كانت الدماء تنزف من صدرها وهي واقفة تعزف وغني، الناس من حولها يرقصون ويغنون، حملوها فوق رءوسهم، وساروا بها وهم ينشدون: تحيا زينة بنت زينات يا يعيش، يا يعيش، تحيا زينة بنت زينات يا يعيش، يا يعيش، تحيا الحرية، تحيا الحرية، يحيا الحب، يحيا الحب، تحيا الموسيقى. تحيا الموسيقى، يحيا الجمال والعدل والفضيلة، يحيا الحب والفن والجمال والعدل والفضيلة، تحيا زينة بنت زينات.
كانت بدور الدامهيري تمشي حين سمعت الأصوات، مئات، آلاف، ملايين، يسيرون يهتفون، ينشدون الأغاني.
كانت بدور تمشي جارة الحقيبة ذات العجلات، السحابة السوداء تغطي السماء، تحجب الشمس والقمر، لا تعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، تمشي وتمشي في الطريق الطويل اللانهائي، تورمت قدماها من المشي. جلست فوق دكة خشبية على شاطئ النيل، خلعت حذاءها الجلدي الضيق بكعبه العالي الرفيع، خلعت المشد الإلاستيك الضاغط على صدرها، خلعت الدبابيس من شعرها، الأساور الذهبية من يديها، الخواتم ذات الفصوص والجعارين من أصابعها، فكت قيودها من قمة الرأس حتى بطن القدمين، تحرر اللحم والعظم من الأسر، انفك اللجام المربوط حولها، تركت جسدها يسبح فوق الدكة الطويلة كالسفينة، همس في أعماقها صوت: لست زوجة ولا أرملة ولن أرى حزنا، مثل بابل الزانية في الإنجيل.
من تحت الدكة رقدت حقيبتها ذات العجلات، داخلها الرواية يضمها الدوسيه الأصفر، وثوبها القطني القديم لونه أبيض، تعلوه بقع دم جفت، ودموع وقطرات عرق لم تجف، من خلال جفونها نصف المغلقة رأت خيالا يمشي في الظلام، امرأة عجوز ترتدي ثوب الحداد، تسير بظهر محني، قدماها في حذاء أبيض من الكاوتش أصبح بلون التراب، في يدها كيس بلاستيك أسود، وجهها شاحب أسمر، أنفاسها تلهث. جلست فوق الرصيف، فتحت الكيس، تجمع من حولها سرب من أطفال الشوارع، بنات، وأولاد، وقطط صغيرة مولودة، يتشممون بقايا الخبز داخل الكيس، قطع لحم وعظم وأرز، كل ما يفيض عن بيوت العائلات، كل ما يلقى في القمامة مع الفضلات، كانت زينات تجمعه في الكيس كل يوم، تمشي به إلى شاطئ النيل. إن لم يكن هناك كيس بلاستيك تلف بقايا الخبز في ورقة من أوراق الصحف، تتعرف على الصور المنشورة في الجريدة، فوق كل عمود صورة داخل برواز، عيونهم مخرومة بشوكة من أشواك السمك المأكول، أو بقطعة عظم خالية من اللحم. في الصفحة الأولى صورة الرئيس والسيدة الأولى، وجهاهما ملطخان بصلصة الطماطم، تفوح منها رائحة البصل والثوم والبسطرمة، في الصفحة الثانية صورة زكريا الخرتيتي؛ كانت تناديه سيدي، أنفه مبتور بضربة سكين، عموده الطويل مبلل بحساء الدجاج، ساح حبره على الورق، عامت حروفه فوق سائل أسود، يشبه الزئبق أو الزفت.
تجلس زينات فوق الرصيف من حولها القطط والكلاب الشاردة والأطفال، تلمع عيونهم بالفرح، وهم يلتهمون الفضلات، ينهشون بأسنانهم القوية بقايا اللحم على العظم، يقرقشون العظام والخبز المقدد، تنادي أحد الأطفال باسم ابنها نسيم، عيناه تلمعان بالبريق، مقلتان كبيرتان متوهجتان بضوء الشمس. كانت تضع أمامه كوب اللبن، حلبته من الجاموسة، مع البيضة المقلية بالسمن البلدي. يشتد البريق في عينيه وهو يتشمم الصحن، كان في الثامنة من عمره، يذهب إلى المدرسة، يمشي في المظاهرات يهتف مع الناس: يسقط الظلم تحيا الحرية.
كانوا ينادونها يا أمي، يحملون اسمها زينات. كان اسم الأم يجلب العار للأطفال، في القانون والشرع، لكن القطط الصغيرة تموء باسمها، زينات، عيونهن تلمع بالبريق في ابتسامات طفولية، طفلة تشبه القطة الصغيرة، عيناها مستديرتان واسعتان، مملوءتان بالدهشة والفرح، ينادونها زينة بنت زينات، المقلتان السوداوان بلون الفحم داخل بياض بلون الثلج، تحوطهما دائرة زرقاء تشتعل باللهب، تصحو من النوم تغني مع العصافير، ومع الأطفال من حولها: أمي زمانها جايه، أمي زمانها جايه، جايه ومعاها هديه، أمي زمانها جايه، زمانها جايه ومعاها هديه ...
كانت أمها قد تركتها فوق الرصيف، سحبت يدها من يدها وهي تهمس في أذنها: أنا جايه يا بنتي أنا جايه، أنا جايه، أنا جايه، جايه، ماما زمانها جايه، ماما زمانها جايه يا زينة، ماما جايه جايه ...
فتحت بدور عينيها، شدت جفونها وصحت من النوم، رأت دادا زينات جالسة إلى جوارها فوق الدقة الخشبية، تغني لطفلتها: ماما زمانها جايه، جايه ومعاها هديه.
يذوب صوت غنائها مع الأصوات الآتية من بعيد. آلاف الأصوات، ملايين الأصوات، تغني أغنية الأم، يتصاعد الغناء والهتاف، يرج الأرض والسماء: ده صوت الرعد يا دادا زينات؟ - لا يا ست بدور، دي المظاهرات، قومي قومي من السرير، كل الناس قامت، نعيم ونسيم وبدرية ومحمد ومجيدة وصافي ومريم وزينة وكل الناس، حتى القطط المولودة يا ست بدور ماشية في المظاهرة تهتف وتقول: يحيا العدل. - هي القطط بتعرف تتكلم يا ماما زينات؟ - أيوه يا بنتي، الدنيا اتغيرت والقطط المغمضة فتحت عيونها ونطقت.
نهضت بدور تشد عضلات جسمها، مدت يدها تحت الدكة تبحث عن الحقيبة، تتحسس بطن الحقيبة، ناعمة من الجلد الثمين المتين، كانت منتفخة بأوراق الرواية، مئات الأوراق المكتوبة بالدم والدموع والعرق والتعب. مئات الليالي سهرت فوق الأوراق تكتب، كان بطن الحقيبة مرتفعا بالرواية، تحمل الأوراق داخل بطنها وصدرها، وضعتها تحت الدكة الخشبية قبل أن يغلبها النوم، يدها تتحسس بطن الحقيبة، تضغط عليها بكفها، تغوص يداها حتى القاع، يتلامس جلد البطن مع جلد الظهر دون شيء بينهما. فراغ أسود مفزع كالموت داخل الحقيبة، تدس يديها داخل الفراغ حتى تفقد الوعي، تحاول الصراخ، تفتح فمها لتصرخ: الرواية انسرقت، روايتي يا ناس سرقوها وأنا نايمة.
صفحه نامشخص