ولما بدأ في كتابة القصص القصيرة كتب قصة قصيرة، أخذ يتغزل فيها في جمال بطلتها وفي شعرها الذهبي المنسدل على جبينها وعلى كتفيها، وفي عينيها الزرقاوين الواسعتين؛ فتملكني الغيظ لأن هذه الأوصاف لا تنطبق علي على الإطلاق، فخبأت القصة في حصن حصين لأثير غضبه.
وعندما عاد من الخارج سأل عن «الكشكول» الذي كتب فيه قصته فقلت له: إنني لم أره. فثارت ثائرته، ولما بلغت مأربي في إثارته أظهرت له القصة، وقلت له: «أنت عندك عقدة الخواجة.» هل تعتقد أن الشعر الذهبي والعيون الزرقاء هي الشرط الوحيد للجمال؟ فقال لي منتقما أنا أعجب كثيرا بالشقراوات.
وكان لا يحب المرأة المتكلفة التي تبالغ في إظهار زينتها، ويحب فيها أناقتها وبساطتها، ولا يحب المرأة التي تتكلم في المواضيع العامة كالسياسة مثلا بحدة مثل الرجال، ولا يحبها أن تحاول في مناقشتها أن تحل مشاكل الشرق الأوسط. وكان له مناقشة قاسية مع سيدة تتكلم عن الذرة والإشعاع وهي ليست متخصصة، ولم تشفع لها أنوثتها عنده.
وأحب أن أضيف أنه كلما رأى المذيعة الجميلة نجوى إبراهيم على شاشة التليفزيون كان يقول لها من على المقعد وهي على الشاشة ولا يبالي بوجودي ويقول بصوت عال: «أنت قمر!» ويتكرر هذا الإعجاب كلما ظهرت أمامه.
كان لا يفوته مسلسل في «التليفزيون» وكان يتابعه باهتمام شديد ويقول لي: «هذا بالنسبة لي شغل.» أما أعماله «التليفزيونية» فقد اعتاد أن يرى بعضها مختلفة تماما عما كتب، ولكنه كان يقول: «أنا مسئول عن كتابتي فقط.» وكان له مسلسل في السبعينيات فيه طفل حديث الولادة تحمله أمه بين ذراعيها، وكان والده في سنة أولى في كلية الطب، وتخرج الأب بعد سبع سنوات ولا يزال الطفل محمولا على ذراع أمه، وفي نفس حجمه عندما ولد، ولم يتمالك زوجي أن يطلب المعد ويصرخ فيه: ماذا فعلتم بكتابي؟! وعرض له فيلم سينمائي لا يمت لكتابه بأية صلة ولكنه فقط يحمل اسمه.
وكان يحب أن يشاهد أفلام الفيديو ويقول: إنني أنا الذي أقرر ما أريد أن أراه، لا يتحكم في أحد (يقصد التليفزيون)، ويطلب مني دائما أن أذهب إلى مكتب الفيديو في الزمالك لأختار له أفلاما مسلية وخفيفة، ويقول لي: عندما أعود من عملي لا أحب أن أتعب ذهني فاختاري لي أتفه الأفلام. فأذهب إلى مكتب الفيديو وأختار فيلما تافها، فترشح البائعة فيلما جادا فأقول لها: أعطيني فيلم «الفول صديقي» وفي يوم آخر تعرض علي فيلما تاريخيا معروفا فأقول لها بل أعطيني فيلم «تجيبها كده تجيلها كده هي كده»، وفي اليوم التالي لم أذهب بنفسي وإنما أرسلت السائق، فلما عاد قال في انفعال ظاهر: البائعة قالت لي «كلام وحش أوي». - ماذا قالت؟ - قالت كيف يستطيع ثروت أباظة أن يعيش مع هذه السيدة وهي بهذه العقلية التافهة؟
فضحكت لأني لم أشاهد هذه الأفلام بالمرة، بل أحيانا أنظر إليها ولا أتتبعها فأنا لا أطيق التفاهة بطبعي، ولكني أتفهم رغبة زوجي في مشاهدة هذه الأفلام، فرأسه مشحون بقضايا كثيرة متنوعة، وهي مسئولية كبيرة تتعب تفكيره وترهقه؛ فيحاول أن يخفف منها قبل النوم، ولكن حاسته الفنية كانت تغلبه، وكان يسعى إلى مشاهدة أفلام نجيب الريحاني كلها في الفيديو، كل ليلة يشاهد فيلما ولما تنتهي الأفلام كلها يعيدها من جديد، وكان يحفظ كثيرا من حوارها، وعلى رغم إعجابي الشديد بنجيب الريحاني إلا أنني لم أكن أحب أن يشاركنا حياتنا بهذا الشكل.
أبوة حانية وتدليل
وبعد مضي خمس سنوات رزقنا الله بأول طفلة وأسميناها أمينة على اسم زوجة أبي أمينة صدقي، وهي الأم التي أكرمنا بها الله بعد وفاة أمنا، وقد أسميناها على اسمها، وهو أقل ما نستطيع أن نظهر لها به مشاعرنا. ومضى العهد الذي تصرفنا فيه كشباب مدلل، وبدأ كل منا يمد يده للآخر ويسانده بكل ما أوتي من قوة، ويعتبر كل منا الآخر كهفه الذي يحميه من الأيام. ولكن بدأ الخلاف على تربية الأولاد؛ فويل للأم من أول طفل، وويل للطفل من أول أمومة؛ فالطفل الأول يعاني من عدم خبرة أمه، والأم تعاني بدورها لأنها لم تتعامل قبل ذلك مع هذه المخلوقات الصغيرة؛ فكلاهما معذب.
بعد عامين جاءنا دسوقي وهو على اسم دسوقي باشا والد ثروت، بدأت الخلافات لأنني كنت أريد الدقة في المواعيد وفقا لما قرأت في كتب تربية الأطفال، وكان زوجي يسخر من مواعيدي ومني ويوقظ الأولاد بعد أن يناموا لأنه اشتاق لهم، وكان علي أن أكرر المجهود الشاق الذي تعرفه كل أم عندما تنيم أطفالها، ولم يكن أطفالي ممن ينامون بسهولة. كنت أبالغ في التمسك بالقواعد الصحية وكان زوجي يقول لي: الريف فيه أطفال أكثر مما يجب، ولا يراعي أحد هناك القواعد الصحية. وتمر الأيام ويتكون في بيتنا حزبان؛ حزب فيه زوجي والأولاد، وحزب أنا فيه وحدي؛ هم يريدون الفوضى وأنا أريد النظام، هم يريدون التسامح في الغلط وأنا أريد الضرب على أيدي هؤلاء الأشقياء الصغار، هم يريدون التربية الحديثة وأنا أريد التربية القديمة، هم يريدون السهر أمام شاشة التليفزيون في السن الصغيرة وأنا أريد النوم المبكر، هم يريدون - وبخفة دم - الحرية وأنا أريد - بجدية - الضبط والربط. وكنت أحيانا أشك في أدائي لأنني وحدي ضد الأغلبية.
صفحه نامشخص