إهداء
الشعر والنقد
مقدمة الناشر للطبعة الأولى
إلى المغني
الطيب والزهر
نظرة
عرس المأتم
يا قلب!
لفتات الغريب
زينب
شمس نيسان
الحلم الصادق
كأس شمبان
ذكرى الحب الأول
خصلة شعر
إلى ملك نامم
وداع الشباب
عبرة الشباب
مذهبي في الجمال
الصورة المعبودة
تناقض الحب
نقد وملاحظات
الكروان الرسول
الجزاء العادل
يا إلهي!1
عمر الحب
طفولة الحب1
تولد الغناء والشعر
إهداء
الشعر والنقد
مقدمة الناشر للطبعة الأولى
إلى المغني
الطيب والزهر
نظرة
عرس المأتم
يا قلب!
لفتات الغريب
زينب
شمس نيسان
الحلم الصادق
كأس شمبان
ذكرى الحب الأول
خصلة شعر
إلى ملك نامم
وداع الشباب
عبرة الشباب
مذهبي في الجمال
الصورة المعبودة
تناقض الحب
نقد وملاحظات
الكروان الرسول
الجزاء العادل
يا إلهي!1
عمر الحب
طفولة الحب1
تولد الغناء والشعر
زينب
زينب
نفحات من شعر الغناء
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
جمع
حسن صالح الجداوي
إهداء
إلى الجمال الذي من نفح عزته
رشفت حلو لذاذاتي وأشجاني
أهدي بنات الحجا (برا بمبدعها
وكنز ديوانه الوضاء): ديواني
أحمد زكي أبو شادي
الشعر والنقد
رأي العلامة ابن قتيبة
رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده، إلا أنه قيل في زمانه ورأى قائله، ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده، وجعل كل قديم منهم حديثا في عصره، وكل شريف خارجيا في أوله.
عن كتاب الشعر والشعراء
مقدمة الناشر للطبعة الأولى
يؤثر عن جوبرت
Joubert
قوله: «يجب أن يفتن الغناء» وفتنة الغناء على ما أعتقد ليست ربيبة العذوبة الصوتية فقط، بل هي وليدة الروحانية التي تهز المغني أيضا، والغناء قرين الشعر فن جميل، فإذا صدق الزهاوي في رأيه:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس حريا أن يقال له شعر
فمثله صادقا من يعتبر الغناء في حكم الضوضاء المهذبة، إذا تجرد من العاصفة القوية المؤثرة، وعلى هذا فليس كل منظوم صالحا لأن يعد من شعر الغناء، وما صلح منه لذلك كان جديرا بأن يحب ويستظهر، فهو سلوة الحزين، وأنس البائس، وراحة العاني، ونديم الأرواح.
تأملت نشأة أو مقر رجال النهضة الشعرية بمصر في القرن الحاضر، فرأيت لبعض المدن حظا كثيرا وأكثرها عديم الحظ، وأظهر الأمثال حظ القاهرة بشوقي ومطران وحافظ والعقاد، وطنطا بالرافعي. فيحق لنا معشر السويسيين أن نهنئ أنفسنا والأدب بإقامة مثل الدكتور أبي شادي بيننا، عرفته منذ سنوات بآثاره: آثار طفولته الأدبية التي لم تخل مع ذلك من نفسية عالية، ثم ببدائعه في كبريات الصحف والمجلات، وبما تفضل به أخيرا على جريدتي «السويس الناهضة»، فشاقتني قصائده الطلية على تنوع موضوعاتها، وإنما أسفت لأنه قليل العناية بآثاره الأدبية، ولا سيما شعره الغنائي الذي لا أشك في أنه نظمه وينظمه سلوى فؤاده وحده، فتبعثرت هذه النفحات الزكية تبعثر الرياحين، وتعرضت للنهب والضياع. فدفعني هذا الشعور والأسف إلى استئذانه في جمع وطبع شيء من هذه النخب الجميلة لشعر صباه، راجيا أن أوفق في الطبعة الثانية إلى الاستزادة منه خدمة للأدب، فحرام أن تضيع أمثال هذه اللآلئ السنية المتساقطة من فم قائلها الشجي المترنم، وهو الذي وصفه نادرة العصر في النظم والنثر خليل بك مطران بقوله:
ضن به الدهر وما
أضنه بمثله
بعالم كعلمه
له اتساع عقله
ومخلص إخلاصه
في نقده ونقله
ومبرئ للروح قب
ل الجسم في معتله
وقاطف أعذب شهد
من خلايا نحله
ومبدع لبعض ما
أبدعه لا كله
وثابت في أيسر
الأمر وفي أجله
ونائر يروض صع
ب القول روض سهله
وشاعر رقيقه
ذو روعة كجزله
ولقد أصبحت مهمة الناشر العصري البحث عن كنوز الأدب المستورة، واقتناص الفرائد المنثورة، لا القنوع بالنقد والطبع وحدهما، فكم من أديب لا يحفل بالتقدم إلى الناشرين ببدائع إلهامه، قانعا بما فيها من السلوى له وحده، فلا يلبث الزمن أن يودي بها، ويخسر الأدب والإنسانية جمالها. وإني لسعيد بتوفقي إلى إذاعة هذه النغمات والمعاني الشائقة التي اخترت عنوانها الأول أحب اسم للشاعر تردد فيها . وأملي أن تساعدني الظروف على اتباع هذه الحسنة بحسنات أخرى في أبواب جديدة لشاعر السويس الناهضة، فالعصر عصر عمل وزكاة لكل ذي علم وأدب، ومن أغفل هذا الواجب على قدرة منه أغفله الجمهور، وتبرأ من جموده العلم والأدب، فإلى أديبنا العالم الفنان أقدم شكر الأدب ورجاءه معا، وأردد قول الشاعر الثائر الكبير الأستاذ محمد صادق عنبر في مخاطبته:
يا حكيم اليراع (مصر) ترجي
ك فطوع لها اليراع الحكيما
وكن اليوم في الشباب كما كن
ت لها في الصبا وليا حميما
تنفض الليل فوق طرسك نورا
وتحيل النهار مسعى جسيما
مرسلا للنثير درا نثيرا
مرسلا للنظيم درا نظيما
ولكم موقف وقفت (لمصر)
معليا مجدها العريق الصميما
ناشط الكاهلين تحمل مما
حملتك العلياء أمرا عظيما
يا (زكيا) عهدي به كلما أع
وز (مصرا) بر أبر رحيما
وهي تدعو الكفاة من مثلك اليو
م فلب الدعاء حرا عليما
حسن صالح الجداوي
السويس في 12 نوفمبر سنة 1924
شعر الغناء
بقلم أحمد محمد مظهر
شرفني صديقي الأستاذ حسن أفندي صالح الجداوي الغيور على حرمة الأدب بكلمة نقدية، دعاني إلى كتابتها ليضمها إلى مجموعة الأدب الثمين التي ينشرها اليوم بعنوان «زينب: نفحات من شعر الغناء»، فتلبية لدعوته الصادقة أكتب هذه الكلمة، وإن كانت غير ما يرتقب، فقد ذهب بروحي النقدية إعجابي بما تذوقته من حلو نخبه المسكرة المشجية معا، وما لمحته فيها من القابلية العظمى لضروب من التوقيع، كأنما ناظمها موسيقي قبل أن يكون شاعرا، ولا عجب فكل بيت بل كل لفظ فيها يشعرك بشرف العاطفة، ودقة المعنى، وسلامة الذوق، وعمق الحس الصافي، وخفة الروح الكريمة، وحب الفن، وهذه صفات حرية بأن تخلق النور من الظلام، والماس من الفحم، والجنة من النار. ولو كان شاعرنا قد تحمل عذابا أكثر في سبيل عواطفه؛ لكان في اعتقادي ربح الأدب والفن أجزل، فإن حسناته التي نترنم بها الآن بشوق وإعجاب، إن هي إلا بنات الألم والجزع والحزن العميق.
تسألني عن شعر الغناء، ولن أجيبك جوابا فلسفيا طويلا، أو فنيا متعبا ، وإنما أكتفي بتعريف شعر الغناء بشعر السلاسة المتدفقة، والمعنى الجذاب، والعاطفة الرنانة، والذوق الموسيقي، والغالب أن مثل هذا الشعر لا يقوله ناظمه نفسه إلا متغنيا، فهو في أصله وليد الموسيقى، ولقد تدلى شعر الغناء في مصر لعوامل كثيرة، فمما يغتبط له رجال الفن أسوة برجال الأدب أن تظهر روح التجديد والعبقرية في سمائه، فالفن مظهر من مظاهر الثقافة في الأمة، ونهضتنا القومية الاستقلالية جديرة بأن تتسرب لجميع ظواهر حياتنا.
تلوت ثم تلوت وغنيت الكثير من الأشعار الحية التي تضمنتها هذه النفحات، فلم تفتني ملاحظة تهذيبها وأدبها العالي الذي لن تخجل منه الفتاة العذراء في خدرها، ولم تفتني دقة التصور التي تغار منها ريشة الرسام الماهر، ولا المعاني الوثابة، ولا الحنين الذي يرف له الجماد، ولا كياسة التعبير وشرف المرمى، ولا سلامة الذوق في اختيار الألفاظ بحيث لا تستطيع أن تجد لفظا أو حرفا في غير محله، سواء بالنسبة للجمال الشعري أو للقابلية الفنية، فلم أتردد في اعترافي قريرا: هكذا يكون شعر الغناء!
إلى المغني
شنفت أرواحا لصوتك آمنت
بالوحي والإيقاع والإبداع
وحكمت بالعود المرنح مثلنا
في دولة الألباب والأسماع
فلك الثناء من العواطف والنهى
في الأسر بين تعانق ونزاع
وليحي فمك خير ذكرى ليلة
أهدت إلى الإيناس أكرم داع
الطيب والزهر
كتابك العذب يا روحي وريحاني
وفا فحيا غرامي حين حياني
وناشد الشعر من قلبي فهاك هوى
يا قبلة الشعر يا شمسي وديواني
رحلت عنك رحيل الطيب عن زهر
يودي به البعد لولا حبك الداني
فكنت كالزهر برا والنسيم رضى
وكنت كالشمس في حسن وإحسان
أهلا بمكتوبك البسام ينعشني
وفيض نورك إسعادا لإنساني
في كل لفظ معاني الأنس ضاحكة
وكل معنى دليل الصبر للعاني
أهلا به من أمين حامل قبلا
في أحرف النور من معبودي الساني
لثمته في تقى أضعاف ما لثمت
حروفه من فؤادي (زين) إيماني
وصنته والأبر الجم من ورعي
في مكمن الخلد من نفسي ووجداني
الله يرعاك لي يا مهجتي فدعي
خوف الفراق وكوني عند حسباني
نظرة
أخذت تلقنني الغرام بنظرة
عتبت كان أسيرها القلب الخلي
فجعلت أسألها الأمان وأتقي
من لحظها ما أتقي لمؤملي
ما بين فتنتها وبلسم حسنها
أنا قسمة لمعزز ومذلل
يا (زين) ما في النفس إلا حرقة
تبقى كسابقة الشعور الأول
أحببتك الحب الصحيح وإنني
باق على الإيفاء والشرف العلي
يتطلع الصب المشوق لقبلة
ولو انه نال المنى لم يفعل
صبرا على التقوى وإن ذهب الهدى
بجلالة الماضي وأنس المقبل
عرس المأتم
عذبة أنت في الخفاء وفي الجه
ر وفي الهجر يا أغاني الظلام
بلغي العاشق الأمين على العم
ر شقاء لقلبه المستهام
وأرقأي أدمعي فحسبي عزاء
أن يسر الحبيب من إيلامي!
ويزف الجمال جنة قلبي
ضاحكا من فؤادي المترامي!
زاعما أنني به غير أهل
وكذا يرتضي أميري خصامي
يا حياتي! ويا منارة لبي!
كيف أنسيت أشوق الأحلام
كيف أنسيت يا غرامي ولوعي
هازئا من تقلب الأيام؟
ألثم النور في دعاب إذا ما
أقبل الفجر من رسول الغرام
وإخال الأزهار في روض بيتي
تتسامى لحسنك البسام
ويجيء الأصيل ينشر تبرا
هو للشعر من نبالك رامي
ويجيء المساء بالوحي صدقا
من أغاريد فتنتي في منامي
كيف أنسيت يا ربيبة عمري
كيف أنسيت في غرور هيامي
هل قضى الحب من غذاء لروحي
غير مرآك أو أبى لي مدامي؟
إيه يا (زين) آفل من شبابي
إيه يا نجم قاتل من ظلامي
افرحي العمر واسعدي دون قربي
واذكري في الغداة معنى أوامي
وأنا المذنب الغفور وحسبي
دمعة منك سوف تروي عظامي!
يا قلب!
ثق بالحياة ولا تخفق على عجل
يا كاره العيش من حب ومن وجل
أنفقت فيك دموعا كم بررت بها
هل بعد عهد النوى تدني له أجلي
ثق يا حليف الهوى بالحب أين مضى
وعش له في خفوق الرفق والغزل
مسبحا باسمه المعسول ملتمسا
من نقمة الهجر فرض البر والأمل
كذا يضحي الوفي الأنس مغتبطا
ويطلب الصفو في الآلام لا الجذل
لولا العذاب ولولا البر ما عرفت
جلالة الحسن فيك النبل من بطل
ثق يا فؤادي ولا تصدعك نائبة
فالفوز للصبر لا للهم والزلل
ثق يا وفيا تغنى شعره طربا
بذكرها، فغدا يبكي ولم يزل
في كل دقة لحن منك عاصفة
وكل خفق لك القتال من زجل!
يدوي دويا بك الغالي دم عرفت
به الصبابة لون الحب لا الخجل
كأنما الوحي لا سلك ولا سبب
من لحظها العمر يزجيه بلا ملل
ترف كالطير مذبوحا وفي قفص
أو كالرضيع هفا شوقا إلى قبل!
لفتات الغريب
ألا في سبيل الحب والأمل الغالي
عذابي عذاب النفي في الجبل الخالي
شريدا وحيدا للطبيعة موئلي
أكفكف دمعي في أشعة آصال
وأندب عمري قد تولى أعزه
ولم يبق غير الذكر والمثل العالي
كأني لما لاقيت من فرط شقوتي
خلقت لأعطي الدهر حكمة أجيال
جزيت على طهري بتغريب مهجتي
وأوذيت من أجل الوفاء ومن آلي
فبنت صبيا في رجولة ناقم
على الدين والدنيا على الشرف البالي
يحن إلي البحر يخفق ماؤه
ويحملني رفقا إلى الحرم العالي
إلى دولة في أرضها العلم نابت
إلى أمة من خلقها كل إجلال
إلى الوطن المحيي الموات فلم يصب
شفائي من داء بقلبي قتال
أأحرم من شمسي وأحسب هانئا
وحولي ضباب العيش لا الأمل الحالي
فيا عصبة شاءت فنائي وأسرفت
ستحيا على رغم الدسائس أفضالي
ويذكرني قومي ويعرفني الهوى
فتنقم لي العلياء والزمن التالي
عرفتم لصوص الحب والحب لم يكن
غفورا، وكم تشجيه نكبة أمثالي
ويا شمس جنات النعيم لخاطري
حجبت ولكن ما سناك لإغفال
سلوت فؤادي في غرامك طائعا
وما كان عبد في غرامك بالسالي
سأحيا وأفنى فيك أصدق عاشق
أصاب به الزلزال قدوة أبطال
وقد تنصف الأيام نفسي وهمتي
فأدفن أحزاني وأطرح أثقالي
وألثم ثغرا ساغ لي منه بخله
كلثم البخيل الدر في كف لآل!
زينب
زينب! ما أحلى الخفوق الذي
لا يرحم القلب لدى قربك!
زينب! يا روحي وريحانتي
ما شئت ما شئت هوى صبك!
زينب! يا شمسي ويا بهجتي
كوني كعهد الشمس في حبك
أغليت أشواقي ضنينا بها
من أجلك فابقي على قلبك
كوني السنى والهدى والمنى
للعاثر الراني إلى طبك
كوني أيا ملكي غاية
للطهر تدنيني إلى ربك
بالله يا نعمى غرام الصبا
لا تسرفي حزنا على ذنبك
حسي ووجداني وكلي الفدا
للأكمل الأجمل من دأبك
إن عشت لم تنسخ صلاتي النوى
أو مت ناجاني هوى تربك!
شمس نيسان
يا شمس نيسان في برج لها ثان
متى الوصال وقلبي عرشك الساني؟
متى تنعم أوطان مروعة
حسي ونفسي وإلهامي وسلواني؟
هيهات تنزل دون الشمس منزلها
من نلن نائلها أحراس إيوان
متى تحين أمان منك شائقة
فيحمد الظلم والإنصاف في آن
لا ترحميني إذا ما خلتني فلكا
يخشى عليه فإن البعد حسباني
الشمس تجتذب الأجرام قاتلة
ورب قتل بقرب منك أحياني
الله في عاشق شب الغرام به
وحظه بل نيران بنيران
إذا الشموس تجنت لم تضع أملا
بل زادها ثملا من قسوة عان
أقسى أذاها عناق لا فراق له
يذوب فيه فيحيا الخالد الفاني
ردي حنانك إني لم أصر بشرا
من الهباء سوى من هجرك الجاني!
لا تتركيه بلا جذب ولا سبب
إلى اللقاء فأحلى الوصل روحاني
سلي خيالك يخطر في المنام له
وسره صفو حرمان وإحسان
إذا تجلى تهادى اللطف في ملك
وعانق الليل شكرا خاطر هان
سليه يبسم بآمال يقبلها
فم المعذب يا آمال نيسان!
سليه يخلع عذار الدل عن خفر
فذاك أولى بمعبودي وإيماني!
سليه يسفر فينشر خمرة كرمت
نورا وعطرا ووحيا منه سكران!
سليه ينطق بأنغام يرتلها
شعري كأن بها إعجاز قرآن!
سليه ينزع ثياب الكون ليس له
إلا سطوع سنى لا ستر جثمان!
سليه ينصف فؤادي في عبادته
فدينه دين نشوان وظمآن!
لا تستقيم فروض من تنسكه
إلا على قبلات بين ألحان!
ومشتهى نظرات غير عاثرة
كأنه جارئا عباد أوثان!
وإنما أنا أخشى حكمة وهوى
أن لا يفيك خيال سجدة الراني
فحبذا أنت عن بر وعن ثقة
سفيرة الطيف يا روحي وريحاني
كوني لمثلي الذي يرضاه مثلك لي
أكن لك المثل الأعلى بعرفاني
واغتدي ملكا يرعاك مشتركا
في الخلد يمرح منا فيه روحان
فإن قبلت فما أبقيت من نعم
وإن عصيت فقد أفنيت وجداني!
الحلم الصادق
هات لي العود وغني
واسمعي شجوي وأني
تطرحي الأحزان عني
فاؤدي صلواتي! •••
قالت الحسناء سمعا
يا حياتي هاك طوعا
من سلاف الحب نوعا
يا حياتي! يا حياتي! •••
ثم غنتني اعتذارا
رنحت منه الهزارا
وأحبتني جهارا
يا له من حب عات! •••
ترسل الصوت شجيا
يملأ القلب دويا
ليته عاش خليا
ليته الباقي لآت! •••
ثم كفت عن عذابي
بأغاريد الشباب
وتمادت في دعابي
باللحاظ الفاتنات •••
وبحلو الشعر عطفا
وجمال الشهد قطفا
لست إن حاولت وصفا
بالغا أحلى الصفات •••
إيه يا يوم تقضى
في نعيم كيف ترضى
لفؤادي العود أرضا
كيف ترضى لي مماتي؟ •••
قال برا بي رحيما
لست من يحيا سقيما
بعد عهدي الحر فيما
ذقته من حسناتي •••
وأتى الليل الموافي
بين أحلامي بشاف
من حبيبي واعترافي
سره سر الحياة! •••
ودنا الفجر بفجر
من ولوع هد صبري
وحبيب ذاق ثغري
فأتى وهو المؤاتي •••
إيه يا (زين) شبابي
يا منى قلبي المذاب
يا مدامي يا شرابي
هات من كاسك هات!
كأس شمبان
حياتي هات الراح من ثغرك الضاحي
وخصي بها الأزهار أجمل أقداح
ولا تكتفي باللثم يا نفح زهرة
لقلبي فما تغني السلاف عن الصاح
ولا تستعيضي عن سناك بخمرة
فما يسكر الأرواح مسكر أشباح
سوى خمرة وضاءة إن نفحتها
بسحرك شاقت قبل عاشقها اللاحي
أشيري إلى (الشمبان) ترقص صبابة
وتنثر سني الدر هزة مسماح
غيور نفور صاعد هابط معا
على وهج الإصباح أكرم سباح
من اللهب البسام يروي مذابه
غرامي ويطفي من شجوني وأتراحي
يكرمها التفاح تكريم عاشق
فتهدى إلى الأرواح قبلة تفاح!
ولو كانت الأرواح سكرى بغيرها
لا نعشها شوق إلى هذه الراح!
ذكرى الحب الأول
سلام لقاء بعد فرقة أعوام
وقبلة شوق من فؤاد الفتى الظامي
تقلبت الدنيا بحرب وثورة
وما زلت سلطانا عليه بأحكام
فيا منبع الوحي الذي ذقت حلوه
صبيا، حفظت الدهر مطلع إلهامي
أخاف على نفسي اللقاء كعابد
يخاف دنو الفجر والمشرق الدامي
فحسبي من الأيام وجدي ولوعتي
صلاتي حزين العمر توجع أنغامي
رحلت رحيل الورد قبل أوانه
إلى المغرب القاصي ضحية أسقامي
وملئي من الحب الزكي سلافة
تبث من الآلام أعذب آلامي
فكنت على الذكرى شجيا وهائبا
كلاثم أزهار وراصد أجرام
إذا خفق الرطب النسيم حسبته
رسول الهوى الباكي الغفور لآثامي
وإن خطرت من شمس (مصر) رسالة
قرأت ثناياها بقية إسلامي
وما شمت أنسا لم تكن أنت روحه
خيال للطف من جمالك بسام
وما اكتأبت نفسي لغير اتهامها
بهجرك، والمهجور عبد لأوهام
فيا (زين) أحلامي ويا مهد نعمتي
أأنساك والنعمى رهينة أحلامي؟
وسيان جدت اليوم عفوا وتوبة
أو ازددت تيها عد شاهد إجرامي
فمنك عرفت الشعر والحسن والهوى
ومن حقك الباقي الجلال وإعظامي
أعيش كعيش النحل نفعا لغيره
وأعشق شهدا أنت مظهره السامي!
خصلة شعر
خلوت إلى مهجتي في الظلام
أخفف من حظها العابس
فقالت: حرام، حرام، حرام!
فما الأنس في البين عن مؤنسي
وهل طاب للعاشقين المدام
إذا احتجبت (زينة) المجلس
فبالله دعني لدمعي الحزين
فقد شاء ربي لمثلي الأنين
وكن راحما، إن لومي عذاب!
وحاولت جهدي بغير انتفاع
أعلمها حكمة الصابر
فقالت - وما قولها ما يذاع -
من العذر ما لم يزل آسري
كأن الوفاء لها الامتناع
عن الصفو في الأمس والحاضر
إلى أن يحين اللقاء الضنين
إلى أن يعود الغرام الدفين
إلى البعث من برها المستطاب!
وما هو إلا خفوق الفؤاد
على الذكر في ساعة من زمن
وفي الأفق خلف الربى والوهاد
أتى البدر في صفرة من وهن
يروع بمطلعه في حداد
ويسلي الشجي إذا ما فتن
فراقبته والضياء الثمين
يفيض على الكون فيض الأمين
عزاء، ولكن لنفسي السراب!
وأسكرني حبها نائما
فلم أستفق قبل شمس الصباح
فقلت أيا مهجتي ظالما
أمانيه من خالها ما يباح
فما العيش إلا المنى دائما
وما الموت إلا الرضى لا الكفاح
فهل أكتفي من غرامي بدين
هو الوجد في باقيات السنين
وشعر الغناء لقلبي المذاب؟
فناولني حامل للبريد
كتابا يرف عليه الحنان
كأن به للفؤاد الشهيد
حياة تعيد إليه الأمان
فحنت له مهجتي من جديد
وكانت على يأسها في تفان
فقبلته قبلة من حنين
هو الحب من كل حسي الرهين
بما ألهمت من شعور مجاب!
وذقت به من معاني الجمال
شهيا من الحسن لا ينتهي
وألفيت من شعرها كاللآل
ومن شعرها خصلة تزدهي
بما بلغته وكان المحال
من الوصل للعاشق المشتهي
فيا ليت شعري أشعر الجبين
سيتبعه كالصباح المبين
شروقك، أم ذاك داجي السحاب؟
إلى ملك نامم
رثاء الحبيب الجاني
حجبت عوادي الدهر مبسمك الذي
أفديه لو يرضى الفداء رداك
وأفيه من جرحي وكل جوارحي
شكري إذا منع الثناء نواك
سيري إلى ملك الملوك وحدثي
عن علة الإشقاء والإهلاك
واستنصري القاضي الرحيم على الألى
قتلوك بين البغي والإشراك
الخاسرين الدين والدنيا معا
الآيبين بعهدها الأفاك
من كل من أولى به العدم الذي
يطويه حتى لا يعيش يراك
بالروح أم بمذاب آمال الصبا
أبكي الحنان الجم في ذكراك؟
حق المحبة لا يداس وإن جنى
دوما على النعمى وحظ الشاكي
لا خير في دنيا إذا صدقت شجت
حرا وهان بها عزيز سناك
تحيين أشجانا سأحييها غدا
وتقطعين ضمائر النساك
ولئن بقيت فأنت في شرك الردى
ما صنت في قلب الحزين هواك
أخشى عليك من الضلوع لهيبها
وأرى على بعد الجمال هلاكي
واليوم أقرئك الوفاء وفي غد
صب على مثواك جاث باك
إن لم يمت بحنينه المفني أسى
سيعيش في الدنيا بقلب ذاك
ومتى أثار الليل كامن دائه
فرأى الشفاء العذب في مثواك
لا تبخلي بالترب حولك ربما
أحياه أن يفنى بطيب ثراك!
وداع الشباب
أسفي على عهد الشباب المنقضي
بجلال نعمته وحق زفيري
ودعته وحرست آمال الهدى
فشقيت إلا من لقاء ضميري
ماض يكلله الفخار ومقبل
أرعاه بين وداده ونفوري
وأنا الشفيق على الجمال وإن قست
وجنت محبته إزاء مصيري
عبرة الشباب
الشباب والحماس والمحبة كأيام الربيع. فبدل الشكوى من قصر عمرها، حاول يا فؤادي أن تتمتع بها!
روكرت
Ruckert
مذهبي في الجمال
مذهبي في جلالة الحسن أن لا
يغتدي نعمة تحب لتفسد
أكثر الحسن ما يصان ليشقى
إنما الحسن ما يصان ليعبد
الصورة المعبودة
دعوني أقدس خيال الحبيب
ولا تنهروا من يناجي القمر
فكم قد سجدت لذات الجمال
فلما هجرت عبدت الصور
تناقض الحب
يولع الحب بالمتناقضات الوهمية، فهو أحزن ما يكون حينما لديه أقوى سبب للحبور، وزفراته سمات الفرح العميق، وصمته التعبير عن صبو الحنين.
بوفي
Bouvee
نقد وملاحظات
النهضة الفنية (بقلم الأستاذ المبدع عبد الفتاح فرحات)
ذكر الأستاذ الموسيقار المعروف كامل أفندي الخلعي في كتابه «الموسيقى الشرقي» أن الموسيقى «لم يعرف لها واضع، وكل من حدد واضعا لها، فقد أخطأه الجد وخدعه الباطل، ولم يدرك حقيقة العمران وأطوار بني الإنسان، فإن الإنسان في أي طور ظهر وأرض انتشر فالغناء حليفه، والشعر أليفه. أو ما تراك ترى الأمم الهمجية والقبائل الوحشية لها ألحان وأنغام تلائم طبعها وتناسب حالها؟ نعم إنها تختلف في الأمم اختلافا هائلا، وتتباين تباينا عظيما، ومنشأ هذا تفاوتهم في المدنية، ودرجاتهم في العلم والحضارة، فالذي ينظر مثلا إلى الزنجي في أفريقيا، والأديب في أوروبا، ويضع كل واحد منهما في كفة ميزان، يرى أن الأول كأنه بالنسبة إلى الآخر ليس من نوع الإنسان، بل هو من نوع آخر يشبهه في اعتدال القامة وتقاطيع العضلات، وكما أن الفرق تراه في شكلهما وعلمهما تراه كذلك بين لحنهما وغنائهما.»
وهذا أبلغ ما يقال في الإشادة بمحاسن الموسيقى الغربية، واعتراف لا بد منه إذا كانت لنا رغبة حقيقية في النهضة الفنية. وقد اقتبست هذه الملاحظات لأن القصائد والأغاني التي ازدان بها هذا الديوان ذات نزعة أوروبية في معناها، وإن لم يكن معظمها كذلك في مبناه. وقد يتوهم بعض الناس أن المعنى ثانوي بجانب المبنى في اختيار التوقيع المناسب، وهذا خطأ لا يقل عنه تصور بعضهم أن حسن الصوت هو كل شيء في الغناء.
قال الأستاذ ه. جيلز
H. Giles : «الموسيقى في مؤلفات أعاظم أساتذتها أكثر غرابة وأعظم غموضا في أسرارها عن الشعر.» فبديهي إذن أن الموسيقار العصري أكثر حاجة من سامعيه إلى معرفة وتقدير ما يغنيه تقديرا فنيا وافرا. وهذا ركن ثان من أركان نهضتنا الفنية المنشودة، فكثيرا ما أفسد الغناء جهل المغنين، وتقليدهم الأعمى عن غير إصابة، وعجزهم عن الاختراع.
وقد أصاب وأحسن الأستاذ الخلعي في عقده فصلا خاصا بكتابه السالف الذكر عن «صفة المغني الحاذق»، وفي عنايته بذكر فضل العلم والدراية في بلوغ الإتقان صناعة. ألم يقل الأستاذ الموسيقي الكبير بيتهوفن
Beethoven : «الموسيقى هي الوسيط بين الحياة الروحية والحياة الحسية»، وكيف يتسنى ذلك إذا لم تكن للموسيقار أولا المؤهلات الكافية ليكون حارس هذا الوسيط؟ لهذا أغتبط بالنزعة الحديثة لترقية الغناء والشعر والأدب جنبا لجنب، وأشكر الأستاذ الغيور حسن أفندي صالح الجداوي أجمل شكر على مساعدته لهذه النهضة الفنية، فإن هذه المجموعة على صغر حجمها من أنفس ما ازدانت به المكاتب من شعر الغناء، ورغم أنها فياضة بالمعاني الأوروبية الجذابة، فإنشاؤها عربي متين، ورقتها وعذوبتها مما يتهافت عليه طلاب الأدب، وعشاق الجمال الفكري، والشعر الوجداني المطرب. وأملي أن تنتشر أبياتها السنية العطرة في محافل الغناء بفضل عناية نابغات الفن ونابغيه، بدل الطقاطيق والأدوار والمواويل المألوفة، التي كثيرا ما آذى بعضها أسماع وأفهام الطبقة الراقية من الجمهور. ولا يسعني كذلك إلا شكر زميلي في تمجيد الأدب والفن الجداوي أفندي، لتذييله هذا الديوان الذهبي بناء على اقتراحي بقصيدتين للناظم من أبدع شعر الغناء، وكان الأولى به في نظري أن يضمهما إلى ما اختاره أولا، وأن أعتذر بضيق الفراغ، ولعله في الطبعة الثانية يتوفق إلى إضافات أخرى مما شاقني الاطلاع عليه وإن لم ينشر بعد.
ويحسن بي بعد ذلك أن أشير على سبيل المثل إلى شيء من البدائع الفنية في هذا الديوان؛ لأنها مصدر الحبور والإلهام للموسيقي الحاذق، وخصوصا لمن امتاز بعواطف حساسة، وشارك الناظم في عوارض حبه وشكواه.
خذ مثلا قصيدته «الطيب والزهر»، فهي من أبلغ قصائد الحب؛ لأنها على إيجازها جمعت الكثير من المعاني والتشابيه والأوصاف الفتانة وعمق الحس الكشاف. فما أبدع قوله:
رحلت عنك رحيل الطيب عن زهر
يودي به البعد لولا حبك الداني
فقد شبه محبوبته بالزهر، وشبه نفسه بالطيب الذي يندثر بطبيعة الحال كلما ابتعد عن مصدره، ولكنه استدرك على ذلك بقوله ما معناه أن حبها القريب منه يجدد هذا الطيب، وبعبارة أخرى يجدد حياته التي يودي بها لولا ذلك بعده عنها. وما أبرع دقته الخيالية في قوله:
في كل لفظ معاني الأنس ضاحكة
وكل معنى دليل الصبر للعاني
وقوله في الإشارة إلى مكتوب حبيبته وتكريمه بل تقديسه له:
وصنته والأبر الجم من ورعي
في مكمن الخلد من نفسي ووجداني
وقد أجاد تصوير نظرة المعشوقة غير القانعة بقوله:
أخذت تلقنني الغرام بنظرة
عتبت كأن أسيرها القلب الخلي
فجعلت أسألها الأمان وأتقي
من لحظها ما أتقي لمؤملي
ما بين فتنتها وبلسم حسنها
أنا قسمة لمعزز ومذلل
وقرأت متأثرا قصيدته المشجية «عرس المأتم»، وقد فهمت من أبياتها أنها نظمت على مسمع ضعيف من موسيقى العرس لحبيبته المغتصبة؛ وكأن كل بيت منها جزء من فؤاده المنفطر، وهي من شعر العواطف المتفجرة التي لا تقاوم، فله إذن مكانة خاصة في الغناء. وما أكرم شعوره وأسمى خياله الوثاب في قوله مخاطبا أنغام الموسيقى التي ربما كان الأولى به أن يشبه تأثيرها بتأثير حز المدى في قلبه:
وارقئي أدمعي فحسبي عزاء
أن يسر الحبيب من إيلامي!
ويزف الجمال جنة قلبي
ضاحكا من فؤادي المترامي!
ولعل الطبيب الأديب والعالم المطلع على الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) أول من يسجد سجودا لخيال ووصف شاعرنا الفنان في أبياته التالية من قصيدته: «يا قلب!»:
ثق يا وفيا تغنى شعره طربا
بذكرها، فغدا يبكي ولم يزل
في كل دقة لحن منك عاصفة
وكل خفق لك القتال من زجل
يدوي دويا بك الغالي دم عرفت
به الصبابة لون الحب لا الخجل
كأنما الوحي لا سلك ولا سبب
1
من لحظها العمر بزجيه بلا ملل
ترف كالطير مذبوحا وفي قفص
أو كالرضيع هفا شوقا إلى قبل
وما أروع كذلك قصيدته «لفتات الغريب»، ففيها من ألحان الحزن والألم ما يهز الجماد ، ويعجبني منها على الأخص قوله:
سأحيا وأفنى فيك أصدق عاشق
أصاب به الزلزال قدوة أبطال
وقد تنصف الأيام نفسي وهمتي
فأدفن أحزاني وأطرح أثقالي
وألثم ثغرا ساغ لي منه بخله
كلثم البخيل الدر في كف لآل!
ومن أجمل تكريمه للفضيلة - وهي ميزة بينة في كل شعره الغزلي حتى الخيالي منه - قوله مخاطبا حبيبته:
كوني السنى والهدى والمنى
للعاثر الراني إلى طبك
كوني أيا ملكي غاية
للطهر تدنيني إلى ربك
وهذان البيتان من قصيدته: «زينب!» ومطلعها غاية في الرقة ولطف الخيال حيث يقول:
زينب! ما أحلى الخفوق الذي
لا يرحم القلب لدى قربك
وفي قصيدته «شمس نيسان»، كما في قصيدته «ذكرى الحب الأول» تتجلى براعته التصويرية والصناعية في أسمى مظاهرها. وقد أعجبني كثيرا قوله:
ردي حنانك إني لم أصر بشرا
من الهباء سوى من هجرك الجاني!
وهو في رأيي أدق وأعذب وأبلغ من قول شوقي بك:
صوني جمالك عنا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني!
ويغلب على ظني أن قصيدته «الحلم الصادق»، وكذلك «خصلة شعر»، دع عنك «الكروان الرسول»، و«الجزاء العادل» وغيرها، ليست مما تطرب رجال المدرسة القديمة كما يسمون، ولكنها من أجمل الأمثلة الحية لشعر المستقبل، وأقول «شعر المستقبل»؛ لأني لا أنكر أنها تكاد تكون في إبداعها سابقة لزمانها.
هذه الجنة الفيحاء جديرة بأن تمتد ظلالها وأن ينعم بفاكهتها، ومتنوع محاسنها جميع عشاق الجمال من أبناء العربية، ومحبي فن الغناء، وأنصار الأدب الحديث.
الكروان الرسول
بالله يا كروان
تكفيك أشجاني!
بلغ حبيبي الآن
أني له الفاني
لم يبق غير الروح
في قلبي المجروح
من لي سواه أبوح
مهما تناساني؟ •••
بالله يا كروان
تكفيك أشجاني! •••
يا صاحبي الفنان
لا زال لي فنك
نجوى هوى وحنان
ما شابه منك
تستقبل الإلهام
من وجهه البسام
والشعر والأنغام
من فيض وجداني •••
بالله يا كروان
تكفيك أشجاني! •••
سائل أعز الناس
هل شاقه غيري
أو ناله الوسواس
والشك في أمري
سائل فإنصافي
يا صاحبي الوافي
منه، وإتلافي
في صمته الجاني •••
بالله يا كروان
تكفيك أشجاني!
قد مرت الأعوام
سكرى بآلامي
والقلب فيه ضرام
تذكى بأحلامي
ولوعتي بالبعاد
تذيب حتى الجماد
فكل عيشي نفاد
لولا الهوى الباني •••
بالله يا كروان
تكفيك أشجاني! •••
أنت الرسول الأمين
والشاهد العادل
لحرقتي والأنين
لا شاهد القاتل
أقصى حبيبي الوحيد
فعشت مثل الشريد
وصرت طيفا أبيد
في حب دياني •••
بالله يا كروان
تكفيك أشجاني! •••
بلغه يا كروان
أزكى تحياتي
وقل له في أمان
الحظ في الآتي
فالليل مهما يطول
هيهات أن لا يزول
والنجم بعد الأفول
للمشرق الساني •••
بالله يا كروان
تكفيك أشجاني!
الجزاء العادل
جزع الصب، وللحزن العميق
في سبيلك
لوعة الدنيا، فمن هذا يطيق
لمثيلك
غير ملك من ضياء وحبور
لا يضيع!
أكؤس الحب به شتى تدور
وتوزع ...
بين آلاف العقول الحائرات
في جمالك!
وأغاريد الطيور الشاعرات
بنوالك!
غير أن الأكؤس المثلى تصان
لوفيك!
عاش طول العمر في فرط الحنان
لسنيك ...
من صفاء الروح والحسن العزيز
يا حياتي!
والوفاء الجم والبر المجيز
لأناتي!
والجزاء السمح من بعد العذاب
في سنين
كلها كانت عظات أو حساب
لا يلين
فإذا بي الآن أسقى صفو خمرك
من رضابك
وأذوق الأنس أشهى المستطاب
في دعابك
وأضم الصدر للصدر الحزين
فيقيني ...
من هموم وشرور العاذلين
وجنوني!
ويباح اللثم لي من كل جسمك
يا غرامي!
آه ما أشهى منى لثمي ولثمك
لأوامي!
آه ما أحلى عناقي وعناقك
في وفاء!
مثل طفلين، وما أقسى فراقك
في إباء!
نذرف الدمع سخيا في ولوع
كاللآلي!
مظهر الأنداء من قبل الطلوع
والنوال!
حين يدنو الصبح والنور البهيج
مستعزا ...
بين إلهام من العشق يهيج
ويغذى ...
من سلاف الشمس في أقداح تبر
ولجين
بين أشجار وأزهار وسحر
رأي عين
آه يا (زينب) يا راح النفوس
يا فؤادي!
انهري الأشجان والهم العبوس
وسهادي!
فلقد أوشك أن يحيي الصباح
كل مائت!
ويعيد الدهر من بعد الكفاح
كل فائت!
يا إلهي!1
يا حياة الروح يا روح الحياه
يا إلهي!
كم يعاني الصب في ذكرى مناه
غير لاه!
غارقا في نار وجد لن تزول
وهموم وشجون لن تحول
قبل صوب الغيث من فتان برك!
يسأل الأزهار في سكر الصباح
عن سلامك
حاسبا فيها بطاقات وراح
من غرامك
حملتها عن نسيم لي عليل
وضياء من محياك الجميل
لم يوفق سعيه من فرط سحرك!
فتجيب بحنان وخفوق
من نزوعك
مثل وحي الشمس في وقت الشروق
أو طلوعك! «لست من يعطيك من ملكي الجزيل
في حياتي، فهي معبودي البخيل!»
فارحمي؛ حتى الضحايا بين زهرك!
إيه يا (زين) فريدات الجمال
في الطبيعه
كلها جذابة منك النوال
لن تذيعه
حرصها حرصي على حبي النبيل
ووفائي يا منى قلبي الخليل
لعهود ذاقها من قبل هجرك!
لا تقولي: «لم تكن»، رغم الحياء
في شبابي
فهي شوقي وولوعي والوفاء
واضطرابي
وجنوني حين أقصاك الرحيل
عن فؤاد طاهر عان ذليل
ذنبه حفظ لسري مثل سرك!
واصفحي عن ذلك الماضي الأليم
صفح طهر
أنت رب الظلم والرب الرحيم
دون عذر
واجعلي الغفران إحياء القتيل
فهواك الباعث الموتى كفيل!
وهو حي ميت راض بأمرك!
اصفحي يا مهجتي يا نار خلدي
يا جناني!
واسمحي بالبر يا أنسي ووجدي
يا بياني!
كل لفظ منك للنعمى دليل!
كل سطر ملؤه الشعر الجليل!
ومعان للهوى من حلو ثغرك!
عمر الحب
الحب لا عمر له؛ لأنه دائما يجدد نفسه.
باسكال
الحب نوم، والحب حلم، وقد عشت إن كنت أحببت.
ألفريد دي موسيه
Alfred de Musset
الحب لا ينعدم، فناره الطاهرة دائما مشتعلة. وقد جاءت من السماء، وإلى السماء تعود.
سوذي
Southey
الحب هو الذاكرة الوحيدة التي تقوى مع الزمن.
الدكتور باركر
Dr. Parker
طفولة الحب1
نشأة الحب التي لم تحفظيها
بعد هجري في عذاب وسعير
لم تشأ تركي ولو لم تتركيها
ما بدت في غير مرآها النضير
عرفت قدري وإن لم تقدريها
فاحتمت في صحبتي من كل ضير
وتأسست آه، لو لم تهجريها
لأفادتك كخل وعشير!
مهجتي الصغرى بها كي تلهميها
مثلما تغنيك من شوقي الكثير! •••
سطرت من كل حسي وفؤادي
وحوت من صفو أنواع البيان
وتجلت في حلي من سهادي
وجناني وغرام وتفان
كل سطر ضم جزءا من رشادي
مثلما ضم أغاريد المثان
نخبة من شعر روح لم تفيها
وغناء من معنى بل ضرير
كان يتلو آية للحب فيها
كلما وافى بقلب المستنير! •••
كم تقضى مجلس فيها وفيه
من ملذات التلهي والطفوله
بين درس واشتياق لا يليه
غير سمع للموسيقى الجميله
من بنان لاعب كم يشتهيه
كل من يرجو إلى النعمى دليله
فأقضي أنس ساعات شبيها
في ذهول بسجين أو أسير
ما تمنى غير أن لا يصطفيها
غيره سمعا إلى اليوم الأخير! •••
آه! كم كنت أراعي من جمالك
شمس إقبال وسعد للغداه
أتحاشى في مراعاتي لحالك
نظرة طالت، وإن فيها الحياه!
كل حظي خلسة نجوى سؤالك
وابتسام منك ... ما أحلى لماه!
تلك نفس تيمت لم ترحميها
رغم سني ... يا لتعذيب الصغير!
وأماني مهجة لم تعرفيها
في زمان الحب عرفان الضمير! •••
ثم ولى ذلك العهد الكريم
وغروب الشمس يتلوها الشفق
آه! ما أقساك يا ربي الرحيم
آه! ما أشقى محب قد صعق!
ما بكى إلا كما يبكي الفطيم
حين يسلى، لا كعبد قد عتق
فبكت مثلي عيون لم تريها
للوفاء الحي والنبل الكبير
وتلقتني كأم لبنيها
رحمة الدنيا على قلبي الكسير! •••
فقضيت العمر أبكي ثم أبكي
بين عتب الصبر والدهر المسن
فإذا بالصبر يفني بعض شكي
وأمر الهجر يمحوه الزمن
وأراك الآن من يدنو لفكي
من إسار الذعر لا أسر الشجن
فلك الشكر، وها نفسي سليها
هل لها إلاك يا كنزي الوفير؟
فارحمي، أو فاظلمي، أو فاقتليها
بنسيم الحب لأقاسي الهجير! •••
وتغنى بمدام الفجر طائر
عاشق مثلي، ولكن في هناء
وكأن الشمس لبته كساحر
وجمال الكون ما غنى وشاء!
فأهاج الشعر من قلب وخاطر
واستوى الحب على عرش الفضاء!
فبحثت عن سطور لم تعيها
كلها ذكرى لأحلام السرور
ومعان للهوى لم تدركيها
تتهادى بكريمات الشعور! •••
فتناولت قريرا في خشوع
ذابل الذكر الذي لم تحفظيه
وتأملت به بين الدموع
نشأتي، والدمع يمحو الحزن فيه
وشذى الحب به صفوا يضوع
ليت شعري هل يوفى من ذويه؟
بعد نجوى أدمع إن تذرفيها
قطرة من مدمعي البحر الغزير!
يرتوي منها غرامي فيليها
نابت الحب على رغم الصخور!
تولد الغناء والشعر
بقلم جميل صدقي الزهاوي
نعد من حسن حظنا أن نوفق للحصول على هذا المقال الانتقادي النفيس من قلم الأستاذ الزهاوي؛ لنختم به هذا الديوان، ففيه ما يغني عن الإسهاب في تعزيز الروح التجديدية الشائعة في نظم الأستاذ الدكتور أبي شادي، ولا سيما ما يستملحه من أوزان جديدة، كثيرا ما لا يرضى عنها رجال الأدب القديم. قال الأستاذ الزهاوي حفظه الله:
كانت المرأة أو الرجل قبل عصور التاريخ تكرر كلمات التوجع عند الفجيعة وفاق لطم الوجه أو اللدم على الصدر أو الشهيق والزفير، وهي تطيل تارة تلك الكلمات وتقصرها أخرى أو تبدي تأوهات وتنهدات فوق ذلك اللطم واللدم أو الشهيق والزفير. وهي إذا ندبت ترفع صوتها مرة وتخفضه أخرى تبعا لفوران إحساساتها، أو خورها من كثرة اللطم واللدم، ويتخلل كلماتها أو حروفها نشيج وانقطاعات قصيرة كما تفعل اليوم المرأة القروية أو البدوية في بلادنا.
وكذلك كان الرجل المتحمس والمرأة الجذلى يبديان إحساسهما بكلمات توافق رفس الأرض بالرجل مرة أو مرتين، أو مد الذراع وقبضها أو قفزاتهما، ووثباتهما عند الرقص أو الحماسة كما يفعل اليوم المتهوسون.
وكان يشترك عند المناحات أو الأفراح المعقبة للانتصارات أو المظاهرات الحماسية عدد من النساء والرجال معا بإعادة الكلمات التي تفوه بها النائحة أو الرئيس، أو إعادة رفس الأرض ومد الأيدي وقبضها على نسق واحد ونظام من غير زيادة ونقصان.
أما الغناء فقد تولد من امتدادات تلك الأصوات وانقطاعاتها المتخللة إياها وارتفاعاتها وانخفاضاتها بعد أن أخذت أشكالا معينة بسبب التكرار وإقبال الجمهور عليها إلى أن صارت كلما قلدها أحد تعيد في السامعين والسامعات تلك الإحساسات.
وتفرعت تلك الأشكال بتعدد القبائل، وتأصلت بالوراثة بطنا عن بطن، في عصور وأحقاب طويلة.
والموسيقى هي الغناء نفسه، وبعبارة أخرى هي تقليد تلك الأصوات بما يتخللها من الانقطاعات، وما لها من الارتفاعات والانخفاضات بواسطة الأوتار أو غيرها، وجعل سلم منها لهما، وكأن العود التي يوقع على أوتارها لحن موسيقي يذكر السامع بشكاة من الآلام قد ورثها البشر من أسلافهم الأقدمين، فهو وإن لم يتذكر الألفاظ يتحسس بوزانها ورفع أصواتها وخفضها.
وأما الشعر فمتولد من تلك الأصوات والانقطاعات التي تتخللها بإعادتها أو زيادة مقطع عليها أو حذفه أو تبديل مقطع بآخر بألفاظ تدل على إحساسات جديدة ومعان تريدها النائحة أو المتحمس تشعران بتلك الإحساسات القديمة، ففيه إحساسان الأول هو الموروث عن الأجداد بإثارة الأوزان لها، والثاني هو الحادث بإثارة ما تدل عليه الألفاظ من المعاني، ولذلك كان يفضل الغناء المجرد من الألفاظ. ولما كان في الغناء تفصيل تلك الأصوات والانقطاعات وتمثيل لارتفاعاتها وانخفاضاتها ليسا في الشعر قرنوا بينهما، فتضاعف تأثير كل منهما بسبب الآخر، وهما على كل حالة شقيقان قد تولدا من إحساس واحد.
فالشعر في أصله كلمة تنطق بها المفجوعة مكررة إياها، وهي تلطم وجهها أو تلدم صدرها، كما إذا قالت «ويلي ويلي»، أو «أوه أوه»، بفترات قصيرة، أو قالت «قد ماتوا قد ماتوا»، أو «يا ويلتا يا ويلتا»، أو «أين أهلي أين أهلي»، أو «لقد هلكوا لقد هلكوا»، إلى غير ذلك من الكلمات التي يكررها المفجوع. ثم تقدموا فيه فأخذوا يؤلفونه من تفاعيل ثلاثة أو أربعة، ثم جعلوا يغيرون بعض تلك الكلمات مع المحافظة على الوزان، ثم جعلوا يؤلفون بين الكلمات من وزانين مختلفين.
وقد كان الشعر في أوله شطرا واحدا، ثم جعلوه شطرين متطابقين في وزان الكلمات، مع تكرار الكلمة الأخيرة، ثم جعلوه عدة أبيات موافقة لأول شطر من غير إعادة شيء من الكلمات، إلا الروي الذي هو بمثابة عضو أثري للكلمة التي كانوا يعيدونها، وهذا النوع هو القصيد. وترى مما ذكرت أن الشعر مثل الأحياء، قد مشى على سنن الارتقاء من البسيط إلى المركب.
وقد تفننوا في الأوزان، فولدوا من بحر أو بحرين بسيطين بحورا كثيرة. والبحور البسيطة هي التي تفاعيلها على وزان واحد، كالمتدارك والمتقارب. والمركبة هي التي تفاعيلها على وزانين كالطويل والخفيف. والقسم الأول أقدم من الثاني لبساطته.
وقد ظن الكثيرون أن للأوزان حقيقة في الخارج، فجعلوا يتساءلون عن كيفية العثور عليها، وهذا خطأ، فإن الوزن هو هذا الذي يقوله الموتور أو المتحمس عند ثورة إحساساته، ويكرره، فإذا كان شديد التأثير، وهو لا يكون مؤثرا إلا إذا تألف من عدة تفاعيل متناسقة، شاع وغنى به غيره، فكان وزنا من الأوزان.
ومثل هذا ما تقوله النائحات اليوم من الكلمات التي تكررها لإثارة الحزن، أو المتحمس لإثارة الشجاعة، وهو ما نسميه «الهوسة»، وليس لهذه الأوزان حد لتكون ستة عشر بحرا، بل الأبحر الستة عشر هي الأوزان التي سمعت من عرب الجاهلية.
وقد أتى بعض المولدين بأوزان أهملها العرب، منها ما أجزاؤه مفاعيلن فعولن مرتين لكل شطر وهو عكس الطويل كقوله:
لقد هاج اشتياقي غرير
الطرف أحور
أدير الصدغ منه على
مسك وعنبر
ومنها ما أجزاؤه فاعلن فاعلاتن مرتين لكل شطر، وهو مقلوب المديد كقوله:
صاد قلبي غزال أحور ذو دلال
كلما زدت حبا زاد مني نفورا
ومنها ما أجزاؤه فاعلاتن مفاعيلن مفاعيلن لكل شطر كقوله:
من مجيري من الأشجان والكرب
من مديلي من الأبعاد بالقرب
ولعرب البادية وقبيلة المعوان وغيرهم اليوم أوزان ليست شيئا من بحور الخليل، وهي مع ذلك جميلة في الغالب. كقول بعض النائحات:
دحجت لن الكبر كامه
لن اللحد ضيج منامه
تلوذ بعلي ذيج الجهامة «دحجت» نظرت، «لن» وإذا، «الكبر» القبر، «كامه» قامه، «ذيج» تلك، «الجهامة» الصورة. وأجزاؤه لكل شطر مستفعلن مستفعلن لن.
وقول بعضهن:
مكلت لج يا يمه
على الروحي عينيني
مدري الرحية ثجيلة
لولا العشج راميني «مكلت لج» أما قلت لك، «يا يمه» يا أماه، «مدري» ما أدري، «الرحية» الرحى، «ثجيله» ثقيلة، «لولا» أم، «العشج» العشق. وأجزاؤه مفاعلن مفعولن أو مستفعلن مفعولن لكل شطر.
وكقول أحد شعراء البادية من قصيدة:
يا ما حديناهم ويا ما حدونه
يا ما سجيناهم ويا ما سجونه
لا جننا أصبر من الواشجونه
ولا مثلنا يوجد على الموت صبار «سجونه» سقونا، «لا جننا» لكننا، «الواشجونه» المشبهون لنا. وأجزاؤه مستفعلن مستفعلن فاعلاتن لكل شطر . أما الواو في «ولا مثلنا» فهي ساكنة يجوز الابتداء بها في لغة العامة والبدو من غير أن يختل الوزن. إلى غير ذلك من أوزان اخترعوها بأنفسهم، فهم أكثر اختراعا من شعراء اللغة الفصحى.
وإخال أن عرب الجاهلية قد فرضوا الشعر على أوزان كثيرة، غير أن أكثرها ماتت لعدم ملاءمتها لأذواق الشعوب يومئذ، فلم تقو على تنازع البقاء ولا طمع في أن نجد جثتها المتحجرة في طيات التاريخ. ولم يبق حيا ينشد أو ينسج على منواله إلا البحور الستة عشر.
وكانوا لا يقسمون الشعر إلا من حيث قلة أجزائه أو كثرتها، أو قصر الأبيات وطولها، فيسمون القصير رجزا والطويل قصيدا. قال أحدهم: «أرجزا تطلب أم قصيدا؟» (ليس المقصود من الرجز هنا البحر المعين).
وأرى أن لكل شاعر اليوم أن ينظم على أوزان يخترعها غير مرتب بأوزان الخليل، بشرط أن تكون خفيفة على السمع، كما إذا أتى لكل شطر بألفاظ على وزان فعولن فعلن، أو مفاعيلن فعولن، أو مستفعلن لن فعولن، أو فعولن مستفعلن لن، أو فعلن مستفعلن فعلن، أو فاعلن فعلن، أو مفاعيلن فاعلاتن فعلن، إلى غير ذلك.
وأوزان الخليل البسيطة هي التي تتكرر تفاعيلها متشابهة في كل شطر، كما في المتدارك، والمتقارب، والكامل، والوافر والهزج، والرجز، والرمل. والأوزان المركبة هي التي تختلف فيها التفاعيل، كأن تتألف من عددين مختلفين منها، كما في الطويل، والبسيط، والمديد، والسريع، والمنسرح، والخفيف، والمضارع، والمقتضب، والمجتث. وهذه أرقى من الأولى، وأرقى الجميع هي الأوزان التي يتركب كل شطر منها من ثلاث تفاعيل مختلفة، مع توافق في الشطرين، أو زيادة مقطع في آخر الشطر الثاني وحذفه، فيكون التكرار المطلوب من تفاعيل الشعر بإعادتها في الشطر الثاني وفاق الشطر الأول.
والروي هو علامة التكرار، كأنه نص عليه، وقد كان في أصله تكرارا للكلمة الأخيرة من كل بيت، ولكن التفنن في الكلام والاقتصاد في المعنى جعلا مع الزمان لا يتكرر من الكلمة الأخيرة إلا آخر حرف منها، فهو عضو أثري سوف يزول في المستقبل، فيكتفى بتوافق وزان الكلمات الأخيرة في القصيدة من غير إعادة الحرف الأخير.
وقد بدأ كثير من شعراء العصر يغير القافية بعد كل بضعة أبيات، كأن نفوسهم سئمت الخلاخيل في أرجل غانيات الشعر فجردوها منها.
وفي عدم تسمية عرب الجاهلية للأوزان التي كانوا ينظمون عليها شعرهم دليل على أنها لم تكن لديهم محدودة كما هي لدينا اليوم.
صفحه نامشخص