جاء الطبيب يلهث وينفخ مستعيذا بالله من الحر والغبار، فجلس على الديوان يستريح ونزع طربوشه يمسح العرق المتصبب من جبينه، وبعد أن شرب كأس الشربات الذي قدم على صينية من الفضة، دخل إلى غرفة مريم ففحصها فحصا بسيطا؛ جس نبضها، وأخذ حرارتها، وألقى رأسه على صدرها ثم قال: ظننت الأمر خطرا يا خواجة عارف فجئت كما ترى مسرعا، فلا شيء والحمد لله يزعج البال، التهاب خفيف في شعب الرئة ودرجة واحدة من الحمى.
وكتب الوصفة وسلمها إلى الخادم، وجلس على الديوان يدخن بالأركيلة التي أعدت له ويشرب القهوة، وبعد أن هنأ عارفا وطمأنه وباحثه في القديم والحديث من أخبار الدولة والدول ودع وانصرف.
ولكن عارفا ظل مشككا، وبعث يستدعي الطبيب الإفرنجي الشهير ليتحقق ما قاله الطبيب السوري، فعاد الخادم يقول: الحكيم يكون هنا الساعة الثامنة مساء، والموعد في لغة إفرنج الشرق وقت غير محدود، ففي الساعة التاسعة سمع ضجيج سيارة في البستان، سيارة الحكيم! دخل حضرته والقبعة في يده، فسلم باللغة العربية التي يحسن شيئا منها، وراح توا يفحص المريضة فحصا دقيقا؛ وضع قلم الحرارة في فمها وأخذ نبضها يجسه والساعة في يده الأخرى، ثم فحص لسانها وقبض على لحيته واجما، ثم استخرج من جيبه آلة فوضعها على صدرها وظهرها يستطلع خبر رئتيها فهز رأسه مرتابا، ثم ضرب بقضيب من النحاس عظم ساقها وقطب جفنيه، ثم سألها أن تمد يدها وتبسط أناملها فشاهد فيها اهتزازا قليلا، فضجرت مريم وتأففت ولم تجب الطبيب إلا على بعض سؤالاته المتعددة.
خرج حضرته وعارف إلى فناء الدار يحدثه بأمرها، وسأله سؤالين امتقع لهما وجهه ولم يدر ما يقول جوابا: مرض الست على ما يظهر مزدوج، يلزمها راحة بال وهواء نقي وغذاء، لتفتح شبابيك غرفتها ليل نهار، لتلازم سريرها بضعة أيام، وبعدئذ انقلها إلى الجبال؛ جبال لبنان حيث يكثر الصنوبر، وسأعودها بعد يومين.
ودفع إلى عارف الوصفات التي خطتها أنامله وأملاها عليه علمه الغزير؛ أربع وصفات لا غير. - لتشرب من هذا قبل الأكل ومن هذا بعده، ولتدهن من هذا، ولتتنشق من هذا. - وهل من خطر على حياتها؟
فبزم الحكيم شفتيه وذوى ما بين عينيه وأمال برأسه مفكرا، ثم قال: في كل مرض خطر على الحياة وأمل بها، والأمل بشفاء الست أكبر من الخطر.
وأمر عند الوداع أن تفرد أواني الأكل والشرب عن أوانيها، فعاد عارف يهز رأسه ويقول: هذا ما توقعت، هذا ما خشيت، وخطر في باله أن يسأل الحكيم سؤالا آخر فلم يلحقه في الباب، كر دولاب السيارة وراحت تهدر خارج البستان.
وفي اليوم الثاني أحست مريم بتحسين في حالها، ولم تفتح واحدة من القناني التي وصفها النطاسي الإفرنجي الشهير، ونزل عارف إلى مكتبه يتفقد أشغاله، فسمع من أقوال الناس والإشاعات عن امرأته وأبيها الراهب ما أثار شجونه وهاج كوامن غيظه، وعزم أن ينقل مريم إلى لبنان ريثما ينتسى أمرها.
وبينا كان عارف في مكتبه جاء القس بولس، وكان قد وصل ذاك اليوم ليتفقد ابنته، فوقف في باب البيت بحيفا كما وقف في ذاك الباب في شارع قصر النيل. - مستحيل يا محترم الخواجا في المكتب، الست مريضة والطبيب لا يؤذن لأحد بمقابلتها. - هذا قانون للغرباء. - لكل الناس يا محترم. - لا بد من أن أدخل.
وهم القس بولس بالدخول فأوقفه الخادم قائلا: لا لوم على خادم يعمل بأوامر سيده، أرجوك أن تخرج.
صفحه نامشخص