وقد مات الإمام الشوكاني سنة 1250 بعد أن أبلى في هذا بلاء عظيما، وخلف تلاميذ كثيرين يدينون برأيه.
وفي مصر شب الشيخ محمد عبده فرأى تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو، فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهد الرسول إلى عهد ابن تيمية، إلى عهد ابن عبد الوهاب، وكان أكبر أمله أن يقوم في حياته للمسلمين بعمل صالح، فأداه اجتهاده وبحثه إلى هذين الأساسين اللذين بني عليهما محمد بن عبد الوهاب تعاليمه، وهما: (1) محاربة البدع وما دخل على العقيدة الإسلامية من فساد بإشراك الأولياء والقبور والأضرحة مع الله تعالى، و(2) فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين، وجرد نفسه لخدمة هذين الغرضين، ولكنه امتاز بميزة كبرى عمن عداه، وهي ثقافته الواسعة الدينية والدنيوية، ومعرفته بشئون الدنيا وأسسها وتياراتها، وذلك بتربيته الدينية الأولى المستمرة، ورحلاته إلى أوربا يخالط علماءها وفلاسفتها وساستها. فلما تعرض لمثل ما تعرض له ابن عبد الوهاب فلسف الدعوة وركزها على أسس نفسية واجتماعية، كما شارك في تركيزها على الأسس الدينية، ففي دروسه في التفسير التي كان يلقيها في الرواق العباسي بالأزهر، كان ينتهز كل إشارة لآية ولو من بعيد تندد بالشرك فيفيض في الحملة على عبادة الصالحين، وزيارة القبور والشفاعة والتوسل وما إلى ذلك. فيطيل الوقوف - مثلا - عند قوله تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب
فيقسم الشيخ الأنداد إلى قسمين: هؤلاء الشفعاء الذين اتخذتهم الناس وسيلة للقرب من الله يستقصونهم في الحوائج، وهؤلاء الذين يقلدون في الدين يتخذ قولهم شرعا من غير حجة ولا برهان. وتظهر فلسفته للمذهب في بيان الأضرار النفسية من هذه العقائد، فهي تورث الذل وتخضع الناس للحكام الظالمين، تحط النفوس إلى الدرك الأسفل، ثم هي تضر اجتماعيا باعتماد الناس على هؤلاء الأولياء بتركهم القوانين الطبيعية التي جعلها الله أسبابا لا بد منها لحصول المسبب، فالزراعة إنما تنجح بالحرث والتسميد والبذر والسقي، لا بالاستغاثة بولي، والحرب إنما تكسب باتخاذ سلاح مجهز على آخر طراز كسلاح العدو، وإعداد العدة الكاملة كما يفعل العدو، لا بالاستعانة بأهل القبور، وفضيلة المسلم أن يستعين بعد ذلك كله بالله وحده، يطلب منه أن يثبت قلبه، ويلهمه التوفيق. وهكذا كان يفيض في هذين الأساسين مفندا آراء من يقول بالتوسل والشفاعة والتقليد.
وينتهز فرصة وجود جماعة من العلماء عنده في يوم مولد النبي، ودعوته للعشاء عند أحد المحتفلين، فيبين لهم أن هذه الموالد كلها منكرات، ويتمنى لو أنفق ما يصرف في الموالد على تعليم الفقراء، ويناظرهم في ذلك مناظرة تنتهي بانصراف العلماء إلى العشاء في المولد، وامتناع الشيخ وحده.
ويضع الشيخ تفسيرا لجزء «عم» للناشئة فيلتمس كل وسيلة للحملة على كل ما يشوب التوحيد من شرك بعبادة المشايخ والقبور والأضرحة والتخريف، راجيا أن ينشأ الشباب نشأة دينية صحيحة خيرا مما عليه آباؤهم - وأعانه في هذه السبيل تلميذه وصديقه السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار، فقد ملأها كذلك بمثل هذه الدعوة ومثل هذه الحجج، يسمع بها المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية.
وفي تركيا قامت الحكومة التركية الكمالية بمحاربة هذه البدع والخرافات، فأغلقت التكايا وكانت عش التدجيل، وطاردت المشايخ، واضطهدت المهرجين، ولكن الفرق بين هذه الحركة وما قبلها أن كل الحركات السابقة كانت مؤسسة على الدين والإصلاح الديني، والرجوع إلى الأصول الدينية، أما هذه الحركة فمؤسسة على العقل المطلق، وفكرة الإصلاح الاجتماعي من غير أن يكون الدافع إليها الرغبة في الإصلاح الديني.
وأخيرا وقد مضى على هذه الدعوة الإصلاحية من عهد محمد بن عبد الوهاب إلى الآن عشرات السنين، واشترك في تنظيم الغزوة عشرات من الأبطال، فماذا كانت النتيجة؟
ظلت عامة المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية - كما هم - من حيث الالتجاء في قضاء الحوائج إلى المشايخ والقبور والأضرحة، وظلت على عادتها في الاحتفال بالموالد ونحوها وإن قل بهاؤها ورونقها، وإنما تأثر بهذه الدعوة الخاصة أو خاصة الخاصة. كما تأثر بها ناشئة الشباب المثقفين بحكم ثقافتهم ونمو عقليتهم، فلم يلجأوا إلى المزارات والمشايخ كما كان يلجأ آباؤهم، ولكن أخشى أن يكون كثير منهم لا يلجأ إلى الله أيضا كما كان يلجأ آباؤهم.
والآن ننتقل إلى نوع آخر من الإصلاح كان مظهره مدحت باشا في تركيا.
صفحه نامشخص