غير أن خليلا كان يخشى ألا تقبل زوجته لحسن إلا فتاة من أقرانهم في البلدة، وهو يحسب لذلك حسابا كبيرا، لأنه يعرف أن البيت الذي لا ترتاح فيه الأم وامرأة ابنها يبقى معكرا صفاؤه متنازعا بين المرأتين، مركز شقاء دائم بين الآباء والأبناء. وأما إن هي رضيت فإنه يقبل على العين والرأس زينب عروسا لابنه، بل إنه ليعد بذلك نفسه سعيدا.
وما كاد يطلع سلامة على هاته المخاوف حتى قال له هذا الأخير: طيب ياخويه.. روح جوزه بنت علي أبو عمر خلي عيشتكو تصبح شكل من أولها لآخرها.. ويعني الفلاح منا عمره يرضى.
وأخبر خليل زوجته بكل هذا الحديث. وما كانت تعلم عن زينب إلا كل خير. غير أن مطمعها كان أبعد من أن يقع على ابنة عائلة فقيرة تشتغل طول عمرها أجيرة عند أصحاب الأطيان. فلم يرقها اختيار زوجها، ورأى هو ذلك من وجهها، فقال في نفسه: صدق سلامة، وعمر الفلاح ما يرضى. ثم أراد أن يعرف ما ليس يرضيها من هذا الاختيار وما رأيها هي؟ ولكنها لم تبد رأيا.
جاء حسن بعد ذلك فأخبرته فيما بينهما بما يقوله أبوه، ولم يحر هو الآخر جوابا ولا أعطى عن نفسه قولا.
غير أن تلك الأحاديث وهاته الأقوال لم تبق في صدور أصحابها لا تتعداها، بل انتقلت إلى الخارج بشكل أوضح وأكثر إثباتا وتقريرا من الواقع. إذ مع أنهم لم يقطعوا في الأمر بإثبات ولا بنفي، وبالرغم مما تجده الأم في هذا الاختيار من عدم توفيق زوجها إلى ما تحب، فقد جاءت إلى الآذان كأن قد تم كل شيء، واتفق الأبوان وابنهما فيما بينهم على أخذ تلك العروس لحسن، ووصلت إلى زينب بهذا الشكل، فأحدثت عندها ما أسلفنا من قبل ذكره حتى جاءها الأمل بعد يأسها القاتل.
وفي الأيام التي تلاعبت فيها الحوادث بزينب ما شاءت كانت عائلة حسن هادئة ساكنة تقطع طريق الحياة المعتاد وليس من بينها إلا قانع مستسلم للقضاء. وقل أن يرد فيما بينهم أمر زواج حسن إذ أصبح الآن يظن أنه وصل إلى شيء، والأم تقلب في نفسها كلما عاودتها الذكرى صور بعض بنات الناس الطيبين من أهل البلد، فلا تجد من بينهن خيرا من زينب، ولا من تعدلها. والابن في عمله قل أن يرد هذا الأمر على باله، وإن جاء إلى نفسه. جاء معه أن من ورائه من يفكر فيه، أو أمل له بعض الآمال، ثم ما أسرع ما ينساها!
وعلى هذا ظلوا جميعا.. ثم جاء الصيف.
6
جاء الصيف وهدأت الإشاعة، وإن هي إلا ككل مولود على الأرض يحدث ضجة ساعة مبتداه، ثم يصبح شيئا عاديا تراه العين أو تسمع به الأذن فلا تأخذها له لفتة ولا تعيره اهتماما. وجاء مع الصيف أدوار الري مما يفسد على الفلاح نظام حياته ويجعله يعيش بين أهله مدة البطالة، فإذا جاء الدور لزم العمل ليل نهار يدأب فيه ويجد، ولا يجد سبيلا أن ينفس عن نفسه بعض الشيء، ويشاركه في ذلك دوابه حتى تتولاها اللغوب وينالها أكبر الكرب.
جاء الصيف للفلاح بالعمل، ولغيره بأيام الراحة والرياضة. ولم يكد يتنفس عنه الربيع حتى جاء القرية حامد وإخوته بعد أشهر قضوها بين الأوراق والحيطان قل أن يصل نظرهم إلى خط الأفق، أو يتمتعوا يوما بمشهد مشرق الشمس أو مغربها. تلك أشهر عانوا فيها الصعاب يعدون أيامها على أصابعهم عدا، وينتظرون آخرها وهم أشوق ما يكونون إليه، ويريدون أن يأتي اليوم الذي يرجعون فيه من العاصمة الكبيرة ذات العظمة والجلال إلى بلدهم الصغير. وكأنهم في تلك الليلة الأخيرة، وقد أتموا امتحاناتهم، وربطوا عفشهم، ورسم السرور على ثغورهم الباسمة آية الرضا، يهاجرون إلى أشرف بقاع الأرض حيث السعادة والهناء المقيم.. وما نزلوا قريتهم حتى أظهروا ما أعدوه لإجازتهم من كرات ولازماتها؟ ثم بعض أشياء صغيرة لا يستغنون عنها في أول أيامهم يهدونها إلى إخوانهم الصغار الذين يأتون عليها في يوم أو بعض يوم، أو هم يختصون بها أنفسهم ولا يكونون عليها أشد حرصا.
صفحه نامشخص