العيون في القاعة الكبيرة تحملق فيها، الآذان مشدودة إليها، بساطة الكلمات الخالية من الزينة، بساطة الوجه الخالي من المساحيق، وجه خاص بها لا يعرف التنازلات، لا ينشد إعجاب أحد، لا يسعى إلى أن تراه العيون، ومع ذلك يشد العيون إليه بقوة، بجاذبية خفية، كأنما العيون لا تسعى إلا إلى ما لا تراه، أو إلى ما لا يسعى أن تراه.
المقلتان الكبيرتان هما هذا الوجه الخالي من كل شيء إلا العينان، سوداوان زرقاوان مشتعلتان بالضوء، متوهجتان مثل قطعة من الشمس، نظرتها خارقة للحجب والأقنعة، نظرة تعري السطح وتنفذ إلى القاع، نظرة تنظر وترى، ترى ما لا تراه العيون.
يتململ أحمد الدامهيري في مقعده، يتحرك جسده القصير السمين، ينتقل من الألية اليمنى إلى اليسرى، يفرد ساقيه القصيرتين تحت المقعد أمامه، ترتطم قدمه بقدم الرجل الجالس أمامه، يستدير الرجل إليه ويهمس: أفندم سعادة الباشا، تحت أمرك. - لا شيء يا محمود، لا ترفع صوتك.
إنه الشوفير الجالس أمامه، سائق سيارته السوداء الطويلة، ذات الستائر الزرقاء، أو الزجاج الأزرق الفيميه، بكشف الخارج ولا يكشف الداخل. يرتخي جسد أحمد الدامهيري في السيارة الفاخرة فوق الأريكة الخلفية الوثيرة، تغوص أليتاه المرهقتان المترهلتان في الفراش الطري الناعم.
لم يكن المسرح أحد المسارح الفاخرة التابعة للدولة، لم يكن هو المسرح الكبير أو الصغير في دار الأوبرا الأنيقة. كان مسرحا فقيرا في الحي العشوائي القديم، جدرانه خيمة من قماش سميك رخيص يشبه الدمور أو الجبردين، مقاعده من الخشب أو الخيزران أو الجريد المجدول، مستقيمة الظهر تؤلم الظهور غير المستقيمة، تدمي الظهور المترهلة التي تعودت الجلوس في المقاعد الطرية، يستمر العرض ساعتين أو ثلاثا أو أكثر. كلما توقفت زينة بنت زينات عن العزف والغناء ارتفع الهتاف في الصالة الواسعة: أعيدي يا زينة أعيدي، أعيدي.
كان الشوفير محمود السائق الخاص واحدا من حرس الأمير، يحمل مسدسا مرخصا من إدارة الأمن. يمشي وراء الأمير إن مشي، يجلس في المقعد أمامه إن جلس في الحفلات العامة. من خلف الأمير يجلس الحارس الخاص أو البودي جارد، هكذا يتحصن جسد الأمير من الأمام والخلف، عن يساره الحارس الثالث، عن يمينه الحارس الرابع، أربعة أجساد طويلة عريضة ضخمة تحوط الأمير، بجسده القصير الصغير، كالأعمدة الأربعة، أو جدران أربعة عالية من حول ضريح منخفض لشيخ مات منذ ألف عام، أو قسيس مدفون تحت محراب قديم. ينادونه فضيلة الشيخ أو سعادة الأمير أو سعادة الباشا.
كان لقب الباشا قد سقط بسقوط الملك بعد الثورة، لكنه عاد من جديد مع الانفتاح، والشركات الأجنبية والعمامة والزبيبة والسبحة، ومكبرات الصوت فوق الجوامع، وأجراس الكنائس والمدارس، وصفارات البوليس في الشوارع، وخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، وتكاثر المواليد اللقطاء فوق الأرصفة وفي العشوائيات، وقوائم الموت وفتاوى المشايخ بتكفير المفكرين والمفكرات، والحرائق في دور السينما والمسارح والكنائس، والنسوة وراء النعش في الجنازات يولولن ويلطمن الخدود، والفتيات المراهقات يغطين رءوسهن بالحجاب، ويكشفن عن بطونهن وأردافهن داخل الجينز الأمريكي الحديث، ومحلات الهامبرجر والكولا والديسكو، والليالي الحمراء على شاطئ النيل، والسحابة السوداء تغطي المدينة في النهار وفي الليل.
يطرب أحمد الدامهيري حين يناديه السائق بلقب سعادة الباشا، يتذكر طفولته حين كان في الثامنة من العمر، أبوه فضيلة الشيخ الدامهيري، وعمه اللواء الكبير في الجيش، يفخر في المدرسة بين التلاميذ، يكتب اسمه الثلاثي فوق السبورة بالطباشير: أحمد محمد الدامهيري.
أبوه وجده وأبو جده تربوا جميعا في الأزهر في بيوت الله، أو داخل مدرسة الجيش والبوليس. تلمع النجوم الذهبية والنياشين فوق صدورهم وأكتافهم العريضة المحشوة بالقش أو القطن، تلتف العمامة الكبيرة حول رءوسهم الصغيرة، والحزام من القطيفة حول الجبة تحت القفطان. بين أصابعهم يقبضون على حبات السبحة، أو العصا لمن عصا لها رأس الثعبان، أو الهراوات أو البنادق والمسدسات، حسب موقع الواحد منهم في سلم الوظائف العليا بالدولة والدين.
استدار السائق محمود وأطبق شفتيه، يعرف مثل غيره من الحرس أن سعادة الباشا لن يغادر مقعده، قبل أن تنتهي زينة بنت زينات من العزف والغناء والرقص: أي والله الرقص، أبغض الفنون إلى الله والرسول، كما أفتى فضيلة الشيخ رئيس القسم الثقافي في المجموعة، الرقص يعني تحريك الجسد بما يثير الشهوات. يلي الرقص في البغض الغناء؛ لأن صوت المرأة مثل جسدها العاري، إحدى العورات الواجب إخفاؤها بالحجاب، بالحرب باليد أو باللسان، أو بالقلب وهذا أضعف الإيمان.
صفحه نامشخص