زیتونه و سندیانه
الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
ژانرها
في فيتنام يتصاعد الدخان من الأدغال،
في فيتنام تحترق غصون الأشجار،
والجلد الناعم والشفاه.
ومن الواضح أن هذه القصيدة تحرض غير المكترثين على أن يكترثوا بما يدور حولهم، وتدعو البرجوازي الصغير - الذي اعتاد في كل مكان ألا يبالي بشيء يخرج عن حدود جسده ومصالحه - تدعوه لأن يهتم بما يرتكب في العالم من مظالم، لن ينجيه الجمود واللامبالاة من الاحتراق بنارها بعد أجل قريب أو بعيد. والعجيب والجدير أيضا بالذكر أن هذه القصيدة تحولت في ذلك الحين إلى شعار رفعه المحتجون على حرب فيتنام في مظاهراتهم الحاشدة، بل برزت أبياتها على لافتة علقت داخل المحطة الرئيسية للسكة الحديدية في مدينة ليبزيج، كما قام بتلحينها أحد كبار الموسيقيين (يواخيم فير تسلاو)، وظهرت نوتتها الموسيقية في كتاب صدر في نفس المدينة سنة 1968م. ومع أن الاتجاه لإدماج الأحداث السياسية الهامة وتضمينها في نسيج الشعر كان اتجاها شبه عام بين الشعراء عندنا وعندهم في تلك الفترة، فلا بد من القول بأن ذلك كان أمرا طبيعيا بالنسبة للشاعر الذي اشتعل كيانه بالمبادئ الاشتراكية، والذي ذاق مرارة تجربة المنفى والجوع والاضطهاد، ولم يقف أبدا لا في شعره، ولا في نثره، موقف المتفرج من القضايا والأحداث والمحن التي ألمت ببلاده العربية، مثل: مجزرة صابرا وشاتيلا، وحرب الخليج، وانتفاضة أطفال الحجارة. (ب) مع ذلك، فبالرغم من كل الدعايات والمزاعم العالية الصوت باسم التضامن الإنساني والأخوة البشرية، ومساندة الشعوب النامية في مساعيها للتحرر والاستقلال، كانت تتحرك تحت هذا السطح الرسمي البراق - كالدود في العسل - ألوان مختلفة من اضطهاد الأجانب في ألمانيا الديمقراطية السابقة. يروي لنا الشاعر كيف شارك في مظاهرة كبرى باسم الشعب وصرخ مع الجموع: «نحن الشعب»، ومع ذلك اضطر أن يقول لنفسه أو أن يجد من يقول له: نحن؟ كيف تقول نحن؟ أنت بالذات مستبعد. فالأجنبي يبقى أجنبيا، حتى لو حاول بكل كيانه أن يحيا حياة المواطن في البلد الغريب، وما قيمة أن أقول للشاب الذي يصيح حتى يشق حنجرته: «اخرجوا أيها الأجانب»؟! ما قيمة أن أقول له: لقد عشت يا بني في هذه المدينة عمرا أطول من عمرك، وربما كنت أعرف أجدادك الألمان، مثل جوته، وهيني وكلايست، وهيجل، وباخ وغيرهم، خيرا من معرفتك بهم؟! سوف يظل يصرخ مصوبا نحوي رصاص كلماته: «اخرجوا أيها الأجانب!» وأحاول من جانبي أن ألتمس له الأعذار والمعاذير حتى لا أجن؛ لجهله، وصغر سنه، وقلة خبرته، ونزعته الإقليمية، ومعاناته من البطالة، وتعرضه للبث الإعلامي الذي ينفث سوء الظن بالآخرين. آه! وكم وصفوني، ونادوا علي بأسماء مختلفة: أنت يا حادي الجمال، يا تركي، يا ياباني، أو أنت أيها الأسود!
وكم تعرض أيضا لضغوط نفسية حادة كالتهديد بسحب إقامته، أو منعه من الدراسة والحصول على عمل، بحيث لم يشعر أبدا قبل إتمام الوحدة بين الشطرين السابقين، لا بالأمان ولا بضمان إقامته بصورة دائمة. أضف إلى ذلك أن الأجانب لم يكن يسمح لهم بتكوين تنظيمات أو اتحادات خاصة بهم، وأن البحث العلمي في الأدب المكتوب بأقلام الأجانب لم يكن قد بدأ بصورة جدية، ولا خصصت له جوائز معينة. وإذا كان قد حصل في فترة متأخرة نسبيا (في سنة 1986م) على جائزة الفن التي تمنحها مدينة ليبزيج لأديب أجنبي يكتب بالألمانية؛ فإن ذلك دليل ناصع على تفرد إنتاجه وتميزه، واستحالة تجاهله إلى الأبد.
1 (ج) «كابية يا صاحبي، هي كل النظريات،
لكن شجرة الحياة الذهبية خضراء.»
ربما لم يشعر أحد بصدق هذه العبارة، التي جاءت على لسان الشيطان في فاوست الأولى، مثلما شعر بها شاعرنا المغترب الشاب، ولكي تخضر شجرة حياته وشعره الذهبية الخضراء في الأرض الغريبة، ويدخل في حوار مع الوجوه الثلجية العابسة، ويتعايش مع ملل الحياة اليومية وكآبتها، ويكظم في نفسه ذكريات طفولته الحلوة في الوطن البعيد الذي اضطهده واضطره للهرب منه، ويدخل متاهة اللغة والأدب والثقافة الجديدة عليه، ويتعرف على سراديبها المعتمة وأنفاقها العميقة، ويصمد في صراعه مع وحوشها الضارية، ويداري السلطة الغبية الغاشمة التي تنهمر من عليائها الأوامر والتعليمات، ولا ترضى بغير الخضوع والخنوع والطاعة العمياء، كان عليه أن يصبر ويصبر، ويقاوم ويتعلم، ويخطو كل يوم خطوة إلى الأمام، ثم ينتظر وينتظر؛ حتى تخضر شجرته الذهبية، وتمد ظلال الجسور بينه وبين الآخرين.
وحدثت معجزة الحب، فتحققت معها معجزة الشعر، وبدأت الشجرة تخضر، وما زالت تزدهر وتثمر. (د) لنصحب الشاعر الشاب خطوات على درب حياته اليومية الجديدة ونستمع - من خلال بعض قصائده - إلى نبض لحظاتها الأولى كما يسجلها في مناجاته لذاته. إنه يحس في هذه المرحلة بأنه بلا جذور ولا بيت. هو أنى ذهب غريب لا بيت له، وحيثما سار لا يجد الأرض التي يغرس فيها جذوره. سيقول بعد ذلك بوقت طويل في آخر دواوينه (هكذا تكلم عبد الله): «إن من لا يغرس جذرا لا يؤسس لنفسه وطنا، ومن لا وطن له في وطن ما لا جذر له، ومن فقد الجذر فقد الثمرة، ومن فقد الثمرة فقد الجذر.» لكنه الآن وحيد، من خلفه البحر ومن أمامه الهاوية، لا عجب إذن أن يقول لنفسه: أرقص على حبل بين جحيم وجحيم. والجحيم تصنعه لحظات حياته اليومية ومفرداتها المتكررة؛ الريح الثلجية للبسمات التي تستقر كالسكاكين في عظامه، عريه المعروض على الأنظار في الواجهات الزجاجية لأولئك الذين يطعمونه، عواصف القلق التي تنفذ في مسامه، فيرتجف ويتجمد حتى الموت، ويصرخ في طلب الدفء وفي انتظار مطر الحوار الذي يدق نوافذ الآمال الذابلة ويمد - بقوته الناعمة - الجسور التي تصل بين الشفاه والآذان.
2
صفحه نامشخص