وزينب قد ترقرقت في عينيها دمعة تريد أن تنحدر فتمنعها إباء وعزة، وقلبها داخله حزن قاس، ذلك الحزن الذي يعاودنا حين نحس في لحظة واحدة بآلام شتى وبالأسف على جريمة وقعنا فيها ولا نقدر على التكفير عنها.. وزاد في صدرها على حزنه القديم أسى جديد جاء به اعتراف قلبها بما قارفت أمام زوج هذا مبلغ حبه لها وثقته بها. إنه كان حسن النية في كل هذه الأيام الماضية، وهي وحدها الأثيمة الجانية!!
إنها وحدها التي جعلت تنتحل مبررات لما تريد الإقدام عليه، وهذا الزوج البريء الطيب لا يعلم من ذلك شيئا ولا يظن وجوده، فلم يبق عليها مع هذا إلا أن ترتمي على قدميه طالبة المغفرة، مقرة له بذنبها، معترفة أمامه بكل شيء.
يا الله! ما أرقه وأحناه من إنسان! كم في عبارته ما يشف عن بياض قلبه وصفاء باطنه!.. هو الرجل القادر، بيده كل أمرها، ويملك عليها كل شيء، ويقدر بكلمة منه أن يوقعها في شقاء كبير. ومع ذلك هو يستسمحها ويقر لها عليه إن كان ثمة شيء منه أو من غيره: يقر به عن غير جدال ولا أخذ ولا رد.. أليس من الخيانة والغدر أن تصرف زينب قلبها عنه؟ أليس عارا كبيرا عليها أن تفكر في حب غيره؟.. ألا إنه لكاف أن يمحو كل زلة، ولمستوجب للصفح عن كل هفوة ذلك الذي عمل في موقفه هذا! فإذا لم تك هناك زلة ولا هفوة وكان كل ما في الأمر سوء فهم منها جرها إليه خطؤها وما في نفسها من الشرود أفلا يكون واجبها أن تنصرف لحبه والخضوع له؟ أم تكون من القسوة بحيث لا تسمع لكلماته؟
وبمثل هذه الأفكار ذهبت زينب إلى مرقدها بعد أن أطفأت النور، ولم يبق في الغرفة إلا السواد الحالك. وكلما تمثلت في نفسها ذلك الصوت الدائب أحست بحسن يتقلب قلقا كأنه غير مستريح البال هو الآخر، فعاودتها الهواجس ونخسها ضميرها. فلما لم تر للنوم من سبيل عليها فتحت باب الغرفة خارجة، فسألها زوجها إلى أين تذهبين؟ وعلم أن حر المكان لا تطيق النوم معه، وهكذا قضت ليلها تحت السماء تفتح عيونها للنجوم المشردة لا تدري مقرها وسط تلك الظلمة، ثم تقفلهما فتتخيل أمامها عالما كبيرا مرسومة فيه صفحات الماضي تتوه بينها.
4
جاء حامد مع إخوته إلى القرية لقضاء إجازة الصيف بعد أن أمضى سنته بين أعماله وأحلامه محاطا دائما بالحيطان القريبة. وكان يخرج أيام الربيع إما إلى شاطئ النهر الكبير يفرج همه أن يرى المناظر البديعة التي تحيط بالجانبين، أو يأخذ فوق ظهر الماء قاربا إذا هو رأى الوقت جميلا، أو يذهب إلى الهليوبوليس يرى فيها الأفق البعيد نازلا فوق التلال أو مطوقا الرمل الأصفر بقبته الزرقاء، والهواء الناشف يهب لذيذا يفتح له صدره ويقف ليرى تلك الآفاق البعيدة من الصحراء المحيطة بالواحة الناضرة، ثم يرجع على الطرق «المسفلتة»، وتمر به الغيد تحت حبراتهن السوداء تبين منها أذرعهن الملفوفة الناعمة، وبراقعهن الشفافة تنم عن أذقانهن الدقيقة أحيانا، وخدودهن المتوردة في لونهن القمحي الجميل، وعيونهن النجل قوست فوقها حواجب سوداء تعلوها جباه نقية. ويسير حالما ذاهبا في خيالاته إلا أن يستلفته جمال ما حوله أو الهواء يهب فيرفع من أطراف رؤوس الحبر فتصيح بعض الفتيات متلفتة تريد أن تتقي هذا المتحسس.
ويجلس أحيانا على «الطاولات» الموضوعة إلى جانب الطريق، أو هو يذهب إلى القهوة ينتظر بها، ولا يبعد أن يرى بعض أصحابه فيتحادثون، ويجر الحديث ذيوله من موضوع لآخر، ويستنفد الوقت ويضطر الصديقان للرجوع.
وكثيرا ما كان ذهابه في أحلامه لا يدع له أن يرى كل ما يحيط به. ولقد كان مولعا بتلك الطبيعة الناشفة التي تحيط بالواحة الناضرة حتى لقد كان يذهب إليها مرات متوالية آخر العام قبل أن يهجر العاصمة، فيمتع نفسه منها ومن المناظر المدنية التي تحويها ومن تلك الأشكال النسائية المحكمة تنسدل ثيابها دقيقة مع كل أجزاء الجسم قبل أن يذهب إلى المناظر الريفية وثياب الفلاحات المسدولة المستقيمة يظهر من تحتها جلال صاحباتها، ثم ليرجع نحو الساعة العاشرة من المساء و(الترامواي) يشق به الخلاء، والهواء يسري وسط الظلمة ومن تحت نور الكهرباء إلى العربات تكاد تطير في سرعتها. .. جاء حامد مع إخوته إلى القرية ومكث بها الأسابيع الأولى يذهب أخريات النهار وحده أو مع بعض خلانه إلى المزارع يرى ما فيها، ثم إذا جاء الليل وطلع القمر اصطحب صديقا له إلى بعض الترع يجلسان على شاطئها في مصلى مفروش بالحلفاء يهب فوقه النسيم. فإذا ما أخذا حظهما من الجلوس رجعا أدراجهما بتلك الخطى البطيئة اللذيذة فوجدا جرائد المساء قد جاءت وصار الناس ما بين آسف لحادث حدث، أو متألم من ظلم الحكومة وتعسفها قصدا، أو ضاحك بين أسنانه أن قرئ أمامه تصريح وزير ما أكثر ما صرح . أو متهيج ساخط لما ارتكبه بعض الموظفين الإنكليز من الحماقات، أو متحادثين ينتصر أحدهما لصحفي والثاني لآخر، فيأخذ حامد جريدة يمر عليها بنظره، ولا يبعد أن يطلب بعض الحاضرين إليه أن يقرأ لهم الافتتاحية أو يأخذ رأيه فيما كانوا فيه يختلفون.
فلما كان في بعض الليالي وقد رجع مع مطلع القمر وجد القوم سكوتا ليس من بينهم إلا من يقص حكاية عما في الغيط ومقدار ما أضر العطش القطن في هاته الأيام الأخيرة. - والمهندس الله يضره ماسك الميه بيده.. تفتح له إيده تجي الميه تجري. - أنا والله مش عارف الناس دول ذمتهم إيه. - هو يا شيخ الناس عاد عندهم ذمة ولا دين، أصحى الكلب بتاع مركزنا ده، واخد دك النهار لما هو طافحه، وأهو طول الدور ده الميه ناشفة. - لأ.. والمسألة كلها بايظه من مهندس لباش مهندس لمفتش كله خبص في خبص.. يعني أول أول إمبارح انبعث كام تلغراف وكام عريضة وراحوا قابلوا المفتش بالذات.. ولا شيء.. ولا حياة لمن تنادي. - والله ما يجيب العاتي إلا الفلوس، إحنا عارفين أهل بلادنا ويعني بس ليه.. كان ولا تلغرافات ولا مقابلات والقرشين اللى راحوا فده انحطوا على كمان قرشين وانحطوا في ايد المهندس ودورنا في الدور وفي البطالة زي ما يعجبنا.
قطع حديث القوم دخول السيد محمود، فوقفوا جميعا، ثم جلسوا وتبادلوا التحية معه، ودخل الخادم بعد ذلك ومعه الجرائد، وتناولها منه حامد ووضعها على «ترابيزه» أمامه، ثم نودي بقهوة فجاءت، وتناولوا الحديث من جديد، فسألوا السيد عن أمر الماء فأجابهم أنه سيصلهم هذه الليلة، وعلى العادة فتحوا الجرائد وقرأوا ما فيها مسرعين.
صفحه نامشخص