وفي مساء الغد انتقلت زينب من دار أبيها، وأصبحت فردا من أفراد عائلة زوجها حسن، بعد أن ذرفت دمعات الوداع للدار التي قضت فيها أيام صباها وآمالها.
الفصل الثاني
1
في العاصمة الكبيرة لمقدم الشتاء..
الشمس ينتظرها النهار لتبدد بقية الظلام وتسمح للناس أن ينالوا من الدفء ما يزيل رعشتهم، والطرق يتسابق فيها الذاهبون إلى عملهم، والمدينة تستيقظ كلها بعد الليل الطويل قضاه الكثير من أحيائها تحت السواد، لا يخفف من وطأته نجم ولا مصباح، ولا يقطع من صمته إلا صوت الخفير يزعق به الوقت بعد الوقت، فيتسلل وسط الأزقة لمن بعده ومن بعده، ويعلن في هاته الظلمات الدامسة الأمن والسلام - في تلك الساعة التي تدخل الحياة فيها مع النور إلى الوجود يستيقظ حامد من نومه الهادئ لا تشوبه أحلام ولا يعتاده إلا السكون. ثم بكل تؤدة يرتدي لباسه ويخرج لعمله غير مفكر فيما سوى ذلك العمل يجد فيه سعيدا به، فإذا جاء الليل قضى سمره مع إخوته يتحدثون في شتى المسائل تأتي تباعا ولا رابطة بينها، يقولونها ويسمعونها من غير تكلف، ويضحكون مسرورين باجتماعهم سعيدين بحياتهم، ثم إذا راح إلى مرقده جاءت إلى رأسه خيالات وأفكار شتى لا صلة تجمعها، وتخيل أمامه في ظلام الليل وجوه معارف يتصور في بعضها من السماحة وفي الأخرى من الجد وفي غيرها من الجمال أو المهابة أو ما تنم عنه من الإخلاص أو الذكاء. ثم بين هذا الجمع الكبير يذهب إلى نوم هادئ هنيء يقضي فيه كل ليلة. وتأتي أحيانا بين هاته الأحلام التي تساوره فكرة الزواج.. وما كان يدري لم وهو في سن لا يسمح لنفسه فيها أن تشتغل بمسألة ما أبعد أوان تحقيقها بعد. لكنه لم يكن يجد وسيلة أخرى يرضي بها قلبه ويستحضر بها إلى رأسه خيالات الحب والسعادة التي تلازم الشباب، كما أنه كان كذلك يصور في السواد الذي أمامه صورة صاحبته التي يحب، ويضم هاته الصورة أحيانا إلى صدره. وما كان ليقدم على ذلك لولا أن قدر فيها الزوجة المستقبلة.
لكن الأيام المملوءة بالعمل الجد، وأحلامه الطويلة للمستقبل، جعلت تقضي على هذه الفكرة رويدا رويدا، وأصبح الوجود الذي كان يتخيله من قبل معطرا بالزهور وبسكرات الحب وجودا هادئا ساكنا ألذ ما فيه العمل والفكر، وانهمك بكله في مطالعات مختلفة بلغت منه وأخذت فؤاده. وصار للأشخاص والأفكار والأماكن التي يعيش بينها مكان من خياله احتل مكان الصور القديمة الأولى، وقرأ فيما قرأ كتبا عن المرأة والزواج بعثت إلى نفسه عقيدة جديدة تخالف وتضاد العقيدة الأولى، فأصبح يرى أيام الزوجية أياما ذابلة لا طعم لها ولا لون، وأن حمقا من الناس أن يقدروا لها أية سعادة أو لذة.
وصار يقلب في رأسه لعله يجد زوجين ممن يعرف أعطتهما الصلة الرسمية من الهناءة ما كانا يريدان من قبل، فلا يجد إلا ما يزيد اعتقاده قوة، ولا يرى في تلك الرابطة إلا قيدا من قيود العادة يضع الناس أنفسهم فيه، لأنهم يرون غيرهم يسبقونهم إليه: آباءهم وأجدادهم ومعاصريهم الأغنياء والفقراء والعلماء والجهال، ويتوارثون هاته العادة، وقد أعطاها طول الزمن من القداسة ما يعطي كل قديم، وأصبح الناس من البله بحيث يظنونها حسنة من الحسنات.
لهذا أصبح ذكر حامد لعزيزة ينقص من يوم ليوم، فإن جاءت إلى حلمه لم يجد إلى جانبها ما يثير حواسه أو يعيد أمامه ساعة ماضية.. لم يجد إلا فضاء يتوه فيه، وحيرة تعتريه، فيداخل نفسه شيء من الهم ولكنه يقنعها بالنسيان ويرضيها بلا شيء. وإن ذكر زينب ذكر معها تلك الخلوات اللذيذة وسط الطبيعة العظيمة تحيطهما بشجرها وغدرانها، ويسعدهما الطير بنغماته العاشقة كلها الغرام والصبابة تصل ما بينهما وتزيد معنى حياتهما. •••
رجع حامد من عمله يوما، وترك ملابسه ولبس جلابية بيضاء وطاقية بيضاء كذلك، فتلك عادته ما دام في الدار وبينما هو جالس يفكر ويشرب قهوة جاءه بها خادمه إذا جماعة من إخوانه يدخلون وكلهم يضحكون مرة واحدة.. وفي نفس واحد قالوا معا: السلام عليكم. - عليكم السلام.. خيرا.. جرى إيه.. يا ولد اعمل كمان قهوة. - تعرف احنا تقابلنا احنا الأربعة بالمصادفة.. فقلنا والله لازم نشوف حامد نضايقه شوية. يا أخي انت الأيام دي فيلسوف. تحب تفضل وحدك. لا تشوف حد ولا حد يشوفك.. على إيه ده كله.. اسمع.. مدرتش.. أسعد أفندي حايجوز بكره.. تجي معانا الفرح؟ - حايجوز بكره؟ ليه؟ مسكين! - نعم.. اتفلسف يا سيدي.. ليه؟. والله يا بخته.
ولم تك إلا لحظة حتى دخل الولد بصينية القهوة عليها خمسة فناجين فأخذ كل من الأصحاب فنجانا، وأخرج علي أفندي سيجارة من جيبه وأشعلها، فطلب الشيخ خليل أن يدخن هو الآخر، فلم يكد علي أفندي يمد إليه يده بصندوق السجاير حتى اختطفه منه حسنين وقال: أعوذ بالله! المشايخ دول طول عمرهم شحاتين.. يا شيخ خليل انت مالك ومال الدخان؟.. روح اتنشق!
صفحه نامشخص