أصبحت أبلة مريم مدرسة للموسيقى، كان ميخائيل عازفا على العود في فرقة موسيقية قبل أن يهاجر خارج البلاد، أمها فاطمة قتلها أبوها الصعيدي بطلقة نار.
في ليلة مظلمة باردة، بينما كانت أبلة مريم تمشي في شارع النيل، رأت طفلة راقدة داخل الكشك الخشبي فوق دكة طويلة خشبية، كانت هناك أربع دكك مثل هذه الدكة داخل الكشك، يرقد عليها أطفال الشوارع غارقين في النوم داخل جلاليب بلون الرماد. فوق الأرض إلى جوارهم ترقد قطة كبيرة عيناها الخضراوان يكسوهما بريق يلمع في ظلمة الليل، من حولها ستة من القطط الوليدة، تحوطها من كل جانب، تلتصق بجسدها، تدفئها بأنفاسها، تلعقها بلسانها، تمسح عنها التراب والدم.
كانت أبلة مريم تنتعل حذاءها الجلدي الأسود، كعبه مربع سميك يدق الأسفلت، القدم وراء القدم، ترن الدقات في سكون الليل عالية حادة. انتفضت القطة الأم لسماع الصوت، ضمت صغارها الستة إليها، اشتعلت الخضرة في عينيها بنار متقدة، كشفت عن أنيابها تتأهب للدفاع عن مولوداتها الست. كانت القطط الشاردة في الليل مثل أطفال الشوارع تخوض معارك كثيرة ضد الكلاب الشاردة والعصابات من قطاع الطرق؛ لصوص وتجار مخدرات، وشباب بلا عمل ولا أمل، وفلاحون هاجروا من الأرض البور والفقر، وعمال طردتهم المصانع المفلسة، وبنات الليل لم يبق لهن إلا الجسد يباع في السوق، وزوجات أصبحن في الشارع بعد أن نطق الزوج كلمة «طالق» ثلاث مرات.
تميزت زينة بنت زينات بين بنات الشوارع؛ لا يمكن أحدا أن يغتصبها وإن غابت في النوم. أصابعها الطويلة النحيفة المدنية مثل المسامير تغرزها في أي عنق، تشق أسنانها القوية الحادة مثل السكاكين أي جزء من الجسم، تخرج أنيابها قابضة على قطعة من اللحم.
في النهار تجلس بين البنات على الدكك الخشبية، أو على سور النيل الحجري أو الحديدي، تقرأ عليهن أغنية كتبتها في الحلم، حفظتها عن ظهر قلب في النوم. مع اللحن والموسيقى تدق بأطراف أصابعها على الدكة الخشبية، أو حديد السور أو قطعة الحجر، أو الأرض الأسفلت. أصابعها قوية صلبة العظام، أصابع حديدية لا تلين، داست فوق الصخر وهضمت الزلط، تدق اللحن مع الإيقاع، تغني معها البنات. يرقصن معها داخل جلاليبهن الممزقة، يضربن الأرض بأقدامهن الطفولية المشققة، تنقشع السحابة من عيونهن السوداء أو الزرقاء أو الخضراء بلون الزرع مثل عيون القطط الصغيرة تحوطها الأم. كانت زينة بنت زينات تحوطهن كالأم، تكبرهن بعام أو عامين، تبدو كأنما أكبر منهن بمائة عام، كأنما لم تولد طفلة نضجت داخل الرحم. خرجت إلى العالم فتاة طويلة القامة، قوية الشكيمة، إن سدد إليها العالم ضربة سددت إليه ضربات، لكن الطفلة في أعماقها ظلت تعيش وتغني حتى آخر الرمق، تحت ضلوعها يخفق قلبها كالأطفال حين يأتي الصبح، حين تبتسم في وجهها أبلة مريم أو واحدة من البنات في الشارع أو في المدرسة، أو على خشبة المسرح.
لم يكن لها صديقة في المدرسة إلا مجيدة الخرتيتي، تدعوها أحيانا إلى بيتها الكبير في جاردن سيتي، تلعبان معا في الحديقة الواسعة حول البيت، تعزفان معا على البيانو في بهو الصالة الكبير. أصابع مجيدة ممتلئة باللحم، عظامها رقيقة، حركتها بطيئة، قامتها قصيرة مثل قامة أبيها زكريا الخرتيتي، تتأرجح وهي تمشي كالبطة مثل أمها.
كانت هناك غرفة كبيرة من الطوب الأحمر في الحديقة الخلفية، تنمو فوق جدرانها حتى السطح شجيرات البوجانفيليا الجهنمية البنفسجية والبيضاء والصفراء والحمراء بلون دم الغزال. جدران الغرفة من الداخل مغطاة حتى السقف برفوف الكتب. في الركن مكتب كبير بجوار النافذة، فوق المكتب لمبة كهرباء كبيرة وأوراق كثيرة متراكمة، قصاصات صحف ومجلات، مقالات مكتوبة بخط يد زكريا الخرتيتي. كان يأتي إلى هذه الغرفة أحيانا ينشد الهدوء حين يرغب في الابتعاد عن البيت أو عن زوجته بدور، وصديقاتها ذوات الصوت العالي الحاد خاصة صديقة عمرها صفاء الظبي، لا تكاد تفارقها في الجامعة أو في البيت. تقرأ عليها مقالها في النقد الأدبي قبل أن تنشره، تتناقشان الساعة وراء الساعة، حتى يأتي الليل، تحمل صفاء حقيبتها وتخرج، تناديها بدور قبل أن تخرج: يا صافي، نسيت أقولك ... - إيه يا بدور؟
تقفان فوق السلالم الرخامية تتحدثان، تنطلق ضحكاتهما من حين إلى حين. يتعرف زكريا الخرتيتي على ضحكة زوجته من آلاف الضحكات، ضحكة ناعمة ممطوطة تنتهي بشهيق متقطع يشبه النشيج المكبوت. لم يكن يطيق سماع هذه الضحكة، يصفعها على وجهها في الفراش لتكف عن الضحك. إن بكت يرفع يده ويصفعها. بكاؤها مثل ضحكتها حين يرقد فوقها، لا ترفع يدها لترد له الصفعة، تطرق برأسها. تكتم البكاء أو الضحك، تكتم الرغبة في أن ترفع يدها عاليا وتنهال فوق وجهه ضربا وصفعا، أن تعبر له عن رأيها فيه منذ سمعته يقول لها: أحبك. تنفرج شفتاها عن الكلمات المكبوتة في أحشائها، يخرج من بينهما هواء ساخن دون صوت.
لم يصفعها زوجها إلا بعد موت أبيها، لم يتزوجها إلا لأنها ابنة الأستاذ الكبير الدامهيري، يرى صورته منشورة في الصحف مع كبار رجالات الدولة على شاشة التلفزيون يتألق مثل النجوم، يركب سيارة سوداء كبيرة يسوقها رجل أسود البشرة يرتدي ملابس الجنود، يسكن الفيلا الكبيرة المطلة على النيل، له مكتب فخم تغطي جدرانه رفوف الكتب في الأدب والفن والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين، يمكنه بجرة قلم أن يحول صحفيا ناشئا مغمورا إلى كاتب كبير أو رئيس تحرير.
في الحديقة الواسعة حول البيت كانت «مجيدة» تلعب المساكة مع «زينة بنت زينات». تختبئ مجيدة وراء شجرة أو داخل الكاراج تحت السيارة، أو في المخزن بجوار الكاراج بين الصناديق الكبيرة من الخشب أو من الورق المقوى الكرتون، تخزن فيها أمها الكتب والروايات التي تأتيها بالبريد. لا تفتح أمها هذه الروايات، تلقي بها فوق الأرض إلى جوار مكتبها مع الصحف والمجلات التي قرأتها. تأتي «دادا» تنظف الغرفة، تحمل الكتب والروايات بما فوقها من أسماء وعناوين وأختام البريد، تحملها داخل كيس كبير من البلاستيك الأسود، تمشي بها عبر البهو الكبير، تهبط السلالم الرخامية إلى الحديقة، تجتاز الممرات الحجرية بين أحواض الزهور والورود، تصل إلى الممر الطويل بين السور الحديدي والأشجار. تدور حول البيت مع الممر حتي الحديقة الخلفية، قد تتوقف لحظة لتلتقط أنفاسها؛ أو لتختلس نظرة داخل غرفة البيه الكبير كما كانت تسميه، تلمحه من خلال النافذة الزجاجية، جالسا وراء مكتبه يقرأ تحت ضوء اللمبة الكهربائية أو يكتب عموده اليومي، أو يحملق في الفراغ عيناه إلى أعلى، كأنما ينتظر الوحي من السماء.
صفحه نامشخص