فى الرداء الكبير من شعاع القمر التفت زينب رائحة في عالم أحلامها وخيالاتها سارحة بعيدا عن كوننا وضجته، وقد جاءت على ثغرها ابتسامة كأنها وجدت إبراهيم في ذلك الكون الآخر ينتظرها.
ورجع حامد إلى الدار فكان أول ما وقع عليه نظره كتاب عزيزة الأخير مفتتحا بوداعها، فوقف يحدق إلى حروفه مبهوتا ويكرر قراءته كأن به من مكنون المعنى ما لا ينم عنه لفظه، وبعد أن قلب أوراقه مرارا وضعه مكانه، ثم ارتمى على مقعده، وأخذ كتابا جعل ينظر في كل صفحة من صفحاته هنيهة ثم يتعداها إلى ما بعدها. وأخيرا تركه ووقف عند الشارع ينظر إلى المحيطات ويطيل التحديق وسط ظلمة الليل كأنما يناجي الجمادات مما حوله. ولما لم يطق الصبر خرج من جديد، فوجد والده وإخوته ينتظرونه، فأخذ مقعده بينهم وتناول طعامه معهم.
انتهت سهرتهم حوالي الساعة الحادية عشرة على عادتهم بعد أن قرأوا الجرائد وناقشوا ما فيها، فدخل كل إلى غرفة نومه، وراح إلى سريره إلا حامد فقد أمسك من جديد بخطاب عزيزة يحدق إليه، وعليه علامات الأسى والأسف، ويطيل النظر لسطوره من غير أن يقرأ منها كلمة، ثم يرفع رأسه نحو القمر، ويضم المكتوب إلى صدره وعينه كلها الاستعطاف، كأن للقمر من السلطان ما يمكنه من أمله وينيله غرضه، ثم وضع الكتاب أمامه وألقى برأسه بين يديه جالسا القرفصاء، ووسط ذلك السكوت الأخرس الذي حوله تحدرت من مآقيه دمعة سقطت على ثيابه.
هذه الورقة آخر العهد بعزيزة والليلة آخر العهد بزينب.
كل شيء انتهى في الوجود. كل سعادة غادرت حامد. كل خير يفر من أمامه. مصادفة منحوسة وبخت مائل!
لم يا رب كل هذا؟ أي ذنب جناه المسكين حتى يقضي عليه هذا القضاء القاسي؟ إنه رضي بقليل، وقنع أن تكون محبوبته فتاة ساذجة كل عملها القراءة والكتابة وكل خبرتها الصبر على الويلات والخضوع للقوة، وأعجب بجمال خلقته أمام عينه فتاه في عبادته.
ورفع حامد رأسه وأخذ في يده الورقة مرة أخرى، وتنهد من أعماق نفسه، ثم قام إلى سريره وأطفأ النور، وجعل يعالج النوم، ولكن هيهات أن يطاوع النوم محزونا. إن هذا السلطان القادر إله السكون والهجود، والرب العدل تتساوى أمامه حظوظ كل من دخل في ملكه يضعف دون الفؤاد المشتت المهموم ولا يصل منه ولا إلى عزائه.
في هذه الغرفة السوداء ظلام كالقار، كل شيء صامت ساكن، وقلب حامد خفاق وفؤاده مضطرب، كل شيء ممتع تحت ستار الحلكة ونفس حامد معذبة مسكينة. وكلما تقدم الوقت وزاد الوجود هموما زاد حامد قلقا وكبر همه ولم يستطع إغماض عينيه. فلما يئس من أن ينام قام ففتح نافذة الغرفة، فاستند إلى حافتها، وبقي من جديد يحدق إلى النجوم اللامعة في ثوب الليل، وقد اختفى القمر وراء المنازل القاصية وهو من حين لحين يمسك ساعته بيده ليرى الوقت فيها، فعلم أن قد بقي على الفجر ساعتان.
ساعتان في مثل هذه الوحدة طويلتان. والملال الذي يصحب الضيق قد أخذ بخناقه، فماذا عساه يفعل؟ أضاء المصباح وجعل يروح ويجيء وسط المكان الضيق فلم يجده ذلك نفعا، فهو لا يفكر في شيء، ولكنه مثقل بهموم لا قبل له بها، راح إلى سريره ثانية فلم يسعده الحظ هاته المرة، ولا بمقدار ما أسعده في المرة الأولى، أراد أن يقرأ فلم تطاوعه نفسه أن يفتح كتابا مما أمامه. أخيرا فتح بابه وخرج، ولم يسر إلا قليلا حتى رأى الخفراء على مصطبتهم ممددين قد وضع كل بندقيته تحت رأسه وتغطى بدفيته أو ببشته، وأحدهم جالسا مستندا على نبوت قد ركزه، فيممهم منتظرا من يسأله: «مين؟» حتى يجيبه، ولكنهم كانوا جميعا في لجة القمر غرقى ذهابا في نومهم، وهذا الجالس يحسبه الإنسان يقظا وهو أسعدهم بأحلامه وأهنؤهم نعاسا.
جلس حامد فيما بينهم وأخذ مكانه، فشعر به رئيسهم وقام مذعورا خيفة أن يكون بعض رجال الدورية، فلما لم يتميز له اللبس العسكري هدأ باله، وفتح عيونه فعرفه ثم نادى: قم يا محمد انت وفرج دوروا في البلد.
صفحه نامشخص