تحرى حسن أن تأخذ زوجه الدواء على نص ما قرر الحكيم، وأن تخرج كل يوم بعد الغداء حتى ساعة العصر. ومع كثرة الأماكن وتنوعها فقد كانت مزرعتهم المكان الأفضل أمام نظرهم جميعا. فلما خرجت زينب لأول يوم خرجت قبيل الظهر تسير مع أخت حسن التي حملت غداءه، ووصلتا وحسن جالس تحت الشجرة بعد أن قضى نصف النهار حرثا يجهز الأرض للقطن، وعلى مقربة منه ثوراه يأكلان علفهما، والمزرعة قائم فوقها المحراث يفصل ما بين القسم الأيمن لا يزال بلاطا، والأيسر مفروش بالحرث لا يزال يخبر عن أن ما عمل حسن إنما هو الوش الأول. وجلستا إلى جانبه حتى أخذ طعامه وتركته أخته راجعة إلى الدار، وقام هو إلى عمله، وبقيت زينب وحدها تتلفت إلى ما حولها. فلما رأت مزرعة السيد محمود إلى جانبها تذكرت اليوم الأول وهي لا تزال بنتا حين أغمي عليها، وجاء إبراهيم يرش الماء على وجهها ويسندها بين ذراعيه. ثم تخيلته سائرا هناك يتلفت يمينا ويسارا ثم راكزا فأسه في الأرض كعادته وينظر إليها وكأنه يناديها إليه.
وفي الجهة الثانية يسوق حسن محراثه يقد به بطن الأرض الناشفة ويناوش ثوريه بفرقلته من حين لحين. والأعجمان يجران بكل قوتهما، ويتبعهما سلاح المحراث ينثر القلقيل حوله. فإذا ما وصل إلى آخر الخط رفع العامل محراثه وأقامه على جانبه وأداره إلى الخط الذي بعده. ويبقى كذلك طول نهاره يذهب إلى آخر المزرعة ويرجع والشمس متسلطة فوق رأسه تصبغ وجهه سوادا.
بعد زمن قامت زينب وقد ضايقها محلها وضايقتها الوحدة وتولاها الهم، فلما رآها حسن أقبل عليها يسألها عما تريد، فأخبرته أنها تريد أن ترجع، وبذلك اختطت طريقها وحيدة إلى البلد.
لكنها ما كادت تبعد حتى أحست كأن شيئا يدفع بها ثانية نحو الغيط، فارتكنت إلى ظل شجرة ورمت بنظراتها إلى جهته. فلم تستطع الوقوف طويلا، واستولى عليها الهمود الذي يعاودها لأقل عمل تجاهده، فجلست إلى الظل وبقيت محدقة بمزرعة السيد محمود مرسلة بخيالها إلى الماضي وأيام كانت بنتا، تلك الأيام اللذيذة حين يسرح القلب حرا كما يشاء، ويتنقل من شخص لآخر حتى يجد محبوبه الأزلي الأبدي، فإذا ما وقع عليه فني فيه وعدم كل لذة في الحياة من دونه، وخيل إليه أن العالم أفظع من كل شيء ما دام هو ليس قريبا.
نعم الأيام الأولى هذه حين كانت زينب مالكة نفسها تعطيها من يدلها عليه قلبها، كانت أياما سعيدة. أما اليوم وقد نأى المحب، ولم يبق من بين الناس من تقول له كلمة أو تبوح له بمكنون سرها. فنجم حياتها يأفل، ويدعها بين يدي الذكرى تتعزى بها مرة، وتجد فيها الألم القاتل أخرى. ولو أن أبويها لم يكونا من الطمع بحيث يضحيان بإرادتها وبكل شيء في سبيل الحصول على حسن لكانت اليوم بين يدي الصحة والسعادة. وإن الطبيعة بوحيها لتهدينا طريق الخير فتأبى بصائرنا العمياء إلا أن تحيد عنه.
استأنفت سيرها حين مر بها سارح سألها عن سبب جلوسها. فلما بلغت الترعة في الطريق ورأت أن وقت الملية جاء أو كاد راحت من جديد فاستندت إلى جذع شجرة قائمة على مقربة من الموردة. ومن الحصى الذي حولها جعلت تحذف في الماء واحدة بعد أخرى ببطء وتمهل، والماء كاس لون السماء ينساب رائقا، ولا يزال الجرفان عن جانبيه أملسين من أثر التطهير فلا حشيش عليهما ولا خضرة، والشمس تبعث على الأشياء بشعاعها فتذرها ممتدة الظل بما يكاد يكون مثليها، والنسيم يهز «الربة» قليلا حتى لا يرى اهتزازها.
جاءت مقدمة المالئات، فلما غسلت جرتها وملأتها طلبت إلى زينب أن تعين عليها. وهذه الأخرى رجعت إلى راحتها، فقامت فأعانت عليها، ثم رجعت مكانها، فلم يستقر بها المقام حتى جاءها السعال قاتلا يكاد يخنقها، فدمعت عيناها وانتفخت أوداجها، وأحست بما على صدرها فقذفته صديدا ودما. والأخريات اللاتي جئن للملية قد أحطن بها يسألنها عما أصابها. وهي دامعة العين من هول ما حل بها، دامية القلب لما تفكر فيه لا تجد شيئا تجيب به إلا «مفيش». ولما رأت أن لا مفر من أسئلتهن ما دامت عندهن قامت فسارت مع إحداهن قاصدة الدار. وهناك وجدت أمها جالسة على عتبة الباب الكبير وبيدها هون تدق به الفلفل وتترسم الطريق من حين لآخر كأنما تنتظرها، وهي مثل كل يوم لا تزال متعبة، كل شيء يجهدها ويجيء على آخر قواها، كما أن السعال الفظيع لا يفتأ يناوئها من حين لحين. •••
ودخلتا معا حتى كانتا على السطح أمام الغرفة، فاستندت زينب إلى حائطها، وجلست إلى جانبها أمها. ونظرت هذه الأخيرة في عين ابنتها وكلها الحنان فوجدت تلك النظرات التي عرفتها جاذبة فتاكة قد استحالت نظرات استعطاف واسترحام، وكما كانت تصل إلى القلب فتذره أسيرا مكبلا كذلك هي الآن تنظر إليه فيرق دون نظراتها ولا يستطيع إلا أن يجيبها لكل ما تطلب. ولقد أحست الأم أمامها بضعف حتى كادت تستغفر ابنتها عن غير ذنب تعلمه. وبعد مدة صامتة رجعت فسألتها عن حالها.
فاض عن قلب زينب ما تكن لذلك الغائب في مجاهل السودان، وأرادت أن تبوح بما تكن لأمها. لكن ما تخيلته في ذلك من موضع للوم أدخل التردد إلى نفسها. لا بد لأمها متى سمعتها تقول مثل هذا الكلام أن تجيبها عليه بتقريع لا تحب أن تواجه به، وإذا كان الموت القريب ينتظرها فلتنتظره هي الأخرى هادئة مطمئنة حتى يجيء فينقلها إلى عالم لا عذاب فيه ولا حزن، بل كله سكون وهمود وفناء أخير. ولكن! أليس على أبويها الذنب في زواجها هذا ويجب أن تبين لهما عنه.
وبعد هذا التردد شجعت نفسها وأجابت أمها حين سألتها مرة ثانية عن حالها: حالي زي ما انت شايفة ... بدي أموت قريب وكله من تحت ايديكو. فضلت أعيط وأقولك يا أمه ما بديش أجوز تقولي لي كل الناس أبوهم بيجوزهم على غير كيفهم وبعدين يصبحوا ويا جيزانهم زي العسل. أديني ويا جوزي زي العسل ما قلتش حاجة. ولكن أديني حاموت وتخلص العيشة اللي بينا وبين بعض.. بكره والا بعده حاموت يامه ووصيتكو إخواتي لما تيجوا تجوزوا حد منهم ماتجوزهمش غصب عنهم لحسن دا حرام.
صفحه نامشخص