ولو ترك الناس وقوى عقولهم وجماح طبائعهم، وغلبة شهواتهم، وكثرة جهلهم، وشدة نزاعهم إلى ما يرديهم ويطغيهم، حتى يكونوا هم الذين يحتجزون من كل ما أفسدهم بقدر قواهم، وحتى يقفوا على حد الضار والنافع، ويعرفوا فصل ما بين الداء والدواء، والأغذية والسموم، كان قد كلفهم شططا، وأسلمهم إلى عدوهم، وشغلهم عن طاعته التي هي أجدى الأمور عليهم وأنفعها لهم، ومن أجلها عدل التركيب وسوى البنية، وأخرجهم من حد الطفولة والجهل إلى البلوغ والاعتدال والصحة، وتمام الأداة والآلة. ولذلك قال عز ذكره: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ".
ولو أن الناس تركهم الله تعالى والتجربة، وخلاهم وسبر الأمور وامتحان السموم، واختبار الأغذية، وهم على ما ذكرنا من ضعف الحيلة وقلة المعرفة وغلبة الشهوة، وتسلط الطبيعة، مع كثرة الحاجة، والجهل بالعاقبة، لأثرت عليهم السموم، ولأفناهم الخطأ ولأجهز عليهم، الخبط، ولتولدت الأدواء وترادفت الأسقام، حتى تصير منايا قاتلة، وحتوفا متلفة، إذ لم يكن عندهم إلا أخذها، والجهل بحدودها ومنتهى ما يجوز منها والزيادة فيها، وقلة الاحتراس من توليدها.
فلما كان ذلك كذلك علمنا أن الله تعالى حيث خلق العالم وسكانه لم يخلقهم إلا لصلاحهم، ولا يجوز صلاحهم إلا بتبقيتهم
صفحه ۳۱۹