ولما وصلوا إلى ذاك المشرف العالي بدت البلاد أمامهم في حلة باهية حاكتها شمس المغيب، فأكسبت مروجها رونقا وآفاقها اتساعا، هنا سهل الغوير يزدهي ببساتينه وتترقرق فيه الينابيع ماء طهورا، وماء أجاجا، وهناك إلى جوانب البحيرة جبال شامخة قائمة كالقلاع على ضفاف البحار، وسواد أحراجها وأدغالها يستحيل من نور المغيب ازرقاقا فاحمرارا فاصفرارا، والبحيرة كالطفل على صدر أمه هادئة ساكنة تنصت إلى هديل الحمام وتسمع فوق الهديل حفيف أجنحة النسور، وهنالك شمالا يبدو جبل الهرمل أبيض اللمة يحيي الجبال المتوارية وراء قمة طابور، والشمس فوق الناصرة المحجوبة عمن وقف فوق سهل الغوير تشع بأشعتها الصفراء المائتة فتملأ السهول المنورة حزنا وتصفر لفراقها وجوه الربى، وفي هذه السكينة يسمع الواقف على ذاك الجبل طنين أجراس المواشي عائدة إلى زرائبها وأجراس خيل العربات في الطريق المختبئة تحت جفن الجبل.
فقالت مريم وهي في وسط ذا المشهد: أجمل وأحزن ما فيه؛ غروب الشمس غروب الحياة.
ثم ضم فريد صوته إلى أصوات الحمام والأجراس سائلا: بابا، أين تلوه الشمس؟ - تسوح في الأرض يا حبيبي. - وبكله تلزع؟ - بلى. - وليس تلوه الليلة إذا كانت بدها تلزع بكله، ما تتعب من المسي في الليل؟
فضحك أبوه وقال مطمئنا: غدا نعزمها تبيت عندنا.
فضرب فريد كفا على كف هاتفا: أيوا، وبكله أنام أنا والسمس، أنا أهب السمس.
فضمته أمه إلى صدرها وجعلت تقبله ضاحكة باكية.
ولما عادت وإياه وزوجها إلى البيت كان القس بولس والقس جبرائيل ينتظرانهم للعشاء، وكانت لطيفة قد أعدت لهم مائدة فخمة من سمك البحيرة المشوي والمقلي، ولحم الضأن المطبوخ بالخمر والدجاج المحمر والأرز المفلفل والمحاشي والرمان المفروط بالسكر، والجبن والعسل وتوابعهما، فقدمت الألوان دفعة واحدة على طبق كبير من النحاس الأبيض الشامي المنقوش، وهي تقول: لو كنت أحسن الكتابة يا بنتي مريم لكتبت لك لائحة الطعام، تفضلوا.
ولم يفهم غير مريم هذه الإشارة، فابتسمت وأشارت إلى لطيفة أن اسكتي، وجلس الجميع على مساند إلى المائدة، ولطيفة واقفة تنتظر الأوامر وتقص عليهم بين الفصل والفصل من قصص فريد وعجائب ذكائه.
وقد كان إصغاء مريم إلى هذا الحديث أكثر من أكلها، وبعد العشاء قدمت القهوة وجاءت لطيفة بأركيلة إلى سيدها عارف أفندي، وخرجت ومريم إلى المصطبة قدام الباب تستنشق الهواء، ثم عادت تقول لزوجها: غدا نسافر من هذه الأديار، لا أقدر أن أعيش هنا، الوحشة تروعني، والحر يهلكني، أكاد أختنق. - مؤكد، مؤكد، سنسافر غدا.
ودخلت مريم إلى غرفتها تخلع ثيابها، ثم جلست أمام الشباك تتأمل الظلمات المخيمة على السهول والجبال، وكان الليل ليل الغور هادئا خامدا ساكنا لا يحركه من أصوات الأرض غير خرير الينابيع التي لا تسمع في النهار، وصرير الجنادب الذي لا يتعشق غير الظلمة ولا يتحمس في أناشيده لها إلا إذا سكت الليل من شدة الحر منصتا، وكانت ترى بين الأدغال وفي جوانب الربى أقساما من مجاري المياه تتلألأ كأنها سيوف وحراب امتشقتها العبيد السود ليدفعوا عنها بلية مقبلة، نظرت إلى السماء فرأت النجوم تهتز فيها كأنها دراهم في يد بخيل أو أزاهر من النيلوفر في بحيرات يداعبها النسيم.
صفحه نامشخص