فقاطعه القس جبرائيل قائلا: إذا اهتديت إلى البيت فأنا أقصده، أنا أسعى إليها، أنا أقابلها، فقد جئت من فلسطين لهذه الغاية، وهل لك أن ترافقني الآن أهديك إلى كوخي، فتجيئني بعد البحث بالخبر اليقين؟ - نعم، نعم، ولكني لا أكتمك يا أبتي أن في عملك هذا قد تنقذ نفسين وقد تهلك نفسين. - مشيئة الله، لتكمل مشيئة الله.
وخرج الراهبان من المدينة أصيل ذاك النهار وركبا بعد أن وصلا إلى الجيزة «الترامواي» ساكتين لم يفه أحدهما بكلمة واحدة فنزلا قرب الهرم الكبير ومشيا في طريق بين سهول صفراء وخضراء قرب نصف ساعة وإذا هما أمام بيت من اللبن حقير. - هذا منزلي اليوم وهذه الطريق إليه، لا أظنك تضلها سأنتظرك مساء غد هنا، لا أحب التردد إلى المدينة ولا إلى الدير كثيرا، فأستحلفك بالله ألا تتخلف. - بل أكون عندك غدا بعد الظهر، أو عند الغروب، أظن إدارة البوليس قد اهتدت إلى منزل الفتاة، وقبل الوداع يا أبتي أرجوك أن تخبرني ... ولم يكمل القس بولس الجملة، بل وقف مترددا. - قل ما تريد! - قلت: إن أم الفتاة أوصتك بها، فهل تبوح لي باسمها. - وما المانع؟! اسمها يا أبتي سارة. - سارة، سارة!
ورفع القس بولس يده يحجب بها وجهه. - سأوافيك غدا هنا.
وعاد إلى البلد ومراجل الحيرة واليقين تغلي في فؤاده يخاطب نفسه قائلا: سارة، سارة، ما أكثر السارات في فلسطين، قد تكون هي، وقد لا تكون، قد تكون وقد لا تكون، وإذا كانت هي بعينها؟ ربي! أيفرح الآباء بلقاء بنيهم وأحزن عند لقاء بنتي، مريم بنتي، أممكن ذلك؟! ولم اهتمام القس جبرائيل لها؟ قد كان القس جبرائيل في الدير لما خرجت منه وهجرت تلك الامرأة، فعادت من كفر كنا إلى الناصرة، أذكر ذلك، لا، لا، مستحيل، مستحيل، عشرين سنة يدفن سري فتبعثه اليوم حيا أيها الرب لتطهرني، لتهلكني في الدنيا كي لا أهلك في الآخرة، لما أحببت تلك الامرأة واستسلمت إلى عاطفة هي فينا منك يا ربي؛ عاطفة الحب المقدسة، فأنت سبحانك الحب. أكان ذلك لكي تتعذب الأم ويعيش الأب كاللص، وتشقى الابنة شقاء اليتيمة البغي؟ إذا هربت من العار المحيق الآن بي أممكن أن أهرب من وجهك؟ إذا قتلت نفسي أممكن أن أقتل إثمي؟ سيفتضح غدا أمري، سيدهش الناس غدا سري، فيلعنني القاصي والداني وأمسي طريدا شريدا منبوذا ذميما ... وقد لا يكون مما أظن شيء، سارة! ما أكثر السارات في بلادنا! وما أكثر اليتامى وما أكثر المريمات! فلماذا تعذب نفسك بالأوهام أيها الرجل؟ وإذا تحققت الأوهام، آه يا ربي، غصن البان ابنة القس بولس عمون الشهير الحامل على الرقص والرواقص والتهتك والفسق والخلاعة، أواه! ما هذا الحساب الذي تناقشنيه يا رب! بنتي طالما حننت شوقا إليها، طالما أسفت لأن أمها حملتها رضيعا إلى الدير، طالما ندمت على فعلتي، بنتي كم ليلة سهرت متهجدا أسأل الله أن يجمعني بك، وها إني الآن قريب منك، قريب منك؟ ومن يعلم، ألأنني قريب منك أرتجف كالقصبة في الريح العاصفة، ومما أخاف يا ترى؟ أأخاف بنتي؟ أأخشى ملقاك؟ وما الذي يجعلني مخالفا الآباء؟ مخالفا النواميس البشرية الإلهية في الحب؟
إن النذور والترهب والتنسك والتعبد لطرق ضيقة كلها، مظلمة، باردة، إذا قوبلت بطريقك، أيها الحب الإلهي! فإذا عدت إليك، إذا سجدت أمامك، إذا اقتبلت الخزي والعار من أجلك فقليل ذلك قليل، وسأقتبله قانعا، شاكرا، راضيا، تكفيرا عن ذنبي يا سارة بل عن ذنوبي، غصن البان الراقصة الخاطئة الساقطة ابنتي! يا للحبور ويا للسرور! سأضمها غدا إلى قلبي، سأضمها غدا إلى قلبي، سأقبلك أيتها الخطيئة المتجسدة كما قبلك السيد في قديم الزمان، سأبني لك بيتا في فؤادي، سأقضي الليالي ساجدا في نور شمعتك الضئيل أمام الرب إلهي، ارحمني يا الله حسب رحمتك وحسب كثرة رأفتك امح معاصي.
الفصل الحادي والعشرون
في الفضيحة نوع من الشهرة يلبس فريق من الناس ثوبها الأصفر على علاتها شفافا باليا، فيبدون سوءة النفس وإن واروا سوءة الجسد، كيف لا وهم يبذلون في إعلان أنفسهم الأموال الطائلة والفضيحة تعلنهم مجانا؟ ففي أوروبا وأميركا إذا تناولت صحف الأخبار أسرار ممثلة فهتكتها تزداد تلك الممثلة شهرة فيروج سوقها ويتسابق المدراء إلى المتاجرة بها وبفنها، فتنتقل من بلاد إلى أخرى ومن ملهى إلى آخر والإقبال حليفها، والأموال بين يديها تتصرف بها كيف شاءت أميالها وأهواءها، أما في الشرق حيث لا تفصل بين المرء ومهنته بين آدابه وفنه، فالخزي والفشل والعار تحيق به في الحالين.
سقطت غصن البان في القاهرة فنسي الناس رقصها، وأفسدت طلاسم سحرها؛ فجفاها كل أصحابها ما سوى سر همت باشا، ولم يجئها كلمة تعزية أو تشجيع من أحد سوى ذاك الكتاب من الحاج محيي الدين فودت غصن البان أن تغمسه بالسم وتلقمه إياه.
وحيدة، طريدة، منبوذة، فماذا عساها تصنع؟ إلى أين تذهب؟ كيف تتجه الآن بآمالها؟ فكرت في أمرها ثم فكرت وهي تظهر في أشد شداتها هذه من الضعف قوة، فوطنت النفس على أن تقيم في القاهرة ريثما تسكن العواصف وتهدأ الرياح، ونقلت من قلب البلد إلى إحدى زواياها المظلمة؛ هربا من الشماتة، بل هربا ممن يعرفونها ولا يحفلون بها، فهي تطيق عذاب الوحدة والخمول ولا تطيق ظلم الشهرة والخذل.
ولكن اثنين بحثا عنها؛ القس بولس عمون وسر همت باشا واهتديا إلى منزلها في مصر العتيقة. وسر همت سعى إليها ذات يوم يعزيها ويطيب نفسها ويعرض عليها المال، ويرجوها أن تقتبل ضيافته إلى أن تفرج كربتها وييسر الله أمرها. - البيت في الجزيرة مفروش مهجور تقيمين فيه وخدمك. - لا وحياتك لا، أرجوك ألا تحدثني بالبيوت، اعذرني يا صديقي، اعفني، صرت أخشى المعروف كما أخشى الأفاعي، صرت أخشى المكارم كما أخشى الوحوش الضارية. - غصن البان! - أرقص لك يا سر همت وأبسطك، ولكني لست آلة طرب تتناولها الناس فيضربون عليها ويعبثون بها ويسكرون على أنغامها، لا لا، لست كمنجة تؤجر أو تعار أو تشترى، وهب أني آلة طرب يا سر همت يا صديقي فقد تقطعت أوتاري، تقطعت كلها. - ما أنصفت والله ما أنصفت، أسأت فهمي، أهنتني، أسألتك يا غصن البان شيئا من أشياء الحب مرة؟ وهل كنت ممن يحومون حولك ابتغاء هبة من هبات جسدك؟ - لذلك أخشاك. - أنا صديقك، وقد قلت مرارا: إنك لا تحبينني، ولكني ما من مرة شككت في أنك تعتبريني وتكرميني كما أعتبرك وأكرمك، أجل يا أختي مواهبك، وأريد أن أعزز فنك، فنك يكبر على ذي البلاد، مستقبلك يا غصن البان في أوروبا؛ في باريس في لندرا في فيانا في برلين، ولقد فكرت في أمرك كثيرا، اسمعي، لا تنظري إلي عاشقا أو صديقا أو محبا أو وليا، أكلمك الآن كما يكلمك مدير من مدراء التياترات، تعلمين أن أصحابي ومعارفي في لندرا كثيرون، وبينهم ذوو النفوذ في عالم التمثيل هنالك، سأسافر هذا الصيف إلى لندرا وأنوه بك هناك، أطبل وأزمر لك، أنت الآن راقصة شرقية شهيرة، ظهرت في مصر وفزت فيها فوزا مبينا رغم أنوف البغاة والسعاة والحساد، سأخابر أحد المدراء بشأنك هناك، فتظهرين إن شاء الله في لندرا كالشهيرات من الرواقص لا كالمبتدئات وإني واثق بفوزي، دعيني أسعى من أجلك. - لا، لا، لا أريد أن يسعى أحد من أجلي، سأسعى لنفسي. - إن ثقتك هذه بنفسك لجميلة، وجميل إباؤك، سأسعى إذن من أجل الفن؛ فنك لا من أجلك، وإن شئت أن تشاركيني في الأرباح فلا أعف عنها. - إذا كنت ترى في رقصي ما ينبغي أن يراه الأوروبيون، وإذا كنت تعاملني كما يعاملني وكيلي أو مديري، وإذا كنت تقبل مني جزءا من إيرادي، وإذا ... - وإذا، وإذا، وإذا، كفاك من ذي الإذا بل الأذى فقد آذيتني جدا، أعمل كما تشائين. - وأنا قابلة. - وسأسافر هذا الصيف إلى لندرا وعساني أفوز بما أبتغيه فأكتب إليك كي تسافري أو أعود بنفسي فأستصحبك، أنا الآن وكيلك ومدبرك، ولكن إقامتك هنا يا أختي، يا صديقتي! وها إنك لم تزالي تسعلين، بالله أن تقبلي ضيافتي، البيت في الجيزة على شاطئ النيل جميل. - لا تحدثني بالبيوت، لا تحدثني بالضيافة، أنا راضية بما أنا فيه الآن، هذا البيت يكفيني، ومرجانة والحمد لله ومحمود لا يهجرانني. - تبصري بما أقول، البيت في الجيزة مهجور، انقلي إليه تقيمين فيه وخادماك، وإذا أحببت أن تدفعي أجرته أقبلها منك عندما تشتهرين بلندرا. - اعذرني، أفضل أن أبقى هنا، سأقيم في هذا الحي، في هذا البيت إلى أن يجيئني خبر منك، عزمت عزمي ولا أتحول عنه. - كما تريدين، أوترفضين عيادة طبيبي يعالج سعالك؟ - لا. - حسن، بارك الله فيك. - أوترفضين عزيمتي الليلة إلى العشاء؟ - أين؟ - في الكنتينتال، لا أغير عاداتي ولا ينبغي لك أن تغيري عاداتك، أحب أن يراك الناس معي، أفتخر بذلك؛ لأني كما تعلمين أحتقر هؤلاء الناس، كانوا أمس يهتفون لك كالمجانين، واليوم ينبحون عليك كالكلاب عليهم لعنات الله وإبليس، قومي بنا، لا يهمني اليوم بالقاهرة غيرك. - والموميات. - والموميات، عليك نور. - انتظر ريثما ألبس ثيابي. - ولتكن أحسن ما عندك وأجمل.
صفحه نامشخص