وكانت جريدة «الأستاذ» هي الأستاذ لمصطفى كامل، تعلم منها الاتجاه والنغمة، وإن اختلفا من حيث الثقافة والأسلوب بحكم الزمن والأحداث والظروف.
نعم كان في «النديم» شيء من التهريج كالذي رأيناه. وكان من تهريجه أنه كان في أول مرة يرتدي الثياب الإفرنجية، فلما ظهر بعد الاستخفاء لبس الجبة والقفطان، واعتم بعمامة خضراء، وادعى أنه شريف إدريسي ينتسب إلى الحسن بن علي، وكثير من الواقفين على الحقيقة ينكر ذلك، وربما دعاه إلى هذا شعوره بمركب النقص، من حيث نشأته الفقيرة المتواضعة، وما مرن عليه من التصنع أيام الاستخفاء، وحالة الوسط الذي عاش فيه من أنه لا يمجد إلا ذا الثراء أو ذا الحسب - ومع هذا فالعظيم يقدر بكله لا ببعضه.
كانت عظمته في ذكائه وقوة لسنه. وقال فيه المرحوم أحمد باشا تيمور: «كان شهي الحديث، حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقامته بمصر فرأيت رجلا في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ. أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا».
كان السيد جمال الدين يعجب بقوة حجة النديم في؛ المناظرة والجدل، وسرعة بديهته، وشدة عارضته،
25
ووضوح دليله، ووضعه الألفاظ وضعا محكما بإزاء معانيها إن خطب أو كتب.
ثم هو شجاع لا يخاف، يلذه مواجهة العظماء ومنازلة الكبراء في غير خوف ولا وجل، إلى تواضع مع العامة ومضحكاتهم ومؤانسته وملاطفتهم، لا يعبأ بالقول ولا يخاف البطش، فإذا نزل أحد وسلط عليه لسانه كانت الكارثة، نازل الخديوي توفيق والاحتلال، وأبا الهدي الصيادي، ولكل جاهه وسلطانه الذي أذل أعناق الكثيرين، كل ذلك وهو فقير يعيش من يده إلى فمه، ما أتاه أتلفه، وما وصل إلى يده بدده، معتمدا على ربه الذي يرزقه كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا.
ضعيف الجسم كثير العلل، وربما كان ذلك هو السبب في موت أولاده جميعا في طفولتهم، فقد رزق قبل الاستخفاء بمحمد، وعثمان، وإلياس، وفاطمة، وعائشة، وسكينة، وخديجة. كما رزق أيام الاستخفاء بحفصة وريا. وكلهم لم يعش طويلا. ومع هذا فهو - على مرضه - دائب العمل دائم الحركة، لا يعتريه كلل ولا ملل؛ يود أن يخلد اسمه بالعمل، بعد أن حرم تخليد اسمه بالمولد.
أعد نفسه إعدادا عظيما بكثرة الخبرة وسعة التجربة، فكان كما حدث عن نفسه: «أخذت عن العلماء، وجالست الأدباء، وخالطت الأمراء، وداخلت الحكام، وعاشرت أعيان البلاد، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحين والمهن الصغيرة. وأدركت ما هم فيه من جهالة، ومم يتألمون، وماذا يرجون، وخالطت كثيرا من متفرنجة الشرقيين، وألممت بما انطبع في صدورهم من أشعة الغربيين. وصاحبت جما من أفاضل الشرقيين المتعلمين في الغرب، وعرفت كثيرا من الغربيين، ورأيت أفكارهم - عالية أو سافلة - فيما يختص بالشرقيين، والغاية المقصودة لهم، واختلطت بأكابر التجار، وسبرت ما هم عليه من السير في المعاملة أو السياسة. وامتزجت بلفيف من الأجناس المتباينة جنسا ووطنا ودينا، واشتغلت بقراءة كتب الأديان على اختلافها، والحكمة والتاريخ والأدب، وتعلقت بمطالعة الجرائد مدة، واستخدمت في الحكومة المصرية زمنا، واتجرت برهة، وفلحت
26
صفحه نامشخص