ولكن السماء زرقاء كما هي لا يؤثر فيها دعاؤه ولا يرققها أساه، والبنيان القائم أمام نافذته هو هو كما يراه كل يوم ولا شيء جاءت عليه الغير. وإن المتغير هو القلب، والإنسان يرى الأشياء كل يوم كما تصورها أمامه حواسه، فهي إما ضاحكة فرحة إن كان هو ضاحكا فرحا، وإما قائمة حزينة إن كان الحزن قد وجد إلى نفسه السبيل. والحقيقة أنها لا تبسم ولا تعبس بل هي تسير في دورتها الدائمة متفاعلة يؤثر بعضها في بعضها الآخر، والإنسان يسير عليها يعمل فيها وتعمل فيه وإن ظن أن له عليها السلطان وأن بيده تصريفها.
في اليوم الثاني جاء إلى القرية الشيخ مسعود، أحد أشراف المديرية ومن مشايخ الطرق المعدودين فيها. جاء وفي انتظاره أبناؤه الكثيرون، وكلهم فرح بمجيء عمه، منتظر أن يقبل يده الطاهرة، وإن كان متوجسا خيفة أن يكاشفه هذا الولي الصالح المقرب إلى ربه المستنير القلب، ببعض ما فرط في واجبه. وقد عزمه الشيخ عامر أحد أعيان البلد الموسرين ومن الآخذين عليه الحافظين عهده المتعصبين له ضد كل شيخ آخر، وأعد له وليمة فاخرة جاء فيها بذبح عظيم، وطلب الطباخ من بعض المدن القريبة ليطهي طعام الشيخ الداعي إلى الله الزاهد في دنياه الفانية. وما لبث أن نزل في المندرة الكبيرة من دار الشيخ عامر المبنية حديثا بالطوب الأحمر، والمنقوشة حيطانها وسقفها بأنواع النقوش، والملأى بالكنبات والكراسي حتى التف حوله جمع عظيم جلسوا باحترام، وظلوا يتوافدون تباعا، فيلثمون يد الشيخ ثم يأخذون مجالسهم، حتى لم يبق في المكان مجلس. بل لقد وقف كثيرون في الأركان وإلى جانب الباب ليمتعوا طرفهم بمرأى الشيخ الذي بقي ساكتا أو يسار بعض جيرانه تاركا يده متاعا لمن يلثمها، مملسا أحيانا على بعض المسلمين عليه، داعيا للجميع دعوات الخير والبركة.
مدت الموائد، ووضعت أمام الشيخ ومن حوله من الناس الطيبين صينية قدم عليها أشهى الأصناف. وصاحب الدار قد أخذ مكانه إلى جنب ضيفه المقدس يقدم له من كل طبق، ويسأله ما بين حين وآخر أن يبارك من حوله بدعواته الصالحة، ويظهر له عظيم امتنانه وكبير سروره بمقدم الشيخ الطاهر.. والشيخ يجيب عن ذلك كله بتواضع يليق بمكانته وعظمته، ويرفع عينه فيرى قريبا منهم مائدة أخرى معتادة، لا شيء يجذب النظر مما عليها وقد التف حولها جماعة من أبنائه الفقراء والفلاحين. ولو أن له نفسا بين جنبيه، أو ضميرا يحس، لكلله الخجل أن يرى نفسه وهو الداعي إلى الله ونعيم الآخرة وإلى الزهد في هذه الدنيا الفانية جالسا في مقعد وثير وعلى طعام شهي في حين يجلس هؤلاء العمال الطيبو القلوب على حصير ناشف يأكلون الرديء مما لم يقدم له، ولازداد خجلا أن يعلم أنه عاطل لا عمل له إلا هذا الطواف في البلاد لا لغرض إلا أن يأكل ويشرب وينطق بكلمات لا قيمة لها، وهم عمال يجدون ليل نهار ليطعموا الناس بفضل عملهم... ولكن أي ضمير يسكن قلب مدع لا تربية له ولا أصل عنده، وإنما اتخذ هذه طريقة احتيال يعيش من ورائها. وهل الشيخ مسعود إلا ذلك الرجل الذي صرف بين جدران الأزهر عشر سنين لم يعرف فيها شيئا، فلما يئس من النجاح، ووجد أباه قد قصر عن أن يمده بمعونة، ترك العلم لمن يفقه العلم، وخرج هائما على وجهه، فلبس ما يشبه المسوح، وأرخى شعره واستوحش؟! ولكن هذه الحرفة لم تجده شيئا، فنظف نفسه بعض الشيء، ولبس فوق رأسه عقالا، وراح بعد ذلك مدعيا العمومة يعطي عهودا للمساكين الذين يعتقدون أن «من لا عم له عمه الشيطان»!
وبعد العشاء نصبت حلقة ذكر في ميدان أمام دار العمدة، والتف الناس حول شيخهم، وابتدأوا يهتزون ببطء يمينا ويسارا. ومن بينهم منشد يرفع صوته بشيء لا هو بالغناء ولا بالحداء ولكنه مرتب يتفق مع حركات الذاكرين. ويكررون جميعا وسط هدأة الليل وفي لجة نور القمر اسم الله، يقولونه ببطء مقدار بطئهم في اهتزازهم. ويسرعون بعد ذلك قليلا حتى يأتي وقت لا تتميز كلماتهم، ويعرو بعضهم ذهول، ويدور رأسه فهو يميل كالثمل لا يكاد يعي ما يقول، ولا يعرف ما يعمل، ولكنه مسوق وسط هذه الضجة ليقلد من حوله من غير عقل ولا تفكر. ويصبح ذكر اسم الله أنفاسا تتصعد في الجو مقذوفة بقوة وحنق كأنما هم يقذفون بها في وجوه أعدائهم. وتزداد حركتهم حتى ليقول عنهم من لا يفهم أمرهم إنهم جمع من المجانين أو سكارى يرقصون غير واعين. وصوت المنشد يرن على جنبات الليل من غير انقطاع، ويحرض هؤلاء الثملين على الاستمرار في جنتهم . فإذا ما خرج بعضهم عن صوابه صاح ببعض كلمات متقطعة لا معنى لها، ونطق إذ ذاك بلسان الحال، ثم يتبعه آخر وآخر، فيهدئهم الشيخ بصيحات من جانبه. والقمر فوق الجميع ينظر إليهم بعينه الهادئة كأنه يبتسم ساخرا منهم هازئا من جنونهم. والليل الصامت يردد تلك الزفرات التي يصعدونها. وهم جميعا ينادون الله حتى يبح صوتهم فلا تجيبهم السماء ولا الأرض ويروح تعبهم سدى.
فإذا ما أحس الشيخ أن قد نهكت قواهم أمرهم بالسكوت، ثم ألقى إليهم اسما آخر من أسماء الله الحسنى، فيأخذونه ويصيحون به من جديد حتى تجف حلوقهم ويضيع صوابهم، فيلقي إليهم اسما ثالثا ثم رابعا. فإذا انتهى الليل من غير جدوى انصرفوا شاكرين منتظرين أن يعيدوا الكرة علهم يصلون يوما إلى ما يطلبون.
كان حامد جالسا في السلملك ساعة الذكر. ولقد أحس بدافع يدفعه إلى الانضمام والصياح مع الصائحين عله بذلك يكفر عن ذنبه. وإذا كان قد اعتقد قبل اليوم أن عمل هؤلاء الناس وأتباعهم لشيخهم المخرف جنون في جنون، فإن الضعف الذي استولى عليه، والحزن والهم اللذين ركباه تركاه قابلا للإيمان بكل شيء والتصديق بما لايصدق به عاقل. بل إنه ليذهب غدا ليرى الشيخ، ويلثم هو الآخر يده، وينضم إلى حزبه، ويعترف إليه بكل ما في نفسه ليخفف بذلك بعض ألمه. نعم. غدا يأخذ هو الآخر عهدا، ويصبح أخا لهؤلاء الذين يخافون أن يكون عمهم الشيطان!
فلما كان الغد ذهب إلى مستقر الرجل الصالح، فقدمه الشيخ عامر إليه، وبإشارة عمه ترك الشاب معه وانصرف. فابتدأ حامد معه حديثا طويلا يقص به حكايته وما دفعه للمجيء إليه والإنضمام لحزبه: - لي ابنة عم قيل وأنا لا أزال في السادسة من عمري إني سأتزوجها متى كبرت. وعلى هذا كنت أحس في نفسي لها بعاطفة غير التي أحس بها نحو بنات عمي الأخريات. فأقاسمها ما بيدي، وأحنو عليها، وأدافع عنها. فلما جاء اليوم الذي افترقنا فيه تركتها وكلي شوق للمستقبل القريب الذي نرجع فيه لنعيش معا دائما. وبقيت تعاودني ذكراها ، وأشعر معها بعذوبة وهناء يسريان إلى أعماق قلبي. ولما بلغت السادسة عشرة من عمري ابتدأت أحس بغير هذا الإحساس القديم نحوها، وازداد شوقي لها، وقضيت الليالي الطوال يصحبني خيالها. في هاته الأيام قابلتني فتاة ريفية أظن سيدي الشيخ يعافيني من ذكر اسمها أو أى شيء عن شخصها. - نعم، نعم. - قابلتني، فأخذ بعيني جمالها، وبهرني منها عيون نجل، وخدود متوردة في لون قمحي جذاب، وجسم خصب، وقوام غض، وخصر دقيق، وبنان رخص، ومنطق عذب، ونظرات تسيل لها النفس. لكن هيهات لفتاة أيا تكن أن تصل لفؤاد مقفل كفؤادي يومئذ حين كنت لا أعرف إلا الفضيلة المجردة. غير أني كنت أشعر بقلق كلما طالت غيبتي عنها، وأحس بدافع لا قبل لي في دفعه يجعلني أذهب إلى المزرعة التي تكون فيها، وأن أساعدها في عملها، ثم أن أرجع معها جنبا لجنب نتحدث في كل شيء وفي لا شيء. وجاء اليوم الذي زوجت فيه هذه الفتاة والذي عاهدت نفسي فيه أن أنساها إلى الأبد إذ مادامت لغيري فمن الغدر الذي لا يليق بي أن أفكر فيها مجرد تفكير. ورجعت بذلك لابنة عمي التي وعدت، وجعلت أتخيل لها كل شيء حسن، وتبادلت معها كلمات قليلة. ولكنها انتهت هي الأخرى بأن تزوجت فعراني لذلك حزن عظيم. ثم سرعان ما سقطت عن كتفي أحماله حتي لقد عرتني الغرابة كيف يمكن أن يكون ذلك شأني. ورحت بعدها في شيء من عدم الإهتمام بكل ما حولي أو الأسف على كل شيء حصل أو التفكير فيما سيكون. ولكن ذلك على ما كان من لذته لم يستمر طويلا بل غادرني وأسلمني بعده إلى نوبة فظيعة هي التي دفعتني إليك. نوبة أحسست معها بالحاجة المطلقة أن أملك هاته الفتاة الريفية رغما عن أنها متزوجة، ورغما عن كل ما سيقوله أو يتقوله الناس عنا. لكن الله سلم، واستطعت أن أملك نفسي في الساعة التي كنت سأضيع فيها. - نعم ... - وهأنذا قد قصصت عليك كل شيء وأريد أن آخذ عليك عهدا. - نعم ...
وهنا سكت حامد فمد له الشيخ يده واستتلاه من بعده الكلمات التي يصبح معها عمه. ثم ودعه حامد وكله سرور والاقتناع بأن سيجيء له ذلك بالخير الجم. ودخل توا غرفته، وجلس أمام النافذة، وعلى ثغره ابتسامة من أطلق سراح آلامه، وبقي زمنا لا يفكر في شيء ولا يسأل عن شيء.
ولكن ما كاد يتقلص ظل النهار حتى راجع حامدا كل الألم الذي كان عنده، وفوقه ألم جديد أنه اعترف بها لمن لا يفهمها، ومن لا يجيبه عنها إلا بكلمة «نعم»، ولا يقدر له على شيء. ثم أليس عارا أن يتعهد لإنسان مثل هذا الأبله بأن يعمل خيرا؟ أو لم يدس في ذلك شرف نفسه وضميره؟! أف لهذا الرجل الأبكم الكذاب!.. وبلغ به الحنق ضد الشيخ مسعود، فلو أنه كان واقفا أمامه لهان عليه أن يقتله، ولكنه رجع فهدأ من حدته وعاد باللائمة على نفسه.
أصاب حامدا ما أصابه، واعتراه من الهم ما ضاق به صدره. ومع ذلك فقلبه لا يزال شابا، ويريد القلب الذي يضمه إليه، وشفتاه المتقدتان بنار الحب تبحثان في الهواء عن الشفتين وعن الخد وعن الصدغ الذي يقبلان.. ورغما عن موت الأشياء الذي يجيء به الخريف، فإن الشمس النازلة وما تبعث به على السماء من لونها الوردى البديع جعلت حامدا يبحث عن قبلات الحب وعناقه. وإذا كان رأسه كله ملآن بالأسف على الماضي وحب التكفير عن ذنوبه فإن إحساساته كلها تتقد تريد المحبوب الذي يقدم لها سعادتها. وحيث يقتتل الإحساس والتفكير يكون النصر لأيهما ساعدته الطبيعة.
صفحه نامشخص