6 - لما تشوفي أختك سلمي لي عليها.
هذه هي الكلمة التي قالها حامد لأخت زينب ساعة أراد أن يرجع إلى البلد. والبنت بكل أمانة أدت الرسالة لأول مرة رأت فيها أختها بعد ذلك.
ما أبعد عهد زينب بحامد الساعة! وما كان أحلى أيامها معه! تذكرت وهي في ألمها وأسفها من يوم خاطبها زوجها بلهجة المستعطف لها أياما ماضية قضتها في لذة وهناء إلى جانب أحسن الناس وأحبهم إليها ومن تهبه قلبها راضية لو لم يكن ذلك القلب البسيط الساذج لا يستحق أن يهدى لحامد.
خرجت ذات يوم كعادتها ذاهبة بعشاء حسن الذي يسهر هاته الأيام عند القطن وهي أخلى ما تكون بالا، وكأن الهموم والآلام والذكر القديم إذا تراكم كله ترك الفؤاد فارغا، وراحت والشمس في أول توردها والهواء في سكونه يتهادى وسط فضاء الجو والطير تصفر في السماوات. فلما ابتدأ الوقت يمسي والليل يحل محل النهار أخذت بعضها وقامت راجعة إلى البلد.
من يوم أن تسلم حامد رسالة عزيزة تخبره فيها بشأن زواجها وأنها لن تقدر من الأمر على شيء، تولاه الحزن أولا، ولكن ما أسرع ما أحس بريح النسيان تهب فتمحو من قلبه كل أثر! من أيام قريبة كان المولع بها يكتب إليها آيات الود ورسائل الحب. وها هو ذا يتركها من خياله كل الترك دون تشبث ولا انتظار ومن غير ما ألم. ولقد وجد هو نفسه من الغرابة في ذلك ما دهش له. لكن دهشته لم تكن أعلق بنفسه من حزنه. ولعل الأحزان الفائقة تثيرها حادثة من الحوادث ويكون لها من الأثر في ماضينا ما يجعلنا نظنها حقا، تندثر سريعا وينطفئ وهجها متى انتهت تلك الحادثة. كذلك لعل حب حامد الذي كاد يتلاشى أوائل الربيع الماضي ثم بعثه حضور عزيزة من موته رجع إلى أحضان ذلك الموت من بعد سفرها.
بينما حامد راجع من المزرعة وبيده قيثارة يقلب عليها أصابعه أحيانا ويدعها ليسلم نفسه لأحلامه أحيانا أخرى لحق زينب وهي ذاهبة إلى البلد من بعد أن أودعت عشاء زوجها عنده. فلما كان إلى جانبها التفت وعرفها.. إنه من زمان بعيد لم يرها، من نحو سنة إلا قليلا. كانت ذلك اليوم في ملابس البنات وغدفتها تترك للعيون اجتلاء محياها الجميل. أما الآن فهي في ذلك الشكل الذي يحبه حامد، والذي يعطي سذاجة البنت الريفية حلاوة لا تقدر. هي في ثياب أوسع، وبرقعها المرفوع هذه الساعة فوق رأسها وشاشها الطويل كل ذلك يعطيها مهابة يداخلها شيء من الحزن. فلما تميزها مد يده ليضعها في يدها وقال: أهلا. سالخير يا زينب. إزيك. - ازيك أنت. سلمات إن شالله تسلم. - مش مبسوطة كده. إزاي الحال؟ - حال لبن. كتر خيرك.
يا للغرابة! ما هذه الأجوبة الساكتة المسكتة. ما عهده بزينب كذلك تتجنب حديثه. ولكن لعل في الأمر شيئا.
وكلما تقدما في سيرهما تقضت باقيات النهار والبدر مستدير قد زاد لمعه في السماء، وإن كان الجو المشغول بجنود النور والليل لا يدع لأشعته أن تلامس الأرض. ولبست الأشجار حلتها السوداء فوق ورقها الأخضر، وتدثرت الأشياء بلباسها الأمين، والسائران قد سكتا لا يقولان كلمة ولا ينبسان بحرف، والهواء يحيط بهما عذبا سائغا.
ثم من قلب أحاط به الهم وفاض عنه أرسلت زينب بتنهداتها في الهواء لم يصبر معها حامد أن يسألها عن شأنها: إيه؟.. مالك يا زينب؟ - مفيش!
كيف! وهل من الممكن أن يكون ذلك التنهد الصادر عن قلب محزون ونفس كليمة دليل لا شيء؟!! أو أنه الهم يعرونا أحيانا لغير سبب نعلمه فنحس في قرارة نفوسنا بالألم ويشعر وجودنا كله كأن به ما ينغصه ويفسد عليه لذته! حقا لقد يكون في جوار حامد لزينب ما جعلها تأسى لغير شيء ... وإذن ألا يكون من واجبه أن يذرها إلى وحدتها حتى يراجعها سكونها؟
صفحه نامشخص