سبق أن أشرت إلى مكانة الإمامة لدى الزيدية. هذه المكانة صارت سببا للنقد من كثير من الناس، وذلك لأن الذي شاع في الثقافة الإسلامية العامة عدم الاعتداد بأمرها، واعتبارها من الفروع والقضايا الثانوية. وقد سبق ما يبين سبب علو مكانتها لدى الزيدية. أيضا مما أخذ على الزيدية في أمر الإمامة قولهم بأن الإمامة محصورة في أهل البيت"، وأنه ما دام هناك الكفؤ لها من أهل البيت فلا يصح اختيار أحد من سواهم. ولعل هذا الأمر كان السبب في أكثر النقد الموجه إليهم، هذا النقد الذي توجه إليهم من بعض الزيدية فضلا عن غيرهم. بل لعله سبب لكثير من التضييق الذي عانوه عبر السنين. وقد نجد في عبارة ((الزيدية في معتقل الإمامة)) كثيرا من المعاني التي تنعكس عن واقع الزيدية والإمامة اليوم. ولكن السبب لا يعود إلى الإمامة، إنما يعود إلى مفهوم الناس عن الإمامة، وإلى الطريقة التي يتم بها عرض المذهب في الآونة الأخيرة. وقد سبق أن بينت أن حصر الإمامة في أهل البيت إنما هو من آليات الوصول إلى الحكم، ولا يمثل جوهر أو روح النظرية في الإمامة، وبالتالي فهو من فروع نظرية الإمامة العامة، وليس هو الإمامة. ولكن الأمر يعرض وكأن الإمامة عند الزيدية ليست إلا التأكيد على الحق الفريد لأهل البيت فيها. ولعل هذا يعود إلى كونها من القضايا التي كثر الاختلاف حولها، فكثرت الكتابات فيها، مما قد يوحي للكثير، زيدية وغيرهم، أن موضوع الحصر هو الأساس. والأمر أوضح في الفترة الأخيرة، حيث إن خصوم الزيدية في هجومهم عليها شددوا على قضية الهاشمية، وعلى قضية العنصرية، وعلى قضية الحصر وهكذا. هذا التشديد دفع كثيرا من الزيدية الى تكريس جهودهم ودعوتهم الى قضايا التشيع، وولاية أهل البيت، حتى كأنها صارت هي المميز الرئيس لفكر الزيدية، وحتى صار التوحيد والعدل وكأنهما تابعان لمفهوم التشيع وليس العكس. وقد سبقت الإشارة إلى أن الزيدية ترى أن لا بد للقائم بأمر الإمامة من إذن شرعي يسمح له بممارسة الأمر والنهي على غيره من الناس . وترى الزيدية أن الله تعالى قد جعل هذا الإذن للأكفأ، والأفضل من أهل البيت، ولذلك فإن الزيدي عندما يرشح قيادة فإنما يرشح الأكفأ من أهل البيت. فإذا قبلت الأمة القيادة التي رشحها الزيدي فذلك حق للأمة. أما إذا رفضت الأمة القيادة التي رشحها الزيدي فليس أمامه، وليس أمام قيادته إلا أن ينزلا عند رغبة الأمة، ويضعا يدهما في يدها، ويعملا معها لخدمة الصالح العام. وإن الزيدية عندما تمنع منعا قاطعا من قيام أي حركة معارضة لمجرد كون القيادة خارجة عن آل البيت، وإن إصرارها على أن المعارضة لا تكون إلا للظلم، يدلان على أن موضوع الحصر لا يتجاوز كونه آلية، وأنه فرعي على النظرية العامة. وهذا لا يمنع من أن تخطيء من لا يختار من رشحته إماما، ولا يمنع التبرم منه، ولا يمنع أن تدعي أن الناس إذ تقوم بذاك فإنها تحرم نفسها من بركات كبيرة، فيحق لها أن تصر على ما تراه صوابا، كما يحق لغيرها على أن يصر على رفض رؤيتها. وتدل السيرة العملية، والنصوص الصريحة لأئمة أهل البيت على هذا الأمر. فهذا الإمام علي صلوات الله عليه لما رأى أن الأمر قد صار في أيدي غيره، لم يعمل ما يضر مصلحة الأمة ليسترده، وإنما قال: ((لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن الجور إلا علي خاصة))، هذا مع أن النص فيه أوضح وأصرح وأشهر من النص على عموم أهل البيت. أيضا قوله: ((لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر)) يدل على أنه لن يقوم للأمر إلا إذا رضيت الأمة، ونصرته كقيادة، وإلا فإنه سيبقى مكانه. وكذلك موقف الإمام الحسن بن علي من معاوية لما رأى أنه فقد الناصر. ثم الإمام زيد بن علي لما سألوه عن سبب قيامه على بني أمية، والبراءة منهم، وعدم البراءة من أبي بكر وعمر، فقد بين الإمام بهذا أن خلافهم لم يوجب ما يترتب عليه البراءة. ثم أضاف مسوغ الخروج على بني أمية دون الخليفتين:((إن هؤلاء ظالمون لنا ولكم))، فبين أنه في حالة ما يكون الظلم على الإمام فقط، بمعنى أن الإمامة معقودة لغيره، في تلك الحالة فإن الإمام لا يتعين عليه القيام، أما في حالة أن يتعدى الظلم، ويصبح على الأمة بأسرها، فإن القيام واجب. ثم إن مواقف الأئمة العملية دلت على هذا، فلم نر إماما ممن يحتج بإمامته قام في وجه حاكم عادل، لمجرد أن ذلك الحاكم ليس من أهل البيت، بل دلت نصوصهم كلها على أن دعوتهم إنما كانت للإصلاح وإعادة العدل في الأمة. هذا الإمام الحسين صلوات الله عليه يقول لنا: ((ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا ينهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا شقاوة)) والإمام زيد
نجد أن دعوته كانت إلى : الكتاب، والسنة، ودفع الظالمين، ونصرة المظلومين، وقسم الفيء بين أهله بالسوية. وأما دعوة الإمام الحسين بن علي الفخي صلوات الله عليه فكانت:((أبايعكم على كتاب الله وسنة نبيه، والعدل في الرعية والقسم بالسوية، نحل ما أحل القرآن والسنة العادلة، ونحرم ما حرم القرآن والسنة العادلة، ونكون على ذلك أعوانا بجهدنا وطاقتنا، وتجاهدوا عدونا وتفلحوا معنا فإن وفينا لكم وفيتم لنا وإن خالفنا فلا طاعة لنا عليكم، وعليكم عهد الله أن تجاهدونا فيمن جاهدنا إن نحن خالفنا، ثم قال: اللهم، اشهد)) والإمام إدريس
نجده في دعوته يشدد على الدعوة إلى الكتاب والسنة والعدل والقسم بالسوية ودفع المظالم والأخذ بيد المظلوم، ويشير إلى الأرامل والأيتام الذين افتقروا وتركوا. ثم نجد الإمام محمد بن إبراهيم لما رأى عجوزا فقيرة تتبع أحمال الرطب لتأكل ما سقط منها فقال لها: ((أنت والله وأشباهك يخرجوني غدا حتى يسفك دمي...)) وهكذا نجد في أقوال غيرهم من الأئمة أن الدعوة ليست إلى إمامتهم، وإنما إلى العدل والشرع. وما نجده في بعض الدعوات من طلب رفع الظلم عن أهل البيت، فبسبب ما كان يقع عليهم من الظلم المخصص، وقد سبقت الإشارة إلى بعض ما كان يقع عليهم. وقد لخص تلك الحال الإمام المؤيد بالله أحمد ابن الحسين (411ه) في قوله: ((ووجدت أهل بيت النبي" مقموعين مقهورين مظلومين، لا يؤهلون لولاية ولا شورى، ولا يتركون ليكونوا مع الناس فوضى، بل منعوهم حقهم، وصرفوا عنهم فيئهم، فهم يحسبون الكف عن دمائهم إحسانا إليهم، والانقباض عن حبسهم وأسرهم إنعاما عليهم)). خلاصة القول إن الزيدية إذ تؤمن بحصر الإمامة في أهل البيت، فإنما تؤمن بذلك لأدلة ترجحت لديها، ولكنها لا تفرض هذا الإيمان على أحد، ولا تعادي من خالفها فيه، ولا تفسقه، ولا تضلله، وترى أنه يتعين عليها أن تقبل القيادة الصالحة التي ترتضيها الغالبية من الأمة. بل إن الزيدية لم يعرف عنها أنها تفسق من يخالف في إمامة الإمام علي بن أبي طالب
، فضلا عن تفسيقها من لا يرى إمامة أهل البيت.
تبعا لهذا ألحقت أمرين: أولهما: الصفات التي ترى الزيدية أنها يجب أن تكون فيمن ترشحه للأمر من أهل البيت"، وذلك ليعلم أن الأمر ليس مجرد اختيار من أسرة ما، وإنما اختيار لمن تميز في الأمة؛ وثانيهما: بعض من الدعوات السياسية التي كان أئمة أهل البيت يدعون من خلالها إلى إقامة الحق. وقد اخترت ثلاثة مقاطع لثلاثة أئمة من ثلاثة مناطق مختلفة.
صفحه ۱۱۱