تصرفاتهم، فأهلها صحاح الأبدان، عادلو الأحكام، وذكر أنه في هذه المدينة الفاضلة أعطي كل إنسان ما هو مستعد له.
وهو يقسم أعمال الإنسان إلى أعمال اضطرارية كالهوي من فوق، والاحتراق إذا مسته النار، وبعض أعماله يشترك فيها مع النبات، وبعضها يشترك مع الحيوان. وأما الأفعال الإنسانية الخاصة، فهي ما تصدر عنه بإرادته. وقلما يوجد العمل البهيمي إلا ممزوجا بالإنسان، وتوسع في تقسيم الأعمال الإنسانية، حسب التعبيرات الفلسفية المعهودة، ومما يناسب اسم الكتاب «تدبير المتوحد»، أنه نصح بالبعد عن الناس ورأى الخير في أن المتوحد يعيش وحده حتى ولو اضطرته الظروف أن يكون مقيما وسط الجماعة؛ لأن الغاية القصوى للإنسان الكامل هي إعمال العقل والتأمل، وهي لا تأتي إلا بالدرس والفكر، ولا يكون ذلك إلا بالتوحد، ومن رأيه أن هناك عقلا واحدا كليا، اقتبس كل فرد منه قبسة تختلف كبرا وصغرا، وربما كانت هذه الفكرة من الأسس التي بنيت عليها فكرة وحدة الوجود.
وقد ترجمت «رسالة الوداع» التي ذكرناها إلى العبرية، وفيها أبان عن العقل الأول، وبحث في الغاية الحقيقية من وجود الإنسان، والغاية من العلم، وهي القرب من الله، والاتصال بالعقل الفعال الذي يفيض منه، وفي هذه الرسالة آراء في اتحاد النفوس أخذها منه ابن رشد، وسماها رسالة الوداع؛ لأن ابن باجة كان على سفر طويل، فكتبها لصديق من أصدقائه ليترك له آراءه إذا قدر أن لا يلتقيا. وفي هذه الرسالة بحث في قيمة المعرفة على نحو ما نراه في كتاب الشفاء لابن سينا.
وقد ولد ابن باجة هذا في سر سرقسطة في آخر القرن الخامس الهجري، في دولة المرابطين. وقد كانت الغلبة في الناس لأهل الحديث المتشددين، أما الفلاسفة فكانوا عرضة للاضطهاد أو القتل، إلا فترات قصيرة كان فيها بعض الأمراء يميل إلى الفلسفة، فيقرب إليه الفلاسفة، وصادف أن كان منهم حاكم سرقسطة فاتخذ ابن باجة جليسا له ووزيرا، وكان ابن باجة على علم واسع بالرياضة والفلك والموسيقى والطب، فاضطهده المتزمتون ورموه بالزندقة والإلحاد، وكان قد وصل إلى الأندلس كتب فلاسفة الشرق، وخاصة الفارابي وابن سينا والغزالي، فانتفع بكتبهم، وكانت فلسفته كما هو الشأن في أول كل شيء فلسفة لا شاملة ولا كاملة، وهو يتفق في آرائه في المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة مع مذهب الفارابي، ويرى أن الهيولى لا يمكن أن توجد مجردة عن الصورة، أما الصورة فيمكن أن تتجرد من الهيولى، والإنسان يتدرج درجات متتالية، حتى يصل إلى ما هو إلهي، ويتدرج من الجزئيات إلى الكليات والإنسان يبلغ الرتبة العليا بتنمية العقل تنمية حرة خالصة من القيود، والفعل الحر الاختياري هو الذي يصدر بعد الفكرة والروية، أي: إنه فعل شعر فاعله بغاية يقصدها منه. فالطفل قد يكسر شيئا لا لغاية، ولكن العاقل يستطيع أن يفعل الفعل لغاية يقصد إليها ... إلخ.
وله قصائد لونت بفلسفته مثل قوله:
يا باكيا فرقة الأحباب عن شحط
هلا بكيت فراق الروح للبدن
نور تردد في طين إلى أجل
فانحاز عوا وخلى الطين للكفن
يا شد ما افترقا من بعدما اعتلقا
أظنها هدنة كانت على دخن
إن لم يكن في رضا الله اجتماعهما
فيا لها صفقة تمت على غبن
وهذا القول أشبه «بعينية» ابن سينا في النفس. وقوله:
ما كل من شم نال رائحة
للناس في ذا تباين عجب
قوم لهم فكرة تجول بهم
بين المعاني أولئك النجب
وفرقة في القشور قد وقفوا
وليس يدرون لب ما طلبوا
لا يتعدى امرؤ جبلته
قد قسمت في الطبيعة الرتب
وكانت تفد إليه العلماء من جميع الأقطار. ويقول صاحب المعجب: إنه هو الذي نبه الناس على قدر ابن رشد ولفت إليه الأنظار، ومن ذلك الحين عرفوه، ونبه قدره عندهم.
وقدر رأى أن الإنسان إذا ارتقى بلغ في ارتقائه أن يتصل بالله، وتنكشف له الحقائق، ويشعر من ذلك بلذة أكبر من كل لذة، ويحدث ذلك للإنسان في لحظات تجل، وهي نظرية صرح بها أفلوطين، واعتنقها كثير من النصارى والمسلمين في القرون الوسطى؛ كابن طفيل وابن رشد والغزالي وابن عربي وأمثالهم. وقد جعلها ابن طفيل هي غاية الغايات في رسالته حي بن يقظان، وقال: إنه وصل إلى هذه الدرجة أولا على فترات طويلة ثم على فترات قصيرة.
ويظهر أنه كان عالما بالطب والرياضة والفلسفة، وأن ميزته سعة معارفه أكثر من سعة ابتكاره. وقد رووا أنه وزر حوالي عشرين سنة لأبي بكر بن إبراهيم صهر علي بن يوسف بن تاشفين رئيس المرابطين، كما رووا أنه ذهب آخر حياته إلى فاس حيث وقع فريسة لأعدائه، حتى قالوا: إنه سم حوالي سنة 533ه، وأنه كان ممن دبر هذه المؤامرة عليه الطبيب ابن زهر. وغريب أن يقع فيلسوف فريسة لفيلسوف آخر. وكان أساس اتهامه الإلحاد والخروج عن الدين، وكان يكرهه الفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان؛ ولذلك لما ترجم له في هذا الكتاب رماه فيه بكل نقيصة إذ قال: «هو رمد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفا وجنونا ، وهجر مفروضا ومسنونا، فما يتشرع، ولا يأخذ في غير الأضاليل ولا يشرع. الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن تكون منه إلى الله فيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترأ على الله اللطيف الخبير، وقصر عمره على طرب ولهو، واستشعر كل كبر وزهو، وأقام سوق الموسيقى، وهام بحادي القطار وسقى فهو يعكف على سماع التلاحين، ويقف عليه كل حين». وكلامه يمثل نظرة عوام الأندلس إلى الفلاسفة.
وعلى العكس من ذلك قال علي بن عبد العزيز عنه: «إنه كان في ثقافة الذهن، ولطف الغوص على تلك المعاني الجميلة الشريفة الدقيقة، أعجوبة دهره، ونادرة الفك في زمانه». ويظهر أن الفتح بن خاقان إنما ذمه هذا الذم لأشياء شخصية وقعت بينهما، مع أنه كان قد مدحه قبل ذلك مدحا كبيرا سنرويه في ترجمة الفتح مما يدل على عدم تحري الصدق وقول الحق.
وقد قال ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء: «إنما انتهجت سبل النظر في هذه العلوم - يعني: العلوم الفلسفية - بهذا الحبر - يعني: ابن باجة - وبمالك بن وهيب الإشبيلي، فإنهما كانا متعاصرين، غير أن مالكا لم يقيد عنه إلا قليل نزر، في أول الصناعة الذهنية، وأضرب الرجل - يعني: ابن باجة - عن النظر ظاهرا في هذه العلوم، وعن التكلم فيها لما لحقه من المطالبات في دمه بسببها، وأقبل على العلوم الشرعية فرأس فيها، وله تعاليق في الهندسة وعلم الهيئة تدل على نبوغه في هذا الفن. وأما العلم الإلهي فلم يوجد في تعاليمه شيء مخصوص به اختصاصا تاما، إلا نزعات تستقرأ من قوله في رسالة الوداع».
ويحكي ابن أبي أصيبعة أنه كان من جملة تلاميذ ابن باجة أبو الوليد بن رشد، وقد عدد كتبا لابن باجة من تآليفه الضائعة مثل شرح كتاب «السماع الطبيعي» لأرسطاطاليس، وشرح لبعض كتاب «الآثار العلوية»، وله أيضا شرح لبعض كتاب «الكون» وكتاب «الحيوان والنبات» في اتصال العقل بالإنسان، وكتاب «النفس» وهو تعليق على كتاب الفارابي «في الصناعة الذهنية»، وفصول قليلة في السياسة المدنية ... إلخ. والله أعلم.
بنو زهر
من أشهر فلاسفة الأندلس بنو زهر، وهم سلسلة من العلماء والأطباء ظهروا في الأندلس ستة في نسق، أولهم وهو الجد الأعلى أبو بكر محمد بن مروان بن زهر، وقد اشتهر بالفقه والأدب، ومات سنة 422ه ثم ابنه أبو مروان عبد الملك بن محمد بن زهر، وكما اشتهر أبوه بالفقه والأدب اشتهر هو بالطب، وقد تنقل بين القاهرة والأندلس، واتصل ببلاط أمير دانية واسمه مجاهد، وعين طبيبا خاصا له، ومات عن ثروة كبيرة، قال القاضي صاعد فيه: إنه رحل إلى المشرق، ودخل القيروان ومصر، وتطبب هناك زمنا طويلا ، ثم رجع إلى الأندلس، وله في الطب آراء شاذة.
ثم ابنه أبو العلاء واشتغل أيضا بالطب وأخذه عن أبيه، ورويت له عجائب في تشخيص الأمراض، واتصل بأمراء بني عباد، ثم انضم إلى يوسف بن تاشفين، ثم ابنه أبو مروان بن أبي العلاء، ويسمى عادة بأبي مروان بن زهر، ولد حوالي سنة 485ه، وتعلم الطب على أبيه، وابتكر أشياء كثيرة في الأقرباذين، وقد كان صديقا لابن رشد، ولما ألف ابن رشد كتابه في كليات الطلب أوعز إلى صديقه هذا أن يؤلف كتابا في الجزئيات حتى يكمل بعضهما بعضا. ولأمر خفي اضطهده علي بن يوسف بن تاشفين ثم سجنه، ولعل ذلك كان إرضاء للعوام لما نقموا عليه اشتغاله في الفلسفة. وله كتاب اسمه «الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد»، وكان طبه كثيرا ما يعتمد عليه الطب الأوربي، ومن ابتكاراته وصف للأورام الحيزومية والتغذية الصناعية عن طريق الحلق.
ثم ابنه أبو بكر محمد بن عبد الملك، خلف رسالة في طب العيون، وقد كان طبيبا ليعقوب بن يوسف، فقربه إليه، ثم ابنه أبو محمد عبد الله، وكان طبيبا ماهرا أيضا، واتصل ببلاط الموحدين، وتوفي شابا بالسم كأبيه ولم يكن يلغ خمسة وعشرين عاما.
فهذه الأسرة كما ترى، أسرة برزت في الطب واشتهرت بالفلسفة، ولكن مع الأسف لم نعرف الكثير عن فلسفتهم. ونصل بعد ذلك إلى ابن طفيل.
ابن طفيل
كان طبيبا في دولة الموحدين فاشتغل في بلاطهم، وهو الذي قدم إلى هذا البلاط ابن رشد، وكان ابن طفيل أسن منه، وهو أيضا الذي حبب إلى ابن رشد تلبية رغبة الخليفة في شرح كتب أرسطو، وابن رشد حل محله لما طعن ابن طفيل في السن. وقد مات ابن طفيل سنة 581ه، ولم يعرف له إلا رسالة حي بن يقظان،
3
مع أنه تنسب إليه آراء في الفلك. وقد ألف هذه الرسالة مقتبسا الفكرة والاسم من ابن سينا، وإن كانت قصته أروع، وتأثر فيها بالأفلاطونية الحديثة، بنى فكرته فيها على إنسان وجد منذ طفولته في جزيرة نائية ليس فيها أحد من الناس فأرضعته غزالة، وكان هذا الطفل موهوبا قادرا على التفكير العميق، استطاع بعقله شيئا فشيئا أن يعرف الكون ويشرح جسم الإنسان ويعرف أسراره، وأن يعرف النار وفوائدها، وأخيرا استطاع أن يعرف الله. ولما تقابل مع رجل في الجزيرة كان تدين بشريعة نبي واستطاعا أن يتفاهما، عرض كل ما عنده على الآخر، وتبين أنهما متفقان في الأصول دلالة على أن الدين لا يخالف العقل.
وفي الرسالة لفتات لطيفة، منها: أن الإنسان إذا ارتقى اتصل بالله ورأى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما ذكرنا ذلك في ابن باجة، وقد تقدم في حياته كثيرا بقوة عقله، فاستطاع حتى أن يبدل أوراق الشجر التي كان يلبسها بجلد نسر، واستطاع أن يفهم معنى الموت لما ماتت أمه الغزالة، واهتدى إلى غزل الصوف، وصنع الإبر، والبناء، كما اهتدى إلى صيد الحيوانات وتربية الدواجن، واستنتج من تبخر الماء فكرة الهيولى والصورة، وتحول الصور بعضها إلى بعض، واكتشف أيضا فوائد النار ومضارها، ثم فكر في السماء كما فكر في الأرض.
وهناك مثلا يدل على دقة ملاحظته. قال في اكتشاف النار ما يأتي: «واتفق في بعض الأحيان أن انقدحت نار في أجمة قلخ
4
على سبيل المحاكة، فلما بصر بها رأى منظرا هاله، وخلقا لم يعتده قبل، فوقف يتعجب منها مليا، وما يزال يدنو منها شيئا فشيئا، فرأى ما للنار من الضوء الثاقب، والفعل الغالب، حتى لا تعلق بشيء إلا أتت عليه، وأحالته إلى نفسها، فحمله العجب منها، وبما ركب الله في طباعه من الجرأة والقوة على أن يمد يده إليها، فأراد أن يأخذ منها شيئا، فلما باشرها أحرقت يده، فلم يستطع القبض عليها، فاهتدى إلى أن يأخذ قبسا لم تستول النار على جميعه فأخذ بطرفه السليم والنار في طرفه الآخر، فتأتى له ذلك وحمله إلى موضعه الذي كان يأوي إليه، وكان قد خلا في جحر استحسنه للسكنى قبل ذلك، ثم ما زال يمد تلك النار بالحشيش والحطب، ويتعهدها ليلا استحسانا لها وتعجبا منها، وكان يزيد أنسه بها ليلا؛ لأنها كانت تقوم له مقام الشمس في الضياء والدفء، فعظم بها ولوعه واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه، وكان دائما يراها تتحرك إلى جهة فوق، وتطلب العلو، فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية التي كان يشاهدها.
وكان يختبر قوتها في جميع الأشياء بأن يلقيها فيها فيراها مستولية عليها، إما بسرعة وإما ببطء بحسب قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه للاحتراق أو ضعفه. وكان من جملة ما ألقى فيها على سبيل الاختيار لقوتها شيء من أصناف الحيوانات البحرية كان قد ألقاه البحر إلى ساحله، فلما أنضجت ذلك الحيوان، وسطع قتاره،
5
تحركت شهوته، فأكل منه شيئا فاستطابه، فاعتاد ذلك أكل اللحم، فعرف الحيلة في صيد البر والبحر حتى مهر في ذلك».
وبهذه المناسبة تقول: إنه هو والفلاسفة المسلمون والفلاسفة اليونانيون من قبل كانوا يرون أن الأجسام السماوية من نجوم وكواكب، وسماء وأجسام شفافة طاهرة أرقى في الحياة من الإنسان، وأنها في رقيها وسط بين الله والناس؛ وأنها أهل لأن يقتدي بها الإنسان، وأنها طبقات بعضها فوق بعض، وأنها أفلاك عشرة وسموها العقول العشرة، وكل عقل يحكم ما تحته، ويحكم بما فوقه، ثم الفلك الأخير من ناحية الأرض يتحكم فيها وفي شئون أهلها، ومما قاله في ذلك ابن طفيل: «إن التشبه بالأجسام السماوية على ثلاثة أضرب:
فالضرب الأول:
أن لها أوصافا بالإضافة إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد، وهي ما تعطيه إياه من التسخين بالذات او التبريد بالعرض والإضاءة والتلطيف والتكثيف إلى سائر ما تفعل.
والضرب الثاني:
أن لها أوصافا في ذاتها، مثل كونها شفافة ونيرة وطاهرة، ومتنزهة عن الكدر وضروب الرجس، ومتحركة بالاستدارة، بعضها على مركز نفسها، وبعضها على مركز غيرها.
والضرب الثالث:
أوصاف لها بالإضافة إلى الموجود الواجب الوجود، مثل كونها تشاهده مشاهدة دائمة ولا تعرض عنه وتتشوق إليه، وتتصرف بحكمه، ولا تتحرك إلا بمشيئته».
فجعل «حي بن يقظان» يتشبه بها، ففي الضرب الأول متى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب أو تعلق به نبات آخر يؤذيه أو عطش عطشا يكاد يفسده أزال عنه ذلك الحاجب ... وتعهده بالسقي ما أمكنه، ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه ضبع أو نشب به ناشب أو تعلق به شوك، أو سقط في عينيه أو أذنيه شيء يؤذيه، او مسه ظمأ أو جوع تكفل بإزالة ذلك كله وأطعمه وأسقاه، ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سقي نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق، من حجر سقط فيه، أو جرف انهار عليه، أزال ذلك كله عنه، وما زال ينعم في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ به الغاية ... إلخ إلخ.
وعلى الجملة فقد كانت قصة غريب لطيفة، فيها المعاني الفلسفية العميقة، والخيالات القصصية اللطيفة، صاغ ذلك كله في عبارة أدبية رفيعة جزلة، قلدها بعض أهل المشرق والمغرب. ولما انطفأ سراجه خلفه ابن رشد، وكانت الفلسفة قد نضجت، ووسائلها قد توفرت، وفلسفة ابن باجة وابن طفيل قد وصلت وهضمت، ووصلت إلى الأندلس أيضا رسائل إخوان الصفاء، وكتب الفارابي وابن سينا الفلسفة، ورد الغزالي على الفلاسفة في كتابه تهافت الفلاسفة، فأمكن من كل ذلك ظهور ابن رشد كفيلسوف ناضج، يحمل علم الفلسفة في الأندلس، وفيما جاورها من الأمم، ويصبح بحق فيلسوف الأندلس بلا مراء.
ابن رشد
لابن رشد أسرة طيبة تشبه أسرة ابن زهر، من حيث إن الأب الأول كان فقيها، والذي يلاحظ أنه كان من مداخل الفلسفة الفقه لسببين:
الأول:
أن الفقه والاشتغال به والبحث عن استنباط الأحكام يعلم العمق، ودراسة الفلسفة دراسة عميقة.
والثاني:
أن الفلسفة لما كانت مكروهة في الأوساط الشعبية الأندلسية كان الفقه ستارا يتخذه الفلاسفة، حتى لا يرموا بالزندقة.
وعلى الجملة فقد كان الجد الأول هو أبو الوليد محمد بن رشد، كان قاضيا لقرطبة على مذهب الإمام مالك، وتوجد مجموعة من فتاويه في كتاب خطي للآن، وقد سفر للسلطان في المغرب ونجح في سفارته، وكان موضع السفارة نقل ألوف من نصارى الأندلس إلى طرابلس لاتقاء شرهم ، وقد خلف هذا الجد ابنا اسمه أحمد، وهو أبو فيلسوفنا الكبير. وقد ولد ابن رشد الفيلسوف في قرطبة سنة 520ه، وأخذ يتعلم الشريعة من فقه وأصول وكلام، ثم التفت إلى الطب فدرسه ومهر فيه. ويقول ابن أبي أصيبعة: إنه درس الطب والفلسفة على ابن باجة، وسرعان ما انتقل من الطب إلى الفلسفة، ولكن لم يشأ أن يظهر بالفلسفة، حتى لا يتهم في العقيدة، وقد قربه وحماه الخليفة الموحدي، وهو الأمير يوسف الذي خلف عبد المؤمن.
وقد قال ابن رشد: «لما دخلت على أمير المؤمنين وجدت ابن طفيل في مجلسه، فابتدأ يذكر شرف أسرتي وقدم عهدها، وأثنى علي ثناء لا أستحقه. ولما التفت إلي الأمير سألني عن اسمي واسم أبي واسم أسرتي وبادرني بالسؤال: ماذا يعتقد الفلاسفة في الكون؟ أهو قديم أزلي أو محدث، فداخلني الوجل عند هذا السؤال وأخذت ألتمس عذرا لأتخلص من الجواب، فأنكرت أنني اشتغلت بالفلسفة وما كنت عالما أن ابن طفيل اتفق مع أمير المؤمنين على تجربتي، فلما رأى الأمير اضطرابي التفت إلى ابن طفيل، وصار يباحثه في هذا الموضوع، فروى كل ما قاله فيه أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الفلاسفة، وأردفها بردود المتكلمين عليها، فاطمأنت نفسي حينئذ، ولكني عجبت مما بدا من الأمير من الذكاء وقوة الذاكرة التي ندر وجودها حتى عند العلماء المنقطعين إلى هذه المسائل، وبعد الفراغ من الكلام جرأني عليه؛ ليرى مبلغ علمي في ذلك الموضوع، فاجترأت وأخذت أتكلم، وعند خروجي من مجلسه منحني مالا وخلعة سنية ودابة للركوب».
ومن هذا الوقت صار ابن رشد من أحب الناس للأمير يوسف، وقد حدثونا أن الأمير هو الذي طلب من ابن رشد شرح فلسفة أرسطو؛ لأنه رآها غامضة. وقد ولاه الأمير قضاء إشبيلية سنة 565ه، وفيها شرح قسما من أقسام فلسفة أرسطو، وهو قسم الحيوان، ثم رأيناه سنة 567ه في قرطبة يشرح شرحه الطويل على أرسطو، وطالما شكا من الوظيفة؛ لأنها تحرمه التفرغ للتأليف. وقد ولي طب الأمير بعد ابن طفيل، وعهد إليه رياسة القضاء في قرطبة، ولئن كان ابن سينا شغلته السياسة عن التفرغ للفلسفة، فابن رشد شغله القضاء وطب الأمير عن ذلك أيضا، ومات الأمير يوسف، وخلفه الأمير يعقوب، فقربه إليه أيضا، ولكن بدأ الوشاة والمنافسون يرمون ابن رشد بأنه زنديق يجحد القرآن، ويعرض بالخلافة، وكتب مرة على كتابه يصف المنصور بأنه أمير البرين، فحرفوها إلى أمير البربر، وقد أعرض الأمير يعقوب عن سماع هذه الوشايات أولا، ولكنه أمام هياج الشعب وحب التقرب إليه تنكر لابن رشد، فاستدعى ابن رشد وامتحنه وأخلى سبيله، وكان الطلبة ينتظرونه، فهنأوه بنجاته وعدم إصغاء الأمير إلى الوشايات فيه، وتقريب الأمير إليه فقال: «والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء، فقد قربني دفعة واحدة أكثر مما كنت أؤمل»، ثم اتهموه بما ذكرنا.
وزاد الأمر سوءا أنه قد شاع عند العامة في وقت من الأوقات حصول أرباح شديدة تهلك الحرث والنسل، وأنها تكون كالرياح التي أرسلت على عاد، فروي عن ابن رشد أنه قال: «والله وجود قوم عاد ما كان حقا، فكيف سبب هلاكهم؟» ولو صحت هذه الجملة عن ابن رشد لكان معناها أنه يعتقد أن عادا وقصته أسطورة، فهاج عليه العوام وقالوا: إنه ينكر القرآن. وزيادة على ذلك أنهم فتشوا في كتبه الفلسفية، وأخذوا منها ما ينافي الدين، فأمر الأمير بمحاكمته . فكان ابن رشد في ذلك صريحا صادقا، فلم يتزلف للأمير، وشهد الجلسة الكبرى لمحاكمته، وكتبوا بأنه مرق من الدين واستوجب ما لعن الله به الضالين، وخالف عقائد المؤمنين، ومع ذلك فلم يحكم فيه الأمير السيف، بل نفاه إلى قرية قريبة من قرطبة، سكانها من اليهود، وأذيع في العامة المنشور التالي:
قد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام ... فخلدوا في العالم صحفا ما لها من خلاف، مسودة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يؤمنون بأن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشيعون في القضية فرقا، ويسيرون فيها شواكل وطرقا ... يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون ... فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب، وأبعد عن الرجعة إلى الله والمآب ... فاحذروا - وفقكم الله - هذه الشريعة على الإيمان حذركم من السموم السارية في الأبدان.
ووقع مع ابن رشد في الاتهام أبو جعفر الذهبي وغيره، وتفرق عن ابن رشد تلامذته لما وجدوه يضطهد. وقد روي عن ابن رشد في هذا الموقف أنه قال: «أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة وقد حانت صلاة العصر، فثار علينا بعض سفلة العامة، فأخرجونا منه». ثم إن الأمير عفا عنه، ويظهر أن ذلك كان بعد أن هدأت العامة، ولكن لم يعش بعد العفو طويلا، فتوفي سنة 595ه وله من العمر خمسة وسبعون، وكان قد استدعي إلى مراكش فمات بها، ثم حمل إلى قرطبة ودفن بها، وأصيبت الأندلس بوفاة عبد الملك بن زهر، وابن البيطار، وابن رشد وكلهم علماء عظام في الفلسفة، فأقفرت البلاد منهم، وكان موتهم بعد موت ابن زهر وابن طفيل إنذارا بأفول شمس الفلسفة.
وأهم وظيفة لابن رشد أنه شارح فلسفة أرسطو كلها تقريبا فقد ندبه الأمير الموحدي، وانتدب هو نفسه لشرح كتب أرسطو، وقد وضع على هذه الكتب ثلاثة شروح؛ صغير ومتوسط وكبير، وتخصص لذلك، وكان يعجب بأرسطو إعجابا شديدا، ويعده المثل الأعلى للإنسان، ويشيد بذكره في كل مناسبة، فيقول مثلا في مقدمة كتابه الطبيعيات: «إن مؤلف هذا الكتاب هو أرسطو، وهو أعقل أهل اليونان، وأكثرهم حكمة، وواضع علوم المنطق والطبيعيات وما وراء الطبيعة ومتممها، وقد قلت: إنه واضعها؛ لأن جميع الكتب التي وضعت قبله في هذه العلوم غير جديرة بالذكر بإزاء كتبه، وقلت: إنه متممها؛ لأن جمع الفلاسفة الذين عاشوا منذ ذلك الزمن إلى اليوم، أي: مدة ألف وخمسمائة سنة، لم يستطيعوا زيادة شيء على وضعه، ولا وجدوا خطأ فيه، فلا ريب في أن اجتماع هذا العلم في إنسان واحد أمر غريب عجيب، يوجب تسميته ملكا إلهيا لا بشرا؛ ولذلك كان القدماء يسمونه أرسطو الإلهي».
وقال في موضع آخر: «إننا نحمد الله كثيرا؛ لأنه قدر الكمال لهذا الرجل ووضعه في درجة لم يبلغها أحد غيره من البشر في جميع الأزمان، وربما كان الباري مشيرا إليه بما قال في كتابه القرآن:
قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ». وقال في موضع آخر: «إن برهان أرسطو لهو الحق المبين». ويمكننا أن نقول عنه: «إن العناية الإلهية أرسلته إلينا لتعليمنا ما يمكن علمه». كل هذا يدل على أنه كان يقدره تقديرا كبيرا؛ ولذلك لم يخرج عنه إلا في القليل النادر، فهو أخلص له من ابن سينا مثلا الذي خالف منطق أرسطو وخطأه، وألف منطق المشرقين حتى إن ابن رشد كان إذا بدا له ما يخالفه فيه يحكي قول أرسطو ويلقي تبعته عليه.
وقد تأثر جدا بطريقة تفسير القرآن والحديث، فكان يذكر أرسطو، ثم يعقبه بالشرح، وقد راعى في هذا طريقة التعليم التي كان يتبعها أهل زمنه، والتي حكاها ابن خلدون في مقدمته من أن المعلمين كانوا يبدءون مع الطلبة الشيء مختصرا، ثم يقرءونه بعد ذلك وسطا، ثم يقرءونه مبسوطا؛ وقد حكى لنا ابن أبي أصيبعة أن ابن رشد شرح أكثر كتب أرسطو من منطق وطبيعة وما بعد الطبيعة ونبات وحيوان وغير ذلك. ومن مظاهر تقديسه لأرسطو أنه كان يرد على ابن سينا والفارابي والغزالي حين يخرجون عليه، ووقف طويلا في الرد على «الشفاء» لابن سينا، «وتهافت الفلاسفة» للغزالي، وأثار مسائل هامة أثارها علماء الكلام في الإسلام، كما أثارتها فلسفة أرسطو. وكان المتكلمون كالمعتزلة والسنية أثاروا مسائل على نحو خاص، ثم أثارها الفلاسفة المسلمون على نحو آخر، والفرق بين منهج المتكلمين ومنهج الفلاسفة أن المتكلمين مؤمنون داعون إلى الإسلام، اخضعوا آراء اليونان ومذاهبهم لحكم الإسلام، أما الفلاسفة فخضعوا هم للفلسفة، ودخلوا في بحث الموضوع مجردا عن أي اعتبار؛ ولذلك لم يعجبهم منهج المتكلمين.
كان أهم ما بحث فيه المتكلمون والفلاسفة وجود الكون: هل هو أزلي أو حادث؟ وكيف نشأ الكون المتعدد عن الإله الواحد؟ وما علاقة الله بالكون؟ ثم البحث بين السبب والمسبب، فعند المتكلمين أن المادة محدثة غير أزلية، والله هو الذي أوجد الأجسام وعوارضها بعد أن لم تكن موجودة، ولا يوصف بالأزلية إلا الله، والله أوجد الكون من العدم البحت، وتكاد تجمع الأديان كلها على هذا الرأي.
وقد انقسم المتكلمون بعد اتفاقهم على هذا إلى قسمين: فالقدرية وهم المعتزلة قالوا: إن الخالق وضع للكون نظاما، وأودع في المخلوقين قوى تصدر عنها آثارها بطريق التوليد والسببية، وقد أوجب على نفسه هذه القوانين مراعاة لصالح البشرية وجعلها لا تتخلف؛ ولذلك لم يطمئنوا إلى المعجزات، كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص؛ لأنها تخالف هذه القوانين، والفرقة الأخرى من المتكلمين ترى أن السبب لا يصدر عن المسبب، وإنما يصدر المسبب عن الله عند وجود السبب، فالأكل لا يوجد الشبع، وإنما الله هو الذي يشبع عند وجود الأكل، والنار لا تحرق ولكن يحرق الله عند وجود النار. وسبب قولهم ذلك: إنكار نسبة الإيجاد إلى شيء غير الله. وقالوا: إن الأسباب لا بد منها في صدور السبب، إلا أن الذي يخلق المسببات ويعطيها الوجود عند استكمالها هو الله تعالى، وليس الله بملزم بها.
وعلى ذلك تفهم المعجزات بسهولة، فلم يحرق إبراهيم مع وجود النار؛ لأن الله لم يخلق الإحراق، وهو الذي يشفي من يشاء، ويمرض من يشاء كما يرى، فيخلق الشيء عند وجود السبب أو لا يخلقه . وعلى الجملة فنفوا أن تكون الأسباب هي الموجبة للمسببات. والفلاسفة يذهبون مذهب المعتزلة من ربط الأسباب بالمسببات، وأن المسبب يصدر عن السبب، وقد قال ابن رشد بوجود واجب الوجود، المنزه عن المادة والماديات، وتبع أرسطو في قوله: بوجود عقول مجردة عن المادة، وهي المسماة بالعقول العشرة، فالعقل الأول جوهر مجرد عن المادة، وهو أول صادر عن الله واجب الوجود، وقد صدر عنه الفلك التاسع، ثم عقل آخر هو العقل الثاني، وعن هذا الثاني صدر الفلك الثامن وهكذا. ويسمون العقل العاشر بالعقل الفعال، أو العقل الفياض للكون، وكل عقل يؤثر فيما بعده، وما بعده يؤثر فيما بعده وهكذا. فكل ما يصدر في عالمنا يصدر عن هذه الأفلاك مسلسلا إلى العقل الفعال. والذي حملهم على ذلك قولهم: إن الله واحد من جميع الوجوه، والواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا الواحد، فيلزم ألا يصدر عن الواجب الواحد إلا واحد وهو العقل، وكل عقل يفعل فيما بعده. والأسباب والمسببات وارتباط بعضها ببعض داخلة في علم الله، وهي تصدر عنه على حسب ترتيبها في العلم ... إلخ.
ويرى ابن رشد تبعا لفلسفة أرسطو أن نفس الإنسان - أي: النفس الناطقة - جوهر مجرد عن المادة، لا هو جسم ولا حال في جسم، وإنما له علاقة ما بالجسم، يدبره ويصرفه، كما يتصرف الملك في المدينة وهو خارج عنها، والنفس الإنسانية قابلة للارتقاء على أربع مراتب أطال في ذكرها، ومعنى رقيها ارتفاع النفس بقواها عن ظلمة الطبيعة بما يكون لها من الاستعداد، وانجذابها نحو العالم الأعلى، فتشرق فيها المعلومات.
وقد جرد ابن رشد نفسه للدفاع عن هذه الآراء والرد على مخالفها، ومن شنع عليها كالغزالي في تهافت الفلاسفة، وتعصب ابن رشد لمنطق أرسطو، واعتقد أنه لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى الحق إلا به، ورقي الإنسان تابع لمقدار معرفته بالمنطق. وقد فضل فلسفة أرسطو على كلام المتكلمين، وقد عد ابن رشد خارجا عن السنن الإسلامي في ثلاثة آراء: (1)
قوله بقدم العالم ونظام العقول الذي شرحناه وصدور كل عقل عما قبله. (2)
ارتباط المسببات بالأسباب على وجه لا يسمح المعجزات. (3)
قوله ببقاء الكليات وحدها، وفناء الجزئيات، وعلى هذا المبدأ فسر المعاد. فالنفس الفردية الجزئية تفنى، وإنما الذي يخلد ويبقى ويجري عليه المعاد، هو النفس الإنسانية الكلية، وتوضيح ذلك أن الفرد إذا مات تحلل جسمه إلى عالم الأجسام، واتصلت نفسه الفردية بالنفس الكلية، وهذا يجعل فهم الثواب والعقاب للأفراد صعبا؛ إذ ليس هناك وجود للنفس الفردية، نعم: إن لابن رشد قولا آخر بوجود النفس الفردية وخلودها، ولكن يظهر أنه ساير فيه الجمهور أكثر من أنه كان يعتقده، فكان له رأي فلسفي لنفسه وللمتفلسفة غير رأيه الذي يجاري فيه الجمهور، ويساعد على فهم النفس الكلية قوله: إن العقل لا يتجزأ على عدد الأفراد، وإنه واحد في سقراط وأفلاطون، وإذ كان لا من حيث العقل؛ لأن العقل لا يتجزأ، وعلى العموم فالذي يبقى بعد الموت على رأيه الأخير، هو الحياة الإنسانية الكلية، لا الحياة الفردية. وعلى هذا يكون من الصعب على رأيه فهم ما جاء به الدين من الحشر والبعث والعقاب.
والذي يفهم من ثنايا كتاباته في هذا الموضوع أنه يرى أن الدين شرع للخاصة والعامة، والفلسفة للخاصة وحدهم. ولما كانت العامة لا يمكن أن يحملهم على الإتيان بالفضائل وتجنب الرذائل، إلا الاعتقاد بالثواب والعقاب والبعث ومسئولية كل فرد في الآخرة عما يصدر عنه من أعمال، كان الدين آتيا بذاك للمصلحة العامة، أما الخاصة من الفلاسفة فيأتون بالفضائل، ويتجنبون الرذائل لذاتها. وقد دلهم البحث الفلسفي على أن الخلود هو للنفس الكلية لا الجزئية.
ومن ظريف ما يروى في هذا الباب ما رواه جمال الدين مؤلف كتاب تاريخ الفلاسفة، وقد كان من تلاميذ ابن رشد، قال: «كنت صديقا حميما لابن يهوذا، ففي ذات يوم قلت له: إذا كانت النفس تحيا بعد مفارقة الجسد، وتبقى قادرة على معرفة الأشياء الخارجية، فعدني وعدا صادقا أنك إذا مت قبلي، تخبرني بما هنالك، وأعدك أني إذا مت قبلك أفعل ذلك، فوعدني بهذا، ثم إنه مات، ومرت بضع سنوات ولم يظهر لي. قال جمال الدين: ولكنني في ليلة رأيته في الحلم، فقلت له: أيها الطبيب، أما وعدتني بأن تأتيني بعد الموت وتطلعني على ما جرى لك؟ فضحك وأدار عني وجهه. فقلت له: لا أتركك حتى تخبرني، فقال: إن العام عاد إلى العام، والخاص داخل في الخاص. ففهمت منه ما يريد أن يقول، وهو أن النفس التي هي جوهر عام، قد عادت إلى الجوهر العام، والجسد الذي هو عنصر خاص قد عاد إلى الأرض التي هي مستقر العنصر الخاص، ثم انتبهت وأنا أعجب بلطف جوابه».
6
وقد عني ابن رشد في فلسفته بالتوفيق بين الدين والفلسفة، فكان يؤول في الدين حتى يتمشى مع الفلسفة، وألف في ذلك كتابين:
الأول:
فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال.
والثاني:
الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. وفيهما وقف موقفا وسطا في عقيدة القضاء والقدر، وقد رمى في كتابه «تهافت التهافت» الغزالي بأنه سوفسطائي يساير الجماهير، وانتقد كذلك من قبله من ابن سينا والفارابي، ورماهما بالقصور أحيانا، والغموض أحيانا أخرى.
والحق أن حكماء المسلمين انقسموا في هذا الموضوع - الشريعة والفلسفة - إلى ثلاثة أقسام، فأكثر فلاسفة المسلمين كإخوان الصفاء وابن سينا وابن رشد، رأوا أن يوفقوا بين الفلسفة والشريعة، فإذا رأوا نصا في الدين ظاهره لا يناسب النظريات الفلسفية أولوه تأويلا قريبا أو بعيدا، وبعضهم كالغزالي رأى أن ما أتت به الشريعة حق، وما أتت به الفلسفة مما يخالف الشريعة باطل مثل قدم المادة، ونكران بعث الأجساد؛ ولذلك كفرهم في كتابه «تهافت الفلاسفة»، وقسم ثالث رأى أن النظريات الفلسفية صحيحة وتعاليم الدين صحيحة كذلك، والتوفيق سخافة، وإنما الواجب أن يكون لكل منهما منطقة نفوذ، فالدين مقبول فيما هو من اختصاصه، كالخلق والحياة بعد الموت والثواب والعقاب الفرديين واليوم الآخر ونحو ذلك، ونظريات الفلسفة تقبل في الطبيعيات والكيماويات والمنطق ونحو ذلك، وليس يصح أن يعتدي أحدهما على الآخر، وأشهر من قال بذلك أبو سليمان المنطقي، كما حكاه عنه أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة . ونحن أميل إلى هذا الرأي، فلا حرج أن يدخل المسلم المسجد ليؤدي شعائر الدين كما وردت، ثم يخرج منه إلى المعمل ليختبر فيه المواد الطبيعية، والنظريات العلمية. وهذا ما يفعله فلاسفة النصارى المتدينون.
ومن ظريف ما يتصل بابن رشد وفلسفته أيضا ما حكى محيي الدين بن عربي في الفتوحات قال: «دخلت يوما بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع بي، وبلغه ما فتح الله علي في خلوتي، وكان يظهر التعجب مما سمع، فبعثني والدي إليه في حاجة قصدا منه حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بقل وجهي، ولا طر شاربي، فلما دخلت عليه قام من مكانه إلي محبة وإعظاما، فعانقني وقال لي : نعم؟ فقلت له: نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم استشعرت بما أفرحه من ذلك فقلت له: لا. فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح، فاصفر لونه، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه».
وقد كان بعض أصحابنا يستبعد هذه الملاقاة لتقدم ابن رشد في التاريخ، ولكن رأينا أن ابن عربي ولد سنة 560ه، أي: قبل وفاة ابن رشد بخمسة وثلاثين عاما، إذ مات ابن رشد حوالي سنة 595ه، فيمكن أن يراه وهو في الخامسة والعشرين أو الثلاثين أو قبل ذلك، خصوصا أنه يقول: إنه قابله قبل أن يبقل وجهه، ويطر شاربه، ولكن الأسئلة والأجوبة غريبة. فما معنى لا؟ وما معنى نعم؟ وكيف يتفاهمان بهذه الرموز؟ وسؤاله الأول، وإجابة محيي الدين بنعم، وفرح ابن رشد بذلك ربما كان يريد أن يسأل: هل الفلسفة والأدلة العقلية والاعتماد على المنطق يوصل إلى الحقيقة؟ وهي نفس الطريقة التي جرى عليها ابن رشد، فلما قال له ابن عربي: نعم، فرح، ولكنه ما لبث أن قال: لا، فانقبض ابن رشد وتغير، ولعل ابن عربي يقال: لا، إيماء إلى أن الطريقة العقلية ليست خير الطرق في معرفة الحقيقة، وإنما خير الطرق عنده هو الرياضة النفسية التي توصل إلى كشف الحقيقة، حتى لكأنها ترى بالعين. وربما دل على ذلك مذهب ابن عربي أن الكشف والفيض الإلهي، يعطيان أكثر مما يعطي النظر.
ومعنى قول ابن عربي: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح أن الطريق النظري والكشفي كل يوصل إلى الحقيقة، ولكن شتان بين ما يعطيه البرهان العقلي، وما يعطيه الكشف، فالبرهان العقلي يعطي الاقتناع، وأما الكشف فكأنما صاحبه يرى بالعين، وشتان ما بينهما، وإشارته إلى أن بين نعم ولا تطير الأرواح معناها فيما يظهر أن بين من ينكر الكشف ويستند إلى الظاهر فقط كالفقهاء، وبين القائلين: بنعم، أي: المؤمنين بالكشف بالصوفية خلافا شديدا أهدرت فيه الأرواح، كما أهدرت روح الحلاج والسهروردي، ويذكرنا هذا بالحكاية التي تروى عن الجدل بين ابن سينا وأبي سعيد بن أبي الخير. غاية الفرق أن هذه القصة رموز خفية، وأما تلك فكلام واضح.
7
وقد كان عبد الواحد المراكشي قريب العهد من ابن رشد، ولقد لقي بعض تلاميذه، فروايته عنه أقرب إلى الحقيقة، وقد ذكر أن لغضب الأمير الموحدي على ابن رشد سببين: سبب ظاهر، وسبب باطن. فأما السبب الظاهر وهو أكبر الأسباب فإنه كان يشرح كتاب الحيوان لأرسطو فقال فيه عند ذكر الزرافة، وكيف تتولد، وبأي أرض تنشأ: «وقد رأيتها عند ملك البربر» جاريا في ذلك على طريقة العلماء في الإخبار عن ملوك الأمم وأسماء الأقاليم، غير ملتفت إلى ما يتعاطاه خدمة الملوك ومتحيلو الكتاب، من الإطراء والتقريظ، فكان هذا مما أحنقهم عليه، غير أنهم لم يظهروا ذلك، وفي الحق أنها كانت من أبي الوليد بن رشد غفلة، واستمر الأمر على ذلك إلى أن استحكم ما في النفوس، ثم إن قوما ممن يناوئون ابن رشد من أهل قرطبة أخذوا تلك التلاخيص التي كان يكتبها ابن رشد، فوجدوا فيها بخطه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة، أن الزهرة أحد الآلهة، فسأله السلطان: أخطك هذا؟ فأنكر ابن رشد، فأمر الأمير بإخراجه على حال سيئة، وإبعاد من يتكلم في شيء من هذه العلوم (الفلسفة)، وهذا هو السبب الظاهر ...
ثم لما رجع إلى مراكش جنح ثانية إلى الفلسفة، واستدعى ابن رشد إلى مراكش، وأحسن إليه وعفا عنه، ولم يلبث ابن رشد أن مرض مرضه الذي مات بسببه في آخر سنة 594ه، وقد ناهز الثمانين.
8
ولكن يظهر أن الأمير أبا يوسف هذا كان ينوي غزوة وكان لا بد فيها من تملق العامة، فكان مما تملق به اضطهاده للفيلسوف والفلسفة التي يكرهها العامة، فلما انتصر وانتهت الغزوة، ولم يعد في حاجة إلى تملق العامة، عاد يعطف على الفيلسوف.
وإذا كانت الفلسفة اليونانية تعرضت للمسائل العلمية والاجتماعية، وخصوصا أفلاطون في جمهوريته، فقد تعرض لها ابن رشد أيضا، فنص على كراهيته للاستبداد العسكري، والإقطاعات العسكرية، ورأى أنه لا اختلاف بين الرجال والنساء في الطبع، وإنما هو اختلاف في الكم؛ أي: إن طبيعة النساء تشبه طبيعة الرجال، ولكنهن أضعف منهم في الأعمال. والدليل على ذلك مقدرتهن على جميع أعمال الرجال، كالحرب والفلسفة وغيرهما، ولكنهن لا يبلغن فيها مبلغ الرجال. ومن أظرف آرائه أنه يرى في الموسيقى أن يكون مؤلف القطعة الموسيقية رجلا، والموقع أو المغني امرأة. وقد كان ابن رشد يستشهد على صحة قوله بإناث الكلاب، فهي تستطيع أن تحرس الغنم حراسة تامة كحراسة الذكور، وألمح إلى سوء الوضع الذي وضعت فيه المرأة في الشرق من عدم تمكينها لإظهار قواها، كأنها لم تخلق إلا للولادة وإرضاع الأطفال.
وعلى الجملة فقد كان ابن رشد أمينا مخلصا لأرسطو، وإن كان يخرج عليه أحيانا إما لداعي الدين أو لتفكيره الخاص الذي تنتجه بيئته.
وقد كان من تلاميذ ابن رشد بعض اليهود إذ كانوا يستمعون إليه في حلقته، فلما مات ابن رشد نشر هؤلاء اليهود فلسفته، وترجموا أكثرها إلى العبرية، وانتشرت فلسفة ابن رشد في المدارس والجامعات، وعارضها رجال الدين اليهودي والمسيحي، ولما اضطهدوا في الأندلس فروا إلى فرنسا ... وكانوا عددا كبيرا شاركوا في الثقافة الأندلسية مشاركة كبيرة، وكانوا منتشرين قبل الفتح الإسلامي في البلاد بين القوط، واستخدمهم هؤلاء القوط في الوظائف المالية، ولما فتح العرب الأندلس استخدموهم، وكان طبيب عبد الرحمن الثالث يهوديا، اسمه «حسادي بن شبروط»، بل بلغ بعضهم - مثل إسماعيل بن نعزلة
9 - منصب الوزارة في عهد الأمير حبوس في غرناطة، وبعضهم نشر في الأندلس القصص اليهودي بجانب القصص العربي، فلما أخذوا عن ابن رشد فلسفته نشروها في أوربا، فترجموا شروح ابن رشد لأرسطو على اللاتينية، ومن أشهر من فعل ذلك ميخائيل الإسكتلندي سنة 1230، ونشاط اليهود والنصارى في نقل فلسفة ابن رشد وشروحه على أرسطو هي التي فتحت لأوربا الباب أمام الفلسفة اليونانية. وكان من أكبر زعماء اليهود الذي يتثقفوا ثقافة فلسفية موسى بن ميمون، وقد كان معاصرا لابن رشد، وإن كان ابن رشد أسن منه بنحو عشر سنوات، فقد ولد ابن ميمون سنة 1135م بقرطبة، وقد حدث أن كان اليهود في قرطبة قد نشروا نفوذهم ولكن كان كبراؤهم يصانعون المسلمين، فخلف من بعدهم خلف من اليهود لم يصانعوا المسلمين، فسخط المسلمون عليهم، واستثارهم شاعر معروف اسمه أبو إسحاق الإلبيري، فقال في قصيدة:
ولا نرفع الضغط عن رهطه
10
فقد كنزوا كل علق ثمين
وفرق عراهم وخذ مالهم
فأنت أحق بما يجمعون
ولا تحسبن قتلهم غدرة
بل الغدر في تركهم يعبثون
فقد نكثوا عهدنا عندهم
فكيف نلام على الناكثين
وكيف تكون لنا همة
ونحن خمول وهم ظاهرون
فثار عليهم المسلمون وقتلوا منهم وخيروا الباقين بين الإسلام وبين الرحلة من البلاد.
على كل حال كان موسى بن ميمون في هذه الظروف التعسة وسنه ثلاث عشرة سنة، وقد تعلم على أبيه إذ كان قاضيا في المحاكم اليهودية، فلما خير اختار الرحيل عن الأندلس، فرحل هو وأسرته إلى فلسطين ونزلوا عكا، ثم انتقلوا إلى بيت المقدس، ثم انتقلوا أخيرا إلى الفسطاط في مصر. وكان موسى يترفع عن أن يتكسب بعمله الديني، فاشتغل بالطب واشتهر به، واتصل عن طريقه بالقاضي الفاضل وزير صلاح الدين، ونجح في طبه نجاحا كبيرا، فكان يقصده الناس من كل ناحية. وقد كتب ابن ميمون كتبا كثيرة أكثرها بالعربية وأقلها بالعبرية، وأقبل الناس من يهود ومسلمين على دراسة كتبه الفلسفية والطبية. ومما زاد في انتشارها في أوربا ترجمتها إلى اللغة اللاتينية، وأهم كتبه كتابه «دلالة الحائرين» ويعني بالحائرين الذين حاروا في قضايا كثيرة بين العقل والدين، وهي مسألة عالجها كثير من الفلاسفة المسلمين، كابن رشد وابن سينا وابن باجة. ومن رأي ابن ميمون أنه لا تناقض بين العلم والدين، ما دام ينظر إليهما نظرة سمحة واسعة تجعل الدين قابلا للتأويل.
وكما كانت له كتب فلسفية من هذا القبيل كانت له كتب دينية يهودية من جمع النصوص والروايات. وقد هاج المسلمون عليه في مصر؛ لأنه كان قد أسلم مدة في قرطبة خوفا من القتل، فلما أمن في مصر عاد إلى دينه، فاتهموه بانه مرتد، ولكن قال القاضي الفاضل: إنه أكره على الإسلام، فلا يعد مسلما صحيحا فلا يكون مرتدا، وبذلك نجا. وله رسائل كتبها إلى أصحابه باللغة العربية تشتمل على مسائل شخصية، ومسائل فلسفية، ومسائل دينية، انتشرت كذلك بين اليهود انتشارا كبيرا، ولولا ازدحام الناس عليه لمعالجتهم فعاقوه من التفرغ للتأليف لأنتج أكثر مما أنتج. وعلى الجملة، فقد كان علما من أعلام اليهود الذين نشروا الفلسفة الإسلامية في أوربا.
وكان نقل فلسفة ابن رشد وأرسطو سببا في هياج الكنيسة على المشتغلين بالفلسفة، حتى إن الكنيسة حرمت الاشتغال بهذه النظريات الفلسفية في القرن الثالث عشر الميلادي. وهذه الحركة العنيفة بين الكنيسة وأحرار الفكر كانت من الأسباب التي حملت بعض الناس على الخروج على الكنيسة، وسببت في أوربا النهضة الحديثة، وجعلت بعض الفلاسفة كبيكون ينتقد الفلسفة القديمة، وفلسفة أرسطو بوجه خاص، ويدعو إلى عدم الخضوع لأرسطو خضوعا تاما، كما يدعو إلى إنزاله من عرشه، وتحكيم العقل في كل ما يعرض عليه، وعدم الإيمان بشيء مهما كان قائله إلا ما دلت عليه المشاهدة والتجربة. ومن ذلك الحين أخذ العقل البشري يفكر على هذا المنهج الجديد.
وكان من أنصار ابن رشد فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا، فقد كان سندا لمترجمي فلسفي ابن رشد في أوربا، وكان الإمبراطور نفسه يعرف اللغة العربية، تعلمها على عربي في صقلية، وكان في بلاطه حركة نشطة من يهود يشتغلون بترجمة الفلسفة العربية، وخصوصا فلسفة ابن رشد، وفلكيون يشتغلون بالرصد بملابسهم البغدادية، وكان ينصر تعاليهم على الكنيسة، ومع ذلك لم يمنعه هذا من اشتراكه في الحروب الصليبية ضد العرب؛ لأنه كان يرى أن العلم شيء والسياسة شيء. وكره من رجال الدين المسيحي حتى كانوا يلقبونه بالدجال الذي روي عنه أنه سيقاوم الديانة المسيحية. على كل حال ظهر رجال عظام مثل فردريك هذا، ومثل جولتيه، دعوا إلى تحرير العقل من سلطة رجال الكنيسة، وتبعهم غيرهم حتى تم لهم الانتصار ...
وبعد: فهل كان ابن رشد مؤمنا؟ يشك بعض المستشرقين في إيمانه، ونحن نرى أنه كان مؤمنا إيمان الفلاسفة، فللمحدثين إيمان، وللمتكلمين إيمان، وللفلاسفة إيمان، إيمان المحدثين إيمان بكل ما ورد في الآثار من غير شك، ولا نقد عقلي، وإيمان المتكلمين وخاصة المعتزلة إيمان بتأويل الآثار إلى ما ينطبق مع العقل، وقد قرأت بالأمس حكاية لطيفة في كتاب البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي خلاصتها أن موسى - عليه السلام - كان يعتب على آدم في أنه أتى بخطيئة، فأخرج نفسه وذريته من الجنة، فقال له آدم: ألم تعلم أن إتياني بالمعصية وخروجي من الجنة كان بقضاء الله وقدره، فكيف تعتب علي؟ وعلق أبو حيان بأن المتكلمين إذا قرءوا مثل هذه الآثار، حصلت لهم قشعريرة، وسببها أنهم كانوا يقولون بقدرة الإنسان على أعمال نفسه؛ ولذلك يكون مسئولا عنها. وفي هذا الحديث ما يشعر بأنه مضطر، ولا يمكن مع هذا تفسير المسئولية، ثم قال: إن ثلثي أعمال الدين يقبل فيها ما ورد من الآثار من غير حاجة إلى إعمال العقل، وهذا هو إيمان المحدثين.
أما الفلاسفة فإيمانهم من جنس آخر، وأعتقد أن ابن رشد وأمثاله من الفارابي وابن سينا وابن طفيل، كانوا يؤمنون بالله، كإيمان أستاذهم أرسطو بالله، وكانوا يؤمنون بالنبوة بمعنى غير ما يؤمن به العامة، ويرون أن الدين أتى لجمهور الناس، أما الخاصة من الفلاسفة فإنهم يضبطهم عقلهم أكثر ما يضبطهم الدين. وقد عبر عن ذلك ابن طفيل في كتابه حي بن يقظان تعبيرا واضحا دقيقا، فإن حيا لما قابل أبسال، وكان أبسال متعلما تعاليم نبي، وملتزما شرائعه، تعجب من بعض ما عرض عليه أبسال من التعاليم التي جاءت على لسان النبي، تعجب مثلا من أمر الدين بشعائر معينة، كصلاة في الصبح وصلاة في الظهر، وزكاة للأموال مما يقتضي جواز ادخار الأموال، ونحو ذلك من شعائر، وكان حي قد أداه عقله إلى عدم التزام الشعائر في أوقاتها، ولجوئه إلى الله كلما دعته إلى ذلك نفسه، كما أداه عقله إلى الزهد في الدنيا والتقلل من المال وعدم الاقتناء، واقتصاره على ما يسد حاجته الضرورية، وأراد أن يذهب إلى جزيرة الناس ويعظهم بأفكاره هو تكملة لأفكار النبي، فغضب عليه الناس وتبين أن الأنبياء بتعاليمهم كانوا أعرف بطبائع البشر، وأن الدين لم يأت للصفوة فقط.
فهذا يدل على أن الفلاسفة يعطون لعقلوهم حرية التفكير، وعرض أوامر الدين على العقل وتحكيم العقل فيه، واستخدام التأويل ما سمح لهم التأويل. وقد ينظرون إلى النبوة على أنها أمر يمكنهم الوصول إليه، أو إلى قريب منه بعقولهم واجتهادهم؛ ولذلك لم يقدسوا أوامرهم تقديسا كبيرا كما يقدسه الجمهور، بل صرح بعضهم بأنهم غير ملزمين بالأوامر الدينية كما يلزم الجمهور. وفي أقوال ابن رشد وابن سينا ما يشير إلى ذلك، وإن كانوا يستعملون التقية خوفا من إيذاء الجمهور لهم.
لقد روي عن ابن رشد أشياء يأباها جمهور الناس، كالذي روي عنه في أن عادا لم يثبت وجودها مع نص القرآن عليها. ولعله يذهب في ذلك إلى أن قصد القرآن العظة، وقد روي في القرآن أن عادا أهلكوا بريح صرصر عاتية، فموضع العظة أن قصة عاد الذين يتناقل الناس أخبارهم، يتناقلون هلاكهم بالريح، تكفي لتكون موعظة للناس، سواء ثبت وجودهم حقيقة أو لا. وهذا مذهب قوم من المتطرفين يرون أن القصد أولا وآخرا هو الموعظة، ولو كانت الموعظة مبنية على إشاعة، وهو ما يرضى عنه جمهور المؤمنين. وروي عنه أيضا أنه حكى أن الزهرة إله، وهذا سهل التأويل؛ لأنه كان يحكي آراء اليونان في ذلك، وبعيد أن يكون هذا مذهب ابن رشد.
على كل حال نعتقد أن ابن رشد يؤمن بالله ورسوله إيمانا خاضعا لسلطان العقل، وليس يؤمن بالأثر على إطلاقه، ودعوى بعض المستشرقين بعدم إيمانه لم يقم عليها دليل مقنع، والله أعلم.
وعلى الجملة، كان اشتغال العرب بالفلسفة في بغداد وما حولها سببا في اشتغال الأندلسيين بها، كابن رشد وابن طفيل ... ثم كانت الخطوة الثانية وهي انتقال الفلسفة اليونانية من الأندلس إلى أوربا قبل أن ينهض الأوربيون ويأخذوا الفلسفة اليونانية من أصولها.
ولذلك نلاحظ هذا الترتيب الزمني، فأول ما اشتغل العرب بالفلسفة اليونانية وظهر فيهم الكندي وأمثاله، كان بعد نحو قرنين اثنين من ظهور الإسلام، إذ كان العراق مقرا للفلاسفة من قديم، ومقرا لترجمة الفلسفة اليونانية عن طريق السريان، ثم من السريان إلى العرب. ولكن لم تظهر الفلسفة في الأندلس إلا في النصف الأخير من القرن الرابع، حتى انتقلت الفلسفة من العراق إلى الأندلس، ولكن في نظير ذلك تأخرت حياة الفلسفة في الأندلس بعدما ماتت في المشرق؛ لأن الغزالي وأمثاله في المشرق استطاعوا أن يخمدوا صوت الفلسفة فيه، ولكن استطاع فلاسفة الأندلس أن يستمروا في إحياء الفلسفة، ويردوا على الغزالي وأمثاله؛ ولذلك بقيت الفلسفة في الأندلس بعد موتها تقريبا في المشرق.
وإذا نحن تصورنا الحياة الفلسفية العربية مصباحا، فأول ما أضاء في المشرق، ثم أخذ منه قبس فأشعل مصباحا آخر في الأندلس، ثم أخذ من هذا الأخير قبس فأشعل مصباح الفلسفة في أوربا. ويظهر أن شهرة ابن رشد الكبيرة التي غطت على شهرة ابن سينا والفارابي في أوربا ترجع إلى أمور: (1)
قوة شخصية ابن رشد. (2)
تلمذة اليهود له، ونشاطهم في نشر مذهبه. (3)
استعداد الوسط النصراني واليهودي إذ ذاك للتفلسف، وحاجتهم إليه بعد أن بالغ رجال الدين في الحجر على حرية الفقه، فكانت حركة ابن رشد رد فعل قوية.
ومنذ سنين؛ أي: حوالي سنة 1902م وجدت حركة في مصر كان زعيماها الأستاذ فرح أنطون والأستاذ الشيخ محمد عبده، إذ كان الأول قد نشر في مجلته «الجامعة» خلاصة فلسفة ابن رشد كما عرضها الأستاذ رينان، وروى اضطهاد المسلمين له في الأندلس ونحو ذلك، فانبرى له الأستاذ الشيخ محمد عبده يبين أن الإسلام ينادي بالحرية الفكرية إلى آخر حد، ولا يضطهد الفلسفة، وأنه صدر من المسيحيين اضطهاد للفلسفة والفلاسفة أكثر مما صدر من المسلمين، ولم يكن هناك داع لذلك كله، فعامة المسلمين اضطهدوا الفلاسفة، وكرهوا الفلسفة، وكذلك عامة النصارى، وليس يهم أيهما كان أكثر اضطهادا. والحق أن الإسلام والنصرانية بريئان من تحمل هذه المسئولية، وإنما يحملها المسلمون لا الإسلام، والنصارى لا النصرانية، ونبش التاريخ لا يفيد كثيرا، إنما الذي يفيد حمل الناس على التسامح، حتى يسير البحث عن الحقيقة في مجرى صاف هادئ لا اضطهاد فيه ولا كبت.
وهناك نوع من الفلسفة لا يتبع فلسفة اليونان، وهو الفلسفة الخلقية التي أتى بها ابن حزم، فلم يسلك سبيل ابن رشد في حكايته لفلسفة أرسطو الأخلاقية في كتابه المسمى «نيقوماخوس»، وإنما هي فلسفة أخلاقية مستمدة من تجاربه الخاصة. فقد كان وزيرا وابن وزير، تسرح في قصوره الجواري الحسان، ويحب ويكره، ويوالي ويعادي، ويتصل بالخلفاء والأمراء اتصال محاسنة أحيانا، واضطهاد أحيانا أخرى، ويرتفع إلى السماء حينا، وينخفض إلى الحضيض حينا، ويلاقي العلماء والجهال والأمراء العادلين والظالمين، ويكتوي بالحب أحيانا، ويذوق لذة الوصال وألم الهجران، ويهجو العلماء ويهجونه، ويدعو إلى مذهب الظاهرية، فيناهضه رجال المالكية بقوة ... كل هذا أكسبه تجارب كثيرة، وكان حاد الذهن مرهف الحس، كثير الاطلاع، فاستفاد من كل ذلك تجارب ركزها في حكم، وألف فيها كتاب الأخلاق والسير.
نعم، إنه تأثر بالفلسفة اليونانية في الأخلاق، كما يدل عليه كتابه مثل اعتناقه نظرية الأوساط لأرسطو، أي: أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين: الإفراط والتفريط، ولكن هذا لا يذكر بجانب تفكيره الشخصي، وتجاربه الشخصية، ونحن نسوق أمثلة على هذا، فمثلا حاول أن يجعل للأخلاق كلها من فضائل ورذائل أساسا، وبعد طول تفكير استطاع أن يجد هذا الأساس وهو «طرد الهم»، وأن الناس كلهم استووا في استحسانه واتخاذه باعثا على كل الأعمال، وإليه يعود كل غرض غيره، سواء في ذلك المتدين وغير المتدين، ومن يريد الخير ومن لا يريده، ومن يؤثر الخمول ومن يريد بعد الصيت، وعد ذلك اكتشافا عظيما. وكل الناس إنما تطلب بأعمالها طرد الهم، فالذين يطلبون المال، يطلبونه لطرد الهم، وكذلك الذين يطلبون الصيت، ومن يطلب العلم، إنما يطلبه لطرد هم الجهل، ومن أكل ومن شرب ومن لبس، إنما يفعل ذلك لطرد هم الجوع والعطش والعري، وهكذا أرجع كل الأعمال الإنسانية إلى طرد الهم في أشكاله المختلفة. وهذا يذكرنا بما تفعله بنتام وجون استوارت مل في جعلهما كل البواعث على العمل طلب اللذة ودفع الألم.
كذلك من لطائفه بحثه في الحب وأنواعه، فعنده أن الحب جنس واحد مختلف الأنواع، وإنما اختلف الحب باختلاف الأغراض، وقد تنوع الحب من حب للأب، وحب للابن والقرابة والصديق، وحب للسلطان وللحسن، وللمأمول وللمعشوق، فهذه كلها جنس واحد تنوعت على اختلاف الطمع فيما ينال من المحبوب. وقد رأينا من مات أسفا على ولده، كما يموت العاشق أسفا على معشوقه، وبلغنا من شهق من خوف الله ومحبته فمات، ونجد المرء يغار على سلطانه وعلى صديقه، كما يغار على زوجته، وكما يغار العاشق على معشوقه، فكل أنواع الحب من واد واحد، وتسير سيرا متشابها، ويزيد الحب بالمجالسة، والمحادثة والمزاورة، واستمر في ذلك حتى حلل الحب تحليلا دقيقا، وكثيرا ما تقتبس فقرة أو فقرات من هذا الكتاب تتخذ مبدأ مثل ما فعلت «الجريدة» من اقتباسها في أول كل عدد من أعدادها قول ابن حزم: «من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق، وإن آلمتها في أول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه، أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه»؛ «لأن مدحهم إياه إن كان بحق وبلغه مدحهم له، أثر ذلك فيه العجب، فأفسد بذلك فضائله، وإن كان بباطل فبلغه فسره، فقد صار سرورا بالكذب، وهذا نقص شديد. وأما ذم الناس إياه، فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سببا في تجنبه ما يعاب عليه، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا كل ناقص وإن كان بباطل وبلغه قصير، اكتسب فضلا زائدا بالحلم والصبر».
ويقول: «الناس فيما يعانون كالماشي في الفلاة، كلما قطع أرضا بدت له أرضون، وكلما قضى المرء سببا، جدت له أسباب»، «صدق من قال: إن العاقل معذب في الدنيا، وصدق من قال: إن العاقل فيها مستريح، فأما تعذبه فيما يرى من انتشار الباطل وغلبة دولته، وبما يحال بينه وبينه من إظهار الحق، وأما راحته فترفعه عن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا»، وكان يقول: «فرض على الناس تعلم الخير والعمل به، فمن جمع الأمرين فقد استوفى الفضيلتين معا، ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعليم وأساء في ترك العمل. قال ابن حزم: فاعترض علي إنسان سمع مني ذلك، وقال: كان الحسن - يريد الحسن البصري - إذا نهى عن شيء لا يأتيه أصلا، وإذا أمر بشيء كان شديد الأخذ به، وقال آخر: إن أبا الأسود الدؤلي قال:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
فقلت: أن أبا الأسود إنما قصد بالإنكار المجيء بما نهى عنه المرء، وأنه يتضاعف قبحه منه بنهيه عنه، لا أن من كان يعمل شيئا قبيحا لا يصح له أن ينهى عنه، فهذا شيء وهذا شيء، وأما حكاية الحسن فقد صح عنه أنه سمع إنسانا يقول: لا يجب أن ينهى عن الشر إلا لمن لا يفعله، قال الحسن: ود إبليس لو ظفر منا بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر، ولا يأمر بمعروف، قال ابن حزم: وهذا قولنا آنفا، وقد صدق الحسن».
وفي الكتاب كثير من النظرات الصائبة والحكمة البالغة، نتيجة لتجاربه الخاصة. نعم، إنه لا بد أن يكون قد نظر إلى ابن المقفع في الدرة اليتيمة والأدب الكبير والأدب الصغير، ولكن ابن المقفع في كتبه كان نتيجة تجارب الفرس التي اطلع عليها، وكان ابن حزم ينقل نتيجة تجاربه الشخصية.
ومن الفلسفة العلمية التأليف في السياسة الاجتماعية، كما فعل الطرطوشي مثلا في كتابه «سراج الملوك»، والطرطوشي نسبة إلى طرطوشة من بلاد الأندلس، وقد تتلمذ لابن حزم والباجي، ويحكمون عنه أنه كان عالما عاملا، زاهدا ورعا، دينا متقشفا، متقللا من الدنيا راضيا منها باليسير.
ويهمنا منه هنا أنه ألف كتابا اسمه «سراج الملوك» وهو سياسة وعظية، أكثر منه دراسة نظرية، فلم تكن السياسة في زمنه قد أصبحت علما له قواعد ونظريات، وإذ لم يكن الطرطوشي قد تقلد مناصب حكومية كالوزارة ونحوها، كانت تجاربه في هذا الباب قليلة، وهي إلى المواعظ أقرب منه إلى تقعيد القواعد، وقد استفاد من اطلاعه الواسع على كتب التاريخ وكتب الحديث؛ ولذلك يضمن كتابه كثيرا من الأحداث التي قرأها، والحكم التي رواها، وأحيانا يتأثر بمثل كتب الأحكام السلطانية، ككتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي، فيسير سيره، كما أنه أحيانا يروي ما حكي له عن ملوك الأندلس وأمرائها وأخبارهم، وقد رتبه ترتيبا دقيقا: الباب الأول في مواعظ الملوك ... والثامن في منافع السلطان ومضاره، والتاسع في منزلة السلطان من رعيته، والحادي عشر في الخصال التي هي قواعد السلطان، ثم باب فيما يهدم الدولة، وفي حاجة السلطان إلى العلم، وفي الوزراء وصفاتهم، وفي خصال الأمير والمأمور، وما تكره الرعية من السلطان ومعنى «كما تكونوا يولى عليكم»، وعلاقة السلطان بالجند، وجبايته للخراج، وعلاقته ببيت المال، وتدوين الدواوين، وأحكام أهل الذمة، والحروب وغير ذلك، فقد تعرض لموضوعات غاية في الأهمية، إن كان عالجها كما قلنا بالآثار لا بالرأي، والكتاب من غير شك يدل على سعة اطلاع ولطف نظر، قال في مقدمته:
إنني لما نظرت في سير الأمم الماضية، والملوك الخالية، وما وضعوه من السياسات في تدير الدول، والتزموه من القوانين في حفظ النحل، وجدت ذلك نوعين: أحكاما وسياسات»، وقد ذكر أيضا أنه ألف هذا الكتاب للمأمون البطائحي الوزير الفاطمي وأهداه إليه. وفيه أشياء كثيرة تأثر فيها من وجوده بالأندلس، فعند كلامه مثلا على الحروب وتدبيرها وحيلها وأحكامها ذكر خبر وقعة وادي لكة التي قلت فيها لذريق واحتز رأسه، وفيه حكاية عن نظام جيش المنصور وقيادته والقضاء في أيامه، وفيه أخبار عن وقوف الفقهاء في وجه السلطان وحدهم من سلطانه. ويستفاد من مجمع ما ذكره عن الحرب، كيف كانت ترتب الجيوش في الأندلس.
ويظهر لي أنه كان مصدرا من مصادر ابن خلدون في مقدمته، وأن ابن خلدون فلسف أقواله، وأخضعها للعقل. وقد مات الطرطوشي سنة 520ه، ويظهر أنه كان متزمتا، فهو ينظر إلى اليهود والنصارى نظرة متعصبة، حتى ليحرم على نفسه أكل الجبن الرومي؛ لأنها صنعت في بلادهم.
وأما الحركة العلمية فنعني بها ما يقابل الحركة الأدبية أي:
scientific mouvement
من رياضة وطبيعة وكيمياء ونبات وحيوان وفلك، وعلى الجملة فكل ما تبحث فيه «كليات » العلوم اليوم. وقد كانت هذه العلوم داخلة في الفلسفة، ثم انفصلت عنها في العصر الحديث كما انفصل مثلا علم النفس، وكما انفصل حديثا علم الاجتماع، وأصبحت الفلسفة قاصرة على جذور الشجرة بعد أن انفصل عنها فروعها. وقد رأينا في الشرق أن الحركات المختلفة ظهرت على الترتيب الآتي: الحركة الأدبية، وبدأت في العصر الجاهلي واستمرت على الزمن، ثم الحركة الدينية، وقد ظهرت بظهور الإسلام، ثم الحركة الكلامية، وقد ظهرت في آخر العصر الأموي وأول العباسي، ثم الحركة الفلسفية والحركة العلمية، وهذا ما حدث في الأندلس بالضبط. فتاريخ الحركة الأدبية يعاصر الفتح العربي، ثم الحركة الدينية بعد ذلك بقليل، ثم الحركة الفلسفية نشأت نشوءا خافتا في أيام الحكم، ومنها الحركة العلمية.
ويظهر أن من أول من لفت النظر إلى الحركة العلمية مسلمة المجريطي من أهل قرطبة، قال صاعد في كتاب تعريف طبقات الأمم: «إن مسلمة كان إمام الرياضيين بالأندلس في وقته، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك، وحركات النجوم، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغف بتفهم كتاب بطليموس المعروف بالمجسطي، وله كتاب حسن في تمام علم العدد المعروف عندنا بالمعادلات، وكتاب اختصر فيه تعديل الكوكب من زيج البتاني، وغني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي »، وقد توفي مسلمة سنة 398ه، والشيء المهم أيضا أنه ربى تلاميذ كثيرين كانوا نواة صالحة في هذه العلوم، مثل: ابن السمح وابن الصفار، والزهراوي والكرماني وابن خلدون.
11
فهؤلاء كلهم اشتغلوا في العلوم، فابن السمح مثلا اشتهر بعلم الحساب والهندسة والهيئة، وشرح كتاب أقليدس في الهندسة، وله كتابان في الأسطرلاب، ومات سنة 426ه. وابن الصفار كذلك كان ماهرا في علم الحساب والهندسة والعلوم، وله زيج مختصر على مذهب السندهند. والكرماني كان ماهرا في الهندسة، ورحل إلى الشرق في طلبها، ثم عاد إلى الأندلس، وصار لا يشق غباره في فك غامضها، وتبين مشكلها، ومن ناحية أخرى اشتهر الغافقي وهو أبو جعفر أحمد بن محمد بعلم الأدوية المفردة، والنباتات ومنافعها وخواصها وأعيانها ومعرفة أسمائها. قال ابن أصيبعة: «إن كتابه في الأدوية المفردة لا نظير له في الجودة، ولا شبيه له في معناه، قد استقصى فيه ما ذكره ديسقوريدس وجالينوس، ثم ذكر بعد قوليهما ما تجدد للمتأخرين من الكلام في الأدوية المفردة، فجاء كتابه جامعا لما قاله الأفاضل في الأدوية المفردة، ودستورا يرجع إليه فيما يحتاج إلى تصحيحه منها.
ويظهر أن كتابه هذا كان عمادا لما ألفه ابن البيطار في كتابه «المفردات». فقد أصلح في كتاب الغافقي وزاد عليه ما اكتشف بعده، وكلاهما كان معتمدا على كتاب ديسقوريدس، ومصححا له وزائدا فيه. وابن البيطار هذا من أشهر علماء النبات والأعشاب، وأصله من مالقة، ولد في الربع الأخير من القرن السادس الهجري، وقد كان محبا للعلم، فكان يجوب البلاد يمتحن الأعشاب ويصفها ويذكر فوائدها، وألف كتابين أحدهما يعتمد على ما ذكره ديسقوريدس وزاد عليه وهو المشهور بمفردات ابن البيطار، وكتاب آخر مبني على تجاربه الخاصة، وهو يشتمل على علاجات بسيطة مستمدة من المعدن والنبات والحيوان، وقد رحل إلى مصر في دراسة الأعشاب، في عهد الملك الكامل الأيوبي، وعينه رئيسا للعشابين، وكان ابن أبي أصيبعة تلميذا لابن البيطار، وصحبه في الكشف عن النباتات في منطقة دمشق، وقد توفي ابن البيطار في دمشق سنة 646ه. ويظهر من تاريخه أنه كان محبا لموضوعه متفانيا فيه.
يقول ابن أبي أصيبعة: «وأول اجتماعي به كان بدمشق في سنة 633ه، ورأيت من حسن عشرته وكمال مروءته وطيب أعراقه وجودة أخلاقه، وكرم نفسه ما يفوق الوصف ويتعجب منه، ولقد شاهدت معه في ظاهر دمشق كثيرا من النبات في مواضعه، وقرأت عليه أيضا تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجد من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئا كثيرا جدا، وكنت أحضر عدة من الكتب المؤلفة في الأدوية المفردة، مثل: كتاب ديسقوريدس وجالينوس والغافقي ... فكان يذكر أولا ما قاله ديسقوريدس في كتابه باللفظ اليوناني على ما قد صححه في بلاد الروم، ثم يذكر جملة ما قاله ديسقوريدس من نعته وصفته وأفعاله، وما يتعلق بذلك، ويذكر أيضا جملا من أقوال المتأخرين وما اختلفوا فيه، ومواضع الغلط والاشتباه الذي وقع لبعضهم في نعته، فكنت أراجع تلك الكتب معه، ولا أجده يغادر شيئا مما فيها».
ونوع آخر يمثله أمية بن أبي الصلت، وقد كان مجيدا من نواح متعددة فهو من ناحية يجيد الميكانيكا، يدل على ذلك ما حكى ابن أبي أصيبعة من أن مركبا محملة بالنحاس غرقت في ميناء الإسكندرية، فعمل أمية تصميما أن يخرج المركب محمله بنحاسها من قاع البحر، وكان تصميمه ناجحا لم يخطئ فيه. وصرف الملك الأفضل ابن أمير الجيوش مبالغ طائلة في صنع الآلات التي رسمها، ولكن خان أمية التوفيق إذ قطعت حبال الإبريسم التي تشد المركب الغاطسة المحملة بالنحاس، فعادت إلى قاع البحر ثانية، وغضب الملك واعتقله حتى تشفع فيه بعض الأعيان. وكان إلى جانب ذلك أوحد أهل زمنه في العلوم الرياضية وفي علم الموسيقى واللعب على العود، وأصله من بلد اسمها «دانية» شرقي الأندلس. ومع تفوقه في العلوم المختلفة كان أديبا شاعرا، يقول الشعر الرقيق المملغم بعلمه، كقوله في وصف الأسطرلاب، وهو آلة الرصد المعروفة:
أفضل ما استصحب النبيل فلا
تعدل به في المقام والسفر
جرم إذا ما التمست قيمته
جل على التبر وهو من صفر
مختصر وهو إذ تفتشه
عن ملح العلم غير مختصر
ذو مقلة يستبين ما رمقت
عن صائب اللحظ صادق النظر
تحمله وهو حامل فلكا
لو لم يدر بالبنان لم يدر
مسكنه الأرض وهو ينبئنا
على جل ما في السماء من خبر
أبدعه رب فكرة بعدت
في اللطف عن أن تقاس بالفكر
فاستوجب الشكر والثناء له
من كل ذي فطنة من البشر
فهو لذي اللهب شاهد عجب
على اختلاف العقول والفطر
وأن هذي الجسوم بائنة
بقدر ما أعطيت من الصور
ونوع آخر من الاشتغال بالعلم يمثله العباس بن فرناس، وذلك أنه خطرت له فكرة أن يطير كما يطير الطير، يصنع جناحين يطير بهما، وهي فكرة سابقة لزمانها؛ لأن الطيران إنما نجح بعد التقدم في صنع الآلات، واكتشاف البنزين، وما هو أخف من البنزين، أما الاعتماد على الأجنحة فقط فمصيره الفشل لا محالة. قال فيه صاحب نفح الطيب: «إن أبا القاسم عباس بن فرناس أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمثقال؛ ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، واحتال في تطيير جثمانه، وكسا نفسه بالريش، ومد له جناحين، وطار في الجو مسافة بعيدة، ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه، فتأذى في مؤخره، ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه، ولم يعمل له ذنبا ... وصنع في بيته هيئة السماء، وجعل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود». فهذا كله إن صدق دل على شخص غريب حقا، نابغة حقا. والله أعلم.
هوامش
الفصل السادس
التاريخ والجغرافيا
التاريخ
أولع الأندلسيون كما أولع المشرقيون بتاريخ بلادهم وملوكهم وحوادثهم، وتراجم علمائهم وأدبائهم، والراحلين من بلادهم والوافدين عليها. ويظهر أن الاشتغال بالحديث كان هو الذي أسلم إلى الاشتغال بالتاريخ، فكان المحدثون يجمعون أحاديث من كل نوع، بعضها يتصل بالعبادات والمعاملات، وبعضها يتصل بسير النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة، فأسلم ذلك أولا إلى جمع سيرة النبي، ثم أسلمهم شيئا فشيئا إلى كتابة التاريخ.
ويظهر أن من أوائل مؤرخي الأندلس ابن حبيب الذي ذكرنا خبره في الحركة الدينية ، وربما عد أقدم مؤرخي الأندلس، وقد عاش في إلبيرة وقرطبة أول أمره، ثم رحل إلى المشرق ودرس على شيوخه الحديث وما إليه والفقه المالكي، فأكسبته هذه الدراسة توسعا في فهم التاريخ، فألف في كل فروع العلوم ومنها التاريخ العام، وسمى كتابه «التاريخ» وهو أشبه ما يكون بتاريخ الطبري، فيتكلم في ابتداء خلق الدنيا والسموات والبحار والجبال والجنة والنار وآدم وحواء، وما كان من أمرهما مع إبليس، ثم ذكر الأنبياء نبيا نبيا؛ لأن ذلك يعد تفسيرا لآيات الأنبياء في القرآن. وهذا القسم من تاريخ ابن حبيب مملوء بالأساطير والإسرائيليات التي تروي عن مثل وهب بن منبه وكعب الأحبار. فلما وصل في التاريخ إلى الأندلس وذكر فتحها كان كذلك مملوءا بالأساطير كرؤيا طارق بن زياد، وطلسم لذريق، وخبر المائدة، والكنوز التي عثروا عليها من ذهب وفضة وياقوت وزمرد ... إلخ.
1
ونجد بعد ذلك تاريخ ابن القوطية الذي ذكره في الحركة النحوية واللغوية؛ ولهذا الكتاب قيمة من ناحية خاصة، وهي تفسيره لحوادث إسبانية لم يكن يعرفها العرب، واسم كتابه «تاريخ افتتاح الأندلس»، وقد قالوا: إنه كان رجلا متدينا جميلا وطال عمره ونفع الله به الناس، وقد عثر على هذا الكتاب ونشر، وفيه صبغة فقهية مالكية، وميل إلى أصوله من القوط مما يخالف فيه المؤرخين الآخرين.
ثم نجد بعده عريب بن سعد المتوفى سنة 369ه، وكان من أصل قرطبي نصراني أسلم آباؤه، وكان سعد هذا كاتبا عند الحكم المستنصر، وقد اختصر تاريخ الطبري وزاد عليه أخبار المغرب والأندلس، وله ذيل مطبوع لتاريخ الطبري، وجاء بعده سيد مؤرخي الأندلس ابن حيان.
وكان ابن حيان هذا من كتاب المنصور بن أبي عامر، وكان أديبا ماهرا، إلى جانب أنه مؤرخ كبير، وقد ضاعت أكثر كتبه، ولم يبق منها إلا بقايا من كتابيه «المقتبس» و«المتين»؛ فأما «المقتبس» فيقع في عشرة أجزاء، لم يبق منها إلا ثلاثة، وكلها في تاريخ الأندلس من أول فتحها على يد طارق إلى زمن المؤلف. وأما «المتين» فقالوا: إنه يقع في 60 جزءا، لم يبق منه إلا فقر في بعض الكتب كالذخيرة لابن بسام. وقد وصفه المؤرخون والمترجمون له بأنه كان صادق الرواية، جميل الأسلوب، جزل التعبير، ولو بقيت كتبه لكشفت نواحي كثيرة من النواحي الغامضة في تاريخ الأندلس.
ولئن كان كثيرون من مؤرخي المسلمين يتحرجون من ذكر معايب الشخص، ويكتفون بمدائحه ويجرون حسب الحديث المشهور: «اذكروا محاسن موتاكم»، فكان ابن حيان في منتهى الصراحة، يذكر المحاسن ولا يتعفف عن ذكر المساوئ، ولا يومئ إليها إيماء، بل يقولها في جرأة وشدة حتى إن بعض المؤرخين تبرأ إلى الله من قوله. وكان إذا أراد أن يقتبس شيئا من ذلك حذف اسم المؤرخ له واكتفى بالتكنية عنه بفلان، ولم يسلم من لسانه حتى العظماء، فيذكر مثلا عن الأمير المنذر فضائله ثم يعقب ذلك بنقائصه، فيقول: إنه كان شديد البخل، ويأخذ عليه الاستهانة بدماء الناس والإسراع إلى سفكها، حتى ولديه وإخوته وصحابته ورعيته وأخذه في ذلك بالظنة، ومع أنه - كما قلنا - من كتاب المنصور بن أبي عامر، لم يتحرج من أن يتناول بالهجاء ولو من بعيد هذه الأسرة، وأن يأسف على زوال الدولة الأموية في الأندلس، ويبكي على ما كان للدولة الأموية من البهجة، وما حل محلها من دولة بربرية ليس لها ما للأموية من جلال وقدم.
ولنسق بعض الأمثلة للدلالة على صراحته وشدة نقده: «فلان معدن من معادن الجهل والأفن والغباوة، وحجة الله في الرزق، واستظهر - لما رأى الناس فيه من شدة وطأة المجاعة - بما شاء من ادخار القوت والطعام ... وولي المظالم صدر اكتهاله:
ومن المظالم أن ولي
ت على المظالم يا فزاره»
ويقول: «ومضى فلان فأدرج في جننه غير فقيد، لم تبك عليه غير نفسه، إذ لم يكن لغيره نصيب في خيره؛ لأنه كان جهم المحيا، باسر اللقاء، مشنأ إلى الورى، شكس الجبلة، كز الخلقة».
ويقول في ابن باشة: «كان هدام القصو، مبور المعمور، وكان من التبحبح في اللؤم والالتحاف للشؤم، مع دناءة الأصل والفزع وتنكب السداد، وتقبل الفاسد، على ثبج عظيم، بيده بادت قصور بني أمية الرفيعة، ودرست آثارهم البديعة، وحطت أعلامهم المنيعة، قدمه ابن السقاء مدبر قرطبة لجمع آلات ما هدم من القصور المعطلة، فاغتدى عليها أعظم آفة، يبيع أشياء جليلة القدر، رفيعة القيمة، في طريق الأمانة، ولم يك مأمونا على باقة بقل، فعاث فيها عياث النار في يبيس العرفج، وباع آلاتها من رفيع المرمر، ومثمن العم ونضار الخشب، وخالص النحاس، وصافي الحديد والرصاص، بيع الإدبار. ولم يزل ينفق ما غل بمرأى ومسمع في أبواب الباطل، حملت عنه في التبذير نوادر، تشهد بأن الدار ليست بدار مثوبة ولا جزاء. وكانت رسل الأملاك تأتيه لشراء تلك الآلات بأغلى الأثمان، فيبذلها هو في أنواع الضلالات ... إلخ».
وقد قال عن نفسه: إنه أولع بالتاريخ من صغره وشغف به حبا، وأعد لهذا الأمر عدته. وربما مكن له من الصراحة أنه كما قال كان يؤلف هذا الكتاب لنفسه ويخبئه لابنه، ثم غير رأيه فنشره في الناس. ويقول ابن بسام: «إنه مرى سحابه فصاب، وأخطأ التوفيق وما أصاب، إذ جاء أكثر كلامه كما قال ابن الرومي:
مهما تقل فسهام منك مرسلة
وفوك قوسك والأعراض أغراض
وما تكلمت إلا قلت فاحشة
كأن فكيك للأعراض مقراض
ومن علم أن كلامه من عمله، أقل إلا فيما ينفعه، ومن اعتقد أنه مسئول عما يقول، وكتب عليه ما يكتب، لم يستفرغ المجهود في القول، فضلا عن أن يثلب:
فلا تكتب بكفك غير شيء
يسرك في القيامة أن تراه
مع ذلك فقد كان سهما لا ينمى رميه، وبحرا لا ينكش آذيه، لو قلب الماء لما نقع، أو تعرض لابن ذكاء ما سطع، يتناول الأحساب قد رسخت في التخوم، وأنافت على النجوم، فيضع منارها، ويطمس أنوارها، بلفظ أحسن من لقاء الحبيب عند العود. فرب شامخ بأنفه، ثان من عطفه، قد مر في كتابه ينصل جرده لوضع حسبه، وخلده أحدوثة باقية في عقبه فيرده ورود الظمآن الرنق، ويلبسه لبس العريان الخلق».
ونحن إلى مذهب ابن حيان أميل. فالمؤرخ عليه أن يتحرى الصق في المدح والذم، والنافع والضار، أما اقتصاره على المدح دون الذم، فتقصير في رواية الحقيقة، وقوله لنصف الحق، وليس الرجل المشهور في التاريخ ملكا لنفسه، بل أصبح ملكا لشعبه، يشرح المؤرخ الحصيف كما يشرح الطبيب المريض، فنحن مع ابن حيان لا ابن بسام. وكثيرا ما ضقت ذرعا بالمؤرخين لا يذكرون إلا المحامد، ويغضون الطرف عن المفاسد، بل قد يخلقون المدائح خلقا وإن لم يصح نسبتها إليهم حقا. وهذا إن جاز للشاعر المستجدي، فلا يجوز للمؤرخ الثبت المتحري للصواب. غاية الأمر أننا نخالف ابن حيان في أنه يعبر عن مذام الشخص تعبيرا صارخا ليس فيه رقة ولا ذوق ولا إيماء، والحق إن عري من ثيابه تعرى من جماله.
ولئن تفوق ابن حيان بتاريخه الشامل للسياسة، والأحداث الاجتماعية، وتراجم بعض الأفراد، فقد تخصص مؤرخ آخر لتراجم علماء الأندلس، وهو «ابن الفرضي »، وهو أبو الوليد عبد الله محمد المعروف بابن الفرضي، من مشاهير المحدثين والمؤرخين، ولد في قرطبة سنة 351ه، ودرس الفقه والحديث والأدب والتاريخ في قرطبة، وحج وانتهز فرصة الحج، ورحل إلى بلاد كثيرة: القيروان والقاهرة ومكة والمدينة، ولما عاد إلى الأندلس درس بها مدة طويلة، وولي القضاء في بلنسية، وقتل بداره سنة 402ه أيام ثورة البربر، واشتهر بعلمه في فن الحديث، وعلم الرجال والأدب، واطلع على كتب كثيرة في رحلاته، ومن مؤلفاته كتاب نشر ضمن سلسلة المكتبة الأندلسية، وهو الكتاب الذي كمله ابن بشكوال وهو المسمى «تاريخ علماء الأندلس».
ونبغ قريبا من هذا العصر في التاريخ أيضا الحافظ الحميدي، وقد ولد أبوه بقرطبة، وولد هو بالجزيرة، وقرأ العلوم الدينية من فقه وحديث، وسمع من ابن عبد البر وابن حزم، ولازم هذا الأخير وقرأ عليه مصنفاته كلها، ورحل إلى مصر ودمشق، وروى عن الخطيب البغدادي، وذهب إلى واسط، ثم رجع إلى بغداد وصار يأخذ العلم والأدب عن أهلهما، وقال بعض من رآه: «لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي، في فضله ونبله، ونزاهة نفسه، وغزارة علمه، وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله»، وقد وصل إلينا من تآليفه كتابه «جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس»،
2
لخص فيه كتاب المقتبس لابن حيان الذي ذكرناه من قبل. وكان مثال العالم الذي ينقطع عن العالم ليتفرغ للعلم، توفي في بغداد سنة 488ه.
ثم اشتهر من مؤرخي الأندلس ابن بشكوال، وكان أيضا من المحدثين والمؤرخين معا، ولد في قرطبة سنة 494ه، وقد اتسعت أولا معارفه بالحديث، ومن ثم اتسع علمه بتاريخ بلاده، وقد استفاد كثيرا من أساتذته العظام أمثال أبي بكر بن العربي. وقالوا: إنه كان آخر أقطاب المحدثين في الأندلس، وأنه ألف نحو خمسين مؤلفا. ولم يبق منه كتبه التاريخية إلا كتابه «الصلة في تاريخ أئمة الأندلس»، وهو تتمة لكتاب ابن الفرضي السابق الذكر، وهو يدل دلالة واضحة على سعة اطلاعه ووفرة علمه.
فإذا تخطينا نحو بعض العصور عثرنا من المؤرخين على ابن الأبار، وهو أيضا محدث ومؤرخ، ولد في بلنسية سنة 595ه، وظل أكثر من عشرين عاما يتتلمذ لأبي الربيع بن سالم أعظم محدثي الأندلس في عصره. وقد ألف كتابا سماه «التكملة لكتاب الصلة»، فيكون لنا مجموعة متسلسلة في أخبار العلماء، كتاب ابن الفرضي والصلة لابن بشكوال، وتكملة الصلة لابن الأبار. ولما أحس باضطراب الأمر في بلنسية هاجر منها إلى تونس واشتغل بالتدريس بها، وقد استقبله أمير تونس استقبالا حسنا أول الأمر، ولكنه انقلب عليه أخيرا وصادر كتبه، فوجد فيها هجاء للسلطان أغضبه، حتى إنه لما مات في السجن أمر فأحرق رفاته. وقد بقي من مؤلفاته كتاب «تكملة الصلة، والحلة السيراء».
هناك مؤرخون عنوا بتراجم طائفة خاصة، فبعضهم كان يعنى بتراجم المحدثين كابن عبد البر الذي ألف كتاب «الاستيعاب»، وبعضهم عني بتراجم الأدباء، ومن أشهر هؤلاء ابن بسام الذي ألف كتابه العظيم «الذخيرة»،
3
وقد وضعه على نمط كتاب «اليتيمة» للثعالبي، وقلده في سجعه واستعارته ومجازاته وإن لم يلتزم السجع دائما. وقد قسم كتابه إلى أقسام أربعة كالثعالبي في اليتيمة، فقسم لقرطبة وما يحيط بها، وقسم لإشبيلية وما يحيط بها، وقسم لبلنسية وما يحيط بها، وقسم للملمين بالأندلس والطارئين عليها ، وهو يعرض لتاريخ الملوك والوزراء والأمراء عرضا دقيقا، ويزن آثارهم وزنا صحيحا، وقد اعتمد في ناحيته التاريخية على ابن حيان إذ رأى أنه أعرف منه بالتاريخ، وأنه أصح منه نظرا، وبذلك نقل إلينا في كتابه «الذخيرة» جملة صالحة من أقوال ابن حيان المفقود أصلها.
وقد نشأ في بيت حسب ونسب في شنترين، ولكن من الأسف أن هذه البلدة وقعت في يد النصارى، واستولوا على كل أملاكه، فخرج منها صفر اليدين. وفي ذلك يقول: «وعلم الله أن هذا الكتاب لم يصدر إلا عن صدر مكلوم الأحناء، وفكر خامد الذكاء، بين جهر متلون تلون الحرباء، لانتباذي من شنترين، قاصية الغرب، مغلول الغرب، مروع السرب، بعد أن استنفد الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، بتواتر طوائف الروم علينا في عقر ذلك الإقليم، وقد كنا غنينا هنالك بكرم الانتساب عن سوء الاكتساب، واجتزأنا بمذخور العناد عن التقلب في البلاد، إلى أن نثر علينا الروم ذلك النظام، «ولو ترك القطا ليلا لنام»، وحين اشتد الهول هنالك، اقتحمت بمن معي المسالك، على مهامه تكذب فيها العين الأذن، وتستشعر المحن:
مهامه لم تصحب بها الذئب نفسه
ولا حملت فيها الغراب قوادمه
خلصت خلوص الزبرقان
4
من سراره، وفزت فوز القدح عند قماره، فوصلت حمص
5
بنفس قد تقطعت شعاعا، وذهب أكثرها التياعا، «وليتني عشت منها بالذي فضلا» فتغربت بها سنوات، أتبوا منها ظل الغمامة، وأعيا بالتحول عنها عي الحمامة، ولا أنس إلا الانفراد، ولا تبلغ إلا بفضلة الزاد. والأدب بها أقل من الوفاء، وحامله أضيع من قمر الشتاء، وقيمة كل أحد ما له، وأسوأ كل بلد جهاله. حسب المرء أن يسلم وفره وإن ثلم قدره، وأن تكثر فضته وذهبه وإن قل دينه وحسبه».
ويقول في سبب تأليفه هذا الكتاب: إنه رأى في الأندلس «قوما هم ما هم، طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقق، لعب الدجى بجفون المؤرق ... نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه، ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابا محكما، وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب، أن تعود بدوره أهلة، وتصبح بحاره ثمادا مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه. وقديما ضيعوا العلم وأهله، ويا رب محسن مات إحسانه قبله. وليت شعري: من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان».
وهو يدل على شكواه من أهل الأندلس من أنهم ينظرون إلى النتاج المشرقي نظرة إعجاب ولو كان تافها، وإلى نتاج بلادهم نظرة احتقار ولو كان نابها. وهو يدل أيضا على أن أهل الأندلس كان عندهم مركب نقص أمام المشارقة، كالذي عند الشرق اليوم أمام الغرب. وقد حكى لنا هذا أيضا ابن حزم في رسالته في فضل الأندلس، فشكا من أن كثيرا من علماء الأندلس وأدبائه، قلت قيمتهم في نظر الأندلسيين؛ لأنهم من وطنهم، ولو كانوا من المشرق، لأعلوا شأنهم وزيد في قدرهم. وقديما قالوا: «زامر الحي لا يطرب»، و«أزهد الناس في عالم أهله».
وكان قريع ابن بسام في بابه الفتح بن خاقان، ولد بقرية قريبة من غرناطة، وكان فقيرا وليس الفقر عيبا، ولكنه كان أيضا وضيعا، مدمنا للخمر، مسرفا في تعاطيها، يتردد في البلاد لينشد أمثاله من متعاطي الخمور، ويطلب الصلة، وأسوأ ما فيه أنه كان يمدح أو يذم، تبعا لهذا العطاء أو الضن، فمن أعطاه مدحه ومن حرمه قدحه، وأحيانا يمدح الشخص ويذمه، تبعا لصلته الشخصية.
فابن بسام في الذخيرة يفوقه بمراحل، من ناحية تحريه للتاريخ الصحيح، وبذله المدح والذم تبعا لصفات الممدوح أو المذموم لا لعلاقته الشخصية، ومن شر ما وقع فيه الفتح بن خاقان تصرفه مع ابن باجة، فقد مدحه مدحا صعد به السماء، ثم ذمه ذما نزل به إلى الحضيض لحسن العلاقة بينهما أولا وسوئها أخيرا، فإذا نظرنا إلى أسلوب الذخيرة وأسلوب الفتح، وجدنا أن أسلوب الذخيرة أقرب إلى نفوسنا، فهو لا يلتزم السجع كما يفعل الفتح بن خاقان، وأسلوب الفتح هذا أجوف، يلعب بالألفاظ والاستعارات لعب البهلوان.
وقد ألف الفتح كتابين مشهورين «مطمح النفس ومسرح التأنس»، والثاني: «قلائد العقيان ومحاسن الأعيان»، فأما المطمح فذكر أعيان الأندلس، ومن اشتهر بكرم والظرف. أما القلائد فقد تعرض لمحاسن الرؤساء وأبنائهم، مع ذكر نماذج من مستعذب أقوالهم، وفيه تراجم تشترك مع تراجم المطمح. ومن أمثلة كتابته قوله في ذم ابن باجة وقد ذكرناه عند الكلام عليه في الفلسفة، ونذكر هنا مدحه فيه، للدلالة على أسلوبه، وعلى أنه يبني تراجمه من مدح أو ذم على اعتبارات شخصية، من غير تحر لصدق، أو التزام لحق، كأنه يرى أن المسألة مسألة ألفاظ جوفاء، واستعارات خيالية، وتزويقات لفظية.
قال في ابن باجة: «نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوجت بعصره الأعصار، وتأرجت من طيب ذكره الأمصار، وقام وزن المعارف واعتدل، ومال للأفهام فننا وتهدل، وعطل بالبرهان التقليد، وحقق بعد عدمه الاختراع والتوليد. إذا قدح زند فهمه، أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره، فهو لكل شيء مغرق؛ مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفاسد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد الذي يخلق العمود وهو مستجد، وله أدب يود عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى المشتري أن يعرفه، ونظم تعشقه اللبات والنحور، وتدعيه مع نطاسة جوهرها البحور»، وقد مات الفتح ميتة شنيعة إذ وجد مخنوقا في فندق في درب من دروب مراكش سنة 529ه.
ومثل ما فعله ابن سعيد؛ فقد ألف كتابا ضخما في ترجمة كل نبهاء الأندلس من أمراء ووزراء وقضاة وشعراء، وسماه «المغرب في حلا أهل المغرب»،
6
ومن اللطيف أن أسرة ابن سعيد هذا تداولت تأليفه في مدة تبلغ نحو 115 سنة، كلما أتى رجل من الأسرة كمل عمل أسلافه. وقد ذكر أن السبب في تأليفه أن أبا عبد الله الحجاري وفد على عبد الملك بن سعيد صاحب قلعة بني سعيد بالقرب من غرناطة سنة 530ه، فأعجبته منه معرفته أدباء الأندلس، وما لهم من طرائف الشعر والنثر، وصنف له الحجاري كتاب «المسهب في غرائب المغرب»، فلما اطلع عليه عبد الملك بن سعيد أعجبه الكتاب، وأضاف إليه ما طالعه من الكتب والتقطه من الأفواه، وبعد أن فرغ منه وضع كتابا على منهجه سماه «المشرق في حلا أهل المشرق»، واضطر ذلك المؤلفين إلى أن يرحلوا إلى المشرق؛ ليجمعوا مادة هذا الكتاب. وطريقتهم في التأليف كما ذكر أحدهم قال: «كل من التصنيفين مرتبة على البلاد، متى ذكر بلد، ذكرت كوره، وأتكلم عليه وعلى كل كورة منه، وأبتدئ بكرسي مملكتها ، وقاعدة ولايتها، بحسب مبلغ علمي، من إعلام بمكانها بالأقاليم ومن بناها، وما يحف بها من نهر أو منزه أو خاصة معدنية أو نباتية، ومن تداول عليها من أبناء الملوك أولي التواريخ التي لا يجب إغفالها، ثم نأخذ في الطبقات واحدة بعد واحدة، وهي خمس: طبقة الأمراء، وطبقة الرؤساء، وطبقة العلماء، وطبقة الشعراء، وطبقة اللفيف، والطبقات الأولى مخصوصة بمن له نظم من أولي الخطط المذكورة ... وطبقة اللفيف مخصوصة بمن ليس له نظم من أي صنف كان، ممن لا يجب إغفاله، وفيها من النوادر والمضحكات ما يكون كالإحماض».
وقد سمى كل جزء يتصل ببلد اسما خاصا مقلدا في ذلك ابن عبد ربه فيما صنع في العقد، فمثلا كتاب «الحلة المذهبة في حلى مملكة قرطبة»، وكتاب «الفردوس في حلى مملكة بطليوس»، وكتاب «الخلب في حلى مملكة شلب»، وكتاب «النفحة المندلية في حلى المملكة الطليطلية» ... إلخ.
وأخيرا ألف لسان الدين بن الخطيب كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة» ترجم فيه لكل علماء غرناطة وفضلائها ترجمة أدبية يسودها السجع.
ونلاحظ أن التاريخ سواء كان تاريخا سياسيا أو تراجم رجال متأثر من ناحية المؤلفين بعلم الحديث ومنهجه أكثر من المشرق. والسبب في ذلك: (1)
أن منهج التعليم في الأندلس كان منهجا دقيقا شديدا، يسوده فقه الإمام مالك وما ينبغي عليه من حديث وتفسير، فكان الاشتغال بالفقه والحديث يسلمهم غالبا من ترجمة رجال الحديث إلى ترجمة رجال العلم والأدب؛ ولذلك نرى أكثر المؤرخين فقهاء أشبه ما يكونون بالطبري في المشرق. فقد كان فقيها مؤرخا، ولكن قل أن نجد بالأندلس مثل: المسعودي واليعقوبي وأبي الفدا من مؤرخي المشرق غير الفقهاء. (2)
ربما نلاحظ أن التاريخ الأندلسي اتصل بالأدب أكثر مما اتصل المؤرخ الشرقي به، وسبب ذلك أن أكثر المؤرخين الأندلسيين كانوا أدباء شاعرين أو ناثرين، وسبب آخر وهو أن عواطف الأندلسيين نحو بلادهم كانت أقوى، فكلما سقطت بلدة في يد النصارى رثاها الأدباء وحلل وقائعها المؤرخون. فمثلا لما سقطت طليطلة وكانت أول ما سقط، تكلموا عن سقوطها كثيرا، وحللوا أسباب سقوطها تحليلا كبيرا. وكذلك لما سقطت بلنسية استغاثوا بصاحب إفريقيا أبي زكريا بن أبي حفص، وقال قائلهم القصيدة المشهورة:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا
إن السبيل إلى منجاتها درسا
يا لجزيرة أضحى أهلها جزرا
للحادثات وأمسى حدها نفسا
تقاسم الروم لا نالت مقاسهم
إلا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها وقرطبة
ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلها الإشراك مبتسما
جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا
وهي قصيدة قوية طويلة تفيض بكاء. وأخيرا سقطت الأندلس كلها، فقيل في رثائها الكثير، ومن أحسنه:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمنه ساءته أزمان
تبكي الحنيفية السمحاء من أسف
كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية
قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما
فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
حتى المنابر ترثي وهي عيدان
يا غافلا وله في الدهر موعظة
إن كنت في سنة فالدهر يقظان
يا من لذلة قوم بعد عزهم
أحال حالهم كفر وطغيان
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم
واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم
عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعتهم
لهالك الأمر واستهوتك أحزان
ويختمها بهذا البيت:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
لقد رأينا مدنا في الشرق تتساقط تساقط أوراق الشجر، تستوجب الرثاء والبكاء، كما سقطت بغداد في يد التتار، وأزالوا كل ما فيها من مظاهر مدنية وحضارة، وفعل التتار فيها ما لا يقل عما فعله الإسبانيون في الأندلس، وغزا هولاكو وتيمورلنك ونحوهما بلاد الشام، وأسقطوها بلدا بلدا، فما رأينا عاطفة قوية، ولا رثاء صارخا ولا أدبا رقيقا ولا تاريخا مسجلا، كالذي رأيناه في الأندلس، فإن قلنا: إن هذه الناحية في التاريخ الأندلسي أقوى وأشد، لم نبعد عن الصواب. (3)
رأينا في الأندلس أيضا صنفا من التاريخ لم نجده كثيرا في الشرق. قد رأينا في ترجمة ابن عبد ربه أنه وضع ملحمة في أعمال عبد الرحمن الناصر وغزواته مؤرخة بالسنين، ورأينا ملحمة أخرى لأبي طالب عبد الغفار مما لم نجد له نظيرا في الشرق، نعم: رأينا أرجوزة مطولة لابن المعتز في تسجيل الأحداث في زمانه، ولكن قصيدة ابن المعتز في باب الاجتماع أدخل، وملحمة ابن عبد ربه وأبي طالب في باب التأريخ أدخل. والله أعلم.
الجغرافيا
جمع بعض العلماء في كتبه بين معلومات تاريخية ومعلومات في صميم الجغرافيا، ومن أشهر هؤلاء ابن حيان السابق الذكر، فإنه يرد في ثنايا كلامه التاريخي وصف جغرافي كقوله في بعض كتبه:
ابتدأ الناصر ببناء الزهراء اول يوم سنة 325ه، وجعل طولها من شرق إلى غرب 2700 ذراعا، وتكسيرها 990000، وكان يثيب على كل رخامة كبيرة أو صغيرة عشرة دنانير، سوى ما كان يلزم على قطعها ونقلها ومئونة حملها، وجلب إليها الرخام الأبيض من المرية، والمجزع من رية، والوردي والأخضر من إفريقيا، والحوض المنقوش المذهب من الشام، وقيل: من القسطنطينية، وفيه نقوش وتماثيل وصور على صور الإنسان، وليس له قيمة - أي: لا يقوم - ... فأمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، ونصب عليه اثني عشر تمثالا، وبنى في قصرها المجلس المسمى بقصر الخلافة، وكان سمكه من الذهب والرخام الغليظ الصافي لونه، المتلونة أجناسه، كانت حيطان هذا المجلس مثل ذلك، وجعلت في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها إليون ملك القسطنطينية، وكانت قرامد هذا القصر من الذهب والفضة، وهذا المجلس في وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر، قامت على سوار من الرخام الملون، والبلور الصافي، وكانت الشمس تدخل الأبواب، فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحدا من مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته، فيحرك ذلك الزئبق، فيظهر في المجلس كلمعان البرق في النور، ويأخذ بمجامع القلوب، وبها من المرمر والعمد كثير ، وأحدق بها البساتين، وفيها يقول الشاعر:
وقفت بالزهراء مستعبرا
معتبرا أندب أشتاتا
فقلت: يا زهرا ألا فارجعي
فقالت: وهل يرجع من ماتا
فلم أزل أبكي وأبكي بها
هيهات يغني الدمع هيهاتا
كأنما آثار من قد مضى
نوادب يندبن أمواتا»
واخترعوا طريقة لطيفة لإظهار محاسن كل مدينة، وهي طريقة إقامة مناظرة بين المدن الأندلسية المختلفة تفخر بنفسها، وتظهر مزاياها التي لا توجد في مدن أخرى، وترد الثانية عليها، كما روي أن مالقة قامت فقالت: «لي البحر العجاج؛ والسبل الفجاج، والجنات الأثيرة، والفواكه الكثيرة، ولدي من البهجة ما يستغني به الحمام عن الهديل، ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه وتبديل ... فقامت مرسية وقالت: أمامي تتعاطون الفخر، وبحضرة الدر تنفقون الصخر، إن عدت المفاخر فلي منها الأول والآخر، أين أوشالكم من بحري، وخرزكم من لؤلؤ نحري، وجعجعتكم من نفثات سحري، فلي الروض النضير، والمرأى الذي ما له نظير، فأبنائي فيه في الجنة الدنيوية مودعون، يتنعمون فيها يأخذون ويدعون، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون ... فقامت بلنسية وقالت: فيم الجدال والقراع؟ وعلام الاستهام والاقتراع؟ وإلام التعريض والتصريح، وتحت الرغوة اللبن الصريح؟ ... فلي المحاسن الشامخة الأعلام، والجنات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام، وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام ... فأنا حيث لا تدركون ... إلخ.
وهكذا قامت كل مدينة تفتخر بما عندها، وتعتب على غيرها في شكل أدبي لطيف.
وكان من أشهر جغرافيي الأندلس وأقدمهم البكري، وهو عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن أيوب. ومن حسن الحظ أن آثاره في الجغرافيا لا تزال بين أيدينا إلى اليوم، ك «معجم ما استعجم». وقد ازدهر اسمه في النصف الثاني من القرن الخامس، وسمي البكري نسبة إلى قبيلة بكر إذ كان من نسلهم. ولقد ذهب إلى قرطبة وتعلم فيها، وكانت قرطبة إذ ذاك في حكم بني جهور، وفي قرطبة أتم البكري تعلمه على مشاهير العلماء في ذلك العصر، ثم دخل البكري في خدمة أمير المرية، وهناك يحدثنا التاريخ أنه سمع بعض المحاضرات من المؤرخ الجغرافي المشهور ابن حيان. وقد أوفد أمير المرية البكري إلى أمير الموحدين للاستعانة به، فنجح في سفارته. وقد ألف كتبا كثيرة بعضها أدبي وبعضها جغرافي أدبي كتعليقاته على أمالي القالي، وشرحه لأمثال أبي عبيد. أما في الجغرافيا فمن أشهر كتبه كتاب «معجم ما استعجم»،
7
وهو يذكر اسم البلدة ويروي أشهر ما لها وما ورد من الشعر فيها في دقة وعناية، ويضبطها ضبطا صحيحا، وكان من بين ما تعرض له «الأندلس»، وله أيضا كتاب «المسالك والممالك»، وقد وصل إلينا منه بعض قطع، جمعه من أقوال من تقدمه من المؤرخين، من كتب لم تصل إلينا، ضم فيه نتفا من التاريخ، إلى نتف من الجغرافيا، وتعرض - عدا الأندلس - إلى جغرافيا إفريقيا ومصر والعراق وما وراء النهر.
وعلى الجملة فكان علما عظيما من أعلام الجغرافيين الأندلسيين.
واشتهر كذلك في الجغرافيا الشريف الإدريسي، وربما كان أكبر جغرافيي المسلمين ويعرف عنه الأوربيون كثيرا، وهو أبو عبد الله محمد بن محمد، ويسمى بالشريف لنسبته إلى الحسن، وأحيانا يلقب بالقرطبي. والسبب في معرفة الأوربيين له أنه اتصل ببلاط روجر الألماني ملك صقلية، وقربه إليه وحط رحاله عنده، بعد رحلات طويلة في ممالك مختلفة. وكان روجر هذا يشجعه على التأليف في الجغرافيا ورسم الخطط له؛ ولذلك قد يسمى الشريف الإدريس الصقلي. وألف في الجغرافيا كتابه المشهور «نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمدائن والآفاق»، وشحنه بالخرائط اللازمة التي تزيد عن الأربعين خريطة، وكان أعظم كتاب في الجغرافيا في زمنه؛ ولذلك ترجم إلى اللغة اللاتينية وطبع.
وفي الحقيقة أن من قرأ الكتاب استدل منه على معرفة واسعة بالبلاد وخبرة تامة بمواقعها وميزاتها، ونباتها وحيوانها، وغير ذلك مما يعجب منه القارئ، ويتصل بالجغرافيا أكبر اتصال الرحلات، وقد كان في المشرق رحالون كثيرون أفضلهم المقدسي، وكان في الأندلس أيضا رحالون كثيرون، وربما كان الأندلسيون أقدر على الرحلة لما يغلب عليهم من الدروشة والتصوف، فكانوا يجدون سهولة كبيرة في التنقل والإقامة في البلاد التي ينزلونها، ويستقبلون استقبالا حسنا في الرباطات والخانقاهات، ومن أشهر رحالي الأندلس ابن جبير وابن بطوطه، فابن جبير أبو الحسين محمد، ولد ببلنسية سنة 540ه، ودرس الفقه والحديث في شاطبة، ثم حج فذهب من غرناطة إلى سبتة عن طريق جزيرة طريف، ومن سبتة ركب البحر إلى الإسكندرية، ثم مر بالقاهرة، فقوص فعيذاب فجدة، وفي رجوعه رحل إلى العراق فزار بغداد والكوفة والموصل، ورحل إلى الشام فزار حلب ودمشق، وركب البحر من عكا إلى صقلية، ومن صقلية عاد إلى غرناطة، ورحل بعد ذلك رحلتين إلى المشرق: أولاهما من سنة 585ه إلى 587ه، والثانية سنة 614ه. ويظهر أنه كان ينوي الرحلة بعيدا ولكنه لما وصل إلى الإسكندرية مات. وقد ملئت رحلته بالفوائد فهو يذكر العلماء الذين رآهم ويصفهم، والوعاظ وطريقة وعظهم، والمكاسين وطريقة أخذهم للضرائب، هذا عدا وصف المدن أو البلاد التي كان يمر بها.
وعلى الجملة فكتابه أوفى رحلة وصورة اجتماعية وجغرافية للبلاد التي مر بها، حتى إن الإفرنج اهتموا كثيرا بالقسم من رحلته الذي دون فيه حالة صقلية في عهد وليم الصالح، وترجموا نصه وعلقوا عليه.
وكان مثقفا دقيق الملاحظة، بليغا في الوصف، فمثلا يقول وقد أتى شهر رمضان عليه وهو في مكة: «وكان صيام أهل مكة يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أمضى الأمير ذلك، ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبه لموافقته مذهبه، ومذهب شيعته العلويين ومن إليهم؛ لأنهم يرون صيام يوم الشك فرضا. ووقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر من تجديد الحصر، وتكثير الشمع والمشاعل وغير ذلك من الآلات، حتى تلألأ الحرم نورا، وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقا» إلخ من وصف مفصل دقيق.
ويقول لما وصل بغداد: «هذه المدينة العتيقة، وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، قد ذهب أكثر رسمها ولم يبق منها إلا شهير اسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز العقلة والنظر ... وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع التواضع رياء، ويذهب بنفسه عجبا وكبرياء. يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء ... إلخ».
ويلي ابن جبير في الزمن ابن بطوطة، وقد ضبطه ابن خلدون في نسخته بضم الباء، وكثيرا ما يلقب بالطنجي؛ لأنه ولد بطنجة سنة 703ه، ولكن أهله كانوا بالأندلس، ومنهم من تولى القضاء ببعض مدنها، وكان أكثر دروشة في سفره من ابن جبير. بدأ رحلته بالحج إلى مكة عن طريق شمالي إفريقيا فمصر فالبحر الأحمر، ولما لم يجد الطريق أمامه مفتوحا، عاد ووصل إلى مكة عن طريق الشام وفلسطين، ومن مكة وصل إلى العراق، ثم زار بلاد فارس والموصل وديار بكر، ثم زار مكة للمرة الثانية، وقضى فيها عامين، ورحل رحلة ثالثة إلى جنوب بلاد العرب، فإفريقيا الشرقية، ورحل منها إلى الخليج الفارسي، ثم عاد إلى آسيا الصغرى وبلاد القرم عن طريق مصر والشام، وزار القسطنطينية في حاشية الأميرة اليونانية زوجة السلطان محمد أوزبك، واخترق خوارزم وبخارى وأفغانستان، ثم رحل إلى الهند وولي القضاء في دلهي، وسار في بعثة سياسية إلى الصين فوصل إلى جزائر مولديف، ومنها سافر إلى الصين عن طريق سيلان والبنغال والهند الأقصى.
ثم رحل إلى بلاد العرب عن طريق جزيرة سوماطرة، فترى من هذه حبه الكثير للتجوال، وكان في كل بلدة ينزلها يختلط بأهلها وبأميرها، وكثيرا ما يتزوج منها مما يسهل له وصف مناظرها، وشرح عوائدها، وكان يهتم اهتماما كبيرا برجال الدين؛ ولذلك يعد كتابه وصفا شاملا للحياة الاجتماعية في عصره، كما يدل وصفه على كيفية تصوره للمسائل.
وقد أفادتنا رحلته ورحلة ابن جبير فوائد أكثر مما أفادتنا كتب التاريخ المؤلفة في عصرهما؛ لأن تاريخهما تاريخ حي، يعنى بالحياة الحية أكثر مما يعنى بالحروب والفتوح والجنود وعددها وغلبتها ... إلخ.
ومما يتصل بالرحلات ما ذكره الشريف الإدريسى عن الإخوة المغررين من أنهم: «خرجوا من أشبونة أولا إلى ناحية الغرب، وساروا «في البحر» اثني عشر يوما، فلم يجدوا شيئا، فانعطفوا إلى ناحية الجنوب، فساروا اثني عشر يوما أخرى، فوصلوا إلى جزيرة لم يجدوا فيها إلا غنما لحومها مرة لا تؤكل، فانعطفوا أيضا إلى الجنوب، وساروا اثني عشر يوما إلى أن وصلوا إلى جزيرة وجدوا فيها بشرا، وأخذوا إلى أمير الجزيرة وجرى معهم ما جرى».
والذي يظهر من هذا أنهم وصلوا أولا إلى جزيرة بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وقد سار في نفس الطريق كولمبس، ولا شك أنه وقف على رحلة هؤلاء الإخوة واستفاد مما ورد عنهم. ويظهر أن قول الإدريسي: أنهم ساروا مسافة اثني عشر يوما حتى وصلوا ما وصلوا إليه ليس بدقيق؛ فإن المسافة تقطع في المراكب الشراعية في أطول من هذا، ومما يروى أن كولمبس قد اطلع على كتب كثيرة قبل رحلته، منها ما أخذه عن العرب كما ورد في دائرة المعارف الفرنسية، فهم بهذا كانوا أسبق في اكتشاف أمريكا، لولا سوء الظروف التي منعت من نجاحهم.
هوامش
الفصل السابع
الحركة الفنية
عرفت إسبانيا بأنها مركز لآثار كثيرة، وحضارات قديمة متوالية؛ ولذلك كانت مدرسة يدرس فيها الفنانون الفنون المختلفة للحضارات المختلفة.
وقد مكن لها من ذلك ما قلنا من توالي الحضارات عليها، وقربها من إيطاليا وفرنسا المعروفتين بالذوق الفني. فالعرب لما كانوا بالأندلس استفادوا من فنية هاتين المملكتين، وهضموا ما استفادوا وأخرجوه على نحو جديد، استطاعوا به أن يعيدوا الجميل لمن اقتبسوا منهم. لقد توالى على الأندلس الرومان والقوط والعرب والإسبان، فأما الرومان فكانوا ذوي مهارة فنية عظيمة، وأعظم ما خلفوه كان في بلدة ماردة، إذ كانت عاصمة لوزيتانيا، فخلفوا فيها كوبري «جسرا» كانت له واحد وثمانون حنية أو باكية، وخلفوا فيها قناتين مغلقتين، وملهى للتمثيل، وملعبا عاما، وهيكلا للمريخ تحول فيما بعد كنيسة، وقوس نصر، وخلفوا في طركونة عدة هياكل وملهى للتمثيل وملعبا وحمامات، وجميعها من أفخم المباني الرومانية. وفي بلدة شقوبية خلفوا قناة مغلقة طولها 810 مترا، منها 266 مركبة على دورين من الحنايا الواحد فوق الآخر، وعدد قناطرها 119 قنطرة.
وأما القوط فخلفوا أكثر ما خلفوا كنائس، منها كنيسة سانميسكال في أوبيط، وكنيسة شانتمرية. وقبيل دخول العرب الأندلس مالوا في فنهم إلى المتانة والرصانة دون الزخرف، وبنوا في مدينة برغش كنيسة كبرى تحتوي على أنماط البناء في الأعصر الثلاثة الأخيرة، ويقال: إنها أبدع كنيسة في إسبانيا بناها يوحنا الكولوني، وكانوا يميلون إلى نوعين أخيرا قللا من بهجة الفن: الأول جعل موضع خاص في وسط الكنيسة للأحبار والقسيسين مما أخل بجمال الهندسة، والثاني ميلهم إلى تقليل النور في الكنائس، فكانت أبنيتهم تستدعي الظلمة لا النور، على العكس من البناء العربي، فهو يحب النور ويكره الظلمة.
وأما أبنية العرب فكثيرة، وربما كان أعظمها مسجد قرطبة، من حيث جماله وسعته، فهو لا يفوقه في السعة إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وربما ساوى مسجد ابن طولون في القاهرة، وقد توسع فيه على ممر الزمان، فكان كلما كثر العمران وزاد السكان توسعوا فيه. حتى لقد قالوا: إن قسمي المسجد، القسم المسقوف والصحن السماوي يسعان نحو ثمانين ألف مصل. وقد زين هذا المسجد بالنقش والفسيفساء، مما يدل على أن الأندلسيين أخذوا هذا الفن من البيزنطيين وحسنوه وأتقنوه، وقد تفننوا في الخرط والنحت والنقش والزينة مما جعل لهم أسلوبا خاصا بهم يفهمه الفنان. وقد بدئ في بناء المسجد سنة 786ه وأخذت بعض عمده من الأبنية الرومانية القديمة، ولما كان الرواق عظيم الحجم، كان من المناسب أن يكون سقفه عاليا، يفوق ارتفاعه ارتفاع العمد، ففكروا في أن يبنوا أقواسا على العمد تمكن من ارتفاع السقف، وقد تفننوا في بناء مساجد كثيرة من الآجر على نمط جميل، ومن أجمل أبنية العرب في الأندلس قصر الحمراء، شيده بنو الأحمر في غرناطة، وفيه أبنية غاية في الجمال، كوحش السباع، وحوش الريحان، وقاعة السفراء، وقاعة بني سراج، وقاعة الحكم. وأجمل ما في هذه القاعات الأعمدة الرخامية والنقوش البديعة بالجص، والكتابات العربية التي تتكرر فيها: «لا غالب إلا الله، وعز لمولانا أبي عبد الله»، ولا تزال هذه الحمراء إلى اليوم زينة إسبانيا، ومقصد السائحين والفنانين.
ولما تغلب الإسبانيون على المسلمين وجدت طائفة من المسلمين يسمون المدجنين، وهي كلمة تطلق على الذين دخلوا تحت حكم الإسبان بعد سقوطها في أيديهم، وفضلوا البقاء في بلادهم، كانوا في أول أمرهم يتسامح معهم في الإتيان بشعائر دينهم، والظهور بمظهر الإسلام، ولكن ضغط القسس على الولاة فحرموا عليهم إقامة شعائر دينهم، وأكثروا عليهم من الأغلال والضرائب والرقابة. هؤلاء المدجنون كانوا يجمعون بين ما اقتبسوه من الفن الإيطالي والصنعة القوطية والطراز العربي. وكان البناءون من المدجنين ومن الإيطاليين ومن الهولنديين، يطوفون في البلاد ويشتركون في بناء الكنائس والأديار، وخلفوا من ذلك كثيرا، ووجدت في الأندلس تماثيل كثيرة، ولكن الغالب أنها من صناعة الإيطاليين، وبعضها قديم يرجع إلى زمن الرومان.
ولم يكن العرب مقلدين فقط، بل استفادوا من العمارات التي شاهدوها في الشرق، وزاد ذوقهم إرهافا لما نزلوا بالأندلس حيث الطبيعة جميلة، وحيث البلاد مفتوحة بآثارها أمامهم، فخلطوا هذا بذاك، وأنتجوا نتاجا جديدا كان عليه طابعهم، خصوصا وأن العرب في الأندلس قويو الملاحظة، حسنو الذوق، سرعان ما يهضمون ويخرجون ما هضموه كأنه شيء جديد.
ولهم في الفنون المختلفة مجال، فأولا: العمارة، وأكبر ما يمتازون به العقود في البناء، فنرى أنهم شغفوا بهذا النحو من العمارة، وبنوا على أساسه مساجدهم وقصورهم. نعم إن هذه العقود كانت معروفة في إسبانيا من قبل، ولكنهم أدخلوا عليها تحسينات كثيرة، حتى كأنها من وضعهم، وتوسعوا في تقويس الجوانب، وسدوا نصف فتحة العقد في بعض الأحيان، وابتكروا طريقة عمل الأقبية التي تقوم على عقود متقاطعة وأدوار متعارضة، وانتشرت هذه الطريقة في المدن الأندلسية على اختلافها، وزادوا على ذلك مهارة في أشغال الخشب والرسم عليه رسوما هندسية، والخزف والمنسوجات، فبرعوا في تزيين السقوف بالأشكال الهندسية، والألوان البديعة، مما لم يكن له نظير، كما برعوا في صنع القاشاني، وتزيين المقاعد العامة به، وكان للفخار الأندلسي بريق متألق كالذهب، وقد أخذوه من القسطنطينية أولا، ثم أدخلوا عليها تحسينات كثيرة، وزاد في جماله ما كتبوا عليه من الكلمات العربية بالحروف الكوفية. وكان لكل أمير شارة خاصة، وهي المسماة «رنكا» زينوا بها أمتعتهم وكتبهم وغير ذلك، وكان لهم صبر طويل على إخراج الأدوات الجميلة، فلا مانع عند الصانع أن يصرف السنين في إخراج تحفة فنية كصندوق خشبي مكفت، أو دواة جميلة مكفتة، ودلهم ذوقهم على استخدام الكتابة العربية في التجميل والزخرفة أو بيت من الشعر أو دعاء بالعافية، أو ذكر أوصاف لمن تعمل له التحفة، وقد ينتهي ذلك بكتابة الصانع اسمه، وأكثروا من استعمال ذلك حتى على المقابر، كما مهروا في صناعة الزجاج الملون والنقش والكتابة عليه.
ولما كان الدين الإسلامي يمنع من إقامة التماثيل وتصوير الأبطال، عمدوا إلى تجميل الخط، وتصوير أوراق الأشجار، أو تحلية الشيء المصنوع بالأشكال الهندسية، حتى صناعة النسيج مهروا فيها، وسرت منهم إلى أوربا فيما بعد. وقد كان عندهم نوع من القماش يقال له: العتابي، نسبة إلى عتاب، واشتهر هذا النوع في فرنسا وسمي في لسانهم «تابي»، وعرف بهذا الاسم في أوربا كلها. وهناك نوع من الأقمشة القطنية يعرف باسم «ديميتي» ويقولون في اشتقاقه: إنه من اليونانية من دي بمعنى اثنين وميتوس بمعنى خيط؛ لأن هذا القماش كان ينسج من أول أمره في خيطين، ولكن تظن السيدة دي فونشير أنه نسبة إلى دمياط، إذ كان هذا النوع مشهورا عندهم.
وقد قلد الصناع من الفرنج العرب في فنهم تقليدا دقيقا، ومن ألطف ما يروى في ذلك أن بعض الصناع الأوربيين كانوا يقلدون الخط العربي على أنه رسم من الرسوم من غير أن يعرفوا قراءته، فحدث أن ملك مرسية واسمه «أوفا» صك نقودا محفوظا بعضها في المتحف البريطاني، وقد كتب على قطعة النقود اسم الملك باللغة اللاتينية وحوله كتابة عربية فيها: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» على أنها مجرد نقش، من غير أن يتنبه الصانع إلى أن ذلك يخالف التعاليم المسيحية، وعثر على صليب إيرلندي مطلي بالبرونز اللامع، كتب في وسطه على الزجاج بالخط الكوفي عبارة «بسم الله»، ففي هذين المثلين دليل على أن الفن العربي كان يغزو الفن الأوربي، ويحمل الفنانين على تقاليد العرب حتى في كتابتهم على أنها من التصوير.
وبلغ الفن الإسلامي في الأندلس درجة عالية، رغم أن الإسلام يحرم الصور والتماثيل؛ لأنها تعيد إلى الذهن عهد الوثنية الأولى، والإسلام يريد أن يجتثها من أساسها؛ ولذلك كان كثير من المتدينين قد يصورون الحيوان والنبات لبعد احتمال عبادتهما، ولكن لا يصورون الإنسان لاحتمال عبادته؛ ولذلك وجهوا همهم إلى الزخارف والنقوش والصور الهندسية من ذلك أنهم زينوا مثلا قصور الزهراء بأسد عظيم الصورة، بالغ الروعة، قد طلي بالذهب، ووضع مكان العينين جوهرتان لهما ضوء خاطف، قد أقيم على بحيرة، يجوز الماء منه إلى مؤخره من قناة تحمل إليه الماء العذب على حنايا معقودة، فيدفع الماء إلى البحيرة.
1
ومن ذلك أيضا ما روي من أن الناصر صنع حوضا لاستحمامه أقيم عليه تماثيل من الذهب الأحمر، مرصعة بالدر النفيس مما صنع بدار الصناعة بقرطبة - تمثال أسد إلى جانبه غزال، ثم تمساح، يقابله ثعبان وعقاب وفيل. وفي الجانبين حمامة، وشاهين وطاوس، ودجاجة، وديك، وحدأة، ونسر، وكلها مرصعة بالجوهر النفيس، يخرج الماء من أفواهها.
2
فترى من ذلك أنهم تفننوا في اتخاذ التماثيل من الحيوان دون الإنسان، ومع هذا نجد في الرواية أحيانا ما يخالف هذا، فقد ذكروا أن الناصر هذا أمر أن تنقش صورة جاريته الزهراء على باب القصر المسمى باسمها، وملئت أبهاء الزهراء بتماثيل وصور بشرية، مما يعد ظاهرة جديدة في الفن الإسلامي. وإلى الآن توجد في إسبانيا بمتحف قرطبة آثار فنية رائعة تشهد بحسن ذوقهم، ومهارة فنهم، ومن ألطف الأمور أن نرى فن الشعر يخدم فنون النحت والتصوير والتمثيل، كما خدم فن الموسيقى فن الشعر، وكلها من واد واحد. فيروي المقري أنه كان في حمام بإشبيلية تمثال بديع الصنع قال فيه الشاعر:
ودمية مرمر تزهو بجيد
تناهى في التورد والبياض
لها ولد ولم تعرف خليلا
ولا ألمت بأوجاع المخاض
ونعلم أنها حجر ولكن
تتيمنا بألحاظ مراض
فهذا غزل في تمثال، وهو يدلنا على أن التمثال كان من رخام أبيض مشوب بحمرة، كما يدل عليه قوله: «تناهى في التورد والبياض».
ويدل أيضا على أن التمثال تمثال امرأة بجانبها ولدها، إذ يقول: «لها ولد ولم تعرف خليلا». وربما دلنا على خروج الأندلس على العادة المألوفة عن المسلمين في عدم تصوير التماثيل الإنسانية. فضغط البيئة كان أقوى عليهم من تعاليم الدين، وربما تأولوا ذلك بأن الخوف على المسلمين من عبادة الأصنام والأبطال قد أمن جانبه، فلم يبق محل لتحريمه، وإلى ذلك ذهب بعض الفقهاء. وكان أزهى العصور الفنية عصر عبد الرحمن الناصر، وعصر بني الأحمر في غرناطة، فلما جاء المرابطون والموحدون هبطت درجة الفن لما يغلب عليهم من البداوة، وعدم إرهاف ذوقهم الفني؛ ولذلك يكفيهم فخرا أنهم أبقوا على ما بقي، ولو لم ينشئوا جديدا:
لا تعجبن من هالك كيف ثوى
بل فاعجبن من سالم كيف نجا
ولما تغلب الإسبان على الأندلس طمسوا كثيرا من الكتابات العربية التي على المساجد والقصور، وكان العرب مولعين بذلك، حتى لقد كتبوا على أثر فني سورة الفتح بأكملها، وأراد الإسبانيون بذلك أن يمحوا آثار العرب، ولكنهم أخيرا لما أحسوا برغبة السائحين والفنانين في رؤية هذه النقوش العربية أخذوا يزيلون الجص عن الكتابة، وكلما عثروا على كتابة عربية عدوا اكتشافها كنزا.
ولا ننسى بعد ذلك تأثر إسبانيا بالموسيقى العربية، فكان عدد من حكام قشتالة يستخدمون مهندسين من المدجنين، ويستمتعون إلى موسيقيين منهم، وحتى الآن لا يزال الشرقيون يرون الموسيقى الإسبانية أقرب إلى آذانهم، وتتفتح لها قلوبهم أكثر من الموسيقى الفرنسية أو الإنجليزية او الألمانية. والسبب في ذلك واضح، وهو أن الموسيقى الإسبانية مطعمة بالموسيقى الشرقية بواسطة مسلمي الأندلس.
وأخيرا ضغط القسس على فرديناند وإيزابلا، فطردا كثيرا من المسلمين إلى خارج بلاد الأندلس، فخسروا بذلك خسارة كبيرة في التجارة والصناعة والفنون، وضحوا بمصالح إسبانيا من أجل إرضاء طائفة من القسس، حتى قال بعضهم: «إن إسبانيا ضحت بحريتها وعظمتها كشعب في سبيل الكاثوليكية».
وقال آخر: «لما مات الإسلام في الأندلس كان موته تسميما لإسبانيا».
ولم يلبث فرديناند وإيزابلا أن اخترمهما هذا السم، فبدآ يتركان التسامح الذي درج عليه ملوك قشتالة وأرغونة، وسيطرت عليهما النزعات الكنسية وميولها، حتى بلغت بهما إلى التعصب والسخف ، واقتفى أثرهما من تبعهما من الملوك، وبذلك قضوا على زهرة الفكر الذي خلفه الإسلام لإسبانيا.
وكان من منافذ الفن الإسلامي إلى أوربا صقلية، فقد حكمها المسلمون مدة طويلة، وازدهرت علومهم وفنونهم فيها، فلما انتهت دولة المسلمين، وقبض عليها المسيحيون من النرمانديين وغيرهم، واقتبسوا أيضا كثيرا من الثقافة العربية والفن العربي، حتى يرووا أن روجر النرماندي كلف الشريف الإدريسي أن يعمل له كرة يرسم عليها شكل الأرض إلى كثير من أمثال ذلك، فإذا أضفنا إلى هذين العاملين - وهما الأندلس وصقلية - الحروب الصليبية في الشرق، وما كان فيها من اختلاط مكن كلا من الطرفين أن يعرف ما عند الآخر ويستفيد منه، فقد وضعنا أيدينا على أسباب انتقال الثقافة من الشرق إلى الغرب.
تأثر الأندلس وتأثيرها
الحق أن الأندلس كانت كمحطات الإذاعة الرئيسية، فيها آلات للاستقبال وآلات للإذاعة، فأما أولا فقد استقبلت كل ما أرادت من المشرق، وذلك بواسطة تجار الكتب وبواسطة الأمراء الذين كانوا يريدون أن يزهروا دولتهم، بنقل كتب المشرق إلى مكاتبهم ثم إباحتها للجماهير، وبالحج وما كان يكثر التلاقي فيه والحديث عن الأدب والعلم والكتب وتبادل كل ذلك. ثم بسرعة الانتقالات وسهولتها، فكانت رقعة العالم الإسلامي كوادي النمل، كل يوم تجد من يجيء ومن يروح؛ ولذلك كان العالم الإسلامي كله كأنه قطر واحد لا أقطار متعددة؛ ثم شيء آخر، وهو أن بيوت الأمراء والوزراء حتى والأوساط كانت مملوءة بالرقيق، وهذا الرقيق منه الإسباني والفرنسي، وأسرى الحرب من أمم مختلفة، وهم يسمون كل ذلك الصقالبة، والإسلام يبيح الاتصال بملك اليمين والتزوج بهن، والخلفاء والأمراء منهم من تزوج فعلا بهن، وهؤلاء الأرقاء من رجال ونساء لعبوا دورا كبيرا في الحياة الاجتماعية الأندلسية، قد كانوا ينقلون أفكار الأوربيين إذ كان بعضهم من الخاصة، وكانوا ينقلون عادات أممهم وتقاليدها، ومن تعلم اللغة العربية منهم كان ينقل الأفكار والأقاصيص الأوربية باللغة العربية. وانقسمت البيوت إلى قسمين؛ قسم من أولاد السراري، وقسم من أولاد الحرائر، والأولاد تبعا لأمهاتهم ينقسمون أيضا على قسمين: قسم يتعصب لأمه السرية ، وقسم يتعصب لأمه الحرة، وكثيرا ما وقع القتال في المملكة بسبب تعصب كل فرد.
وليلاحظ أن انتقال الأفكار في غاية الخفاء والسهولة، فقد يخالط أندلسي رجلا أوربيا في جلسة عادية، فتنتقل أفكار كل من هذا إلى ذاك، ومن ذاك إلى هذا، وقد يرحل أندلسي فيقرأ كتابا شرقيا أو يتتلمذ على أستاذ شرقي، ثم يقدم الأندلسي إلى بلاده، فيلقي في أرض الأندلس البذور التي سمعها، والبذور تتأقلم بالبيئة. وشاهد ذلك في الأدب وكل فرع من فروع العلم والفلسفة وغير ذلك؛ ولذلك كان من العسير جدا أن ترد النسيج الأندلسي إلى خيوط شرقية أو خيوط أوربية أو خيوط مبتكرة. فهذا ما لا يستطيعه إنسان إذا أراد الجزم والتحديد، وإنما كل ما يستطيعه الشك والظن؛ ولذلك يعجبني جدا رأي القاضي عبد العزيز الجرحاني في «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، إذ جعل الحكم على معنى بيت من الشعر بأنه مسروق أو غير مسروق شيئا في منتهى الصعوبة؛ لأن الحكم يتطلب معرفة تامة بكل المعاني الماضية، ثم احتمال أن يتسرب معنى من هذه المعاني إلى قائل البيت الأخير وهذا عادة مستحيل. وكذلك ما نحن فيه.
هذا ما يصح أن يقال في الاستقبال. أما شأن الإذاعة فقد كان هناك نوعان من الموجات، نوع ذهب إلى الشرق، وربما كان أصله أيضا من الشرق، ولكنه صبغ بالصبغة الأندلسية، ونوع من الموجات ذهب إلى أوربا كبعض الأدب، وكثير من الفلسفة وخاصة فلسفة ابن رشد وبعض العلوم كالرياضة والهندسة وغير ذلك؛ ولذلك كان من قال: إن النهضة الأوربية طارت أول ما طارت من على عاتق العرب، لم يبعد عن الصواب. فالمتحررون من النصارى بسبب فلسفة ابن رشد، وقيامهم في وجه الكنيسة سبب وجود طائفة تدعو إلى حرية الفكر والنهضة الحديثة. ومن ناحية أخرى فإن الأوربيين عندما عرفوا الآثار اليونانية والرومانية عرفوها أول الأمر عن طريق نقلهم للآثار العربية، وبعد ذلك اشتاقوا أن يعرفوا الآثار اليونانية والرومانية في أصولها، فالشوق الذي كان عندهم إنما بثه العرب فيهم.
نعم إن المشرق استطاع أن يذيع بعض الشيء في أوربا عن طريق الحروب الصليبية أحيانا، ولكن ذلك كله ليس بشيء إذا قيس بتأثير الأندلسيين في أوربا.
لقد اختلف علماء الإسبان في مقدار انتفاعهم بمسلمي الأندلس، حتى أنكرها بعضهم نكرانا تاما، وقالوا: إذا أردنا معرفة أصل أي شيء إسباني، فلننظره عند اليونان والرومان لا عند العرب. بل قال بعضهم: إن حكم المسلمين للأندلس أخر تقدم الإسبانيين، ولولا ذلك لنهضوا نهضة فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها. فليس من فرق إلا حكم المسلمين لهم والتطاحن الشديد بينهم وبينهم مدة ثمانية قرون كاملة، لا يهدأ لأحد منهما بال. ولكن من حسن الحظ أن هذا ليس مذهب الجميع، بل من الإسبانيين من يرى من الحق أن حكم المسلمين للأندلس حلقة في سلسلة تاريخ الأندلس، وأن المسلمين رقوا الأندلس أثناء حكمهم في العلوم والحضارة. حتى إذا قيست إسبانيا بغيرها من الأمم كانت أرقى منها. بل ما لنا نذهب بعيدا، وقد قلنا: إنه لولا فلسفة المسلمين في الأندلس وانتشارها في أوربا لما نهضت أوربا هذه النهضة، بل تأخرت قرونا، فكيف بإسبانيا إذا لم يكن حكمها المسلمون هذه القرون؟
ومن حين لآخر نسمع عن أشخاص يقومون ليدعوا أن المسلمين في الأندلس لا فضل لهم على الإطلاق. وهذه عصبية لا تخدم الحق، ولكن تخدم النزعة الدينية المتزمتة. والزمان كفيل بإظهار الحقيقة بعد البحث. وتأخر إسبانيا - إذا عدت متأخرة - ليس سببه حكم العرب لهم، بل سببه على الأرجح إبعاد العرب عنها، وقد كانت في يدهم الزراعة والصناعة والتجارة، فلما أخرجوا انحطت البلاد بسبب خروجهم، ووقفت الأعمال الهامة التي كانوا يقومون بها، ولم يستطع نصارى الإسبان أن يحلوا محل المسلمين في أعمالهم.
هذا إجمال نفصله فيما يلي:
يخطئ من يظن أن الأندلس كانت مسكونة بالعرب والبربر وحدهم، فقد كانت في الواقع مسكونة بهما، وبعدد كبير من الإسبان، والأمم الأوربية، ممن دخلوا في الإسلام أو أسروا في الحروب، ونساء بعن رقيقات واستولدهن العرب والبربر، فكانوا جيلا مسلما جديدا يتكاثر مع الزمان. والشأن في ذلك شأن المشرق تماما. وكذلك يخطئ من يظن أن بغداد والعراق كانتا مسكونتين بالعرب وحدهم، بل كانتا مسكونتين بأسرى الأمم المختلفة، والنساء الرقيقات المأسورات، والعبيد والإماء الذين يباعون في الأسواق وغير ذلك. كل هذا من شأنه أن يجعل الساكنين كأنهم صبوا في بوتقة، ومزجوا على النار مزجا تاما، فأخذ كل من كل، وكانت النتيجة خليطا فيه عناصر إسبانية أو أوربية، وعناصر عربية أو بربرية. وكان الشأن في ذلك كالماء الحار يخلط بماء بارد فيكون الناتج ماء لا حارا ولا باردا. إن كان ذلك كذلك في الشئون المعنوية من أفكار وآداب، وعلوم وفلسفة، فلا عجب إذا أن نرى ألفاظا عربية كثيرة تسربت إلى الإسبانيين والبرتغاليين، كما أن ألفاظا إسبانية وبرتغالية دخلت العربية، كما يظهر ذلك على الأخص في ديوان ابن قزمان.
وقد كانت كل أمة تقدم للآخرين خير ما عندها وأسوأ ما عندها، فقدم العرب مزاياهم، من تسامح وحب للأدب، وحياة فيها مروءة ونبل، كما قدموا أسوأ ما عندهم من عصبية للقبيلة، وحب للظهور والفخفخة، ورغبة في التسري، وغير ذلك. وقدم الإسبان كذلك خير ما عندهم وأسوأ ما عندهم ، وكان المتولد من هذا الاختلاط حائزا لصفات خاصة، فهو ذكي متدين متطرف.
من أجل هذا الامتزاج رأينا كما ذكرنا الألفاظ العربية تدخل اللغة الإسبانية والبرتغالية، مثل: الخزانة، الجبة، الدكان، القاضي، البراءة، المخزن، القطران، والطاقة، إلى كثير من أسماء الأشياء.
وكان للأندلسيين تقريبا لغتان: لغة فصحى يتكلم بها المثقفون الأرستقراطيون، ولغة شعبية يتكلم بها الشعب في لهجة خاصة، ولعلها أيضا تكون خاصة بكل مدينة، وهي لغة الشارع والبيوت، ومن أجل ذلك لما اخترعت الموشحات والأزجال نجحت نجاحا باهرا، لأنها وجدت استجابتها من الشعب، إذ رآها أقرب إلى التعبير عما في نفسه، وألطف من اللغة الفصحى وأظرف وأحسن في التوقيع على الآلات الموسيقية، وأنسب للمتجولين الذين ينشدون الأغاني يتكسبون بها. وكما تأثرت اللغة الإسبانية والبرتغالية بالعربية، تأثرت العادات والتقاليد والفنون.
فالموسيقى العربية انتشرت بين سكان الإسبان في الشمال، حتى اسم العود وهو آلة الغناء العربي انتقل أيضا، وحتى «يا ليل يا عين» انتقلت كذلك.
وقد أفسحت الأمم الأوربية صدرها للحضارة العربية والعلم العربي، واستطاعت أن تفرق بين العلم والسياسة، فبينما كانوا يحاربون المسلمين سياسيا، كانوا يفسحون صدروهم للعلماء المسلمين ثقافيا. فالتاريخ يدلنا على أن عددا من حكام قشتالة كانوا يحيطون أنفسهم بعلماء مسلمين، ويستخدمون مهندسين مسلمين، ويستمعون إلى موسيقيين مسلمين. وربما كان إمبراطور الألمان الذي ذكرناه في فلسفة ابن رشد مثالا صالحا على تفرقتهم بين السياسة والعلم. ولولا إلحاح القسس في مصادرة المسلمين والتنكيل بهم، وإجبارهم على التنصر لاستفادوا من المسلمين فوائد أكبر مما استفادوا.
لقد بدأ فرديناند وإيزابلا يعاملان المسلمين معاملة حسنة بعد سقوط البلاد في أيديهما، تبعا لتقاليدهما المتوارثة في التسامح. ولكن بعد سبعة أعوام من سقوط البلاد، وبسبب إلحاح القسس والضغط على المسيحيين في سوء معاملة المسلمين، اضطر فرديناند وإيزابلا أن يهجرا تسامحهما، ويخيرا المسلمين في الأندلس بين التنصر والخروج من البلاد، فآثر نحو نصف مليون مسلم الخروج؛ وبخروجهم انحطت الزراعة والصناعة انحطاطا كبيرا، وكادت الأعمال تقف.
ومرت قرون على الإسبان حتى استطاعوا أن يقوموا بالأعباء التي كان يقوم بها المسلمون. فهل بعد هذا كله يصح أن يقال: إن امتلاك المسلمين للأندلس كان كارثة على إسبانيا؟
لقد رأينا تأثير المسلمين في أوربا، فيترجم ألف ليلة وليلة مرات عديدة، ويتسلى به، ويقتبس منه، وتنقل قصة حي بن يقظان لابن طفيل إلى كثير من اللغات الأوربية، وتكون ذات تأثير على المثقفين من الأوربيين، كتأثير ألف ليلة على الشعب. فهذه أدلة مادية على استفادة أوربا من المسلمين، كما أننا نرى أن الأدب الأوربي ظهرت فيه نزعة جديدة على أثر انتشار الأدب الأندلسي العربي بين الأوربيين، ويظن الكثيرون أن هذه الظاهرة نشأت من الاقتباس من الأدب العربي، الذي تظهر فيه الرومانتيكية البالغة في الغزل الرقيق والرثاء الباكي ونحو ذلك.
هذا عدا التأثير الفلسفي الذي أثرته الأندلس في أوربا والذي ذكرناه في أثر فلسفة ابن رشد، فقد كانت فلسفته مشعلا يسار به في جميع أنحاء البلاد. نعم إن الحضارة الأوربية استمدت حضارتها وثقافتها على الوجه الأكمل من كتب اليونان والرومان أنفسهم، ولكنهم في الحق لم يلتفتوا إلى المصادر اليونانية والرومانية؛ إلا لأن العرب - بفلسفة ابن رشد وشروحه على أرسطو وأمثال ذلك - فتحوا شهيتهم لقراءة الكتب اليونانية والرومانية في أصولها، والذي يشك في ذلك يجب أن يقارن بين قرطبة وإشبيلية وغرناطة وغيرها من مدن الأندلس في أيام ازدهارها، وبين المدن الأوربية في ذلك الزمن. وليكن منصفا في المقارنة: أيها كان أرقى علما، وأحسن حضارة، وأسمى تقدما؟ هل يساوره شك في أن الأولى كانت كلها أرقى من الثانية، وأن بعض المؤرخين شبه مدن الأندلس وسائر الممالك الأوربية فينا، بين بلاد البلقان كلها.
ومما استوجب النظر ظهور الموشحات والأزجال في الأندلس، ثم ظهور شعر يشبهه عند الإسبانيين في الشمال، وفي مقاطعة بروفانس في جنوب فرنسا، وسمي هذا النوع عندهم التروبادور. ويمتاز هذا الشعر بأنه شعر عاطفي يوقع على الآلات الموسيقية، ويقصدون به البيوت الأرستقراطية، والبلاط الملوكي. وقد اختلف المستشرقون والباحثون كثيرا في منشأ هذا الشعر: هل هم أخذوه عن مسلمي الأندلس، أم إنه تطور للشعر عندهم تطورا طبيعيا؟ والأرجح عند كثير منهم أنه مأخوذ من مسلمي الأندلس؛ لأن الشبه في الموضوعات واحد، وبعض أوزان هذا الشعر الإفرنجي يساوي أوزان الموشحات والأزجال العربية، مما لم يكن للأوربيين معرفة به من قبل، كما أنهم اختلفوا في اشتقاق الكلمة، فذهب بعضهم إلى أنه مأخوذ من
trouvere
بمعنى ابتدع، وفي ظني أنه أصله «دور طرب». وإذ كان الإفرنج يقدمون الصفة على الموصوف والمضاف إليه على المضاف قالوا: طرب دور، وسهل تحريفها إلى ترو بادور.
وقد عرف العالم الإسلامي المدارس من قديم، ومنها ما كانت مدارس كبيرة تشبه الجامعات، كالجامع الأزهر والمدرسة النظامية والمستنصرية وغيرها، وقد انتقلت صورة هذه الجامعات إلى الأندلس، ثم رأينا صورها تظهر في أوربا، ويتشابه شكلها جميعا، من طرق تدريس ومنح إجازات وتقسيم العلوم إلى فروع ونحو ذلك، بل أكثر من ذلك كان بعض الجامعات الأوربية يعتني اعتناء كبيرا باللغة العربية ومنتجاتها، ويصرح بعضهم بأن من لم يثقف ثقافة عربية فليس بمثقف. ومن الراجح أن الحديث يكون مقتبسا من القديم حتى تشابهت الصور. غاية الأمر أن ما عرف عن أوربا الحديثة من التنظيم والدقة فيه، وإدخال التحسينات الممكنة، جعل الجامعات الأوربية اليوم هي موضع أنظار الشرقيين، حتى كأنها نبت أيديهم، ومثل ذلك مثل القطن يأخذونه من الشرق خاما، ويردونه نسجا جميلا، كأن لا صلة بينه وبين أصله، وحتى النرد والشطرنج اقتبسهما العرب من الفرس وأدخلوا عليهما التحسينات، ثم انتقلت اللعبتان بما فيهما من تحسين إلى أوربا مع الاحتفاظ ببعض الأسماء العربية، وتوجد مخطوطة لألفونسو الحكيم فيها رسم لعبة شطرنج معقدة، يمارس اللعب عليها بعض المسلمين، ولم تكن اللعبة بحالتها معروفة عند الأوربيين من قبل.
وكما انتفع الأندلسيون بعلوم المشرق ومنتجاته، ونفعوا أوربا بعلومهم ومنتجاتهم، كذلك ردوا الجميل للمشارقة، فكان خير المنتجات الأندلسية شائعا في الشرق، ومصدر علم لهم، فكم انتفع المشارقة بالعقد وظرفه، والمخصص والمحكم ومنهجهما في اللغة، وابن رشد وفلسفته، والموشحات وطرافتها، ما لا يمكن أن يعد ولا يحصى؛ ولذلك قلنا: إن الأندلس بعدما نضجت على يد الشرق ردت للشرق جميله. فلو لم تقم الحضارة الأندلسية بعلومها وفنونها وآدابها ثمانية قرون، تعمل جاهدة في خدمة العلم والأدب لتغير تاريخ العلم الإسلامي.
هوامش
خاتمة
فتح العرب الأندلس وظلوا فيها ثمانية قرون، وهم من يوم حلولهم بها قد بذروا بذور قوتهم وضعفهم، فمن يوم أن حلوا فيها ظهرت العصبية اليمنية والمضرية، ووقع النزاع بين الفريقين، حتى جاء عبد الرحمن الداخل، فاتخذت العصبية لونا آخر، فقد تعصب لفريق دون فريق، ووجد في الأندلس من يعمل لحساب الدولة العباسية في بغداد ضد الأمويين في الأندلس، وثارت من أجل ذلك فتن أضعفت خلفاء الأندلس، ثم جاءت الدولة العامرية، فعملت على إسقاط الدولة الأموية، وانقسم مسلمو الأندلس إلى متعصب للأمويين، ومتعصب للعامريين، ثم انفرط عقد الأندلس وحكمها ملوك الطوائف، فكل من كان قادرا قفز إلى بلد وتغلب عليها، وأصبح أميرا.
كل هذا أثر في الأندلس من الداخل وحل عراها، والإسبانيون الذين في شمالي الأندلس لم ينسوا أبدا منذ عهد الفتح أن بينهم وبين المسلمين ثأر، وأنه لا بد أن يتغلبوا عليهم، وكل يدعي أنهم المؤمنون، وأن عدوهم هم الكافرون، وطوبى للمؤمن إذا جاهد ضد الكافر، فكانت الحرب بين الفريقين سلسلة لا تنتهي، وكانت سجالا، يوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء، ونصارى الإسبان يعتمدون من الخارج على كل المسيحيين في أوربا وعلى رأسهم البابا، ومسلمو الأندلس يعتمدون أيضا من الخارج على المرابطين والموحدين في المغرب، بل وعلى صلاح الدين وبايزيد. ولكن كانت نجدة أوربا المسيحية للإسبانيين أشد وأبقى، فما لبثوا أن تغلبوا. وزاد الأمر سوءا أن ولاة المسلمين كانوا ينقسمون على أنفسهم، فوالي قرطبة يعادي والي إشبيلية وهكذا. بل إن بيت الإمارة الواحد كان منشقا على نفسه، بحكم انحلال البيت باختلاف الأمهات بين حرائر وسراري، واختلاف السراري إلى أصول متعددة، فكان من نتيجة ذلك أن البيت إذا انشق التجأ بعض المسلمين إلى أمراء النصارى - كما ذكرنا - يستنجدونهم على عدوهم من أقاربهم، والعدو ينتفع بنصرة هذا على ذاك، أو ذاك على هذا. وفي تاريخ الأندلس أمثلة كثيرة من هذا القبيل.
نعم إن بعض النصارى وقع في مثل هذه المحنة، فالتجأ بعضهم إلى أمراء المسلمين يستعينون بهم ضد أهلهم وذويهم، ولكن ذلك لم يكن بالكثرة ولا بالقسوة التي نشاهدها في العداء بين المسلمين بعضهم وبعض.
قلنا: إن المسلمين منذ الفتح كانوا يحملون أسباب قوتهم وضعفهم، فهم أمجاد أذكياء، شم الأنوف، كرام شجعان ولكنهم فرديون لا اجتماعيون، عنجهيون لا مطيعون، تغلب فيهم الفخفخة وحب اللذائذ، على الجد والصرامة، فلما اختلطت هذه المزايا بتلك المعايب، أنتج هذا الامتزاج حضارة رائعة، وسقوطا شنيعا. وكان سقوط الأندلس أول حادث فشل من نوعه للمسلمين، فبكوا كثيرا ورثوا بلادهم كثيرا، وذلوا كثيرا، واشرأبوا إلى أن يعيدوا مملكتهم إلى حوزتهم طويلا، ولكن هيهات!
لقد كان بكاء أبي عبد الله آخر ملوك غرناطة بكاء حارا شديدا، وقد صدق إذ قال: «دعوا دما ضيعه أهله».
لقد توقع كثير من العلماء والفقهاء والحكماء هذه النتيجة البائسة ، فكانوا تارة يحاولون أن يوفقوا بين المتخاصمين، وتارة يحاولون أن يستنجدوا بما وراء الأندلس، وتارة بنقل بعض الخارجين من الإسبانيين من الإسبان إلى المغرب اتقاء لشرهم. ولكن ذلك كله لم ينجح؛ لأن عوامل السقوط داخليا وخارجيا كانت أشد من عوامل الالتئام، فسقطت تنعي من بناها، وخلفت ثروة كبيرة ذابت فيما بعد، ولم ينفع البكاء والعويل، إذ ماذا تنفع العواطف أمام السيف والنار.
وسنة الله في خلقه أن الضعيف على أي شكل كان، يذهب هباء أمام القوة كائنة ما كانت، والشاعر العربي كان حكيما إذ يقول:
تعوي الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي صولة المستأسد الضاري
الجزء الرابع
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وعدت عند ظهور الجزء الأول من هذه السلسلة - وهو الخاص بالحياة العقلية في الأندلس من فتح العرب لها إلى خروجهم منها، وتكلمت فيه عن الحركات الدينية، واللغوية، والنحوية، والأدبية، والفلسفية، والتاريخية، والفنية - أن أكتب الجزء الرابع والأخير في المذاهب الدينية وتطورها، وسألت الله أن يعينني عليه كما أعانني على سوابقه، ولم يخيب الله سؤالي؛ إذ انقطعت لكتابته حتى أنجزته، جاريا على النسق عينه الذي نهجته في الجزء الأول والثاني والثالث.
تكلمت في الجزء الأول عن وصف الحياة الاجتماعية في القرن الرابع، إذ لا يمكن فهم الحياة العقلية إلا بفهم بيئتها التي نشأت فيها، والعوامل التي ساعدت عليها، وطبيعة الناس الذين أنتجوها، كما تعرضت لوصف مراكز الحياة العقلية في مصر، والشام، والعراق، وجنوب فارس، وخراسان، وما وراء النهر، والحركات العلمية والأدبية التي ظهرت في كل إقليم، وأشهر رجالها.
وتكلمت في الجزء الثاني عن تاريخ العلوم، والآداب، والفنون في القرن الرابع الهجري، كالتفسير، والحديث، والفقه، والتصوف، واللغة، والأدب، والنحو، والصرف، والبلاغة، والفلسفة، والأخلاق، والتاريخ، والجغرافيا، والفنون المختلفة.
أما الجزء الثالث، فأفردته للأندلس ليكون وحدة مستقلة بذاته، ولم أكتف في ذلك الجزء بتأريخ القرن الرابع وحده، بل رأيت أن حضارتها وحياتها العقلية تكاد تكون وحدة، ففضلت في شأنها أن أنهج منهجا جديدا، فلا ألتزم القرن الرابع، بل أؤرخ حياتها متسلسلة من وقت فتح المسلمين لها إلى وقت خروجهم منها، أي نحو ثمانية قرون.
وقد رأيت أن أنهج في الجزء الرابع هذا المنهج، فلا أقف عند القرن الرابع، وبخاصة لأن العقائد والمذاهب ليست كالآداب، والعلوم، والفنون سريعة التغير والتطور. وتكلمت عن المذاهب الرئيسية من معتزلة، وأشاعرة، وشيعة، وسنة، ومتصوفة، وقد أفردت للمتصوفة بابا خاصا، مع أنهم ليسوا فرقة إسلامية لاستشهار أمورهم، وقوة أثرهم في العقيدة الإسلامية، وبخاصة بعد القرن الرابع.
وإذا كنت قد بدأت بالاعتزال في المقدمة؛ فذلك أني أريد أن يكون هذا الجزء مترابطا لا يحتاج قارئه أن يرجع إلى «ضحى الإسلام» لمعرفة تفصيل هذا المذهب ونشأته، وبذلك يكون هذا الكتاب عرضا عاما للعقيدة الدينية في شتى صورها عند المسلمين منذ ظهور الإسلام حتى العصور المتأخرة.
والله أسأل أن يحسن ختامنا مع ختام هذا الجزء على دينه الذي ارتضاه، وأن يعيد إلى المسلمين وحدتهم، ويقرب شقة الخلف بين مذاهبهم، ويرفع من شأنهم، ويجدد مجدهم
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (النحل: 128).
تمهيد
نضج علم الكلام في العصر العباسي الأول والثاني، وكان الفضل الأكبر في نضوجه للمعتزلة، فإنهم وقفوا أنفسهم موقف الدفاع عن الإسلام، وكان مركزهم في الغالب في العراق، وفي البصرة، أو بغداد، أو الكوفة. وكان العراق محطا للثقافات المختلفة، والديانات المختلفة؛ إذ كان موردا لكثير من الفرس، والهنود، والسريان، والنصارى، واليهود، فكان كثير من أجداد العراقيين أو آبائهم يعتنقون قبل الإسلام ديانات مختلفة، فلما أسلموا كانت آراؤهم ومعتقداتهم عالقة في ذهنهم كلها أو بعضها، ولم يكن الإسلام عند كثير منهم إلا طلاء ظاهرا.
كان ينتشر في فارس والهند مجوس، اعتقدوا بوجود إلهين:
أحدهما:
النور، أو يزدان، وهو مبدأ الخير كله.
والثاني:
الظلمة أو أهرمن، وهو مبدأ الشر كله.
وهما إلهان متماثلان في القوة أزليان متعاندان، أحيانا يغلب النور، وأحيانا تغلب الظلمة.
وقد انقسم هؤلاء إلى فرق كثيرة بحسب تعاليمهم، عدها ابن خلدون ثمانية، فهؤلاء لما انتقلوا إلى بغداد دعوا إلى دياناتهم، إما صراحة، وإما تحت ستار الإسلام . ولذلك نرى خصوصا في العصر العباسي الأول أناسا كثيرين يتهمون بهذه الثنوية،
1
ويحاكمون، وقد يقتلون.
ومثل هؤلاء البراهمة في الهند، وكان عددهم كثيرا، وكان بينهم من يقول بالتناسخ، وهم كذلك متفرعون إلى فروع مختلفة، ويقولون بآلهة متعددة، وعلى رأسهم الإله الكبير «برهم»، وبجانب هؤلاء البوذيون، والكونفوشيوسيون، ولهم تعاليم تغاير ما تقدم.
يضاف إلى ذلك أنه كان ينزح إلى العراق جماعة من النصارى أتوا من الشام وغيرها، وكانت النصرانية قد انقسمت حول طبيعة المسيح: هل هو ذات واحدة، أو له طبيعتان: طبيعة لاهوتية، وطبيعة ناسوتية، أو اتحد فيه اللاهوت والناسوت ... إلخ.
وتعددت المجامع للفصل في هذه الخلافات، كما اختلفت اليهودية إلى مذاهب متعددة.
كل هذه المذاهب صبت في العراق، ودعا إليها الداعون، وتشكلت بأشكال مختلفة، واصطبغ بعضها بصبغة إسلامية. وتقرأ المذاهب المختلفة في ذلك العصر فيأخذك العجب من كثرتها وتنوعها. وكان كثير من أصحاب هذه المذاهب قد تثقفوا بالفلسفة اليونانية، فأخذ كل فريق يستخدم هذه الفلسفة في تدعيم ديانته، فلما جاء المعتزلة يدرون على هذه المذاهب، وينتصرون للإسلام اضطروا أن يتفلسفوا هم أيضا؛ ليتسلحوا بما تسلح بهم خصومهم، ولذلك اتسع علم الكلام اتساعا عجيبا، ومما زاد في سعته أنه شمل أشياء كثيرة لا تتعلق بالعقائد حسب ما كان يظن، بل نرى أنه اشتمل على أربعة أقسام كبار: قسم الإلهيات، مثل: البحث في الله، وذاته، وصفاته، وأفعاله، وأنبيائه، ورسله، ونحو ذلك. وهذا معقول أن يكون في صميم علم الكلام.
أما القسم الثاني فهو في الطبيعة والكيمياء أدخل مثل الجوهر والعرض، والجزء الذي لا يتجزأ، والحركة، والسكون، والكمون، والطفرة، والتداخل، والألوان، والطعوم، والروائح، ونحو ذلك.
والقسم الثالث قسم سياسي محض صبغه علم الكلام صبغة دينية كالكلام في أيهما أفضل وأحق بالخلافة: علي، أم أبو بكر وعمر؟ وكلامهم في العلويين والعباسيين، والفاضل والمفضول، وشروط الإمامة ونحو ذلك.
وهذه كلها أمور سياسية كان يصح أن تبحث على ضوء العقل بعيدة عن الدين.
والقسم الرابع: عقلي خلقي، كالبحث في الخير والشر، والاستطاعة والاختيار، والتحسين والتقبيح العقليين ، وإعجاز القرآن، والإجماع والقياس، كل هذا وأمثاله جعل علم الكلام يشتمل على مسائل لا حد لها؛ فإذا أنت قرأت كتابا ك «المواقف»، أو ك «الفرق بين الفرق»، أو ك «الملل والنحل»، رأيت مناحي مختلفة، واتجاهات مختلفة.
ومع كثرتها وتشعبها يمكننا تقسيم الفرق الرئيسية إلى خمسة أقسام: (1)
المعتزلة. (2)
أهل السنة. (3)
الشيعة. (4)
الخوارج. (5)
المرجئة.
وسنفصل الكلام على كل منها، ما عدا الخوارج والمرجئة؛ لأن أصحابها انقرضوا، وماتت مذاهبهم في القرن الرابع الذي نتحدث عنه، وقد كتبنا عن الخوارج والمرجئة في «ضحى الإسلام» بالتفصيل.
هوامش
المعتزلة
الفصل الأول
ظهور المعتزلة
رأينا المعتزلة يكونون جماعة مترابطة تتعاون على الدعوة إلى الإسلام، والدفاع عنه، ومهاجمة من يخالفهم، وهم يتزاوجون فيما بينهم، ويتجاورون في مساكنهم، وإذا ثبت عن أحد منهم أنه خرج عن مبادئهم الأساسية نفوه وطردوه من زمرتهم، كما حدث منهم مع ابن حائط، فقد كان كبيرا من كبراء المعتزلة، وكان من كبار أصحاب النظام، ثم روي عنه أنه يقول بتفضيل المسيح على محمد، ولقد سعت به المعتزلة عند الخليفة الواثق، وأخبرته بإلحاده، فأمر ابن أبي دؤاد أن ينظر في أمره، وأن يقيم حكم الله فيه، فمات في ذلك الوقت، وكذلك فعلت المعتزلة بفضل الحذاء، فقد كان أيضا معتزليا نظاميا، إلى أن صدر منه ما أخذوه عليه؛ فطردته ونفته،
1
وكما فعلت مع ابن الراوندي كما سيجيء.
وكان مبدؤهم أول أمرهم البعد عن السياسة، والتفرغ لعبادتهم ودعوتهم، ولذلك لما انتقد المنصور في حدوث الجور والظلم في الدولة، دعا عمرو بن عبيد المعتزلي وفرقته إلى أن يتعاونوا معه في تدبير الدولة فأبوا، ولكنهم تحولوا عن هذا المبدأ بعد ذلك، وانغمسوا في السياسة، وصاروا وزراء وعمالا، وأطلق المأمون، والمعتصم، والواثق أيديهم في السياسة، فنكلوا بخصومهم، وأذاقوا الناس العذاب إذا هم لم يقولوا بخلق القرآن، وأقاموا في البلاد ضجة ليس لها مثيل من محاكم تقام، ويعرض فيها على العلماء والقضاة القول بخلق القرآن، فمن لم يقل عذب وأهين.
وسمى المؤرخون هذه الفترة بمحنة خلق القرآن، وكانت سطوتهم في ذلك قد بلغت الذروة، فلما بلغوها أخذوا ينحدرون عنها.
وجاء المتوكل فرأى نارا تتقد في كل مكان، وامتحانات ومحاكمات، وضربا ونفيا وتشريدا، والرأي العام ساخط على هذه الحالة، ومن لم يقل بخلق القرآن، وتحمل العذاب عد بطلا؛ فأراد الخليفة المتوكل أن يحتضن الرأي العام، وأن يكسب تأييده، فأبطل القول بخلق القرآن، وأبطل الامتحانات، والمحاكمات، ونصر المحدثين. وعلى الجملة فقد انضم إلى المعسكر الآخر معسكر غير المعتزلة، وأكثر الناس عبيد السلطة، فما إن رأوا تحول السلطة عن المعتزلة حتى هجروهم، وأصبح القول بالاعتزال يحدث في الغالب سرا بعد أن كان جهرا، ويتطلب شجاعة كبيرة، وجرأة شديدة، ولذلك قل عدد المعتزلة، وعدد رؤسائها.
يضاف إلى ذلك أنه وجدت عوامل أخرى تهاجم المعتزلة من فقهاء، ومحدثين، وروافض، ونصارى، ويهود، وتجمع هؤلاء ضدهم، حتى إن بعض من كان معهم خرج عليهم، كما سنرى في الكلام على أبي الحسن الأشعري.
هوامش
الفصل الثاني
تطور المعتزلة
وقد تطورت تعاليم المعتزلة على مدى العصور، وعلى يد نوابغ أهل المذهب، فكان كلما أتى نابغة زاد في تعاليمها وعمقها، فمذهب المعتزلة في الحقيقة ورث تعاليمه من جهم؛
1
ولذلك يلقب المعتزلة بالجهمية.
وجهم هذا هو جهم بن صفوان، وقد ظهر بترمذ في آخر الدولة الأموية، ثم انتقل المذهب إلى بلخ، وكان جهم هذا صديقا لمقاتل بن سليمان العمدة المشهور في تفسير القرآن، وكان جهم متصلا اتصالا شديدا أيضا بالحارث بن سريج عظيم الأزد بخراسان، وقد شوهت سمعة الجهم والحارث بن سريج تشويها كبيرا، خصوصا على يد المحدثين، وعلى يد الساسة؛ لأنهما أعلنا الثورة على الدولة الأموية، وطالباها بالعمل بالكتاب والسنة والشورى.
وأرادت الدولة الأموية أن تعطيهما مالا كثيرا لقاء سكوتهما عنها فأبيا، وألحا في طلب العدل، وكانا من أول الخارجين عليها، وتكوين الجيوش ضدها في الحركة التي انتهت بسقوط الدولة الأموية، كما يؤخذ من كتب التاريخ، ولكنهما - كما يظهر - لم يكونا على علم كبير بالحديث، وإنما كانا عقليين في تفكيرهما، فهاجمهما رجال الحديث، وشوهوا سمعتهما، ومن سوء الحظ أنهما قتلا في عهد مروان بن محمد آخر الدولة الأموية.
ثم جاءت الدولة العباسية، وجاء الجهمية بشكل جديد هو المعتزلة، وكانت خلاصة مذهب جهم القول بنفي التشبيه، وتأويل الآيات التي وردت مما تشعر بالتشبيه، كيد الله، ووجهه سبحانه وتعالى.
ومن أقواله أيضا نفي صفات الله كالعلم والقدرة، وقوله: إن صفاته عين ذاته، أي أنه ليس قادرا بقدرة غير ذاته، ولا مريدا بإرادة غير ذاته.
وأرجعوا الصفات كلها إلى ذاته، ورأوا أن ذلك أدل على التنزيه، واقتضاهم ذلك القول بأن الله لا يرى حقيقة في الآخرة، ولا يتكلم حقيقة، وإنما كل هذه مجازات، كما قالوا بخلق القرآن، وذلك أنهم قالوا: إن بعض الآيات والأحاديث إذا أخذت على ظاهرها أفادت التشبيه بصفات المخلوقين وهو مستحيل، والله
ليس كمثله شيء (الشورى: 11).
وهي تعاليم - كما ترى - تطرقت إلى المعتزلة، وتطورت، ودعوا إليها، ومن هذا نرى أن هؤلاء الجهمية وجهة نظر محترمة، ولكنهم لما خرجوا على الأمويين شنع هؤلاء عليهم، ورموهم بأنهم دهريون، مع أن الدهريين هم الملحدون، ولا إلحاد عند الجهميين، وإنما هم طلاب عدل.
ثم لما لم يكونوا من أهل الحديث، ولم يتبعوا بعضه شنع عليهم المحدثون أيضا، وكان ذلك هو الشأن مع المعتزلة ورثة الجهمية.
جاء المعتزلة بعد ذلك، وقالوا بخلاصة ما قال به الجهمية، وانتشرت الفلسفة في العراق؛ فدخل كثير منها في الاعتزال، وكان خصوم المعتزلة من أهل المذاهب، والديانات يجادلونهم في بعض العقائد والآراء، فيرد عليهم المعتزلة، وتكون الردود ضمن الاعتزال.
وعمرو بن عبيد هو الذي صفى مذهب الجهمية، وقوى حججه، وجاء بعده أبو الهذيل العلاف، وكان ذا علم واسع، واطلاع على الفلسفة، فزاد كثيرا في تعاليم المعتزلة، وكان فصيحا بليغا، رد على الدهرية ردودا كثيرة، وتكلم في التوحيد كلاما حسنا، وتكلم في التولد وفي الاستطاعة، وقال: إن الأرض لا تخلو في كل عصر من العصور من أئمة مجتهدين، يعرفون الحق، ويدعون إليه.
وجاء بعده النظام فتناول مسائل كثيرة عدت من مسائل الاعتزال، فرد كثيرا على شبه الملحدين وعلى من يعتقدون بالنور والظلمة ، وتكلم في الجزء الذي لا يتجزأ، وطبائع الأجسام، وفي اتصال الشكل بالشكل، وفي الألوان، والطعوم، والروائح، ونفى قدرة الله على الظلم، وتكلم في إعجاز القرآن، وفي القياس والإجماع، وشرح في جرأة أعمال الصحابة، ونسب إلى بعضهم الخطأ.
وتكلم بصراحة في الفاضل والمفضول، وأيهم أصاب سياسيا، وأيهم أخطأ، وطالب بعرض الأحاديث على العقل، ونفي ما لم يقبله العقل منها، وتوسع في درس طبائع الحيوان، وكان قد تكلم فيها قبله ثمامة بن الأشرس، وبشر بن المعتمر؛ فزاد على قولهما.
وبالجملة فقد أدخل في باب الاعتزال مسائل كثيرة، بعضها سياسي، وبعضها فقهي، وبعضها أصولي، وبعضها طبيعي.
وجاء بعده الجاحظ، وكان لسان المعتزلة في عصره، فرد على المشبهة، وتكلم في إعجاز القرآن، وألف في الاحتجاج للنبوة، ونصرة الرسالة، وفي الطبائع، مع اعتماده على التجارب دون النظريات، وتكلم في الخلود في الآخرة.
وجاء بعده جعفر بن حرب؛
2
فخالف أستاذه أبا الهذيل العلاف في بعض آرائه، وتكلم في علم الله، وفي أحداث التاريخ المتعلقة بالصحابة، كالكلام في عثمان، وطلحة، والزبير، كما عاصره وصاحبه عيسى بن الهيثم الصوفي.
ومن أشهر هذه الطبقة من المعتزلة أبو مجالد، وقد وصفه ابن الخياط بأنه: «رجل جمع العلم بالحديث، والفقه، والكلام، وتفسير القرآن مع حسن بيان، وفصاحة لسان، وإظهار للحق، والدعاء إليه، والقصص به أيام حياته، والصبر على الأذى في الله، حتى لحق به، رحمه الله ...»، ثم قال: «وما رأيت أحدا قط كان أغلظ على من صدق بالنجوم منه.»
ثم جاء بعدهم الطبقة الثامنة، وهم الذين كانوا في عصرنا الذي نؤرخه، وأعني بهم من مات في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري، أو القرن الرابع، وكان منهم أبو علي الجبائي المتوفى سنة 303ه، وأبو القاسم عبد الله البلخي الكعبي المتوفى سنة 319ه، وأبو مضر بن أبي الوليد بن أحمد بن أبي دؤاد، فهؤلاء كلهم زادوا في مسائل الاعتزال، وردوا على مخالفيهم.
وحدث حادث جدير بالنظر، وهو أن المعتزلة لما ذهبت دولتهم على يد المتوكل تنمر الناس لهم، ونالوا منهم، فنصب الجاحظ نفسه للدفاع عنهم، وألف كتابا سماه «فضائل المعتزلة»، ولم يكن الكتاب كله في بيان الفضائل، بل تعرض لمسائل أخرى، كالرد على ألد خصومهم، وهم «الرافضة»، ولكن حدث أن جاء رجل اسمه «ابن الراوندي»، تثقف على يد المعتزلة حتى مهر في الاعتزال، ولكن خرج على المعتزلة في بعض تعاليمهم الأساسية؛ فطردوه من زمرتهم، وكان فقيرا بائسا يحقد على الجاهل غناه مع بؤس أمثاله من العلماء، ويقول:
كما عاقل أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا
فلما طرده المعتزلة، وتنكروا له، ورأى أن الدولة ليست لهم، بل هي عليهم، تنكر هو أيضا؛ فوضع ثقافته، وبلاغته في يد خصومهم يؤلف لهم، فألف لليهود ضد المسلمين، وألف للرافضة ضد المعتزلة، وكان مما ألفه ابن الراوندي هذا كتاب «فضائح المعتزلة»، شنع عليهم فيها تشنيعا كبيرا، ونسب إليهم أحيانا ما لم يقولوه.
وابن الراوندي هذا فارسي، من نواحي أصبهان، سكن بغداد، وعرف بمذهب الاعتزال، ثم اتهم بالإلحاد والزندقة، وعرف بالحذق، ومعرفة دقائق علم الكلام وجليله، وألف كتبا كثيرة، ككتاب «التاج»، يحتج فيه على قدم العالم، وكتاب «الزمردة»، يحتج فيه على بطلان الرسالة. ونسبوا إليه أنه قال: «إنا نجد في كلام أكثم بن صيفي شيئا أحسن من:
إنا أعطيناك الكوثر (الكوثر: 1).
ومما قاله استهزاء بوصف الجنة عند سماعه أن فيها أنهارا من لبن: «أنه لا يكاد يشتهيه إلا الجائع»، وقال: «من تخيل أنه في الجنة يلبس الإستبرق، ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط.»
ونخشى أن تكون هذه الأشياء مما وضعها عليه خصومه من المعتزلة لما خرج عليهم. فانبرى أبو الحسين بن الخياط المعتزلي فألف كتابا في الرد عليه سماه «الانتصار»، ومعنى الانتصار: الانتصار للمعتزلة ضد ابن الراوندي، ومن حسن الحظ أن الكتاب بقي لنا إلى اليوم، وقد نهج في هذا الكتاب منهجا يحكي فيه قول ابن الراوندي، ثم يعقب قوله بالنقض له، فمثلا يقول ابن الراوندي: «إن الرافضة لو نظرت في الكلام - يقصد علم الكلام - لوجدت في مقالات المعتزلة من فاحش الخطأ، وعظيم الكفر ما يربي قليله على عظيم كفر اليهود والنصارى.» فرد عليه ابن الخياط يقول: «أما جملة قول المعتزلة الذي يشتمل على جماعتها فليس يمكنك عيبه، ولا الطعن عليه؛ لأن الأمة بأسرها تصدق المعتزلة في أصولها التي تعتقدها، وتدين بها، وهو أن الله واحد ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأقطار، وأنه لا يحول ولا يزول، ولا يتغير ولا ينتقل، وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنه في السماء إله، وفي الأرض إله، وأنه أقرب إلينا من حبل الوريد،
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم (المجادلة: 7) لعباده، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يريد ظلما للعالمين؛ وأن خير الخلق أطوعهم له، وأنه الصادق في أخباره، الموفي بوعده ووعيده، وأن الجنة دار المتقين، والنار دار الفاسقين، وهذه الأقاويل الأمة مجمعة عليها، ومصدقة قول المعتزلة فيها.»
وهكذا سار على هذا النمط، وقد انتفع بالكتاب كثيرا البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق»، والشهرستاني في «الملل والنحل»، وغير ذلك من الكتب، فنسبوا للمعتزلة ما قاله ابن الراوندي، وشنعوا على المعتزلة من غير تحقيق.
ثم إن كل إمام كبير من أئمة المعتزلة كانت له أقوال في مسائل خاصة غير أصول الاعتزال، وتبعه عليها بعض تلاميذه، فانقسم المعتزلة إلى فرق، أو إلى مدارس؛ نسبة إلى رئيسهم، مثل: الواصلية نسبة إلى واصل بن عطاء، والهذيلية نسبة إلى أبي الهذيل العلاف، والنظامية نسبة إلى إبراهيم بن سيار النظام، والجاحظية نسبة إلى الجاحظ، والخياطية، والكعبية، والجبائية ... إلخ.
ونحن نورد أمثلة مما كانوا يتباحثون فيه وفقا للمجموعات الأربع التي ذكرناها من قبل؛ إذ حصرنا أقوالهم تقريبا في الإلهيات، والطبيعيات، والفقه، والأصول، والحديث، وتشريح أعمال الصحابة، ومن هو أحق بالإمامة. (1) في الإلهيات
بحثوا كثيرا في أفعال العباد، فقال أهل السنة: إن أفعال العباد مخلوقة خلقها الله في الفاعلين لها، أما أكثر المعتزلة فقد قالوا: إن أفعال العباد محدثة، خلقها فاعلوها، ولم يخلقها الله.
وقال الجاحظ من المعتزلة: «إن أفعال العباد تنسب إلى العباد مجازا، وإنما هي أفعال الطبيعة تظهر فيهم، إلا الإرادة فإنها فعل الإنسان، ونظير ذلك فعل النار للإحراق، وفعل الثلج للتبريد، وفعل المسهل للإسهال.» وكأنه يريد أن أفعال الإنسان كما يقول بعض الفلاسفة في عصرنا نتيجة حتمية طبيعية للبيئة والوراثة، وأن الإنسان لا يمكنه أن يفعل غير ما فعل، فمن كان في وسط مهذب متعلم صدرت عنه أفعال خاصة غير التي تصدر في بيئة أخرى وهكذا.
وإنما استثنى الجاحظ الإرادة؛ لأنها - على ما أظن - هي الصفة الخادعة؛ إذ يظن الإنسان أنه يريد ما يفعل خداعا، مع أنه يفعل ما يراد منه ليس إلا.
ودار الجدل كثيرا حول هذه المسألة، وكل يستدل على ما يقول، فأما من قال: إن أفعال العباد هي أفعال الله، فاستدل بنصوص القرآن، وببراهين عقلية؛ فمن النصوص قول الله - عز وجل - في القرآن:
هل من خالق غير الله (فاطر: 3)، وقوله:
والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (النحل: 20)
ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا (الفرقان: 3)، وقوله:
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (النحل: 17)، وقوله تعالى:
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه (لقمان: 11) ومعنى هذا أن الله خلق كل ما في العالم، وأن من، دونه لا يخلق شيئا، فلو كان الله خالقا لبعض الأشياء، والناس خالقين لبعضها لكانوا شركاء في الخلق، فنتج من ذلك أنه لا يخلق شيئا غير الله. وقال تعالى:
والله خلقكم وما تعملون (الصافات: 96). ومما استدلوا به أن كل المسلمين يعتقدون أن الله تعالى إله العالم، ورب كل شيء، ومن المحال أن يكون الله إلها لما لم يخلق.
أما المعتزلة فقد استدلوا بقوله تعالى:
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا (البقرة: 79)، وقوله:
لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله (آل عمران: 78)، وقوله:
فتبارك الله أحسن الخالقين (المؤمنون: 14)، مما يدل على أن هناك خالقا غيره، كالإنسان يخلق أفعال نفسه، وقوله مخاطبا للكافرين:
وتخلقون إفكا (العنكبوت: 17)، واستدلوا ببعض الحجج العقلية أيضا.
وقالوا: لو كان الله خالق أعمال العباد لاقتضى ذلك أنه يغضب مما خلق ويكرهه، ولا يرضى ما فعل وما دبر.
وقالوا: إن كل من فعل شيئا فهو مسمى به، ومنسوب إليه، فلو خلق الله الخطأ والكذب والظلم والكفر، لنسب كل ذلك إليه، تعالى الله عن ذلك.
ومن حججهم أيضا: أنه إذا كانت أفعال العباد لله، فهذه الأعمال تنقسم قسمين: أعمال صالحة، وأعمال سيئة، ولا معنى للإثابة والعقاب ما دام العبد لم يفعلها، وإنما فعلها الله، فإذا أثابنا فقد أثابنا على ما فعل، وإن عذبنا فقد عذبنا على ما فعل، وهذا لا يستقيم في العقل.
هذه هي أصول احتجاجات الطرفين، وكانت النتيجة أن كل من أدلى من أحد الفريقين بحجة رد الآخر عليه بما ينقضها، ولهذا تعددت الأقوال والبراهين والردود إلى ما لا نهاية لها مما لا يخرج عن هذا.
وفي الحقيقة أن في القرآن لمحة من هذا، ولمحة من ذلك، فلما جاء المفسرون انقسموا هذين القسمين، فمن اعتقد أن أفعال العباد منسوبة إلى الله أول ما ورد مما يفيد غير ذلك من الآيات، والعكس، ولهذا كانت تفاسير أهل السنة تخالف تفاسير المعتزلة.
وكل من الطائفتين يحذر الآخر من اتجاهاته، فمثلا: قال الله تعالى:
سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (البقرة: 6)، وقال:
ختم الله على قلوبهم (البقرة: 7)، أي لا يؤمنون لأجل الختم، أي أن سبب امتناعهم عن الإيمان هو ختم الله على قلوبهم.
وظاهر الآية يدل على أنهم ليسوا مختارين، ولو كانوا مختارين لآمنوا، فأول المعتزلة الآية، وقالوا: منعهم الله الإخلاص الموجب لقبول العمل، فكانوا كمن يمنع دخول الإيمان قلبه بالختم عليه. وهكذا تجد في تفسير الزمخشري كثيرا من هذه التأويلات.
ولما حار الأشاعرة بين هذه الأدلة قالوا: ب «الكسب»، أي أن الله تعالى يخلق أعمال العبد، وليس للإنسان فيها إلا الكسب.
فقال لهم المعتزلة: ما هذا الكسب؟ أهو عمل من أعمال الإنسان؛ فيكون الله خلقه أيضا، أو هو ليس عملا من أعمال الإنسان فلا حاجة إليه؟!
وقد أثارت مسألة أفعال العباد مسائل كثيرة تولدت عنها، فكانت موضع بحث بينهم، فمثلا: هناك مسألة التولد؛ ومعنى التولد: نشوء عمل من عمل، مثل: أن يضرب رجل آخر، فيتولد من الضرب الموت، أو يتولد منه الألم، أو يخلط شخص طعاما بطعام، فيتولد منهما طعام سام مميت.
فلما قال أهل السنة بأن كل أفعال العبد من خلق الله لم يكونوا بحاجة إلى القول بالتولد؛ فالكل من فعل الله. ولما قالت المعتزلة: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، ويسأل عنها ويحاسب عليها قالوا بالتولد، وأن الإنسان مسئول عما تولد من عمله.
ومن البحوث التي ترتبت حول هذه المسألة أيضا البحث في الاستطاعة ما هي؟ وهل تكون قبل الفعل، أو مع الفعل، أو قبله ومعه؟
ففرق المعتزلة بين الاستطاعة والمستطيع، إلا أن منهم من أخطأ فجعلهما شيئا واحدا، ولما قالوا: إن أعمال الإنسان من صنعه، قالوا الاستطاعة فعل الله - عز وجل - وأن أحدا لا يفعل خيرا ولا شرا إلا بقوة أعطاه الله إياها.
وقال جمهور المعتزلة أيضا: إن الاستطاعة هي سلامة الجوارح، وارتفاع الموانع، وأنهما معا يكونان قبل الفعل، كما لا بد أن يكونا مع الفعل. وما لم توجد صحة الجوارح وارتفاع الموانع لا يوجد الفعل، ولا يكون المرء مخاطبا مكلفا مأمورا منهيا.
وساقهم البحث إلى التساؤل عن الكافر المأمور بالإيمان، أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع؟ كما بحثوا فيما ورد في القرآن كثيرا من الهدى والضلال، فلما قالوا: بأن العبد يخلق أفعال نفسه، قالوا: إن معنى الهدى ليس إلا إنارة الطريق أمام العبد، وليس من مستلزمات إنارة الطريق أن يسير الإنسان فيه، فقد يستنير الطريق أمامه، ولكنه يمشي في الظلام، بدليل قوله تعالى:
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى (فصلت: 17)، وقوله سبحانه:
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (الإنسان: 2-3)، فهذا دليل على أن الهداية لا توجب أن يسير الشخص في الطريق المستقيم.
وقال خصومهم: إن من هداه الله اهتدى، ومن أضله ضل، بدليل قوله تعالى:
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ،فهذا دليل على أن الذين هداهم الله بعض الناس لا كلهم، وهم الذين ساروا في الطريق المستقيم، وقال تعالى:
إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل (النحل: 37)، وقال تعالى:
من يضلل الله فلا هادي له (الأعراف: 186)، وقال:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (الأنعام: 125) فأخبر بذلك أن الذين هداهم الله غير الذين أضلهم، ووفق خصومهم بين آيات القرآن، فقالوا: إنه هدى ثمود فلم يهتدوا، وهدى الناس كلهم السبيل، ثم هم بعد ذلك إما شاكرون وإما كافرون.
وفي آيات أخرى أنه هدى قوما، فلم يهتدوا، ولم يهد آخرين فضلوا، فالتوفيق بين الآيات يوجب أن الهدى نوعان: نوع أعطاه الله جميع الناس، وهو إنارة السبيل أمامهم، وهذا الهدى هو الذي استعمله في آية ثمود ، أي أنه دلهم على الطاعات والمعاصي، وعرفهم ما يسخطه، وما يرضيه.
وهدى آخر بمعنى التوفيق، والعون على الخير، والتيسير له، وهذا الهدى هو الذي منحه الله للمهتدين، ومنعه الكفار.
والذي دعا المعتزلة إلى هذا: قولهم الأساسي بخلق الإنسان أفعال نفسه، وأن الله لم يحمل المؤمن على الإيمان، ولا الكافر على الكفر، بل هو فعل ذلك باختياره، ولذلك كان هناك معنى للثواب والعقاب.
وهكذا أثاروا مسائل كثيرة من هذا القبيل. (2) في الأصوليات
ومن أهم مبادئهم الدعوة إلى سلطان العقل، فهم يقدسونه تقديسا عظيما؛ ولذلك مظاهر كبيرة في تعاليمهم، من ذلك: (أ)
كثير منهم حصروا المعجزات في دائرة ضيقة، فالنظام مثلا يكاد يقصر القول بالمعجزات على القرآن، وينكر انشقاق القمر، ويقول: إنه لو كان صحيحا لكان شيئا عاما يشهده كل الناس المعاصرين له، ويخالف رواية ابن مسعود في ذلك، كما ينكر نبع الماء من بين أصابع النبي
صلى الله عليه وسلم . (ب)
ينكر كرامة الأولياء، وينكر الحكايات الواردة في ذلك؛ لأنه يرى أن هناك قانونا طبيعيا كتب الله على نفسه اتباعه إلا عند ضرورة المعجزات. قالوا: فلا نؤمن بتغير القوانين الطبيعية إلا بالبرهان القاطع. (ج)
أنكر المعتزلة رؤية الجن كما يروي العامة، بل كانوا يؤنبون من اعتقد بها، أو اعتقد رؤيتها، أو حكى مشاهدة أعمالها. (د)
فسروا السحر بأنه لعب الساحر بعين المسحور أو بخياله؛ فالساحر لا يقلب حقائق الأشياء بدليل قوله تعالى:
سحروا أعين الناس واسترهبوهم (الأعراف: 116) فليس للساحر قدرة على قلب الحقائق، وإنما له قدرة على قلب أوهام الرائي. (ه)
أثاروا مسألة على جانب كبير من الأهمية من هذا الباب أيضا، وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وملخصها أنهم تساءلوا: هل العقل قادر وحده على أن يعرف أن الشيء حسن أو قبيح؟ فقالوا هم بذلك، أي أن العقل يمكنه وحده أن يدرك حسن الشيء أو قبحه، وأن يرى أن إنقاذ الغرقى والهلكى، وشكر المنعم، والصدق حسنة بطبعها، وأضدادها قبيحة. قالوا: نعم، إن هناك أشياء لا يدرك حسنها إلا بالشرع، كالصلاة في أوقاتها، وعدد ركعاتها، والمسح على الخفين، ونحو ذلك، أما أصول المسائل، كالصدق، والكذب، والعدل، والظلم، ونحوها، فيمكن إدراكها بالعقل.
أما مخالفوهم فقالوا: إذا لم يرد شرع فلا يتميز فعل عن فعل، ولا يمكن أن يعرف أحسن هو أم قبيح.
واحتج المعتزلة بأن الناس كلهم ... متدينين وغير متدينين ... متفقون على أشياء أنها حسنة، وأشياء أنها قبيحة. وقالوا: إن من استوى عنده أن يصدق ويكذب فضل الصدق إن كان فاضلا، وأن الرجل الغني الوجيه الذي ليس له رغبة في مال، ولا جاه لو رأى مشرفا على الهلاك أنقذه، ولو لم يعتنق دينا، إلى غير ذلك من البراهين.
وبناء على ذلك تساءلوا: هل الجاهليون قبل الإسلام مسئولون عن أعمالهم التي يدركها العقل، كالصدق، والكذب، والقتل، والعدل، أو غير مسئولين ...؟ فمن قال: إن العقل يدرك ذلك كله، ولو لم يرد فيه شرع جعلهم مسئولين، ومن لم يقل بذلك جعلهم غير مسئولين ... ومن ذلك اختلافهم أيضا في شكر المنعم: هل هو واجب عقلا أو شرعا؟؟ فالمعتزلة قالوا: إنه يجب شكر المنعم عقلا، والذين يقولون بالتحسين والتقبيح الشرعيين فقط أنكروا وجوب شكر المنعم عقلا. (و)
حكموا العقل حتى في الحديث، فهم لقولهم بسلطان العقل كانوا يعرضون الحديث على العقل، فما قبله العقل قبلوه، وما لم يقبله لم يقبلوه، وربما كان أصرحهم في ذلك النظام، فقد حكى الجاحظ
3
مثلا عنه ما معناه: أنه لما روي له حديث أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أمر بقتل الكلاب، واستحياء السنانير، والحديث عن السنانير: «أنهن من الطوافات عليكم»، لم يؤمن بهذا الحديث، وقال: إن السنور ليس له كبير نفع، وإنه كثير الأذى، وإن الكلب أنفع منه، فليس الحديث صحيحا، أما إن كان الحديث يقبله العقل، فالنظام يقبله، فإن عارضه العقل، ولم يجد له تأويلا، ولا سببا فإنه لا يقبله كما يستخلص من كلام ابن قتيبة في كتابه «تأويل مختلف الحديث». وكل هذه الفروع مبنية على أساس القول بسلطان العقل، ولهذا أباحوا لأنفسهم أن يفسروا القرآن بالعقل؛ اعتمادا على معرفتهم باللغة ، وأساليب القرآن وروحه، كما فعل الزمخشري في الكشاف، أما غير المعتزلة فأكثر اعتمادهم في التفسير على المنقول من الرواية.
حتى في باب اللغة والنحو كانوا يميلون إلى العقل، فزعيم القائلين بالقياس، واستعمال ما لم يرو العرب قياسا على ما رواه - وذلك من غير شك يحتاج إلى قوة عقلية لا مجرد رواية - هو أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، وهما من المعتزلة. (3) في الطبيعيات
أما آراؤهم في الأبحاث الطبيعية، فمثل أقوالهم في الروائح، والطعوم، والضوء؛ فقد أثار النظام أسئلة، وعرض آراء في ذلك: هل المشمومات، والطعوم، والأضواء أجسام أو أعراض؟ وهو يقول: إنها أجسام لا أعراض، بمعنى: أننا نشم الوردة لانبعاث ذرات صغيرة منها تلامس غدد الأنف؛ فيحدث الشم. وفي الطعوم كالسكر والملح تذوب ذرات منها، وتتصل بغدد الذوق؛ فيحصل الذوق بالحلاوة، أو الملوحة. وكذلك قال في الضوء، أي أن الشيء المرئي تنبعث منه ذرات تأتي إلى العين فتدرك بياض الشيء أو سواده، وهكذا.
والإنسان يعجب أولا من سعة عقلهم في التفكير، وثانيا من دخول هذه المباحث في علم الكلام. وقد أقر العلم الحديث نظرية النظام هذه في المشمومات؛ فهو يقول: إننا نشم رائحة الوردة الجميلة بناء على ذرات انبعثت من الورد، فلامست الخيشوم، وإنا إنما نتذوق حلاوة الشيء، أو مرارته بناء على ذوبان ذرات تلامس غدد الذوق، فإذا لم تتحلل الذرات كالحصى أو الماس مثلا لم ندرك لها ذوقا.
أما العلم الحديث، فيخالف النظام في نظريته في الضوء، فليست تنبعث ذرات إلى العين - كما يقول - فيدرك بياض الشيء أو سواده، ولكن علة رؤية اللون أبيض أو أزرق هي أن كل لون يتشرب ألوان الطيف ما عدا اللون الذي يرى، فالأحمر مثلا يتشرب ألوان الطيف كلها ما عدا الحمرة، فتصل إلى العين عن طريق الموجات. فترى هذه المسائل الطبيعية أو الفيزيقية، كالبحث في الطعوم، والروائح، والألوان، ما دخلها في الدين، وعلم الكلام؟ والظاهر لنا أن الذي ألجأ إليها المناقشات الدينية، فمثلا: لما تعرضوا لخلق الأفعال تساءلوا: هل خلق الله الجسم والعرض ، أو خلق الجسم، وليس العرض إلا صفة من صفاته؟ فجرهم ذلك إلى البحث في الروائح مثلا، هل هي أجسام، أو هي أعراض تابعة للأجسام؟ فلم يتكلموا فيها كما يتكلم علماء الطبيعة اليوم، إنما تكلموا فيها لأنها متصلة بعقيدة من العقائد الدينية من قريب أو من بعيد، وهكذا شأنهم في كل ما تكلموا فيه من أمور الطبيعة حسب ما نعتقد.
والواقع أن المعتزلة في علم الكلام لم يكن موقفهم كموقف من يؤلف كتابا فيختار مناهجه، ويرتب أبوابه، إنما كانوا يتكلمون في المسائل حسب ما تقتضيه الأحوال من مهاجمتهم لخصومهم، أو مهاجمة خصومهم لهم، أو نحو ذلك، كالجيش في القتال، قد يضطر إلى عمل لم يكن رسم خطته من قبل، ولكن اضطره إليه حركة من حركات خصومه.
إلى جانب ذلك نراهم تعرضوا لمسائل تكاد تكون سوفسطائية مثل: الإله قادر على الظلم أو لا؟ هل الجنة موجودة اليوم أو لا؟ هل قدرة الله تتعلق بالمحال؟ هل الكافر قادر على الإيمان، والمؤمن قادر على الكفر؟ إلى كثير من أمثال ذلك. وكان من قولهم، وقول خصومهم أن تكون علم الكلام؛ فعلم الكلام وليد أقوال المعتزلة وخصومهم، حتى أهل السنة وأئمتهم كأبي الحسن الأشعري ما كانوا يبحثون مسائلهم لولا أبحاث المعتزلة، كما سنبين ذلك في الكلام على أبي الحسن الأشعري.
والظاهر أن هذه الحركة الكلامية كانت في منتهى النشاط في الدوائر العلمية، كما نرى ذلك في حركة خلق القرآن، وفي المناظرات في مجالس الخلفاء، وفي المساجد، وفي الشوارع، وفي الجنائز، وكانت كل هذه الأشياء تأخذ من أزمانهم وعقولهم الوقت الطويل، والمجهود الكبير، فلما جاء المتوكل، واضطهد المعتزلة، وأزال دعوتهم، خفت صوت علم الكلام بعض الشيء، ومن كان معتزليا رجع عن اعتزاله أحيانا، وتستر أحيانا، إلا من كان جريئا لا يتصل بالدولة من قريب أو من بعيد، أو كان في حمى دولة تكره الاعتزال، كما سنبينه بعد. (4) في المسائل السياسية
وأما المجموعة الرابعة، وهي المسائل السياسية؛ فقد تعرضوا للإمامة، ومن هو أحق بها، وتعرضوا للأحداث السياسية كواقعة الجمل، ومقتل عثمان، والخلاف بين علي ومعاوية، وشرحوها كلها تشريحا دقيقا. وكان المعتزلة مختلفين في ذلك، فمنهم من قال بأفضلية علي، واستحقاقه الخلافة لمجموع صفات فيه، ولكنهم قالوا ذلك باعتدال؛ فعرفوا لأبي بكر وعمر مزاياهما، وقالوا بصحة خلافتهما، وإن كان الأولى غير ذلك، فكانوا بذلك قريبين من الشيعة، بعيدين عن الروافض، وهم الذين رفضوا القول بإمامة أبي بكر وعمر، وتبرءوا منهما، ومن أجل ذلك نرى بعض الناس شيعيا معتزليا معا، وبعض المعتزلة قال بغير ذلك؛ فكان معتزليا لا شيعيا. ونحن ننقل الآن بعض أقوالهم الدالة على مذاهبهم. (4-1) في الإمامة
لقد بحثوا في الإمامة، ومعنى الإمامة: الولاية على المسلمين، والمعتزلة يوافقون المتكلمين الآخرين، ما عدا أتباع نجدة من الخوارج، إذ يقول المعتزلة وغيرهم بوجوب انقياد الأمة لإمام عادل، يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة، بدليل قوله تعالى:
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (النساء: 59) ولأن من طبيعة الناس أن، يزعهم السطان أكثر مما يزعهم القرآن، فلا بد من وال تسند إليه الأحكام في الأموال، والزواج، والطلاق، ومنع الظالم، وإنصاف المظلوم ... إلخ، وخير أن يكون الإمام واحدا حتى لا يتنازعا، ولا بد أن يكون فاضلا، عالما، حسن السياسة، قادرا على التنفيذ. وبعد ذلك اختلف المعتزلة فيما بينهم، فقال بعضهم بتفضيل أبي بكر وعمر على علي، وخالفوا بذلك الشيعة، وقال بعضهم بأفضلية علي؛ فوافقوا بذلك الشيعة. فقدماء المعتزلة من البصريين كعمرو بن عبيد، وإبراهيم النظام، والجاحظ، وثمامة بن الأشرس، قالوا: إن أبا بكر أفضل من علي، وجعلوا ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة. وقال البغداديون من المعتزلة كبشر بن المعتمر، وأبي جعفر الإسكافي، وأبي الحسين الخياط، وأبي القاسم البلخي، والجبائي: إن عليا أفضل من أبي بكر، فكانوا في ذلك كالشيعة. ولكن سواء منهم من قدم أبا بكر، أو قدم عليا، فقد كانوا معتدلين في حكمهم إذ يقولون: سواء كان أبو بكر أفضل، أو علي أفضل، فالبيعة لأبي بكر وعمر كانت بيعة صحيحة، قالوا: ألا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان ، أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة، فيجعل السلطان الأنقص علما منهما قاضيا؛ فيتألم الأعظم، وينفث أحيانا بالشكوى، فلا يكون ذلك طعنا في القاضي الثاني، ولا حكما بأنه غير صالح، وهذا أمر مركوز في طبائع البشر، ومجبول في أصل الغريزة والفطرة، فأصحابنا لما أحسنوا الظن بالصحابة، وحملوا ما وقع منهم على وجه الصواب، وأنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام، وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة، فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر فعقدوا له، كان ذلك عقدا صحيحا، وقالوا: إنه كان يجب على علي أن يعذر الصحابة الذين بايعوا أبا بكر في العدول عنه، ويعلم أن عقدهم لغيره هو المصلحة للإسلام، فلا يشكوا منهم، ولا يتوجد عليهم.
ثم إن المعتزلة فيما بينهم تنازعوا تنازعا شديدا في أفضلية أبي بكر أو علي، ونسوق هنا مثلا لما كان بينهم من جدل، وذلك هو الجدل بين الجاحظ والإسكافي، وكلاهما معتزلي.
يقول الجاحظ في كتابه المشهور بكتاب «العثمانية»: إن أبا بكر أسلم وهو ابن أربعين سنة، وعليا أسلم ولم يبلغ الحلم، فكان إسلام أبي بكر أفضل، وهو أول من أسلم على أصح الروايات، وعلي أسلم وهو حدث غرير، وطفل صغير، فلم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين؛ لأن المقلل قال: إن عليا أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين. وأيا كان فإسلام الكبير الناضج الذي يفقه معنى الإسلام خير من إسلام الصبي.
وقد رد عليه الإسكافي في ذلك بأنه لم يكن طفلا يوم أسلم، ودعوى أنه أسلم وهو طفل دعوى غير مقبولة، والإسلام والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية إنما تقع على البالغين دون الأطفال، بدليل عرض النبي - عليه السلام - وهو لا يعرضه على صبي.
وقال الجاحظ: لو أن عليا كان بالغا حين أسلم، لكان إسلام أبي بكر أفضل؛ لأن إسلام المتقدم في السن الذي يعاني مئونة الروية، واضطراب النفس، ومشقة الانتقال من دين قد طال الفهم له، خير من إسلام من نشأ في بيئة إسلامية، ولم يعان مثل ما عانى أبو بكر.
قال الإسكافي: إن عليا لم يولد في دار الإسلام، ولا غذي في حجر الإيمان، وإنما استضافه رسول الله إلى نفسه سنة القحط، والمجاعة، وعمره يومئذ ثمان سنين، فمكث معه سبع سنين حتى أتى النبي الوحي، وهو بالغ، كامل العقل، فأسلم بعد مشاهدة المعجزة، وبعد إعمال النظر والفكر، فإن كان علي أجابه فإنما أجابه عن نظر، ورؤية معجزة. وقد كان أبو بكر قبل إسلامه رئيسا معروفا، يجتمع إليه كثير من أهل مكة، فينشدون الأشعار، ويتذاكرون الأخبار، وقد سافر إلى البلدان، ووصلت إليه الأخبار، وعرف دعوى الكهنة، وحيل السحرة، ومن كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر، والإسلام عليه أسهل، والخواطر على قلبه أقل. وكل ذلك عون لأبي بكر على الإسلام، ولذلك لما قال النبي: أتيت بيت المقدس، سأله أبو بكر عن المسجد، ومواضعه؛ فصدقه، وبان له أمره، وخفت مئونته.
أما علي فقد خلي وعقله، وألجئ إلى نظره مع صغر سنه، واعتلاج الخواطر على قلبه، والغالب على أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو، فآمن بما ظهر له من دلائل الدعوة، ولم يتأخر إسلامه، فقهر شهوته، وغالب خواطره. وخرج من عادته، وعظم استنباطه، ورجح فضله، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تنعم فيها بنعيم، وحمى نفسه عن الهوى، وكسر شرة حداثته بالتقوى.
واحتج الجاحظ بأنه كان لعلي ظهر يحميه كأبي طالب وبني هاشم، ولم يكن لأبي بكر شيء من ذلك. ورد الإسكافي بأنه لو كان ذلك صحيحا لأضعف ذلك من نبوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أبا طالب ظهره، وبني هاشم ردؤه.
قال الجاحظ: ولأبي بكر فضيلة في إسلامه: أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق، عريض الجاه، ذا يسار وغنى، يعظم لماله، ويستفاد من رأيه، فخرج من عز الغنى، وكثرة الصديق إلى ذل الفاقة، وعجز الوحدة. وهذا غير إسلام من لا عز له، ولا جاه له. وزد عليه أن علي بن أبي طالب إن لم يكن قد شهره سنه، فقد شهره نسبه، وموضعه من بين هاشم، فليس تيم في بعد الصيت كهاشم، ولا أبو قحافة كأبي طالب.
قال أصحاب علي: إنكم تثبتون لأبي بكر فضيلة صحبة الرسول
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى يثرب، ودخوله معه في الغار، وقلتم: إنه كان شريكه في الهجرة، وأنيسه في الوحشة، فأين هذه من صحبة علي - عليه السلام - له في خلوته، وحيث لا يجد أنيسا غيره في ليله ونهاره أيام مقامه بمكة يعبد الله معه سرا، ويتكلف له الحاجة جهرا، ويخدمه كالعبد يخدم مولاه، ويشفق عليه ويحوطه. ولئن صحب أبو بكر رسول الله في رحلته، فإن عليا نام موضع رسول الله حين أراد الهجرة، ولولا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
علم أنه أهل لذلك لما أهله له، ولو كان عنده نقص في صبره، أو في شجاعته، أو في مناصحته لابن عمه لما اختاره لذلك، وقد كان لعلي أن يعتل بعلة، أو نحو ذلك.
وقد عقد الجاحظ فصلا طويلا بين مبيت علي موضع الرسول، وبين مبيت أبي بكر في الغار، ورد عليه الإسكافي ردا طويلا، ثم أطال الجاحظ في ذكر فضائل لأبي بكر من شجاعة، وسخاء بالمال، وغير ذلك، فرد عليه الإسكافي بالموازنة بين شجاعة أبي بكر، وعلي، وموقف هذا وموقف ذاك ... إلخ. كما جرهم ذلك إلى البحث في صحة إمامة المفضول، وسبب ذلك: أن الروافض قالوا بوجود نص من النبي على خلافة علي؛ لأنه أفضل الصحابة، فتولية من هو أقل منه فضلا باطلة. فقال جمهور المعتزلة: إن ولاية المفضول صحيحة، ولذلك كانت ولاية أبي بكر، وعمر، وعثمان صحيحة، حتى ولو كان علي أفضل منهم.
واستدلوا بجملة أدلة: منها أن أبا بكر قال يوم السقيفة: «قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ...» يعني أبا عبيدة، وعمر، وأبو بكر أفضل منهما، ولم يقل أحد من المسلمين إذ ذاك إنه لا يحل في الدين ذلك، ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة، ولا شك أن غيره في المسلمين من هو أفضل منه. ولما عهد عمر إلى ستة رجال كان جائزا بالضرورة أن يكون بعضهم أفضل من بعض، فإذا وقع الاختيار على المفضول كان تنفيذا لقول عمر. وقد سلم الحسن الأمر إلى معاوية، وهو يعتقد من غير شك أنه خير منه، فقالوا: إن الصحابة تفرقوا في البلدان وهم كثير. فتقييد الإمامة بالأفضل تعجيز، خصوصا أن الصحابة تفرقوا في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس إلى أقصى اليمن، إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان، فكيف يعرف حالهم، ثم كيف يعرف أفضلهم، ثم نحن لو سئلنا عن معارفنا وأصحابنا: أيهم أفضل؟ لصعب الجواب، والرسول
صلى الله عليه وسلم
قد قلد كثيرا من الصحابة كثيرا من البلدان، فاستعمل على اليمن معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري، وخالد بن الوليد، وعلى عمان عمرو بن العاص، وعلى نجران أبا سفيان، وعلى مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي.
ولا خلاف في أن كثيرا من الصحابة أفضل منهم كأبي بكر، وعمر، وعثمان ، وعلي، وطلحة، والزبير. وأيضا فإن الفضائل كثيرة، منها العفة عما في أيدي الناس، ومنها الشجاعة والإقدام، ومنها الحزم والبت في الأمور، وقلما تجتمع هذه الصفات الفاضلة في أحد، فقد يكون بعضها في بعض، وبعضها في البعض الآخر، ففي أيها يراعى الفضل؟
وفي الحقيقة للولاية صفات لا بد منها في الوالي، كالسياسة، وحسن تدبير الأمور، وقد يكون شخص أفضل من نواح أخرى كثيرة غير هذه، ثم لا يصلح أن يكون واليا، فلا بد لاستقامة الأمور من القول بصحة إمامة المفضول حتى تسير الأمور ولا تتعطل. (4-2) جواز خطأ الصحابة
وقد وضع المعتزلة لأنفسهم مبدأ هاما جدا، وهو أن الصحابة ليسوا معصومين، وأن الخطأ يجوز عليهم، سواء في ذلك كبيرهم وصغيرهم، وقد مكنهم هذا المبدأ من الحرية في نقد أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، كما مكنهم من تحليل الأحداث التاريخية، عكس ما قاله أهل السنة من الكف عن نقد الصحابة بالإجمال.
وقد استدل المعتزلة على ذلك بما كان من نقد الصحابة بعضهم لبعض، حتى لقد يبلغ النقد أحيانا مبلغ السباب، فلما عهد أبو بكر بالخلافة لعمر قال طلحة: «ماذا تقول لربك إذا سألك عن عباده، وقد وليت عليهم فظا غليظا؟» فهل قول طلحة هذا إلا طعن في عمر. وقد روي أنه كان بين أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود سباب شديد. وروي أن عثمان قال لعبد الرحمن بن عوف: يا منافق، فقال عبد الرحمن: «ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لي عثمان يا منافق ... والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما وليت عثمان شسع نعلي ... اللهم إن عثمان قد أبى أن يقيم كتابك، فافعل به وافعل.» وروي أن عثمان قال لعلي في كلام دار بينهما: «أبو بكر وعمر خير منك. فقال علي: كذبت، أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما.» وقد أنكرت عائشة على أبي سلمة قوله في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل. وروى بعض الصحابة عن النبي أنه قال: «الشؤم في ثلاثة: المرأة، والدار، والفرس»؛ فأنكرت عائشة ذلك، وكذبت الراوي، وقالت: إنه إنما قال - عليه السلام - ذلك حكاية عن غيره. وروى بعض الصحابة أن النبي قال: «التاجر فاجر»؛ فأنكرت عائشة ذلك، وكذبت الراوي، وقالت: إنما قال ذلك في تاجر دلس. وأنكر قوم من الأنصار رواية أبي بكر: «الأئمة من قريش»، وقالوا: «إنه اختلق هذه الكلمة». وباع معاوية أواني ذهب وفضة بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله ينهى عن ذلك، فقال معاوية: أما أنا فلا أرى به بأسا. فقال أبو الدرداء: «من عذيري من معاوية، أخبره عن الرسول وهو يخبرني عن رأيه ... والله لا أساكنك بأرض أبدا.» وقال علي لعمر، وقد أفتاه الصحابة في مسألة، وأجمعوا عليها: «إن كانوا راقبوك فقد غشوك، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا.» وأنكرت الصحابة على أبي موسى قوله: «إن النوم لا ينقض الوضوء.» ولم يصدقوا الخبر المروي عن رسول الله: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم.» وقالوا: هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى، وكيف يكون ذلك؟ وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذان كانا يلعنان عليا وولديه على هدى. وقد كان في الصحابة من يشرب الخمر كأبي محجن الثقفي، ومن يرتد عن الإسلام كطليحة بن خويلد، وإنما هذا الحديث من موضوعات متعصبة الأموية، فإن لهم من ينصرهم بلسانه، وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.
وقال: إنه يجوز الخطأ على الصحابة بدليل أن جماعة من كبار الصحابة حاصروا عثمان وهذا خطأ، وهذا المغيرة بن شعبة، وهو من الصحابة ادعي عليه بالزنا، وشهد عليه قوم بذلك، فلم ينكر ذلك عمر، ولا قال هذا محال؛ لأن هذا صحابي. وقدامة بن مظعون لما شرب الخمر في أيام عمر أقام عليه الحد، وهو رجل من علية الصحابة من أهل بدر المشهود لهم بالجنة، فلم يرد عمر الشهادة، ولا درأ عنه الحد، وقد ضرب عمر أيضا ابنه حدا فمات، وكان ممن عاصر رسول الله، ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحد عليه. وهذا علي يقول: ما حدثني أحد بحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلا استحلفته عليه، واستحلافه عليه معناه اتهامه بالكذب، وما استثنى أحدا من المسلمين إلا أبا بكر، وقد صرح غير مرة بتكذيب أبي هريرة، وقال: لا أحد أكذب من هذا الأوسي على رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو بكر في مرضه الذي مات فيه: وددت أني لم أكشف بيت فاطمة، ولو كان أغلق على حرب. فندم، والندم لا يكون إلا عن ذنب. وقد تأخر علي عن البيعة لأبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة، فإن كان مصيبا فأبو بكر على خطأ في انتصابه على الخلافة، وإن كان أبو بكر مصيبا فعلي على الخطأ في تأخره عن البيعة. وقال أبو بكر في مرض موته: «لما استخلفت عليكم خيركم في نفسي - يعني عمر - فكلكم ورم أنفه، يريد أن يكون الأمر له لما رأيتم الدنيا قد جاءت، أما والله لنتخذن ستائر الديباج، ونضائد الحرير.» وهذا طعن في الصحابة إذ نسبهم لحسد عمر. وكان بين أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود سباب كثير، حتى نفى كل واحد منهما الآخر عن أبيه. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: «كنت عند عروة بن الزبير فتذاكرنا: كم أقام النبي بمكة بعد الوحي، فقال عروة: أقام عشر سنين، فقلت: كان ابن عباس يقول: ثلاث عشرة سنة. فقال: كذب ابن عباس». وقال ابن عباس: المتعة حلال، فقال له جبير بن مطعم: كان عمر ينهى عنها، فقال: يا عدو نفسه، من ههنا ضللتم، أحدثكم عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وتحدثني عن عمر؟!
وسب بعض الصحابة لبعض، وقدح بعضهم لبعض في المسائل الفقهية أكثر من أن يحصى ... مثل قول ابن عباس، وهو يرد على زيد مذهبه العول في الفرائض: «من شاء باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا أعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا، هذان النصفان قد ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟؟» وقال علي في أمهات الأولاد، وهو على المنبر ، كان رأيي ورأي عمر أن لا يبعن، وأنا أرى الآن بيعهن، فقام إليه أبو عبيدة السلماني، فقال: «رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة.»
وكان أبو بكر يقضي القضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة، كبلال وصهيب وغيرهما. وقيل لابن عباس: إن عبد الله بن الزبير يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل. فقال: كذب عدو الله. وطعن ابن عباس في أبي هريرة إذ يروي أن رسول الله قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخلن يده في الإناء حتى يتوضأ»، وقال: فما نصنع بالمهراس؟! وقال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا؟ وقال جرير بن كليب: رأيت عمر ينهى عن المتعة، وعليا يأمر بها، فقلت: إن بينكما لشرا، فقال علي: ليس بيننا إلا الخير، ولكن أخيرنا أتبعنا للدين. قالوا: فكيف يصح أن يقول رسول الله: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم»؟ قلنا لهم: إن هذا من موضوعات متعصبة الأموية، فإن لهم من ينصرهم بلسانه، وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف. ومثل هذا: «خير القرون قرني»، ومما يدل على بطلانه أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا، وهو أحد القرون الذي ذكره النص، فهو القرن الذي قتل فيه الحسين، وحوصرت فيه مكة، ونقضت فيه الكعبة، وشربت الخلفاء، والقائمون مقامهم والمنتصبون في منصب النبوة الخمور، وارتكبوا الفجور، كما جرى ليزيد بن معاوية، والوليد بن يزيد، وأريقت الدماء الحرام، وقتل المسلمون وسبي الحريم، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار، ونقش على أيديهم كما ينقش في أيدي الروم، وذلك في خلافة عبد الملك بن مروان والحجاج، وإذا تأملت كتب التاريخ وجدت أن الخمسين سنة التالية كلها لا خير فيها، ولا في رؤسائها، ولا أمرائها، فكيف يصح الخبر، ولو كان هذا صحيحا، وأن الصحابة لا يخطئون لما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء، بل كان الرسول من أول الأمر يعلم كذب أهل الإفك، وصفوان بن المعطل من الصحابة، فكان ينبغي أن لا يضيق صدر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا يحمل الهم والغم الشديدين، وكان يقول: صفوان من الصحابة، وعائشة من الصحابة، والمعصية منهما ممتنعة.
قالوا: وقد كان التابعون يسلكون في الصحابة هذا المسلك، وينقدون بعضهم، ويحكمون بعصيان بعضهم، وإنما قدسهم العامة بعد ذلك، وكيف نقول: إن الصحابة لا يجوز عليهم الخطأ، والله تعالى يقول لنبيه:
ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (الزمر: 65) و
فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله (ص: 26).
4
وقد نفذ المعتزلة هذا المبدأ بالفعل، فقد روي عن النظام من ذلك الشيء الكثير. وقال الجاحظ في كتابه المعروف بالتوحيد: «إن أبا هريرة ليس بثقة في الرواية»، وانتقد عمر بن عبد العزيز في بعض أعماله، وقد فتح هذا أيام المعتزلة بابا واسعا، فقالوا أقوالا كثيرة تحرج عنها غيرهم، فمثلا: أنكر النظام الإجماع، وقال: إنه ليس بحجة، وجره ذلك إلى القول بعيوب الصحابة، ولم يتورع عن الطعن الشديد اللهجة.
والحق أيضا أن المعتزلة تألفت منهم في ذلك فرق، ففرق تنتقد حسبما تعتقد، وفرق ترد على النقد حسبما تعتقد أيضا، والكل أحرار، فمثلا نقد بعضهم أبا بكر نقودا كثيرة، ورد بعضهم عليها، ونقدوا عمر، وعثمان، وعليا، ورد الآخرون عليهم، ووقفوا عند قول عمر: «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة.» فهل معنى فلتة زلة وخطيئة؟ وقال أبو علي الجبائي المعتزلي: «إنها ليست بمعنى زلة، وإنما بمعنى بغتة، يريد عمر أنها حصلت فجأة، ولكن الله تعالى دفع شرها، ولذلك قال عمر: فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، وهذا تحذير عن أن يبايع الناس من غير مشاورة.»
وقد جرهم ذلك إلى تعمق في التحليل النفسي، للكراهة مثلا التي بين عائشة وعلي، وعائشة وفاطمة، ولم كانت العرب تكره أن يكون علي خليفة؟ إلى أشياء كثيرة من هذا القبيل. (4-3) المقارنة بين سياسة عمر، وسياسة علي
ووقفوا عند المقارنة بين سياسة عمر وسياسة علي، ولم كانت سياسة عمر ناجحة وسياسة علي فاشلة، ولم قال الناس: إن عمر كان أسوس، وإن عليا كان أعلم ؛ بل قالوا إن معاوية كان أسوس من علي، وأصح تدبيرا. وقالوا: إن النجاح في السياسة لا يمكن إلا إذا كان السائس يعمل برأيه أحيانا، وبما يرى فيه صلاح ملكه، وتمهيد أمره، وتوطيد قاعدته، سواء وافق الشريعة، أو لم يوافقها، وإلا لم ينتظم أمره.
وعمر كان مجتهدا يعمل بالقياس والاستحسان، ويرى تخصيص النص بالرأي، ويكيد لخصومه، ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة، ويؤدب بالدرة، ويصفح عن قوم اجترموا، كل ذلك بقوة اجتهاده، وما يؤديه إليه نظره.
هذه كانت سياسته، أما علي فكان يقف مع النصوص والظواهر، ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة، ولا يضع، ولا يرفع إلا بالكتاب والنص، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة. وعمر كان شديدا، وعلي كان كثير الحلم، فازدادت خلافة عمر قوة، وازدادت خلافة علي خلافا. زد على ذلك ما حدث من الفتن الكثيرة أيام علي من فتنة قتل عثمان، وفتنة الجمل، وفتنة صفين، فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة.
وقد رد على هذا القول بأن الرسول
صلى الله عليه وسلم
كان يلتزم الدين بالضرورة، ويدبر أموره وفقا للدين، ولم يكن الخلاف عليه كالخلاف على علي، ولم يكن اتباعه للدين سببا في ضعف سياسته.
وأجابوا بأن النبي كان يتصرف عن وحي، والله يقول:
لتحكم بين الناس بما أراك الله (النساء: 105) قالوا: وليس بصحيح أن الناس لم يختلفوا على رسول الله كما اختلفوا على علي؛ فالقرآن مملوء بذكر المنافقين والشكوى منهم، والتألم من أذاهم. وكثير من المسلمين التووا عليه في الحروب، وكثير نازعوا في الأنفال، وطلبوها لأنفسهم، وكرهوا لقاء العدو، وقال الله فيهم:
كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (الأنفال: 6) وعلى الجملة، ففي القرآن كثير من الشكوى من المنافقين وغيرهم، فلئن كان عمر ومعاوية أسوس من علي، فسبب ذلك حريتهم أمام الدين حيث يتقيد علي بنصوص الدين. (4-4) العداء بين عائشة وعلي
وحللوا العداء بين عائشة من جهة، وعلي وفاطمة من جهة أخرى، فقال بعضهم: أول بدء هذه العداوة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تزوج عائشة عقب موت خديجة فأقامها مقامها، وفاطمة هي ابنة خديجة. ومعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها، وتزوج أبوها أخرى كان بينها وبين المرأة كدر وبغض؛ لأن الزوجة تنفس عليها ميل الأب إليها، والبنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غير أمها. وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يظهر حب عائشة فيزداد ما عند فاطمة، ويكرم فاطمة إكراما شديدا، فيزيد ما عند عائشة. وكان رسول الله يقول عن فاطمة: «إنه يؤذيني ما يؤذيها، ويغضبني ما يغضبها.» فيزيد ذلك من غيظ عائشة، فلما تزوج علي فاطمة بالطبيعة تسر إليه ما في نفسها من عائشة، كما أن عائشة كانت تسر إلى أبيها أبي بكر ما في نفسها من فاطمة؛ ولذلك لم تحسن الصلة أيضا بين علي وأبي بكر. ولما حدثت حادثة الإفك قال علي للنبي
صلى الله عليه وسلم
لما استشاره: إن النساء غيرها كثير، وقد جرت العادة أن الناس لا يتورعون عن نقل أحاديث هذا إلى ذاك، أو هذه إلى تلك، بل ربما يزيدون عليها ما يوسع شقة الخلاف.
كل ذلك زاد من بغض كل لصاحبه ، ثم إن فاطمة ولدت أولادا كثيرة بنين وبنات، ولم تلد عائشة ولدا، وكان رسول الله يقيم بني فاطمة مقام بنيه، والزوجة إذا حرمت الولد لم تحب أولاد بنت زوجها، وحدث أن رسول الله سد باب أبي بكر إلى المسجد، وفتح باب علي، فعمل ذلك في نفسها، وحدث أيضا أن ولد لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
إبراهيم من مارية، فأظهر علي السرور بذلك كثيرا، غيظا في عائشة، وكان علي يتعصب لمارية، ويقول بأمرها عند رسول الله، فكان ذلك يوغر صدر عائشة، ثم مات إبراهيم فأبطنت فاطمة وعلي الشماتة، وإن أظهرا كآبة ...
وهكذا من التحليلات الدقيقة التي قامت مقام ما يفعله علماء النفس اليوم في تعليل الحوادث من جهة، ومن جهة أخرى تدل على أن كثيرا من المعتزلة شرحوا الحوادث بين كبار الصحابة، حتى في امرأة النبي
صلى الله عليه وسلم ، كما يشرحون الحوادث العادية من غير فرق.
هذه أمثلة مختلفة من الاتجاهات التي كان يتجهها المعتزلة: فأمور ميتافيزيقية، وأمور فيزيقية، وأمور في الفقه والحديث والأصول، وأمور في السياسة، وقد كان يمكن أن تكون الأمور السياسية أبحاثا خارجة عن الدين كما تبحث المسائل السياسية اليوم، ولكنهم ألصقوها بالدين بالحكم على الموافق منهم لآرائهم بالصلاح والتقوى، والمخالف لآرائهم بالفسوق والعصيان. وكثيرا ما كانوا إذا تعرضوا لعمل من أعمال الصحابة حكموا بعصيانه، أو بعدم عصيانه، وبأنه يستحق الجنة أو النار، وبأن عمله يوافق الدين أو يخالفه، وسلك خصومهم مسلكهم، فكان من ذلك أن اصطبغت الأمور السياسية بالصبغة الدينية.
هوامش
الفصل الثالث
بين الشيعة والمعتزلة
اختلف الشيعة والمعتزلة في الأجل، فقالوا: لو لم يقتل القاتل المقتول، هل كان يجوز أن يبقيه الله تعالى؟ فقال أبو الهذيل العلاف بموته لو لم يقتله القاتل، وليس يجوز أن يكون الله تعالى قد أجل أجله، ثم يقتل قبل بلوغه، أو يخترم دونه، ولا أن يتأخر عما أجل له. وحجته في ذلك توبيخ الله المنافقين على قولهم:
لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا (آل عمران: 156)، فقال تعالى:
لقل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (آل عمران: 168)؛ فدل على أنهم لو تجنبوا مصارع القتل لم يكونوا ليدرءوا ذلك الموت عنهم. وقالت الأشعرية والجهمية والجبرية: إنها آجال مضروبة محدودة، وإذا أجل الأجل، وكان في المعلوم أن بعض الناس يقتل، وجب وقوع القتل منه لا محالة، وليس يقدر القاتل على الامتناع عن قتله.
وقال قوم من معتزلة البغداديين بالقطع على حياته لو لم يقتله قاتل، وهذا عكس ما ذهب إليه أبو الهذيل، ومن والاه. قالوا: لو لم يمت المقتول في ذلك الوقت إذا لم يقتله القاتل، لما كان القاتل مسيئا إليه إذ لم يفوت عليه حياة، لو لم يبطلها لبقيت، لما كان القاتل مسيئا إليه إذ لم يفوت عليه حياة، لو لم يبطلها لبقيت، ولما استحق القود، ولكان ذابح الشاه بغير إذن مالكها قد أحسن إلى مالكها؛ لأنه لو لم يكن قد ذبحها ماتت فلم ينتفع بلحمها. قالوا: فإذا قال لنا: فهل تقولون إنه قطع عليه عمره؟ قلنا: إن الزمان الذي كان يعيش فيه لو لم يقتله القاتل، لا يسمى عمرا إلا على سبيل المجاز، وإنا نقطع على أنه إن لم يقتل لمات. وقال قدماء الشيعة: الآجال تزيد وتنقص، ومعنى الأجل الوقت الذي علم الله تعالى أن الإنسان يموت فيه إن لم يقتل قبل ذلك، أو لم يفعل فعلا يستحق به الزيادة أو النقصان في عمره. قالوا: وربما يقتل الإنسان الذي صرف له من الأجل خمسون سنة وهو ابن عشرين، وربما يفعل من الأفعال ما يستحق به الزيادة فيبلغ به مائة سنة، أو يستحق به النقص فيموت وهو ابن ثلاثين سنة. قالوا: فمما يقتضي الزيادة صلة الرحم، ومما يقتضي النقيصة الزنا، وعقوق الوالدين. قالوا: ومما يدل على ذلك قوله تعالى:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب (البقرة: 179)؛ فحكم سبحانه بأن إثبات القصاص مما يمنع القاتل عن القتل؛ فتدوم حياة المقتول، فلو كان المقتول يموت لو لم يقتله القاتل، ما كان في إثبات القصاص حياة، وأما إلزام القاتل القود والغرامة فلأنا لا نقطع بموت المقتول لو لم يقتل، بل يجوز أن يبقى.
ويرى المعتزلة أيضا أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه، ولولا ذلك لتعذر عليه، وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد، أحدهما في المشرق، والآخر في المغرب؛ لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد. ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضون للأرواح عند انقضاء الأجل، وإنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى به، وهو حضور الأجل، فألزموا أن يغوص الملك مع الفريق ليقبض روحه تحت الماء، وقالوا: ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسامه، فإن فيه مسام ومنافذ.
الفصل الرابع
رجال المعتزلة في دور الضعف
وفي دور ضعف المعتزلة، وذهاب دولتهم ظهر أعلام قلائل كانوا أكفاء لرفع راية الاعتزال.
نذكر منهم: أبا القاسم البلخي، وأحيانا يلقب بالكعبي، وقد كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم الكعبية، وله مقالات كثيرة في الاعتزال، ومات سنة 217ه.
ومنهم التنوخي، وقد تلقب بهذا اللقب أكثر من واحد، وكلهم معتزلة.
ومنهم أبو علي الجبائي، وهو أستاذ أبي الحسن الأشعري إمام أهل السنة، كان رئيس المعتزلة نسبة إلى جبي من أعمال خوزستان، مات سنة 303ه، وقد رد أيضا على ابن الراوندي، ولما خرج الأشعري رد عليه، ولكن مع الأسف لم يصلنا شيء من ذلك، ولا من تفسيره للقرآن على مذهب الاعتزال، وأظن أن الزمخشري قد استفاد منه بعد في تفسيره، وكثيرا ما يخلط الناس بينه وبين ابنه أبي هاشم الجبائي، وقد كان أيضا عالما كبيرا من علماء المعتزلة، وإليه تنسب فرقة معتزلية تسمى «البهشمية» نسبة إلى أبي هاشم، وقد انتشرت كثيرا في الري، وما حولها بسبب تأييد الصاحب ابن عباد الوزير البويهي له.
ولما ضعفت الدولة العباسية، واختل نظامها، جاءت الدولة البويهية، وذلك أن الخليفة العباسي المستكفي جعل أحمد بن بويه أميرا للأمراء، وأنعم عليه بلقب معز الدولة، وكان يدعي الانتساب إلى ملوك ساسان؛ فتسلط هو وإخوته على الخلفاء، يعزلونهم إن شاءوا، ويبقونهم إن شاءوا، ووسعوا سلطانهم فأخذوا أصبهان وشيراز، حتى بلغوا الأهواز، وألفوا دولة اتخذوا عاصمتها شيراز. والذي يهمنا هنا أن دولة بني بويه كانت دولة شيعية تتظاهر بشعائر الشيعة جهارا، وتحتفل بالأعياد الشيعية، كإقامة المناحة في عاشوراء حدادا على الحسين، وتحتفل بعيد الغدير، إلى غير ذلك ...
وكان أهم أمرائهم وألمعهم عضد الدولة، وقد كان يقيم في شيراز، ولكن لم يمنعه ذلك من إصلاح بغداد، وإنشاء عدد كبير فيها من المساجد والمستشفيات. ومما خدم به التشيع إنشاؤه مشهد علي، وقد كان يرعى العلم والأدب، وينفق فيهما الأموال الكثيرة، وإذ كانت دولة بني بويه شيعية كما ذكرنا، وكان قسم كبير من المعتزلة شيعيا أيضا، أفسحت الدولة البويهية صدرها للمعتزلة، فوجدنا الاعتزال يترعرع فيها، فابن العميد الذي كان واليا للبويهيين على إقليم الري كان معتزليا.
الفصل الخامس
القاضي عبد الجبار
وابن عباد أعظم وزراء البويهيين كان معتزليا أيضا، وكان يقرب العلماء والأدباء، وقالوا: إنه كان يرسل إلى بغداد كل سنة خمسة آلاف دينار لتفرق على الفقراء، وأهل الأدب، وكان هو نفسه عالما أديبا حتى ألف في اللغة معجما كبيرا يقع في سبع مجلدات سماه «المحيط»، كما كان محدثا، كما ألف في إمامة علي بن أبي طالب، وقد عين المعتزلي الكبير عبد الجبار قاضي القضاة له، وجاء في رسائل الصاحب العهد الذي عهد به الصاحب إليه، وجاء فيه: «هذا ما عهد مؤيد الدولة إلى عبد الجبار بن أحمد، ولاه قضاء القضاة بالري، وقزوين، وسهرورد، وقم، وما يجري معها، ويتصل بها، علما بما لديه من علم يهتدى بأضوائه، وورع يستسقى بأنوائه، وكفاية يكتنفها الحلم والحجي، وأمانة يبعثها النسك والتقى، وموقع في علية أهل الدين ترمقه النواظر، ومكان من صفوة المسلمين تعقده الخناصر.» وبعد أن أمره باتباع الكتاب والسنة والإجماع، قال: «وإذا عرض في الأحكام ما يعضل استخراجه، ويستبهم رتاجه، فليتبين ويتئد، وليفكر ويجتهد، ويستشر أماثل العلماء ويستحد، ويأخذ من آراء الفقهاء، ولا يستبد، حتى إذا وضحت له القضية أكمل فضل الاستشارة، بيمن الاستخارة، وأمضى من الحكم، ما يأمن فيه مصارع الظلم،
ولكم في القصاص حياة يا أولي ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (المائدة: 45) إذا اشتجرت، والألحاظ إذا تصرفت، والألفاظ إذا جرت، بين الغني المثري، والفقير المقوى، والقوي الموقر، والضعيف المستحقر، فليس بالثراء تشرف المنازل وترتفع، ولا بالإقواء تضعف الوسائل وتضع. وبعد فكل عباد الله يسعهم فضله، ومشرع في حكم الله، يشملهم عدله:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (الحجرات: 13).
1
وتدل الرسائل على أن الصاحب بن عباد كان يعز القاضي عبد الجبار ويوقره، ويواليه بالكتابة على تشيع واعتزال عرفا عن البويهية.
وقد ألف عبد الجبار كتبا كثيرة وصل إلينا: «شرح الأصول الخمسة عند المعتزلة» في أجزاء عدة شرحا مستفيضا مسهبا، يبين أصول المعتزلة ونظراتهم في إسهاب،
2
ونقلت عنه أقوال كثيرة كان يحاج بها الشريف المرتضى.
وقد كان الشريف المرتضى نقيب الطالبين ببغداد، وكان عالما كبيرا، بقيت لنا من تآليفه «أمالي المرتضى - الغرر والدرر - الشيب والشباب»، وكان شيعيا على مذهب الإمامية.
3
وكان يرى في الإمامة، وفي تفسير أعمال الصحابة ما يوافق مذهبه، وكان قاضي القضاة عبد الجبار شيعيا معتزليا، ومعنى هذا أنه أقل تعصبا للتشيع، وأكثر تحكيما للعقل؛ لذلك جرى بين العالمين الكبيرين جدال طويل في مسائل كثيرة نسوق أمثلة منها. وأنت إذا رأيت في الكتب كلاما يسند إلى النقيب فهو الشريف المرتضى، فإن أسند إلى قاضي القضاة فهو عبد الجبار.
وربما صورنا أصول الخلاف بين الشريف المرتضى، وعبد الجبار في كلمة صغيرة، وهي أن الشريف المرتضى لما كان شيخا للإمامية في عصره، كان يرى بطبيعة الحال أن هناك نصا من النبي
صلى الله عليه وسلم
على استخلافه لعلي، لا من طريق الكفاية وحدها، بل إن النبي
صلى الله عليه وسلم
نص عليه بالاسم، بل إن الخلافة فيه، وفي أبنائه من فاطمة من بعده. وإذ كان علي معينا بالاسم، فأبو بكر وعمر مغتصبان حقه، ظالمان له، وذلك عكس الزيدية من الشيعة؛ إذ كانوا يرون أن النبي عينه بالوصف لا بالشخص، فهم يعتقدون صحة إمامتهما، وأن خلافتهما صحيحة، وكثير من المعتزلة على هذا الرأي؛ إذ كانوا قد قالوا بصحة إمامة المفضول كما ذكرنا من قبل؛ فكان الشريف المرتضى من الرأي الأول القائل ببطلان إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان للقاضي عبد الجبار من الرأي الثاني القائل بصحة إمامة المفضول.
وطبيعي أن الإمامية - ومنهم الشريف المرتضى - لم تتحرج من نقد أبي بكر وعمر وعثمان، وتفسير الأحداث التاريخية وفق مذهبهم، كما أن من الطبيعي دفاع القاضي عبد الجبار عنهم، والرد على مطاعن الإمامية؛ فقامت بذلك ثورة عنيفة بين العالمين.
قال الإمامية: إن الرسول
صلى الله عليه وسلم
نص على إمارة علي نصا صريحا جليا غير نص يوم الغدير،
4
فإنه كان تلميحا، بل إنه نص عليه بالخلافة، وبإمرة المؤمنين، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بها، وصرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفة عليهم من بعده، وأمرهم بالسمع والطاعة له. أما الشيعة من المعتزلة فتقول: إنه إن لم يكن هناك نص صريح مقطوع به، وإن يكن شيء فتلميح وإيماء يحتمل الدلالة عليه، ويحتمل غيرها.
ومن المؤسف أنه قد اختلقت أحاديث كثيرة زادت في شناعة الموقف، كإسنادهم أن عمر ضرب فاطمة بالسوط، وضغطها بين الباب والجدار حتى صاحت: «يا أبتاه»، وأنه هدد عليا بالقتل إن لم يبايع، إلى آخر الأحداث التي لم تثبت تاريخيا.
أما المعتزلة فقالوا: إنه لو كان هناك نص صريح لا يحتمل الشك ما تجرأ جمهور الصحابة على مخالفته، ولكان علي نفسه عند مخالفتهم له قد ذكرهم بهذا النص؛ فعدلوا عن مبايعة غيره، بل لو كان هذا النص موجودا ما بايع علي غيره، وكانت مبايعته لأبي بكر وعمر وعثمان خطأ منه، خصوصا أنه لم يصلنا خبر عن أن أحدا من هؤلاء أكرهه إكراها شرعيا، وكل ما في الأمر أن كثيرا من الصحابة عرفوا مزايا علي من شجاعة وعلم، ونحو ذلك، ولكن لاعتبارات دينية واجتماعية ومصلحية فضلوا أن يبايعوا أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلما جاء دور علي لم يتأخروا عن مبايعته.
ولما لم يعجب الإمامية هذا الكلام وجهوا نقودا كثيرة إلى من سبق عليا من الأئمة. فمثلا: ثارت ضجة كبيرة حول مسألة «فدك»، وهي قرية اختلف عليها أبو بكر من ناحية، وعلي وفاطمة من ناحية أخرى، وهي قطعة من الأرض كانت مما أفاء الله على رسول الله، فدخلت في ملكه ومات عنها، فهل تورث أو لا تورث؟ وإن ورثت ففاطمة أحق بها، ووجهة نظر أبي بكر أنه علم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة.» وكان رسول الله يتصدق بغلتها، فكان أبو بكر يصنع فيها ما كان يصنع رسول الله، وجاء عمر فعمل ما كان يعمل أبو بكر. وفاطمة وعلي كانت وجهة نظرهما أن المال مال النبي، وأنه يعود عليهما بالإرث، وقد أنصفهما أبو بكر إذ روي أنه قال لفاطمة: «أنت عندي صادقة أمينة، إن كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عهد إليك في ذلك عهدا أو وعدك به وعدا صدقتك، وسلمته لك، فقالت: لم يعهد إلي في ذلك بشيء، ولكن الله تعالى يقول:
يوصيكم الله في أولادكم (النساء: 11) فقال أبو بكر: أشهد لقد كان رول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث»، ثم اتسعت شقة الخلاف بين، فقال أبو بكر: أشهد لقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث»، ثم اتسعت شقة الخلاف بين الرأيين، واتهموا أبا بكر بالخطيئة، واتهموا عمر بممالأة أبي بكر، وشغلت الحادثة الناس زمنا طويلا حتى أتت إلى عبد الجبار وخصومه، فقال عبد الجبار: «إن الخبر الذي احتج به أبو بكر هو: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، لم يقتصر على روايته هو وحده، بل استشهد عليه عمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف؛ فشهدوا كلهم به، فكان لا يحل لأبي بكر وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثا فيعطي فاطمة حقها، حتى لقد روي أن فاطمة لما سمعت شهادة هؤلاء الشهود كفت ، ولكن بعض الشيعة تعصب لها أكثر من نفسها، فقالوا: قال الله:
وورث سليمان داوود (النمل: 16)؛ فهذا نبي ورث، فرد الآخرون عليهم بأنه ورثه العلم والحكمة، لكنه لم يورثه المال، وقد صمم أبو بكر وعمر على رأيهما. هذه خلاصة وجيزة لهذه الحادثة.
وماتت فاطمة وعلي وأبو بكر وعمر، فلا ندري معنى لأن يبقى الخلاف قائما بعد مرور نحو ثلاثة قرون، بل إلى الآن، ويدخل الأمر في الدين، وتنقسم المذاهب المختلفة، بل من العجيب أن تستمر إلى يومنا هذا مع التناحر والتخاصم.
نعم، إننا نفهم أن تكون المسألة مما يصح أن يعرض له المؤرخون اليوم وأمس وغدا، شأنها في ذلك شأن المسائل التاريخية، أما أن تكون سببا للتنافر والتخاصم بعد زوال أصحابها بقرون، فأمر يدعو إلى العجب.
وقس على هذا كثيرا من المسائل التي من هذا القبيل.
بعد هذا نعرض لمثل من نقد الشيعة الإمامية لأبي بكر؛
5
فقد نقدوه بأنه هو وعمر كانا من جيش أسامة الذي أرسله النبي
صلى الله عليه وسلم
للغزو، وقد تأخرا عن السير معه، فتأخرهما يقتضي مخالفة للرسول، فأجاب قاضي القضاة بأن أبا بكر لم يثبت أنه كان في جيش أسامة، والمسألة مسألة مصالح عامة، وقد اختير أبو بكر ليكون أمير المؤمنين، فالمصلحة تقتضي بقاءه لتيسير الأمور، وإلا ساءت حال المسلمين ... وقد استأذن أسامة في أن يبقى معه عمر ليعينه.
ونقدوا أبا بكر أيضا في قصة خالد بن الوليد، وأن خالدا قتل مالك بن نويرة، وتزوج امرأته في ليلته، ثم إن أبا بكر ترك إقامة الحد عليه، وإيقاع العقوبة عليه، وقال أبو بكر: «إن خالدا سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه، فلا أعاقبه، مع أن الله تعالى قد أوجب القود»، واعتذر عن أبي بكر بأن خالدا قد اعتذر لأبي بكر عن خطئه، وقد قبل أبو بكر عذره لجليل أعماله. قال المرتضى: «إن أبا بكر لا يملك العفو في الحدود؛ لأنها حق الله، فالعفو عنه تغافل عن أمره، وإقرار له على الخطأ الذي وقع فيه.»
ونقدوا أبا بكر أيضا في أنه استخلف عمر، مع أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يستخلف، خصوصا أنه روي عن أبي بكر أن رسول الله لم يستخلف، وقد أجيب عنه بأن كون رسول الله لم يستخلف لا يدل على تحريم الاستخلاف، كما أن النبي لم يركب الفيل، فلا يدل على تحريم ركوب الفيلة، وقد رأى أبو بكر المصلحة في ذلك، وخاف من حصول الخلاف بين الصحابة بعد وفاته على من يكون إماما، فبت في الأمر باستخلاف عمر.
ونقدوه أيضا بأنه سمى نفسه خليفة رسول الله، مع اعترافه بأنه لم يستخلفه. وأجاب قاضي القضاة: بأن الصحابة سموه خليفة رسول الله؛ لاستخلافه إياه على الصلاة عند موته، إلخ ... وهذا إن دل على النشاط الفكري، وحرية الرأي، فإنه يدل مع الأسف على الفرقة الشديدة وعدم توجههم إلى الناحية العملية التي تصلح بها أمور المسلمين.
ومثل ذلك أيضا ما طعنوا به عمر في مسألة الشورى عند موته، فقد روي أنه قال: «لا أدري ما أصنع بأمة محمد؟ قال له ابن عباس: لم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: أصاحبكم؟ - يعني عليا - قلت: نعم. هو لها أهل في قرابته من رسول الله وصهره، وفي سابقته وبلائه. قال عمر: إن فيه بطالة وفكاهة. قال ابن عباس: قلت: فأين أنت من طلحة؟ قال عمر: فأين الزهو والنخوة؟ قلت: فعبد الرحمن بن عوف. قال عمر: هو رجل صالح على ضعف فيه، قلت فسعد؟ قال: ذاك صاحب منقب وقتال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها. قلت: فالزبير. قال: وعقة لقس، مؤمن الرضا، كافر الغضب، شحيح ... وإن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف. قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ...»
ونحن نشك في هذا الحديث لأسلوبه، ومع كل ذلك فالمعنى صحيح، وهو أن عمر جعل الأمر في هؤلاء الستة لحيرته في أيهم أصلح للإمامة، فطعن المرتضى عليه من وجوه: فأولا : ذم كل واحد بأن ذكر فيه طعنا، ثم أهله للخلافة، ثانيا: قال: إن اجتمع علي وعثمان، فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة، فالقول للذين فيهم عبد الرحمن ... قال المرتضى: إنما قال عمر ذلك لعلمه بأن عليا وعثمان لا يجتمعان، وأن عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن عثمان لقرابته منه، وقال: إنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام، وهم لم يأتوا أمرا يستوجب القتل، وقد أجاب عبد الجبار أن عمر إنما فعل ذلك؛ لأنه لم ير في نظره رجلا كاملا حتى يسند الخلافة إليه، فرشح أصلحهم لها، وثانيا: إنما رجح الجانب الذي فيه عبد الرحمن؛ لأنه أزهدهم في الخلافة، فأسند إليه الاختيار. ثالثا: قوله: إن عثمان وعليا لا يجتمعان، وأن عبد الرحمن يميل إلى عثمان قلة دين، لا يصح أن تسند إلى عبد الرحمن بمجرد الرأي. ورابعا: أمره بقتل من تخلف ليس بثابت صحته، ولو صح لكان عمر معذورا، لأنه يئول بالأمة إلى الشقاق.
هذا ملخص صغير جدا مما دار بين المرتضى وعبد الجبار.
6
هوامش
الفصل السادس
الزمخشري
ثم جاء بعد ذلك الزمخشري،
1
وإذا نحن وصلنا إليه، وإلى عبد الجبار فقد وصلنا إلى خلاصة مجهود المعتزلة، وأبحاثهم في أربعة قرون تقريبا، وهو أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري،
2
وهو إمام كبير في التفسير والنحو واللغة، مؤلف تآليف عظيمة في كل ذلك، ففي اللغة والبلاغة «أساس البلاغة»، و«المستقصى في الأمثال»، و«الفائق في غريب الحديث»، و«مقدمة الأدب»، وفي النحو «المفصل»، و«الأنموذج»، و«المفرد المؤلف»، وله كتاب «الرائض في علم الفرائض»، وله «أطواق الذهب في المواعظ»، إلى غير ذلك من الكتب القيمة، وكلها فيه جدة وابتكار، وأعظمها تفسير الكشاف المشهور.
وقد اشتهر الزمخشري في عصره، ومدحه الشعراء والأدباء، وطلب العلماء أن يعطيهم الإجازة في رواية كتبه. ومن لطيف ذلك أن الحافظ أبا الطاهر السلفي كتب إليه من الإسكندرية يستجيزه، وكان الزمخشري مجاورا بمكة، قضى فيها زمنا طويلا، وسكن في دار قريبة من الكعبة، واستفاد في أثناء ذلك فوائد كثيرة، فكتب إليه الزمخشري جوابا طويلا يشبه خطاب أبي العلاء لابن القارح، يقول فيه: «ما مثلي مع أعلام العلماء إلا كمثل السها مع مصابيح السماء ... والجهام الصفر والرهام مع الغوادي الغامرة للقيعان والآكام، والسكيت المخلف مع خيل السباق، والبغاث مع الطير العناق ... وما التلقيب بالعلامة، إلا شبه الرقم بالعلامة، والعلم مدينة أحد بابيها الدراية، والثاني الرواية، وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاة، ظلي فيها أقلص من ظل حصاة، أما الرواية فحديثة الميلاد، قريبة الإسناد، لم تستند إلى علماء نحارير، ولا إلى أعلام مشاهير، وأما الدراية فثمد لا يبلغ أفواها، وبرض ما يبل شفاها ... ولا يغرنكم قول فلان وفلان في ... (وعدد قوما من الشعراء والأدباء)، فإن ذلك اغترار منهم بالظاهر المموه، وجهل بالباطن المشوه، ولعل الذي غرهم مني ما رأوا من حسن النصح للمسلمين، وإيصال الشفقة إلى المستفيدين، وقطع المطامع عنهم، وإضافة المبار والصنائع عليهم، وعزة النفس ، والذب بها عن السفاسف الدنيات، والإقبال على خويصتي، والإعراض عما لا يعنيني، فجللت في عيونهم، وغلطوا في، ونسبوني إلى ما لست منه في قبيل ولا دبير».
وإنما سقنا هذه الفقرة أولا: للدلالة على أسلوبه؛ وثانيا: لأنه شهر بين الخاصة من قومه بالعلم، حتى استجازوه. وثالثا: لدلالتها على أنه كان عزيز النفس، محبا للخير، كافا على ما لا يعنيه، مقبلا على شأنه، وهو مع ذلك يتستر وراء هذه القطعة بالاعتداد بنفسه، إذ يقول في بعض شعره:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي
من وصل غانية وطول عناق
وتمايلي طربا لحل عويصة
أشهى وأحلى من مدامة ساقي
وصرير أقلامي على أوراقها
أحلى من الدوكاء والعشاق
3
وألذ من نقر الفتاة لدفها
نقري لأنفي الرمل عن أوراقي
أأبيت سهران الدجى وتبيته
نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي؟
والذي يهمنا هنا الكلام عن تفسيره واعتزاله، وكان يجاهر بمذهبه، ويدونه في كتبه، ويصرح به في مجالسه، وكان إذا قصد صاحبا له استأذن عليه في الدخول، ويقول لمن يأخذ له الإذن: قل له: «أبو القاسم المعتزلي بالباب»، وقد بذل مجهودا كبيرا، وتحمل عناء شاقا في سبيل تفسير الآيات القرآنية على مقتضى مذهب الاعتزال من الأصول الخمسة، وهي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
4
فمثلا: إن في القرآن الكريم آيات ظاهرها يدل على الاختيار، وأن العبد يخلق أفعال نفسه، وآيات ظاهرها أن الله خالق كل شيء، والتوفيق بينهما متعب جدا، وقد حار في ذلك كل المتكلمين، وقالوا: إن هذا من الأسرار التي لا يمكننا الوصول إليها، وإن عقلنا البشري لا يستطيع إدراك سرها، وإن كان الصوفية من أمثال محيي الدين بن عربي، والغزالي رأوا أنهم أدركوا ذلك عن طريق الكشف.
على كل حال تعب الزمخشري كثيرا في التوفيق، وتفسير الآيات على هذه الأصول، والتعاليم المعتزلية الأخرى، كنفي السحر، وأنه ليس قلبا لطبائع الأشياء، وإنما هو لعب بأعين الناظرين وعقولهم، وعدم رؤية الجن، وغير ذلك، ونسوق الآن أمثلة تدل على مقدار ما فعل، فأول ذلك مثلا: أنه بدأ كتابه «الكشاف» بقوله: الحمد لله الذي خلق القرآن على مذهبي في الاعتزال، ثم غيرت فيما بعد بالحمد لله الذي أنزل القرآن، ومثلا: قال تعالى:
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة (البقرة: 7)، وظاهرها أنه تعالى حجر على قلوبهم، فلا يستطيعون بعد الإيمان، هذا الظاهر ضد ما يقوله المعتزلة في اختيار العبد في خلق أفعال نفسه فقال: إنه لا ختم على القلوب، ولا على الأسماع، ولا تغشية على الأبصار على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه، وهما الاستعارة والتمثيل: أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها، ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه.. واستكبارهم عن قبوله واعتقاده كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لأنها لا تجتلي آيات الله المعروضة، كأنما غطي عليها، إلخ ...
وثانيا: لما جاء إلى آية:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى (الأنفال: 17)، كان ظاهرها أن أفعال العباد كلها منسوبة إلى الله في الواقع، وليست نسبتها إلى الله إلا نسبة إلى الظاهر، فجاء الزمخشري، فأول الآية أيضا إذ قال: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم؛ لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر، وقوى قلوبكم،
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى (الأنفال: 17)، يعنى أن الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة؛ لأنك لو رميتها لم يبلغ أثرها إلا ما يبلغ أثر رمية البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله؛ لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه؛ لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله، وهكذا ... أول الآيات كلها من هذا القبيل على مذهب الاعتزال.
ولما وصل الزمخشري إلى قوله تعالى:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (النساء: 48)، فسرها على مذهب المعتزلة؛ فوقف عند الجملة الأولى:
إن لله لا يغفر أن يشرك به ، وجعل لمن يشاء متعلقا فقط به يغفر ما دون ذلك؛ فهو لا يغفر الشرك مطلقا، ويغفر ما دون ذلك لمن تاب: بخلاف السنية فقد قالوا: إن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، ولو من غير توبة. وتقييد المعتزلة، مغفرة ما دون ذلك بالتوبة مما لا دليل عليه، وقد قال الزمخشري: إنها لو لم تقيد بالتوبة لزم إغراء الله تعالى العبد بالمعصية، والإغراء بذلك قبيح يستحيل على الله.
وقال الزمخشري في قوله تعالى:
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق (الأعراف: 169) إن المراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على إثباتهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على ما هم فيه. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنهم وبخوا على إيجابهم على الله غفران الذنوب التي لا يزالون يعودون إليها، ولا يتوبون منها. وعرض الزمخشري في تفسيره بأهل السنة، وزعم أن مذهبهم هو مذهب اليهود بعينه، حيث جوزوا غفران الذنوب من غير توبة.
وكذلك أول آيات الحسد في مثل قوله تعالى:
قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد (الفلق: 1-5) لا بالتعاويذ ونحوها، ولكن من طريق إيقاع الشقاق، وبث الأخبار لإفساد النفوس، إلى غير ذلك.
وفي نظري أن هذا كله وضع مقلوب، فبدل أن يطبق المبادئ، ويخضع القرآن لها، كان يجب أن يطبق القرآن، ويخضع المبادئ له، ولكن هذا كانت طريقته.
وإذ كان إيمان الزمخشري إيمانا جدليا، وأعني بالإيمان الجدلي الإيمان عن طريق المنطق، والمقدمات، والنتائج، والقياس، فقد أنكر ما يقوله الصوفية في شأن الحب، فالصوفية يقولون في حب الله كما يقول المحبون من البشر بعضهم في بعض، وحتى إنهم استعاروا في حبهم ألفاظ الغزل، وشعر الغزليين من الشعراء، كأبي نواس، ومسلم بن وليد، وذكروا الوصال والهجران، والغناء في المحبوب، ونحو ذلك، وقالوا في ذلك الشيء الكثير، ننقل لك بعضا منه؛ من ذلك: قول أبي عبد الرحمن السلمي: «المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك»، وقالوا: «المحبة سكر لا يصحوا صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه»، ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشدوا:
فأسكر القوم دور كأس
وكان سكري من المدير
وقالوا: «الشوق احتياج القلب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق.» وقيل لبعض الصوفية: هل تشتاق إليه؟ فقال: إنما الشوق إلى غائب، وهو حاضر لا يغيب ... إلخ إلخ.
وقالوا: إن الحب ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: محبة العوام، وهي الحب للإحسان، وقد جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها، وهو حب يتغير، وهو حب الذين يطلبون أجرا على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة
ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
القسم الثاني: محبة الخواص، الذين يحبون الله إجلالا وإعظاما، ولأنه أهل لذلك، وإلى هذا أشار النبي بقوله: نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه.
وقالت رابعة العدوية:
أحبك حبين حب الهوى
وحب لأنك أهل لذاكا
وهذا الحب لا يتغير لبقاء الجمال والجلال.
والقسم الثالث: محبة خواص الخواص، وهو الحب الناشئ من الجذبة الإلهية، وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها: أن يفنى المحب في المحبوب، وربما بقي صاحبها حيران سكران، لا هو حي فيرجى، ولا ميت فيبكى. وفي مثل ذلك يقول الشاعر:
يقولون إن الحب كالنار في الحشا
ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها
ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
ومحبة الرب لهذه الأقسام هي فيما يتعلق بالعوام الرحمة، وكأنه قال لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة أرحمكم، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل، وكأن الله قال لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق أخصكم بتجلي الجمال عليكم. وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة، فكأن الله قال لهم: اتبعوني ببذل الجود، أخصكم بجذبي لكم.
وقالوا: والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير.
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة
ترى الدهر عبدا طائعا ولي الحكم
إلى كثير من مثل هذه الأقوال ...
والزمخشري وأمثاله من المعتزلة لا يؤمنون بشيء من ذلك، ويرون أن الحب بهذا المعنى لا يكون إلا بين الأشخاص الماديين، ولا يمكن أن يكون بين العبد والله، إنما المحبة من العبد الطاعة، ومن الله الثواب. وعلى هذا درج الزمخشري في تفسيره، واستنكر ما ذهب إليه الصوفية في كثير في تفسيره لآيات الحب. وطبيعي أن يكون هناك خلاف بين المؤمن بعقله، والمؤمن بقلبه.
على كل حال، كان الزمخشري قويا كل القوة في تفسيره لبلاغته، وبيان بلاغة القرآن وإعجازه، وتمكنه من اللغة والأساليب، حتى إن أهل السنة لم يستطيعوا أن يتخلوا عنه، بل انتفعوا به، واستخدمه كل المفسرين الذين أتوا بعده تقريبا في علمنا. وقد ألف ابن المنير الإسكندري المالكي قاضي الإسكندرية، المتوفى سنة 687ه، كتابا ضمنه التنبيه على ما في الكشاف من الاعتزال، وناقشه، ورد عليه، أو فسر الآيات الدالة على الاعتزال في نظر الزمخشري بتفسير آخر كما يفهمه أهل السنة.
وعلى الجملة، فقد كاد يكون الزمخشري آخر فحل من الفحول الذين دافعوا عن الاعتزال، فلم يأت بعده من يسابقه، أو يجاريه.
هوامش
الفصل السابع
أدب المعتزلة
وقد خلف المعتزلة للعالم العربي أدبا كثيرا، ونستعمل هنا كلمة أدب بالمعني الواسع، فتفاسير للقرآن، وتحاليل للأحداث التاريخية، وملء الهواء بالمناظرات التي لا حد لها، كالمناظرات في خلق القرآن إلى دراسات للحيوان لدلالته على قدرة الله، إلى شعر ومراسلات، إلى إثارات للعقول، ويكفيهم فخرا في الأدب صحيفة بشر بن المعتمر في البلاغة، وما ألفه الجاحظ في موضوعات كثيرة لم يكن يستطيع أن يؤلف فيها لولا الاعتزال، إلى أدب البويهيين، والصاحب بن عباد، وابن العميد، ومن كان في بلاطهما من الأدباء، إلى مناقشات القاضي عبد الجبار إلى أدب الزمخشري. ولكن مع الأسف أنه لما دالت دولة المعتزلة، وكرهوا من عامة العلماء اختفت أيضا كتبهم إلا القليل، وأصبح الناس يتقربون إلى الله بإحراقها، بل إنا نعد من أدب المعتزلة ما قيل في هجائهم وسبهم؛ إذ لو لم يدعوا دعواتهم ما هجوا، ومن أمثلة ذلك: ما كتبه فيهم بديع الزمان الهمذاني في إحدى مقاماته، واسمها «المقامة المارستانية».
وسماها المارستانية؛ لأنه تصور رجلا مجنونا في مستشفى المجاذيب دخل عليه رجلان: عيسي بن هشام، ومعتزلي اسمه أبو داود العسكري، فأخذ هذا المجنون يشتم المعتزلي، ويهجوه، ويسفه آراءه، فمثلا يقول له: «إن الخيرة لله لا لعبده»، وذلك خلاف ما يقوله المعتزلة من أن العبد مختار مطلق في أفعاله، وليس لإرادة الله دخل فيها. ويقول له: إنكم يا معتزلة
1
تقولون: «خالق الظلم ظالم، أفلا تقولون: خالق الهلك هالك؟»؛ ذلك لأن المعتزلة يقولون: إن الله لو كان خالقا لأفعال العبد، وفي الناس من يقع منهم الظلم، لكان الله خالقا للظلم، ولو كان خالقا للظلم كان ظالما؛ فرد عليهم بقوله: إن الله خالق فناء العالم، وفناء الأفراد، فعلى قياسكم يكون خالق الإفناء فانيا، تعالى الله عن ذلك.
ويقول: «إن إبليس خير منكم؛ إذ يقول:
رب بما أغويتني ، فأقر بالإغواء، وأنكرتم، وآمن وكفرتم ...»، وتقولون: «إن العبد يختار أفعال نفسه، والمختار لا يبعج بطنه، ولا يفقأ عينه، ولا يرمي من حالق ابنه»، أي إنه إذا كان مختارا ما صدرت عنه هذه الأفعال، ثم قال: «فليحزنكم أن القرآن بغيضكم، وأن الحديث يغيظكم، وإذا سمعتم:
من يضلل الله فلا هادي له (الأعراف: 186)، وإذا سمعتم: زويت
2
لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، جحدتم»؛ وذلك لأن أكثر المعتزلة ينكرون الإسراء والمعراج إلا بالروح. ثم إذا قيل: عرضت علي الجنة حتى هممت أن أقطف ثمارها، وعرضت علي النار حتى اتقيت حرها بيدي، أنغضتم رءوسكم، ولويتم أعناقكم. وإن قيل: عذاب القبر، تطيرتم. وإن قيل: الصراط، تفاخرتم؛ وذلك لأن أكثر المعتزلة ينكرون وجود الجنة والنار اليوم، كما ينكرون عذاب القبر بآلام حسية، وإنما هي - كما يقولون - بآلام نفسية، كما ينكرون عذاب الصراط بالمعنى المادي، ويقولون: «إنه عبارة عن طريق الحق»، ثم يسبهم «بأنهم خبث الحديث»؛ لأنهم اعتزلوا حديث الناس لما سمعوا حديث الحسن البصري، فسماهم من أجل ذلك خبث الحديث، كما سبهم بأنهم «مخانيث الخوارج»، والمخانيث: جمع مخناث، كالمخنث؛ وذلك لأنهم اتفقوا مع الخوارج في تفسيق بعض الناس الذين حكموا أبا موسى الأشعري، ولم يكن من رأيهم التحكيم، ولكن الخوارج كان من رأيهم قتال من حكموا بتضليله، وأما المعتزلة فلا يرون القتال، فالمعتزلة بالنسبة للخوارج كالمخانيث من الرجال ... إلخ.
والذي يظهر أن بديع الزمان حكى لنا صورة من أقوال الناس في عصره ضد المعتزلة لما زالت دولتهم؛ فكان خصومهم يقولون عليهم مثل ما حكى بديع الزمان، وأن بديع الزمان أديب فقط، لا هو فيلسوف، ولا متكلم، وذلك شأن بعض أدبائنا اليوم كحافظ، وشوقي، يتلقفون الآراء من العلماء الدارسين، ويصرفونها في شكل شعري جميل، وربما كان بديع الزمان ماكرا مخادعا؛ إذ سمى المقامة مارستانية، وجعل سبهم على لسان مجنون، كأن المعتزلة لا يسبهم إلا مجنون.
وكان من ضمن أدباء المعتزلة قوم من أحرار النحويين دعوا إلى القياس في اللغة، ومن أعلامهم أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، وكلاهما معتزلي؛ فكان يقول أبو علي: «ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، فإذا عربت العرب لفظة أعجمية أجريت عليها أحكام الإعراب، وعددتها من كلام العرب، وأجزت الاشتقاق منها، كما عرب العرب لفظة الدرهم، واشتقوا منه درهمت الخبازي صار وزنها كالدراهم، وقالوا : رجل مدرهم، أي كثرت دراهمه.»
وكان يقول: «لو شاء شاعر أو ساجع أن يبني بإلحاق لام الكلمة اسما أو فعلا لجاز له، ولكان ذلك من كلام العرب، وذلك نحو قولك: خرجج أكرم من ذخلل، وضربب زيد عمرا، ومررت برجل ضربب، ونحو ذلك. فقال له تلميذه ابن جني: أفترتجل اللغة ارتجالا؟ قال: ليس بارتجال، ولكنه مقيس على كلامهم؛ فهو إذن من كلامهم ... ألا ترى أنك تقول: طاي الخشكنان من كلام العرب، وإن لم تكن العرب تكلمت به هكذا.»
وأما ابن جني، فقد نحا في كتابه الخصائص منحى جديدا طريفا يدل على تذوقه اللغة، وتوسعه فيها، رأى الفقهاء وضعوا للفقه أصولا، والمتكلمين وضعوا لعلم الكلام أصولا، فأراد أن يضع للغة أصولا، وكان له فضل فيما سماه «الاشتقاق الكبير»، ويعني به أصول الكلمة، وتقليبها على وجوهها المختلفة، واستخراج التباديل، والتوافيق منها، كأن تأخذ كلمة «كلم»، وتحولها إلى ملك، ومكل، ولكم، وكمل، ولمك، وتمعن النظر فيها لتنظر هل هذه الحروف إذا جمعت كلها دلت على شيء واحد، وترى أن هذه الحروف إذا جمعت دلت على القوة. ومما يؤسف له أن مدرسة القياس هذه لم تستمر في سيرها؛ فقد نكبت عندما نكبت المعتزلة.
كان المعتزلي يتباهى باعتزاله، ويفتخر به، قال صاحب الحور العين: «إن المعتزلة ينظرون إلى جميع المذاهب كما تنظر ملائكة السماء إلى أهل الأرض مثلا، ولهم من التصانيف الموضوعات، والكتب المؤلفات في دقائق التوحيد والعدل، والتنزيه لله - عز وجل - ما لا يقوم به سواهم، ولا يوجد لغيرهم، ولا يحيط به علما لكثرته إلا الله، عز وجل. وكل متكلم بعدهم يغترف من بحارهم، ويمشي على آثارهم، ولهم في معرفة المقالات والمذاهب المبدعات تحصيل عظيم، وحفظ عجيب، وغرض بعيد لا يقدر عليه غيرهم، ينقدون المذاهب كما ينقد الصيارف الدنانير والدراهم.»
3
وقد أخذ مصباح المعتزلة يخبو شيئا فشيئا إلى أن انطفأ، وأصبح القول بالاعتزال سرا بعد أن كان جهرا؛ ولذلك أسباب سنذكرها عند الكلام على الأشعري، إن شاء الله.
هوامش
أهل السنة
الفصل الأول
الأشاعرة
عرف هذا الاسم منذ أن جاء أبو الحسن الأشعري البصري، والأشعري هذا ربيب المعتزلة؛ فقد تربى عليهم، وأخذ الكلام منهم، وقد روى السبكي في طبقات الشافعية: «أنه قام على الاعتزال أربعين سنة، حتى صار للمعتزلة إماما.» وقال الحسين بن محمد العسكري: «كان الأشعري تلميذا للجبائي، وكان صاحب نظر، وذا إقدام على الخصوم، وكان الجبائي صاحب تصنيف وقلم، إلا أنه لم يكن قويا في المناظرة، فكان إذا عرضت مناظرة قال للأشعري: نب عني.»
فنحن إذا أنصفنا قلنا: إن مذهبه هو مذهب المعتزلة معدلا في بعض مسائله، ولكنه استطاع أن يحول كثيرا من الناس من الاعتزال إلى مذهبه الجديد، ونجح في ذلك إلى حد كبير.
علمنا أنه نشأ معتزليا، ولكنه تحول. قال بعضهم: إنه رأى رؤيا جعلته يعدل عن الاعتزال، وهذا لا يقنع. وقالوا: إنه اعتكف في بيته طويلا، ثم أعلن عدوله عن الاعتزال. وإن صح ذلك فمعناه: أنه ظل يفكر طويلا في أصول الاعتزال ، فلما لم يرضه بعضها عدل عن الاعتزال، يضاف إلى ذلك أنه ناظر أستاذه أبا علي الجبائي في بعض المسائل، وقالوا: إنه انتصر عليه - كما سنذكر - فكان ذلك من الأسباب التي دعته إلى ترك الاعتزال. وفي نظري أنه انتصر على المعتزلة لأسباب: (1)
أن الناس كانوا قد ملوا كثرة المناظرات، والمماحكات، والمحن التي شهدوها، أو سمعوا بها في محنة خلق القرآن، فكرهوا هذه الطائفة التي سببت لهم كل هذه المشاكل، وأخذ كثير منهم بأزر من يجابههم. (2)
أن أبا الحسن - على ما يظهر من ترجمته - كان جدلا قوي الحجة، فلفت الأنظار إليه، وكان أيضا معروفا بالصلاح والتقوى، وحسن المظهر، مما جذب نفوس الناس إليه، ووجدوا فيه الشخص الذي يلقون حملهم عليه إذا عدلوا عن الاعتزال. (3)
أن السلطات الحكومية من عهد المتوكل قد تخلت عن نصرة المعتزلة، وأغلب الناس يمالئون الحكومة أينما كانت، ويخافون أن يعتنقوا مذهبا لا ترضاه، فهربوا من الاعتزال إلى من يهاجم الاعتزال. (4)
رزق أبو الحسن الأشعري بأتباع أقوياء، أخذوا مذهبه، ودعوا إليه، ودعموه بالأدلة والبراهين، أمثال: إمام الحرمين ، والإسفراييني، والباقلاني؛ فكان كل عالم من هؤلاء العلماء لمنزلته العظيمة يرغب الناس في الدخول في مذهب الأشعري، ويبعدهم عن الاعتزال. (5)
سقطت الدولة البويهية الشيعية، وجاء عقبها الدولة السلجوقية التركية السنية، وكانت دولة قوية تنصر السنية بالعقلية التركية، ورزق ملكها ألب أرسلان بالوزير العظيم «نظام الملك»، وكان في الدولة السلجوقية يشبه ابن العميد، وابن عباد في الدولة البويهية، هذان ينصران التشيع والاعتزال، وهذا ينصر السنية، وقد كان نظام الملك هذا مثقفا ثقافة واسعة، عالما، سياسيا، حكيما، حتى إنه طلب إلى رجال عصره أن يؤلف كل منهم كتابا يشرح فيه كيف يتصور أن تكون الحكومة العادلة؛ فألف هو كتاب «سياسة نامة»، وألف في هذا الموضوع الرحالة المشهور «ناصر خسرو»، كما ألف في ذلك «عمر الخيام».
ومن جليل أعماله أنه أنشأ مدارس كثيرة من أشهرها المدرسة النظامية، ومدرسة في نيسابور، ومدرسة في هراة، إلى مدارس أخرى، وحشر في هذه المدارس العلماء العظام أمثال أبي حامد الغزالي يدرسون على مذهب أهل السنة؛ فانتشر مذهبهم في كل الأنحاء، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا أن يخمد التشيع والاعتزال.
ومع هذا فلم يخل الأشعري في أول أمره من ساخطين عليه، مهاجمين له حتى لم يتورع بعضهم من أن يسلقه بألسنة حداد، وقد تجمع ضده المعتزلة لما خرج عليهم، فألفوا الكتب ضده، وفندوا مذهبه، كذلك فعل الذين خالفوه في بعض آرائه، مثل ابن حزم الأندلسي، فلم يتورع أن يقول فيه أقذع الأقوال، وممن لم يكن يؤمن به - على ما يظهر - الإمام المذهبي.
اعتكف الأشعري في بيته 15 يوما يفكر في كل ما تعلم عن المعتزلة. قالوا: «ثم خرج إلى الجامع، وصعد المنبر، وقال: معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المدة لأني نظرت، فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي شيء على شيء، فاستهديت الله فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده، كما انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه، ورمى به.»
وأول ما بلغنا من شكه وخروجه أنه ناظر أستاذه الجبائي، فقال الأشعري له: ما قولك في ثلاثة: مؤمن، وكافر، وصبي؟ فقال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات والصبي من أهل النجاة. فقال الأشعري: فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟ قال الجبائي: لا، يقال له: إنما المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها، قال الأشعري: فإن قال: التقصير ليس مني، فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن، قال الجبائي: يقول له الله: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت ولعوقبت، فراعيت مصلحتك، وأمتك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف ... قال الأشعري: فلو قال الكافر: يا رب علمت حاله كما علمت حالي، فهلا راعيت مصلحتي مثله؟ فانقطع الجبائي.» وهذه المناظرة مبنية على قول المعتزلة: إن الله تعالى يجب عليه مراعاة الأصلح للعبد، فناقشه الأشعري في هذا المبدأ.
ورووا مناظرة أخرى له، خلاصتها: أن رجلا سأل الجبائي: هل يجوز أن يسمى الله عاقلا؟ فقال الجبائي: لا؛ لأن العقل مشتق من العقال، والعقال بمعنى المانع، والمنع في حق الله محال. فقال الأشعري للجبائي: فعلى قياسك لا يسمى الله تعالى حكيما؛ لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، ويشهد لذلك قول حسان:
فنحكم بالقوافي من هجانا
ونضرب حين تختلط الدماء
بمعنى نمنع بالقوافي من هجانا.
وقال آخر:
أبني حنيفة حكموا سفهاءكم
إني أخاف عليكم أن أغضبا
أي امنعوا سفهاءكم، فإذا كان اللفظ مشتقا من المنع، والمنع على الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق «حكيما» عليه تعالى، فلم يجد الجبائي جوابا، وسأل الأشعري: ما تقول أنت؟ قال: أجيز حكيما، ولا أجيز عاقلا ... لأن طريقي في مأخذ أسماء الله السماع الشرعي، لا القياس اللغوي، فأطلقت حكيما، لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلا، لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته، وهكذا سار الجدل بينهما حتى انفصل عنه الأشعري، وعن الاعتزال. (1) انتصار الأشاعرة
لم تسر الأمور بعد ذلك سيرا هادئا بسبب ما تمكن في الناس من الاعتزال، فكنا نرى مناظرات بين العلماء، وحيرة واضطرابا بين الناس ، فمثلا: يروون أنه «اجتمع أبو إسحاق الإسفراييني الأشعري، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، فقال عبد الجبار في ابتداء جلوسه للمناظرة: سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الإسفراييني: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. فقال عبد الجبار: فيشاء ربنا أن يعصى؟ فقال الإسفراييني: أيعصى ربنا قهرا؟ فقال عبد الجبار: أفرأيت أن منعني الهدى، وقضى علي بالردى، أحسن إلي أم أساء؟ فقال الإسفراييني: إن كان منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له، فيختص برحمته من يشاء. فانقطع عبد الجبار ... وهذه المناظرة مبنية على أن المعتزلة تقول: إن الله لم يرد الكفر من الكافر، بل تركه يفعل ما يشاء باختياره. والأشعري ومن تبعه يقولون: إن الله خالق أفعال العباد.
وأحيانا تشتد الخصومة، كالذي روى أن السلطان السلجوقي طغرل بك كان له وزير اسمه الكندري، وكان شيعيا معتزليا متعصبا للتشيع، وكان يعقد في داره مجالس للمناظرة، كما كانت دور غيره أيضا مكانا للمناظرة، فأوعز للسلطان طغرل بك بلعن المبتدعة على المنابر، ودس عنده أن الأشعرية من ضمن المبتدعة، واتخذ ذلك ذريعة إلى إهانة أتباع أبي الحسن، ومنعهم من الوعظ والتدريس، وعزلهم من خطبة الجامع، واستعان بالحنفية على الشافعية، وأكثر الشافعية أشعرية، حتى حكى بعضهم أن اضطهاد الأشاعرة في هذه الحادثة يشبه اضطهاد الأمويين للعلويين. وفي هذه الفتنة أمر طغرل بك بسبب هذه الدسائس أن يقبض على كثير من كبراء الأشعرية كإمام الحرمين، وأبي القاسم القشيري، وأبي سهل بن الموفق. ولما قرئ الكاتب بنفيهم تحرشت بهم العامة والأوباش، وقد حبس بعضهم، وهرب بعضهم. وكان ممن هرب إمام الحرمين، فقد هرب إلى الحجاز، ولم تخمد هذه الفتنة إلا بتغير الأحوال؛ فقد قتل الكندري وخلف ألب أرسلان طغرل بك.
ومما يدل على هلع الناس وفزعهم ما نرى في هذا العصر من استفتاءات من الناس للعلماء الذين يثقون بهم، وعقد المجامع لإصدار الفتاوى، مثل الفتوى التي صدرت من القشيري يشكو مما أصاب أهل السنة، ويحكي ما نالهم من المحنة. والفتوى التي صدرت من الحافظ البيهقي ... ونحن نسوق مثلا نص سؤال للعلماء، وجواب عليه مما يدل على الحيرة.. فمثلا: استفتى بعض أهل بغداد بعض العلماء فقالوا: ما قول السادة الأئمة الأجلة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعري وتكفيرهم، ما الذي يجب عليهم؟ فأجاب قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني الحنفي بقوله: «إنه قد ابتدع وارتكب ما لا يجوز، وعلى الناظر في الأمور - أعز الله أنصاره - الإكثار عليه، وتأديبه بما يرتدع به هو وأمثاله عن ارتكاب مثله.» ووقع على الكتاب الدامغاني هذا. وبعد ذلك كتب أبو إسحاق الشيرازي فتوى أخرى يقول فيها: الأشعرية أعيان أهل السنة، ونصار الشيعة انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية والرافضة وغيرهم، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد، ومثل هذا كان كثيرا.
ومن الفتاوى فتوى القشيري يقول فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن الأشعري كان إماما من أئمة أصحاب الحديث، ومذهبة مذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الديانات على طريقة أهل السنة، ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدع، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة، والخارجين عن الملة سيفا مسلولا، ومن طعن فيه، أو قدح، أو لعنه، أو سبه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة»، بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الدرج في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة، كتبه عبد الكريم ابن هواز القشيري، ووقع على هذا الكتاب أيضا تحته الخبازي، وكتب الجويني وغيرهما.
1
وكتب عبد الجبار الإسفراييني مثل هذا بالفارسية كتابا هذا تفسيره: «إن أبا الحسن الأشعري كان إماما، ولما أنزل الله - عز وجل - قوله:
يحبهم ويحبونه (المائدة: 54) أشار المصطفى إلى أبي موسى الأشعري».
2
ومن هذا القبيل أيضا ما حصل من التآليف في ذلك العصر وبعده، فقد ألفت الرسائل في الطعن في أبي الحسن الأشعري، كما ألفت الكتب والرسائل في الدفاع عنه، فمن ألف في الدفاع عنه ابن عساكر الإمام الكبير، فقد ألف كتابا سماه «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأمام أبي الحسن الأشعري»، وكل هذا يدل على حركة واسعة النطاق كانت بين خصوم أبي الحسن الأشعري ومؤيديه.
وكما قلنا من قبل: إن أبا الحسن الأشعري قد رزق أتباعا كثيرين من العلماء الأقوياء من شافعية، ومالكية، وحنفية، وحنبلية. فمن الآخذين عنه: أبو إسحاق الإسفراييني، والشيخ أبو بكر القفال، والحافظ الجرجاني، والشيخ أبو محمد الطبري العراقي، وأكثرهم جالسه، وأخذ عنه شفاها، ثم جاءت بعد هؤلاء طبقة ثانية من الصعلوكي والداراني، وأبو بكر الباقلاني، وأبو بكر بن فورك.
ومن الطبقة الثالثة: أبو الحسن السكري، وأبو منصور النيسابوري، وأبو منصور البغدادي، والحافظ الهروي، وغيرهم ... ومن الرابعة: الخطيب البغدادي، وأبو القاسم القشيري، وإمام الحرمين. ومن الخامسة: الغزالي، وفخر الإسلام الشاشي، وأبو نصر القشيري، وابن عساكر، والسمعاني، وأبو طاهر السلفي. ومن السادسة: فخر الدين الرازي، وسيف الدين الآمدي، وعز الدين بن عبد السلام ، وابن الحاجب المالكي، إلى كثير غيرهم ... وكل هؤلاء تبايعوا على نصرة مذهبه، مع علو مكانتهم، وسعة نفوذهم، مما آل أخيرا إلى انتشار المذهب، وخفوت خصومه. (2) المسائل الأساسية في مذهبه، والتي خالف فيها المعتزلة (2-1) الخلاف على الصفات
كل المسلمين يقولون بالتوحيد، بل إن عنوان دين الإسلام هو «لا إله إلا الله»، ولكن المعتزلة فلسفوا هذا التوحيد، وبحثوه بحثا كلاميا، وعمقوه تعميقا جدليا، فمثلا قالوا: إن كثيرا من الآيات والأحاديث تنسب إلى الله القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والكلام، فهل هذه الصفات عين ذاته، أو غير ذاته، أو لا عين ولا غير؟ وهي مسألة تحرج العلماء قبلهم عن الخوض فيها. فلما قالوا: هم بالتوحيد من جميع جهاته، فإن حقيقته تعالى أحدية من كل وجه، لا كثرة فيها بوجه من الوجوه؛ إذ لو كانت هذه الصفات غير ذاته، لكانت مركبة، ولو كانت مركبة لاحتاج كل جزء إلى الأجزاء الأخرى. وأيضا لو كان هناك صفات غير الذات لكانت قديمة قدم الذات، ولتعددت القدماء، وليس قديما إلا أن يكون إلها، فلو كان هناك صفات قديمة لتعددت الآلهة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فقالوا: إنه تعالى حي عالم قدير، مريد بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة زائدة على ذلك، إذ لو كان عالما بعلم زائد، ومتصفا بهذه الصفات كلها؛ لأنها زائدة على ذاته - كما هو الحال في الإنسان - لكان هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول، وهذه صفة الجسمية، والله تعالى منزه عن الجسمية، فكان زعيمهم أبو الهذيل العلاف يقول: «إنه عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وحي بحياة هي هو، وإنما اختلف التعبير لغرض، فإذا قلت عالم، أثبت لله علما هو ذاته، ونفيت عن ذاته الجهل إلخ.»
ويقول النظام مثلا: إن صفات الله إنما هي صفات سلبية، لا تقتضي للذات شيئا زائدا عليها، فإذا قلت: إنه عالم أثبت لله علما هو ذاته، ونفيت عن ذاته الجهل، ودللت على أن هناك معلومات منكشفة لذاته، وإذا قلت قادر أثبت لله قدرة هي ذاته، ونفيت عن ذاته العجز، ودللت على أن هناك مقدورا له وهكذا. وقال بعض المعتزلة: إن هذه صفات الغرض منها إفادة الناس معانيها، فإذا قلنا عالم، فالغرض منه إفادة الناس علما بأنه لا يجهل، وكذلك بقية الصفات.
فلما جاء الأشعري كان من أهم ما خالف فيه المعتزلة قوله بإثبات هذه الصفات لله؛ فإثبات العلم والقدرة والإرادة له تدل على وجود هذه الصفات متميزة؛ لأنه لا معنى لكلمة عالم إلا أنه ذو علم، ولا لقادر إلا أنه ذو قدرة، والدليل على ذلك أننا إذا قلنا: إنه عالم قادر، فإما أن يكون المفهومان من الصفتين واحدا أو مغايرا، فإن كانا شيئا واحدا وجب أن يعلم بقادريته، ويقدر بعالميته، وليس الأمر كذلك؛ فوجب أن يكون هناك صفة علم وقدرة مختلفين.
وقال أيضا: إن إسناد العلم والقدرة إليه تعالى، إما أن يرجع إلى اللفظ المجرد، وإما إلى تغير الصفات، والرجوع إلى اللفظ المجرد باطل، لأن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين، أعني أنه يقضي باختلاف مفهوم قادر عن مفهوم عالم، فتعين أن تكون هناك صفتان قائمتان بنفسيهما غير ذاته ؛ فألجأه ذلك إلى أن يقول: «إن الله تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام، سميع بسمع، بصير ببصر، وهذا الصفات أزلية قديمة قائمة بذاته تعالى، لا هي هو ولا هي غيره.» قال: «وعلمه يتعلق بجميع المعلومات، وقدرته تتعلق بجميع المقدورات، وإرادته تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص.»
ومن هنا نشأ الخلاف في مسألة خلق القرآن، فالأشعري يقول: إن الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء دلالات على الكلام الأزلي، والدلالة مخلوقة محدثة، والمدلول قديم أزلي، والمعتزلة لما لم يقولوا بصفة زائدة على الذات قالوا: ليس هناك كلام إلا هذه الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة وهي مخلوقة.
والناظر إلى هذا الخلاف يرى أن كلا من المعتزلة والأشعرية جاوزوا حدهم، ودخلوا في سفسطات لا طائل تحتها، وليس العقل البشري بمستطيع شيئا من ذلك. إننا لا نستطيع أن نقول بالنسبة لأنفسنا: إن كنا علمنا غير ذاتنا، وقدرتنا غير ذاتنا، أو هي هي ، فكيف نستطيع أن نقول ذلك في الله، إن عقولنا ضعيفة لا تصلح إلا لخدمتنا في الوصول إلى أغراضنا في الحياة الواقعية، ومحاولة الوقوف على هذه الموضوعات ليست في متناول العقل البشري؛ إن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك حقيقة أي شيء إدراكا تاما، وكل ما يستطيع أن يدركه هو بعض صفاته.
إننا لا نستطيع أن ندرك «ماذا»، ولكن قد نستطيع بعد الجهد أن ندرك «كيف»، فلا نستطيع أن ندرك كنه الكهرباء ما هي، ولا الجاذبية، ولا المغناطيسية، ولا كنه الضوء ولا الحرارة، ولا كنه أي شيء من هذا القبيل، وكل الذي نستطيعه أن ندرك كيف نستخدم الكهرباء، والمغناطيسية، والجاذبية، فكيف يشرئب المتكلمون إلى البحث في أن صفات الله هي عين ذاته، أو غير ذاته، ثم يصلون فيها إلى قرار؟ هذا فوق عقل البشر، وفوق قدرتهم، ولعل الباحث في هذا شأنه شأن من يبحث عن نجم دقيق في السماء، ثم يعثر في حجر أمامه، بل ذلك أدق.
إذن فالكلام في هذا الموضوع سواء من المعتزلة أو الأشعرية أو الشيعة سفسطة لا توصل إلى نتيجة، وأقوال بهلوانية ليس لها إلا أشكال لفظية منطقية، ولا حقيقة وراءها. وما كان أغناهم كلهم عن ذلك، ولو فعلوا لوفروا زمانهم ومجهودهم، ولكنها شراهة العقل. وكان المتقدمون من الصحابة والتابعين أصح نظرا، وأصدق تصرفا، إذ امتنعوا أن يدخلوا هذا الباب الذي لا يوصل، وقالوا: إن الله تعالى ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء، ورأينا أن الله يقول:
الرحمن على العرش استوى (طه: 5)، وفي الحديث عن الله تعالى:
خلقت بيدي (ص: 75)، ونحو ذلك، فنؤمن بها ولا نؤولها، ونكل أمرها إلى الله، أما الغلو، وأما التأويل فلسنا مكلفين بهما. وقال مالك بن أنس عند سؤاله عن
الرحمن على العرش استوى (طه: 5): الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ومثل ذلك ما قال أحمد بن حنبل، وسفيان الثوري. (2-2) العدل
ثم قول المعتزلة بالعدل، أي عدل الله تعالى، وقد عدوا هذا جزءا مهما من أصول المعتزلة؛ حتى كانوا يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد ... وقد وضعوا لهذه الفكرة نظاما شاملا، فأولا: قالوا: بأن في الأشياء حسنا وقبحا ذاتيين يستطيع العقل معرفتهما، وهو مسئول عن ذلك قبل الرسالة وبعد الرسالة، ففي العدل والصدق والشجاعة أوصاف ذاتية يمكن العقل معرفتها. وثانيا إن الله خلق العالم وهو يسيره إلى غاية؛ لأن أعمال الحكماء يقصد منها غايته، والله أحكم الحكماء.
وثالثا: متى كان الله عدلا، وهو يحاسب الناس على أعمالهم ويجازيهم، فلا بد أن يكون الإنسان حر التصرف في أن يكون مسئولا عن عمله؛ فأعمال العباد مخلوقة لهم، وفي قدرة العباد أن يفعلوها وأن يتركوها من غير دخل لإرادة الله، ولولا ذلك ما كان التكليف، إذ لو لم يكن قادرا على الفعل وعدمه، ما صح أن يقال له افعل ولا تفعل، ولا مدح بفعل ولا ذم بترك، ولا كان للأنبياء معنى، وهي مسألة شائكة حيرت أهل الأديان من يهود ونصارى ومسلمين، كما حيرت الفلاسفة من قبل.
ولما جاء الإسلام رأينا أن هذه المسائل تثار ثم تخمد، ولا يتوسع فيها؛ فيروى أن عمرو بن العاص، وهو في أول الإسلام قال مرة أمام أبي موسي الأشعري: «أين أجد أحدا أحاكم إليه ربي؟» فقال له أبو موسى: «أنا ذلك المتحاكم إليه.» قال عمرو: «أو يقدر علي شيئا ثم يعذبني عليه؟ قال أبو موسى: نعم ... قال عمرو: ولم؟ قال: لأنه لا يظلمك.»
وجاء المعتزلة ووسعوا هذا البحث وفلسفوه، واتخذوا جانب الإرادة، ورأوا أن آيات القرآن بعضها يؤيدهم، وبعضها ضدهم، فساروا في آيات التأييد على وجوهها، وأولو الآيات التي هي ضدهم. فلما جاء دور أبي الحسن الأشعري طلع برأي جديد فقال: إن الله هو خالق أفعال العباد، وهو مريد كل ما يصدر منهم من خير أو شر، فعلمه تعالى وإرادته وقدرته متعلقة بجميع أفعال العباد، ولو قلتم: إن ذلك - إذا كان - تكليف بما لا يطاق، إذ لا يقدر العبد أن يخرج عما أريد منه، قال الأشعرية: أن لا مانع من تكليف ما لا يطاق ... وإذا كان العبد يحس بقدرته، فقدرته لا تأثير لها في خلق الأحداث، ولكن الله تعالى أجرى سنته أن يخلق الشيء عند القدرة الحادثة من العبد، فإذا أراد العبد شيئا، وعزم عليه، وتجرد له خلقه الله، غير أن للعبد شيئا يسمى «كسبا»، وقد فسروا هذا الكسب بأنه: «الاقتران العادي بين قدرة العبد والفعل»، فالله يخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته، لا بقدرة العبد وإرادته، وهذا الاقتران هو الكسب ... وبعبارة أوضح: أن الكسب هو الشعور بالاختيار، ولذلك كانت مسألة الكسب من أهم المسائل عند الأشعرية، وعليها يقع العقاب أو الثواب، وقد ناقشه في ذلك ابن حزم فقال: خبرنا عن هذا الكسب، هل هو مخلوق للعبد أو هو مخلوق لله؟ فإن كان مخلوقا للعبد فقد أثبت للعبد خلقا، وهو ما تنكره، وإن كان لله لم تفعل شيئا. وهو كلام صحيح، ولذلك أكثر الأشعرية في هذا الكسب من غير أن يصلوا إلى نتيجة واضحة، وجاء بعد الأشعري من عرض لهذا الأمر بتفسير آخر فقال: إن نفي القدرة عن العبد شيء يأباه العقل، فلا بد إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة على أنه محدث للعمل، وخالق له. والإنسان كما يحس من نفسه القدرة يحس من نفسه أيضا عدم الاستقلال، فالفعل يستند وجوده إلى قدرة العبد، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر، وإذا احتاج الأمر استند هذا السبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب وهو الله، وفي رأيي أن هذا رجوع إلى قول المعتزلة بالتواء.
على كل حال، يميل الأشعرية إلى التوسط بين الجبر والاختيار، وأن الله يوجد القدرة والإرادة في العبد، وقدرة العبد وإرادته لهما مدخل في فعله، فجميع المخلوقات من فعل الله، بعضها بلا واسطة، وبعضها بواسطة، وكون العبد يتوسط هو موضوع المسئولية والمؤاخذة.
كما خالف الأشعرية في هذا الباب المعتزلة في أن الله تعالى يريد الكائنات كلها من خير وشر وإيمان وكفر، وقد دخلوا مع المعتزلة في نقاش طويل خصوصا في مسألة الكفر من الكافر. قالت المعتزلة: إن الله لا يريد كفر الكافر ، وإلا لما أمره به، ولو كان الكفر مرادا لوجب الرضا به، والله لا يرضى لعباده الكفر. وأجابت الأشعرية بأن الأمر ينفك عن الإرادة، كالأمر الذي يصدره من يريد اختبار المأمور، والطاعة موافقة الأمر، وهو غير الإرادة، والرضا إذا نسب إلى الله تعالى فمعناه الثواب، أو ترك الاعتراض عليه، إلخ ...
وربما كان من أهم مسائل الخلاف بين المعتزلة والأشعرية اختلاف تصورهما لعدل الله، فالمعتزلة يقولون: إن الله كتب على نفسه العدل، فلا بد أن يعمل العمل لحكمة، ولا بد أن يسير العمل لغاية، ولا بد أن يكون عادلا مع المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، فلا بد أن يكون العبد حرا في العمل يعمل إذا شاء، ويترك إذا شاء، ولا بد أن يثيب الله المطيع، ويعاقب العاصي.
أما الأشعرية فعمادهم أن الله لا يسأل عما يفعل، وإطاعة المطيع تفضل، وعقاب العاصي مقدر، وليس الله ملزما في عمله بغاية، ... إلخ.
وربما كانت نقطة الخطأ عند المعتزلة ومن تابعهم، تصورهم عدل الله كما يتصورون عدل الحاكم من البشر كخليفة أو سلطان، فطبقوا عدل هؤلاء على عدل الله تعالى، وفاتهم أن العدل تختلف معانيه، حتى باختلاف الناس أنفسهم؛ فالعدل في نظر الإنسان الراقي غير العدل في نظر الرجل البدائي، وقد كان أرسطو يرى الرق عدلا، ونحن اليوم نراه ظلما صارخا، فما بالنا نحاول أن ندرك عدل الله وعقولنا لا تستطيع؟ إن نظرنا للعدل يتصل ببيئتنا، والعدل عند النظر إلى البيئة غير العدل عند النظر إلى الدنيا كلها، والله تعالى يحكم العالم كله، وهو في عدله ينظر إلى العالم كله، وليست الأرض وسكانها إلا هنة من هنات العالم؛ فنحن بالنسبة إلى الله ننظر كما تنظر النملة في محيطها الصغير، فكيف نحكم على عدل الله، ونحن لا ندرك شؤون هذا الكون ومخلوقاته، فضلا عن أننا لا ندرك منه عدل الله وسائر صفاته، فالغلطة هنا كالغلطة هناك التي شرحناها عند الكلام على صفات الله. (2-3) الوعد والوعيد
ومن أصول المعتزلة قولهم بالوعد والوعيد، فمن مات كافرا أو مصرا على كبيرة من الكبائر، فهو مخلد في النار أبدا، ومن مات مؤمنا دخل الجنة أبدا، فخالف في ذلك الأشعري وأصحابه فلم يخلدوا في النار إلا الكفار، والله قادر على أن يغفر لمن يشاء، وتبع ذلك قول الأشعري بالشفاعة، وأساس فكرتهم أن الله مالك لخلقه، يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنة لم يكن حيفا، ولو أدخلهم النار لم يكن جورا ولا ظلما؛ إذ الظلم أو الجور هو التصرف فيما لا يملكه المتصرف، أو وضع الشيء في غير موضعه، وهو المالك المطلق، فلا يتصور منه ظلم، ولا ينسب إليه جور.
قال إمام الحرمين في كتاب «الإرشاد»: «إذا ثبت جواز الغفران، وقد شهدت له شواهد من الكتاب والسنة، فيترتب على ذلك تشفيع الشفعاء، وحط أوزار المجرمين بشفاعتهم.
فمذهب أهل الحق أن الشفاعة حق، وقد أنكرها منكرو الغفران، ومن جوز الصفح والعفو بدءا من الله تعالى، فلا يمنع الشفاعة ...»
ويذهب الأشعري في كتابه «اللمع» في تفسير الوعد والوعيد مذهبا آخر، ويفسر قوله تعالى:
وإن الفجار لفي جحيم (الانفطار: 14)، وغير ذلك من الآيات، بأن الكلام قد يقع على الكل كما يقع على البعض، واللغة تجيز ذلك، كما يقول القائل: جاءني جيراني، وإن لم يأت جميعهم. (2-4) رؤية الله في الآخرة
قال المعتزلة بعدم رؤية الله في الآخرة لقوله تعالى:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار (الأنعام: 103)، وخالفهم الأشعري فقال: إن الله تعالى يرى في الآخرة بدليل قوله:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة (القيامة: 22، 23).
قال المعتزلة: إن الرؤية تتطلب أن يكون المرئي في جهة وفي مكان وصورة، واتصال شعاع، وكل ذلك مستحيل على الله. وقالت الأشاعرة: إن كل موجود يصح أن يرى، والمصحح للرؤية هو موجود، والله تعالى موجود فيصح أن يرى، ثم قيود الجهة والمكان، واتصال الشعاع إنما هو شأن الرؤية في الدنيا، وما يدرينا كيف نكون في الآخرة، وعلى أي وضع نتخيل رؤية الباري، وفي رأينا أن مذهب الأشاعرة في ذلك أصح.
وقد أجمع الأشاعرة على جواز رؤية الله في الآخرة ، وجعلوا ذلك من جملة اعتقاد أهل السنة، قال الإسفراييني في «التبصير»: «وأن تعلم أن القديم سبحانه يرى وتجوز رؤيته بالأبصار؛ لأن ما لا تصح رؤيته لم يتقرر وجوده كالمعدوم، وكل ما صح وجوده جازت رؤيته كسائر الموجودات، ودلائل هذه المسألة في كتاب الله كثيرة، منها قوله تعالى:
تحيتهم يوم يلقونه (الأحزاب: 44)، واللقاء إذا أطلق في اللغة وقع على الرؤية، خصوصا حيث لا يجوز فيه التلاقي بالذوات، والتماس بينها، وقد ورد في تفسير الآية الخاصة بموسى:
قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني (الأعراف: 143) أنه لو لم تكن الرؤية جائزة لكان لا يتمناها من هو موصوف بالنبوة. وأيضا فإنه سبحانه قال في جوابه:
لن تراني ، ولم يقل: لن أرى، وفيه دليل على أنه يصح أن يرى ... (2-5) خلق الأفعال
وكان من أهم المسائل التي خالف فيها الأشاعرة المعتزلة مسألة «خلق الأفعال»، فالمعتزلة قالوا: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، ولذلك يسأل عنها، وتكون مثوبته وعقوبته عليها عدلا، فجاء الأشعرية فقالوا: إن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى، وإن له اختيارا ، ولكنه مجبور على اختياره، وقدرته ليست مؤثرة أصلا، بل هي كاليد الشلاء، فنفوا الاختيار عن العبد، وهذا هو الذي يتفق مع أن الله يخلق ما يشاء.
ومن أدق مسائل الاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة الآية التي علقت بالمشيئة مثل:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله (الإنسان: 30)، ومثل قوله:
قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (الزخرف: 22) جعل الزمخشري هذه الآية دليلا على أن الله لم يشأ الكفر من الكافر، وكفر أهل السنة القائلين بأن المقدورات كلها بمشيئة الله، ووجه ذلك أن الكفار لما ادعوا أنه تعالى شاء منهم الكفر حيث قالوا:
لو شاء الرحمن ما عبدناهم ( الزخرف: 20) ... إلخ، أي لو شاء - جل جلاله - أن نترك عبادة الأصنام لتركناها، فرد الله عليهم، وأبطل اعتقادهم بقوله:
ما لهم بذلك من علم (الزخرف: 20)، فلزم حقيقة خلافه، وهو عين ما ذهب إليه، ويلزمه كفر القائلين بأن قوله تعالى في صورة الزخرف:
جعلوا له من عباده جزءا (الزخرف: 15)؛ فيكون ما تضمنته كفرا آخر، ويلزمه كفر القائلين بأن الكل بمشيئتة، وقال بعض الجبرية: إن كفرهم بذلك لأنهم قالوه على سبيل الاستهزاء، ورده الزمخشري بأن السياق لا يدل على أنهم قالوا مستهزئين، وحيث بطل أنهم قالوها على طريق الهزء وجب أن يكونوا جادين.
هذا إلى مسائل في الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة لا نطيل بذكرها، كخلافهم في الشفاعة ينكرها المعتزلة، ويقرها أهل السنة، وكالصراط والميزان والحوض، يقول المعتزلة: إنها معان رمزية، ويقول أهل السنة: إنها حقائق واقعية ... إلخ. (3) الغزالي والرازي
جاء عالمان كبيران قويا مذهب الأشعري، وزادا في انتشاره، هما أبو حامد الغزالي، وفخر الدين الرازي، فقد كان لهما مقام كبير عند المسلمين، وتأليفات كثيرة، استقبلت بالقبول. (3-1) أبو حامد الغزالي
فأما أبو حامد الغزالي فقد كان أعجميا من طوس، جيد الأسلوب، متدفق التعبير، وإن كان يلحن أحيانا، ولد بطوس سنة 450ه من أبوين فقيرين، وتكفل به وبالقليل من مال أبيه رجل صوفي أوصى إليه به أبوه، فعلمه شيئا من التصوف، فلما فرغ ماله التحق طالبا ليصيب شيئا من الرزق الذي كان يصرف للطلبة، وتعلم الفقه حتى كان أفقه أقرانه، وإمام أهل زمانه، وكان تلميذا لإمام الحرمين يأخذ عنه قواعد العقائد، ولازمه مدة طويلة، فلما مات إمام الحرمين خرج الغزالي قاصدا نظام الملك الوزير السلجوقي، وكان له مجلس يحضره العلماء يتناظرون فيه، فظهر عليهم، وولاه نظام الملك التدريس في مدرسته ببغداد، فذهب إليها سنة 474ه واشتهر اسمه، وعظم جاهه، ثم كان يعتريه الشك هذه المدة فيما يعمله، ثم زهد في منصبه وجاهه، وحج سنة 488ه، ورجع من الحج إلى دمشق، واعتكف بمنارة الجامع نحو عشر سنين يفكر ويقرأ ويكتب، وأخيرا زهد في العلوم وتصوف.
على كل حال، كانت له نواحي ثقافات عديدة واسعة، تثقف في الفقه وأصول الفقه، وألف فيهما، وتثقف بالفلسفة، وقرأ كثيرا من كتب ابن سينا، ورسائل إخوان الصفاء، ثم قرأ التعاليم الباطنية، ورد عليها، وبكل ذلك تأثرت نفسه، فلما أخرج كتاب «الإحياء» ظهرت فيه نزعات الفقه والتصوف والفلسفة مجتمعة ، ممزوجة مزجا غريبا.
والذي يهمنا أنه كان شافعيا أشعريا، وقد وسع مذهب الأشعري، وزاد فيه من ناحيتين: من ناحية موضوعاته، ومن ناحية معالجته للبراهين معالجة فلسفية على نمط جدل المنطق اليوناني؛ فصبغ العقيدة الأشعرية بصبغتين: صبغة فلسفية، وصبغة صوفية، وكان له أثر كبير في المسلمين حتى ليذهب بعض المستشرقين إلى أن الإسلام كما يتصوره كثير من الناس هو الإسلام بالصبغة الغزالية، وقد كتب على منهج الأشعرية كتبا ورسائل في العقيدة التي يجب أن يعتنقها أهل السنة منها رسالة صغيرة تحوي أهم العقائد سماها «عقيدة أهل السنة»،
3
و«الرسالة القديمة»، نقتطف منها بعض المقتطفات:
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، ذي العرش المجيد، والبطش الشديد، وهو في ذاته واحد لا شريك له، فرد لا مثل له، صمد لا ضد له، منفرد لا ند له، واحد قديم لا أول له، أزلي لا بداية له، مستمر الوجود لا آخر له ... ليس بجسم مصور، ولا بجوهر محدود مقدر، لا يماثل الأجسام لا في التقدير، ولا في قبول الأجسام ، ليس بجوهر، ولا تحله الجواهر، ولا بعرض، ولا تحله الأعراض ... لا يحده المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه الأرضون، ولا السموات، وإنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المحاسة والاستقرار ... وهو فوق العرش والسماء، وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، كما تزيده بعدا عن الأرض والثرى ... قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام ... وأنه لا يحل في شيء، وأنه لا يحل فيه شيء - تعالى عن أن يحويه مكان -كما تقدس عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان ... وهو تعالى حي قادر، جبار قاهر، لا يعتريه قصور ولا عجز، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعارضه فناء ولا موت ... وهو المنفرد بالخلق والاختراع، المتوحد بالإيجاد والإبداع، خلق الخلق وأعمالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا يشذ عن قبضته مقدور، ولا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور ... وهو عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرضين إلى أعلى السموات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويدرك حركة الذر في جو الهواء، وهو تعالى مريد للكائنات؛ مدبر للحادثات، فلا يجري في الملك والملكوت قليل أو كثير، صغير أو كبير، خير أو شر، نفع أو ضر، إيمان أو كفر، عرفان أو نكر، إلا بقضائه وقدره وحكمه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته ناظر، ولا فلتة خاطر، ولو اجتمع الإنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة، أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته لعجزوا عن ذلك، وإرادته قائمة بذاته في جملة صفاته ... وهو - سبحانه وتعالى - لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعل، وإنه حكيم في أفعاله، عادل في أقضيته لا يقاس عدله بعدل العباد، إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره، ولا يتصور الظلم من الله، فإنه لا يصادف لغيره مالكا، حتى يكون تصرفه فيه ظلما ... وهو متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لا عن وجوب، ومتطول بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم، فله الفضل والإحسان، والنعمة والامتنان؛ إذ كان قادرا على أن يصب على عباده أنواع العذاب، ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب، ولو فعل ذلك لكان منه عدلا، ولم يكن منه قبيحا ولا ظلما، وهو يثيب عباده المؤمنين على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم له؛ إذ لا يجب عليه لأحد فعل، ولا يتصور منه ظلم.
والله قد أرسل الرسل، وأرسل محمدا
صلى الله عليه وسلم
خاتما للنبيين، ناسخا لما قبله من شرائع اليهود والنصارى والصابئين، وأيده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وإنطاق العجماء، وما تفجر من بين أصابعه من الماء، ومن آياته الظاهرة القرآن العظيم الذي تحدى به العرب، فإنهم مع تميزهم في الفصاحة والبلاغة لم يقدروا على معارضته، ثم يجب الإيمان بالسمعيات كالحشر والنشر، وقد ورد بها الشرع، ومعناه الإعادة بعد الإفناء، وذلك مقدور لله تعالى كابتداء الإنشاء، وسؤال الملكين، وعذاب القبر والميزان، والله يحدث في صحائف الأعمال وزنا بحسب درجات الأعمال عند الله ... والإيمان بالصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة، وأحد من السيف ... والجنة والنار مخلوقتان ... والإمام الحق بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، ولم يكن لرسول الله نص على إمام أصلا، فلم يكن أبو بكر إماما إلا بالاختيار والبيعة ... واعتقاد أهل السنة تزكية جميع الصحابة، والثناء عليهم، كما أثنى الله ورسوله عليهم.
وما جرى بين معاوية وعلي كان مبنيا على الاجتهاد، لا منازعة من معاوية على الإمامة إذ ظن علي رضي الله عنه أن تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها، فرأى التأخير أصوب، ورأى معاوية أن تأخير أمرهم مع عظيم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمة، ويعرض الدماء للسفك، وقد قال العلماء: كل مجتهد مصيب ... وإن فضل الصحابة على حسب ترتيبهم في الخلافة، إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عز وجل، وذلك لا يطلع عليه إلا رسول الله، وقد ورد في الثناء على جميعهم آيات وأخبار كثيرة ... إلخ إلخ.
ومن أراد الاتساع فليرجع إلى الرسالتين. (3-2) فخر الدين الرازي
وأما الفخر الرازي، فهو محمد بن عمر التيمي البكري. وهو كذلك فارسي كالغزالي، وهو مثله أيضا في قوة الحجة، وفصاحة اللسان، والقدرة على البرهان، وكثرة التأليف في علم الكلام، وقد حارب كل المذاهب ما عدا مذهب أهل السنة. يضاف إلى ذلك ما كان له من عظم الجاه، وسعة الثراء، يقال: إنه ملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة، والمراكب، والأثاث.
ولد سنة 543ه، ودرس علوم الدين، والفلسفة، والفقه، وكانت له اليد الطولى في اللسانين العربي والفارسي ، يعظ بهما على السواء، وتفسيره القرآن الكريم، وكتبه المختلفة العربية تدل على سعة اطلاعه، سافر إلى خوارزم بعدما مهر في العلوم، فرأى بها جماعات من المعتزلة ناظرهم فاضطهدوه حتى خرج عنهم.
ألف تصانيف كثيرة في التفسير وفي الكلام، وقد وسع كالغزالي مذهب الأشعري، ودافع عنه، وعلى الجملة كانا دعامتين من أكبر دعائم الأشعري، وقد وردت إلينا بعض كتبه كالتفسير، وتأسيس التقديس، وغيرهما، وهي تدل على تدفق، وسعة نظر، وقوة برهان.
ومع ذلك وصل هو والغزالي إلى نتيجة واحدة، وهي التقليل من قيمة علم الكلام، فقال الفخر الرازي في وصيته التي وضعها في آخر أيامه: «ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة، والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية.
فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء، فذلك هو الذي أقول به، وألقى الله به، وأما ما ينتهي الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في القرآن، والصحاح المتعين للمعنى الواحد، فهو كما قال، والذي لم يكن كذلك أقول يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين،
4
وكذلك قال:
نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وللغزالي موقف يشبه هذا الموقف في قيمة علم الكلام، نعرض له فيما بعد.
هوامش
الفصل الثاني
الماتريدية
هناك فرع من فروع أهل السنة يوازي فرع الأشعري، وهو فرع الماتريدية، وتنسب الماتريدية إلى أبي منصور الماتريدي، وهو كذلك أعجمي من سمرقند. ولئن كان الأشعري شافعيا، فقد كان الماتريدي حنفيا، ولذلك ربما كانت الخلافات القليلة بين الأشعري والماتريدي ترجع إلى خلافات بين الشافعي، وأبي حنيفة في أصولهما؛ ولذلك كان أكثر أتباع الماتريدية حنفية ، وأتباع الأشعري شافعية، وقد كان أبو منصور الماتريدي معاصرا للأشعري، هذا في سمرقند، وذاك في البصرة، وكان عصرهما مليئا بالحركات الدينية، فكان فيه مثلا الحركات الصوفية، ورجال التصوف الكبار أمثال أبي يزيد البسطامي المتوفى سنة 261ه، والجنيد، والحلاج، كما نشطت فيه حركات التشيع، وكانت حركة الاعتزال في آخر أيامها، وكان لكل مذهب علماء يؤيدونه، ويأخذون بناصره، ظهر الأشعري في البصرة، ومات نحو سنة 330ه، وظهر الماتريدي في سمرقند، ومات سنة 332ه، ولا نعلم الكثير من حياة الماتريدي، وإن كنا نعلم الكثير عن مذهبه.
لقد اتفق الماتريدي والأشعري على كثير من المسائل الأساسية التي يمكن استنتاجها مما لخصناه من عقيدة الغزالي، وقد ألفت كتب كثيرة، وملخصات بعضها يشرح مذهب الماتريدي، كالعقائد النسفية لنجم الدين النسفي، وبعضها يشرح عقيدة الأشعري كالسنوسية والجوهرة، وقد ألفت كتب في حصر المسائل التي اختلف فيها الماتريدي والأشعري، ربما أوصلها بعضهم إلى أربعين مسألة.
والناظر إليها يرى أنها ليست بذات خطر كبير، مثل: هل البقاء هو الوجود أو غيره؟ ومثل: هل الوجود زائد عن الذات أم عينها؟ وكاختلافهم في تفسير صفة القدرة، والإرادة، والكلام، وفي تفسير لزوم الحكمة في أفعاله تعالى، وهل العفو عن الكافر يجوز، وهل الإيمان بالله واجب بالعقل أم لا، وما حقيقة الإيمان، وهل الإيمان يزيد وينقص، وهل الإيمان والإسلام واحد أم لا؟ وهل السعادة والشقاوة تتبدلان على الإنسان أم لا؟ إلى آخر هذه المسائل التي لا تعد من الأركان، ونسوق أمثلة على جدالهم في هذا: فمثلا: اختلفوا في معنى القضاء والقدر، فقال الماتريدية: إن القدر هو تحديد الله أزلا كل شيء بحده الذي سيوجد به من نفع، وما يحيط به من زمان ومكان، والقضاء الفعل عند التنفيذ. وقال الأشاعرة: إن القضاء إرادة الله الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها المخصوصة، احتج الماتريدية بقوله تعالى:
وخلق كل شيء فقدره تقديرا (الفرقان: 2)، أي قدر كل شيء تقديرا يوافق الحكمة فخلقه، وفي الحديث: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض.» أي عين وقدر مقاديرهم قبل خلقهم، ثم يخلق كل شيء، ويوجده في الوقت الذي قدر أن يخلقه فيه، وهذا هو القدر.
واحتج الأشاعرة بما روي في الصحيح من أن رجلين من مزينة قالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم، وقضي فيهم من قدر سبق، أم فيما يستقبلون؟ فقال: «لا، بل شيء قضي عليهم ... إلخ.»
وأرى أن الخلاف بينهم يشبه أن يكون لفظيا ...
ومثل آخر اختلافهم في الإيمان، يقول الماتريدية إنه تعالى لو لم يبعث للناس رسولا لوجب عليهم بعقولهم معرفته تعالى، ومعرفة وحدانيته، واتصافه بما يليق، وكونه محدثا للعالم، كما روي ذلك عن أبي حنيفة، وذهب مشايخ الأشاعرة إلى أنه لا يجب إيمان، ولا يحرم كفر قبل البعث، احتج الماتريدية بقوله تعالى:
أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم (نوح: 1)؛ حيث تدل على أن حجة الإيمان تلزم الخلق قبل أن يأتيهم النذير؛ لأنها لو كانت لا تلزمهم لكانوا في أمن من نزول العذاب بهم قبل أن يأتيهم النذير، فلا يخوفون بنزول العذاب بهم قبل أن ينذروا، فلما خوفوا بنزول العذاب بهم قبل أن يأتيهم دل على أن الحجة لازمة عليهم، وأن الله تعالى يعذبهم لتركهم التوحيد، وإن لم يرسل إليهم الرسل، واستدل الأشعرية على قولهم بقوله تعالى:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (الإسراء: 15)؛ حيث نفى العذاب مطلقا قبل وصول الشرع. وقد أجابت الماتريدية بأن الآية محمولة على عذاب الاستئصال، ونفي وقوعه قبل بعث الرسول لدلالة سياقها، وهو قوله تعالى:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها (الإسراء: 16)، كما اختلفوا في هذا الموضوع نفسه في حقيقة الإيمان، فقال الماتريدية: الإيمان: الإقرار والتصديق، أي أن الإقرار شطر منه، وركن من أركانه. وقال الأشعري: إن النطق بالشهادتين من القادر شرط في الإيمان، ولكنه خارج عن ماهيته التي هي التصديق. واستدل الماتريدية بأن الإيمان لغة: التصديق، والتصديق كما يكون بالقلب يكون باللسان، فيكون كل من التصديق القلبي، والتصديق اللساني ركنا في مفهوم الإيمان. واستدل الأشعري على قوله بقول الله تعالى:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان (المجادلة: 22)، وقوله:
وقلبه مطمئن بالإيمان (النحل: 106)، فهذه الآيات تدل على أن محل الإيمان هو القلب، فيدل على أن الإيمان هو التصديق القلبي فقط.
واختلفوا في المتشابهات، وأساس اختلافهم قراءتهم لقوله تعالى:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا (آل عمران: 7)، فالماتريدية يقفون عند قوله:
وما يعلم تأويله إلا الله (آل عمران: 7) أليق ببلاغة النظم؛ لأنه لما ذكر أن من القرآن متشابهات جعل الناظرين فيه فريقين: الزائغين عن الطريق، والراسخين في العلم. وجعل اتباع المتشابه حظ الزائغين بقوله تعالى:
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله (آل عمران: 7)، وجعل في مقابل ذلك اعتقاد الحق مع العجز عن إدراك حظ الراسخين بقوله:
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا (آل عمران: 7)، ولو عطف
والراسخون في العلم
على الله لكان قوله تعالى:
يقولون
كلاما مبتدأ حذف مبتدؤه، أي
يقولون ، والحذف خلاف الأصل.
ومثلا: اختلفوا في أن الذكورة هل هي شرط النبوة أو لا، فقال الماتريدية: إن الذكورة شرط النبوة. وقال الأشعرية: إنها ليست شرطا، بل صحت نبوة النساء. استدل الماتريدية بقوله تعالى:
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم (النحل: 43)، فيدل هذا على أن الإرسال إنما كان للرجال، وذلك ينفي نبوة المرأة، واحتج الأشاعرة بقوله تعالى:
وأوحينا إلى أم موسى (القصص: 7)؛ حيث دل على أنه وقع الإيحاء إليها، والإيحاء من خصائص الأنبياء. ورد الماتريدية بأن الوحي هنا بمعناه الواسع وهو الإلهام، وذلك حتى كان ذلك إلى النحل، فقال تعالى:
وأوحى ربك إلى النحل (النحل: 68)، فمعنى آية أم موسى أنه أوقع في قلبها عزيمة أن تلقيه في التابوت، ثم تقذف التابوت في اليم ... إلى مثل هذه المسائل.
والذي يقارن بين العقائد النسفية، والرسائل المؤلفة على مذهب الأشعري يرى كثيرا من هذا الخلاف، فارجع إليه إن شئت التفصيل.
1
ونحن لو دققنا النظر في الخلاف بين الأشعرية والماتريدية وجدنا لون الاعتزال أظهر في الأشعرية بحكم تتلمذ الأشعري للمعتزلة عهدا طويلا، كالذي ذكرنا من قبل مثل إدراك الإيمان بالعقل، والمسئولية حتى قبل ورود الشرع.
وقد انتصر للمذهب الماتريدي كثير من علماء الحنفية مثل: فخر الإسلام البزدوي، والتفتازاني، والنسفي، وابن الهمام، إلى غيرهم، ولكنهم لم يبلغوا - والحق يقال - مبلغ أتباع الأشعري؛ فرجح مذهب الأشعري، وزاد انتشاره، وكثر أتباعه.
هوامش
الفصل الثالث
السنة تصبح مذهبا رسميا
وقد سمي الأشعري وأتباعه والماتريدي وأتباعه بأهل السنة، وقد استعملت كلمة «أهل» بدل النسبة، فقالوا: أهل السنة أي السنيين، وقد يسمون أيضا الأثرية نسبة إلى الأثر، وهو الحديث. وسمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وسمي المبتدعة أهل الأهواء، وسمي اليهود والنصارى أهل الكتاب، والقرآن الكريم سمى أصحاب الكهف أهل الكهف.
والسنة في أهل السنة تحتمل أحد معنيين؛ إما أن تكون السنة بمعنى الطريقة، أي أن أهل السنة اتبعوا طريقة الصحابة والتابعين في تسليمهم بالمتشابهات من غير خوض دقيق في معانيها، بل تركوا علمها إلى الله، وإما أن تكون السنة بمعنى الحديث، أي إنهم يؤمنون بصحيح الحديث، ويقرونه من غير تحرز كثير، وتأويل كثير كما يفعل المعتزلة.
واسم أهل السنة كان يطلق على جماعة من قبل الأشعري والماتريدي، وقد حكي لنا أن جماعة كان يطلق عليها أهل السنة، وكانت تناهض المعتزلة قبل الأشعري، ولما جاء الأشعري، وتعلم على المعتزلة اطلع أيضا على مذهب أهل السنة، وتردد كثيرا في أي الفريقين أصح، ثم أعلن انضمامه إلى أهل السنة، وخروجه على المعتزلة.
كان للحكومات دخل كبير في نصرة مذهب أهل السنة، والحكومات عادة إذا كانت قوية، وأيدت مذهبا من المذاهب تبعه الناس بالتقليد، وظل سائدا إلى أن تدول الدولة. نذكر من بين هذه الحكومات التي أيدت أهل السنة الأيوبية في مصر والشام، وعلى رأسها صلاح الدين، ودولة الموحدين، وعلى رأسها محمد بن تومرت، والدولة الغزنوية.
أما الدولة الأيوبية، وعلى رأسها صلاح الدين فقد أطاحت بالدولة الفاطمية الشيعية، وكانت قد تغلغت بشيعيتها في كل الحياة الاجتماعية المصرية والشامية، فيؤذن على المآذن الأذان الشيعي من «حي على خير العمل»، ورجال الدولة يدعون بالمذهب الشيعي، وعلى رأسهم داعي الدعاة، والأعياد، والمحافل تقام بالمراسيم الشيعية، والعلوم تدرس على مذهب الشيعة من تفسير وحديث وفقه، ومن وجد عنده موطأ مالك عذب، فجاء صلاح الدين يعاونه وزيره القاضي الفاضل، وأزال الدولة الفاطمية، وأحل محلها المذاهب السنية، وبنى المدارس يدرس فيها مذهب الشافعي ومالك، وأزال الخلافة الفاطمية، وخطب للخليفة العباسي في بغداد. ولتغلغل المذهب الفاطمي، وإلف الناس للدولة الفاطمية، تردد أن يخطب للخليفة العباسي، وأحجم كثير من الخطباء أن ينفذوا هذا الأمر لولا جرأة بعضهم على ذلك، فلم يحرك المصريون ساكنا فجرأ ذلك صلاح الدين على المضي في سبيله، بل إن صلاح الدين كتب منشورا يحرم فيه الجدل حول خلق القرآن وكلام الله، كالذي كان يثيره المعتزلة، وجاء في هذا المنشور: «خرج أمرنا إلى كل قائم في خف، أو قاعد في أمام أو خلف ألا يتكلم في الحرف بصوت، ولا في الصوت بحرف؛
1
فمن يتكلم بعدها كان الجدير بالتكليم
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم . وسأل النواب القبض على مخالفي هذا الخطاب، وبسط العذاب، ولا يسمع لمتفقه في ذلك تحيير جواب، ولا يقال عن هذا الذنب تاب، وليعلم بقراءة هذا الأمر على المنابر، ليعلم به الحاضر والبادي، ويستوي فيه البادي والحاضر
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (الأحزاب: 4)، والظاهر أنه من إنشاء القاضي الفاضل؛ لأنه بأسلوبه أشبه.
وعلى الجملة فقد عادت مصر والشام فاصطبغا بالصبغة السنية بعد أن اصطبغا بالصبغة الشيعية، وخصوصا في علمهما، وثقافاتهما، وتدينهما.
وأما دولة الموحدين في المغرب والأندلس، فقد كان رئيسها محمد بن تومرت قد رحل إلى المشرق، وحضر فيه دروس الدين، وتتلمذ على الإمام الغزالي، فلما تملك وأنشأ دولة الموحدين حمل الناس على اتباع مذهب الأشاعرة، حسبما فسره له أستاذه الغزالي.
2
وقد كانت كتب الغزالي وأمثاله محرمة في عهد المرابطين، حتى لقد أحرق كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي، فلما جاء الموحدون أعادوا له مجده.
أما الدولة الغزنوية، فكانت دولة تركية، وكان أعظم من ظهر فيها محمود الغزنوي بن سبكتكين، وكانت عاصمة البلاد غزنة في الهند، وقد غزا محمود الهند نحو سبع عشرة غزوة أدت إلى الاستيلاء على البنجاب، وعاصمتها لاهور، وعلى ملتان، وعلى بعض السند، وامتد سلطانه غربا إلى العراق العجمي، وفيه الري، وأصفهان، وأخرج منه الشيعة البويهيين، واعترف محمود بالخليفة العباسي القادر كما فعل صلاح الدين، وبذلك انتصر العنصر التركي على العنصر الإيراني، وإذا كان أكثر الفرس شيعة، فإن أكثر الترك سنية، وقد ازدهر العلم في عهده على المذهب السني، ومن مشاهير علمائه العتبي المؤرخ، والعالم المشهور البيروني، والشاعر الفردوسي، وهم يحكون أن محمود الغزنوي كان حنفيا، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي على يد الفقيه الشافعي الكبير «القفال».
ومن هذا يظهر أن الدولة الإسلامية كانت تتعاقب عقائدها بتعاقب حكوماتها، فإذا انتصرت الحكومة سياسيا، وكانت شيعية - أو بعبارة أخرى فارسية - حملت الناس على التشيع كالدولة الفاطمية والبويهية، وإذا انتصر الأتراك أو الأكراد، وكانوا سنيين حملوا الناس على اتباع مذاهبهم.
وأهل السنة من أشاعرة وماتريدية يقولون: إنهم لم يأتوا بشيء جديد، وإنما اتبعوا في مذاهبهم مذهب السلف، ومذهب السلف يعني مذهب الصحابة والتابعين، وحقيقته أنها إذا وردت آية متشابهة أو حديث آمنوا به على عمومه وصدقوه، وتركوا علمه إلى الله، ولم يخوضوا في تفسير معناه، ولم يتصرفوا فيه بتأويل، ولا زيادة، ولا نقصان، فإذا سمع مثلا نسبة اليد إلى الله والإصبع، وقوله: إن الله خمر طينة آدم بيده، «وإن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن»، قال: إني أعلم أن الأصابع واليد تتركب من لحم وعظم وعصب، واللحم والعظم والعصب جسم، وأنا أؤمن بأن الله ليس بجسم ولا عرض، فيد الله وأصابعه منزهة عن الجسمية، وأترك العلم بها وبمعانيها لله ولرسوله. وإذا سمع حديث: «إني رأيت ربي في أحسن صورة» قال: إن الصورة يراد بها الهيئة الحاصلة في الأجسام، والله تعالى منزه عن ذلك، وإن الصورة في حق الله لا تطلق على هذا المعنى المادي. وإذا سمع: «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا» قال: إن النزول في العادة يطلق على جسم عال نزل من أعلى إلى أسفل، وهذا محال على الله، وإنما نترك تفسيره إلى الله ورسوله.
ومن أهل السنة كالأشاعرة - كما ذكرنا من قبل - من سمح لنفسه إذا كان عالما متخصصا أن يؤول ذلك كله، فيفسر اليد بالقدرة، ويفسر بقية الآيات على هذا النحو من التأويل، وقد روي عن بعض السلف مثل هذه التأويلات، وتوسع فيها المعتزلة إلى آخر حد.
على كل حال، امتلأ جو العالم الإسلامي بالكلام، فيما نسميه «علم الكلام»، وكثر الجدال، وكثرت المناظرات إلى حد غريب، وأثيرت الفتنة، وتدخلت السياسة، واعتنقت الحكومات مذهبا من المذاهب فنصرته، واعتنقت حكومات أخرى مذاهب أخرى فنصرتها، وتقاتلت السيوف كما تقاتلت الألسنة، وانتهى الأمر بأن شك بعض العلماء في قيمة علم الكلام، فألف الغزالي مثلا كتاب «إلجام العوام عن علم الكلام»، ورأى فيه أن الإيمان بالبرهان يتدرج أنواعا، فأرقاها وأعلاها أن يؤمن الإنسان، ويصدق تصديقا جازما بناء على برهان حاز كل شروطه، وتقصى المقدمات كلمة فكلمة، وتبعها درجة فدرجة، حتى جلاها وصفاها، ثم أوصلته إلى نتيجة آمن بها كل الإيمان، وهذا عادة لا يحصل إلا لقليل من العلماء الراسخين في العلم.
الثاني: أن يركن المؤمن إلى صحة ما يقول العلماء من غير بحث في كل كلمة أو مقدمة، ويليها أن يصدق المؤمن بالأدلة الخطابية، كما يحدث في المحاورات والمخاطبات التي تجري بها العادة، وذلك إيمان كثير من الناس.
وأقل من هذا التصديق بمجرد السماع ممن حصل فيه الاعتقاد لكثرة ثناء الخلق عليه، كمن يحسن الظن في أبيه وأستاذه؛ فيعتقد اعتقادا جازما في أخباره إذا أخبره بخبر ميت، أو حضور غائب.
ويلي هذا في الرتبة الإيمان بقول القائل لوجود قرائن تدل على صحته، كمن علم أن فلانا مريض، ثم سمع خبرا ممن يثق بصدقه أنه مات، فعلمه بمرضه قرينة على صحة الخبر ... إلخ، وخرج من هذا إلى نتيجة أن العوام ، وجمهور الناس ليس لهم من سعة العقل، وعمق الثقافة وسعتها ما يستطيعون به الإيمان بناء على البرهان الصحيح الذي يقتضيه علم الكلام، ومن أجل هذا ألف كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام»، بل إن هذه البراهين تضرهم وتشككهم؛ لأنهم لا يحسنون استخدام البراهين على وجوهها الصحيحة، فلا يعرفون مقدمة صغرى ولا كبرى، ولا شروط القياس الصحيح، ونحو ذلك.
فأولى بهم الدرجات الأخرى من الاعتقاد، خصوصا وأن القرآن الكريم لم يتبع في الدعوة إلى الإيمان هذه الطرق المنطقية، بل دعا بلفت النظر إلى آيات الله في الكون، وما يتطلبه ذلك من شعور القلب واهتزازه، مثل:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت (الغاشية: 17، 18) ... إلخ، ومثل:
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم (الروم: 22) الآيات. والدعوى إلى النظر في السماء والأرض، وإرسال الرياح والغيث ... إلخ إلخ، فهذه الطريقة تفيد الناس أكثر مما تفيدهم الطريقة المنطقية الجدلية الكلامية.
على أن الغزالي نفسه وهو عالم كبير مع تمرسه بالقواعد المنطقية في كتب الفقه والفلسفة، واستعراضه المذاهب المختلفة من تشيع واعتزال وأهل السنة، كل ذلك لم يجعله يطمئن إلى الإيمان الصحيح الذي يرتضيه، إنما جعله يؤمن ويطمئن بالرياضة النفسية، وتفتح قلبه للتصوف والكشف، وإصغائه إلى صوت قلبه لا عقله.
وقد تقسمت البلاد الفرق المختلفة، فقد كان أكثر شيعة العراق معتزلة، وكذلك شيعة الهند، والشام، والبلاد الفارسية، وانتشرت الزيدية في اليمن، وهم يتفقون مع المعتزلة في كثير من الأصول، وانتشر مذهب السلف، وإن شئت فقل: السنية في بلاد نجد، ثم هناك طوائف سنية في الهند، والعراق، والحجاز، والشام، ومصر. وأخيرا كان السواد الأعظم من البلاد الإسبانية أشعريين، ولنا هنا ملحوظتان:
الأولى:
أن البلاد وقد تقسمتها الفرق المختلفة، وكثر الجدال بين أهلها، كان كثير من العلماء غير دقيق في نقل مذهب المخالفين، وأول ما رأينا ذلك رأيناه في كتاب «الانتصار»؛ إذ نقل ابن الراوندي أشياء كثيرة عن المعتزلة، وكذبه فيها الخياط المعتزلي، ثم رأينا كثيرا من الكتب ك «الفرق بين الفرق» للبغدادي، تنسب إلى المعتزلة ما حكاه ابن الرواندي عن المعتزلة وكذبه فيه الخياط. كما نسبوا إلى المعتزلة القول بإنكار عذاب القبر، مع أنهم لم ينكروه، وإنما أولوه بأنه معنوي لا حسي، وفرق كبير بين الاثنين.
فالكتب مملوءة بالادعاءات على المذاهب المختلفة من غير تمحيص، معتزلة ينسبون إلى الشيعة ما لم يقولوا، وسنية ينسبون إلى الشيعة والمعتزلة ما لم يقولوا، وهكذا.
وقد عدوا الفخر الرازي من أدق من ينقل رأي المخالف ويمحصه، ويحدد نقط الخلاف، كما يظهر في كتابه «تأسيس التقديس».
والملاحظة الثانية:
شدة التعصب بين الشافعية والحنفية، وبين الماتريدية والأشعرية، وبين أهل السنة والمعتزلة والشيعة، وقد كان ذلك عاملا كبيرا من عوامل ضعف المسلمين، والذي يقرأ المقدسي في رحلته، وياقوت في معجم البلدان، ويرى صدق هذا القول من تخريب بلاد، وقتل نفوس، وشدة فتن وهياج، وكل فرقة لا تتعفف عن تكفير الأخرى، حتى لو صدقنا قول بعضهم في بعض لخرج المسلمون كافرين.
وكنت وأنا طالب أقرأ في كتاب «مسلم الثبوت»، فإذا قال صاحبه : «وقالت المعتزلة» لم يزد الشارح على قوله: «لعنهم الله»، مع أن المعتزلة مع بعض أغلاطهم قاموا بدور كبير في نصرة الإسلام، والدفاع عنه، وحتى تسمية كتبهم تدل على كثير من الحقد والغضب، مثل: كتاب «الصواعق المحرقة»، وكتاب «حز القلاصم»، وكم شنع المحدثون على الجهمية، وهو اسم كان في الأول يطلق على أتباع جهم بن صفوان الذي ظهر في الدولة الأموية، ثم أطلقوه على المعتزلة لاتفاقهم مع الجهمية في توحد ذاته تعالى، ونفي الصفات، وقولهم: إن الصفات هي الذات، وبعد أن شنعوا عليهم كفروهم.
ومن أمثلة هذا التعصب: ما حكى السبكي في طبقات الشافعية أن الصاحب بن عباد عرض على محمد بن الحسن البحاث القضاء على شرط أن يتمذهب بمذهبه، أي الاعتزال؛ فامتنع، وقال: لا أبيع الدين بالدنيا. قال: وهذا مما يستنكر من مثل الصاحب، وهو ما هو. ويقول الجاحظ: «وعبتم علينا إكفارنا إياكم، وأنتم أسرع الناس إلى إكفارنا.» مما يدل على ما بين الفرق من العداء، وسرعة الرمي بالكفر . ويقول في موضع آخر: «ونحن لم نكفر إلا من أوسعناه حجة، ولم نتهم إلا أهل التهمة، وليس كشف المتهم من التجسس، ولا امتحان الظنين من هتك الأستار، ولو كان كل كشف هتكا، وكل امتحان تجسسا لكان القاضي أهتك الناس بستر، وأشد الناس كشفا لعورة.» وما ظنك بقوم كفروا الغزالي، وأحرقوا كتاب «الإحياء»، وكثيرا ما كان يدعو التعصب إلى التعصب، وحرارة القتال إلى حرارة القتال.
ومن نعم الله أن كثيرا من كبار العلماء كانوا لا يرون هذا الرأي، ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة يؤيدون مذهبهم، ويعذرون مخالفيهم، كالغزالي، والفخر الرازي، وصاحب كتاب «العلم الشامخ»، وابن تيمية وأمثالهم.
قال أحمد بن المختار الرازي في كتابه «حجج القرآن»: «ما من فرقة إلا ولها حجة من الكتاب، وما من طائفة إلا وفيها علماء نحارير فضلاء لهم في عقائدهم مصنفات، وفي قواعدهم مؤلفات، وكل منهم يؤول دليل صاحبه على حسب عقيدته، ووفق مذهبه، وما منهم من أحد إلا ويعتقد أنه المحق، وأن مخالفه في ضلال بعيد، و
كل حزب بما لديهم فرحون ، وقد دافع في كتابه هذا عن الفرق المختلفة، وعذرها؛ لأنها اعتمدت في مذهبها على نصوص من القرآن والسنة، ونهى من يكفر أهل القبلة، أو يعير طائفة بالقلة، أو يخرجهم ببدعة عن الملة»، وقال ابن تيمية: «إن الكفر يكون بتكذيب الرسول
صلى الله عليه وسلم
فيما جاء به، أو الامتناع عن متابعته»، وعقد فصلا في تخطئة من فرق المسلمين بالتكفير.
ولما رأى الغزالي ما انتشر في أهل عصره من التعصب، حتى رمي هو نفسه بالكفر، ألف كتابه «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، ودعا فيه إلى التسامح على أوسع وجه، وقال صاحب «العلم الشامخ»: «إن الخلاف والتعصب والتحزب هو الذي حمل سيوف بعض المسلمين على بعض وحلل دماءهم، وأموالهم، وأعراضهم، وحرف الكتاب والسنة، ثم صيرهما كالعدم بسد باب الاجتهاد ...» وقال أيضا: «ثم ترتب على الافتراق تقويم كل لعمود الشقاق، وصار كل منهم إنما يعتز بمن مال إليه من الملوك على خصمه.» وقال الأشعري نفسه في أول كتابه «مقالات الإسلاميين»: «اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل فيها بعضهم بعضا، وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينة إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم.»
وكان كبار العلماء لا يتحرجون من الاستعانة في العلم بأصحاب الرأي المخالف، فقد روى الغزالي في «المستصفى» أن عليا رضي الله عنه استأذنه قضاة البصرة بأن يقبلوا شهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم، فأمرهم بقبولها كما كان يقبلها قبل حربهم له؛ لأنهم حاربوا على تأويل، وفي رد شهادتهم تعصب، وتجديد خلاف، ثم إن الشيخين - البخاري ومسلما - لم يحجما عن قبول المعتزلة، وغيرهم في رواية الحديث، مع تصلب الشيخين في الرواة وتحريهما، وعد ابن حجر أسماء كثير من المعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والخوارج، وغيرهم ممن خرج له الشيخان، أو أحدهما.
ويعجبني قول صاحب «العلم الشامخ»: «إني لست بمعتزلي، ولا أشعري، ولا أرضى بغير الانتساب إلى الإسلام، وصاحب الشريعة
صلى الله عليه وسلم
وأعد الجميع إخوانا، وأحسبهم على الحق أعوانا.» وهو قول حق أؤيده فيه كل التأييد .
ولئن كان التسامح في زمانهم واجبا، فهو في زماننا أوجب لسببين:
الأول:
أن كثيرا من أسباب الخلاف كان تاريخيا، وقد أصبح في ذمة التاريخ كالخلاف في أي الصحابة أفضل، والخلاف فيما علمه الصحابة في حروبهم وسيرهم، وقد انقضى كل هذا ودفن في التاريخ، فما لنا نفتح صفحة طواها الله؟!
والثاني:
أن المسلمين اليوم أحوج ما يكون إلى الوحدة؛ لوقوعهم في مشاكل أمام أوروبا، وأمام أنفسهم، لا ينقذهم منها إلا وحدتهم، وليس أسر لعدوهم من فرقتهم، فما بالنا نسيء إلى أنفسنا بفرقتنا، ونفرح العدو بشتاتنا ... والله تعالى يقول:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا (آل عمران: 103).
هوامش
الشيعة
الفصل الأول
الشيعة1
كانت فرق الشيعة فرقا كبيرة، يعتنقها عدد كثير من المسلمين، ويتجادل علماؤهم مع المعتزلة وأهل السنة جدالا طويلا، حكى عنه المؤرخون كثيرا، وكانت هذه الفرق تختلف غلوا واعتدالا.
ومن أشد الخصومات ما كان بين المعتزلة والروافض؛ لما روي من أن جماعة كثيرة جاءت زيد بن علي لتبايعه، وألحوا عليه في قبول البيعة، ومحاربة بني مروان، فلما أراد زيد أن يجاهر بالأمر جاء إليه بعض رؤسائهم، وقالوا له: «ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله، وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يتبرأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيرا، وأشد ما أقول: إنا كنا أحق بسلطان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الناس أجمعين، وإن القوم استأثروا علينا، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد ولوا فعدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة.» فلم تعجبهم هذه الأجوبة، فنكثوا عن البيعة له ورفضوه، فقال زيد: «رفضتموني في أشد ساعات الحاجة!» فسموا بالروافض عند ذلك. وقد يسمون بالرافضة أيضا، وهو اسم مكروه، وهناك طوائف غير الرافضة بعضهم أكثر غلوا، وبعضهم أكثر اعتدالا، ومن أعدلهم الزيدية.
هوامش
الفصل الثاني
الإمامة
كذلك من أعدلهم من جمع بين الشيعة والاعتزال، أهم اختلافهم كان على مسألة الإمامة، هل الأحق بخلافة المسلمين أبو بكر وعمر وعثمان؟ فقال أهل السنة: إن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وإنهم لم يظلموا عليا، ولم يغتصبوا منه الخلافة، وإن أكثر الصحابة كانوا أعلم بظروفهم، وأعلم بأخلاق بعضهم؛ فاختاروا أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان؛ لأنهم رأوا أن ذلك أنفع للمسلمين. وذهبت الشيعة إلى أن عليا أولى بالخلافة؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
نص على ذلك، ولأن فيه من المزايا ما ليس في غيره.
ومن أجل أن الإمامة أهم شيء في الخلاف، وقد عدوها أصلا من أصول الدين سميت طائفة كبيرة بالإمامية، وهم يرون أن الإمامة في علي أولا، ثم في أبنائه على التعيين واحدا بعد واحد، وأن الإيمان بالإمام، ومعرفته أصل من أصول الدين، وقد دعاهم احترام الأئمة، وإجلالهم إلى القول بعصمتهم، والحق أن ظاهر القرآن لا يقول بعصمة الأنبياء مثل:
وعصى آدم ربه فغوى (طه: 121)، و
عبس وتولى * أن جاءه الأعمى (عبس: 1، 2)
فلعلك باخع نفسك (الكهف: 6)،ولهذا لما قال الشيعة بعصمة الأئمة اضطروا أن يقولوا بعصمة الأنبياء أيضا، وفشت هذه العقيدة في المسلمين الآخرين، وربما كان الفخر الرازي من أسبق القائلين بعصمة الأنبياء.
ويقول المجلسي في كتابه «حياة القلوب»: «وهم - أي الأئمة - معصومون من الذنوب صغيرها وكبيرها، فلا يقع منهم ذنب أصلا، لا عمدا، ولا نسيانا، ولا سهوا، ولا غير ذلك. ولا يقع منهم ذنب قبل نبوتهم، حتى ولا في دور طفولتهم. ويستند الشيعة في ذلك إلى قوله تعالى لإبراهيم:
إني جاعلك للناس إماما (البقرة: 124)، قال:
ومن ذريتي (البقرة: 124)، ثم قال:
لا ينال عهدي الظالمين ، قالوا: فنعلم من ذلك أن كل مذنب فاسق ظالم، فلا يصلح للإمامة ... قالوا: ولا يصلح للإمامة من كان يعبد الأصنام، أو أشرك بالله لحظة واحدة، حتى وإن صار مسلما بعد ذلك، وقد قال تعالى:
إن الشرك لظلم عظيم (لقمان: 13)، وكذلك لا يكون إماما من ارتكب حراما صغيرا كان أم كبيرا، حتى ولو تاب بعد ذلك، فإنه لا يأمر بإقامة الحد من وجب إقامة الحد عليه، فوجب أن يكون الإمام معصوما، ويستدل الشيعة على ذلك بأحاديث كثيرة، وقد يفلسفون هذه العصمة كالذي يقول المجلسي: «واعلم أن القائلين بالعصمة قد اختلفوا في المعصوم: هل هو قادر على فعل المعصية أم لا؟ فالذين قالوا بأنه غير قادر قالوا: إن في بدنه أو في نفسه خاصة تقتضي أن يكون الإقدام على ارتكاب المعصية محالا، وقال بعضهم: إن العصمة ملكة نفسانية لا يصدر عنها أية معصية، ويقول بعضهم: إن العصمة لطف من الله بالنسبة للعبد، فلا يجد العبد في هذا اللطف داعيا لترك الطاعة، وارتكاب المعصية.»
وقد يستدلون بقوله تعالى:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (الأحزاب: 33).
وأهم فرق الإمامية فرقة تسمى «الاثنى عشرية»، وسميت بذلك لأنها تقول باثني عشر إماما، أولهم علي، عكس فرقة أخرى تسمى السبعية؛ لأنها تقف عند الإمام السابع وهو إسماعيل، ولذلك يسمون الإسماعيلية، وبعد إسماعيل أتت أئمة مستورة.
والظاهر أنه غلب عليهم الاعتقاد بالإرث، أي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
يورث ، أي يورث في روحانيته، كما يورث الناس في أموالهم، حتى تجادل في ذلك الشعراء. فقال دعبل الشاعر الشيعي:
أرى فيئهم في غيرهم متقسما
وأيديهم من فيئهم صفرات
هم أهل ميراث النبي إذا اعتزوا
وهم خير قادات وخير حماة
ويقول منصور النمري من شعراء العباسيين:
يا أيها الناس لا تعزب حلومكم
ولا تضفكم إلى أكنافها البدع
العم أولى من ابن العم فاستمعوا
قول النصيحة؛ إن الحق مستمع
وقد وضع ابن المعتز العباسي قصيدة في أحقية أولاد العباس، ورد عليه تميم بن المعز الفاطمي
1
على قافيتها.
ويظهر أن الإمامة في نظر الشيعة تطورت مع التاريخ، فقد كانت كلمة إمام وإمامة تطلق بالمعنى الإسلامي المعروف، فإذا قال بعض الصحابة: إن الإمام هو أبو بكر وعمر، وقال الشيعة: إن الإمام هو علي، كانوا يفهمون من ذلك أن الإمام بمعنى الرياسة والتقدم، كالإمام في الصلاة، ولكن يظهر أن الكلمة تطورت بعد ذلك إلى معنى آخر، وهو أن في الإمام معنى روحيا، فالإمام له صلة روحية بالله على نحو أقل من الصلة الروحية بين الله والأنبياء. جاء في كتاب «الكافي» للكليني، وهو من أوثق مصادرهم: «كتب الحسن بن العباس المعروفي إلى الرضا: جعلت فداك! أخبرني ما الفرق بين الرسول والإمام والنبي؟ فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أن الرسول هو الذي ينزل عليه جبريل، فيراه ويسمع كلامه، وينزل عليه الوحي، وربما رآه في منامه نحو رؤيا إبراهيم، والنبي ربما سمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص.»
2
فالإمام بهذا المعنى يوحى إليه ... قالوا: «والله أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل، إن زاد المؤمنون شيئا ردهم، وإن نقصوا شيئا أتمه لهم، وهو حجة على عباده، ولا تبقى الأرض بغير إمام ... حجة لله على عباده، ولو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة، وكان هو الإمام.» وفيه أيضا: «ومن لا يعرف الله - عز وجل - ولا يعرف الإمام منا أهل البيت، فإنما يعرف ويعبد غير الله .»
3
قال أبو جعفر: نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة وحي الله، ونحن الحجة البالغة على من دون السماء، ومن فوق الأرض، والأئمة نور الله الذي قال فيه تعالى:
فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا (التغابن: 8)، ونور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، ويحجب الله نورهم عمن يشاء؛ فتظلم قلوبهم،
4
بل زادوا على ذلك فقالوا: إن الله خلق العالم لأجلهم، وإنه قد فوض أمور الناس إليهم، وإنه بوجودهم ثبتت الأرض والسماء، وبيمنهم رزق الورى، وأنه يجب أن يكون في كل زمان منهم، وإنه من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية.
جاء في الكافي عن الصادق: «إن الأرض كلها لنا.» وروى عبد الله بن بكر الأرجاني عن الصادق قال: قلت جعلت فداك: فهل يرى الإمام ما بين المشرق والمغرب؟ قال: يا ابن بكر، فكيف يكون حجة على ما بين قطريها، وهو لا يراهم، ولا يحكم فيهم؟ إلى كثير من أمثال ذلك في الكافي وغيره.
وقد فسروا:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (النساء: 59) بأنها نزلت في علي، ورووا: «أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي؛ فإني سألت الله عز وجل ألا يفرق بينهما حتى يوردهما الحوض، فأعطاني ذلك.»
فنرى من هذا أن عقيدة الصحابة، وأهل السنة والمعتزلة في الإمام تخالف عقيدة الشيعة، الأولون لا يقدسون الإمام، ولا يرون أنه معصوم، ويرون أنه قد يخطئ؛ فيجب رده إلى الصواب، بل وقد يرتكب الكبائر فيجب رده، وأما الشيعة فيرون أن فيه صلة بالله، وأنه معصوم، وأنه لا يخطئ، وفرق كبير بين الاثنين.
وأنا أرى أن الحق مع الأولين، وأن الاعتقاد بعصمة الإمام، وروحانيته، وتقديسه تشل العقول، وتجرئ الإمام على العبث بالرعية. وقد كان الصحابة يخطئون الأئمة في بعض تصرفاتهم، ويخالف بعضهم بعضا، فهذا عمر انتقد تصرف أبي بكر مع خالد، وهذا علي خالف عمر في بعض المسائل، والصحابة أنفسهم منهم من خطأ عليا نفسه في بعض تصرفاته.
وعلى الجملة، فكانوا ينظرون إلى الإمام على أنه مخلوق كسائر الناس يصدر عنه الخطأ والصواب، فإذا أخطأ وجب تقويمه، وهكذا سير الأمم الآن في تقويم ملوكهم، وردهم إلى الصواب إن أخطأوا، ونحن نقول ذلك اتباعا للحق والعقل، لا نصرة لمذهب على مذهب.
الإمام جعفر الصادق
ويظهر أن أول من أسبغ هذا المعنى على الإمام، هو الإمام جعفر الصادق، فإنه كان من أوسع الناس علما واطلاعا، عاش من سنة 83ه إلى سنة 148ه، وقد لقب بالصادق لصدقه، وقد كانت أمه من نسل أبي بكر الصديق، فأثر ذلك في اعتداله. وقد نفعه أنه رأى من قبله من الأئمة احترق بالسياسة فابتعد عنها ... قال فيه الشهرستاني، وهو غير شيعي: «وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق، وأقام بها مدة ما تعرض للإمامة قط، ولا نازع أحدا في الخلافة، ثم غرق في بحر المعرفة، لم يطمع في شط، ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط، وقد قيل: من أنس بالله توحش عن الناس، ومن استأنس بغير الله نهبه الوسواس، وهو من جانب الأب ينتسب إلى شجرة النبوة، ومن جانب الأم ينتسب إلى أبي بكر، ومع ذلك لم يسلم من إيذاء أبي جعفر المنصور له، وقد كان له بستان جميل في المدينة يستقبل فيه الناس على اختلاف مذاهبهم. ويرون أنه كان من تلامذته أبو حنيفة، ومالك بن أنس الفقيهان الشهيران، وواصل بن عطاء المعتزلي، وجابر بن حيان الكيماوي، وبعض الناس ينكر هذا. وله أقوالا في الإرادة، وفي القدر، كقوله في الإرادة: «إن الله أراد بنا شيئا، وأراد منا شيئا، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟!» وقال في القدر: هو أمران «لا جبر، وتفويض»، وهما مسألتان مما تكلم فيهما المتكلمون كثيرا كما رأينا، وله أقوال كثيرة منثورة في الكتب تدل على حكمته، وبعد نظره، وسعة علمه، وإنما قلنا : إنه لون معنى الإيمان لونا خاصا لما روي عنه من بعض الأقوال التي تدل على أن الله جعل لمحمد نورا، ثم تنقل هذا النور إلى أهل بيته، كالذي ذكره المسعودي من حديث نسبه الإمام جعفر إلى الإمام علي جاء فيه: «إن الله أتاح نورا من نوره، فلمع ونزع قبسا من ضيائه فسطع ... ثم اجتمع النور في وسط تلك الصورة الخفية، فوافق ذلك صورة نبينا محمد، فقال الله - عز وجل: أنت المختار المنتخب، وعندك مستودع نوري، وكنوز هدايتي، من أجلك أسطع البطحاء، وأموج الماء، وأرفع السماء، وأنصب أهل بيتك للهداية، وأوتيهم من مكنون علمي ما لا يشكل به عليهم دقيق، ولا يغيب عنهم به خفي، وأجعلهم حجتي على بريتي، والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي ...» ونحو ذلك من الأقوال المنسوبة إليهم، فكل هذا جعلنا ننسب إلى الإمام جعفر الصادق صبغته للإمام صبغة جديدة لم نكن نعرفها من قبل.
وكان لجعفر الصادق أولاد كثيرون، منهم إسماعيل، وكان هو الأكبر وهو المعين للإمامة بعد أبيه. ولكن حدث أن مات إسماعيل قبل موت أبيه، فأحدث ذلك خلافا كثيرا عند الشيعة، وكان هو السابع، فرأت فرقة أن إسماعيل هذا كان آخر الأئمة، ومنهم من أنكر موته، وقال: إنه غاب، وإنه سيعود، وإنه لم يمت حقيقة، بل حجبه الله إلى الوقت الذي يقتضي ظهوره، ويسمى هؤلاء بالسبعية؛ لوقوفهم في الإمامة عند هذا، ويسمون أيضا بالإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل هذا، وهو قول غريب.
وبعضهم يقول: إنه مات حقيقة، وإن الإمامة انتقلت بعده إلى أخيه موسى الكاظم، وساقت هذه الفرقة الإمامة بعد ذلك إلى اثني عشر إماما، ومن أجل ذلك يسمون الشيعة الاثنى عشرية، ثم القرامطة، والفاطميون، والحشاشون إسماعيلية الهند وإيران وآسيا الوسطى، كلها طوائف سبعية، أو بعبارة أخرى إسماعيلية، ولكل إمام من هؤلاء الأئمة تاريخ طويل، لا يهمنا هنا، فليرجع إليه من شاء، إنما الذي يهمنا ما يتعلق بعقيدة الإمام.
وكان الإمام الحادي عشر هو الحسن العسكري، وقد ولد سنة 232ه كما يقول الكليني، وكان يلقب بالصامت، والهادي، والرفيع، والزكي ، والنقي، ولكن الذي غلب عليه هو العسكري، وقد حمله أبوه وهو صغير إلى سامرا في عهد المتوكل، وتعلم هناك، وعرف أنه كان يتكلم لغات كثيرة: الهندية، والتركية، والفارسية. وقد مات الحسن العسكري هذا سنة 260ه في عهد المعتمد العباسي، وقد خلف الإمام الثاني عشر، واسمه محمد سنة 255 أو سنة 256 في سامرا، ومات عنه وهو ابن أربع سنين أو خمس، وقد تغيب هذا الإمام الثاني عشر، ولم يظهر للناس، وأطلق عليه الإمام المنتظر، والمهدي، وصاحب الزمان، وقالوا: إن الله حجبه عن عيون الناس، وإنه حي بإذن الله، وقد رآه بعضهم بين وقت وآخر، وهو يكاتب الناس، ويتصرف في أمور شيعته،
5
وإن هذا الإمام الغائب سيرجع ... إلخ إلخ.
ولما كان لا بد من شخص يرجع إليه في النوازل، قالوا: إن له وكيلا ينوب عنه، وهو عثمان بن سعيد، فلما مات خلفه وكيل آخر، وهكذا إلى أربعة،
6
وقد شجعت هذه الفكرة القائمين بالحركات السياسية، والطامحين إلى الملك إلى ادعاء كثير أنه المهدي المنتظر.
7
والمفكر في هذا يعجب لأمرين: أحدهما: تولية الإمامة لطفل في الرابعة، أو الخامسة من عمره، مع أن الإمامة منصب عظيم يشرف على أمور المسلمين لا بد له من رجل ناضج قادر على تحمل المسئولية، عارف بأمور الدين، ومشاكل الدنيا، والطفل الصغير لا يستطيع ذلك مهما أوتي من النبوغ، وربما دعاهم إلى ذلك فكرتهم في أن لكل إمام نورانية إلهية يتوارثها خلف عن سلف، وهي نظرية تحتاج إلى مناقشة، ونحن نرى حتى فيما بين أيدينا أن في نسل الأشراف من هو نبيل كل النبل، عظيم كل العظمة، ومن هو فاجر داعر، وتلك سنة الله في خلقه، فقد يخرج العالم جاهلا، والجاهل عالما، والمتدين فاجرا، والفاجر دينا، كما نرى فعلا في الحكومات الشيعية من فاطمية وإسماعيلية من كان لا يصلح للإمامة مطلقا بدلالة التاريخ، كما هو الشأن في الخلافة السنية.
والأمر الثاني: دعواهم في هذا الطفل أنه خفي لا يظهر، وإنما يظهر عند حاجة الزمان إليه، وقد جرهم ذلك إلى القول بطول عمر الإمام الغائب، مع أن سنة الله في خلقه تحديد أعمار الإنسان.
وقد جرى ذلك على الأنبياء أنفسهم، فلم يعمر النبي محمدا إلا ثلاثا وستين سنة، كما جرى على علي، والحسن، والحسين، ولم نعلم أحدا في التاريخ الظاهر عمر أكثر من مائة سنة إلا قليلا.
وعلى كل حال، فلم يعمر أحد أبدا، وقد دعا قولهم بغيبة الإمام الثاني عشر هذا إلى قول بعضهم: إنه لم يوجد، وإن الإمام العسكري مات من غير عقب، وإن دعوى الطفل هذه من صنع الوكلاء طمعا في المال الذي يجبى من سائر الأقطار لأئمة الشيعة.
هوامش
الفصل الثالث
اتفاق الشيعة والمعتزلة
وكثير من الشيعة يتفقون في العقيدة مع المعتزلة؛ إذ كان كثير منهم شيعة ومعتزلة في وقت واحد؛ وذلك في مثل تأويل بعض الآيات في القرآن، ومثل عدم رؤية الله في الدنيا والآخرة اعتمادا على قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار (الأنعام: 103)، ولكنهم قد يخالفون المعتزلة في بعض الأشياء مثل : قول الشيعة بشفاعة الأنبياء والأئمة، وقد كان المعتزلة يستندون في عدم الشفاعة إلى قوله تعالى:
ولا تكسب كل نفس إلا عليها ،
ولا تزر وازرة وزر أخرى (الأنعام: 164)، وحمل المعتزلة على ذلك إيمانهم التام بالمسئولية الشخصية، وأن كل شخص مسئول عن عمله، وخالفهم أهل السنة في ذلك، وزاد الشيعة في شفاعة الأئمة، ورووا عن الإمام الباقر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «يا علي، إذا جاء يوم القيامة جلسنا أنا وأنت وجبريل على الصراط، فلا يمر أحد عليه إلا وبيده براءة من نار جهنم بولايتك»، وكان من مستلزمات ذلك الزيارات الكثيرة للأولياء، والاستشفاع بهم، والدعاء عندهم، من ذلك مثلا: «السلام على الذين من والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله، ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله، ومن تخلى عنهم فقد تخلى عن الله. أشهد الله أني سلم لمن سالمهم، وحرب لمن حاربهم، ومؤمن بسركم وعلانيتكم، مفوض في ذلك كله إليكم، لعن الله عدو آل محمد من الجن والإنس، من الأولين والآخرين، وأبرأ إلى الله منه، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله الطاهرين.»
1
وفيما عدا ذلك هناك اختلافات بين الشيعة وأهل السنة في الفروع.
2
هوامش
الفصل الرابع
تأييد الحكومات للشيعة
وكما أن أهل السنة أيدتهم حكومات كالذي ذكرنا من قبل، فالتشيع قد أيدته حكومات أخرى، كالدولة البويهية في العراق وما حوله، والدولة الفاطمية في مصر والشام والمغرب، وما يؤسف له أن النزاع بين هذه الحكومات السنية والشيعية لم يقتصر على المناظرة والجدل الكلامي، بل تعدى إلى القتال بالسيف، وبذل الدماء أنهارا، فكم سفك من الدماء في ادعاء المهدية، كالذي بذل في دعوى عبيد الله الفاطمي من أئمة الإسماعيلية في فتح أفريقيا، ومصر حتى أسس دولته، إلى كثير غيره من المهديين، إلى مهدي السودان، ثم ما كان من هجوم التتار ومصيبتهم العظمى في التقتيل والتخريب؛ مما جعل مؤرخي الإسلام يصرخون عند كتابة حوادثها، فإنه كان من أسبابها الكبيرة الخلاف بين الشيعة والسنية.
قال الخميسي: «نهب التتار سواد آمد وارزن، وميافارقين، وقصدوا مدينة أسعرد، فقاتلهم أهلها فبذل لهم التتار الأمان؛ فوثقوا منه، واستسلموا، فلما تمكن التتار منهم بذلوا فيهم السيف فقتلوهم، حتى كادوا يأتون عليهم، فلم يسلم منهم إلا من اختفى، وقليل ما هم، وساروا في البلاد لا مانع لسيفهم، ولا أحد يقف بين أيديهم، فوصلوا إلى ماردين فنهبوها ... ثم وصلوا إلى نصيبين، والجزيرة فأقاموا عليها بعض نهار، ونهبوا سوادها، وقتلوا من ظفروا به، وقيل: إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية، أو العزبة، أو الدرب، وفيه جمع كثير من الناس لا يزال يقتلهم واحدا بعد واحد لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس، واستولوا على أرضهم، ولم يقف في وجوهم فارس، وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها. وفي سنة ستة وخمسين وستمائة وصل الطاغية هولاكو إلى بغداد بجيوشه، وبالكرج، وبعسكر الموصل، فانكسر المسلمون أمامه لقلتهم، ونزل قائده على بغداد من غربيها، وهولاكو من شرقيها، ثم خرج الخليفة المستعصم لتلقيه في أعيان دولته، وأكابر الوقت فضربت رقاب الجميع، وقتلوا الخليفة، ورفسوه حتى مات، ودخلت التتار بغداد واقتسموها، وكل أخذ ناحية، وبقي السيف يعمل أربعة وثلاثين يوما، وقل من سلم؛ فبلغت القتلى ألف ألف وثمانمائة وزيادة، فعند ذلك نادوا بالأمان.»
وكان مجيء هولاكو فيما يقال بدعوة الوزير ابن العلقمي الرافضي إذ كان يعتقد أن هولاكو سيقتل المعتصم، ويعود إلى حال سبيله، وعندئذ يتمكن الوزير من نقل الخلافة إلى العلويين.
ثم ما كان مثلا بين الدولة العثمانية لما قامت في الآستانة، وما حولها، وبين الصفويين في إيران، وما حولها سنة 920 فإن السلطان سليما لما بلغه أن كثيرا من رعايا الدولة العثمانية يتمذهب بالمذهب الشيعي على أيدي دراويش بثهم الشاه إسماعيل الصفوي، عزم على محاربتهم، فأعلن الحرب على الشاه إسماعيل، وما زال الجيش العثماني يتقدم من مدينة إلى مدينة حتى وصل إلى سيواس، وأحصى جيشه فبلغ 140 ألف جندي، ترك جزءا منه للمحافظة على الطريق يبلغ نحو أربعين ألفا، وتقدم هو بالباقي، وتقدم إلى مدينة تبريز، فخرج إليه الشاه إسماعيل الصفوي، ووقف أمام السلطان سليم العثماني، وكان الجيشان في العدد سواء تقريبا، وكان في الجيش الإيراني طائفة من الخيالة، وفرق تلبس الزرد، وفرقة من طوائف الفدائية، وقتل من الفريقين عدد كبير، واستولى العثمانيون على مضارب الفرس، وما كان معهم من الذخائر والأدوات، وجرح الشاه إسماعيل، وسقط عن جواده، ودخل السلطان سليم تبريز، وقد قتل من الفرس وحدهم في تلك المواقع نحو أربعين ألفا، ومن ذلك أيضا ما فعلته الفرقة الفدائية الإسماعيلية من قتل ونهب، وما فعلته جماعة القرامطة، إلى كثير من أمثال ذلك.
فلو نظرنا إلى النفوس والجهود والأموال التي أتلفت بين طوائف المسلمين، وخصوصا الشيعة والسنية، وما جرى للشيعة من عهد علي، وخلفائه مما يشرحه كتاب «مقاتل الطالبيين» لأبي الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، وما جاء في كتب التاريخ بعده أخذنا العجب، وأدركنا أن هذه القوى التي بذلت بين المسلمين كانت تكفي في سهولة لطرد الصليبيين، وكفهم عن العبث بالبلاد ، وكان الكف عن قتالهم فيما بينهم يكفي لإصلاح حالة المسلمين اجتماعيا واقتصاديا إصلاحا ليس له نظير، ولكن هكذا قدر، وهكذا كان، فضاعت المجهودات عبثا، بل ضاعت في التخريف والتبديد من عصر الخلفاء الراشدين إلى اليوم، ولو تدبر الفريقان لرأوا أن الخلاف كان أكثره على مسائل أصبحت في ذمة التاريخ، ولم يصبح للخصومة عليها معنى، ولكن ماذا نعمل، والعقول ضيقة، وفي الناس من يثير الخصومات كسبا للمال، وحفظا لمنزلته في أسرته، أو شهوة للحكم.
الفصل الخامس
عواطف أهل الشيعة
ولئن أمعن المتكلمون من المعتزلة والسنية في الحجج العقلية، والقوانين الدقيقة المنطقية، فقد غلبت على الشيعة العواطف، لقد أحبوا آل البيت حبا عاطفيا، وكرهوا جدا من عاداهم، وتأثروا تأثرا شديدا ممن عذبهم، أو قتلهم، أو حبسهم، ولم يكتفوا بالعواطف المجردة، بل أرادوا الانتقام ممن عذبهم، وحاولوا مرارا قلب حكمهم، وهذه كلها شأن العواطف، أما مقدمة صغرى وكبرى، وقياس، وأشكال قياس، فهذه صبغة المعتزلة والسنية، ولكل طابعه.
دعت هذه العواطف عند الشيعة، وتعظيم الأولياء، وفكرة الاستشفاع بهم إلى مظهر واضح ربما تأثر به المسلمون جميعا، وهو إقامة الأضرحة، والعناية بها وتزيينها، وزيارتها، والاستشفاع بها، وكثرة الدعوات عندها، وتمني الدفن بجوارها، وإن كانت هذه العادات عند السنيين والمسلمين فهي عند الشيعة أقوى، وربما كانت هي الأساس، من ذلك مثلا مشهد الإمام علي بالنجف، وهو يبعد عن الكوفة نحو أربعة أميال، قد حشد فيه من قديم الفن الفارسي من خط جميل، وقاشاني، وتحف فنية ذهبية، وغير ذلك، والزائر لهذا المشهد يرى ساحات واسعة ملئت بالقبور كما يرى مئات القباب المختلفة الألوان، وقد سلم هذا المشهد من تخريب هولاكو؛ لأن الشيعة كانت قد ساعدته ليستعينوا به على السنية الذين كانوا قد آذوهم، يقول ابن بطوطة في رحلته: «ثم رحلنا، فنزلنا من مشهد علي بن أبي طالب بالنجف، وهي مدينة حسنة ... وأهل هذه المدينة كلهم رافضة ... وحيطان هذه الروضة منقوشة بالقاشاني، والقبة مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل الذهب والفضة ... وفي المدينة خزانة كبيرة تجمع بها النذور من الناس في بلاد العراق وغيرها، من يصيبه المرض ينذر للروضة نذرا إذا برئ ... وهذه الروضة ظهرت لها كرامات.»
وقد وردت أحاديث كثيرة عن الأئمة الشيعيين في فضل زيارة قبر علي، كالذي رواه جعفر الصادق أنه قال: «من زار أمير المؤمنين عارفا بحقه غير متجبر، ولا متكبر، كتب الله له أجر مائة شهيد، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.» وأتى رجل الإمام الصادق، وأخبره أنه لم يزر أمير المؤمنين فقال له: «بئس ما صنعت لولا أنك من شيعتنا ما نظرت إليك، ألا تزور من يزوره الله والملائكة، ويزوره الأنبياء، ويزوره المؤمنون. قال: جعلت فداك، ما علمت ذلك، قال: فاعلم أن أمير المؤمنين أفضل عند الله من الأئمة كلهم، وله ثواب أعمالهم، وعلى أعمالهم فضلوا.»
1
وعلى الزائر حين يزور أن يتلو دعاء الزيارة وهو: «السلام عليك يا ولي الله، يا حجة الله، يا خليفة الله، يا عمود الدين، يا وارث النبيين، يا قسيم الجنة والنار، يا صاحب العصا والميسم، يا أمير المؤمنين: أشهد أنك كلمة التقى، وباب الهدى، والأصل الثابت، والجبل الراسخ، والطريق الحق؛ أشهد أنك حجة الله على خلقه، وشاهده على عباده، وأمينه على علمه، ومستودع أسراره، ومعدن حكمته، وأخو رسوله، أشهد أنك أول مظلوم، وأول من غصب حقه، فصبر وانتظر، لعن الله من ظلمك، وغصب حقك وعاداك، لعنة عظيمة يلعنه بها كل ملك كريم، ونبي مرسل، ومؤمن صادق، ورحمة الله عليك يا أمير المؤمنين، وعلى روحك وجسدك ... إلخ.» وهم يروون دعاء مخصوصا دعا به أحد الأئمة، وهذا الحديث يرينا مقدار أثر الإمام جعفر الصادق في تلوين التشيع وأثره.
ومن أشهر المشاهد والمزارات كربلاء على بعد ثلاثة أميال من بغداد، وفيها مشهد الحسين، وهي من أعظم المزارات وأفخمها، وأحفلها بالتحف والمذهبات، يقول فيها ابن بطوطة.. «والعتبة الشريفة، وهي من الفضة، وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة، وعلى الأبواب أستار الحرير، وكم يكرر الزائرون مأساة الحسين ... وهم يروون الروايات الغريبة عن فضل هذا المكان المقدس تتلألأ قبته المغشاة بالذهب إذا طلعت عليه الشمس.»
كذلك يرى من دخل بغداد من الشمال أو الغرب المآذن الذهبية الأربعة فوق مشهد الكاظمية، كما يرى الشيعة يقصدون هذه المشاهد، ويستشفعون بها، ويدعون عندها.
وقد كان البناء قديما، وجدده الشاه إسماعيل الأول، أما تذهيب القبتين فأمر به الشاه أغا محمد، وأصلحت إحدى القباب، وكسيت المنائر بالذهب، وهم يضعون لزيارتهم شروطا فيقولون: «إذا أردت زيارة قبر موسى الكاظم، وقبر محمد بن علي بن موسى فاغتسل وتنظف، وتعطر، والبس ثوبيك الطاهرين، ثم قل عند قبر الإمام موسى: السلام عليك يا ولي الله، يا حجة الله، يا نور الله ... أتيتك زائرا عارفا بحقك، معاديا لأعدائك، مواليا لأوليائك، فاشفع لي عند ربك يا مولاي.»
2
والذي يرى المشاهد العديدة في القاهرة كمشهد الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، وغيرها يرى أنها صورة مصغرة جدا للمشاهد في النجف، وكربلاء، والكاظمية.
وللشيعة كتب في الحديث تتميز بالرواية عن الأئمة، وعن رجال الشيعة يعتمدون عليها الشيعيون، كما يعتمد السنيون على كتب الصحاح، من أشهرها كتاب الكافي للكليني، وهو أول هؤلاء المحدثين، وأعلاهم منزلة، ألف كتابه الكافي في علم الدين، ويحتوي على 16 ألف حديث، وقسمها إلى أحاديث صحيحة، وحسنة، وموثقة، وقوية، وضعيفة،
3
وقد مات الكليني في بغداد سنة 328ه أو 29. ومن المؤلفين في الحديث أيضا الصدوق القمي الملقب بابن بابويه، وهو يحتوي على أربعة آلاف وأربعمائة وستة وتسعين حديثا، ومن المؤلفين في الحديث أيضا الطوسي، وينسب إليه التأثير الكبير في الدعوة إلى الشيعة، وقد كان له تلاميذ كثيرون، وقد ولد الطوسي سنة 385ه في طوس، وجاء بغداد وعمره ثلاث وعشرون سنة، ثم هاجر إلى النجف، وله كتب كثيرة في الحديث، وأصول الدين، والفقه، والتراجم، والناظر إليها يعلم صبغتها بالصبغة الشيعية، وربما اختلفت في ترتيبها عن ترتيب الصحاح السنية، هذا عدا أن لهم مجتهدين وفقهاء عنوا بالفقه الشيعي، وفيه بعض مخالفات للفقه السني، إن شئت فانظر إلى كتاب «بحر الأنوار»، وعلى العموم فقد كانت لهم خلافات في العقيدة، وفي الحديث، وفي الفقه، ولمجتهديهم قوة على الرأي العام الشيعي، وتبجيل وتقديس أكثر مما لعلماء أهل السنة، وكثيرا ما تدخلوا في الأمور السياسية، وعطلوا بعض المشاريع السياسية، وقد حاول بعض الولاة الشيعيين أن يحد من سلطانهم فلم ينجح.
هوامش
الفصل السادس
بعض فرق للشيعة
نتجت من الشيعة فرق كثيرة لعبت أدوارا هامة في التاريخ، كالإسماعيلية، والقرامطة، والزنج، والزيدية، لا بأس أن نذكر كلمة عن كل منها.
أولا: الإسماعيلية
ذكرنا قبل أن الإسماعيلية نسبة إلى الإمام إسماعيل، وهو الإمام السابع، وهم يقفون عنده، ولذلك يسمى أتباعه بالسبعية، وقد يطلق على بعضهم الحشاشون؛ لأنه أثر عندهم استعمال الحشيش في دعوتهم، وقد يلقب بعضهم أيضا بالفدائيين.
وقد كانت هذه الفرقة قوة كبيرة لعبت دورا كبيرا في تاريخ الإسلام، وكان تؤلف حزبا كبيرا متآلفا مطيعا، ومن أول رؤسائهم عبد الله بن ميمون القداح، وله أتباع كثيرون، ويمتاز هو ورؤساء حزبه بأنهم كانوا في غاية المكر والدهاء، وضعوا أسسا ومبادئ لجمعية سرية على أدق نظام عرفه التاريخ إلى اليوم، يرمي إلى شيئين هامين:
الأول:
استغلال الاستياء من الدولة العباسية على أي نحو كان، وتوحيد الصفوف لإزالتها، وإحلال فرقتهم محلها؛ ومخاطبة كل باللغة التي تناسبه، والأغراض التي تناسبه.
والثاني:
ترتيبهم الدعوات إلى مذهبهم ترتيبا محكما على حسب استعداد الناس، فللجماهير تعاليم، وللخاصة تعاليم، ولخاصة الخاصة تعاليم، ولا يعلم الأدنى تعاليم الأعلى؛
1
فهم رتبوا الدعوات بحسب الاستعدادات، ولا يعلم أسرار الجمعية إلا رؤساؤها، وزعماؤها القليلون.
وربما تطورت في ذلك مع الزمن، فقد بدأت الإسماعيلية فرقة شيعية معتدلة أكبر خصائصها أنها تدين بالأئمة السبعة الأولى وحدهم، ثم تطورت مع الزمن، ودخلت فيها تعاليم كثيرة مختلفة، وتقسمت إلى طوائف، لكل طائفة عمل خاص، فطائفة الفدائيين، وطائفة للقيام بالدعوة، وهكذا ... ثم كان زعماؤها في غاية المهارة في معرفة نفوس من يدعونهم، فيعرفون كيف يخاطبون العرب، والعجم، والكرد، والأتراك، كما يعرفون كيف يخاطبون الجمهور غير المتعلمين، والمثقفين، والفلاسفة ... الخ، والذي يعرف أسرار الجمعية، وأغراضها عدد قليل جدا، ولا يصلون إلى درجة الزعامة إلا بعد أن يمروا بدرجات يمتحنون في كل درجة منها امتحانا قاسيا، ثم يحلفون الأيمان المغلظة على الوفاء بتعليمهم، وقد حكى أبو المنصور البغدادي في «الفرق بين الفرق» صورة اليمين فقال: «وأما أيمانهم فإن داعيهم يقول: جعلت على نفسك عهد الله، وميثاقه، وذمته، وذمة رسله، وما أخذ الله من النبيين من عهد وميثاق أن تستر ما تسمعه مني، وما تعلمه من أمري، ومن أمر الإمام الذي هو صاحب زمانك، وأمر أشياعه وأتباعه في هذا البلد، وفي سائر البلدان، وأمر المطيعين له من الذكور والإناث، فلا تظهر من ذلك قليلا، ولا كثيرا، ولا تظهر شيئا يدل عليه من كتابة أو إشارة إلا ما أذن لك فيه الإمام صاحب الزمان، أو أذن لك في إظهاره المأذون له في دعوته، فتعمل في ذلك حينئذ بمقدار ما يؤذن لك فيه. وقد جعلت على نفسك الوفاء بذلك في حالتي الرضا والغضب، والرغبة والرهبة، وجعلت على نفسك أن تمنعني، وجميع من أسميه لك مما تمنع منه نفسك لعهد الله تعالى عليك، وميثاقه، وذمته، وذمة رسله، وتنصحهم نصحا ظاهرا وباطنا، وألا تخون الإمام وأولياءه، وأهل دعوته في أنفسهم، ولا في أموالهم، وأنك لا تتأول في هذه الأيمان تأويلا، ولا تعتقد ما يحلها، فإنك إن فعلت شيئا من ذلك فأنت بريء من الله ورسله وملائكته، وجميع ما أنزله الله من كتبه، وإنك إن خالفت في شيء مما ذكرناه لك فلله عليك أن تحج إلى بيته مائة حجة ماشيا نذرا واجبا، وكل ما تملكه في الوقت الذي أنت فيه صدقة على الفقراء والمساكين، وكل مملوك يكون في ملكك يوم تخالف فيه أو بعده يكون حرا، وكل امرأة لك الآن، أو يوم مخالفتك، أو تتزوجها بعد ذلك تكون طالقا منك ثلاث طلقات ... والله تعالى الشاهد على نيتك، وعقد ضميرك فيما حفلت به، فيقول المحلف: نعم.»
2
فكان الرجل إذا انتدب لأي مهمة نفذها بكل دقة مهما تطلبت من التضحية، كما نرى في تاريخ الفدائيين، وكما يرى في تاريخ حادثة الرجل الذي انتدب لقتل نظام الملك فقتله.
وكان للفدائيين من الإسماعيلية حصن حصين بقلعة تسمى ألموت، أي عش العقاب، في الشمال الشرقي من قزوين، وكانت مركز الحشاشين يدرب فيها الأتباع على الطاعة والفداء، بناها حسن الداعي إلى الحق العلوي سنة 246ه، وقد اشتهرت أيام الحسن الصباح إذ أرعبت الأمراء والحكام، وخوفتهم من الاغتيال على يد أتباعه، وقد تلقى تعليمه عن فاطميين في مصر، وكان يدعي أنه من نسل ملوك حمير، وقد عرف أنه كان في مصر يعادي الفاطميين سنة 464ه، وقد رويت حكاية عن صداقته لعمر الخيام، ونظام الملك، وأحد أتباعه قتل نظام الملك بخنجر، واستمرت القلعة قوية مرعبة بعد موته بمدة من الزمان، ثم سقطت بعد ذلك.
وكانوا يشككون من دخل مذهبهم في عقائدهم الأصلية، ومبادئهم السياسية، والأدبية، والاجتماعية، ويفهمونه أن مذهب الجمعية هو العلم الصحيح، وقد نجحوا في أغلب دعواتهم عند أكثر الناس، ولم تخطئ فراستهم إلا قليلا، والقارئ للكتب التي ألفت من المخالفين لهم كالغزالي والبغدادي، يجب أن يحذر من أقوالهم التي لا تمثلهم تماما لما فيها من بعض المبالغات.
وقد كان الإسماعيلية يؤولون الآيات والأحاديث تأويلا غير ما يدل عليه ظاهرها، ولذلك سموا بالباطنية، وذلك كالتأويلات التي نراها في رسائل إخوان الصفاء، كالبعث والنشور، وخلود النفس، ونحو ذلك، فكلها لها معنى باطني.
هذا مبدؤهم الديني: تأويل لكل ما ورد به الشرع، ووراء ذلك كانت لهم مبادئ سياسية واجتماعية، فمبدؤهم السياسي أن يطوحوا بالدولة العباسية وخلفائها، وأن يحلوا محلهم الأئمة الشيعية، وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير، فإن لم تنجح وسائلهم السلمية، فلا بأس أن تستعمل الوسائل الحربية. ويظهر أيضا أن من أغراضهم الاجتماعية إزالة المظالم التي كان يرتكبها العباسيون، وأمراؤهم وتوزيع العدل بين الناس، وهذا مقصد نبيل حقا، ولكن يظهر لي أنه لما أتيحت لهم الفرص، وحل الشيعة محل العباسيين في بعض الممالك، لم يطبقوا العدل تطبيقا دقيقا، بل وقع بعضهم في مثل ما وقع فيه العباسيون، وقد دعاهم موقفهم، واستجلاب الناس لهم إلى أن ينشروا الدعوة إلى الإخاء بين الناس بقطع النظر عن الخلاف في الجنسية، أو الطبقة، أو الدين، فإن هذا من غير شك يرغب في قبول دعوتهم، خصوصا وقد تعلموا أنه مما أفسد الأمر على بني أمية، وعلى بني العباس عصبيتهم الشديدة، وقد جعلهم هذا ينشرون دعوتهم بين أهل الأديان المختلفة، والطبقات المختلفة، والأحزاب المختلفة.
وقد جرأ انتشار مذهبهم على أقوال لا تقرها السنية، كأشعار أبي العلاء في اللزوميات، وبعض أشعار ابن هانئ الأندلسي، وكقول الصاحب بن عباد:
دخول النار في حب الوصي
وفي تفضيل أبناء النبي
أحب إلي من جنات عدن
أخلدها بتيم أو عدي
3
وأبو العلاء وإن لم يكن شيعيا، فقد تسربت إليه بعض آراء الشيعة، وينسب إلى أحدهم أنه قال:
وما الخير إلا كماء السما
ء حلال فقدست من مذهب
وقد أدرك بنو العباس، ومن تبعهم خطر هذه الحركات عليهم، فهاجموهم وانتقموا منهم، يقول عماد الدين الهمذاني: «إن أحد أمراء خراسان قتل في مدة قليلة أكثر من مائة ألف من الباطنية ، وبنى من رءوسهم بالري منارا أذن عليه المؤذنون.» وفي كتاب الفرق أن محمود بن سبكتكين سلطان غزنة قتل في مدينة مولتان من أرض الهند الألوف، وقطع أيدي ألف منهم، وباد بذلك نصراء الباطنية من تلك الناحية.
4
ومن هذا الاضطهاد، والهجوم العباسي كانت وسائلهم، واضطهادهم مبعثا لتغلغلهم في كل مرفق من مرافق الحياة، فلم تجد عملا من الأعمال إلا وتجد خلايا من خلاياهم تعمل لبث دعوتهم، أو إفساد الحكم على العباسيين، وقد كادوا يقضون على دولة العباسيين لولا أنه دخل عنصر جديد انضم إلى العباسيين في الدفاع عنهم، وهو العنصر التركي، فقد شارك العباسيين في السنية، والفتك بالإسماعيلية حتى ألجأهم إلى الفرار للجبال والبلاد البعيدة، ومع هذا كله لم تنمح الإسماعيلية، بل ظلت تنبسط وتنقبض، وتضيق وتتسع حسب الظروف حتى يومنا هذا، وربما اتخذت أسماء مختلفة كالبابية، والبهائية، والدروز، وغيرها.
ثانيا: القرامطة
هي فرقة من فرق الإسماعيلية، كان مركزها في أول الأمر مدينة واسط بين الكوفة والبصرة وما حولها، وكان يسكن هذه البلاد خليط من العرب، والنبط، والسودان، وأكثرهم كانوا فقراء مستائين من حكومتهم، ومن أصحاب الأراضي الذين يستغلونها ... ولهذا لبوا دعوة القرامطة.
واشتهر من أول الدعاة حمدان القرمطي، وقد عرفت الدعوة باسمه، وقد كان حمدان هذا أكارا بسيطا بعثه أحد كبار دعاة العلوية ليدعو نيابة عنه في تلك البلاد، فبنى مركزا جديدا للدعوة الإسماعيلية قرب الكوفة، سماه دار الهجرة، واتخذه مكانا للدعوة والوعظ، فدخل في دعوته كثير من الناس، وقد فرض الضرائب على أتباعه يصرف منها على الفقراء والتأسيسات، وقد روي عنه أنه جمع من أتباعه أموالا كثيرة، وزعها على المحتاجين من القرامطة، حتى لم يبق بينهم فقير، ولذلك يمكن أن يعدوا من أول الجمعيات الاشتراكية، وكان دعاتهم يدعون إلى مؤاخاة الناس على اختلاف دياناتهم، وطبقاتهم، وأجناسهم ... وتحمس الأتباع لهذه الدعوة، وانتشرت دعوة القرامطة من واسط إلى كثير من البلاد العربية المجاورة لها، والبعيدة عنها، حتى وصلت إلى جنوبي جزيرة العرب.
وجاء زعيم اسمه أبو سعيد الجنابي، فأنشأ فرعا كبيرا في بلاد الأحساء من بلاد البحرين، وتعاونت الفروع كلها للعمل ضد الخلافة العباسية، واتبعها قوم في السر حتى في بغداد مركز الخلافة، وحتى في بلاط الخليفة نفسه يمدون رؤساءهم بالمعلومات، ويبثون الدعوة إليها سرا، وكانوا ينتهزون من الفرص التي تضع من شأن العباسيين كتصرفاتهم السيئة أحيانا، وضعف من يلي الأمر من خلفائهم، فإذا أحسوا ضعفا نشطوا في الدعوة، وخرجوا على الدولة.
فلما انتشرت الدعوة في البحرين انتشارا كبيرا في عهد الخليفة المعتضد أرسل جيشا لمقاومة الحركة، ولكن جيش الخليفة انكسر، وأسر قائده، وتبددت جنوده، وقتل من وقع في الأسر منهم، وقد استولى الثوار القرامطة على مدينة حجر عاصمة البحرين، كما استولوا على اليمامة، وعلى عمان، ولما قاد الحركة القرمطية أبو طاهر سليمان وسع نفوذه، وكان يزحف تارة على البصرة وبغداد، وطورا إلى الحجاز، وكان ينتصر في كل غزواته تقريبا، وقد دخل أبو طاهر هذا مكة، وسلب الكعبة، وقتل الحجاج. ويحدثنا المؤرخون أن الذين قتلهم القرامطة في تلك السنة من الحجاج نحو ثلاثة آلاف غير الذين ماتوا من الجوع ، وغير من وقع أسيرا، وكان من بين من أسر الأزهري اللغوي العالم المشهور، وقد غنم أبو طاهر ملايين الدنانير إذ ذاك، وأرسل جزءا منها إلى الإمام الشيعي، وأنفق الباقي على أتباعه، وكان للقرامطة جواسيس يبلغون رؤساءهم كل حركة من العباسيين، وخاف الناس منهم جدا، خصوصا لقطعهم الطرق على السابلة، وعجزت الخلافة العباسية عن كحب جماحهم.
وقد زحف القرامطة على البصرة، ونهبوها سنة 315ه حتى ضج الناس، وشملهم الرعب، ونسبوا انتصارهم إلى قوى روحية تساعدهم، والحق أن قوتهم كانت في قوة إيمانهم بعقيدتهم مما يدعوهم إلى ثباتهم، بينما خصومهم لا يحاربون عن عقيدة، وقد هاجم القرامطة مكة مرة أخرى، ودخلها أبو طاهر، وأصحابه يقتلون أهلها، ومن كان فيها من الحجاج، حتى من تعلق فيها بأستار الكعبة، وهدم زمزم، وفرش بالقتلى المسجد، وأقام بمكة ستة أيام، وهو يحرض أصحابه على القتل، وينتقل من مكان إلى مكان، ويقول: «أجهزوا على الكفار، وعبدة الأحجار.» وأقام أبو طاهر وأصحابه اثني عشر يوما يقتلون وينهبون، ويأتون من الأفعال ما تقشعر منه الأبدان، فهل هذا يحقق ما كانوا يقولونه من أنهم يريدون القضاء على الدولة العباسية لنشر العدل والأمن بين الرعية؟!
وكان من جملة ما نهبه القرامطة من مكة الحجر الأسود، وبقي هذا الحجر في الأحساء ملقى في إحدى زوايا المدينة مهجورا إلى سنة 339ه؛ حيث رده القرامطة بأمر من المنصور الفاطمي.
مضت سنة على هذه الحوادث الأليمة، والخلافة لم تستطع تعقبهم، ولا تأديبهم، فلما رأى القرامطة ضعف الخلافة، زحف أبو طاهر مرة أخرى على الكوفة واحتلها، واضطر الخليفة أن يعقد معه هدنة، ويؤدي له مائة وعشرين ألف دينار كل سنة.
ثم توفي أبو طاهر سنة 332ه، فاكتفى خلفاء أبي طاهر بما فتحوه من البلاد، ولم يعودوا يتطلعون إلى فتوحات جديدة، وسبب آخر أنه كان قد سقطت الدولة العباسية في يد بني بويه الشيعيين، فصادقوهم، وأحسنوا الصلات بينهم.
ثالثا: الزنج
ومن هذا القبيل أيضا ما عرف التاريخ بثورة الزنج، وكان لها شأن كبير في تاريخ المسلمين.
ظهر صاحب الزنج هذا في فرات البصرة سنة 225ه، وهو رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وبعض العلويين ينكر نسبته إليهم. وقد كان في هذه البقعة عدد كبير من الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة. وقد استغل زعيم الزنج هذا استياءهم من عملهم، وكراهيتهم لأصحاب رءوس الأموال، وكراهيتهم للحكم العباسي الذي يقر هذا العمل، فالتفوا حوله، وكان متصلا بحاشية السلطان يطلعونه سرا على الأمور، وكان فصيحا خطيبا يؤثر في سامعيه، حتى اجتمع له عدد كبير منهم. وانتشر أتباعه في الأحساء، وما حولها، وادعى الولاية، وأنه يلهم بما يعمل، وما لا يعمل. وما زال يحبب الناس في مذهبه، وخاصة الغلمان، ويمني أتباعه، ويعدهم حتى اتبعه عدد كبير، ثم تأتيه الأموال من أتباعه، ويفرقها عليهم.
ولما قوي أمره، وتمكن من نهب كثير من الأموال والمراكب البحرية التي تحمل أموالا كثيرة للتجارة، هجم على البصرة، وأوقع القتل في أهلها، وأمر الزنوج بوضع السيف فيهم، وأوقع بذلك الرعب في البلاد، واستخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور، فكانوا يظهرون ليلا، ويطلبون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها، ويأكلون الفئران والسنانير، وصار إذا مات الواحد منهم أكلوه. وظل الزنج على ذلك سنين وتغلبوا على البطيحة وواصف وخربوهما، حتى إنه أخيرا جمع أبو العباس بن أبي أحمد جمعا كثيرا، ونشبت حرب بين الفريقين؛ فهزمت الزنج، وأعملت فيهم السيوف، واختفى من فر منهم حتى زال أمرهم.
كل هذا يرينا صورة مصغرة مما حدث في تاريخ المسلمين من المكايد والمذابح والمقاتل، والناظر إلى حقيقة الأمر يرى أن الخلاف بين هؤلاء وهؤلاء مبني على شهوة الحكم، وعلى نزاع في مسائل تاريخية ذهب زمنها. والذي يرى هذه الفتن والضحايا التي ذكرنا بعضها يعجب من بقاء الدول الإسلامية بعد هذا، ولولا أن أساسها متين جدا ما بقيت، لا أمام الصليبيين، ولا أمام غيرهم. فمن العجيب أن تبقى كل هذه النكبات، وقد أدرك المأمون هذا العناء الذي يلاقيه الطرفان من عباسيين وعلويين ، فأراد أن يستريح ويجعل الأمر بعده إلى إمام العلويين؛ ظانا أن الخلاف ينقطع بذلك، ولكن ما علم أفراد البيت العباسي بذلك حتى ثاروا وزاد الخلاف بدل أن ينحسم، وحتى اضطر المأمون أخيرا إلى الرجوع عن فكرته.
رابعا: الزيدية
ومن فرق الشيعة الزيدية، وهم من أعدل الفرق؛ لأنهم يرون أن عليا أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر، ولكن أما وقد اجتمع أكثر الصحابة على بيعة أبي بكر وعمر، فلا بد أن يعترف بإمامتهما؛ لأن الصحابة إذ ذاك قدروا الظروف المحيطة بهم.
ولم يجوز الزيدية التستر والاختفاء، ولذلك كان كثير من أئمتهم يخرجون فيقتلون، ولهذا خرج زيد بن علي فقتل وصلب، وقام بالإمامة ابنه يحيى بن زيد، ومضى إلى خراسان، واجتمعت عليه جماعة كثيرة؛ فقتل أيضا وصلب. وقد فوض الأمر بعد إلى محمد وإبراهيم الإمام، وخرجا بالمدينة، وسار إبراهيم إلى البصرة فقتلا أيضا، وتوالى أئمتهم من بعده، وجروا على صحة إمامة أبي بكر وعمر، وقالوا بجواز ولاية المفضول.
وقد تتلمذ الإمام زيد لواصل بن عطاء إمام المعتزلة في الأصول، ولذلك اقترب مذهب الزيدية من الاعتزال، يقول الشهرستاني: وصارت أصحابه كلهم معتزلة.
ولذلك يختلف الزيدية في بعض المسائل عن سائر الشيعة، ولاعتدالهم لم يكن لهم حركات عنيفة في التاريخ الإسلامي.
وقد استطاع أحد زعمائهم، واسمه القاسم سنة 1633م أن يطرد الوالي التركي من اليمن، ويؤسس إمامة زيدية، ثم انتصر الأتراك سنة 1849م، فأصبحت ولاية تركية إلى أن قام الإمام يحيى سنة 1904م، ولكن الأتراك لم يعترفوا باستلال حكومة الإمام حتى سنة 1911م، ولم ينسحب الأتراك بالكلية من اليمن حتى السنة الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، ومملكة اليمن الآن مملكة زيدية.
وللزيدية مؤلفات في الأصول، والحديث، والفقه خاصة بهم، من أئمتهم المتأخرين المشهورين الإمام الشوكاني، صاحب التآليف الكثيرة في الأصول والفقه.
هوامش
الفصل السابع
الدولة الفاطمية
وقد أتيحت الفرص للشيعة أن يحكموا، ومن أبرز ذلك الدولة الفاطمية في المغرب ومصر والشام، وبقاؤها في الحكم مدة طويلة. والحق أنهم أقاموا ملكا كبيرا مترامي الأطراف، وقد بثوا الروح القومية في مصر حتى شعروا بأنها دولة مستقلة، ولما زار البلاد ناصر خسرو وصف البلاد وصفا يدل على حضارة فائقة.
وأداروا البلاد على نظام يشبه النظام الفارسي القديم، وشجعوا العلم والأدب والفن تشجيعا كبيرا، كما أسسوا دور الكتب الكثيرة، ولا تزال أبنيتهم مضرب المثل في عظم العمارة الإسلامية، وكذلك ما وصل إلينا من تحفهم الدقيقة، ولكن طالما كان الشيعيون ينعون على العباسيين ترفهم، وإفراطهم في الملاهي، والملذات، وتعصبهم الشديد عليهم، فلما ملكوا هم، وملك زملاؤهم بنو بويه العراق، وما حولها، لم نجد في الحكم فرقا كبيرا، فالإسراف في الترف هو الإسراف في الترف، والظلم أحيانا هو الظلم، والتعصب هنا كالتعصب هناك، فإن تعصب الأمويون والعباسيون فهاجموا، فقد تعصب العلويون والبويهيون والإسماعيليون فانتقموا؛ حتى صح قول القائل:
فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها
سجية نفس كل غانية هند
نعم، إن هنا وهناك في هذا الجانب أو ذاك ، بعض رؤساء اشتهروا بالعدل والتقوى، ولكن بجانبهم آخرون هنا وهنا أيضا اشتهروا بالظلم. ولم ينفع صاحب الزمان المختفي المعصوم في أن يرد الظالم عن ظلمه، لقد كان سيف الدولة ابن حمدان الشيعي نهابا وهابا، فكان يولي قاضيا، فيقول القاضي: «من هلك فلسيف الدولة ما ملك.»
ولذلك مع حكم الدولة الفاطمية المصريين طويلا لم يستطيعوا أن يشيعوا المصريين تماما، فاستطاع صلاح الدين أن يردهم إلى السنية في سهولة. ويحدثنا المؤرخون أن الظاهر وهو الخليفة الفاطمي كان شابا يحب الملاهي، وينغمس في النعيم، حتى اغتصب الملك منه وزيره الكردي ابن السلار، كما يحدثونا أن مدة حكمهم، وهي نحو القرنين، ونصف قد امتلأت بالدسائس، والخصومات، وساءت أحوال الشعب لتعاقب المجاعات والمحن، وازداد الفقر في سني القحط، وقلت الموارد؛ فازدادت الضرائب، وكثرت المصادرات. وتقرأ الخطط للمقريزي فترى ما كان في قصور الخلفاء من تحف وخدم وجواهر، بينما كان الشعب في بؤس، فالحال هنا كالحال هناك، وغاية الأمر أن الحكم الشيعي يستند إلى إمام معصوم لا يقبل النقد، والحكم السني يستند إلى خليفة غير معصوم، معرض للخطأ والصواب، قابل للنقد.
الفصل الثامن
الأدب الشيعي
كان للشيعة دولتان ضخمتان: الدولة الفاطمية في المغرب ومصر والشام، والدولة البويهية في فارس والعراق. وكان لكل حضارة ضخمة فيها شعر، وفيها فن، وفيها علم؛ فكان للدولة الفاطمية شعر كثير، من مبدأ ابن هانئ الذي ملأ شعره مديحا في خلفاء الدولة الفاطمية، والخلفاء يجزلون له العطاء، وهم يفرطون في المديح له حتى يخرجوا بهم إلى صف الآلهة، وقلده الشعراء بعده، فمن شعره مثلا:
لي صارم وهو شيعي كحامله
يكاد يسبق كراتي إلى البطل
إذا المعز معز الدين سلطه
لم يرتقب بالمنايا مدة الأجل
ويقول:
هو علة الدنيا ومن خلقت له
ولعلة ما كانت الأشياء
فعنت لك الأبصار وانقادت لك ال
أقدار واستحيت لك الأنواء
لا تسألن عن الزمان فإنه
في راحتيك يدور حيث تشاء
ويقول:
تدعوه منتقما عزيزا قادرا
غفار موبقة الذنوب صفوحا
أقسمت لولا أن دعيت خليفة
لدعيت من بعد المسيح مسيحا
شهدت بمفخرك السموات العلا
وتنزل القرآن فيك مسيحا
ويقول:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
هذا الذي تجدي شفاعته غدا
حقا وتخمد إذ تراه النار
وهكذا جاء الشعراء بعده فاتبعوه، وأفرطوا في مديح الخلفاء، واستمروا على ذلك إلى أن كان آخرهم عمارة اليمني.
وبين ابن هانئ وعمارة شعراء لا يحصون عدا، كتميم بن المعز، وكلهم على نمط ابن هانئ في المديح، كالذي يقول أبو الحسن علي بن محمد الأخفض في الخليفة الآمر:
إلى ذروة المجد العلائي إنه
إلى ذروة النور الإلهي ينسب
ويقول في مدح الخليفة الحافظ:
بشر في العين إلا أنه
من طريق العقل نور وهدى
جل أن تدركه أعيننا
وتعالى أن تراه جسدا
فإذا نحن تجاوزنا الشعراء، وجدنا المجالس تموج بالحركة الثقافية من أول عهد النعمان داعي الدعاة، وقد كان يجلس للدرس والمحاضرة إلى عهد يعقوب بن كلس، فقد كان يعقد درسا في بيته كل أسبوع، يقرأ عليهم مؤلفاته، وخصص ديوانا من بيته لكل طائفة من الأدباء والعلماء.
وأنشأ الفاطميون خزائن الكتب، وشجعوا نقلها، والعناية بها، ووقفوا الأوقاف على استنساخها، حتى كانت دار الحكمة تموج بالناسخين والمطالعين. فإن نحن تجاوزنا إلى الطرف الفنية التي كانت تملأ القصور، والتي يدل عليها ما أخرج من القصور أيام صلاح الدين، وما بيع منها أخذنا العجب من ذلك، هذا إلى احتفالاتهم بالأعياد، وإقامة الولائم في عيد الفطر، وفي الأضحى ... إلخ. وعلى الجملة، فقد خلفوا حضارة تعتني بالعلم، والأدب، والفن إلى آخر مدى.
وأما الدولة البويهية، فقد كانت كذلك معتنية بالعلم والأدب، لقد بدأت حياتها تتعصب للأدب الفارسي، ولكن ما لبثت أن تثقفت الثقافة العربية، وتعصبت لها، ونبغ من ملوكهم من كان يشارك العلماء والشعراء في شعرهم وأدبهم، مثل: عضد الدولة البويهي، وكان وزراء استنوا سنتهم، وعنوا بالأدب، على رأسهم هؤلاء الأقطاب الأربعة: ابن العميد، والصاحب بن عباد، والوزير المهلبي، وابن سعدان. وقد كان كل عظيم الجاه، يقصد إليه الأدباء والعلماء، وكان لكل ميزة، كان الصاحب بن عباد ميزته الأدب البحت، وهو في مجالسه يعلم الأدباء بالنقد، ويقترح عليهم نظم الشعر في موضوعات معينة، أو إجازة بعض الأبيات، وابن العميد كانت ميزته العلم والأدب، ويضم إليه طائفة من المتخصصين في هذا، وابن سعدان كان يعنى بالفلسفة، ويجالس الفلاسفة أمثال: أبي حيان التوحيدي، ويثير في مجالسه مسائل فلسفية، والوزير المهلبي كان يعنى بالأدب الصرف، وفي التأليف في الأدب، ومن جلسائه أبو الفرج الأصفهاني، وله ألف كتابه الأغاني، والقاضي التنوخي وغيرهم، هؤلاء ملأوا الدنيا علما وأدبا.
ومن الآثار الأدبية الشيعية أشعار الشريف الرضي، وما في ديوانه مما يتعلق بالتشيع كثير، وكان يدور في فلكه مهيار الديلمي، فيقول القصائد الشيعية العديدة.
وكانت مقاتل الطالبيين، واضطهادهم باعثا لأدباء الشيعة على النوح والبكاء والعويل الذي لا ينفد، كالذي يقول الناشئ:
بني أحمد قلبي لكم يتقطع
بمثل مصابي فيكم ليس يسمع
عجبت لكم تفنون قتلا بسيفكم
ويسطو عليكم من لكم كان يسمع
كأن رسول الله أوصى بقتلكم
وأجسامكم في كل أرض توزع
وللناشئ هذا بائية مشهورة جدا في البكاء والنحيب، مطلعها:
رجائي بعيد والممات قريب
ويخطئ ظني والمنون تصيب
وكان له أشعار كثيرة لا تحصى في النواح والبكاء.
وللصاحب بن عباد نحو عشرة آلاف بيت في مناقب أهل البيت، والتبرؤ من أعدائهم، ومما ينسب إليه قوله وهو من أفظع الهجاء:
قالت تحب معاويه
قلت اسكتي يا زانيه
قالت أسأت جوابنا
فأعدت قولي ثانيه
يا زانية يا ابنة ألفي زانيه
أأحب من شتم الوصي علانيه
فعلى يزيد لعنة
وعلى أبيه ثمانيه
ومن شعر مهيار الديلمي في ذلك:
وقائل لي علي كان وارثه
بالنص منه فهل أعطوه أو منعوا
فقلت كانت هناك لست أذكرها
يجزي بها الله أقواما بما صنعوا
هم رجال إذا سميتهم عرفوا
لهم وجوه من الشحناء تمتقع
ما زلت مذ يفعت سني ألوذ بكم
حتى محا حقكم شكي فأنجع
وله في رثاء الحسين:
مصابي على بعد داري بهم
مصاب الأليف في فقد الأليف
وليس صديقي غير الخيرين
ليوم الحسين وغير الأسوف
قتيل به ثار غل النفوس
كما فغر الجرح حك القروف
نسوا جده عند عهد قريب
وتالده مع حق طريف
وممن تشيع من كبار الكتاب أبو بكر الخوارزمي، كان شيعيا متعصبا لأهل البيت، صريحا في مواجهته لهم، مسلطا قلمه على خصومهم. وللتشيع هذا أثر قوي في رسائله، فهو لا يترك فرصة دون أن يستغلها في هجاء خصومه، أو مدح رؤساء الشيعة، أو إظهار التوجع والتفجع لما أصاب أهل البيت من ظلم وقتل وغصب. فإذا كتب رسالة إلى جماعة الشيعة في نيسابور أسهب وأطال فيما أصاب أنصار الشيعة من قتل، وتشريد، ومنحة، وبلاء أيام الأمويين والعباسيين بأسلوب تسوده نغمة الحزن والكآبة، فيقول: «وأنتم ونحن - أصلحنا الله وإياكم - عصابة لم يرض الله لنا الدنيا، فذخرنا للدار الأخرى، ورغب بنا عن الثواب العاجل، فأعد لنا الثواب الآجل، وقسمنا قسمين: قسما مات شهيدا، وقسما عاش شهيدا، فالحي يحسد الميت على ما صار إليه، ولا يرغب بنفسه عما جرى إليه. قال أمير المؤمنين: المحن إلى شيعتنا أسرع من الماء إلى الخدور، فإذا كنا شيعة أئمتنا في الفرائض والسنن، ومتبعي آثارهم في كل قبيح وحسن؛ فينبغي أن نتبع آثارهم في المحن. غصبت سيدتنا فاطمة ميراث أبيها يوم الثقيفة، وأخر أمير المؤمنين عن الخلافة، وسم الحسن سرا.» وعلى هذا النحو يمضي في رسالته معددا مصائب الشيعة، هاجيا آل مروان، وآل الزبير، وبني العباس هجاء لاذعا عنيفا.
وتتابع الشيعة على هذا المنوال، فألف ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة قصائد سبعا كالمعلقات السبع، سماها «القصائد السبع العلوية»، الأولى: في ذكر فتح خيبر، والثانية: في ذكر فتح مكة، والثالثة: في وصف النبي، والرابعة: في واقعة الجمل، والخامسة: في وصف علي، والسادسة: في وصفه أيضا ومدحه، والسابعة: في أوصافه. فمثلا يقول في وصفه:
ولقد بكيت لقتل آل محمد
بالطف حتى كل عضو مدمع
وحريم آل محمد بين العدا
نهب تقاسمه اللئام الرضع
تالله لا أنسى الحسين وشلوه
تحت السنابك بالعراء موزع
متلفعا حمر الثياب وفي غد
بالخضر من فردوسه يتلفع
تطأ السنابك صدره وجبينه
والأرض ترتجف خيفة وتضعضع
لهفي على تلك الدماء تراق في
أيدي أمية عنوة وتضيع ... إلخ إلخ.
وعلى الجملة، فالثروة الأدبية التي تركها الشيعة في العويل والبكاء، ومدح الخلفاء ثروة كبيرة. وإذا نحن قلنا: الأدب الشيعي، فهو بعينه أدب معتزلي؛ لأن الأدب البويهي كان أدبا شيعيا معتزليا.
الصوفية
الفصل الأول
نشأة التصوف
التصوف
1
نزعة من النزعات، لا فرقة مستقلة كالمعتزلة، والشيعة، وأهل السنة، ولذلك يصح أن يكون الرجل معتزليا وصوفيا، أو شيعيا وصوفيا، أو سنيا وصوفيا، بل قد يكون نصرانيا أو يهوديا أو بوذيا وهو متصوف،
2
وهذا لا يمنعنا من عقد فصل لهم كما فعل الفخر الرازي من قبل.
ومن المؤلفين من يجعل الصوفية طائفة من أهل السنة، قال ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: «اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد فيما يجب ويجوز ويستحيل، وإن اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصلة لذلك، وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف:
الأولى:
أهل الحديث، ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية: الكتاب، والسنة، والإجماع.
الثانية:
أهل النظر العقلي، وهم الأشعرية ، والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري، وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي، وهم متفقون في المبادئ العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه.
الثالثة:
أهل الوجدان والكشف، وهم الصوفية، ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية، والكف والإلهام في النهاية».
وقد اختلف الناس في نسبة الكلمة: هل هي من الصفة، أو من الصفاء، أو من «سوفيا»، وهي باليونانية بمعنى الحكمة، أو من الصوف، ونحن نرجح أنها نسبة إلى الصوف؛ لأنهم في أول أمرهم كانت هذه الفرقة تلبس الصوف اخشيشانا وزهادة، كما نرجح أنها كانت ترتكن في أول أمرها على أساس إسلامي، فركنا التصوف أول ما ظهرا هما: الزهادة، وحب الله. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تزهد في الدنيا، وتقلل من شأنها مثل:
ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر (التكاثر: 1، 2)، و
المال والبنون زينة الحياة الدنيا (الكهف: 46)، و
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض (الكهف: 45) الآية. ووجد رجال كثيرون من أول الإسلام عرفوا بالزهادة كرجال الصفة، وأبي ذر الغفاري، ووجد بعد ذلك الحسن البصري، وقد كان إماما كبيرا أثرت عنه الأقوال الكثيرة في ذم الدنيا، والخوف من الله، وكان حزينا حزنا مفرطا، حتى قالوا: إنه كان دائما كأنه عائد من جنازة، ولكن كل هؤلاء لم يطلق عليهم متصوفون بالمعنى الذي عرف بعد، وحتى الحسن البصري هذا لم يترجمه القشيري في رسالته التي ترجم فيها للصوفية.
والركن الثاني في التصوف هو الحب الإلهي، وفي القرآن:
والذين آمنوا أشد حبا لله (البقرة: 165)، وفي الحديث: «نعم العبد صهيب! لو لم يخف الله لم يعصه.»
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه (المائدة: 54)، ولكن لما فتحت الفتوح الإسلامية، واختلطت الثقافات المختلفة، وكانت تموج في المملكة الإسلامية الفلسفة اليونانية، وخاصة الأفلاطونية الحديثة، والنصرانية، والبوذية، والزرادشتية، وجدنا أن هذا الزهد، وهذا الحب الإلهي يتفلسفان، وتتسرب إلى التصوف بعض تعليمات من كل هذا.
فالفلسفة اليونانية كانت منتشرة في الشرق منذ فتوح الإسكندر، وكان لها مدرسة في حزان، وهي التي تسمت بالصابئة، وقد ترجموا كتبا يونانية كثيرة إلى السريانية، ثم إلى العربية.
كما كان هناك فلسفة هندية وفارسية، وإن كانت فلسفتهم أقل انتشارا من الفلسفة اليونانية، وكان للهند مدرسة في جنديسابور كانت تدرس فيها علوم اليونان، والهند على السواء.
كل هذه كانت تتسرب منها تعاليم إلى التصوف بعد عصره الأول.
هوامش
الفصل الثاني
ما هو التصوف؟
وبعد، فما هو التصوف ...؟ ربما كان ابن خلدون خير من أوضح معناه فقال:
وأصلها - أي طريقة التصوف - العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني، وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية ...» ثم قال: «ثم لها آداب مخصوصة، واصطلاحات من ألفاظ تدور بينهم؛ إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة، فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا في التعبير عنه بلفظ متيسر فهمه منه ... وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وصنف مخصوص بالقوم في الكلام في المجاهدة، ومحاسبة النفس عليها، والأذواق، والمواجيد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق ... ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها ... وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن، ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه ... ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما.
وقد وفق ابن خلدون في إرجاع عناصر التصوف إلى أربعة: (1)
الكلام في المجاهدات، وما يحصل من الأذواق والمواجيد، ومحاسبة النفس على الأعمال. (2)
الكلام في الكشف، والحقيقة المدركة من عالم الغيب. (3)
التصرفات في العوالم، والأكوان، وأنواع الكرامات. (4)
ألفاظ موهمة الظاهر نطق بها أئمة القوم، فتعرف بالشطحات تستشكل ظواهرها، فمنكر لها، ومستحسن، ومتأول.
والتصوف يعتمد على الذوق والمواجيد أكثر مما يعتمد على المنطق، والعقل في نظرهم أداة غير صالحة، إن استطاع إدراك ظواهر الأشياء فهو لا يصلح مطلقا في استكناه الحقيقة؛ لأن العقل لا يعرف إلا ما يقع عليه الحس، أي لا يعرف الأشياء إلا في ظواهرها، أما الأشياء في حقائقها، وكنه وجودها فمن وراء طاقته أبدا. والصوفية تمتاز بتمجيد الله، والخوف منه، والإحساس العميق بضعف النفس، والخضوع التام لإرادة الله القوية، والاعتقاد التام بوحدانيته.
وبعضهم عرفه بوصف المتصوف، فقال رويم البغدادي: «التصوف مبني على خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل، وترك الغرض والاختيار».
وقال الكرخي: «التصوف هو الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق»، وقال الجنيد: «أن تكون مع الله بلا علاقة»، وقال ذو النون: «أن لا تملك شيئا، ولا يملكك شيء»، وقيل للحصري: «من الصوفي عندك ...؟ فقال: الذي لا تقله الأرض، ولا تظله السماء».
1
ومن أول ما ظهر من فلسفة المعاني الصوفية فلسفة الحب في قول رابعة العدوية:
أحبك حبين حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغل بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
قال الغزالي في الإحياء: «ولعلها أرادت بحب الهوى حب الله لإحسانه إليها، وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة، وأرادت بحبه لما هو أهل له الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها، وهو أعلى الحبين وأقواهما»، ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله؛ حيث قال حاكيا عن ربه: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.»
وقد روي لها في الحب أيضا قولها:
إني جعلتك في الفؤاد محدثي
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وقد تدفق بعدها كلام الصوفية في الحب تدفقا عظيما.
ورابعة العدوية هذه - كما تدل نسبتها - عربية الأصل، كانت من أعيان عصرها، ومات أبوها وهي صغيرة، وحدثت مجاعة بالبصرة بيعت أمة بسببها ، وقد حمدها سيدها لكثرة صلاتها، وسهرها الليل. وقد ماتت سنة 235ه، فهي عربية الأصل، ولذلك نرجح أن فلسفتها للحب كانت مزاجا، ونتيجة إفراطها في العبادة والزهد، هذا إلى طبيعتها النسائية. وقد ذكر القشيري في رسالته أنها كانت تقول في مناجاتها: «إلهي تحرق بالنار قلبا يحبك؟» فهتف بها هاتف يقول: «ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظن السوء.» وقد روي أنها قابلت الحسن البصري وسمعت منه، والذي يقارن بينهما يرى أن الحسن كان مغمورا بنزعة الخوف، وأما هي فكانت مغمورة بنزعة الحب، ولا شك أن نزعة الحب أرقى بكثير من نزعة الخوف.
قد يجوز أن يكون من أتى بعدها قد تأثر بمعاني الحب التي قيلت في الثقافات المختلفة، أما هي فما نظن أنها تأثرت بذلك، وإنما هي موجدة وجدتها في نفسها فغنت لها غناء بهيجا، كالموجدة التي كانت عند الخنساء؛ فغنت لها طويلا غناء حزينا.
وعند نشوء التصوف في القرن الثاني يظهر أنه لم يكن هناك جامعة تجمعهم، ولا أمكنة خاصة يؤدون فيها شعائرهم، إنما كانوا أفرادا متفرقين، قد يكون لبعض منهم تلاميذ، وكان كثير منهم يرتحل ويتلو القرآن، ويكثر من ذكر الله، ونرى في هذا الطور أبا يزيد البسطامي يكثر من الكلام في الاتصال بالله، والتفكير فيه، ويبدأ بفكرة كانت من أركان الصوفية فيما بعد، وهي فكرة الفناء في الله، وأبو يزيد هذا فارسي، وفكرة الفناء كانت في الديانة البوذية من قديم، وهي تسمى عندهم «نرفانا».
وفكرة الفناء كثيرة الشيوع في كلام الصوفية، وهي على درجات، وذات مظاهر، فالمظهر الأول: تغير أخلاقي في الروح تنحل معه الرغبات والشهوات، والثاني: انصراف الذهن عن كل الموجودات إلى التفكير في الله، والمظهر الأول نفسي، والثاني عقلي، ثم انعدام كل تفكير إرادي، والتفكير في الله من غير وعي، وآخر درجاته انعدام النفس بالبقاء مع الله. ويصف السري السقطي من وصل إلى هذه الحالة بقوله: «إنه لو ضرب بسيف على وجهه لما شعر به.»
وربما كان من العناصر التي تسربت إلى التصوف أيضا عنصر النصرانية ، فقد رويت أحاديث كثيرة عن تلاقي بعض الصوفية برهبان نصارى، مثل ما رواه المبرد في الكامل، وملخصه أن راهبين قدما من الشام إلى البصرة، عرض أحدهما على الآخر أن يذهبا لزيارة الحسن البصري؛ لأن حياته كحياة المسيح.
وهناك روايات كثيرة عن صوفية نزلوا أديار النصارى، كما رووا آيات من الإنجيل، ويروون أن المسيح - عليه السلام - مر بثلاثة قد نحلت أجسامهم، واصفرت وجوههم، فسألهم: ما جاء بكم هنا؟ قالوا: خوفا من النار. فقال لهم: إنكم لا تخافون مخلوقا، ثم مر بثلاثة آخرين أشد ضعفا، وأكثر اصفرارا؛ فسألهم ما سأل الأولين، فقالوا: شوقا إلى الجنة. قال لهم: رغبتم في شيء مخلوق. وأخيرا مر بثلاثة في غاية النحول والاصفرار، فسألهم ما سأل الأولين، فقالوا: محبة الله، فقال المسيح: أنتم أقرب الناس إلى الله. ويعدون ما أخذه الصوفية من المسيحية: لبس الصوف؛ إذ كان كثير من الرهبان يلبسونه، والكلام في حب الله.
ومن العناصر التي يعدونها أيضا أصلا للصوفية الأفلاطونية الحديثة، فقد ترجمت لها كتب كثيرة إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية، وتنسب معظم الأفلاطونية الحديثة إلى أفلوطين الذي نشأ في مصر، ثم ذهب إلى روما في القرن الثالث الميلادي، وله كتاب التاسوعات الذي نقل بعضه إلى اللغة العربية بعنوان الأثولوجيا، أي الربوبية، نقله عبد المسيح بن ناعمة الحمصي، وأصلحه لأحمد بن المعتصم بالله أبو يوسف يعقوب الكندي، وانتفع بهذا الكتاب ابن سينا، وشرحه، وهو يعتقد خطأ أنه لأرسطو، ويقول أفلوطين في ذلك الكتاب: «إني ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني جانبا، وصرت كأني جوهر متجرد بلا بدن، فأكون داخلا في ذاتي، راجعا إليها، خارجا من سائر الأشياء؛ فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعا، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجبا بهتا ...» وقد كانت هذه الفلسفة منتشرة في مصر؛ حيث تعلمها ذو النون المصري المتصوف الكبير. ومما ينسبون تسربه إلى الصوفية منها: الفيض، وانبثاق النور، والتجلي، وغير ذلك؛ فالبوذية، والنصرانية، والأفلاطونية الحديثة قد تسربت منها تعاليم إلى التصوف، وإن كان الأصل الأصيل لمتصوفة المسلمين الإسلام.
دخلت فكرة الفناء من البوذية عن طريق أبي يزيد البسطامي، ودخل غيرها عن طريق غيره، هكذا قال كثير من المستشرقين، وربما كان الخلاف الشديد بينهم في مقدار العناصر التي تسربت، فبعضهم يزيد من العنصر النصراني، وبعضهم يزيد من العنصر الأفلاطوني الحديث، وبعضهم من البوذية.
ويحق لنا أن نتساءل: هل وجود فكرة في إحدى هذه الأمم، ثم وجودها بعد ذلك في المتصوفة دليل على أنها أخذت عنها؟ فإذا وجد الفناء في البوذية، ثم وجدت فكرة الفناء في الصوفية، هل يكون هذا دليلا على أخذ الآخرين من الأولين؟ قد يكون هذا نوعا من التفكير الذي يدعو إلى الشك لا الجزم، خصوصا وأن هناك موانع كثيرة من هذا الرأي مثل: أن رابعة العدوية امرأة عربية لم يثبت لنا أنها ثقفت ثقافة أجنبية، وهي أول من تكلم في الحب الإلهي، فمن أين وصل إليها الحب النصراني؟ ثم إن الاتجاهات المتحدة والأمزجة المتحدة تنتج نتائج متحدة، قد لا نعجب بها إذا وجدنا النتائج العقلية متحدة في العالم؛ لأن عقول الناس في العالم متشابهة، وهي تسير على قوانين منطقية واحدة من مقدمات مشروطة بشروط، وأنواع من القياس، أما العواطف فمختلفة كثيرا عند الناس، ومع ذلك لما اتحد الصوفيون في طريقة رياضة النفس والمجاهدة، والأخذ على المشايخ رأيناهم تقاربوا في النتائج، ورأينا الصوفي العراقي يفهم الصوفي الأندلسي، والعكس، ومحيي الدين بن عربي الأندلسي، استطاع أن يفهم الحلاج العراقي، وهكذا، أفبعد هذا نستطيع أن نجزم بتسرب بعض العناصر المختلفة إلى التصوف؟ وإن هذا في نظري يشبه ما ملئت به كتب الأدب العربي من السرقات الشعرية، فهم يقولون: إن معنى هذا البيت مسروق من معنى هذا البيت، ولا نستطيع أن نجزم بذلك إلا إذا اتحدت ألفاظ البيتين أو أكثر، أما المعاني فهي شائعة في كل الأجواء، قد يقع عليها اثنان أو أكثر، ويصوغها كل من غير سرقة، وقد أنصف في ذلك القاضي عبد العزيز الجرجاني في الوساطة، فحصر السرقة في حدود ضيقة، وكذلك نقول.
هوامش
الفصل الثالث
تطور الصوفية
على كل حال، بدأ التصوف في القرن الثاني، ثم تطور على مدى القرون، فهذا مما لا شك فيه، ويمكننا إدراك هذا التطور إذا نحن قارنا بين نصوص رويت عن المتصوفة الأولين، وبين نصوص رويت بعدهم، ثم عمن بعدهم وهكذا، وقرأنا ذلك في مثل كتاب «الرسالة القشيرية»، و«تذكرة الألباب»، فنجد أن النصوص في العصور الأولى واضحة جلية، ثم تطورت فدخل فيها ما لم يكن وهكذا.
يفسر ذلك المستشرقون باتصال الصوفية بأهل الديانات الأخرى، ونقول: نحن باحتمال أن ذلك نشأ من التطور الطبيعي، كما تطور الزهد الإسلامي الأول الذي كان عند أهل الصفة إلى زهد مفلسف، كزهد الحسن البصري، وكما تطور الحب من حب بسيط كالذي عند صهيب إلى حب مفلسف كالذي عند رابعة العدوية.
على الجملة، كان إبراهيم بن الأدهم، وداود الطائي، والفضيل بن عياض، وشقيق البلخي، وكلهم توفوا في القرن الثاني الهجري، يكاد لا ينكر أحد أنهم صوفية إسلاميون، ثم نرى بعد ذلك في القرن الثالث أن التصوف زادت فلسفته، كالأقوال المنسوبة إلى معروف الكرخي المتوفى سنة 200ه، ويصفونه بأنه رجل غلب عليه الشوق إلى الله، ويقول تلميذه سري السقطي: «إن محبة الله شيء لا يكتسب بالتعلم، وإنما هي هبة من الله وفضل.» ثم يزيد التصوف عمقا في مثل أقوال ابن سليمان الداراني المتوفى سنة 215ه، وذي النون المصري
1
المتوفى سنة 245ه.
هوامش
الفصل الرابع
ذو النون المصري
وهو أيضا شخصية غريبة، فهو مصري من إخميم، يقال إنه نوبي، وتدل أقواله على أنه مثقف ثقافة واسعة، اشتهر بالكيمياء، والكيمياء في ذلك العصر كانت مشوبة بشعوذة السحر، فكانت النتائج الكيميائية التي ننظر إليها اليوم هادئين ينظر إليها فيما مضى على أنها نوع من الكرامات. وقد روي عنه أنه شغف بالتجوال في البرابي، وادعاء أنه يقرأ خطوطها الهيروغليفية، وأن هذه الكتابات مملوءة بالسحر والحكمة، وكان يدعي أنه يقرؤها، ويدل ما نقل إلينا عنه من قراءتها أنه لم يقرأها حقا، كما قرأها شامبليون بعد اكتشاف حجر رشيد، وإنما قرأها من خياله وأوهامه . على كل حال، له تأثير كبير في نقل التصوف من حال إلى حال، وينسب إليه إدخال الكلام في المقامات والأحوال في الصوفية، وقد شغلت جزءا كبيرا منها؛ فللصوفية كلام طويل في الأحوال والمقامات التي وضع فكرتها ذو النون، خلاصتها: أن طريق الوصول إلى الله شاق عسير، يجب أن يتدرج فيه المريد في مراحل يسلم بعضها إلى بعض، ولذلك سموا السير في الطريق سفرا وحجا، وسموا السائر سالكا، وهذه المراحل المتعددة تسمى بالمقامات، وقد جعلها الطوسي صاحب كتاب «اللمع»، وهو من أقدم الكتب الصوفية سبعا، كل واحدة تسلم إلى ما بعدها، وهي مقام التوبة والورع والزهد، والفقر والصبر والتوكل والرضا، فالتوبة هي الشعور بالخطيئة، والعزم الأكيد على الإقلاع عنها، وإذا لم يستطع المريد ذلك، فعليه أن يتوب مرة تلو مرة، إلى أن يتوب الله عليه، حتى يرووا أن أحدهم كرر عملية التوبة سبعين مرة. ويضاف إلى الشعور بالخطيئة، والعزم على تركها عدم التفكير فيها؛ إذ الشغل الشاغل هو الله تعالى، وبعد التوبة يجب أن يتبع الطالب مرشدا، أو شيخا يطيعه طاعة عمياء. ويحتقر المتصوفة من يسير في الطريق من غير مرشد، ويقولون: إنه أشبه ما يكون ببستان ليس له بستاني، فهو لا يثمر ثمرا صالحا، أما الورع فهو تخصيص الطالب نفسه لعبادة الله، وخدمة الإنسان في السنة الأولى، وعبادة الله، والانصراف عن الدنيا في السنة الثانية، والانصراف عن اللذات الشهوانية، والمشاغل الدنيوية بالتأمل في الله في السنة الثالثة، ثم الزهد والفقر، فالزهد في الملذات الدنيوية، والفكر عنها، والعيشة عيشة الفقراء ولو كان صاحبه غنيا، ثم الصبر، وفيه يعذب السالك نفسه؛ لأنها أمارة بالسوء، والنبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك.» ثم مقام التوكل يجعل الإنسان نفسه آلة في يد الخالق يديرها كيف شاء، ثم مقام الرضا والطمأنينة، وراحة النفس، والسلام الروحي؛ ولذلك يستعينون على هذا المقام بالغناء، والموسيقى، والرقص، وتكرار لا إله إلا الله، أو الله الله، إلى أن يكل لسانه، ويشعر أنه إنما ينطق بقلبه ، ولست أدري هل الاتفاق في الدرجات، وجعلها سبعا متفقة مع الدعوة الفاطمية، وتدرجها إلى سبع أيضا: أيهما أخذ من الآخر؟؟
هذه هي المقامات، أما الأحوال فعدوا منها التأمل، والقرب، والمحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، والتعين، وهم يقولون: إن المقامات يتوصل إليها بمجهود الشخص، أما الأحوال فموهبة من الله لا حكم للإنسان عليها، وهذا معنى قولهم: الأحوال مواهب، والمقامات مكاسب.
على كل حال، لم تكن الصوفية في القرن الثاني قد تكونت كمجموعة تربط بينها روابط متينة، إنما كانت جماعة متفرقة في البلدان، وقد يكون لكل شيخ صوفي تلاميذه الخاصة به.
وجاء بعده سري السقطي المتوفى سنة 253ه، قالوا: إنه أول من تكلم ببغداد في الحقائق الإلهية والتوحيد، وجاء بعده الجنيد البغدادي المتوفى سنة 297ه، قالوا: إنه أول من صاغ المعاني الصوفية، وكتب في شرحها، وزاد التصوف في القرن الرابع نظاما من ناحيتيه: النظرية، والعملية.
ويلاحظ أن الصوفيين الأولين كانوا مع تصوفهم يلتزمون أداء الشعائر في أوقاتها، ثم ظهرت نزعة عند بعضهم بعدم التدقيق في تأدية الشعائر، كأن العلاقة الصوفية بين المتصوف والله تجعل في حل من التزامها.
الفصل الخامس
وحدة الوجود
ومما شاع في المتصوفة من قديم القول بوحدة الوجود، وهي مسألة في منتهى الدقة، ربما جمعها تفسيرها بأن المحب يفنى في محبوبه، ويحب بكل قلبه حتى لا يكون هناك فرق بين محب ومحبوب، وفي القرآن آيات أمعن فيها المتصوفة ففهموها على مذهبهم، مثل:
كل شيء هالك إلا وجهه (القصص: 88)، و
كل من عليها فان (الرحمن: 26)، و
فأينما تولوا فثم وجه الله (البقرة: 115)، و
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب (البقرة: 186)،
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (ق: 16)؛ فكان الإمعان في ذلك، والغلو فيه سببا في أقوال المتصوفة في هذا الباب، ثم كان الحب العذري، والأدب الذي أثاره مجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثير عزة، وفيه أبيات تدل على فناء المحب في المحبوب، حتى يبلغ أن يكون المحبوب هو المحب. وسبب ثالث: وهو ما ذهب إليه الشيعة من أن الأئمة وعلى رأسهم علي فيهم روحانية إلهية، بها استحقوا أن يكونوا أئمة، وأن يكونوا معصومين، ثم أتى بعد ذلك الغلو في الفناء، أي فناء المحب في المحبوب، حتى لا يرى شيئا إلا هو، وكلما تقدم الزمن رأينا أثرا من ذلك في مثل بعض أقوال أبي يزيد البسطامي، وبعد ذلك رأينا ذلك واضحا في الحلاج
1
من مثل قوله: «أنا الحق، وما في الجبة إلا الله»، ولكن يظهر أن الحلاج كان يقول بالحلول، أي حلول الله في الإنسان، أي أنه هو والله شيء واحد، كما يقول بعض النصارى في امتزاج الطبيعة الإلهية بالطبيعة الناسوتية، كما يمتزج الماء بالخمر، كقوله: «دع الخليقة لتكون أنت هو، وهو أنت»، وبالفعل وجد في بعض تعبيراته كلمة الناسوت واللاهوت كالتعبيرات النصرانية.
أما وحدة الوجود، فمعنى آخر تجلى فيما بعد في ابن العربي وابن الفارض، وابن سبعين، والعفيف التلمساني وغيره، حتى إن هؤلاء لم يفهموها فهما واحدا، بل بينهم خلاف ولو بسيط.
وينكر ابن الفارض الحلول، كالذي ذهب إليه الحلاج، ولذلك يقول في تائيته:
متى حلت عن قولي أنا هي أو أقل
وحاشا لمثلي أنها في حلت
وفي الصحو بعد المحو لم أك غيرها
وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلت
ولذلك وصفوا مذهب ابن الفارض بالاتحاد، كما وصفوا مذهب ابن عربي بوحدة الوجود، والقول بالاتحاد قريب من القول بوحدة الوجود، على خلاف بينهما يسير.
ومعنى القول بوحدة الوجود: أن العالم والله شيء واحد. وبيان ذلك أن المتكلمين والفلاسفة مثلا يرون الوجود وجودين: واجب الوجود، وممكن الوجود، فواجب الوجود ما كان وجوده لذاته، وممكن الوجود ما وجد لسبب، والأول أزلي أبدي، والثاني محدث فان، وهذا القول يقول باثنينية الوجود، أي الله والعالم، فالله خالق، والعالم مخلوق، والله مدبر، والعالم مدبر، وليس الله حالا في العالم، وإنما هو خالقه ومدبره، والله بيده الخير والشر، يثيب الناس ويعاقبهم؛ جزاء لما كانوا يعملون، تهمه أعمال الناس، وتسره التضحية.
أما مذهب الحلول، فيرى أن الله والعالم امتزجا، وأن الله والقوة الداخلية الفاعلية في العالم مترادفان، وأما أصحاب وحدة الوجود فيقولون: إنه ليس في العالم وجودان، بل وجود واحد، والله هو العالم، والعالم هو الله، ولذلك يسمى مذهبهم بالواحدية، ويسميه ابن تيمية بمذهب «الاتحاد»، أي الاتحاد بين الله والعالم.
وقد كان انكساغوراس، وأرسطاطاليس، والرواقيون اثنينيين، وجاءت الأديان من يهودية ونصرانية وإسلام، فأيدت الإثنينية. فالله والعالم، والخالق والمخلوق، والروح والمادة، عنصران اثنان لا عنصر واحد. أما الواحدية فتقول بأن العالم والله، أو المادة والروح، أو الخالق والمخلوق شيء واحد، وهذا واضح جدا في كلام ابن عربي، فمن تعبيراتهم: «أن ذاته وذات الله قد أصبحتا ذاتا واحدة»، وقد تجلى هذا المعنى في القرن السادس والسابع الهجريين في حياة ابن الفارض وابن عربي،
2
وليست مظاهر العالم المختلفة إلا مظاهر لله تعالى، أي ليس لله وجود إلا الوجود القائم بالمخلوقات، وليس هناك غيره ولا سواه، وأن العبد إنما يشهد السوى ما دام محجوبا، فإذا انكشف الحجاب رأى أنه لا أثر للغيرية ولا للكثرة، وعاين الرائي عين المرئي، والمشاهد عين المشهود، ولهم في ذلك كلام كثير، وشطحات بعيدة المدى.
وقد تختلف تعبيراتهم باختلاف منازعهم، فتعبيرات الفلاسفة القائلين بوحدة الوجود كالسهروردي غير التعبيرات التي يقولها شاعر أديب يقول بوحدة الوجود كابن الفارض، ولأن هذا الكلام وهذا المذهب صعب إدراكه على العقل اعتمدوا هم على الذوق والكشف، ولما كان كلامهم قد لا يرضي العامة استعملوا كلمات وتعبيرات الغزل المادي من سكر وخمر، ووصال وهجران، إلى غير ذلك، حتى لقد يصعب على القارئ إذا لم يعرف قائل الأبيات أن يعرف إن كانت هذه الأبيات صوفية أو نواسية.
وقد علقوا أهمية كبيرة على الذوق، وقالوا: إنه لا يحسن التصوف إلا من كان ذا ذوق يناله بالرياضة والمجاهدة، ويقومه أكثر مما يقوم النظر العقلي، والدليل المنطقي، والذوق يوصل إلى الكشف، أما النظر العقلي فيوصل إلى العلم، والفرق بين من يرى بذوقه، ومن يقتنع بعقله كالفرق بين من يرى بعينه، ومن يصدق غيره من قوله. ولذلك اختلفت أساليب الصوفية عن أساليب العلماء في طرق المعرفة، فإذا عول الفلاسفة على العقل، فإنما يعول المتصوفة على القلب، يقول أحد الصوفية: «إن السالك في سبيل الله أحد ثلاثة: عابد يعبد الله رغبة في الجنة، وفيلسوف يعتمد على براهينه، وهو لا يصل إلى الله، وعارف يصل إلى الله بوجده، وهو خير الناس.» ولهم في المعرفة أيضا كلام كثير.
هوامش
الفصل السادس
التسامح الديني
وإذ قال كثير منهم بوحدة الوجود كانوا أسمح الناس في اختلاف الأديان، فالاختلاف بين الأديان إنما هو اختلاف في المظاهر، أما من حيث الحقيقة والجوهر فكل تسلك طريقا إلى الله، والغاية واحدة، والاختلاف في الوسائل لا يهم ما دامت الغاية واحدة، وهي حب إله واحد، ولابن عربي وجلال الدين الرومي أشعار كثيرة في هذا المعنى، وكذلك في بعض أبيات تائية ابن الفارض خصوصا في التائية الكبرى، وقالوا: إن كل دين وإن اختلف في مظهره عن الدين الآخر، فإنما يكشف عن ناحية معينة من نواحي الحق، فالإيمان والكفر لا يختلفان اختلافا جوهريا، واليهود، والنصارى، والمجوس، وعبدة الأصنام متفقون في عبادة إله واحد، والقرآن والتوراة والإنجيل منتظمون في سلك واحد، هو سلك التنظيم الإلهي ... إلخ؛ مما يجعلهم أرحب أهل الأديان صدرا.
الفصل السابع
الغزالي
فإذا جاء القرن الخامس الهجري رأينا شخصية كبيرة لها لون خاص غير الألوان السابقة كان لها تأثير كبير في المحيط الإسلامي، بل وفي غيره، وهي شخصية الغزالي، فهو ذو شخصية طبيعية ممتازة، ثم هو مثقف ثقافة واسعة يعرف كثيرا من الفلسفة، وتعاليم المتشيعة، أو بعبارة أخرى: مذهب الباطنية، والفقه الشافعي، والتصوف، ثم هو بعد أن جمع ذلك كله كانت له قدرة فائقة على التعبير، كما يدل عليه كتاب الإحياء. كانت قبله حروب هائلة بين الفقهاء والصوفية،
1
وخصوصا بين الصوفية والأشعرية، فجاء الغزالي يصالح بين الفريقين، ويرضي كثيرا من الفقهاء عن التصوف، وكثيرا من المتصوفة عن الفقهاء. كان في الأصل مدرسا في مدرسة نظام الملك ببغداد، وقد ولد بطوس سنة 450ه، وأوصاه أبوه بالصوفية ورجالها، فلما ترعرع درس الفقه، وتلقى العلم في جرجان فنيسابور، وكان من شيوخه خليفة أبي الحسن الأشعري إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، وكانت مدرسة نظام الملك وقصره الفخم تموجان بالعلماء والفقهاء.
وقد نال الغزالي شهرة واسعة في الفقه والمناظرة؛ إذ كانت له مواقف جادل فيها العلماء، وتغلب عليهم، فأخذ يزهى بمقدرته، ويوما نظر إلى حالته، فرأى غرورا كاذبا، وحياة مظاهر لا قيمة لها، فتردد طويلا، هل يبقى على هذه الحالة التافهة، أو يهجرها ويدع ما لا قيمة له إلى ما له قيمة، وأخيرا قرر السفر إلى الحجاز، وتطليق ما هو فيه، والميل إلى الزهد والورع. ويروي في كتابه «المنقذ من الضلال» أنه غادر بغداد إلى الشام، ثم إلى مكة، فلما عاد من الحجاز عرج على الشام، وأقام فيه نحو عشر سنوات معتكفا يصلي ويصوم، ويدون فيها علومه، ومن ذلك كتابه «الإحياء»، ثم رجع إلى بلده طوس، وقد امتلأ علما وزهدا وورعا، وكان يقرأ القرآن، ويتبتل إلى الله، ثم ألح عليه فخر الملك ابن نظام الملك أن يكون أستاذا في المدرسة النظامية فقبل، ثم عاوده الحنين إلى الاعتكاف فهجر التدريس، وذهب إلى بلده.
والظاهر من سيرته أنه كان نهما في تحصيل العلم، لم يدع بابا يظن أنه يوصله إلى معرفة الحقيقة إلا طرقه، ولم تعجبه الفلسفة، ولا الفقه المجرد من الروح، ولا تعاليم الباطنية، وإنما اطمأن أخيرا إلى التصوف فأحبه، وركن إليه، وكان لكتبه وتعاليمه أثر كبير في حياة المسلمين، بدليل تاريخ المسلمين قبله وبعده، ومن أهم مظاهر ذلك: (1)
أن الفقهاء كانوا يعتمدون على ظواهر الشعائر من وضوء وصلاة، وعدد ركعات، ونحو ذلك، فجاء هو فبث فيها الروح، وجعلها كما كانت في الحال الأول في صدر الإسلام أهم أركانها، فالصلاة ليست مجرد حركات، وإنما هي ذلك مع خشوع القلب. (2)
كان المتصوفة قد ارتكنوا إلى الحب الإلهي فسكنوا واطمأنوا، وبعضهم لم يلتزم التزاما دقيقا بالواجبات الدينية، فجاء الغزالي وأعاد إلى النفوس الخوف من الله على طريقة الحسن البصري. (3)
وبجانب ذلك حبب التصوف إلى الناس، وأقر الاعتقاد بالمكاشفة، وأنها تصل بالمعرفة إلى ما لم يصل إليه العقل، ونراه في الإحياء في كثير من المواضع يقف في شرحه عند حد، ثم يقول: إن ما وراء ذلك لا يدرك إلا بالكشف، ولا تستطيع أن تعبر عنه اللغة. (4)
وافق الصوفية على القول بكرامة الأولياء، وإتيانهم بخوارق العادات. (5)
فلسف الدين، فإذا قرأت أي باب من الأبواب، حتى ما تعرض له الفقهاء كالعبادات والمعاملات رأيته يعرضها عرضا غير عرضهم، فعرضهم جاف كالقوانين، وعرضه لطيف جذاب كالقطعة الأدبية، بل هو نفسه في كتب الفقه جاف كالفقهاء، وفي كتاب الإحياء، ونحوه لطيف كالأدباء. (6)
قرر أن الإيمان عن طريق الكشف لا عن طريق الفلسفة هو الطريق إلى الله، وطريق الكشف الرياضة والمجاهدة.
من أجل ذلك كله جرف العالم الإسلامي إلى اتجاهه، فأصبحنا نرى أن الناس لا ينظرون إلى المتصوفة نظرا شذرا كما كانوا يفعلون، ولعله من ذلك الحين اعترف أهل السنة بالكرامات والأولياء.
قلنا : إن الغزالي ربما أثر في غير المحيط الإسلامي، فقد ترجمت بعض كتبه إلى اللغة اللاتينية في القرون الوسطى، وانتفع اليهودية بفلسفته، فاستخدموا كتابيه «التهافت، والمقاصد» في ردهم على الفلاسفة.
وقد بحث في كتابه «الإحياء» في العلم، وقواعد العقائد، وأحوال المعيشة، وآداب الاجتماع، ورياضة النفس، وعجائب القلب، وأخيرا بحث في التعليمات الصوفية كالتوبة والصبر والمحبة. وعلى الجملة، فقد قسمه إلى أربعة أرباع: ربع العبادات، وربع في العادات، وربع في المهلكات، وربع في المنجيات.
وكما عقد الغزالي في التصوف الصلة بينه وبين الله، عقد الصلة بينه وبين النبي
صلى الله عليه وسلم ، وذكر ذلك في فصل خاص من فصول المنقذ وقال: «فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به ... وبالجملة، فمن لم يرزق منه شيئا بالذوق فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم. وكرامات الأولياء هي على التحقيق بدايات الأنبياء، وكان ذلك أول حال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين أقبل إلى جبل حراء؛ حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد.» وقد ألف كتابا اسمه «مشكاة الأنوار»، شرح فيه آية
الله نور السماوات والأرض (النور: 35)، وفيه يذكر شيئا عن موجود يسميه «المطاع»، يعتبره خليفة الله، والمعبر الأعلى للعالم، ويقول: إن نسبته إلى الوجود الحق - أي الله - كنسبة الشمس إلى النور المحض، أو نسبة الجمر إلى جوهر النار الصرف.
قال الأستاذ نيكولسن: «ولا شك أنه يريد بالمطاع الأمر الإلهي الوارد ذكره في القرآن، أعني الأمر الإلهي الذي به تنفذ الإرادة الإلهية في العالم، ويتلقى عنه الأنبياء وحيهم، وبعبارة أخرى: فالمطاع هو الموجود الذي عن أمره تتحرك الأفلاك، وقد قيل: إن المطاع هذا المراد به القطب رأس الصوفية، ولكن هذا بعيد؛ لأن الغزالي لا يقول بنظرية القطبية الصحيحة، أما أنا فأميل إلى القول بأن المطاع يمثل الصورة المثالية التي يسمونها الحقيقة المحمدية، أو الروح المحمدي، أو الإنسان السماوي الذي خلقه الله على صورته، ويعتبرونه قوة كونية يتوقف عليها نظام العالم وحفظه.»
2
وهذه النظرية - أي نظرية المطاع، أو الروح المحمدية - هي التي شرحها فيما بعد شرحا وافيا عبد الكريم الجيلي أو الجيلاني في كتابه «الإنسان الكامل»، وسنتكلم عنه في القسم الثاني.
وعلى الجملة، فيظهر لي أن الإسلام في العصور المتأخرة عن الغزالي كان متأثرا بتعاليم الغزالي وكتبه.
هوامش
الفصل الثامن
القطب
ولا بد أن نذكر أن من أهم تعاليم الصوفية التي كان لها أثر في تاريخ المسلمين القول بالقطب، وهم يقولون: «إن القطب هو أكمل إنسان ممكن في مقام الفردية، أو هو الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، عليه تدور أحوال الخلق، وهو يسري في الكون، وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، ويفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل: فهو من الكائنات بمثابة المهيمن عليها، المكلف بحفظها ورعايتها، وأنه ليظل كذلك طول حياته حتى يقبضه الله فيخلفه واحد من الأولياء الثلاثة الذين دونه في المرتبة، وهم الأوتاد الذين كانوا من قبل أبدالا، ويبلغ عددهم الأربعين، ويسمى القطب غوثا باعتبار التجاء الملهوف إليه. وقد يطلق القطب على قطب الأقطاب، وهو سابق في وجوده على وجود هؤلاء الأقطاب، وعلى وجود كل ما في عالم الغيب والشهادة، وهو بهذا المعنى لم يتلق القطبية عن قطب آخر سبقه من قبل، فصار قطبا بعد أن كان وتدا، ولكنه واحد منذ القدم لم يتقدم عليه قطب آخر، ولم يلحقه قطب آخر بهذا المعنى الذي لا يدل إلا على حقيقة واحدة هي الحقيقة المحمدية.»
1
هذه هي حركة التصوف مجملة إلى نهاية القرن الخامس الهجري، وسنتحدث عن الصوفية في القرون التي أتت بعد في القسم الثاني من هذا الكتاب.
هوامش
الفصل التاسع
الأدب الصوفي
للصوفية أدب غزير، له خصائص تخالف الأدب الآخر، وقد بدأ من أوائل القرن الثاني الهجري، واستمر في العصور بعده، ومن خصائصه: السمو الروحي، والمعاني النفسية العميقة، والخضوع التام لإرادة الله القوية، وبعد الخيال والشطحات، كما يتصف بالغموض والمعاني الرمزية.
وقد كان الأدب الصوفي نتاجا لجنسين مختلفين: الجنس السامي، ويمثله الأدب الصوفي العربي، والجنس الآري، ويمثله الأدب الصوفي الفارسي، وبين الجنسين اختلاف كبير في التصوف، والإنتاج، والمزاج. ومع كراهيتنا لإرجاع الخصائص إلى الجنس، فإننا نقر إلى حد ما أن الساميين بحكم نشأتهم أقوياء الحس في الغالب، ضعاف الخيال، بينما الآريون واسعو الخيال، كبر في أذهانهم جلال القوى الطبيعية؛ لأنهم نشئوا في أقطار ذات مناظر طبيعية جميلة، جلية، فخمة، غريبة، وهم أقدر على وصف خلجات النفوس، والساميون أقدر على تشبيه ظواهر الأشياء.
والتصوف السامي كله وله، وحنين، وإخلاص، وحيرة مصدرها الإعجاب والحب والعاطفة، والسامي يحب فيحس عذاب الحب أو نعيمه إلى درجة بعيدة، وقد يبالغ في هذا وذاك، ثم يخرج عذاب نفسه، أو نعيمها شعرا سلسا، دافقا، مملوءا بالسخط والضجر، والألم، والأنين، والاطمئنان إلى هذا الألم والحنين:
أشكو وأشكر فعله
فاعجب لشاك منه شاكر
فهذه عاطفة صادقة امتلأت بالحب، وأورثت الشكوى والألم، ثم إن النفس عن كل هذا راضية، بل هي تسمو إلى أرفع منازل التضحية، وتجود بالحياة في سبيل هذا الغرام، وحرصا عليه.
إن الغرام هو الحياة فمت به
صبا فحقك أن تموت وتعذرا
وفي هذا يختلف الأدب في التصوف السامي عن الأدب في التصوف الآري، فليس من طبيعة العربي أن يندمج في الطبيعة، ويفنى فيها كغيره من أبناء الهند وفارس، وهو كغيره من الساميين تعوزه القدرة على استخراج الكليات من الجزئيات، فأدبه يدرك الأشياء تفصيلا، ولكن لا يدركها إدراكا كليا موحدا، ينظر إلى كل شيء على حدة تقريبا، فهو ينظر إلى كل شجرة جزئية في البستان، ولكن يصعب عليه أن ينظر إلى البستان ككل، ووحدة قصيدته البيت، وكل بيت مستقل بنفسه تقريبا، وليس للقصيدة وحدة، وشعره يعبر عن نفسه تعبيرا موسيقيا صحيحا بأساليب موزونة براقة كله حياة، ولكنها حياة يحدها الزمان والمكان، ولا طاقة له أن يسمو بفكرة فوق الزمان والمكان.
1
أما الأدب في التصوف الآري فكله غرام وحب، ولكنه حب مزج فيه العاطفة بالفلسفة، يبدأ التصوف عندهم بالفهم والإدراك، ثم التفلسف، أما السامي فيبدأ بالشعور، ولا يلزم أن يكون هناك شيء آخر.
ومن أجل ذلك كان التصوف مجالا لفهم الفرق بين الطبيعتين والمزاجين، والأدب الصوفي يسلك طريق المكاشفة في إدراك الحقائق، ولما كان الأدب الصوفي يتنازعه القلب والعقل، وكلاهما له طريقة خاصة به، فأحدهما يسير في طريق المنطق، والآخر يحاول أن يتجنبه، وقع الأدب الصوفي في الغموض، وهو على العموم أدب عبوس شديد مرير، وأدب عاطفة حارة، وشعور حاد، وقد أضفى عليه جمال الموضوع جمالا في الوزن، وحسنا في التوقيع، والنغم الموسيقي، والخيال فيه بعيد، واسع كله روعة وجلال، سجعه لطيف، وموسيقاه رنانة، وكثيرا ما يعتمد على المحسنات البديعية، والتزويق اللفظي استعانة بذلك على تسهيل المعاني العميقة، والأفكار المعقدة، يتعب غموضه، فما وضح منه كان غاية في الرقة والجمال، وهو غني في ألفاظه وأساليبه، هائم مع الروح في عالم اللانهاية، وحائر على الدوام، لا يستقر حتى يفنى في هيامه.
ومن الأسف أن الأدب العربي لم يوله الاهتمام الكافي بعرض نماذج منه على الناس، واكتفوا بالأدب المادي إن صح هذا التعبير، والمستشرقون في عرضهم للأدب عنوا بسلسلة تاريخية أكثر مما عنوا بموضوعه وفنه، وفضلا عن ذلك فالكتب التي ألفت في التصوف نفسه تحتاج إلى غربلة، وغرقت فيه حبات الدر في بحار من الكرامات والمعجزات.
هوامش
الفصل العاشر
أطوار الأدب الصوفي
والأدب الصوفي يمكن أن يقال إنه تطور في ثلاثة أطوار: الطور الأول يبدأ من ظهور الإسلام، وينتهي في أواسط القرن الثاني للهجرة، وكل ما بين أيدينا منه طائفة كبيرة من الحكم، والمواعظ الدينية، والأخلاق تحث على كثير من الفضائل، وتدعو إلى التسليم بأحكام الله ومقاديره، وإلى الزهد والتقشف، وكثرة العبادة والورع، وعلى العموم هي تصور لنا عقيدة هذا العصر من البساطة والحيرة.
والطور الثاني يبدأ من أواسط القرن الثاني الهجري إلى القرن الرابع، وهنا يبدو ظهور آثار التلقيح بين الجنس العربي، والأجناس الأخرى، وفيه يظهر اتساع أفق التفكير اللاهوتي، وتبدأ العقائد تستقر في النفوس على أثر نمو علم الكلام، وفيه يظهر عنصر جديد من الفلسفة.
والأدب الصوفي في طوريه الأول والثاني أغلبه نثر، وإن ظهر الشعر قليلا في طوره الثاني، وفي الطور الثاني هذا يبدأ تكون الاصطلاحات الصوفية والشطحات.
أما الطور الثالث فيستمر حتى نهاية القرن السابع، وأواسط القرن الثامن، وهو العصر الذهبي في الأدب الصوفي، غني في شعره، غني في فلسفته، شعره من أغنى ضروب الشعر وأرقاها، وهو سلس واضح وإن غمض أحيانا، وفلسفته من أعمق أنواع الفلسفة الإلهية وأدقها، ومعانيه في نهاية السمو، تقرؤها فتحسب أنك تقرأ معاني رقيقة عارية لا ثوب لها من الألفاظ، خياله رائع يسبح بك في عالم كله جمال، عواطفه صادقة يعرضها عليك كأنها كتاب إلهي تقلبه أنامل الملائكة، يقدس الشعراء فيه الحب، ولا بد أن يكون الإنسان هائما أيضا مسلحا بكثير من الأذواق والمواجيد، والحالات التي يعتقدها المتصوفون حتى يسايرهم في الفهم.
الفصل الحادي عشر
الأدعية والابتهالات
والأدب الصوفي متنوع تنوع الأدب المادي، ففيه حكم، وفيه قصص كثيرة، وفيه شعر، وهو يهتم بمواضع خاصة يكثر فيها القول مثل: الحب، والمناجاة، والورع، والتقوى، وعدم الاهتمام بالرزق، وصفات أولياء الله العارفين، وذم الدنيا، والزهد في شؤونها. ولنسق الآن أمثلة منها: (1)
من دعاء ذي النون المصري: «اللهم إن الحول حولك ، والطول طولك، ولك في خلقك مدد وقوة وحول، وأنت الفعال لما تشاء، لا العجز والجهل يطارحانك، ولا النقصان والزيادة يحيلانك، لا يحد قدرتك أحد، ولا يشغلك شأن عن شأن.»
وله أيضا: «اللهم اجعل العيون منا فوارات بالعبرات، والصدور منا محشوة بالعبر والحرقات، واجعل قلوبنا غواصة في موج قرع أبواب السماوات، تائهة من خوفك في البوادي والفلوات، افتح لأبصارنا بابا إلى معرفتك، ولمعرفتنا أفهاما إلى النظر في نور حكمتك، يا حبيب قلوب الوالهين، ومنتهى رغبة الراغبين، اللهم تقبل ما مننت به علينا من الإسلام والإيمان، ولا تمنعنا عفوك عن السؤال، فإنا إليك آيبون، ومن الإصرار على معصيتك تائبون.»
ومن أدعية معروف الكرخي: «حسبي الله لديني، حسبي الله لدنياي، حسبي الله الكريم لما أهمني، حسبي الله الحكيم القوي لمن بغى علي، حسبي الله الشديد لمن كادني بسوء، حسبي الله الرحيم عند الموت، حسبي الله الرءوف عند المساءلة في القبر، حسبي الله الكريم عند الحساب، حسبي الله اللطيف عند الميزان، حسبي الله القدير عند الصراط، حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.»
ومن دعاء ليوسف بن الحسين: «اللهم إنا نبات نعمك، فلا تجعلنا حصائد نقمك، اللهم أعطنا ما تريده منا، يا من أعطانا الإيمان من غير سؤال لا تمنعنا عفوك مع السؤال، فإنا إليك آيبون، ومن الإصرار على معصيتك تائبون.»
ومن دعاء للجنيد: «اللهم إني أسألك يا خير السامعين، وبجودك ومجدك يا أكرم الأكرمين، وبكرمك وفضلك يا أسمح السامحين، أسألك سؤال خاضع خاشع متذلل متواضع ضارع، اشتدت إليك فاقته، وعظمت فيما عندك رغبته، وعلم ألا يكون شيء إلا بمشيئتك، ولا يشفع شافع إليك إلا من بعد إذنك ... إلهي وسيدي وسندي، أنا بك عائذ لائذ مستغيث مستنجد.» (2)
كتب الشبلي إلى الجنيد: «يا أبا القاسم، ما تقول في حال علا فظهر، وظهر فقهر وبهر، فاستناخ واستقر، فالشواهد منطمسة، والأوهام حنسة، والألسنة خرسة، والعلوم مندرسة، ولو تكاتفت الخليقة على من هذا حاله، لم يزده ذلك إلا توحشا، ولو أقبلت إليه تعطفا ، لم يزده ذلك إلا تبعدا.» (3)
ومن كلامهم في عدم الاهتمام بالرزق: «إن جماعة دخلوا على الجنيد فاستأذنوه في طلب الرزق، فقال: إن علمتم أي موضع هو فاطلبوه، قالوا: فنسأل الله تعالى ذلك. قال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه؛ قالوا: فندخل البيت ونتوكل، وننتظر ما يكون. فقال: التوكل على التجربة شك. قالوا: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة.» وقال بعض العارفين: «من سأل الله الدنيا فإنما سأله طول الوقوف بين يديه»، وقالوا: «مثل الدنيا وأهلها كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذرهم المقام، وخوفهم مرور السفينة فتفرقوا في نواحي الجزيرة؛ فقضى بعضهم حاجته، وبادر إلى السفينة، فصادف المكان خاليا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها، وأوفقها لمراده، وبعضهم أطال الوقوف إلى الجزيرة ينظر أزهارها وأنوارها، وغياضها، ونغمات طيورها، وأحجارها، وجواهرها، ومعادنها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة، فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا، فاستقر فيه، وبعضهم أكب على تلك الأصداف والأحجار، واستصحب منها جملة، فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا، وزاده ما حمله ضيقا، وصار ثقيلا عليه، ولم تطعه نفسه على رميه، فحمله على عنقه ورأسه، وبعضهم شغل بالأنوار والغيض، ونسي السفينة، ولم يبلغه نداء الملاح لانشغاله بأكل الثمار، فتركته السفينة وعاش خائفا على نفسه من السباع والحيات، وبعضهم سمع أخيرا نداء الملاح فعاد مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا، أو ضيقا فبقي على الشط حتى مات جوعا ... وبعضهم وبعضهم وبعضهم من صنوف الركاب المختلفين، وهذه حالة الخلق إلا من عصمه الله.» (4)
ومن أدباء المتصوفة الذين لم ينالوا حظهم في الشهرة: النفري وهو محمد بن عبد الجبار نسبة إلى نفر بلدة كانت في جنوب العراق، ثم خربت ... وقد مات سنة 334ه، وهو من صوفية القرن الرابع. وقد خلف لنا كتابين صغيرين من خير الكتب، وهما: «المواقف»، و«المخاطبات»،
1
والمخاطبات مفهومة، وهي مخاطبته لله - عز وجل - وابتهالاته إليه، والمواقف وقفاته أمام الله، وموافقة الله معه حسب أحواله، وقد تكلم في كل موقف بما يناسبه ، فموقف العز، وموقف القرب، وموقف الكبرياء، وموقف الرفق، وهكذا ... ولنسق أمثلة من كل منهما:
قال في موقف العز: «أوقفني في العز وقال لي: لا يستقل به من دوني شيء،
2
ولا يصلح من دوني لشيء، وأنا العزيز الذي لا يستطاع مجاورته، ولا ترام مداومته، أظهرت الظاهر وأنا أظهر منه، فما يدركني قربه، ولا يهتدي إلي وجوده، وأخفيت الباطن وأنا أخفى منه، فما يقوم علي دليله، ولا يصح إلي سبيله، وقال لي: لولاي ما أبصرت العيون نواظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها. وقال لي: لو أبديت لغة العز لخطفت الأفهام خطف المناجل، ودرست المعارف درس الزمان، عصفت عليها الرياح العواصف ... وقال لي: إن من أعد معارفه لو أبديت له لسان الجبروت لأنكر ما عرف، ولمار مور السماء يوم تمور السماء للقائي مورا ... إلخ»، وقال في موقف الأدب: «أوقفني في الأدب، وقال لي: طلبك مني وأنت لا تراني عبادة، وطلبك مني وأنت تراني استهزاء ... وقال لي: رأس المعرفة حفظ حالك التي لا تقسمك ... وقال لي: كل ما جمعك على المعرفة فهو من المعرفة. وقال لي: إن انتسبت فأنت لما انتسبت إليه لا لي ... وإن كنت لسبب فأنت للسبب لا لي ... وقال لي: آليت لا أقبلك وأنت ذو سبب أو نسب».
وجعل موقفا سماه موقف «استوى الكشف والحجاب»، قال لي: «أنا ناظرك، وأحب أن تنظر إلي؛ نفسك حجابك، وعلمك حجابك، ومعرفتك حجابك، وأسماؤك حجابك، وتعرفي إليك حجابك، فأخرج من قلبك كل شيء، وأخرج من قلبك العلم بكل شيء، وذكر كل شيء ... وفرغ قلبك لي لتنظر إلي، ولا تغلب علي.»
ومن أمثلة المخاطبات: «يا عبد ... أي عارض عرض لك فلم ترني فيه فإنك من غيبتي لا منه ... يا عبد، أنا أرأف من الرأفة، وأرحم من الرحمة ... يا عبد، إذا بدوت لك فلا غنى ولا فقر ... يا عبد، اشترني بما سرك وساءك، يفنى الثمن ويبقى المبتاع ... يا عبد، اهدم ما بنيته بيدك قبل أن أهدمه بيدي ... يا عبد، إذا رأيتني فلا والد يستجرك، ولا ولد يستعطفك ... يا عبد، الغيبة ألا تراني في شيء، والرؤية أن تراني في كل شيء ... يا عبد، الكشف جنة الجنة، والغطاء نار النار.»
وهكذا نخرج من هذه الأمثلة على لفظ جميل، وأسلوب لطيف، ومعنى غامض. وقد رووا أن له قصيدة صوفية كبيرة، شرحها عفيف الدين التلمساني الصوفي أيضا. (5)
وأوضح منه وأبلغ ابتهالات أبي حيان التوحيدي وقد كان صوفيا، ومات سنة 414ه.
ومن أمثلتها: قوله: «اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك ... أسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمك شعاري ودثاري، والنظر إلى ملكوتك دأبي وديدني، والانقياد لك شأني وشغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللياذ بذكرك بهجتي وسروري ... اللهم إني أسألك خفايا لطفك، وفواتح توفيقك، ومألوف برك، وعوائد إحسانك، وأسألك القناعة برزقك، والرضا بحكمك، والنزاهة عن محظورك، والورع في شبهاتك ... اللهم اجمع من أمري شمله، وانظم من شأني شتيته، واحرسني عند الغنى من البطر، وعند الفقر من الضجر، وعند الكفاية من الغفلة، وعند الحاجة من الحسرة، وعند الطلب من الخيبة، وعند البحث من الاعتراض عليك، أسألك أن تجعل صدري خزانة توحيدك، ولساني مفتاح تمجيدك، وجوارحي خدم طاعتك، فإنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا أمن إلا في الخوف منك، اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا، وغل صدورنا، وفتنة أنفسنا، وطموح أبصارنا، ورفث ألسنتنا، وسخف أحلامنا، وسوء أعمالنا ... اللهم أطب عيشنا بنعمتك، وأرح أرواحنا من كد الأمل في خلقك، وخذ بأزمتنا إلى بابك ... اللهم أنت الظاهر الذي لا يجحدك إلا زايلته الطمأنينة، وأوحشه القنوط، وتردد بين رجاء قد ناء عنه التوفيق، وأمل قد حفت به الخيبة. اللهم إني أسألك جدا مقرونا بالتوفيق، وعلما بريئا من الجهل، وعملا عريا من الرياء، وقولا موشحا بالصواب، وحالة دائرة مع الحق، وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدر، وراحة جسم راجعة إلى روح بال، وسكون نفس ... اللهم اجعل غدونا إليك مقرونا بالتوكل عليك ، ورواحنا عنك موصولا بالنجاح إليك، ولا تخلنا من يد تستوعب الشكر، ومن شكر يمتري خلق المزيد، ومن مزيد يسبق اقتراح المقترض، وصنع يفوق ذرع الطالبين ... اللهم احجز بيننا وبين كل ما دل على غيرك، انقلنا من مواطن العجز مرتقيا بنا إلى شرفات العز، فقد استحوذ الشيطان، وخبثت النفس، وساءت العادة، وكثر الصادفون عنك، وقل الداعون إليك، وقل المراعون لأمرك، وفقد الواقفون عند حدودك، وخلت ديار الحق من سكانها، وبيع دينك بيع الخلق ... اللهم فأعد نضارة دينك، وامدد علينا ظل توفيقك ... اللهم إنا بك نعز، كما أنا بغيرك نذل، وإياك نرجو، كما أنا من غيرك نيأس ... اللهم إنك تملك العالم كله وما بعده وما قبله، ولك فيه تصاريف القدرة، وخفيات الحكمة، ونوافذ الإرادة، ولك فيه ما لا ندريه مما تخفيه، ولا تبديه، جللت عن الإجلال، وعظمت عن التعظيم، فكن عند ظننا بك ... وحقق رجاءنا فيك، فما خالفناك جرأة عليك، ولا عصيناك تقحما في سخطك، ولا اتبعنا هوانا استهزاء بأمرك ونهيك، ولكن غلبت علينا جواذب الطينة التي عجنتنا بها، وبذور الفطرة التي أنبتنا منها، فلسنا ندعي حجة، ولكن نسألك رأفة، إنك أهل ذلك، وأنت على كل شيء قدير.»
3
هذه لغة أسلس، وأوضح وأبلغ.
هوامش
الفصل الثاني عشر
من الشعر الصوفي
وكما كان لهم نثر جميل، وقصص قصير لطيف، لهم أيضا شعر جميل، مثل:
يا بني النقص والغير
وبني الضعف والخور
وبني البعد في الطبا
ع على القرب في الصور
أين من كان قبلكم
من ذوي اللبس والخط
سائلوا عنهم المدا
ئن واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحي
ل وإنا لبالأثر
من مضى عبرة لنا
وغدا نحن المعتبر
إن للموت أخذة
تسبق اللمح بالبصر
رحم الله مسلما
ذكر الموت فازدجر
رحم الله مؤمنا
خاف فاستشعر الحذر
ومن قولهم:
فلا والله ما وصل ابن سينا
ولا رجعا بشيء بعد بحث
ولا أغنى ذكاء أبي الحسين
وتدقيق سوى خفي حنين
أمولاي قد أحرقت قلبي فلا تكن
غدا محرقا بالنار من كان يهواكا
أتجمع لي نارين نار محبة
ونار عذاب؛ أنت أرحم من ذاكا
والله ما آسى من الدنيا على
مال ولا ولد ولا سلطان
بل في صميم القلب مني حسرة
تبقى معي وتلف في أكفاني
إني أراك بباطني لا ظاهري
فالحسن مشغلة عن العرفان
إذا فكرت فيك يحير عقلي
وألحق بالمجانين الكبار
وأصفو تارة فيشوب ذهني
ويقدح خاطري كشواظ نار
سألتك باسمك المكتوب ألا
فككت النفس من رق الإسار
يا سر سر يدق حتى
يخفى على وهم كل حي
وظاهر باطن تجلى
من كل شيء لكل شيء
لعمري ما استودعت سري سرها
سوانا حذارا أن تشيع السرائر
ولا لاحظته مقلتاي بلحظة
فتشهد نجوانا العيون النواظر
ولكن جعلت الوهم بيني وبينه
رسولا فأدى ما تكن الضمائر
حقا أقول لقد كلفتني شططا
حملي هواك وصبري، إن ذا لعجيب
جمعت شيئين في قلبي له خطر
نوعين ضدين تبريد وتلهيب
نهاني حيائي منك أن أكتم الهوى
وأغنيتني بالفهم عنك من الكشف
تلطفت في أمري فأبديت شاهدي
إلى غائبي، واللطف يدرك باللطف
تراءيت لي بالغيب حتى كأنما
تبشرني بالغيب أنك في الكف
أراك وبي من هيبتي لك وحشة
فتؤنسني باللطف منك والعطف
وتحيي محبا أنت في الحب حتفه
وذا عجب كون الحياة مع الحتف
ولو أن الرقاد دنا لطرفي
جلدت جفونها بالدمع جلدا
فأجابه آخر:
ولكني أقول حييت حقا
إذا الوجد المبرح منك يهدا
وإن حل الرقاد بجفن عيني
رقدت إجابة لك لا لأهدا
لي سكرتان وللندمان واحدة
شيء خصصت به من بينهم وحدي
سكران سكر هوى وسكر مدامة
فمتى يفيق فتى به سكران
عجبت لمن يقول ذكرت ربي
فهل أنسى فأذكر ما نسيت
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا
ولولا حسن ظني ما حييت
فأحيا بالمنى وأموت شوقا
فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب ولا رويت
يا أيها البرق الذي يلمع
من أي أكناف السما تسطع
يا ذا الذي زارا وما زارا
كأنه مقتبس نارا
مر بباب الدار مستعجلا
ما ضره لو دخل الدارا
كأن رقيبا منك يرعى خواطري
وآخر يرعى ناظري ولساني
فما رمقت عيناي بعدك منظرا
يسوءك إلا قلت قد رمقاني
ولا بدرت من في دونك لفظة
لغيرك إلا قلت قد سمعاني
وإخوان صدق قد سئمت حديثهم
وأمسكت عنهم ناظري ولساني
وما الزهد أسلى عنهم غير أنني
وجدتك مشهودي بكل مكاني
أفكر ما أقول إذا افترقتا
وأحكم دائبا حجج المقال
فأنساها إذا نحن التقينا
وأنطق حين أنطق بالمحال
لو أن ما بي على صخر لأنحله
فكيف يحمله خلق من الطين
أنا إن مت فالهوى حشو قلبي
وبداء الهوى يموت الكرام
بكت عيني غداة العين دمعا
وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت بدمع
بأن غمضتها يوم التقينا
نحن في أكمل السرور ولكن
ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي
أنكم غيب ونحن حضور
بحق الهوى يا أهل ودي تفهموا
لسان وجود بالوجود غريب
حرام على قلب تعرض للهوى
يكون لغير الحق فيه نصيب
ليس في القلب والفؤاد جميعا
موضع فارغ يراه الحبيب
هو سؤلي ومنيتي وحبيبي
وبه ما حييت عيش يطيب
وإذا ما السقام حل بقلبي
لم أجد غيره للسقم طبيب
سقى الله المدينة من محل
لباب الماء والنطف العذاب
وجاد على البقيع وساكنيه
ضي الذيل ملآن الوطاب
فلو بخل الصحاب على ثراها
لذابت فوقها قطع الشراب
سقاك فكم ظمئت إليك شوقا
على عدواء داري واقترابي
غرست لأهل الحب غصنا من الهوى
ولم يك يدري ما الهوى أحد قبلي
فأورق أغصانا وأينع صبوة
وأعقب لي مرا من السما للمحل
وكل جميع العاشقين هواهم
إذا نسبوه كان من ذلك الأصل
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة
فإني من ليلي لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بادق
إن كنت سائلا عن خالص المنن
وعن تآلف ذات النفس بالبدن
وعن تشبثها بالحظ مذ ألفت
أدرانها فغدت تشكو من العطن
وعن بواعثها بالطبع مائلة
تهوى بشهرتها في ظلمة الشجن
وعن حقيقتها في أصل معدنها
لا ينثني وصفها منها إلى وثن
وعن تنزلها في حكمها ولها
علم يفرقها في القبح والحسن
فاسمع هديت علوما عز سالكها
على البيان ولا يغررك ذو لسن
قصدا إلى الحق لا تخفى شواهدها
قامت حقائقها بالأصل والفنن
يا سائلي عن علوم ليس يدركها
ذو فكرة بفهوم لا ولا فطن
خذها إليك بحق لست جاهله
والأمر مطلع والحق قيدني
على الحقيقة خذ علم الأمور ولا
تحجبك صورتها في عالم الوطن
ففطرة النفس سر لا يحيط به
عقل تقيد بالأوهام والدرن
وقد تنقل الشعر الصوفي في أطوار كثيرة كما تطور النثر، وكانت ذروته عند ابن عربي، وابن الفارض في الشعر العربي، وجلال الدين الرومي في الشعر الفارسي. وسنتكلم عن ذلك في القسم الأخير من هذا الكتاب، إن شاء الله.
ولهم في الأدب نوع لطيف، وهو المكاتبات بين كبارهم، ويقولون: «العلم كله نصفان: نصفه سؤال، ونصفه جواب.»
وكتب أبو سعيد الخراز إلى أبي العباس حمد بن عطاء:
يا أبا العباس: أتعرف لي رجلا قد كملت طهارته، وبرئ من آثار نفسه، موقوفا مع الحق بالحق للحق، من حيث أوقفه الحق ... فإن عرفت لي هذا فدلني عليه، حتى إن قبلني كنت له خادما.
وكتب عمرو بن عثمان المكي كتابا إلى جماعة الصوفية ببغداد، فكان منه: «إنكم لم تصلوا إلى حقيقة الحق، حتى تجاوزوا تلك الطرقات المنطمسة، وتسلكوا تلك المفاوز المهلكة». وكان الجنيد حاضرا قراءة المكاتبة، فقال: «ليت شعري من الداخل فيها؟» وقال أبو محمد الجريري: «ليت شعري من الخارج منها؟»
ومرض رجل من أصحاب ذو النون، فكتب إليه أن ادع الله لي، فكتب إليه ذو النون: «يا أخي، سألتني أن أدعو الله لك أن يزيل عنك الغم، واعلم يا أخي أن المرض والعلة يأنس بها أهل الصفاء، وأصحاب الهمم ... ومن لم يعد البلاء نعمة فليس من الحكماء، فليكن معك يا أخي من الله حياء يمنعك من الشكوى والسلام ...» وكتب رجل إلى ذي النون أيضا: «آنسك الله تعالى بقربه»، فكتب ذو النون: «أوحشك الله من قربه ؛ فإنه إذا آنسك بقربه فهو قدرك، وإذا أوحشك من قربه فهو قدره، ولا نهاية لقدره حتى يتركك ملهوفا إليه.»
وكتب يوسف بن الحسين إلى بعض الصوفية: «أشكو إليك ركوني إلى الدنيا، وما أجد في طبعي من الأخلاق التي لست أرضاها من نفسي لنفسي»، فكتب إليه: «وصل كتابك، وفهمت ما ذكرت، ومخاطبتك شريكك في شكواك، ونظيرك في بلواك، فإن رأيت أن تديم الدعاء، وقرع الباب، فإنه من قرع الباب، ولم يعجز عن القرع دخل.»
وكتب صوفي إلى صوفي يسأله عما يؤديه إلى إصلاح نفسه، فكتب إليه: «إن فساد نفسي قد شغلني عن صلاحك، ولست أجد نفسي لسفرها ... والسلام.»
ثم لهم كلام غامض يحتاج إلى تفسير وتأويل، قام بهذا التفسير الخلف لأفراد السلف، من أمثلة ذلك: قال النوري: «مكاشفات العيون بالأبصار، ومكاشفات القلوب بالاتصال، والشطح كلام يترجمه اللسان عن وجد يفيض عن معدنه.»
ثم لهم كلام في غاية الغموض أشبه ما يكون بما يسمى اليوم «الأدب الرمزي»، يفسره كل بما يتراءى له مثل قول أبي سعيد الخراز يصف رجلا صوفيا: «هو عبد موقوف مع الحق بالحق للحق»، يعني موقوف مع الله «بالله لله». ويقول أبو علي السندي: «كنت في حال مني بي لي، ثم صرت في حال منه به له»، ومعنى ذلك: أن العبد يكون ناظرا إلى أفعاله، ويضيف إلى نفسه أفعاله، فإذا غلبت على قلبه أنوار المعرفة، يرى جميع الأشياء من الله قائمة بالله، معلومة لله، مردودة إلى الله.
وقال أبو زيد البسطامي: «ليس بليس»، يعني: قد غابت الأشياء الحاضرة، وتلفت الأشياء، فليس يوجد شيء ولا يحس، وهو الذي يسميه قوم الفناء، والفناء عن الفناء.
ويقول الشبلي: «يا دهشا كله»، معناه: كل شيء مع الحلق دهش كله كالذي قال:
إن من هواه قد أدهشني
لا خلوت الدهر من ذاك الدهش
وكان الشبلي يقول أيضا: «تاهت الخليقة في العلم، وتاه العلم في الاسم، وتاه الاسم في الذات» إلخ إلخ ...
وربما كان هذا من أوضح ما غمض من أقوالهم.
تذييل
في تاريخ الحركات العلمية والأدبية والمذاهب الدينية من القرن السادس حتى النهضة الحديثة
تمهيد
يكاد يكون العلم والأدب والفن قد انتهى في العالم العربي بانتهاء القرن الخامس وربما وجد شيء في القرن السادس الهجري من الابتكار والتجديد، أما بعد ذلك من ابتداء القرن السابع إلى النهضة الحديثة فيكاد يكون ترديدا لما فات، وجمعا لمتفرق، أو تفريقا لمجتمع، إلا في القليل النادر الذي سنذكره في هذا القسم.
وهنا نتساءل: هل عقمت الولادة عن ولادة المبتكر المجدد، أم أصيب الناس بالغباء بعد الذكاء؟ والحق أن ليس شيء من ذلك، وإنما هي التربية: فرب الذكي تربية غباء يكن غبيا، ورب الغبي تربية ذكاء يخرج خير ما عنده. وأنت إذا أخذت مصباحا كهربائيا قوته خمسون، ولكن لم تنظفه مما عليه من غبار، وما لم تلمعه وتهيئه تهيئة حسنة، كان خيرا منه مصباح قوته خمس وعشرون أعد كل الإعداد، فالولادة لم تعقم، ولكن غلبت على عقول من تلدهم التربية والظروف، فما السبب في ذلك؟
يظهر لي أن السبب أمور:
أولا:
أن العنصر العربي الذي ينتج النتاج العربي قد اختفى تقريبا، وغلب عليه العنصر الفارسي والتركي. قد كان العنصر الفارسي أول الأمر يتثقف الثقافة العربية؛ حتى يخرج ثقافته هو الفارسية إلى ثقافة عربية، كما فعل عبد الحميد الكاتب، وعبد الله بن المقفع وأمثالهما، وكما فعل البرامكة، أما بعد ذلك فقد أخذ الفرس يتعصبون للغاتهم وثقافتهم، وأعرض كثير منهم عن التثقف بالثقافة العربية كحال بني بويه الفارسيين، فقد كانوا يتعصبون للفارسية، إلا القليل النادر الذي يتقن العربية مثل عضد الدولة. وخلف الترك الفرس، فكانوا أبعد عن العربية، وعن الثقافة العربية، خصوصا وأن العلم والأدب العربيين كانا أرستقراطيين لا شعبيين، فالعلماء والأدباء يقصدون إلى بلاط الأمراء والولاة، والقواد يتكسبون منهم؛ إذ لا يستطيعون أن يتكسبوا من الشعب. فلما استعجم هؤلاء الولاة والأمراء، ولم يفهموا علم العلماء، ولا أدب الأدباء انحط شأن العلم والأدب، ولكن لا بد أن نلاحظ ملاحظة دقيقة، وهي أن العلم والأدب ظلا مزدهرين بعد تغلب الفرس والترك والأعاجم ، وذلك بقوة الدفعة لا بقوتهم هم؛ إذ العلم والأدب لا يموتان سريعا، ولكن يحتضران في زمن طويل، وهذا هو الذي يفسر استمرار النهضة العلمية والأدبية في القرن الخامس، وشيء منهما في القرن السادس، وبعد ذلك تم الاختصار.
ثانيا:
كان المعتزلة حاملي لواء النهضة الفكرية، من أقوى مبادئهم: القول بسلطان العقل، حتى الحديث نفسه يعرض على العقل ليحكم بصحته أو وضعه، وصحة العقائد الدينية البحتة تعرض أيضا على العقل، وتفسر تفسيرا عقليا، ويحتج لها احتجاج عقلي، كما رأينا من قبل، وهذا في العادة هو الذي يسلم للنهضة. وعلى العكس منهم كان المحدثون الذين يقولون بسلطة النقل، وعندهم أن قوة السند مقدمة على معقولية المتن، فلما جاء المتوكل ونصر المحدثين على المعتزلة، وأدخل المعتزلة في جحر بيوتهم سياسيا، وجاء الأشعري، وزاد في قمعهم دينيا حرم العالم الإسلامي المنهج العقلي، وتبعوا المنهج النقلي، وأصبح منهج المحدثين هو منهج التربية السائد في العالم الإسلامي كله. وطبيعي أن المنهج النقلي لا يعد للتجديد والابتكار، وإنما يعد لرواية الخلف عن السلف، وكلما تقدم الزمن زاد عبء السلف على أكتاف الخلف، فشل من ابتكارهم.
ثالثا:
هجوم التتر على العالم الإسلامي، وكان هجوما مخربا مدمرا من قوم لم ترقهم الحضارة، ولم تهذبهم الثقافة، شداد غلاظ لا يفهمون معنى العاطفة، ولا تلين قلوبهم للرحمة، أحب منظر إليهم الدم ينهار، أو الآثار العظيمة تصبح شعلة من نار، كان بأسهم بينهم، فجمعهم جنكيز خان؛ فأزال خلافهم، ووحد كلمتهم، فاتجهوا نحو الشرق الأقصى يفتحونه، فلما أتموا ذلك هجموا على المملكة الإسلامية فيما وراء النهر، فاستولوا على مملكة «شاه خوارزم»، ثم اكتسحوا بجيوشهم خراسان وفارس، يخربون الحضارات، ويذبحون الناس حتى جاء هولاكو حفيد جنكيز خان، فاتجه إلى الدولة العباسية سنة 654ه، وعرج على قلعة ألموت عش الإسماعيلية التي ذكرناها من قبل ففتحها، وأخذها منهم، وقتل من فيها، ثم استولى على الري، ثم قصد بغداد سنة 655ه، وكان الخلاف فيها فظيعا بين السنية والشيعة، فظن الوزير العلقمي الشيعي أنه يغنم غنما كبيرا للشيعة إذا هو مكن للتتار من الاستيلاء على بغداد، وزلزلة الأرض تحت أرجل الخليفة المستعصم، فلما هجم هولاكو استولى على بغداد، وأباح بغداد أربعين يوما لجنوده، وقتل منها - كما يقول - بعض المؤرخين أكثر من مليون وثمانمائة ألف، وخرب عمرانها، ورمى كتبها في نهر دجلة. وكانت هذه العمارات نتيجة حضارة قرون، والكتب نتيجة ثقافة قرون، والحضارات والعلوم إنما تبنى على ما قبلها، وتؤسس على ما سبقها، وهي كالماء للنبات الغض، فإذا حرم النبات الغض الماء ذبل، وجف بعد قليل، وكذلك كان العلم والحضارة الإسلاميان، هذا فضلا عما أصيبت به الثقافة من نكبات للعلماء، فإن بقي شيء من العلم فقليل يكفي للتقليد، ولا يبعث التجديد. يقول الخميسي: وفي سنة خمس وخمسين وستمائة ثارت فتنة مهولة ببغداد بين السنية والرافضة من الشيعة، أدت إلى نهب عظيم وخراب، وقتل عدة من الرافضة؛ فغضب لها، وتنمر ابن العلقمي الوزير، وجسر التتار على العراق ليشتفي من السنية.
وما كاد العالم الإسلامي يفيق من نكبته، ويسترد بعض قوته حتى جاء تيمورلنك فأكمل ما عصف به أجداده جنكيز خان وهولاكو، واجتاز بقية آسيا الصغرى، وأكثر القتل والتخريب والفساد، وأرعب الناس، وأفسد الشام، وكانت قد استعصت على من قبله، وخربها فيما خرب، وقتل علماءها فيمن قتل، ومات سنة 807ه بعد أن أكمل خنق البلاد.
فهل نعجب بعد ذلك إذا هدأت النهضة، وخمد العقل؟؟
رابعا:
وسبب رابع: هو ما انتشر بين المسلمين من عصبية حادة، مذهبية وطائفية: ففقهاء ضد الصوفية، وصوفية ضد الفقهاء، ومعتزلة ضد السنية، وسنية ضد المعتزلة، وشيعة ضد السنية، وسنية ضد الشيعة، وشافعية ضد الحنفية، وحنابلة ضد غيرهم ممن شرحنا بعضه من قبل. ومن المؤسف أن هذه الخلافات لم تقتصر على الخاصة من العلماء، بل أشركوا فيها العوام، والعوام عادة ضيقو العقل، عديمو التسامح، فكانت البلوى من ذلك كبيرة، والنتيجة فظيعة.
خامسا:
لما رأى العلماء ما حدث بالبلاد من خراب، وللعلم والعلماء من نكبات، ضعفت هممهم بالطبيعة، وانكسرت نفوسهم، فبعد أن كانوا يطمحون إلى شيء في العلم جديد أصبحوا يحمدون الله أن استطاعوا أن يحتفظوا بالقديم، وهذا هو الذي سمي «إقفال باب الاجتهاد»، فلم يكن هناك باب مفتوح أقفل، ولا مجمع من العلماء تجادلوا فيه، ثم قرروا محضرا كتبوا فيه ذلك، لا لا، ولا شيء من ذلك، إنما هي حالة نفسية اعترتهم لم يأملوا معها في جديد، وكل أملهم انحصر في المحافظة على القديم، فاجتهدوا كل الجهد أن يحتفظوا بالبقية الباقية يرددونها ويكررونها، ويشرحونها أو يختصرونها؛ فانقلب المجتهد المطلق إلى مجتهد مذهب، والمؤلف المبتكر إلى مؤلف مفسر، ومن خرج عن الطريق المرسوم ولو قليلا كان ملحدا زنديقا، فإن بدر شيء يعد ذا قيمة فواحة خضراء وسط صحراء جرداء على ضعف الواحة، وقلة سكانها، وضآلة خيراتها. وسنعرض في هذا القسم من الكتاب إلى وصف هذه الواحات، وما فيها من خيرات.
تأليف الموسوعات
كل هذه الأسباب قد عاقت الحركة العلمية، وأماتت النهضة الثقافية، حتى كان الزمان الذي يسمح بعشرات من فطاحل العلماء في وقت واحد لم يعد يسمح إلا بواحد بعد واحد في عصور متباعدة. وكان من نتيجة ذلك أن انتقلت زعامة الحركة العلمية من العراق إلى مصر؛ لأن مصر قد حماها الله من التخريب التتري، وعاشت عيشة هادئة نسبية، والعلم لا يترعرع إلا في ظل الهدوء والأمان.
وكان من أهم مظاهر سيادة التقليد وعدم الاجتهاد تحول التأليف العلمي لكتب مبتكرة إلى التأليف في الموسوعات؛ لأن طبيعة الموسوعات جمع لمتفرق، وهي تحتاج إلى جد وصبر أكثر مما تحتاج إلى كبر عقل، فرأينا مثلا أبا المظفر الأبيوردي
1
الشاعر المشهور يؤلف كتابا في طبقات العلوم، يفرد لكل علم طبقة، وقد توفي سنة 557ه، ويؤلف علي ابن عقيل البغدادي الحنبلي كتابا في أنواع العلوم في 470 مجلدا. ويقول الرازي: «إنه وقع له منه مائة وخمسون مجلدا»، وألف فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606ه كتاب «حدائق الأنوار في حقائق الأسرار» شرح فيه نحو ستين علما.
والذي تبقى لنا من الجهود المصرية من كتب الموسوعات ثلاث موسوعات عظيمة، أولها كتاب «نهاية الأرب» للنويري، الذي ألفه في ثلاثين مجلدا في زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ورتبه على خمسة فنون: (1)
في السماء والآثار العلوية، والأرض والعالم السفلي، ويشتمل على خمسة أقسام. (2)
في الإنسان، وما يتعلق به، ويشتمل على خمسة أقسام. (3)
في الحيوان الصامت، ويشتمل على خمسة أقسام. (4)
في النبات، ويشتمل على أربعة أقسام، وذيله بقسم خامس في طب النبات. (5)
في التاريخ، ويشتمل على خمسة أقسام، وقد مات النويري سنة 732ه.
وكذلك فعل القلقشندي إذ ألف كتابا سماه «صبح الأعشى» في أربعة عشر جزءا، والقلقشندي هذا نسبة إلى قلقشندة بلدة في مديرية القليوبية، وقد عني فيه بما يحتاج إليه الكتاب، إذ كان هو رئيسا لديوان الكتاب.
وألف ابن فضل الله العمري، وكان معاصرا للنويري موسوعته المسماة «مسالك الأبصار» في التاريخ والجغرافيا والتراجم، يقع في أكثر من عشرين جزءا، ومن نعم الله أن وصلت إلينا هذه الكتب كلها، واستفاد العالم منها، وكانت مصدرا للأدباء والعلماء، وحفظت لنا ثروة كبيرة من آثار الأقدمين.
وكتاب النويري أوسع موضوعا، وكتاب العمري أوسع في الجغرافيا والتاريخ، وكتاب القلقشندي ألصق بالكتابة وأدواتها ولوازمها. هذا إلى موسوعات خاصة، ككتاب «حياة الحيوان» للدميري المتوفى سنة 808ه، يقول في أوله:
هذا كتاب لم يسألني أحد تصنيفه، وإنما دعاني إلى ذلك أنه وقع في بعض الدروس ذكر مالك الحزين، والذبح المنحوس، فحصل بذلك ما يشبه حرب البسوس؛ فاستخرت الله سبحانه في وضع كتاب في هذا الشأن، ورتبته على حروف المعجم.
وقد انتقد الناس تأليفه هذا الكتاب مع أنه فقيه محقق في العلوم الدينية لا في علم الحيوان.
كما ألفوا جمع الأمثال، وتوسعوا في جمعها عما سبقهم، وهكذا، ولو أنهم جاءتهم فكرة ترتيب المسائل على حسب الحروف الأبجدية لكان كل كتاب من هذه الكتب الثلاثة يصح أن يكون دائرة معارف واسعة.
وربما كان من خير الأمثلة على ما نقول ما فعله السكاكي في كتابه «مفتاح العلوم»؛ فقد ركز على جملة علوم ومنها البلاغة، ولخصها من كتب من قبله ككتاب دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، وقد أفقدها في تلخيصه روحها.
ثم تتابع على مفتاح العلوم التلخيص ، وتلخيص التلخيص، حتى صارت على يد سعد الدين التفتازاني حجرا جامدا.
ولعل من الخير أن نذكر ملاحظاتنا على كل فن وحده. (1) أولا: الأدب
ربما كان الأدب والفن على العموم أكثر الأشياء تأثرا بالبيئة، والبيئة المصرية خضعت بعد سقوط بغداد للمماليك، واستمرت تحت حكمهم إلى سنة 932ه، وفي عهد المماليك انتقلت الخلافة أيضا من بغداد إلى القاهرة على يد السلطان بيبرس، وفي عهد المماليك نحي العرب عن السياسة وعن الجندية، فانصرفوا إلى الزراعة والصناعة، وكسب العيش، وجعلت الأمور السياسية والحربية بيد المماليك، وفي هذا من غير شك إضعاف للنفسية العربية، وإسلام لهم إلى الخمود، فكان هذا عاملا كبيرا من عوامل انحطاطهم.
ولكن من ناحية أخرى كان المماليك لا يتعصبون للغة أجنبية؛ إذ كانوا من مقاطعات مختلفة، ذوات لغات مختلفة ، واضطروا إلى أن يتعلموا العربية كسبا للرأي العام، كما اضطروا إلى أن يقربوا العلماء؛ لأن العلماء كانوا هم الواسطة بين الشعب والسلاطين، ولكن كانت لغتهم التي كانوا يتكلمون بها هي اللغة العامية لا العربية الفصحى؛ لصعوبة الفصحى، وعدم تداولها إلا بين العلماء؛ ولهذا فشا في هذا العصر أدب اللغة العامية من قصص عامي وزجل، والظاهر أنه لما هاجر الفارون إلى مصر من عراقيين وشاميين وأندلسيين هضمتهم مصر، وأثرت فيهم أكثر مما أثروا فيها، وهي مزية كبيرة معروفة لمصر، حتى إنها لتهضم الفاتحين، وربما زاد الحال سوءا استيلاء العثمانيين على مصر بعد المماليك في سنة 923ه، فقد تقهقرت العلوم والآداب تقهقرا فظيعا بسبب أمور: (1)
أخذ الكتاب والعلماء والصناع، وإرسالهم إلى القسطنطينية، وكان ذلك زبدة الحضارة الإسلامية المصرية. (2)
إحلال اللغة التركية في الدواوين الرسمية محل اللغة العربية. (3)
تحويل مصر إلى ولاية عثمانية بعد أن كانت سلطنة مستقلة، وتبع ذلك أن الولاة الذين كانوا يعينون من قبل السلطان العثماني كانوا يعينون إلى أمد، ويجتهدون في هذه الفترة أن يقتنوا لا أن يعدلوا وأن ينهبوا لا أن يهبوا، يضاف إلى ذلك ما عرف عنهم من التعصب والتعاظم.
كل هذا أثر في الحركة العلمية، وفي الأدب على وجه الخصوص أثرا سيئا حتى لقد قل أن نجد نتاجا يتذوق.
ونجد الأدب منذ عهد الدولة الأيوبية، وقبله أدبا يغرق في السجع والزينة البديعية على نمط مدرسة العماد الأصفهاني، وابن العميد، وابن عباد، والقاضي الفاضل.
والسبب في ذلك أن المقصد الذي كان يقصده الأدباء من أدبهم هو الملوك والأمراء، وهؤلاء إنما تقدم لهم في الماديات الطرف الجميلة الصنع، المزخرفة والمزركشة، والمملوءة باللآلئ، فكان لزاما أن يكون الأدب على هذا النحو، فبدل اللآلئ المحسنات البديعية، وبدل الزركشة السجع، ولم يكن الشعب ذا قيمة ولا مال حتى يتجه إليه الأدباء، ولو اتجهوا إليه لكان سهلا بسيطا مجردا من الزينة.
ثم قد يظن ظان أن الكتابة الأدبية المسجوعة والمحلاة بالبديع أصعب من الكتابة الفنية المرسلة غير المحلاة، وهذا خطأ محض؛ فالواقع أن الذي يلجئ إلى السجع والبديع الفقر في المعنى، فإذا عدم الأديب المعنى الغزير عوض الأديب عن ذلك اللعب البهلواني الخارجي، ولكن لو وجد معنى غزير لكفى هذا المعنى بغزارته أن يكون جميلا متى عبر عنه تعبيرا مرسلا فيه جمال البساطة، ألا ترى أن الحسناء يكفيها في الجمال أي حلية ولو بسيطة، بل يغنيها جمالها عن كل حلية، وأن القبيحة تحاول محاولة كبيرة أن تخفي قبحها بالغلو في زينتها، وهيهات مع ذلك أن تساوي الجميلة من غير حلية. وفي رأيي أن ابن خلدون الكاتب المرسل غير المتأنق أبلغ من القاضي الفاضل، والسبب في ذلك أنه وجد معنى غزيرا، فعبر عنه تعبيرا بسيطا، والقاضي الفاضل لم يجد معنى غزيرا فهوش بالسجع والبديع. (1-1) صفي الدين الحلي
وقد يكون صفي الدين الحلي أول من يطالعنا في هذا العصر، وفيه مسحة خفيفة من التجديد، وهو عراقي الأصل، اسمه عبد العزيز بن سرايا، ولد بالحلة من مدن الفرات سنة 677ه، وخدم الدولة الأرتقية نسبة إلى أرتق أحد مماليك السلطان ملك شاه السلجوقي، ثم جلبته القاهرة فيمن جلبت، فوصل إليها سنة 726ه في زمن السلطان الملك الناصر ابن قلاوون، ومدحه بقصيدة مطلعها:
أسبلن من فوق النهود ذوائبا
فتركن حبات القلوب ذوائبا
وحتى في هذه القصيدة يقلد أبا الطيب المتنبي في قصيدته التي مطلعها:
تأبى الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
غاية الفرق إمعان صفي الدين في الجناس بين ذوائبا وذوائبا، ومن إمعانه في البديع، مثلا: إنشاؤه قصائد سميت «الأرتقيات» في مدح الملك المنصور بن أرتق صاحب ماردين، وهي تسع وعشرون قصيدة بعدد أحرف الهجاء، يلتزم في كل قصيدة حرفا يبدأ كل بيت به، وينتهي به.
ومن أمثلة شعره الذي يتلاعب فيه بالبديع ما قاله في التضحية:
وحق الهوى ما حلت يوما عن الهوى
ولكنه نجمي في المحبة قد هوى
ومن كنت أرجو وصله، قتلي نوى
وأضنى فؤادي بالقطحية والنوى •••
ليس في الهوى عجب
إن أصابني نصب «حامل الهوى تعب
يستخفه الطرب»
والبيت الأخير لأبي نواس ضمنه صفي الدين الحلي. وترى الإمعان في الجناس بين الهوى والهوى، ونوى والنوى.
ويرد أحيانا في شعره بعض تعبيرات تكاد تكون عامية، كقوله في المفاضلة بين الورد والزنبق:
فامتعض الزنبق من قوله
وقال للأزهار يا رفقتي
يكون هذا الجيش بي محدقا
ويضحك الورد على شيبتي
فالمناداة بيا رفقتي، ويضحك الورد على شيبتي، تعبيرات تكاد تكون عامية، وفي الغالب يكون قد أخذها من القاهرة لما أقام بها، وربما عد من خير تجديدات صرخته في الذين يستعملون الألفاظ الغريبة، يقصدون إليها، ويتباهون باستعمالها فيقول:
إنما الحيزبون والدردبيس
والطخا والنقاخ العلطبيس
لغة تنفر المسامع منها
جين تروى وتشمئز النفوس
وقبيح أن يذكر النافر الوح
شي منها ويترك المأنوس
أين قولي هذا كئيب قديم
ومقالي عقنقل قدموس
خل للأصمعي جوب الفيافي
في نشاف
2
تخف فيه الرءوس
إنما هذه القلوب حديد
ولذيذ الألفاظ مغناطيس
فهو يدعو إلى هجرة الألفاظ الوحشية، واستعمال المأنوس من الألفاظ، ولئن جاز للأصمعي الإغراب، فلا يجوز لمن أتى بعده في عصر مختلف كل الاختلاف إلا الإيضاح، وهي دعوة صحيحة تقيد بها، واستعملها غالبا.
ومما ابتكره صفي الدين إنشاء بديعية في مدح الرسول
صلى الله عليه وسلم
ضمنها كل أنواع البديع المعروفة في زمنه، ومطلعها:
إن جئت سلما فسل عن جيرة العلم
وأقر السلام على عرب بذي سلم
وجعل في كل بيت نوعا من أنواع البديع، ثم أنشأ معاصره ابن نباتة مثله بديعته التي مطالعها:
صحا القلب لولا نسمة تتخطر
ولمعة برق بالفضا تتسعر
وجاء عز الدين الموصلي بعد ذلك سنة 789ه؛ فزاد على ذلك أن جعل البيت من القصيدة يحمل اسم النوع البديعي، وأولها:
براعة تستهل الدمع في العلم
عبارة عن نداء المفرد العلم
وتبعه ابن حجة الحموي سنة 837ه؛ فأنشأ بديعيته على هذا المنوال، ومطلعها:
لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم
براعة تستهل الدمع في العلم
وهكذا تدفق الشعراء في هذا الباب؛ لأنه ناسب دروشة الشعر. (1-2) شعر للتسلية
ووجد شعراء بعد ذلك قالوا في المعاني التي سبقهم بها الشعراء، وأكثروا من المقطعات التي تصف الأشياء العارضة كسقوط مئذنة، وقتل زنديق، ووصف سجادة، ووصف سبحة. وتوالى على ذلك الشعراء أمثال الشاب الظريف، وسراج الدين الوراق، وابن الوردي، وغيرهم. وكان الذي يهمهم في ذلك النكتة كالتي نسمعها اليوم وكلما وفق الشاعر إلى النكتة أكثر كان بالشعر أشهر، مثل:
لقد أصبحت ذا عمر عجيب
أقضي فيه بالإنكار وقتي
من أولاد خمس حول أم
فواقرباه من خمس وست
ومثل:
تركت المال والجاها
لأهل القدر والقدره
فحسبي من حمى كسره
وحسبي من غنى كسره
ومثل:
وكنت أخا سعدى فأصبحت عمها
فهيهات لي جد بتقبيل خالها ... إلخ.
وكثر اتهام الشعراء بعضهم لبعض بالسرقات، وأكثروا فيها الكلام، ويعجبني في ذلك قول محيي الدين بن تميم:
أطالع كل ديوان أراه
ولم أزجر عن التضمين طيري
أضمن كل بيت فيه معنى
فشعري نصفه من شعر غيري
وأظن أن قوله بالنصف يحابي فيه نفسه.
ومن ظريف ما حدث في ذلك أن صلاح الدين الصفدي الشاعر بالشام لما أغار على معاني جمال الدين بن نباتة في مصر، ولم يترك له معنى إلا أخذه، اضطر ابن نباتة أن يؤلف كتابا يجمع فيه هذه السرقات سماه «خبز الشعير»، واستهله بقوله:
رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا (نوح : 28)، ومما ورد في هذا الكتاب من أمثلة السرقة قول ابن نباتة:
بروحي طيب الأنفاس ألمي
ملئ الحسن حالي الوجنتين
له خالان في دينار خد
تباع له القلوب بحبتين
فقال الصفدي:
بروحي خده المحمر أضحت
عليه شامة شرط المحبه
كأن الحسن يعشقه قديما
فنقطعه بدينار وحبه
فقال ابن نباتة: لا إله إلا الله، سرق الصلاح من الحبتين حبة.
وممن اشتهر بالشعر البوصيري، وسبب اشتهاره بالشعر مدائحه النبوية، كالبردة والهمزية، وقد اشتهرت البردة، وأعجب بها الناس حتى أصبحت نموذجا في المدائح النبوية، والهمزية التي مطلعها:
كيف ترقى رقيك الأنبياء
يا سماء ما طاولتها سماء
والناظر في شعره يرى أنه في المدائح النبوية أرقى مما له من غيرها من قصائد لجلال موضوعها، وسمو روحها، وشبوب عواطفه فيها، أما غيرها من الشعر فخفيف فاتر.
ومع هذا، فقد كانت حالة الشعر في أيام المماليك خيرا منها في العهد العثماني، كأن الانحطاط في الشعر والأدب حدث على درجات. (1-3) القصص والنثر
ومن ضروب الأدب في ذلك العصر القصص، وربما كان القصص الشعبي أحسن حظا؛ لأنه وجد استجابة له من الشعب، ومن آثار ذلك ما حدث من الزيادات على ألف ليلة وليلة في عهد الحروب الصليبية والمماليك، كقصة معروف وزوجته فاطمة، فإن حوادثها تدل على أنها وضعت أخيرا، وكقصة أبي قير وأبي صير، فإنها من أحدث ما كتب، وبعض القصص تظهر فيها خصائص اللغة العامية الشامية، والبعض تظهر فيها خصائص المصرية. ومثل ذلك قصة عنترة، وقد ظلت تتداول على الألسنة عهدا طويلا، وقد ألفها القصاص في أزمنة مختلفة، بعضها ألف في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله، وبعضها ألف في القرن السادس الهجري. وألف ليلة وليلة وقصة عنترة أوسع خيالا من مقامات الحريري، وأدخل في باب الفن، وإن لم تكن مثلها في البلاغة. وسيرة عنترة من أكبر القصص العربية، وينقصها جودة الحبكة، حتى إنك لو حذفت جزءا منها ما شعرت بالخلل، كما ينقصها جودة الخيال، فخيالاتها ليست قوية، ومؤلفها قصير النفس، كثير الانتقال، لا يسير في خطة إلا تحول عنها، وشرع في غيرها، فإن قلنا: إن العرب لم يحسنوا القصص الطويل كما أحسنوا الحكايات القصيرة، والمقامات، والأحاديث، كأحاديث ابن دريد التي رواها القالي في الأمالي، لم نبعد عن الصواب.
وأما النثر، فقد انقسم في هذا العصر إلى قسمين: نثر رسمي، كالكتب التي تخرج من الدواوين، وكان لذلك ديوان خاص اسمه ديوان الإنشاء، يرأسه أكبر من عرف بالأدب، ويختار رئيسه ممن عرف بالسياسة وبالأدب معا؛ لاحتياجه إليهما، وقد تولى هذا المنصب فخر الدين بن لقمان، ثم محيي الدين بن عبد الظاهر، ثم ابنه فتح الدين، وعلاء الدين بن الأثير، وشهاب الدين الحلي، وابن فضل الله العمري، والقلقشندي؛ وقد وردت من هؤلاء مكاتيب كثيرة عدت نموذجا، وتحروا فيها الدقة في الألقاب، والمحافظة على الأسلوب، وهي مملوءة بالسجع، وأنواع البديع كما وصفنا من قبل.
والنوع الثاني: ما يسمى بالإخوانيات، كمكاتبة الأصحاب للأصحاب في الثناء والاستهداء، أو الإهداء، ونحو ذلك، وكلها قد استوت مع الشعر في الإغراق في البديع، لا ينقصها في ذلك إلا الوزن، حتى في تقديم الغزل أول الموضوعات، وقد اشتهر في ذلك كثيرون، ومن خير الأمثلة على ذلك كتاب «نسيم الصبا» لبدر الدين الحلبي، وهو فصول نحو الثلاثين في أصل الطبيعة والأخلاق والأدب وفصول العام إلخ. وهو مظهر من مظاهر النثر الفني في ذلك العصر. (1-4) ابن خلدون
ولا نريد أن نطيل في ترجمة الناثرين من هذا القبيل، وإنما نقف وقفة عند سيد هؤلاء الأدباء وهو ابن خلدون، وقد يعد عجيبا أن نعده أديبا كبيرا، ومن قبلنا لمن يعدوه في هذا الباب، وإنما عدوه مؤلفا اجتماعيا. ونحن نعده أديبا كبيرا أيضا؛ لأنه نموذج للأدب الذي نرتضيه، غزارة في المعنى، وبساطة في الأسلوب، وأسلوبه من النوع الذي يعدونه في البلاغة مساواة، لا إيجاز ولا إطناب، فالعبارة على قدر المعنى.
وكما تطور النثر بعبد الحميد الكاتب تطورا جديدا، عماده الإطناب، وبسط الأسلوب، وتطور عند الجاحظ بجعله كل شيء موضوعا للأدب، تطور على يد ابن خلدون بجعله مسائل الاجتماع موضوعا للأدب.
وأهم ما اشتهر به مقدمته، وهي في الفلسفة، والتاريخ، والاجتماع،
3
من أهم ما فيها كلامه عن طبيعة العمران، وقد تكلم فيه فيما يعرض له من بدو وحضر، وكسب ومعاش، وصنائع وعلوم، وأثر الهواء في أخلاق البشر، وأن أجيال البدو والحضر طبيعية، وأن البدو أقدم من الحضر، وأن الأمم الوحشية أقدر على التغلب مما سواها، وأن من عوائق المدن حصول الترف، والانغماس في النعيم، وأنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع، وأن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب ... إلخ.
وتكلم في العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وقد نقده بعضهم بأنه لم يطبق نظرياته التي وسعها في مقدمته على كتابه التاريخ، فهو فيه لم يحقق التحقيق الذي طالب به. وعلى كل حال، فقد نحا منحى جديدا لم نعرف أنه سبق إليه.
ومما يمتاز به التزامه المنطق في كلامه، فهو يذكر النظرية، ثم يأخذ في شرحها، ثم يأخذ في التدليل عليها، حتى كأنها نظرية هندسية.
ومن المؤسف أن الشرق انطوى على نفسه، ولم يعد له صلة بالعالم الغربي منذ انتهاء القرون الصليبية، وقد بدأ العالم الغربي يستعد للنهضة، ولكن لم تدر ماذا كان يصنع، ولو درينا لأسسنا نحن أيضا نهضة جديدة.
والحركات العلمية والأدبية عادة إنما تنهض بدخول عناصر جديدة فيها، تشع الحياة كما حدث في عهد الأمويين، إذ دخلت عناصر جديدة على الأدب العربي، وعلى العالم العربي فحيي من جديد، وكما حدث في عهد العباسيين إذ تسربت إلى العلم العربي، والأدب العربي الثقافات الهندية والفارسية واليونانية فنشط من جديد، بل وكما حدث في عصرنا هذا؛ إذ تسربت الثقافات الأجنبية إلى العلم والأدب العربيين، فاتجها اتجاها جديدا، فلما حرم الشرق من اطلاعه على الآداب الأجنبية، والعلوم الأجنبية أصابه الركود، وظل راكدا عصورا طويلة إلى أن أتاه المدد في النهضة الحديثة. (2) ثانيا: اللغة، والنحو والصرف (2-1) اللغة
أما اللغة، فكان عمل المتأخرين فيها ليس إلا جمعا لمن سبقهم، أو اختصارا في التعبير، أما جديدا فلا، وأشهر معاجم اللغة التي ألفت في هذا العصر كتاب «لسان العرب» لابن منظور، وقد ألفه في عشرين مجلدا، جمع فيه كتاب التهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده، والصحاح للجوهري، والجمهرة لابن دريد، والنهاية لابن الأثير. وقد قال في مقدمته: «وإني لم أقصد سوى حفظ هذه اللغة العربية، وضبط فضلها؛ إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية. وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنا مردودا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودا ...» وهو من غير شك عمل ضخم، وجمع لمادة كان يصعب جمعها، وهو كتاب أدب بجانب أنه كتاب لغة؛ لما يشتمل عليه من نصوص وافية، ولكن إذا نحن نظرنا فيه إلى الابتكار، لم نجده.
وكذلك فعل صاحب القاموس المحيط وهو مجد الدين الفيروزآبادي، وقد ولد بكازرون إحدى بلاد فارس، وتعلم في واسط وبغداد ودمشق، ورحل إلى مصر، ثم إلى آسيا الصغرى، ولقي تيمورلنك في شيراز، ثم رحل إلى اليمن، فتلقاه سلطانها بالقبول، وعينه قاضي القضاة حتى مات.
ولقي كتابه القاموس شهرة كبيرة حتى سمى الناس كل كتاب في اللغة «قاموسا»، وهي شهرة أكثر مما يستحق؛ إذ كل ميزته اختصاره الشديد المخل، ومحاولته التمييز بين الواوي واليائي، ونصه على صيغة المؤنث، وما عدا ذلك لا شيء.
وربما عد السيوطي أكبر مظهر للخصائص التي ذكرناها، فهو مؤلف كثير التأليف، كثير الجمع، قليل الابتكار، ألف في التفسير، والحديث، واللغة، والفقه، والنحو، والمعاني والبيان والبديع، حتى لقد عد من تأليفه ثلاثمائة كتاب.
وقد اتهمه رجال عصره كثيرا بأنه يأخذ من تآليف غيره، ويحورها، وينسبها إلى نفسه، حتى لقد تنازع هو والقسطلاني على كتاب «المواهب اللدنية» لأيهما هو، وكل يدعيه، وأخيرا نحاه السلطان طومان باي من منصبه لكثرة أعدائه، وادعائهم كثرة سرقاته.
نعم، إن حركة التأليف كانت قوية في عصر المماليك، والعصر العثماني، حتى ليعجزنا حصر ما ألف في ذلك العصر، ولكنها قوية من حيث العدد لا من حيث القيمة، فلا تكاد تستطيع أن تعد كثيرا من أمثال مقدمة ابن خلدون. (2-2) النحو والصرف
وأما النحو والصرف، فقد استمرا على النحو الذي وضعه سيبويه في الكتاب، وجرى على الأصول المألوفة في ذلك الزمان، وكل ما رأينا هو شرح لغامض، أو اختصار لمطول.
أما الأسس التي بني عليها النحو، مثل بنائه على العامل، فلم يتغير منه شيء. نعم، حاول ابن مضاء الأندلسي أن يغير ذلك، ولكنه هدم ولم يبن.
4
وجاء في هذا العصر الذي نتحدث عنه علمان كبيران في النحو هما ابن مالك وابن هشام، فابن مالك أكثر تعقيد القواعد وتنظيمها، وجمع متفرقها على أساس سيبويه.
5
وأما ابن هشام، فكما قال عنه ابن خلدون: إنه «استوفى أحكام الإعراب مجمله ومفصله، وتكلم عن الحروف والمفردات، والجمل، وحذف ما في الصناعة - صناعة النحو - من المتكرر في أكثر أبوابها ... وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها، وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها، فوقفنا منه على علم جم، يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة، ووفور بضاعته منها»، وهو كابن مالك منظم لا مجدد. (3) ثالثا: الفقه
وأما الفقه، فقد نبغ كثير من الفقهاء في كل مذهب، ولكن نلاحظ أن الاجتهاد الذي أقفل بابه، ظلت فيه بقايا ينتفع بها بعض الفقهاء، فيروي مثلا عن بعض الفقهاء أنه كانت لهم أحكام في بعض مسائل اجتهدوا فيها حسب الكتاب والسنة، وخرجوا فيها عن المذاهب الأربعة، وما زال يضيق شيئا فشيئا بتوالي الزمان حتى سد الباب سدا محكما، ولم يبق إلا أن يقلد كل الكبار من مشايخ مذهبه.
إنا نرى مثلا أن ابن تيمية قال بعدم جواز التوسل بالميت ولو نبيا، وإن الطلاق الثلاث في لفظ واحد يقع طلقة واحدة، على غير ما يقول أتباع المذاهب.
وقد قال النووي: «إن المجتهد المطلق لم يوجد منذ القرن الرابع، وكان الفقهاء مجتهدين اجتهادا مقيدا، أي أن لهم ملكة يستنبطون بها المسائل من الكتاب والسنة، والإجماع والقياس، ولكنهم مقيدون بقواعد مذهب إمامهم، واستمر هذا إلى القرن الخامس، ومن أمثال هؤلاء العلماء اللخمي والمازري،
6
ومحيي الدين بن عربي، وابن رشد، والقاضي عياض، وإن كان الأخير من علماء القرن السادس، ثم ضعف الاجتهاد بعض الشيء، وأصبح المجتهدون مجتهدي فتوى، أي أنه إذا عرض عليهم أمر كان فيه قولان أو أكثر رجحوا أحد الأقوال حسب حججه كابن الحاجب. وهذه الطبقة انتهت أواسط القرن السابع، ولم يبق بعدها إلا المقلدون تقليدا محضا، فلا يستطيعون أن يأخذوا بكتاب أو سنة، بل يأخذون بأقوال المتقدمين، وبعض الفقهاء كان يفتي لأهل مذهبين فأكثر، كابن دقيق العيد، فكان متمكنا من مذهب مالك والشافعي، يفتي كل من يريد الفتوى على مذهبه من مالكي وشافعي.
ثم إن المقلدين حجروا على الفكر والفتيا، وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ العصور المتقدمة، وليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر، ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة، ولا مالك والشافعي وأصحابهم، وقالوا: لا يحل لأحد بعد هؤلاء الأئمة أن يستنبط الأحكام من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، وأحالوا أن يوجد مجتهد يستطيع استنباط الأحكام من الكتاب والسنة.
لم يدع من مضى للذي غبر
فضل علم سوى أخذه بالأثر
وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون، مع أن الأحاديث جمعت، وتحصيل العلوم سهل، وأقوال من تقدم عرضت، فأصبح الاجتهاد اليوم أيسر مما كان، ولكنها النفوس صغرت، والهمم اضمحلت، وربما كان اليمن بحكم مذهبه الزيدي أكثر تسامحا في الاجتهاد، حتى إن الإمام الشوكاني اليمني ادعى لنفسه الاجتهاد المستقل، وقاومه بعض أهل اليمن، وقالوا: إنه خرق الإجماع؛ فتألب الزيدية عليه، وقيل: إنهم عادوا فسلموا له، وأذعنوا لما رأوا من علمه. (3-1) منزلة علماء الدين
ومما يجب أن نشير إليه أن علماء الدين كانوا في تلك العصور: عصر المماليك، وعصر العثمانيين، موضع إجلال واحترام من الشعب؛ لأنهم كانوا واسطة بين الشعب والسلاطين، حتى كان العلماء، وخاصة الفقهاء كأنهم ملوك غير متوجين، نضرب لذلك مثلا: العز بن عبد السلام في مصر؛ فقد كان فقيها ممتازا، وكان مسموع الكلمة، ورعا تقيا، شجاعا قويا، سليط اللسان، لقب سلطان العلماء، وقد جاء إلى القاهرة من الشام في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، فولاه خطابة جامع عمرو بن العاص في مصر والقضاء، وله مواقف رائعة، من ذلك: أنه طلع إلى القلعة في يوم عيد فشاهد العسكر مصطفين، وشاهد السلطان وما فيه من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين مصر، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ العز إلى السلطان وناداه: يا أيوب! ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة؛ يناديه كذلك بأعلى صوته، والعساكر واقفون، فقال: يا سيدي، هذا ما عملته أنا، إنما كان من أبي، ورسم السلطان بإبطال تلك الحانات،
7
وقد سئل في ذلك فقال: إني رأيته في تلك العظمة، فرأيت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه. وله مواقف كثيرة من هذا القبيل، حتى إنه لما مات قال السلطان: إني لم أشعر بلذة الملك إلا لما مات العز.
ومثل ذلك مواقف لابن دقيق العيد والنووي، فهؤلاء كانت شهرتهم في قولهم الحق، وتمسكهم به، وعدم خشيتهم من الملوك اعتمادا على تعلق الشعب بهم، إنما كانوا في الفقه مجتهدي مذهب أو مذهبين، لا مجتهدين مطلقين. ولما تقدم الزمن أصبحنا لا نرى مجتهدا مطلقا، ولا مجتهد مذهب، وكل همهم الأخذ من الكتب، وترجيح ما رجحوه. ومما أصيب به الفقه اتجاه العلماء إلى المختصرات، فكل عالم يرى أن يختصر ما قبله، ومن الغريب أن عالما يأتي فيختصر، ثم يأتي عالم آخر فيشرح ما اختصره، حتى تكون لنا من ذلك ما هو أطول من المطولات.
ولم نكسب من ذلك إلا المجهود الضائع، وكل يوم يمر يزداد الحال سوءا وركودا.
يقول ابن خلدون: «ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق، والإنحاء في العلوم، يولعون بها ... وحشوا القليل منها بالمعاني الكثيرة، وصار ذلك مخلا بالبلاغة، وعسرا على الفهم، وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون فاختصروها تقريبا للحفظ، كما فعل ابن الحاجب في الفقه، وابن مالك في النحو، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تلخيصا على المبتدئ، بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها؛ لأن ألفاظ المختصرات صعبة عويصة، ينقطع فهمها حظ صالح من الوقت، ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم على تلك المختصرات ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة. (4) رابعا: التاريخ
الحق أن المتأخرين لم يهملوا التاريخ، بل أتموا السلسلة التي بدأها أسلافهم، حتى لم يخل عصر من العصور من مؤرخين يؤرخون حاضرهم، ويربطونه بماضيهم، ونوعوا التاريخ كما نوعه من قبلهم من تراجم رجال إلى تاريخ مدن، إلى تاريخ الدول خاصة، إلى تاريخ عام.
فمن مؤرخي التراجم ابن خلكان، وهو من أوائل المؤلفين في هذه العصور، ترجم فيه للمشهورين من رجال العلم والأدب، والصناعة والمال غير الصحابة والخلفاء، واجتهد في تحري الحقائق بعين نافذة، في لغة سليمة بسيطة، متوقيا قدر الإمكان ألفاظ الفجور، وقد احتوى نحو 826 ترجمة، وعني أشد العناية بتحقيق سنة وفاة كل مترجم، ومن أجل ذلك سمى كتابه «وفيات الأعيان»، وربما ترك مشهورا من مشاهير رجال العلم والأدب؛ لأنه لم يتحقق من تاريخ وفاته، وربما كان كتابه على هذا النحو أول كتاب من نوعه. وقد مات ابن خلكان سنة 681ه، وقد ذيل هذا الكتاب ابن شاكر الكتبي المتوفى سنة 764ه، ترجم فيه لبعض من تركه ابن خلكان، وزاد فيه من جاء بعده إلى عصره، وسماه: «فوات الوفيات».
وألف ابن طباطبا نزيل الموصل في عهد فخر الدين عيسى كتابا نسبه إليه، وسماه «الفخري»، وقد عرض فيه لتاريخ الدولة الإسلامية من أول عهدها إلى آخر الدولة العباسية، وقد عني فيه بالأسلوب، ودقة التعبير، وحسن السبك، كما كانت له نظرات دقيقة في شئون السياسة العامة، وقواعد كلية يستشهد عليها بالأحداث الإسلامية الجزئية، وأتم ابن طباطبا تأليف كتابه في الموصل سنة 701ه، وقد كان شيعيا فلون تاريخه باللون الشيعي.
كما ألف أبو الفداء أمير حماة من قبل الملك الناصر كتابه الذي اعتمد فيه على تاريخ الطبري، وابن الأثير، وزاد عليهما إلى عصره، ولذلك كانت مزيته في تاريخ الفترة الأخيرة التي كانت بعد ابن الأثير، وكتابه «مختصر تاريخ البشر» مشهور، وقد ولد سنة 672ه، وتوفي سنة 732ه.
واشتهر بالتراجم، وخاصة تراجم المحدثين شمس الدين الذهبي، وقد ولد في دمشق، ورحل إلى بلاد كثيرة يلقى علماءها، ويؤرخ لهم، ويعدل بعضهم، ويجرح بعضهم. وأشهر كتبه «طبقات الحفاظ» في تراجم رجال الحديث، وكتاب «تاريخ الإسلام»، كما كان من أكبر رجال التراجم خليل بن أيبك الصفدي، وقد اشتهر بكتابه الواسع في التراجم المسمى «الوافي بالوفيات» في ست وعشرين جزءا.
ثم ابن كثير المتوفى 774ه، وقد ألف كتابا كبيرا سماه «البداية والنهاية» بدأه ببدء الخليقة، وانتهى إلى 767ه، وكان من المؤرخين في هذا العصر ابن الفرات المصري المولود سنة 735ه، وله كتاب كبير في جملة أجزاء، وأهمية كتابه في أنه مرجع عظيم القيمة في الحروب الصليبية، وتوفي ابن الفرات سنة 807ه.
ثم ابن خلدون، وقد أسس في مقدمته أصول علم التاريخ، ومكنته حياته ومناصبه الكبيرة، وسفارته بين الملوك من الاطلاع على بواطن الأمور، وربط الأحداث بعضها ببعض، ومعرفة أسبابها ونتائجها، وقد استطاع من هذا كله أن يستنتج من الجزئيات كليات ونظريات، يطبقها على الأحداث، وقد كتب هذا التاريخ سنة 767ه أولا، ثم أخذ ينقحه طول حياته.
وجاء بعده تلميذه المقريزي، أصله من بعلبك، وتحول والده إلى القاهرة، وقد كتب كتبا كثيرة في التاريخ، ألف في تاريخ الفسطاط، وفي الدولة الفاطمية، وفي المماليك، وفي سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم ، كما ألف في مسائل خاصة كتاريخ الأزمات الاقتصادية، والأوبئة، ونحو ذلك، ومن أشهر كتبه: خطط مصر المسمى «المواعظ والاعتبار»، وهو واسع الاطلاع، كثير النقل، وأحيانا ينقل من غير عزو، قليل النقد، ومع هذا ترك لنا ثروة من المعلومات قيمة، ما كان يمكننا الوصول إليها لولاه، وقد استفاد كثيرا من نظرات أستاذه ابن خلدون.
وألف ابن عرب شاه الذي عاش من سنة 791ه إلى 854ه كتابا في تيمورلنك اسمه «عجائب المقدور في أخبار تيمور»، وهو دمشقي الأصل، أخذ أسيرا في غزو تيمورلنك للشام، وأرسل إلى سمرقند، ورحل من سمرقند إلى خوارزم، وغيرها من البلاد، فاستفاد من ذلك كله، واستطاع أن يؤلف كتابه هذا في أخبار تيمور، كما ألف كتابا اسمه «فاكهة الخلفاء، ومفاكهة الظرفاء»، وهو كتاب في السياسة الرمزية ككتاب «كليلة ودمنة» كما يقول حاجي خليفة؛ لأنه يتضمن حكايات على ألسنة الوحوش.
وألف أبو المحاسن ابن تغري بردي المتوفى سنة 874ه كتابه «النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة»، مرتبا حسب السنين من فتح العرب لمصر إلى سنة 857ه، أي 1453م.
وكتب المقري المتوفى 1041 هجرية كتابه «نفح الطيب في ترجمة لسان الدين ابن الخطاب»، وهو قسمان، القسم الأول: في تاريخ الأندلس ورجالها، والثاني: في ترجمة لسان الدين بن الخطيب ومشايخه، ومن يتصل به، وفي الكتاب معلومات قيمة عن الأندلس.
فنرى من هذا النشاط الكبير الذي نشطه المسلمون في التأليف في التاريخ على أنواع، وهناك كتب كثيرة غير التي ذكرناها قد ألفت في التاريخ موجزة وموسعة. وقد أكثروا فيه للذته، وسهولته نسبيا. (5) خامسا: التصوف
ربما كان التصوف هو الفرع الوحيد الذي نما بعد سقوط بغداد أكثر مما كان قبلها. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن التصوف لا يحتاج إلى عقل كبير، وبحث كثير، بل هو بالقلب والشعور أعلق، ولذلك كانت دائرته أوسع، ولأن الناس فقدوا الدنيا، فتطلعوا إلى الآخرة، ويئسوا من العدالة الاجتماعية في الأرض؛ فأملوها في السماء، ولم يجرءوا أن يثوروا في وجوه الحكام يطالبونهم بتحقيق العدل، فقنعوا بالسلامة، وضعفت عقولهم عن تمييز الحق من الباطل، وملئوها بالخرافات والأوهام. ولم تتجرد طبيعتهم من حب اللهو؛ فأدخلوه في التصوف، فكان فيه الغناء والموسيقى، والرقص وألعاب البهلوان، وعجزوا عن ربط المسببات بالأسباب؛ فهرعوا إلى المتصوفة يمنحونهم البركة، ويستقضون منهم حوائجهم، ويقرعون بهم أبواب السماء، فامتلأت البلاد بأرباب الطرق، ومشايخ الصوفية، ومدعي الولاية. وعلى الجملة، فكان في الحياة الصوفية ما يرضي النفوس ويطمئنها ويسليها.
ثم كان أن منحت البلاد متصوفين كبارا جمعوا بين القدرة التصوفية، والملكة الأدبية، فغزوا الناس بتصوفهم وشعرهم أمثال ابن عربي، وابن الفارض في اللغة العربية، وجلال الدين الرومي في اللغة الفارسية. (5-1) فكرة الإنسان الكامل
رأينا في هذه العصور أنه يكثر الكلام في الحقيقة المحمدية، وتصويرها صورة غريبة حقا، وهي بعيدة جدا عن الصفة التي يصفه بها القرآن، والتي يصفه بها الصحابة، وكبار التابعين، فالقرآن يصف النبي بأنه بشر تجري عليه كل صفات البشر، فهو يعبس ويتولى أن جاءه الأعمى، وهو مخلوق تجري عليه أحكام الموت، إلى آخر الأوصاف؛ فجاء التصوف فغير هذه الصورة، فقالوا بأزلية الوجود المحمدي، وقالوا: إن أول شيء خلقه الله هو الروح المحمدي، أو النور المحمدي الذي ظهر بصورة آدم، وفي صورة الأنبياء بعد ذلك، ثم استمر يظهر بعد ذلك في علي وأبنائه كما يقول الشيعة، والصوفية يقولون: إن النور المحمدي هو الروح الإلهي الذي نفخ الله منه في آدم. ويقولون: إن الحقيقة المحمدية هي مبدأ الحياة، ومركزها في العالم، وهي بهذا المعنى روح كل شيء وحياته، وهي الواسطة بين الله وعباده، والمنبع الذي يفيض منه على العارفين معرفتهم بالله إلخ ... وسموا محمدا بهذا المعنى «الإنسان الكامل»،
8
وقد ألف في ذلك عبد الكريم الجيلي أو الجيلاني كتابا سماه «الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر»، قال في مقدمته: «لما كان كمال الإنسان في العلم بالله، وفضله على جنسه بقدر ما اكتسب من فحواه، ألفت كتابا باهر التحقيق، ظاهر الإتقان والتدقيق. وقد كنت أسست الكتاب على الكشف الصريح، وأيدت مسائله بالخير الصحيح»، ثم يقول: إنه مزقه بعد ما كتبه، ثم أمره الحق إبرازه ففعل، إلى آخر ما قاله.
ومن كلامه يتبين أن الإنسان الكامل الذي هو روح محمد كائن في الأنبياء من آدم إلى محمد، وفي الأولياء والصالحين.
ويقول: «إن الإنسان الكامل هذا هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود أبد الآبدين، واسمه الأصلي محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله، ولقبه شمس الدين، وله في كل زمان اسم يليق به ويقول: «إن الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، والسفلية بكثافته، وأول ما يبدو له في الحقائق الخلفية هو العرش، ويراه بقلبه، ثم يقابل الكرسي فسدرة المنتهى، ثم يقابل العلم الأعلى بعقله، واللوح المحفوظ بنفسه، والعناصر بطبعه، والهيولى بقابليته.
والإنسان الكامل نسخة من الله كما قال رسول الله: «خلق الله آدم على صورته.» والإنسان الكامل أيضا مرآة الحق؛ لأن الحق أوجب على نفسه ألا ترى أسماؤه وصفاته إلا في الإنسان الكامل، وهو معنى قوله تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان (الأحزاب: 72) ... إلخ. وكما خلق الله على صورته خلقت الدنيا على صورة الإنسان، وكان الله قبل أن يخلق الخلق في نفسه، وكانت الموجودات مستهلكة فيه، ولم يكن له ظهور في شيء من الوجود، وفي ذلك يقول في الحديث القدسي: «كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف فبي عرفوني».
ويقول: «لما أراد الله إيجاد هذا العالم نظر إلى حقيقة الحقائق، وإن شئت قلت: إلى الياقوتة البيضاء التي هي أصل الوجود بنظر الكمال، فذابت، وذهبت ماء، ثم نظر إليها بنظر العظمة؛ فتموجت كما تموج الأرياح في البحار، فانفهقت كثائفها بعضها في بعض، كما ينفهق الزبد من البحر، فخلق الله من ذلك المنفهق سبع طباق الأرض، ثم خلق سكان كل طبقة من جنس أرضها، ثم صعدت لطائف ذلك الماء كما يصعد البخار من البحار، ففتقها الله سبع سموات، وخلق ملائكة كل سماء من جنسها، ثم صير الله ذلك الماء سبعة أبحر محيطة بالعالم، فهذا أصل الوجود جميعه».
9
فأسلوب الكتاب - كما ترى - عويص غامض لا يستطيع أن يفهمه الإنسان بعقله.
وللجيلاني هذا قصيدة تسمى «النوادر العينية في البوادر الغيبية»، ضمنها نظرية الإنسان الكامل في خمسمائة وأربعة وثلاثين بيتا منها:
تجلى حبيبي في مرائي جماله
ففي كل مرأى للحبيب طلائع
فلما تبدى حسنه متنوعا
تسمى بأسماء فهن مطالع
ومنها:
تجليت في الأشياء حين خلقتها
فها هي ميطت عنك فيها البراقع
ومنها:
فلا تشك محجوبا برؤية حسنه
من الذات أنت الذات أنت المجامع
فعينك شاهدها بمحتد أصلها
فإن عليها للجمال لوامع ... إلخ.
10
وقد لعبت نظرية الإنسان الكامل هذه، والحقيقة المحمدية، والروح المحمدية دورا كبيرا في التصوف. (5-2) ابن العربي وابن الفارض
أولهما: محيي الدين محمد بن علي، يلقب أحيانا بالحاتمي، ويكنى بابن العربي، وأهل المشرق يكنونه ابن عربي للتفرقة بينه وبين أبي بكر بن العربي، وأما في الأندلس فيكنونه ابن العربي، وقد ولد سنة 560ه في مرسيه، وتعلم أول تعلمه في إشبيلية، ثم ارتحل إلى المشرق حاجا، ولم يعد بعدها إلى الأندلس. وأقام في الحجاز مدة طويلة، ثم دخل مصر ورحل إلى بغداد والموصل وبلاد الروم، وكان ذلك في عهد الحروب الصليبية، وأثر عنه أنه كان يحرض المسلمين على الجهاد.
وقد ألف في التصوف تآليف كثيرة من شعر ونثر، من أشهرها «الفتوحات المكية»، و«فصوص الحكم»، و«ترجمان الأشواق»، ولقب عند كثير من الناس بلقب «الشيخ الأكبر»، وقد أودع في كتابه «الفتوحات المكية» أكثر نظراته التصوفية، وقسمه إلى ستة فصول، أولها في المعرفة، وثانيها في المعاملات، وثالثها في الأحوال، ورابعها في المنازل، والخامس في المغازلات، وآخرها المقامات، وكان يقول: إن ما يكتبه يأتي إليه بطريق الوحي في حالة الغيبوبة والمجاهدة.
ومن الغريب أنه كان على مذهب الظاهرية في الفقه، وكتاباته من أعمق الباطنية في التصوف، وقد قال: إن هذه الموجودات مكونة من صورة وروح، وعنده أن الصورة هي التي سماها أرسطو «مادة»، والروح ما سماها أرسطو «صورة». وأعلى هذه المقامات أو الصور هو الإنسان لما أودع فيه من القوى التي تتجلى فيها صفات الله وأسماؤه، فهو كالمرآة تنعكس عنها حقيقة الله وذاته، وله أقوال كثيرة في المواجيد والفناء.
ويروى عن ابن عربي أنه وقع يوما عن حماره، فرضت رجله، فجاءوا ليعالجوه، فقال: أمهلوني، فأمهلوه يسيرا، ثم أذن لهم فعالجوه، فقيل له في ذلك فقال: راجعت كتاب الله تعالى فوجدت خبر هذه الحادثة في صورة الفاتحة. ومن ذلك ترى ما للصوفية من تصورات عجيبة ، وخيالات بعيدة، ومثل ذلك: استخراج بعضهم من الفاتحة أيضا أسماء سلاطين آل عثمان، وأحوالهم، ومدة سلطتهم، إلى ما شاء الله تعالى من الزمان.
وأما ابن الفارض فهو عمر الملقب بشرف الدين، وهو حموي الأصل، ولد في القاهرة سنة 576ه/1181م، وتوفي سنة 632ه، ولقب بسلطان العاشقين وكان ميالا إلى العزلة والزهد، وتعود الذهاب كل يوم إلى جبل المقطم، وقد بلغ الغاية في قصائده التي جمعت في ديوانه، وهو أشعر من محيي الدين، وشعره كشعر عصره مملوء بالمحسنات البديعية، والاستعارات، والمجازات، كما تعرض كثيرا للمصطلحات الصوفية من حب وهوى، وشوق وسكر وصحو، ومن أشهر شعره: التائية الكبرى ، وهي المسماة «نظم السلوك»، وقد أودع فيها كل مبادئه الصوفية.
وقد عرف عنه أنه يهيم بالجمال حيثما وجده من جمال طبيعة إلى جمال أصوات، ويصاب بالغيبوبة عند رؤيته، فيتواجد ويغيب عن نفسه ويرقص، يحب الخلوة والتقشف، والبعد عن الناس، والزهد في حطام الدنيا.
وقد جمع شعره في ديوان، وقد شرح ديوانه كثير من المتصوفة، فتأثروا بمحيطه، وشرحوه شرحا صوفيا، وقد حلل الأستاذ نيكولسن تائيته الكبرى
11
فقال: «يتكلم ابن الفارض في هذه القصيدة بلسان الصوفي الذي وصل إلى مقام الاتحاد، ويخاطب في أوائلها أحد أصحابه فيذكر عهده الأول بالحب الإلهي، وما عاناه فيه من شدائد وعقبات، ويشرح كيفية سعيه إلى تفريج الهم عن نفسه ببثه ذلك الحب إلى المحبوب:
ولم أحك في حبيبك حالي تبرما
بها لاضطراب بل لتنفيس كربتي
ويحسن إظهار التجلد للعدا
ويقبح غير العجز عند الأحبة
ويمنعني شكواي حسن تصبري
ولو أشك للأعداء ما بي لأشكت
وعقبي اصطباري في هواك حميدة
عليك ولكن عنك غير حميدة
وما حل بي من محنة فهو منحة
وقد سلمت من حل عقد عزيمتي
ثم يشير إلى الآيات القرآنية:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم (الأعراف: 172) إلخ ...»، وهي الآية التي يسميها الصوفية آية العهد.
ويقول ابن الفارض: «إنه أخذ ذلك العهد قبل أن تتلبس نفسه بطينة جسده»، ويقول: إن رؤيته المحبوب ليس إلا رؤيته لنفسه، وحبه إياه ليس إلا حبه لنفسه، وإن الحب الخالص ليس إلا الفناء في المحبوب:
حليف غرام أنت لكن بنفسه
وإبقاك وصفا منك بعض أدلتي
فلم تهوني ما لم تكن في فانيا
ولم تفن ما لم تجتلى فيك صورتي
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا
من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي
وهو يصف الفناء بأنه الحال التي تتجرد فيها النفس عن رغباتها وميولها وبواعثها بحيث تتعطل إرادتها وتموت، فإذا ماتت الإرادة أصبحت النفس طوع الإرادة الإلهية:
كلانا مصل واحد ساجد إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
ويقول: «إن أعلى درجات الصوفي الاتحاد مع الله؛ حيث ينعدم الفرق بين الخالق والمخلوق وفي سكر الفناء يغيب الصوفي عن جميع صفاته وآثاره ... إلخ.»
وقد اتجه شراح التائية الكبرى إلى شرحها حسب نظرية ابن عربي في وحدة الوجود.
ولابن الفارض قصائد أجمل من التائية الكبرى من حيث الفن، مثل قصيدته اليائية الطويلة:
سائق الأظعان يطوي البيد طي
منعما عرج على كثبان طي
وتلطف واجر ذكري عندهم
علهم أن ينظروا عطفا إلي
قل تركت الصب فيكم شبحا
ما له مما براه الشوق في
خافيا عن عائد لاح كما
لاح في برديه بعد النشر طي
كهلال الشك لولا أنه
أن عيني عينه لم تتأي ... إلخ.
12
وفي الديوان أبيات رائعة من الناحية الفنية.
وبعد: فهل كان ابن الفارض وابن عربي على مذهب واحد في مذهب وحدة الوجود، أي أن الله والعالم شيء واحد؟ ذهب كثير إلى ذلك ومنهم بعض المستشرقين، وربما استندوا إلى شيئين: (1)
ما حكاه المقريزي من أن ابن عربي بعث إلى ابن الفارض يطلب منه أن يضع شرحا على التائية الكبرى فقال له: إن كتابك الفتوحات الملكية شرح لها. (2)
أن كل الذين شرحوا التائية أغرقوها بنظريات ابن عربي في وحدة الوجود، ولكن يظهر أن بين ابن عربي وابن الفارض فرقا كبيرا؛ فابن الفارض شاعر متصوف، يسمو في حبه إلى أن يفنى في محبوبه وهو الله، فلا يرى في الوجود ولا نفسه شيئا غير الله. وكما قال الأستاذ نللينو: «لم يكن ابن الفارض فيلسوفا من فلاسفة وحدة الوجود، بل كان شاعرا صوفيا، ليست قصيدته التائية الكبرى إلا تعبيرا عن ذوقه الشخصي الذي كان سبيله إلى اتحاد بالذات الإلهية تارة، وبالحقيقة المحمدية تارة أخرى، أما وحدة الوجود عند ابن عربي فوحدة فلسفية، مزج فيها الدين بالفلسفة مزجا غريبا ليس له نظير».
وفرق كبير بين شاعرية ابن الفارض، وإحساسه بفنائه في محبوبه، واتحاده به وبين فلسفة ابن عربي ومذهبه في أن الله والعالم شيء واحد ، فمن الخطأ دعوى أن كليهما يقول بوحدة الوجود، والفرق دقيق بين حلول الحلاج، والحب الإلهي عند ابن الفارض، ووحدة الوجود عند ابن عربي.
على كل حال ملئ جو مصر والشام وغيرهما بالكلام الصوفي، والشعر الصوفي. وطلع عليهم شيء جديد لم يكن في الحسبان، فوقفوا أمامه حيارى: أيصدقون أم يكذبون؟! وهذا التصوف الذي لابن عربي وابن الفارض يحتاج إلى نوع من المزاج الخاص، فمن لم يكن له هذا المزاج، لم يفهمه ولم يتذوقه، بل وربما استنكره، وكذلك كان مؤيدون كل التأييد، ومعارضون كل المعارضة. وكانت إذ ذاك معركة حامية بين المؤيدين والمعارضين، كالمعركة التي كانت في عهد الحلاج،
13
وكان زعيم المعارضين ابن تيمية، فقد رزقه الله بيانا وافيا، وبرهانا قويا، ورأى أن هؤلاء الصوفية أتوا في الدين بشيء جديد ليس من جنس كلام الله ولا رسوله ولا الصحابة، وأنهم قالوا بالاتحاد على أشكال مختلفة، فهاجمهم هجوما عنيفا، وألف في ذلك رسائل؛ فأنكر عليهم الرقص والسماع، ونقدهم كلهم من ابن الفارض، وابن عربي، وابن سبعين، والحلاج، وعفيف الدين التلمساني، وسلط عليهم لسانه وقلمه، ورماهم بالكفر والضلال، وقال: إن ما أتوا به أعظم مما قالته اليهود والنصارى.
ومن أقواله في ذلك: «إن الاتحاد بين الخالق والمخلوق ممتنع؛ لأن الخالق والمخلوق إن اتحدا، فإما أن يكونا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبله، وهذا تعدد وليس باتحاد، وإما أن يستحيلا إلى شيء ثالث، كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد، ونحو ذلك من تشبيهات الفرق النصرانية، فيلزم عن ذلك أن يكون الخالق قد استحال، وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره، وهذا ممتنع على الله؛ إذ الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجودا، والله تعالى واجب للوجود بذاته، وصفاته اللازمة له التي هي كمال، والتي إذا عدمت كان ذلك نقصا، يتنزه الله عنه ...» إلى آخر ما ذكره من البراهين، ومناقشتهم بالعقل، مع أن أقوالهم ناشئة من الشعور، كمناقشة العقل للحب، كالذي يقول:
بني الحب على الجور فلو
أنصف المحبوب فيه لسمج
ليس يستحسن في شرح الهوى
عاشق يحسن تأليف الحجج
وألف ملا علي القاري رسالة في وحدة الوجود، رمى فيها ابن عربي بالزندقة، وقال: إنه كفر بأربع وعشرين دعوة، منها قوله: إن الإنسان من الله بمثابة البؤبؤ من العين، وعلى هذا يكون الله مفتقرا رؤية خلقه، ورؤية نفسه إلى الإنسان، وكذلك قوله: نحن الفرق التي نصف بها الله، فإذا نحن تأملنا في حقيقته كنا في الحقيقة نتأمل في حقيقتنا، والله حين ينظر في شئوننا يكون ناظرا في شئونه، وتاليا قوله: إن الله هو عين المخلوقات، ثم قوله: إن كل الاعتقادات الدينية صحيحة؛ لأن كل طائفة فيها شيء من طبيعة الله
فأينما تولوا فثم وجه الله (البقرة: 115)، وقوله: «إن الأولياء خير من الأنبياء، والولاية هي العنصر الدائم السامي في النبوة، وادعى محيي الدين أنه خاتم الأولياء، كما أن محمدا خاتم الأنبياء ... إلخ.
ومن الطاعنين عليهم ابن حجر العسقلاني، فقد قال حين توفي سنة 852ه في ابن الفارض: «ينعق بالاتحاد الصريح في شعره، وهذه بلية عظيمة، فتدبر نظمه ولا تستعجل .... وما ثم إلا زي الصوفية، وإشارات مجملة، وتحت الزي والعباءة فلسفة وأفاعي، فقد نصحتك والله الموعد.»
وكذلك من الطاعنين عليهم البقاعي المتوفى سنة 858ه وقد ألف كتابين في تكفير ابن عربي وابن الفارض، وهما «تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي»، و«تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد»، وكان شديد الطعن عليهما.
وممن طعن عليهما أيضا عضد الدين الإيجي صاحب المواقف، فقال عن ابن عربي: «إنه كان كذابا حشاشا كأوغاد الأوباش، ولقد تبعه في ذلك ابن الفارض، ولا يخفى على الأقل أن شعره من الخيالات المتناقضة الحاصلة من الحشيش؛ إذ عندهم أن وجود الكائنات هو الله تعالى، فإذا الكل هو الله تعالى، فلا نبي، ولا رسول، ولا مرسل، ولا مرسل إليه».
ويروي المقبلي صاحب العلم الشامخ أن ابن خلدون يقول بإيمان المتصوفة الأولين، وبتكفير الصوفية المتأخرين، ويرى إحراق كتبهم لما فيها من الضلال.
هؤلاء أهم الطاعنين عليهم، أما المؤيدون لهم فكثيرون، وكان هجوم الفقهاء سببا في قتل صلاح الدين السهرودي كما قتل الحلاج، ولكن نجا ابن عربي، وابن الفارض من القتل؛ فيظهر أن السياسة كانت تستغل أقوال الفقهاء لقتل خصومهم، فإذا رضيت السياسة عنهم حمتهم ولم تقتلهم. (5-3) الشعراني
وزاد بعد ذلك سيل التصوف في العالم الإسلامي، ومن أشهر من جاء بعدهما الشعراني، ولكنه كان صوفيا مدروشا، وقد اختصر «الفتوحات المكية» لابن عربي في كتاب سماه «لوافح الأنوار القدسية المنتقاة من الفتوحات المكية»، ثم اختصر هذا المختصر، وسماه «الكبريت الأحمر من علوم الشيخ الأكبر»، وكان أيضا لوجوده في ذلك العصر ضجة كبيرة من مؤيدين له، وناقمين عليه، ولأنه حمل على العلماء حملة شديدة، ولكي ينجو بنفسه أمر بإطاعة الولاة والقوانين، مع أنه كان يؤمن بظلم الحكام ويشعر بالظلم الذي يقع على الفلاح فيقول: «كان الفلاح عند موته يترك شيئا من الدراهم لأولاده، ولكنه الآن لا يستطيع إلى ذلك سبيلا، بل هو يبيع الحاصلات والبقرة والثوب لتسديد ما عليه من الضرائب، وإذا لم يسدد ضرب وسجن»، ويقول: «إنا لا نقتني الأراضي ولا الممتلكات؛ لأن ما يدفع عليها من الضرائب يفوق ثمنها وما تنتجه». ومن هجمات العلماء عليه كان لا يخرج كتابا إلا إذا رضي عنه العلماء وأقروه، كما حكى ذلك عن نفسه، وبذل مجهودا كبيرا في التوفيق بين عقائد أهل الكشف، وعقائد أهل الفكر، ودافع عن ابن عربي كثيرا، وأول أقواله التي ظاهرها الكفر والإلحاد.
وانقلبت بعد ذلك الصوفية إلى دروشة، ومعنى درويش في الفارسية: الفقير المسكين. وانحط التصوف كثيرا حتى قال بعضهم: كان التصوف حالا فصار مالا، وكان احتسابا فصار اكتسابا، وكان استتارا، فصار اشتهارا، وكان اتباعا للسلف فصار ابتياعا للعلف، وكان عمارة للصدور فصار عمارة للغرور، وكان تعففا فصار تكلفا، وكان تخلقا فصار تملقا، وكان سقما، فصار لقما، وكان قناعة، فصار فجاعة، وكان تجريدا، فصار ثريدا»، وكثرت التكايا والزوايا والطرق، وفيها كان الشيوخ لهم سلطة كبيرة على المريدين، يأمرونهم أن يكونوا كالريشة في مهب الريح، وكان لكل نوع من هذه الطوائف أذكار وأوراد، وامتزجت هذه الطرق بالشعوذة والاحتيال. (5-4) جلال الدين الرومي
وهنا لا بد من كلمة عن مولانا جلال الدين الرومي، فإنه ذو أثر عظيم في التصوف الفارسي، وهو صاحب كتاب «المثنوي» الذي قال فيه الصوفي الكبير عبد الرحمن الجامي: «إن كنت عالما بالمعرفة فدع اللفظ، واقصد المعنى. إن المثنوي هو القرآن في اللسان الفارسي، وماذا أقول في وصف هذا العظيم؟ لم يكن نبيا، ولكنه أوتي الكتاب»، وقد عني المستشرقون بجلال الدين وشعره، ونقلوه إلى لغاتهم.
وقد كان جلال الدين معلما دينيا، ولكنه قابل الصوفي الكبير تبريزي، فأثر فيه، وقطعه للتصوف.
والمثنوي منظومة صوفية فلسفية عظيمة، تحوي 25700 بيت، وهو قوي البيان، فياض الخيال، بارع التصوير، حتى لينظم القصة القصيرة في مئات الأبيات. وقلبه مفعم بالعشق الإلهي، مستغرق فيه كقوله: «أفكر في القافية، وحبيبي يقول: لا تفكر إلا في رؤيتي، ما الحق فتفكر فيه، إنه الشوق في جدار البستان، إني أمحق القول والحق والصوت لأناجيك بغير هذه الثلاث.»
ويقص أحيانا قصة، ويجعلها مدار كلامه وتصوفه، كقصة الأسد والوحوش، وهي من قصص كليلة ودمنة، ولكن جلال الدين الرومي أخذها فتصرف فيها، وتوسل بها في عرض آرائه، كقوله: «رأى الأسد نفسه في عتو، فلم يعرف نفسه من العدو، حسب العدو صورة نفسه، فسل سيفه على رأسه، كم من ظلم تراه في غيرك، وإنما فيه صورة طبعك، أنت لا ترى في نفسك هذا السوء، وإلا رأيت نفسك المشنوء، إنما تحمل على نفسك أيها الغافل، كما حمل على نفسه الأسد الجاهل، فإذا بلغت قعر طبعك علمت هذه الدناءة في خلقك»، ويقول: «المؤمن مرآة أخيه، خبر عن الرسول نرويه، وضعت على عينك زجاجة زرقاء، فازرقت أمامك الأرض والسماء، إن يكن ازرق زجاج كوتك، ازرق ضوء الشمس في نظرك، لا تعم فهذا اللون منك بدا، فالح نفسك إذا، ولا تلح أحدا ... إلخ.»
14
ومن عباراته: «يا من هو عزاء النفس في ساعة الغم والحزن، يا من فيه غناء الروح عند مرارة الفقر والعوز، يا من نحوه أولي وجهي في عبادتي لما يطوف بي منه من طائف لا يلحقه الخيال، وغيبة العقل لو أني حييت ملكا لا يبلى، أو أن كنزا خفيا فتح لي من كل ما في الوجود، لسجدت لك روحي، ووضعت وجهي في الثرى، وصحت قائلا: ليس لي مراد غير حبك، هلم هلم إنك غير واجد صديقا مثلي، وأين بمثلي حبيب في جميع الوجود، هلم هلم، ولا تقضي العمر في حيرة، فليس لمالك سوق غير ذاك، كأنك واد مقفر ماحل، وكأنني مطر، بل كأنك بلد الخراب، وكأنني بناء، لولا عبادة الإنسان إياي ما أحس للسعادة طعما، فإن العبادة مطلع شمس السعادة.»
15
خاتمة
استعرضنا في هذا الكتاب استعراضا بسيطا للمعتزلة في عصرهم الثاني، وما تعرضوا له من مسائل، وكيف زال سلطانهم بعد أن حكموا البلاد سنين، وكيف أن الأشاعرة اكتسحوهم. ورأينا أن الأشاعرة أنفسهم كانوا متأثرين لدرجة كبيرة بالمسائل التي أثارها المعتزلة، وأن الحرب بين الأشاعرة والمعتزلة بدأت عنيفة، ثم كان النصر للأشاعرة، وظل كذلك إلى اليوم.
وربما كان من ملاحظاتنا أن أكثر البحوث من المعتزلة والأشاعرة كان فيما وراء الطبيعة، والبحث فيما وراء الطبيعة قل أن يسلم إلى نتيجة ... فكيف ندرك أن صفات الله غير ذاته، أو هي ذاته، ونحن لا ندرك ذلك من أنفسنا التي بين جنوبنا، وكيف ندرك الفروق الدقيقة بين علم الله وقدرته وإرادته؟ فهذه كلها مسائل بحثت عند أرسطو وقبل أرسطو، ثم بحثت بعد ذلك في الإسلام والنصرانية واليهودية، وهي هي لم تتقدم كثيرا، من أجل ذلك ثار الغزالي، وفخر الدين الرازي في علم الكلام، وطلبوا تجنيبه العوام.
ثم رأينا تعاليم الشيعة، وكيف دافعوا عنها بقوة، وكيف أن كثيرا منهم ضحوا بأنفسهم في سبيلها، وكانوا يخرجون على العباسيين فيقتلون أو يسجنون، وكيف أن التشيع تطور، فبدأ بأحقية علي في الخلافة هو وأولاده، ثم بدأ على يد جعفر الصادق يأخذ شكل تقديس الأئمة، ثم عرضت فكرة الاختفاء والغيبة، وتبعها المهدي المنتظر، وما كان لذلك من آثار كبيرة في تاريخ المسلمين.
وأخيرا عرضنا للصوفية، وهي منحى جديد غير منحى المتكلمين، فإذا كان اعتماد المتكلمين على المنطق والعقل، فاعتماد المتصوفة على الذوق والقلب، وإذا كانت نتيجة الاعتماد على المنطق والعقل هو الإيمان بالبرهان المنطقي، فالاعتماد على الذوق والقلب نتيجته الكشف.
وقد كانت كل هذه الحركات قوية عنيفة تتدافع ولا تتهادن، وتتقابل ولا تتسالم، فمؤرخو الإسلام لا يقتصرون على تسجيل الوقائع الحربية، وإنما يضيفون إليها الوقائع الاعتقادية والطائفية، وإذا نحن صفينا الحساب كما يفعل التجار عند انتهاء مرحلة كبيرة من مراحل تجارتهم ليعرفوا ماذا كسبوا وماذا خسروا، رأينا أننا كسبنا حركة العقول، وتمرينها على البحث، وكسبنا المران على الجدل كما كسبنا من وراء هذا الجدل وضوح المسائل المتجادل فيها، بعد أن تناولها كل من جهته، وكسبنا تربية كثير من العلماء في هذه الأجواء من النشاط، ولكننا خسرنا الحب والألفة بما ذاع من الإحن والبغضاء بين الطوائف المختلفة حتى بلغت حد القتل الكثير، وخسرنا قوى كانت تنفع لو تجمعت، فلما تفرقت فنيت.
وهذه القوى لو كانت وجهت وجهة خير لأنتجت نتاجا باهرا، فلما وجهت وجهة شر ضاعت، وأظن أن ما خسرناه أكثر مما كسبناه، وليس أدل على ذلك من حال المسلمين اليوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملحق المرجئة والخوارج
أوضحنا في الجزء الثالث من ضحى الإسلام مذهب المرجئة والخوارج، ولم يكن لهما كبير خطر بعد عصرهما الأول، إلا أن ابن حزم عقد في كتابه «الفصل في الملل والنحل» فصلا سماه «شنع المرجئة »، والذي يقرؤه يرى أن المرجئة من أوسع المذاهب صدرا، لا تسرع إلى التكفير، عكس الخوارج الذين يكفرون كل من عداهم.
يقول ابن حزم: إن المرجئة طائفتان: طائفة تقول: إن الإيمان قول باللسان، وأخرى تقول: بأن الإيمان عمل قلبي، وإن أعلن الكفر بلسانه، وإن عبد الأوثان، وإن لزم اليهودية والنصرانية، فهو مؤمن كامل الإيمان عن الله، يستحق دخول الجنة ... وقالت طائفة منهم: من آمن بالله وكفر بالنبي
صلى الله عليه وسلم
فهو مؤمن كافر معا، ليس مؤمنا على الإطلاق، ولا كافرا على الإطلاق. وقال مقاتل بن سليمان، وكان من كبار المرجئة: لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا، ومن أجل توسعهم في الإيمان قالوا: إن الإمام إذا أخطأ لم تزل إمامته، وتجب طاعته، وتجوز الصلاة وراءه، ولم نعلم في التاريخ قيام حكومة كان شعارها الإرجاء.
أما الخوارج، فقد مرت تعاليمهم من قبل، ومر الكلام على بعض حروبهم وآدابهم،
16
ونقول هنا: إن الإباضيين منهم، وقد كانت لهم حكومة في شمال إفريقيا، وقد قامت ثورتهم في حكم مروان بن محمد بزعامة عبد الله بن يحيى طالب الحق، وأبي حمزة. وقد خضعت أيضا حضر موت لسلطان الخوارج، وقد شبت ثورة في عمان، فقمعها حازم بن خزيمة.
وعلى الجملة، فقد حكمت عمان، وجزء من شمال إفريقيا بالإباضية، ولها مذاهب فكرية في العقائد والشرائع تخالف تعاليم الشيعة والسنة، وقد اختلفوا أيضا فيما بينهم، وخاصة في شمال إفريقيا إلى فرق. ولقد حكمت أسرة إباضية تنتسب إلى رستمية في تاهرت أكثر من مائة وثلاثين عاما، إلى أن أزالتهم الدولة الفاطمية. ولما سقطت تاهرت في أيدي الفاطميين تفرق شمل الإباضيين في صحراء تونس والجزائر، وفي جربا، ولا يزالون فيها إلى اليوم.
ولهم كتب في الفقه والحديث على مذهبهم، ويعتقدون أنهم وحدهم الفرقة الناجية، وليس بضروري أن يكون الإمام من قريش، بل يكفي أن يكون صالحا ورعا، وأن يحكم طبقا للقرآن والسنة، ولن يرى الله في الجنة، والثواب والعقاب في الآخرة أبديان، والله يغفر الصغائر، أما الكبائر فلا تمحوها إلا التوبة.
وقد اشتهر إباضيو الجزائر بالمحافظة على الفضائل الخلقية، وهم ولا يختلطون بأهل السنة كثيرا؛ وإنما يختلط بهم بعضهم مع بعض.
17
وعلى الجملة، فلم يكن لهم خطر كبير في التاريخ بعد العصر العباسي الثاني.
هوامش
صفحه نامشخص