سَطْوَةَ الْعِقَابِ وَلَا نَارَ الْعَذَابِ وَلَا بُعْدَ الْحِجَابِ. ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: ١٩] .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ «أَنَّهُمْ اقْتَسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ أَوَّلَ مَا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ بِالْقُرْعَةِ، قَالَتْ، فَطَارَ لَنَا: أَيْ وَقَعَ فِي سَهْمِنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ أَفْضَلِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَكَابِرِهِمْ وَمُتَعَبِّدِيهِمْ وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ، حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْت: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْك لَقَدْ أَكْرَمَك اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْت: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ»: أَيْ فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَبْرَزَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةَ جَازِمَةً بِهَا مُتَيَقِّنَةً لِمُقْتَضَاهَا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ قَطْعِيٍّ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَا أَنْ تُبْرِزَهَا فِي حَيِّزِ الرَّجَاءِ لَا الْجَزْمِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ ﷺ: «مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ: فَوَاَللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا»: أَيْ عَلَى جِهَةِ الْجَزْمِ وَالتَّيَقُّنِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ الرَّجَاءِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، قَالَتْ: وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ فَنِمْت فَرَأَيْت لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: ذَاكَ عَمَلُهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ هَذَا قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَدَّهُ وَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ الْكَرِيمَةُ عَلَى خَدِّ عُثْمَانَ وَبَكَى الْقَوْمُ، فَقَالَ ﷺ: «اذْهَبْ عَنْهَا أَيْ الدُّنْيَا أَبَا السَّائِبِ لَقَدْ خَرَجْت عَنْهَا وَلَمْ تَتَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ» وَسَمَّاهُ ﷺ السَّلَفَ الصَّالِحَ "، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قُبِرَ بِالْبَقِيعِ ﵁.
فَتَأَمَّلْ زَجْرَهُ ﷺ عَنْ الْجَزْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ فِي عُثْمَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ شَهِدَ بَدْرًا، وَقَوْلَهُ: «وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، وَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ»، وَكَوْنَهُ قَبَّلَهُ وَبَكَى، وَوَصْفَهُ لَهُ بِأَعْظَمِ الْأَوْصَافِ وَأَفْضَلِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتَلَبَّسْ مِنْ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ، وَبِأَنَّهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَك وَإِنْ عَمِلْتَ مِنْ الطَّاعَاتِ مَا عَمِلْتَ أَنْ تَكُونَ عَلَى حَيِّزِ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ. ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ١٧] .
وَنَظِيرُ إنْكَارِهِ ﷺ هَذَا عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ إنْكَارُهُ عَلَى عَائِشَةَ ﵂. فَقَدْ
1 / 33