الجان ، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فبعث الله ملائكة أجلتهم من الأرض ، وفرقتهم في الجزائر والجبال ، وكان هؤلاء الملائكة سكان الأرض بعدهم ، فبما قال الله سبحانه لهم : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) قاسوا بالشاهد على الغائب ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) تعجبا من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها كما فعل بنو الجان ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية. وهذا السؤال ليس سؤال اعتراض ، بل سؤال استكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد ، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم ، كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره ، فليس باعتراض على الله تعالى ، ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك ، لقوله : ( بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) (1). وقيل : عرفوا ذلك بإخبار من الله ، أو تلق من اللوح ، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم.
والسفك والسبك والسفح والشن أنواع من الصب. فالسفك يقال في الدم والدمع ، والسبك في الجواهر المذابة ، والسفح في الصب من أعلى ، والشن في الصب من فم القربة ونحوها ، وكذلك السن.
وقوله : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) حال مقررة لجهة الإشكال ، كقولك : أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج؟! والمعنى أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك؟ والمقصود منه الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم من الاستخلاف ، لا العجب والتفاخر. وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء ، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة ، فقالوا : ما الحكمة في استخلافه وهو
صفحه ۱۱۴