ومشت والقس جبرائيل إلى منعطف الجادة فإذا بعربة تنتظر هناك، فركبت وإياه وراح الحوذي يحث خيله إلى الجيزة، ومنها إلى ناحية الأهرام، وبعد سير ساعة وما يزيد وقفت العربة، فترجل القس جبرائيل وصرف الحوذي ودخل وغصن البان في بستان من النخيل ماشين مسرعين جنبا إلى جنب. - إلى أين يا قس جبرائيل؟ - إلى بيتي. - ويلي! هذه الظلمة مخيفة مرعبة.
اجتازا في ذاك البستان إلى الصحراء فأصبحا بعيدين عن الحقول والسبل فيها، ضل القس جبرائيل الطريق تاه ورفيقته في البادية، في بحر من الرمال وبحر من الظلمة، مشيا ساعة فأعياهما المشي، فرمت غصن البان بنفسها على الرمل تئن من التعب والخوف. - أين بيتك يا قس جبرائيل، ربي! ما عساك تصنع؟ إلى أين، آه ما ألطف هذا الهواء! دعني أستريح قليلا، اجلس تسترح، اجلس هنا إلى جانبي، هواء الليل منعش وظلمة الليل إذا كنت قربي لا تخيفني.
وقف القس جبرائيل وقد أحس من نفسه وهنا ينظر غربا وشرقا وجنوبا وشمالا يسأل الله الهداية، ولكن البادية كلها طريق والليل كله طريق أخرى ولا حاجز في الطريقين ولا حد لهما. - انهضي يا بنتي، امشي، امشي، الله معنا، ها قد تراءت لي ظلمة أشد ظلاما من الليل واقفة كالطود هناك، هذا الهرم، لله! ما أقرب الطريق إلى الجحيم وما أبعدها منه، ما أقصرها ذهابا وما أطولها إيابا!
واستأنف ورفيقته السير ثم وقف فجأة يسند رأسه بيديه من صداع بل دوار أصابه. - ما بالك يا قس جبرائيل؟ لماذا لا تجلس قليلا فتستريح، دعنا ننتظر هنا ريثما يطلع الفجر، النوم على الرمل تحت السماء لذيذ. - امشي يا بنتي امشي، هذا الهرم، قد اهتدينا إلى الطريق، وقريبا نصل إلى البيت .
وهب إذ ذاك الهواء البارد رسول الفجر فجعل يصفر في نخاريب حجارة الهرم فيستحيل صفيره صياحا بشريا وعويلا، فخيل إلى القس جبرائيل لما اعتراه من العياء والدوار أن أناسا هناك يقهقهون ويضحكون منه، بل سمع أصواتا تقول: صفقوا للناسك! قد فاز بقوت قلبه. - حيوا الناسك وعروسه! - خذوا الدفوف واضربوا وارقصوا!
وكان صدى العويل والصفير يتراجع في هبوب الرياح، فسمع الراهب تلك الأصوات حول الهرم كأنها أصوات خارجة منه. - لو أحبها لرحمها، لتركها تنعم في جحيمها. - لو أحبها لعاش وإياها هناك. - لو أحبها لقتلها. - تبارك ضلاله! وتباركت أوهامها! - خذوا الدفوف واضربوا وارقصوا ...
هدأت الريح قليلا ولم يهدأ ما أثارته في قلب القس جبرائيل من الهواجس والأوهام، فقبض على يد غصن البان وقد تصور أنها تحاول الفرار منه وأسرع في مشيه، لقد سمع أصواتا لم تسمعها، ولكنها أحست باضطرابه وسمعت تنهداته، وكادت نار يده تحرق معصمها. - ما بالك يا قس جبرائيل؟ ما بالك؟ - لا شيء يزعج يا بنتي، لا شيء.
ولكنه كان يسائل نفسه قائلا: وما هي يا ترى هذه الأصوات المرعبة؟ أتضحك الأموات منا؟ أتنذرني بحبوط مسعاي؟ - يا قس جبرائيل ... - وصلنا يا بنتي، وصلنا.
وما كاد يقف في باب كوخه حتى تراءى له خيال أبيض حول رأسه هالة من النور، فسمعه يقول: أنا الرحمة، أنا المحبة، من يميت نفسه يحييها، ومن يحيي نفسا أخرى يحيي نفسه.
دخل إلى الكوخ يرتعد وجلا وغصن البان لم تزل في قبضته، فأجلسها على مرتبة من الخشب فيه وأشعل القنديل. - هذا سريرك، نامي يا بنتي، لقد أعياك المشي وأراك ترتعدين بردا، نامي قليلا.
صفحه نامشخص