إهداء
مقدمة
1 - الزمان والمكان صدر المقولات
2 - تميز الزمان عن المكان
3 - متاهات إشكالية الزمان
4 - فض متاهات إشكالية الزمان
5 - الزمان اللاعقلاني
6 - الزمان العقلاني
إهداء
مقدمة
1 - الزمان والمكان صدر المقولات
2 - تميز الزمان عن المكان
3 - متاهات إشكالية الزمان
4 - فض متاهات إشكالية الزمان
5 - الزمان اللاعقلاني
6 - الزمان العقلاني
الزمان في الفلسفة والعلم
الزمان في الفلسفة والعلم
تأليف
أ.د. يمنى طريف الخولي
إهداء
إلى الأستاذ الدكتور: محمد عناني.
القيمة العليا في حياتنا الأكاديمية ...
وحياتنا الثقافية ... على السواء ...
قيمة تعلو على المكان ... وعلى الزمان.
ي. ط.
مقدمة
لا شيء البتة يهيمن على وعي الإنسان وعلى أحاسيسه، على عقله وعلى مشاعره معا مثل الزمان، وهذا منذ عصور الأساطير الألفية؛ حيث تترى أحداث الأسطورة عبر آلاف الأعوام الذهبية،
1
حتى عصرنا هذا الذي تجاوز المللي ثانية، والميكرو ثانية (واحد على مليون من الثانية) إلى النانو (واحد على بليون من الثانية)، البيكو والفمتو (واحد على مليون بليون) حتى الأتو (واحد على بليون بليون) وهي أصغر وحدة حاليا ولن تكون الأخيرة. وفي الوقت نفسه تمضي المحاولات العلمية الدءوبة لتقدير عمر الكون وكياناته، فتشتبك مع أحقاب تقدر ببلايين السنوات ... ثم يعلو على هذا وذاك إحساس الوجدان النابض بوقع الليالي ومضي الأعوام، والبحث التواق عن آفاق الأبدية السرمدية.
فهل الزمان في كل هذا عملاق يستوعب الوجود والعقل جميعا، أم أنه ليس هناك شيء اسمه الزمان أصلا وأنه مجرد إطار تصوري ابتدعه عقل الإنسان لينظم إدراكه للأحداث؟
إذا عني القارئ الكريم بتحديد موقفه من هذا السؤال، فسوف تصحبه الصفحات القادمة في رحلة عبر أقطاب العقل البشري لترسيم معالم مفهوم الزمان، ربما بدا الفصل الأول الموجز فاتحة مباغتة إلى حد ما لأنه قصير جدا ومكثف وقد لا يبدو سهلا، ومع هذا فإن كل ما يقصده أن الزمان والمكان - وليس الوجود - هما الإطار العام والفكرة المبدئية التي تجعل هذا الكون منتظما قابلا للتعقل. ثم تتوالى الفصول بعده أكثر سلاسة وأقرب إلى القارئ العام لتوضح تميز الزمان عن المكان، ثم إمكانية تعقب مفهوم الزمان عبر تياري العقلانية واللاعقلانية ، وأن هذا التناول يستبعد الخلط بين الأبدية وبين اللاتناهي.
تبدأ الرحلة ببدايات الفلسفة اليونانية مرورا بالعصور الوسطى والتصورات الإسلامية والمسيحية على السواء، فيكون لقاء مع تيارات صوفية ثم حدسية ورومانتيكية ووجودية ... وبالطبع يستوقفنا بتفصيل أكثر من سواه الزمان العقلاني المقاس أو المقيس، منذ أرسطو وشارحه الأعظم ابن رشد حتى زمان نيوتن المطلق؛ لينتهي بنا المطاف مع مضامين لزمان آينشتاين النسبي.
ونرجو أن يكون الإطار الذي رسمناه ضاما لجميع هذه العناصر وسواها في كل متآزر ومتكامل، له شيء من السداد، وبه شيء من الفائدة.
وعلى الله قصد السبيل ...
الفصل الأول
الزمان والمكان صدر المقولات
حين وضع المعلم الأول أرسطو القاطيغوريات
Categories, Katnyopia ، أو المقولات العشر التي هي أعم أجناس الوجود، جعلها أولا: الجوهر، ثم أعراضه التسعة: الكم، والكيف، والإضافة، والزمان، والمكان، والوضع، والحالة والفعل، والانفعال. إن أرسطو - بفلسفته المنصبة على الوجود، التي دعمت الفلسفة طوال العصور الوسطى ودعمتها هي كذلك - كان لا بد أن يجعل الجوهر «القائم بنفسه، والمتقوم بذاته، والمتعين بماهيته، والذي تقوم به الأعراض والكيفيات»،
1
هو المقولة الأولى، فالوجود أو الكون واحدي؛ أي حقيقة واحدة لا تكثر فيها؛ أي جوهر كلي. وما نراه من اختلافات ليس إلا صفات تحمل على الجوهر، والمنطق هو الأورجانون
Organon
أو أداة الفكر لأحكام هذا الحمل؛ لذا كان المنطق قياسيا، حمليا، استنباطيا، وكل مقدماته ونتائجه قضايا مكونة من موضوع ومحمول.
وكانت فاتحة الحضارة الحديثة، وبدء طريق العقل الحديث في العصر الحديث، حين نقل ديكارت الفلسفة من محور الوجود إلى محور المعرفة، فأصبحت من رأسها إلى أخمص قدميها فلسفة منصبة على المعرفة وتدور حولها؛ مما هيأ المناخ الغربي لنشأة العلم الحديث ونموه. وقد كان هذا مرتهنا بالافتراق عن طريق أرسطو
2
ومنطقه وجوهره. وبتنامي بنية الحضارة الحديثة، وسيرها قدما في طريقها، كان الجوهر الأرسطي يتوارى ويضؤل شيئا فشيئا، حتى تلاشى نهائيا بنشأة المنطق الحديث على يد جورج بول
G. Boole (1815-1864) مؤسس جبر المنطق، وأبي المنطق الرياضي أو الرمزي.
وإذا كان المنطق الأرسطي هو منطق الحمل الذي لا يعرف إلا القضية الحملية ، فإن المنطق الرياضي الحديث هو منطق العلاقات، والقضية فيه قد تكون لزومية شرطية أو انفصالية أو عطفية أو تركيبية من هذا وذاك. والحق أن منطق العلاقات هذا يعد من أعظم إنجازات الفلسفة المعاصرة، فقد جعل من الممكن صياغة مشكلات قديمة بطريقة جديدة، وكان له دوره العظيم في إثراء الفكر الفلسفي المعاصر، وتطوير الرياضيات البحتة. والذي يهمنا الآن فيه أنه يتسق مع النظر إلى الكون على النحو الذي ينظر به العلم الحديث إلى الكون؛ أي: بوصفه ليس واحديا بحال، بل بوصفه تعدديا. وكل الفلسفات ذات الطابع العلمي والعقلاني لا بد أن تسلم الآن بالتعددية.
وقد بلغت هذه التعددية ذروتها بفلسفة الذرية المنطقية
Logical Atomism
مع أعظم فلاسفة العصر وصاحب الفضل الأول في تطوير المنطق الرياضي برتراند رسل
B. Russell (1873-1970) وتلميذه ورفيقه لودفيج فتجنشتين
L. Wittengstein (1889-1951).
والذرية المنطقية كانت بمثابة رد فعل لواحدية برادلي خصوصا والميتافيزيقيين عموما، كما كانت في الوقت نفسه انعكاسا لكشف العلم للطبيعة الذرية لكل شيء،
3
وخلاصتها أن العالم على النقيض تماما من فرضية الواحدية، كثرة متكثرة من الوقائع التي ترتبط بعلاقات. والواقعة
Fact
هي شيء معين له كيفية معينة، أو أشياء معينة ذات علاقات معينة، والواقعة ترسمها أو تصورها القضية الذرية، التي تعبر عن ذلك الشيء الواحد الكائن في آن معين من آنات الزمان، ونقطة معينة من نقاط المكان. أما إذا ارتبطت واقعتان أو أكثر، فإن القضية التي ترسمهما - أو ترسمها - هي القضية الجزيئية،
4
وهذه الذرية المنطقية شاعت في الفلسفة المعاصرة، واتخذها التيار التحليلي بأسره أساسا أنطولوجيا له، واتخذتها مذاهب أخرى متعددة، كبراجماتية وليم جيمس
W. James (1842-1910) الذي جعل التعددية المتطرفة الرافضة جدا للواحدية هي هندسة بنائه الأنطولوجي، وكانت التجريبية الراديكالية أو الجذرية هي مادة هذا البناء. لقد قال جيمس ما كان يحتاج تماما إلى الصياغة المنطقية للتعددية التي نجدها في الذرية المنطقية، والغريب حقا أن جيمس، وهو عالم ذو باع كبير في الفسيولوجيا وعلم النفس، وفيلسوف من الطراز الأول، وقد اشتهر بعدائه الغريب للمنطق، حتى إنه قد قال عن برتراند رسل العظيم؛ لكونه منطقيا: تبا له من حمار!
5
وسواء أخذنا بالذرية المنطقية أو رفضناها، أو حتى رفضنا التيار التحليلي بأسره، وأيا كان الموقف من مسلمة التعددية المعاصرة وإطلاقها أو كبح جماحها، فالذي لا جدال فيه أن الجوهر الأرسطي الآن، من أية زاوية ومن أية وجهة للنظر قد انزاح تماما؛ فنستطيع إذن أن نعيد الأمور إلى نصابها، ونجعل المقولة الأولى، أو ما يتصدر أعم أجناس الوجود، ليس الجوهر، بل مقولتي الزمان والمكان.
إن الزمان والمكان هما القالب الذي صب فيه هذا الوجود جملة وتفصيلا، وانتظم بفضلهما على هيئة كوزموس
Cosmos ؛ أي: كون منتظم. والكوزموس أو الكون الذي تتعامل معه الفيزياء الحديثة هو المادة تتحرك عبر المكان خلال الزمان. والنظرية الفيزيائية العامة هي التي تحدد قوانين هذه الحركة؛ أي: حسابات الانتقال من نقطة إلى أخرى في المكان بسرعة معينة؛ أي: خلال مدة من لحظة إلى أخرى في المكان بسرعة معينة، أي: خلال مدة من لحظة إلى أخرى في الزمان. ونظرا لعمومية الفيزياء وشموليتها وتربعها على قمة نسق العلوم الإخبارية، فإن سائر أفرع العلم الأخرى - سواء الطبيعية أو الحيوية أو الإنسانية - تسلم بمسلمات الفيزياء؛ فعوالمها مجرد زوايا أكثر خصوصية في عام الفيزياء، الذي هو مادة متحركة في الزمان والمكان. ومن ثم، فإن الزمان والمكان صلب عالم العلم، أو الوجود الذي يتعامل معه العلم.
وحتى قبل نشأة العلم الحديث بقرون عدة، كانت الفلسفة قد صاغت نظريا ما هو معطى للحس المشترك، فذهبت إلى أن العالم الخارجي أو الكون كوزموس، سلسلة من الظواهر يستحيل منطقيا حدوث أيها خارج نطاق الزمان والمكان. وقديما أشار هيراقليطس إلى أنه لا وجود خارج إطارهما، حين قال: لا شيء في هذا العالم يستطيع أن يتجاوز مقاييسه، وهذه المقاييس هي الحدود المكانية والزمانية. أما الفيثاغورية فقد رأت أن «العالم قد وجد (أصلا) بفضل ما له من حدود زمانية مكانية.»
6
والخلاصة إذن أنهما إطار الوجود الذي عهدناه.
والأمر كذلك تماما على مستوى المعرفة، فهي أيضا لا تتم إلا في إطار الزمان والمكان. والمقصود بطبيعة الحال المعرفة بهذا الكون، أو على الأقل بظواهره، وهي التي تعهدت الفلسفة برؤاها ومبادئها ومسلماتها ومناهجها، حتى تسلمها العلم الحديث إبان نشأته في القرن السادس عشر وهي مهيأة لتنام وتعملق ما كان يخطر على بال.
إن الزمان والمكان كما أشار إيمانويل كانط
I. Kant (1724-1804) إطاران مفطوران في صلب العقل الإنساني الذي يقوم بعملية المعرفة، شكلان قبليان للحساسية، يتم وفقا لهما ترتيب معطيات هذه الحساسية ومضمون خبرة الإنسان بالعالم الخارجي، أو تجربته الخارجية. فالزمان والمكان إذن صورتان قبليتان أو شرطان للمعرفة، مثلما هما - كما رأينا - إطاران للوجود.
والمعرفة والوجود - أو الإبستمولوجيا والأنطولوجيا - هما في خاتمة المطاف المحوران النهائيان اللذان لا بد أن يدور حول أحدهما أي جهد للعقل البشري. أما القيمة - الأكسيولوجيا - المحور الفلسفي الثالث والأخير، فمحض تقاطع بين المحورين الأولين، وتمثيل لعلاقة الذات العارفة بهذا الوجود ورؤيتها له وإسقاطاتها عليه.
من هنا كان الزمان والمكان بوتقة لمطلق قدر الإنسان، مطلق حدود عالمه وآفاق عقله. ويرى صمويل ألكسندر
S. Alexander (1859-1937) أنهما الأصل الهائل أو الحقيقة المبدئية التي نشأ عنها العالم، هيولى أولى أو جوهر أصلي أو خامة
صدرت عنها كل الوجودات بالانبثاق، فعن الزمان والمكان انبثقت أولا المادة، وبالتدريج انبثقت الحياة، ثم الوعي، وأخيرا الألوهية، بل إنهما يظلان أيضا ماهية الموجودات بعد انبثاقها عنهما، فتظل كل الأشياء مثل مصدرها زمانية مكانية،
7
ونجد أرنست كاسيرر
E. Cassirer (1874-1945) بفلسفته للأشكال الرمزية يعرف الإنسان بأنه حيوان رامز، فالرمز - لديه - هو الحد الفاصل لإنسانية الإنسان، وهو المفسر لجميع فعالياته؛ كالأسطورة، والدين، والأخلاق، والبناء الاجتماعي، أو السياسي، والفن، والفكر، والعلم ... إلخ. وكل هذه الفعاليات المتباينة يصهرها في بوتقة الإنسانية اشتراكها في شيء واحد؛ هو صلتها بالزمان والمكان. وأكثر من هذا يوضح كاسيرر أن الزمان والمكان في الفكر الأسطوري لم يكونا محض شكلين فارغين أو خالصين، بل كانا يعدان القوتين العظميين اللتين تحكمان كل شيء وتصرفان حياتنا الفانية وحياة الآلهة أيضا وتحددانها.
8 •••
من هذا التصور الأسطوري يتضح أنه إذا كنا قد أزحنا الجوهر الأرسطي وجعلنا الزمان والمكان في صدر المقولات والفكرتين الأوليتين، فإن هذا ليس كشفا حديثا، بل هو مجرد وضع الأصبع عليهما، أو بلورة ناصعة لما هو كائن منذ أن كان الإنسان، وفلسفة أرسطو ذاتها عنيت عناية بالغة بالزمان والمكان.
إن تقولب كل وجود في قالب ما من الزمان والمكان هو بؤرة من بؤر الوعي الإنساني في كل مستوياته: من الحس المشترك إلى التفكير العلمي إلى الفكر الفلسفي.
وفي كل عهوده، منذ العصر الأسطوري الذي يتسم باضطراب خط الزمان والمكان؛ حيث تقع حوادث الأسطورة في إطار زماني غير منطقي، وتنتقل عبر أمكنة لا يمكن تصور الانتقال بينها، وحتى عصر النسبية بمتصلها الزماني-المكاني (أو الزمكاني) الذي يبلغ درجة مبهرة في تعيينهما بدقة متناهية تنطبق على الكوكب وهو يتحرك في السماء، كما تنطبق على الإلكترون وهو يتحرك حول نواة الذرة.
الفصل الثاني
تميز الزمان عن المكان
انتهينا إلى أن الزمان والمكان متقاطعان بوصفهما إطارا للوجود، خصوصا لعالم الظواهر فيه - كما أسماه كانط - وبوصفهما شرطا قبليا للمعرفة به. إنهما بلا شك مترابطان، وقد كان جان بياجيه
J. Piaget
يملك حيثياته الفلسفية والعلمية والسيكولوجية حين طابق بينهما بواسطة الحركة المكانية والسرعة الزمانية، اللتين هما وجهان لعملة واحدة، بل لعلهما اسمان لمسمى واحد. ومن ثم قال بياجيه إن الزمان مكان متحرك والمكان زمان ثابت.
إنهما بالنسبة للتفكير العقلاني والعلمي، وعلى أخص الخصوص بالنسبة للفيزياء لا ينفصلان البتة؛ فقياس الظواهر يتم بالاعتماد عليهما معا، وكلاهما نظام ضخم من العلاقات، وبتشابكهما معا يحويان الأنظمة الأخرى جميعا «الزمان وحدة والمكان وحدة، وكل نطاق أو حيز معين جزء من المكان، وكل أجزاء المكان ترتبط معا في وحدة، تماما كما أن كل مدة معينة جزء من الزمان، وكل أجزاء الزمان ترتبط معا في وحدة.»
1
ولعلهما من زاوية ما للنظر - خصوصا إذا كانت العقلانية والعلمية - يبدوان متماثلين ويثيران مشكلات واحدة، حتى إن الطوبولوجيا
Topology
مثلا، وهي العلم الذي قام لدراسة أخص خصائص المكان من حيث هو مكان؛ أي: العلاقات المكانية المختلفة؛ كعلاقة الجزء بالكل، وعلاقات الاندماج والانفصال والاتصال، التي تعطينا الشكل الثابت للمكان، الذي لا يتغير بتغير المسافات والمساحات والأحجام - هذا العلم قد ماثله بحث في طوبولوجيا الزمان - كما سنرى. وخير مثال فلسفي يوضح كيف أنهما قد يثيران مشكلات واحدة، ويوضح أيضا كيف أنهما إطار لا مخرج منه للوجود وللمعرفة هو التساؤل الشهير: إذا كان للزمان بداية ونهاية، فما الذي يوجد قبله وبعده؟ إذ يماثله ذلك التساؤل: إذا كان للمكان بداية ونهاية، فما الذي يوجد قبل المكان وبعده؟ والمثال هنا الأقرب إلى التفكير العلمي هو هذا التساؤل: هل يمكن أن يوجد زمان خال تماما؟ ومن ثم هل يمكن التفكير في زمان بمعزل تام عن أية أحداث؟ ويماثله مباشرة تساؤل عن تصور مكان خال تماما. وهذه المشكلة تبناها أمير علماء العلم الحديث إسحاق نيوتن في بحثه عن الزمان والمكان المطلقين، فقد أشار في مقدمة كتابه العظيم «مبادئ الفلسفة الطبيعية» (سنة 1687)، إلى أن التفكير العادي لا يتناول الزمان والمكان والحركة إلا من حيث علاقتهما بالأشياء المحسوسة، وأنه لا بد من نبذ هذه الطريقة لكي نخرج من معلوماتنا الحسية بتجريد، يمثل أساسا ولبنة للعلم، فكان أن فعل وخرج بمفهوم للزمان والمكان المستقلين عن كل شيء والثابتين دائما أو المطلقين. ويوضح لنا عالم الفلك والفيزياء وفيلسوف العلم جيمس جينز أن العلم يطرح أربعة معان متميزة للمكان يقابلها أربعة معان متميزة للزمان؛ هي: المكان التصوري، والمكان الإدراكي، الحسي، والمكان الفيزيائي، والمكان المطلق. يقابلها: الزمان التصوري، والزمان الإدراكي الحسي، والزمان الفيزيائي، والزمان المطلق.
2
وكقاعدة عامة، يتصور الفيزيائي الزمان بالطريقة نفسها التي يتصور بها المكان؛ فهو يفترض أن كليهما متصل قابل للقياس، وتتخذ كل أحداث الطبيعة موقعا فيه. وكما تعامل الهندسة - علم قياس المكان - المكان في حدود نقاط وعلاقاتها، يعامل الكرونومتري
Chronometry - علم قياس الزمان - الزمان في حدود لحظات وعلاقاتها. وكما أن الوعي لا يتلقى نقاطا لا امتداد لها، فإنه لا يتلقى لحظات لا ديمومة لها. والعلاقات المكانية تماثل - صوريا - العلاقات الزمانية، ولكن المكان فكرة على قدر من البساطة، ويتعامل العلماء معه بسهولة، أما الزمان والحركة فموضوع شديد التعقيد.
3
إن المكان كائن دائما في المكان، أما الزمان فيتدفق في قلب الزمان؛ فلا بد إذن أن الزمان يتوغل في مستويات فلسفية وعلمية أبعد، لا يطولها المكان. •••
فعلى الرغم من كل ما رأيناه من ارتباط الزمان والمكان، فإنهما ليسا البتة على قدم المساواة، وليسا متساويين أو متكافئين، بل كان الزمان دائما - من وجهات النظر المختلفة - متميزا عن المكان ومتقدما عليه، حتى إن صمويل ألكسندر الذي رأى أنهما ندان لا ينفصلان، وأكد فلسفيا ما أكدته النظرية النسبية علميا من أنه لا يوجد مكان مستقل أو زمان مستقل، بل ثمة فحسب زمانيات مكانية تستلزم زمانا-مكانا أوليا تنبثق عنه كل الأشياء؛ عاد بعد هذا ليعلي من شأن الزمان بوصفه مبدأ تنظيم، لولاه لكان المكان كتلة مصمتة. وبتعبير مجازي يقول إن المكان جسد الكون والزمان عقله، وليس هذا ببعيد عن الثنائية التي أرساها أبو الفلسفة الحديثة ديكارت بتفرقته الحاسمة بين المادة أو الجوهر الممتد، والعقل أو الجوهر المفكر.
وإيمانويل كانط أيضا، وهو من أكثر الفلاسفة عناية بالربط بينهما، وقد ذهب إلى أن الفارق الوحيد بينهما هو أن الزمان يقوم على التوالي بمعنى التعاقب بين الأحداث وفقا للسببية، أما المكان فيقوم على التتالي بمعنى التجاور وفقا لعلم الهندسة. نقول إن كانط أوضح أن المكان هو شكل تجربتنا الخارجية، أما الزمان فهو شكل تجربتنا الداخلية. ولكن العالم الخارجي - كما تنص فلسفة كانط النقدية - لا ينفصل البتة عن الشروط الداخلية في العقل الذي يتصوره. لذا عاد كانط في نقد العقل الخالص ليقدم الزمان على المكان ويعتبره الأعم والأشمل؛ لأن المكان مقصور على الظواهر الخارجية وحدها، أما الزمان فهو الشرط الصوري القبلي لجميع الظواهر بوجه عام، ومن ثم فإن له - دون المكان - «علاقته الوثيقة بالعالم الداخلي للانطباعات والانفعالات والأفكار. والزمان بهذا الوصف هو معطى من معطيات الوعي المباشر، وهو أكثر حضورا من المكان، بل من أي تصور آخر كالسببية أو الجوهر، فكأنه لا خبرة هناك إلا إذا كانت تتسم بطابع زماني.»
4
وليس من الضروري بطبيعة الحال أن تتسم كل خبرة بطابع مكاني، بل إن الخبرة بغير عالم الظواهر الخارجية لا يمكن أن تتسم بالطابع المكاني.
وإذا كان الفيلسوف الألماني كانط شيخ الفلسفة الحديثة بأسرها، فإن أهم ما أخرجته الفلسفة الألمانية المعاصرة في القرن العشرين كتابان؛ الأول: هو كتاب مؤسس الفينومينولوجيا إدموند هوسرل
E. Husserl (1891-1938) دراسات منطقية
Logische Untersuchungen
وقد اعتنى هوسرل بالوعي الباطني والتوصيف الفينومينولوجي له، والثاني: كتاب مارتن هيدجر
M. Heidegger (1889-1976) الوجود والزمان
Sein Und Zeit (1927) وقد اكتسب هذا الكتاب أهمية فلسفية فائقة، حتى عد إنجيل فلسفات الوجود والفلسفة الوجودية المعاصرة؛ وذلك لأنه نظر إلى الوجود أخيرا نظرة كانت مجدية حقا، نظر إليه من خلال الزمان. وفي القسم الأول من الكتاب اعتبر هيدجر أن الزمان هو الأفق الترانسندنتالي المتعالي الذي ننظر منه إلى السؤال عن الوجود؛ إذ إنه بالزمان والزمانية يفسر «الدازين»
Dasein (الموجود ثمة أو الكائن الملقى به هناك والتي ترجمت بالآنية)، «أما في القسم الثاني من الكتاب، فيشرح المعالم الرئيسية لما يسميه «التحطيم الفينومينولوجي» لتاريخ الأنطولوجيا على هدى من مشكلة الزمانية.»
5
وقد وضع هيدجر مصطلحات معقدة وجهازا فلسفيا مهيبا وفعالا؛ لينجز هذه المهمة التي كانت ضرورية، مهمة التفسير الزماني للوجود والتفسير الوجودي للزمان، واعتبار الزمان الأفق الذي نطل منه على الوجود.
فقد ارتبط الزمان دائما بالوجود، ونحن لا نفكر في أحدهما دون أن نفكر في الآخر و«الوجود منذ فجر الفكر الفلسفي مرادف للحضور، والحضور يكون في أفق الحاضر ويتكلم بصوته، والحاضر في التصور الشائع بعد من الأبعاد الثلاثة التي تلازم تصورنا للزمن الذي يسير على طريق لا رجوع فيه من ماض إلى حاضر إلى مستقبل. والماضي في تصورنا الشائع أيضا هو الذي لم يعد له وجود، كما أن المستقبل هو الذي لم يوجد بعد.»
6
إن ثمة علاقة عكسية وتحديدا متبادلا بين الزمان والوجود؛ لذا فربما بدا المكان أقدر من الزمان على البقاء، إلا أن وجودنا يرتبط ويتحدد بالزمان المنقضي المتلاشي، أكثر كثيرا من ارتباطه بالمكان. •••
والتقابل بين المكان والزمان يمكن وضعه وتصعيده على النحو التالي:
المكان
الزمان
النقطة
اللحظة
الامتداد
الديمومة
التجاور
التعاقب
التتالي
التوالي
السكونية
الحركية
الثبات
التغير
الكينونة
الصيرورة
هكذا ننتهي إلى أن الزمان - دون المكان - هو الكائن الصائر السيال المنقضي دائما: ماض لم يعد ومستقبل لم يأت وحاضر لا يكون أبدا، ينفلت من بين فروج الأصابع دائما. ومجرد الإمساك باللحظة الراهنة يعني انفلاتها وإتيان اللحظة التالية لتنفلت هي كذلك في توال لا يتوقف أبدا، أو لم نبدأ من اللحظة، واللحظة آن، و«الزمان مكون من آنات يرفع كل منها الآخر، فهو تغاير مستمر، موجود بوصفه غير موجود، وغير موجود بوصفه موجودا.»
7
هذه الطبيعة الانزلاقية المتحركة، بل الدافقة الجارفة والمروعة للزمان، هي التي جعلته يتحد بالوجود ثم العدم، بالحضور ثم الفناء. والزمان هو الذي ينبئ الإنسان بموته وزواله وعبثية كل جهوده، كما يبشره بانتظار الجديد الوافد، الميلاد الذي سوف يحدث والجديد الذي سوف يطرأ، مثلما أن الموت سوف يحدث والطارئ سوف يبلى. إن الزمان هو الذي يحمل أمل الإنسان ويأسه، مجده وتفاهة شأنه، إنه الكيان الموجد الفاني.
لذلك «لو رجعنا إلى المصطلح اليوناني لكلمة الزمان فسوف نجد أن كلمة كرونوس
Chronos
تشير إلى الزمان منذ عصر هوميروس»،
8
وكرونوس إله يخشى على ملكه من أبنائه، فيلتهمهم الواحد بعد الآخر، وكذلك الزمان هو الذي ينجب الكائنات، ثم هو الذي يقضي عليهم.
9
لذلك يفر الإنسان دائما من كرونوس إلى أيون
Aion . وأيون كلمة يونانية تشير إلى الزمان بمعنى الأبدية، التي احتلت موقعا جوهريا في بنية العقل طوال تاريخه. فلكي يواجه الإنسان (الماضي، الحاضر، المستقبل) وضع (الأزلية، السرمدية، الأبدية) في محاولة منه للتغلب على شر الزمان، وتحطيم لأطره وانفلات منه، يتخذ صورا عدة. فأبو اليزيد البسطامي - مثلا - يعرف توحيد الشهود الذي هو توحيد الخواص «بأنه الخروج من ضيق الحدود الزمانية إلى سعة فناء السرمدية.»
10
إن الشعور بالتناهي والزوال الذي يجعله الزمان مسيطرا على الإنسان هو الذي دفع الفلاسفة اليونان الأولين لأن يقولوا: كل شيء عائد إلى أصله، ولا بد أن يعاني العقاب وذلك تبعا لقانون الزمان (دورته الأبدية). ثم جاء الإنجيل الرابع يؤكد الحياة الأبدية للمسيح، وتحدث الصوفي العظيم الميستر إكهارت
Eckhart (1260-1327) عن الآن الأبدي داخل «سيلولة» الزمان ،
11
مؤكدا أن الأول - أي الآن الأبدي - هو الحقيقة، أما الزمان فوهم غير حقيقي. والواقع أن الأبدية محض هروب من الزمان الغادر الفاني، الذي هو قدر الإنسان، فإلى أين؟ إلى زمان آخر فحسب نرجوه لا يغدر ولا يفنى، فهل الأبدية تحمل الخلاص من ربقة الزمان أم ينطبق عليها قول أبي العلاء المعري:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيهرب من أرض له وسماء؟!
ومهما يكن الأمر، فإننا نلاحظ أن مفهوم الأبدية الموازي للزمان ليس له مماثل بشأن المكان الذي لا يمس صميم المصير الإنساني. إن المكان مقولة فلسفية لها قضايا محددة أما الزمان فمقولة استحالت إلى إشكالية من أمهات المسائل الفلسفية، التي أرقت لها العقول وتضاربت بشأنها الرؤى واسترعت الاهتمام واستأثرت به، وبزت جميع إشكاليات الفلسفة في ذلك كله منذ وجد الإنسان. فإذا اعتبرنا الحضارة الفرعونية هي الفجر الناصع لحضارة الإنسان، لاحظنا كيف انصبت جهودها على تأكيد عقيدة الخلود في الحياة الأخرى، تحديا للزمان، وتقف الأهرامات مصداقا شامخا على هذا. •••
وتميز الزمان عن المكان لا يقتصر على أن الزمان له طبيعة تجعله مخاطبا لعالم الإنسان الداخلي ومسترعيا لصميم وجوده ووجدانه؛ أي متوغلا في العالم المقابل لعالم العلم، بل إن الزمان يتميز عن المكان أيضا في قلب عالم الظواهر - عالم العلم.
لقد ذكرنا أن كل فروع العلم تسلم - كما تسلم الفيزياء - بأن الزمان والمكان إطاران متقاطعان لهذا الوجود أو العالم الذي يبحث كل فرع من فروع العلم في زاوية من زواياه. هذا صحيح، لكن من الصحيح أيضا أن كل علم له اعتماده الخاص على مفهوم الزمان دون المكان؛ فالحياة العضوية لا توجد إلا بمقدار ما تتطور في زمن، فهي ليست شيئا بل عملية، تيار مستمر من الأحداث أو الوظائف، يعني ديمومة معينة من الزمان.
وقد تعاظم أمر الزمان في العلوم الحيوية حين ظهر علم البيولوجيا العام - الذي يبحث في نشأة ظاهرة الحياة على سطح الأرض وتطورها - حين تقدم دارون بنظريته عن أصل الأنواع الحيوية ونشوئها وتطورها خلال مراحل زمانية.
والمجموعة الثالثة في نسق العلم، بعد مجموعة العلوم الفيزيائية أو علوم المادة الجامدة، ثم مجموعة العلوم البيولوجية أو علوم المادة الحية؛ هذه المجموعة الثالثة هي مجموعة العلوم الإنسانية التي تعتمد أكثر وأكثر على الزمان. فدراسة الظواهر الإنسانية - من أية زاوية - تتمركز دائما حول الزمان.
والزمان معطى مباشر للوعي، ولكنه معطى شديد التعقيد، وهذا ما دفع كاسيرر في مرجعه المذكور «مقال في الإنسان» إلى الإشارة إلى عدة مستويات لإدراك الزمان، أدناها «الزمان العضوي» الموجود لدى الكائنات الحية حتى لدى الأشكال الدنيا منها، وإذا اقتربنا من الحيوانات العليا سنجد شكلا جديدا يسميه كاسيرر «الزمان الحسي» وهو ذو طبيعة سيكولوجية معقدة، وفي النهاية نجد الزمان الرمزي الذي يدخل فيه مفهوم الزمان الفيزيائي العلمي الدقيق.
وكما ظهرت فكرة التطور في علم الحياة وتوغلت في بنية الفكر المعاصر من زوايا عديدة، ظهرت فكرة التقدم في العلوم الاجتماعية المعاصرة، ونشأ علم النفس الارتقائي لبحث نمو سيكولوجية الطفولة، فيزداد اعتماد العلوم الإنسانية الحديثة جميعا على الزمان.
وحتى قبل ظهور العلوم الإنسانية الحديثة كان لا بد أن تدور المباحث الإنسانية حول محور الزمان. وخير ما يبرهن على هذا أن أفلاطون عجز عن الاستغناء عن محور الزمان بالرغم من أنه أعدى أعداء مقولة التقدم، «وما كان ليقبل أبدا الفكرة القائلة بأن مبادئ النظام الاجتماعي الصحي تتغير من عصر لعصر ومن مجتمع لآخر؛ فقد أكد أنها أبدية ثابتة كمبادئ النظام الطبيعي، وإن كان يمكن تشويهها وإفساد المجتمع بألف طريقة.»
12
وهذا ما دفع أفلاطون إلى تكريس الكتاب الثامن من الجمهورية لبحث مراحل التدهور التي تعقب الحكم المثالي حكم الفلاسفة، وحددها بخمس مراحل من الحكومات الدنيا أو الحكم السيئ؛ هي: الأرستقراطية، ثم التيموقراطية، وهي حكومة الحماسة للحرب، ثم الأوليجارشية، وهي حكم القلة من الأغنياء، تعقبها مرحلة استيلاء الأغلبية الفقيرة الدهماء على الحكم؛ أي مرحلة الديمقراطية التي تفضي إلى حكم الطغيان والاستبداد. هذه الحكومات الخمس متعاقبة، كل منها أسوأ من سابقتها، وهي بطبيعة الحال تتم عبر مراحل زمانية.
ولا غرو أن يكون الزمان محورا أساسيا من محاور فلسفة جيامباتستا فيكو
G. Vico (1668-1744) رائد فلسفة التاريخ. وليس بالنظر فحسب إلى فلسفته في التاريخ، وهي وثيقة الاتصال بالزمان لدرجة تغني عن الذكر، ولكن نظرية فيكو في فلسفة القانون كانت هي أيضا قائمة على مقولة الزمان، أو بتعبير أدق، على «فكرة تقسيم الأزمنة
Sett dei tempi ، باعتبارها مبدأ قابلية العملية القانونية للنمو والحياة والتطبيق، كما كانت عند الرومان.»
13
وعلى ضوئها كانت مجمل فلسفته للقانون فضلا عن التاريخ.
إن الإنسان أكثر الكائنات طرا وعيا بالزمان وتحددا بإطاره وتفاعلا بمساره، فهل يمكن لأي نظر أو دراسة للإنسان، ألا ترتكز على مفهوم الزمان، بصورة أو بأخرى؟!
ويمكن أن ننظر للأمر نظرة أكثر عمومية وشمولية لنجد المعرفة العلمية على إطلاقها تتشابك تشابكا خاصا مع الزمان. ولنستعر قول نيقولاي بيرديائيف: «لقد علمنا أفلاطون أن المعرفة تذكر، أو بتعبير آخر هي انتصار على دولة الزمان.»
14
ذلك بأن قوة التذكر انفلات من أسر التجربة الحسية المباشرة واقتحام للماضي، لزمان لم يعد كائنا. وتقوم المعرفة التاريخية، على وجه الخصوص، سواء التاريخ الجيولوجي أو الطبيعي الحيوي أو الإنساني تقوم بتأكيد قدرة الإنسان على هذا الانفلات، ويتصل بها كذلك قدرة العلم على التنبؤ، التي تتعاظم يوما بعد يوم وتزداد دقة، فالتنبؤ هو أيضا اقتحام لآفاق المستقبل؛ أي: آفاق الزمان الذي لم يوجد بعد.
وثمة أيضا التنبؤ العكسي الذي يقتحم الماضي، كأن يستدل العلماء على أوضاع فلكية أو فيزيقية كانت منذ زمن قريب أو بعيد. وعلى الإجمال، فإن تنامي القدرة على اقتحام آفاق الزمان معيار مهم من معايير التقدم العلمي الذي يحرزه الإنسان. •••
وهكذا، نرى صور تميز الزمان على المكان، فضلا عن انفراده بعالم الوجدان اللامنطقي المنطلق، ولكل ذلك فاق الزمان المكان حيثية وشأوا في عالم العلم ذاته. إن المكان له - بطبيعة الحال - حيثية، وقد انشغل به نفر من الفلاسفة منذ ما قبل السقراطيين الذين بحثوا في الخلاء والملاء، إلى فلاسفة العلم المعاصرين والمعنيين بالرياضيات البحتة والتطورات الخطيرة التي حدثت لعلم الهندسة في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ حيث ظهرت هندسات لا إقليدية كاملة الأنساق، وأصبح لدينا ثلاثة أنساق هندسية متكافئة منطقيا؛ الأولى: هندسة إقليدس المعهودة التي تفترض أن المكان أو السطح كما ندركه مستو، وهندسة لوباتشيفسكي التي تفترضه مقعرا، وهندسة ريمان التي تفترضه محدبا. ثم أصبحت الأخيرة مع آينشتاين هي الهندسة التطبيقية أو هندسة الواقع الفيزيائي، بعد أن كانت الإقليدية هي السائدة مع نيوتن،
15
ولكن إذا كان للمكان قضايا معينة انشغل بها نفر من الفلاسفة، فإن الزمان له قضايا لا أول لها ولا آخر، ولا يوجد فيلسوف ذو اعتبار لم يدل بدلوه في إشكاليات الزمان. إن الزمان هو الذي استرعى انتباه الجميع، وأثار من الدهشة - أم التفلسف - ما لم يثره سواه، وما لا يضاهي بما أثاره المكان، ولا ما أثارته أية مقولة فلسفية أخرى.
الفصل الثالث
متاهات إشكالية الزمان
وما دامت مقولة الزمان بكل هذه الحيثية وكل هذه الشمولية من ناحية، ثم الهلامية المراوغة من الناحية الأخرى، فلا بد أنها تحتمل النظر من ألف زاوية وزاوية، لنخرج بألف وجهة للنظر ووجهة، وبصورة تنذر بمتاهات لإشكالية الزمان، لا مخرج منها.
وبادئ ذي بدء نلاحظ أنه قد أثيرت مشكلة ما إذا كان الزمان أصلا حقيقة أم وهما. صحيح أن العلم بواقعيته المبدئية يسلم بالوجود الموضوعي للزمان من حيث يسلم بموضوعية الكون؛ أي بأنه موجود في حد ذاته سواء أكان ثمة ذات تدركه أم لا. فضلا عن أن الذوات جميعا تدركه بالطريقة نفسها ولكنه ليس من الضروري أن تلتزم الفلسفة كلها بهذه الواقعية؛ فالمثالية تنكر استقلال الوجود، بل تنكر حتى وجوده ذاته وترده إلى الوعي، وهي تيار فلسفي هام. وكثيرون هم الفلاسفة الذين أنكروا حقيقية الزمان، ولعل أهمهم جون ماكتاجارت
J. Mc Taggart (1866-1925)؛ وذلك لأنه استند على السمات الخاصة بالزمان، وليس على الصعوبات المحيقة به، الصعوبات الخاصة بالاتصال واللاتناهي، والتي تلاشت بالتقدم الحديث في الرياضيات البحتة وحساب اللامتناهي،
1
وكذلك لأن حجج ماكتاجارت قد صيغت في صورة استدلالات منطقية، تعتمد على أن ثمة طريقين لترتيب الأحداث في الزمن؛ فنحن يمكن أن نتحدث عنها بوصفها ماضيا، أو حاضرا، أو مستقبلا. ونحن أيضا يمكن أن نتحدث عنها بوصفها سابقة أو لاحقة أو متآنية بعضها مع بعض.
والطريقة الأولى لا يمكن أن ترد إلى الثانية، ما دامت الثانية لا تتيح مجالا لمرور الزمن. والأحداث ماض للأحداث اللاحقة لها وحاضر للمتآنية معها ومستقبل للسابقة عليها، وما حاول ماكتاجارت إثباته هو أن هذه الخصائص الثلاث غير متسقة بعضها مع بعض، ويستحيل التوفيق بينها بطريقة لا تؤدي إلى ارتداد لا نهائي أو دوران منطقي. والواقع أن ماكتاجارت قد وقع في الخطأ المتربص دائما بالمثاليين، وهو استعمال اللفظ الكلي «أحداث» كما لو كان يشير دائما إلى الكيان نفسه؛ فالأحداث لا تكون ماضية ومستقبلة في السياق نفسه وبالنسبة للأحداث نفسها، بل في سياقات مختلفة وبالنسبة لأحداث مختلفة، بصورة تؤكد في النهاية التسلسل المنطقي.
وإذا كان يعتز بأن حججه ليست حدوسا عقلانية بل منطقية للغاية، فإنه يسهل لأساطين الفلسفة المنطقية دحضها. وقد تكفل بهذا كثيرون، نذكر منهم ألفرد جوليوس آير،
2
الذي قام بنقل الوضعية المنطقية من فيينا إلى لندن.
ومن خلال نظرة إلى هذه الشريحة المحددة والطارئة في تاريخ الفكر الفلسفي الطويل العريض، يتضح لنا إلى أي حد تضاربت المعالجات الفلسفية لإشكالية الزمان وتعددت. والشريحة المقصودة هي الغزوة المثالية الطارئة التي اقتحمت الفكر الإنجليزي ذا التجريبية العتيدة بأصولها التي تمتد حتى فرنسيس بيكون في القرن السادس عشر وجون لوك في القرن السابع عشر، إلى التجريبيين العلميين في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وقد حدث أن تعرض الفكر الإنجليزي لغزوة من المثالية الألمانية في بدايات القرن التاسع عشر، بيد أنها كانت غزوة ضعيفة؛ لأنها تمت على أيدي شعراء وكتاب رومانسيين من أمثال: كولريدج، وكيتس، وشيلي، ووردزورث، وتوماس كارليل. وجميعهم غير متخصصين في الفكر الفلسفي ولا محترفين له؛ لذلك سهل اندحارها التام على يد جون ستيوارت مل
J. S. Mill (1806-1873) قمة التجريبية الإنجليزية في القرن التاسع عشر. غير أن نهايات ذلك القرن شهدت غزوة مثالية أخرى، كانت قوية مكينة؛ فعرفت حقا كيف تقتحم حصون التجريبية الإنجليزية، فقد كانت معززة بكتابات هيجل العظيم (1770-1830) الذي لا يفلت من قبضته القوية - إما سلبا أو إيجابا - أي من الفلاسفة المعاصرين، ويكفي أن نتذكر تلميذه النجيب كارل ماركس الذي يشغل الجميع. ومن ناحية أخرى كانت هذه الغزوة قائمة على أيدي أكبر أساتذة الفلسفة في أكسفورد؛ لتصبح أكسفورد حينا من الزمان معقلا من معاقل المثالية الهيجلية، على حين ترعرعت في كمبردج كذلك حركة مثالية تروم تجديد الأفلاطونية أو بعثها.
وإذا نظرنا إلى المثاليين الإنجليز سنجد الهيجليين الجدد منهم - في أكسفورد - يتمسكون بالقول بأن الزمان غير حقيقي؛ لأن صميم مفهوم الزمان في نظرهم غير مترابط مع نفسه، وهذا ما يمكن أن تؤدي إليه حقا فلسفة هيجل التي رأت الزمان - كالمكان - جزئيات منفصلة لا اتصال بينها، وكائنة خارج نطاق الذات والروح المطلق.
وبطبيعة الحال، فقد أفادوا من حجج ماكتاجارت الذي كان أستاذا في كمبردج! على حين تمسك «الأفلاطونيون الجدد في كمبردج بأن الزمان يعزى لله، وأنه واحد من أشياء قليلة جدا تتسم بأنها حقيقية!»
3
لقد تمسكوا بحقيقية الزمان وجوهريته التي يفرضها العقل، ولكنهم أنكروا ربطه بالحركة والأفلاك وبالأشياء التي تتغير في داخله، ورفضوا قياسه بها، وقالوا إن قياس الزمان
Metrication Of time
عملية منطقية بحتة. وهذا ما يذكرنا بقول أبي العلاء المعري في رسالة الغفران أن ربط الزمان بحركة الأفلاك قول زور بلا أساس. وهذه نغمة سوف نراها تتردد كثيرا في الفلسفات الدينية، والصوفية، والمثالية.
وعلى الطرف المقابل لهؤلاء، وللمثاليين عموما، نجد التجريبيين الذين يرون الزمان شكلا موضوعيا للعالم. إنه - كما قال وليم جيمس - تصور كوناه من العلاقات الوقتية، التي هي معطى حسي في خبرتنا بالديمومة والحاضر المستمر دائما. وقياس الزمان من ثم عملية تجريبية بحتة تتم من خلال المعاينة الحسية للحركة؛ لأن الزمان نفسه لا يدرك إلا من خلال حركة الأشياء.
والواقع أنه لا المثاليون الخلص على صواب، ولا التجريبيون الخلص على صواب؛ «إذ لا توجد أية حقائق أو وقائع، لا تصورية ولا تجريبية، يمكنها أن تحدد بصورة مطلقة وفذة القياس الوحيد الصائب للزمن.»
4
فقياس الزمن مسألة اصطلاحية اتفاقية بحتة، قد تقوم على عناصر مثالية وتجريبية معا .
وبين المثالية والتجريبية يقف كانط، الذي لا ينكر موضوعية الزمان، لكنه ينكر واقعيته المطلقة. فالزمان كما طرحه كانط في نقد العقل الخالص ليس معطى حسيا مأخوذا من أية تجربة عينية، لكنه صورة قبلية شرطية ضرورية لأية تجربة. فالزمان لا يقوم على الظواهر، ولكن الظواهر هي التي تقوم على الزمان، ولا تدرك ولا تتحقق إلا من خلاله. والزمان الكانطي واحد وليس كثيرا، والأزمنة المختلفة أجزاء من هذا الزمان الواحد، وهو لا متناه لأن كل آن قبله آن وبعده آن.
وتأتي ثورة الفلسفة التحليلية في القرن العشرين، لترد إشكالية الزمان برمتها - كما تفعل بشأن كل إشكالية فلسفية - إلى شروط الاستعمال الصحيح لألفاظ لغوية؛ مثل: قبل وبعد، وماض وحاضر ... إلخ. ولكن إشكالية الزمان، كما تناولها الفلاسفة العلميون، وأهمهم كارل بوبر وهانز رايشنباخ، هي في الحقيقة أكبر وأعمق كثيرا من هذا، إنها مشكلة الملامح العامة للكون.
على أنه قد أثيرت مشكلة الملامح العامة للزمان نفسه، وشكل بنيته، أو ما يسمى بطوبولوجية الزمان، فإذا كان الزمان نسخا أو نظاما من مفردات وقتية، عن طريقها نفهم بعض الأشياء؛ مثل: اللحظة، والوهلة، والآن، والديمومة ... إلخ. فعلى أي نحو تنتظم هذه المفردات؟ أو ما الشكل العام لها؟ في الإجابة عن هذا وضعت ثلاث نظريات في طوبولوجية الزمان، توجزها الأشكال الثلاثة الآتية:
5
ويمكن أن نضيف إليها النقطة. وتصور الزمان نقطة مفردة مستقلة ومطلقة في حد ذاتها له دوره في التصوف، في حين أن الزمان المفتوح بلا بداية وبلا نهاية هو الزمان العلمي، أو - على وجه الدقة - الزمان الفيزيائي.
والزمان المتفرع له دوره في علم التاريخ وفي أنساق فلسفية محددة، أما الزمان الدائري فقد ساد الفلسفة القديمة؛ إذ «كانت الروح اليونانية تنظر إلى الأشياء على أنها لا بد أن تكون متناهية؛ أي: تامة في ذاتها ومقفلة على نفسها. ففي هذا يتحقق الكمال، وتبعا لهذا أتت بنظرتها للكون؛ فهي تريد أن تتصوره مقفلا على نفسه.»
6
ومن ثم كان الزمان لديهم، دائرة مغلقة على نفسها، خصوصا أنهم أدركوه من حركة الكواكب التي بدت دائرية، وفي النهاية تمسك اليونان «بفكرة الزمان الدائري الذي تتكرر فيه الأحداث وتتم بشكل دورات متعاقبة، وكان من أثر ذلك قول الإغريق بفكرة العود الأبدي التي وجدت لدى البابليين، وهيراقيلطس، وأنبادوقليس، والرواقيين. وقالوا بالسنة الكبرى أو الاحتراق الكلي.
ومدار هذه الفكرة هو أن البداية والنهاية يلتقيان، ويرمز لهما بالثعبان الذي يلدغ ذيله.»
7
فكما ذكرنا، كل شيء عندهم عائد إلى أصله، ولا بد وأن يعاني العقاب.
وفي مواجهة هذا - وخصوصا مواجهة الرواقية - وقفت الأبيقورية لتنفيه، وتقول بطريق واحد للزمان عشوائي ولا حتمي. ولكن الأبيقورية بلا حتميتها تقف وحيدة؛ فكما أوضحنا، ساد التصور الدائري، وقد عضده أمر آخر هو أنه «حتى نهاية المرحلة الكلاسيكية، كان تصور الطبيعة غير تاريخي بالمرة.»
8
وإذا كان العود الأبدي قد ظهر من جديد مع نيتشه
F. Nietzsche ، (1844-1900) فإن هذا في الواقع مجرد شطحة ميتافزيقية لشاعر تعس. فالزمان الدائري زال تماما في العصور الحديثة بفضل عوامل كثيرة، أهمها المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على عدم قابلية الظواهر الحرارية للارتداد؛ لأن الحرارة لا تنتقل إلا في اتجاه واحد من الجسم الأسخن إلى الجسم الأبرد، ومن ثم في اتجاه زماني واحد، غير قابل للارتداد
Irreversible «فيمكن وضع قطعة جليد في ماء ساخن وتصويرها بفيلم؛ فيتضح التوالي الزماني لعملية ذوبان الجليد. والزمان هنا غير قابل للارتداد؛ لأن العملية غير قابلة للانعكاس، ولا يمكن تصور الجليد يتكون داخل الماء الساخن بعملية انعكاسية.»
9
وهناك عامل آخر هو مفهوم الإنتروبي
Entropy ، أو انحطاط الطاقة الحرارية، الذي يتغير نحو حد أعلى بمقتضى المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية. والإنتروبي كمية تقدم في المقام الأول لتسهيل الحساب، ولتعطي تعبيرا واضحا لنتائج الديناميكا الحرارية، وإنتروبي النسق قياس درجة اضطرابه الحراري وهو لا يتغير إلا في عملية غير قابلة للارتداد.
ويتزايد الإنتروبي الكلي للكون متجها نحو حد أقصى يناظر اضطراب الجزئيات فيه، وطبعا في زمان غير قابل للارتداد،
10
وسوف نرى فيما بعد أن الزمان العلمي قد أحرز تقدما أبعد، يؤكد شيئا فشيئا انسحاق الزمان الدائري الذي انتهى القول به على أية حال .
ومن ناحية أخرى اكتسبت الطبيعة تصورا تاريخيا، بفضل نظرية التطور وفكرة التقدم. والتصور التاريخي يسمح بالجديد الطارئ، ويلغي تماما العود التكراري الدائري، الذي هو في الواقع فكرة متناقضة في حد ذاتها مع نفسها، «فتصور الزمان على أنه يدور ثانية وثالثة ... يعني القول بأن الزمان نفسه يحدث في أزمنة مختلفة. وهذا تناقض ذاتي؛ فكل زمان يحدث مرة واحدة فقط في أوانه، وأي أوان آخر يعني زمانا آخر.»
11
وإذا أخذنا في الاعتبار أن الفكر الديني يسهم هو أيضا في إلغاء دائرية الزمان، حين يجعله خطا مستقيما يبدأ بخروج آدم من الجنة وينتهي بقيام الساعة، بل ويزيده بنقاط ذهبية فريدة غير قابلة للتكرار؛ كلحظة الخلق أو ظهور الرسالة أو تجسد المسيح أو الهجرة النبوية ... إلخ، فلنا أن نتعجب من موقف القوى الرجعية التي تفجرت في واقعنا في الآونة الأخيرة لتعمل من أجل تحقيق التصور الدائري للزمان، والعودة إلى الماضي الذي كان سعيدا.
وحين نأخذ في الاعتبار الزاوية الدينية لإشكالية الزمان، نتذكر على الفور مشكلة شغلت الفلاسفة كثيرا، وهي: هل للزمان بداية؟ ويمكن اعتبار أن هيراقليطس هو الذي أثارها، حين أنكر أن يكون للوجود بداية، فهو نار أزلية أبدية خالدة تتوهج بحساب وتخبو بحساب.
وقد أكد أفلاطون أن الزمان له بداية، على حين أنكر أرسطو هذا؛ لتظل الإجابتان تتنازعان وتتجادلان. وقد يبدو أن هذا سينتهي بظهور الأديان السماوية التي تقول إن الله خلق العالم من العدم. فهذا يعني أنه في لحظة ما من لحظات الزمان قد جلبه الله إلى الوجود؛ ليظل العالم في كل آن من آنات الزمان معتمدا على الله. ولكن التساؤل لم ينته، وظل الكندي والفارابي وابن سينا منشغلين به، مستأنفين مناقشات الإغريق ومواجهين مشكلات آباء الكنيسة نفسها. وقد رفض الكندي أن يكون الزمان لا متناهيا؛ لأن المشيئة الإلهية ستخلقه وتضع له بداية محددة وقتما تشاء، وأنكر ابن سينا قول الكندي هذا لأنه تعسفي، فلا بد أن يكون لفعل الله سبب معقول ومبرر، ولا توجد لحظة ملائمة لفعله أكثر من غيرها، ومن ثم تمسك ابن سينا بأن الزمان لا متناه وبلا بداية.
والواقع أن فعل الخلق أصلا في هذا النقاش هو أمر ساذج وبدائي، فهم يتناقشون كما لو كان الله خلق العالم تماما كما يصنع الخزاف قلة،
12
وكما يقول فيلسوف الشخصانية الأرثوذكسية أو الوجودية الدينية نيقولاي بيرديائيف: «فكرة الخلق عبارة عن مجرد تناقض عقلي؛ ذلك بأن العالم لا يمكن أن يكون أبديا، كما أن أصوله لا يمكن أن تكون زمانية خالصة. وينشأ هذا التناقض عن الإحالة الموضوعية؛ إذ إننا نميل إلى تصور الخلق من وجهة نظر الموضوع ومن وجهة نظر العالم الموضوعي والزمان، أما في ضوء الوجود الداخلي، وضوء الروح، فإن كل شيء يتحول، ولا يعود الخلق معتمدا على أية مقولة للزمان؛ فالخلق أبدي.»
13
بعبارة أخرى، فإن حل هذه الإشكالية وإشكاليات أخرى جمة زمانية وغير زمانية، إنما يتأتى بالتفرقة بين مجال التفكير العقلاني وحدوده ومجال التفكير اللاعقلاني وحدوده، وبالنسبة لإشكاليتنا فإن مجال الأول هو مجال الزمان، ومجال الثاني هو مجال الأبدية. وذلك ما سوف يسفر عنه هذا الكتاب في النهاية.
المهم الآن، أننا بإزاء واحدة من نقائض
antinomies
العقل الخالص التي وضعها كانط؛ أي: القضايا التي نثبتها بنفس برهان عكسها، فتؤدي بنا إلى لجة من النقائض: «العالم له بداية في الزمان»، «العالم ليس له بداية في الزمان». والواقع أن التناقض في كلتا الحالتين يقوم على أن الزمان نفسه ليس له بداية.
ولو أجبنا عن السؤال: هل للزمان بداية؟ بالإيجاب؛ فسوف يقودنا صميم اللغة العادية إلى التساؤل عن الوقت الذي كان قبل أن يبدأ الزمان. وإذا أجبنا بالنفي؛ فقد تبدو الإجابة متسقة، لكنها بغيضة غير مريحة؛ لأننا نريد أن تكون للتغيرات بداية. وصميم اللغة العادية سوف يقودنا أيضا إلى التساؤل عن أول حدث في سلسلة التغيرات والذي شكل بداية الزمان، والمشكلة أننا لا نستطيع التفكير في عالم ما، ما لم نتصور حدثا معينا شكل بدايته، حتى ولو كان يسبقه دهر لا متناه من سديم زماني حال من كل تغير. «إن فكرة البداية والنهاية تطبق على الأشياء في الزمان، والخطأ إنما يأتي من تطبيقها على الزمان نفسه.»
14
ولعل نظرية الأنماط المنطقية لبرتراند رسل تفيدنا في هذا، ولو نقلناها من مجال اللغة إلى مجال الوجود.
على هذا النحو نلقى تضاربا مزمنا في النظر إلى الزمان من كل صوب وحدب، فعلى الرغم من ارتباطه بالتغير والحركة، وتميزه بهذا الارتباط ودخوله في تعريف الزمان، فإننا لا نعدم من يقرنه بالاستمرار والدوام.
فقد كان هيراقليطس أبا التغير، على حين كان بارمنيدس أبا الاستمرار الذي سارت في مدرسته الإيلية، ووصل إلى ذروته مع زينون الإيلي الذي أنكر الزمان من حيث أنكر الحركة أصلا. وصحيح أن ربط الزمان بالثبات نغمة نشاز في الفلسفة غير ذات حيثية ولم يقدر لها استمرار ذو بال، إلا أن ثبوت الزمن وسكونيته شائع في الفكر الهندي القديم. وفي اللغة السنسكريتية نجد أن الفعل «أن يوجد»، هو نفسه «أن يصير»
To become = To exist ؛ وذلك لأن الفكر الهندي القديم بصفة عامة غارق في السكونية والثبوتية، لدرجة يمكن معها أن تندمج الصيرورة في الكينونة؛ لتتلاشى الصيرورة وتبقى الكينونة.
الفصل الرابع
فض متاهات إشكالية الزمان
لقد اتضح الآن كيف يمثل الزمان إشكالية تحتمل النظر من ألف زاوية وزاوية؛ لنخرج بألف وجهة للنظر ووجهة، وقد بدت الصورة الآن تنذر بمتاهة لا مخرج منها. حقا؛ إننا حاولنا أن نحسم كل تشعب للمتاهة في حينه، ولكن مدى تعدد وجهات النظر ما يزال واضحا.
وتتفاقم أحابيل الإشكالية حين نتكفل بها في الفلسفة والعلم معا، جملة وتفصيلا، إنهما نقطة التقاطع والإطار الضام لمجمل جهود العقل البشري.
ولعل أمر العلم الحديث هين، فعمره قصير، ورؤاه محددة بعالم الظواهر، وبقواعد منهجية بينة، وهو لم يمر حتى الآن إلا بمرحلتين: المرحلة الحديثة من القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر التي تتوجها نظرية نيوتن ذات التصور المطلق للزمان، ثم المرحلة المعاصرة في القرن العشرين، وتتوجها النظرية النسبية بمفهومها النسبي المتغير للمتصل الزماني-المكاني، والنسبية ذروة ما وصل إليها العقل البشري في استكناه هذا الكون وفهمه بزمانه ومكانه ومادته.
ولكن المفهوم العلمي - مأخوذا على حدة - هو تناول سطحي ومبتسر؛ فلا بد إذن من التعمق الفلسفي. وحتى بالنظر إلى فلسفة عالم الظواهر فحسب، ربما كان الفكر الفلسفي صورة مبدئية - ولعلها فجة - للتفكير العلمي الناضج. ولكن فلسفة العلوم - أحدث وأهم فروع الفلسفة المعاصرة - هي على وجه الدقة التفكير العلمي، وقد أصبح راشدا مسئولا بإزاء كل مقولة أو مفهوم أو مبدأ منهجي يقام عليه نسق العلم. والتناول المثمر الجدير بإشكالية محورية ومهمة من قبيل إشكالية الزمان، لا بد أن يتعقبها منذ بدئها في الفكر الفلسفي؛ أي: في الفلسفة اليونانية (كما هو معتمد أكاديميا، وليس يتسع المجال الآن للخوض في قضية الفكر الشرقي القديم وكونه المقدمة الضرورية)، ولا بد أن يتتبع نموها وسيرها حتى يصل إلى العلم الحديث. إن الفلسفة تملك المقومات الجذرية التأصيلية العميقة، والنظرة الشمولية الاستشرافية الرحيبة لمجمل تجربة العقل الإنساني، إن لم نقل الحضارة الإنسانية بمختلف المناشط ومختلف المنطلقات والبواعث والأهداف، ومن الفلسفة دون سواها، يكون المدخل المحدد المعالم والمخرج المفتوح الآفاق للمناشط العقلية الأخرى على العموم، وللعلم على الخصوص، أقرب الأقربين إلى الفلسفة، ورفيقها المظفر، في حل المشكلة الأبسمتمولوجية/الأنطولوجية. ملاك القول إنه لا بد من تناول فلسفي شامل يضم التناول العلمي بين شطآنه.
وإشكالية الزمان بكل ما رأيناه من رحابة آفاقها وتعدد أبعادها، قد مثلت واحدة من أمهات المشاكل الفلسفية التي تظل عتيقة وغضة ناضرة، تفتح آفاق دائمة لتناولها مجددا؛ لذلك دأب معظم الفلاسفة على طرح رؤاهم التجديدية لإشكالية الزمان، والمحصلة ركام هائل من نظريات تخلقت طوال تاريخ الفلسفة. ومن ثم يبدو بحثنا هذا - بعد أن قطع نصف الطريق - قد غرق في لجة لا مخرج منها، إذا أراد أن يكتمل بوضع تصور عام لإشكالية الزمان، وبدئها ومسارها في بنية العقل وتاريخه؛ أي: لمجمل معالجات الإشكالية في الفلسفة، ثم في العلم الذي هو امتداد خاص لها، استقل ونما، ثم تعملق. يبدو هذا الآن مغامرة غير مأمونة العواقب، إذا كان السير المنهجي النسقي فيها متاحا أصلا، وسط هذا الخضم الهائل من النظريات التي يحتاج حصرها لمجلدات.
لكن الحصر والتعداد الآلي أسلوب ساذج وبدائي، وليس من المقبول ولا المشروع، أن يبدأ بحث فلسفي ما لم يكن مسلحا بأسلوب أكثر حصافة، إن لم نقل مبشرا بالجديد المبتكر.
وبالتفكير مليا في الأمر، تبين أنه من الممكن حصر التناول الفلسفي والعلمي لإشكالية الزمان؛ لنخرج بصورة عامة مستوعبة لمجمل مسارها، وذلك فقط إذا تسلحنا بمفتاح من مفاتيح الفكر الفلسفي، ينفذ إلى الصميم فتنفض معه كل المغاليق، الظاهر منها والباطن، البارز والغائر، المكشوف والمستور، فيمكننا من الإحاطة بالفكر الفلسفي، في معالجاته للإشكاليات الواسعة النطاق من قبيل إشكالية الزمان.
والمفتاح المقصود هو أنه بالنظر المتعمق للفلسفة، نجدها عن بكرة أبيها يتنازعها تياران يمثلان منها اللحمة والسدى، هما تيارا العقلانية واللاعقلانية.
العقلانية هي - ببساطة - الإيمان بالعقل باعتباره القوة المدركة التي يمتلكها الإنسان والقادرة على الإحاطة بكل شيء، وإليه يرتد كل شيء، والمذهب العقلاني المعتدل - وهو مذهبنا - «يؤمن بالعقل، ويؤمن بالوجود، وبقدرة العقل على تعقل الوجود.»
1
وبالعقلانية يرتد الزمان، كما ترتد كل إشكالية أخرى إلى الوعي التصوري، الذي يتناول موضوعه برده إلى تصورات أو مفاهيم، هي حدود أو أطراف تربطها علاقات منطقية. إنه إذن تناول موضوعي
Objective ، أو بمصطلح معاصر أكثر دقة وصوابا نقول إنه تناول بين-ذاتي
Inter-subjective ؛ أي: يمكن للذوات جميعا أن تدركه بنفس الصورة. وغني عن الذكر أن العلم يتربع على عرش من عروش مثل هذا التناول.
واللاعقلانية تعني نقيض هذا، أن العقل قاصر، وأن عملياته التصورية متناهية، ومحدودة بأطراف وعلاقاتها. إنه إذن عاجز عن إدراك اللامتناهي، وعن إدراك الزمان بهذا المنظور المنطلق. ويغدو الحدس لدى هذا المنظور هو الطريق الوحيد لإدراك الحقيقة الكامنة من وراء (أو بعد أو خلف أو داخل) عالم الظواهر الخارجية، الحقيقة المغلقة في وجه العقل التصوري، والأرحب من آفاقه، والأشد حيوية وخفقانا من أن تنحصر بين قواعد المنطق الباردة الجافة، ولا سبيل إلى إدراكها «إلا عن طريق الحدس وحده، ذلك الحدس الذي يتم فيه تجاوز كل تفرقة بين الذات والموضوع.»
2
ويغدو كل موضوع ذاتيا وكل حقيقة ذاتية. والزمان كذلك ليس حقيقة موضوعية خارجية كما يتوهم الفلكيون والعلميون والفلاسفة العقلانيون، بل هو ديمومة داخلية ذاتية، لا ينفذ إلى جوهرها العقل. والحدس يشير إلى قوة أخرى أكفأ من العقل وأكثر فعالية، وتختلف أسماء هذه القوة باختلاف مذاهب الفلسفة اللاعقلانية، وهي عادة هروب من هذا العالم المتموضع المتشيئ، الذي بلغ غاية التشيؤ مع العلم النيوتوني الميكانيكي، إلى عالم آخر أرحب وأخصب وأليق بالإنسانية المأمولة للإنسان، فيجد فيه كل ما ينشده ويتمناه، كالحرية والخلود، فيرضي عواطفه ومشاعره، ويهدهد أحاسيسه. وبديهي أن الدين يتربع على قمة اللاعقلانية.
والاتجاهان بعموم حيثياتهما كائنان دائما في الفكر الإنساني، ليس فقط منذ بدء الفلسفة مع الإغريق، بل من قبل في الفكر الشرقي القديم بكل خصوبته وثرائه. فمثلا، ثمة اتجاهات عقلانية واضحة في الفكر الصيني القديم مع هان-فاي-تسو زعيم المدرسة التشريعية، وثمة عقلانية في فكر كونفوشيوس، وخطوط لاعقلانية واضحة في الفكر الهندي القديم، ومزج رائع بينهما في الفكر الفرعوني، على أن الاتجاهين ظلا متداخلين، وقد كانا هكذا في فلسفة هيراقليس؛ حيث نجد عقلانية شديدة يجسدها اللوجوس
Logos (الكلمة/العقل) كما نجد لاعقلانية واضحة. هكذا نجد بدايات عقلانية ولاعقلانية أيضا، وقد يتداخلان معا وتقترب اللاعقلانية إلى حد التصوف، كما هو الحال مع الفيثاغورية. والأمر كذلك بالنسبة لأفلاطون؛ إذ تتداخل خطوط لاعقلانية في قلب العقلانية، ويمكن اعتبار الجمع والتوفيق بينهما محور الفكر في العصر الوسيط، من حيث كان انشغالهم الأساسي بالتوفيق بين الفلسفة والدين، أو الفكر والوحي، أو العقلانية واللاعقلانية. إنهما كانا يسيران معا جنبا إلى جنب، ولم تكن المواجهة بينهما واضحة أو صريحة.
ومع الإيغال في قلب العصر الحديث، أصبحت المواجهة الصريحة بين العقلانية واللاعقلانية أوضح من شمس النهار، ومركزا من المراكز التي تتوجه منها البنى الفكرية، فقد ظهرت نظرية نيوتن لتعني اكتمال نسق العلم، وأنه فقط في حاجة إلى رتوش لكي تكتمل الصورة العقلانية المحكمة المغلقة لهذا الكون، وأنها صورة لآلة ميكانيكية عظمى، تروس وقضبان، محض قطع من المادة في الزمان والمكان المطلقين، تتحرك تبعا لقوانين رياضية دقيقة، لتسير بحتمية صارمة لا تفلت منها كبيرة ولا صغيرة، لا في الأرض ولا في السماء.
وفي هذا العالم النيوتوني يتلاشى الإبداع والجديد والمستحدث، وكذلك يتلاشى التفرد والمسئولية الخلقية، من حيث تتلاشى الحرية الإنسانية، تحت وطأة جبروت الحتمية العلمية، فيصبح الإنسان مجرد ترس في الآلة الكونية العظمى، يسير معها في المسار المحتوم. وبتوالي النشأة الناجحة لبقية فروع العلم، الحيوية والإنسانية - على هدى من مثاليات نيوتن - تعاظمت قسوة الصورة العقلانية التي رسمها العلم للعالم.
3
صحيح أن هذه الصورة الحتمية الميكانيكية قد اندثرت تماما في القرن العشرين، تحت وطأة العلوم الذرية، ونظريتي الكوانتم والنسبية،
4
إلا أن العلم وهو النجيب المعجز الأثير لدى العقل كان قد أحرز أولى ذراه الشاهقة بنظرية نيوتن. إنها أول محاولة ناجحة لبناء نسق شامل للعلم بالطبيعة، بالوجود الذي نحيا فيه، ويوازيها نجاح الفلسفات العقلانية في بناء أنساق شامخة، تتمكن من استيعاب الوجود بأسره في قلب فئة من التصورات. فكان الإيمان المطلق بالعقل، والارتكان إليه لتحقيق القول الفصل في كل أمر، وساد القرن الثامن عشر ما يعرف باسم عصر التنوير، عصر الإيمان بقدرة العقل، والعقل فحسب، على فض كل مغاليق هذا الوجود.
وكرد فعل متوقع للعقلانية التنويرية المتطرفة، أشرق القرن التاسع عشر في أحضان الحركة الرومانتيكية؛ لتتطرف في الاتجاه المضاد، وتعمل على إحياء العاطفة والإحساس والخيال على حساب العقل والمنطق والعلم، وتحاول تأكيد حرية الإنسان في مواجهة مد الحتمية العلمية الساحق الماحق، التي سادت أيما سيادة آنذاك.
وقد كانت الرومانتيكية، أساسا، رؤية فنية ونزعة أدبية تعني الاتجاه المقابل للكلاسيكية، ومن ثم الرافض لأسس علم الجمال الثابتة، ومعايير العمل الفني الراسخة. إن الاتجاهات الحديثة في الآداب والفنون؛ كاللامعقول والعبث والتجريد والتكعيبية والسيريالية ... امتداد لها. ولكن جذرية الرومانتيكية وشموليتها، وتواتر شعرائها العظام وأقطابها المتمكنين؛ أمثال: كولريدج، وشيلي، ووردزورث، ووليم بليك، وتوماس كارليل، وأيضا العملاق جوته. كل هذا جعل الرومانتيكية تخرج من حدود الآداب والفنون، وتأتي بمعان ورؤى لمقولات الفلسفة الأساسية: الحق، والخير، والجمال. وكان لها أيضا شعاب في التاريخ والسياسة، تقوم على الاعتقاد بلا نهاية التقدم في التاريخ، ونجعلها مسئولة عن نمو النزعات القومية التي تعد سمة مميزة للعصور الحديثة. وهكذا أصبحت الرومانتيكية حركة شاملة.
وقد تميزت طبعا بالعداء المتأجج للعقل وأحكامه وتحليلاته، واتجهت إلى الارتكان إلى الخيال والعاطفة ومشاعر القلب وحدوس الوجدان، وإطلاق الموقف الفردي، وتأكيد الحرية والاستقلال والبحث المشبوب عن اللامتناهي وعن الجدة والإبداع، والاشتياق لكل ما هو متميز وفريد وأصيل يأتي على غير مثال، والأنفة من المعتاد والمألوف والرتيب، والرفض لكل ما هو نمطي قانوني صوري نسقي ... ومنبع كل هذا إحساس الرومانتيكية الدافق بالحياة الخفاقة في الصدور، لا المتجردة في العقول كما تصورها قوانين العلم الخاوية، وأنساق الفلسفة العقلانية الباردة.
الرومانتيكية إذن أقوى تمثيل وأوضح بلورة للاعقلانية التي تتوغل جذورها على الخصوص في نزعات التصوف الفلسفي والديني، المعتمدة على المواجيد والمزدرية لأحكام العقل وشهادة الحواس، أما الامتداد الساطع للرومانتيكية في الفلسفة المعاصرة، فهو في الفلسفتين البيرجسونية والوجودية التي قامت لتأكيد حرية الإنسان وفردانيته من حيث هو جزئي عارض عيني متشخص، لا يندرج تحت أية بنية نسقية عقلانية.
5 •••
وبالعود إلى إشكاليتنا، إلى الزمان، نجده - كما أوضحنا - يتوغل في منتهى الموضوعية في صلب عالم العلم والوجود كما يتصوره العقل، وفي الآن نفسه يتوغل في منتهى الذاتية في قلب التجربة الداخلية، ووعي الإنسان الشعوري بديمومته وتناهيه، وبحثه التواق عن السرمدية في الآفاق الأبدية المترامية وراء حدود العقل التصوري. الزمان إذن محور أكثر من مثالي لتطبيق التناول الذي يحصر المتغيرات من خلال تياري العقلانية واللاعقلانية.
ويبدو فض متاهات معالجات إشكالية الزمان على هذا النحو مسألة ملائمة للغاية، إن لم نقل إنها ضرورة تفرض نفسها، حين نلاحظ الخلط الذي حدث بين الزمان والأبدية، وتصور الأبدية على أنها مجرد لا نهائية زمانية؛ أي: صفة لامتداد الزمان الطبيعي الفلكي بغير حدود وبغير نقطة بداية محددة، «فقد أخذ أرسطو بهذه النظرة التي لا تفرق بين مستويين من مستويات الوجود.»
6
والواقع أن الأبدية التي ينتفي منها الماضي والحاضر والمستقبل، والبداية والنهاية، وتخلو من التغير والزوال والفناء، وتنتمي إلى وجود مغاير تماما للوجود الذي ينتمي إليه الزمان الطبيعي الفلكي القابل للقياس والتكميم الرياضي، سواء أكان متناهيا أم لا متناهيا. بل إننا إذا صوبنا الأنظار على الزمان بهذا المنظور الطبيعي الرياضي؛ لأمكننا القول إن الأبدية تعني ببساطة اللازمان، حتى قال ت. س. إليوت:
إنما الشغل الشاغل للقديس أن يدرك
نقطة تلاقي الزمان واللازمان.
7
فقد يبدو أن الواحد منهما يتناقض مع الآخر، ولكن هذا التناقض يحدث فحسب نتيجة للخلط بين النظامين وحين يقحم أحدهما في الآخر، لا بد أن ينشأ تناقض.
8
وقد أتى هذا التناقض، وهذا الخلط بين الزمان والأبدية، من جراء عجز العقل في العصور السابقة عن تناول المتصل اللامتناهي؛ مما جعل قدمه تزل في الحدود اللاعقلانية، ليخلط بين اللانهائية الميتافيزيقية الكيفية للأبدية، وبين اللانهائية الفيزيقية الكمية للزمان الطبيعي. وظل هذا الخلط يعرقل نمو التفكير في إشكالية الزمان، حتى تطورت الرياضيات البحتة في العصور الحديثة، ونما حساب اللامتناهي بفضل علماء كثيرين نذكر منهم جورج كانتور
G. Cantor (1845-1918) فأمكن معالجة لا تناهي الزمان، كما نعالج أي متصل لا متناه، بصورة رياضية - أي عقلانية - لأقصى الحدود، بلا خلط ولا اضطراب، تغمض معه المفاهيم، وتغيب الحدود بين العقلانية واللاعقلانية.
وبالتسلح بهذا الإنجاز الحديث، يمكن أن نستوعب قول نيقولاي بيرديائيف بشغفه الوجودي التواق إلى الفرار من أطر الزمان الفيزيقي العقلاني، إلى آفاق الزمان اللاعقلاني الممنوحة بسخاء في الأبدية، يقول بيرديائيف: «تتعارض فكرة الأبدية مع كابوس الزمان النهائي واللانهائي على السواء، فهناك نوعان من التناهي أحدهما كمي والآخر كيفي. اللاتناهي الكمي فان لكنه يؤكد وجود الزمان اللامتناهي، واللاتناهي الكيفي ينتصر على الموت، ويؤكد الطابع اللامتناهي للزمان، والقدرة على معالجة شر الزمان. والأبدية هي - على وجه الدقة - هذا اللاتناهي الكيفي، وهي وحدها التي تقدم حلا لتناقض الزمان.»
9
يقول أيضا: «العالم الموضوعي إذن هو عالم الزمان الرياضي، عالم اللامتناهي الرياضي ... هذا الزمان الذي نقيسه بالساعة يختلف كل الاختلاف عن مصير الإنسان الداخلي ... بيد أن المصير الإنساني يتم التعبير عنه في العالم الموضوعي بحيث يصبح عبدا للزمان الرياضي المنقسم. والحياة الروحية وحدها هي التي يمكن أن تتحرر حقا من الزمان العددي؛ فثنائية الزمان يمكن الكشف عنها بوضوح في اللحظة الحاضرة. ولهذه اللحظة دلالة إذا نظرنا إليها بطريقتين متباينتين تماما؛ أولا: أن اللحظة جزء دقيق من الزمان، فهي صغيرة من الناحية الرياضية ولكنها منقسمة بدورها، ومندرجة في تيار الزمان، بين الماضي والمستقبل. ثانيا: هناك أيضا اللحظة الحاضرة للزمان فوق العددي غير المنقسم، اللحظة التي لا يمكن أن تنحل إلى الماضي والمستقبل، لحظة الحاضر الأبدي التي لا تنقسم، وهي جزء متكامل مع الأبدية.»
10
وبمعالجة أكثر موضوعية، تقول أميرة مطر في بحث عميق عن الزمان عند اليونان، أفادنا كثيرا: «الأبدية إذا نظرنا إليها من وجهة نظر روحانية، فإنها لا يمكن أن تنشأ من الزمان؛ لأنها من صنف آخر، ووجودها متعال على الوجود الحسي، فظننا بأن المطلق يمكن أن يوجد في النسبي هو نوع من الوهم. فالزهرة مثلا لو كانت تعي كما يعي الإنسان ويظن لظنت البستاني خالدا، ولكن تفسير الأبدية بالعلاقات المجردة هو تجريد يسلبها الصورة الحية لها والوعي النابض بها؛ لذلك فقد ذهب البعض إلى وصف الأبدية بأنها حاضر مستمر، ولا ينبغي أن تنتسب إلا للعالم الروحاني أو الألوهية المتعالية. وكذلك نرى أن علاقة الأبدية بالزمان ليست علاقة أفقية؛ إذ لا توجد قبل الزمان ولا بعده، وإنما هي عمودية
Vertical
بل يمكن أن نقول إن أجسادنا في الزمان وأرواحنا في الأبدية.»
11
هكذا نجد أنفسنا بإزاء تيارين متمايزين للإشكالية، إنه عين التمايز بين تياري العقلانية واللاعقلانية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن انفراج التيارين يرتد إلى «تصور بعدين متمايزين من الوجود، أو نظامين مختلفين من الوجود، ألا وهما نظام الزمان ونظام الأزل.»
12
تأكد لنا أن إشكالية الزمان قد سارت حقا طوال تاريخ العقل الإنساني وفي صميم بنيته خلال تياري العقلانية واللاعقلانية. •••
هذا عن المسار، فماذا عن البداية؟
قال العالم الرياضي الكبير والفيلسوف البارز الفرد نورث هوايتهد قولا شهيرا مؤداه أن مجمل تاريخ الفلسفة لا يعدو أن يكون هوامش على فلسفة أفلاطون . وقد ظلت إشكالية الزمان في الفكر الشرقي القديم وفي الفلسفة قبل السقراطية، ظلت موضوعا لرؤى مبتسرة وشذرات متناثرة، حتى جاء أفلاطون العظيم في المحاورة التي كرسها للعالم الطبيعي وتفسير نشأته،
13
ليفرق بين الزمان والأبدية، وعندئذ بدأت المعالجات النظامية للإشكالية من خلال مفهوم الزمان ليمثل التناول العقلاني، ومن خلال مفهوم الأبدية ليمثل التناول اللاعقلاني.
وفي المحاورة المذكورة، طيماوس، نجد أن الزمان لم يكن موجودا حتى خلق الله العالم، أو بالتعبير الأفلاطوني حتى صنع الصانع هذا العالم؛ أي حين شكل الهيولي الأولى أو المادة التي كانت في حالة كاؤس
Chaos
شكلها في صورة عالم حي على غرار النماذج الخالدة في عالم المثل. لقد وجد الزمان في نفس اللحظة التي وجد فيها هذا العالم، أما قبل خلق السماوات فلم يكن ثمة نهار ولا ليل ولا شهور ولا أعوام، بل فقط الأبدية التي لم يكن من السهل - كما تخبرنا طيماوس - أن تحل في العالم الحادث، وحتى يشابه العالم الأصل الذي يحاكيه الصانع، خلق له الزمان صورة ومحاكاة لمثال الأبدية، تبعا لنظرية أفلاطون الشهيرة التي تجعل كل شيء في العالم المحسوس محاكاة لنموذجه الخالد في عالم المثل.
هكذا يميز أفلاطون بين مفهومين مختلفين للزمان، تبعا لمستويين متمايزين للوجود، والزمان الطبيعي الفلكي تبعا للتعريف الأفلاطوني مجرد «صورة متحركة للأبدية، وعلاقته بالأبدية علاقة العدد بالوحدة، وتكراره وسريانه المنظم يعكس ثبات الأبدية، ويصبح الزمان هو عالم المحسوسات المتغير، أما الأبدية فلا يجوز عليها الماضي والحاضر والمستقبل ولكنها في حاضر مستمر. إنها تتصف بالثبات البادي في العلاقات الرياضية والنسب العقلية التي يتصف بها عالم المثل، وما دام الزمان قد وجد فلا بد وأن يصاحب وجوده الأجسام المحسوسة ذات الحركات المطردة التي هي مقاييس له؛ فقياس الزمان يستدعي وجود الشمس والكواكب التي تدور حول العالم.»
14
هكذا يوحد أفلاطون - كما سبق أن فعل الفيثاغوريون - بين الزمان وحركة الأفلاك، حتى إنه يسمي الكواكب في المحاورة المذكورة طيماوس آلة الزمان؛ فالخالق خلق الكواكب السبعة السيارة (القمر، والشمس، والزهرة، وعطارد، والمريخ، والمشتري، وزحل) لتدور في أفلاكها، فنحسب الزمان بحركتها. •••
المهم الآن، أنه بهذا التأسيس الأفلاطوني، انطلقت إشكالية الزمان، وتنامت وتطورت - كما سنرى - عبر طريقين:
أولا:
طريق الأبدية الخاص بعالم الوعي المنطلق، نسيج الميتافيزيقا ومجال الألوهية وخلود النفس، زمان لا يقبل التكميم والقياس، فهو زمان الكيفية الذي أصبح في العصور الحديثة زمان التوتر والخلق الجديد والانبثاق والإبداع، زمان ذاتي داخلي يرتبط بالحركة الداخلية للنفس، أما حركة النفس الكلية الكونية في الفلسفة اليونانية، لنجد الزمان هو الأبدية هذا المفهوم الأليق بالألوهية، وأما حركة النفس الجزئية المتشخصة، خصوصا في الفلسفات اللاعقلانية الحديثة والمعاصرة، وأهمها - كما ذكرنا - الوجودية والبيرجسونية، وها هنا نلقى مفهوما آخر للأبدية أليق بالإنسان، أهم صوره ديمومة بيرجسون.
ثانيا:
طريق الزمان الخاص بالعالم المحسوس، المتموضع بأحداثه الجارية، خارج الذات الإنسانية، عالم الأجسام المتشيئ الظاهر، زمان يدخل في نسيج الفيزيقا، كدفعة سيالة أو مجرى متحرك، تيار مستمر هو الوسط الذي تحدث فيه الحوادث، كزمان سقوط الجسم أو قطع المسافة. فهو يرتبط بحركة العالم الطبيعي، خصوصا حركة الأفلاك التي تعد مقياسا له، حتى إنه - على وجه الدقة - الزمان الفلكي، فيغدو زمان النظامية والرتابة وربما الآلية. فهو زمان موضوعي متجانس، قابل للقياس والتكميم الرياضي الدقيق.
على الإجمال لدينا زمانان:
الزمان اللاعقلاني الوجودي الوجداني الباطن الداخلي الذاتي الكيفي النفسي.
الزمان العقلاني الكوزمولوجي الفلكي الطبيعي الظاهر الخارجي الموضوعي الكمي العلمي.
وأهم موضع يلتقي ويتفق فيه تيارا أو صورتا الإشكالية، إنما هو ربط الزمان بالحركة، إنها قضية تباري الفلاسفة من التيارات المختلفة في تأكيدها بصورة أو بأخرى. فقد رأينا أفلاطون يربط الزمان بحركة الأفلاك، وكانت الحركة ماهية الزمان عند أرسطو؛ فهو «يتجدد باستمرار تبعا لاستمرار الحركة.»
15
وعرف ابن سينا الزمان بأنه مقياس الحركة الدائرية المتصلة من جهة السابق واللاحق، بدلا من جهة المسافة. أما صمويل ألكسندر فقد تمادى أكثر، ورأى أن الزمان لا كيفية له إلا الحركة التي تأتي بفعله وبدخوله على المكان، على أنها الحركة الجوهرية الأصلية التي ليست مجرد علاقة بين أشياء سابقة ولاحقة، بل حركة أسبق من كل الأشياء التي انبثقت عن الزمان والمكان، ومتغلغلة في كل شيء، فلا يوجد أي شيء ساكن في الكون؛ لأن الزمان والمكان هما بوتقة كما أوضحنا في حينه، ومجرد اكتشاف الزمان يعني تخليص عقولنا من أية نظرة سكونية لأي شيء. ويتمادى نيقولاي بيرديائيف أكثر وأكثر، فيؤكد أن الحركة لم توجد لأن الزمان موجود، بل الزمان هو الذي وجد لأن الحركة وجدت؛ لذلك اعتبرنا نفي الحركة عن الزمان وربطه السنسكريتي بالثبوتية والسكونية.
وإن كان قد وجد في الفلسفة بصورة ضمنية مع الأيليين فإنه نغمة نشاز ولا حيثية لها. والواقع أن الأيليين لم ينكروا ربط الحركة بالزمان، بل أنكروا الحركة أصلا والزمان معها وكل شيء؛ ليبقى الوجود كتلة مصمتة ساكنة. والزمان من حيث هو زمان يرتبط في كل وضع وفي كل مذهب بالحركة، ولكن مع فارق، هو أن التيار اللاعقلاني يربطه بالحركة الداخلية للنفس، إما النفس الكلية وإما النفس الفردية الجزئية، أما التيار العقلاني فيربط الزمان بالحركة، بحركة العالم الطبيعي الخارجية، خصوصا الأفلاك.
أما عن أبرز نقاط الاختلاف، فهي ارتباط الزمان العقلاني بالمكان، وانفصال الزمان العقلاني تماما عن المكان. إن الزمان والمكان في التصورات العقلية متعضونان معا كقالب للوجود والمعرفة، ولا انفصال للزمان عن المكان ولا إمكانية لقياسه بمعزل عنه، وهذا الارتباط بلغ حدا يتمثل في أن أقصى صورة لتطور الزمان العقلاني؛ أي النظرية النسبية لآينشتاين، قد تلاشى فيها تماما أي تمايز بين الزمان والمكان، وأصبحا متصلا واحدا كما سنرى. أما الزمان اللاعقلاني - الأبدية أو الديمومة أو أية صورة من صوره - فينفصل عن المكان انفصالا تاما، بل ولا علاقة له البتة بالمكان «المكان آخر بالنسبة له، وهو آخر بالنسبة للمكان.»
16
إن الزمان اللاعقلاني مطلق لا متناه - كيفيا طبعا - وبالتالي لا يمكن أن يدخل في علاقة تجعله مرتهنا بطرف سواه، فما بالنا بطرف متموضع متشيئ كالمكان. ولعل هذا الفصل الحاد للزمان عن المكان - والذي أمعن بيرجسون في تأكيده - هو ما يجعله على وجه الدقة معقل اللاعقلانية المستغلقة في وجه العقل التصوري، وهو أيضا الذي يجعل الزمان اللاعقلاني يكتسب الخاصة المميزة له؛ أي الذاتية، فهو محض خبرة تمر بها النفس.
على أن الزمان العقلاني، أو الموضوعي الكوزمولوجي الفلكي العلمي هو الزمان الحقيقي. و«حقيقي» هنا ليست إسقاطا تقييميا يرفع من شأن التناول العقلاني للإشكالية، أو يحط من شأن التناول اللاعقلاني لها، بل هو مصطلح مراد حرفيا؛ فالعقلانيون العلميون يسلمون مبدئيا - وبداهة - بأن الزمان الذي يتعاملون معه زمان حقيقي
real ، وكل المشككين في هذا القائلين بلا حقيقية الزمان، إنما هم من قلب التيار اللاعقلاني. ولعل الذي دفعهم إلى هذا، إن لم نقل وإلى اللاعقلانية أصلا، هو أن الزمان العقلاني الكوزمولوجي، وخصوصا حين أطلقه العلم الحتمي الحديث، يقف أمام الإنسان موضوعا صلبا ينذره بالتناهي والعدم والزوال المستمر والموت، فيدفعه إلى التعالي عليه في محاولة لقهره، إما بإنكار حقيقيته، وإما بالفرار إلى الأبدية، وإما بالاثنين معا، فهكذا يقهرون موضوعيته القاسية ويؤكدون العالم الذاتي. وقد كان بيرجسون أشد الفلاسفة المعاصرين عناية بالزمان الذاتي - أو الديمومة كما أسماه - وأيضا بالحط من شأن الزمان الموضوعي الفلكي. فيقول العالم الفلكي وفيلسوف العالم آرثر إدنجتون يقول ساخرا: ولكن البروفسور بيرجسون بعدما يبين أن فكرة الفلكي عن الزمان هي لغو تام، ربما ينهي المناقشة بأن ينظر للساعة في معصمه، ويسرع ليلحق بالقطار، والذي ينطلق تبعا لزمان الفلكي!»
17
ومهما يكن الأمر، فإنه لا يمكن اعتبار أي من صورتي الزمان أهم من الأخرى. كلا التصورين العقلاني واللاعقلاني له أهميته ودوره، والدوافع المختلفة لكلا الاتجاهين لها دورها، وهذا يذكرنا بتقسيم برتراند رسل للفلاسفة إلى فريق ذي دوافع أخلاقية ودينية، وفريق ذي دوافع علمية وعقلية، وفريق وسط؛ معقبا على هذا بأن مذاهب الفريق الأولى وإن امتازت بسعة الخيال كانت عقبة في سبيل التقدم العلمي،
18
لكننا نراها كلها تتكامل معا لتشكيل إنسانية الإنسان ذي العقل والعاطفة، العلم والدين، الفيزيقا والميتافيزيقا، الزمان والأبدية. وعرفانا لأفلاطون العظيم سنتناول أولا الأبدية أو الزمان اللاعقلاني منذ أفلوطين حتى الفلسفة المعاصرة، ثم ننتقل إلى الزمان العقلاني مع المعلم الأول أرسطو؛ لينتهي الحديث تلقائيا بصورته العلمية الفيزيائية المطلقة مع نيوتن، ثم النسبية مع آينشتاين. والولاء لفلسفة العلم يجعلنا نرى في هذا مسك الختام.
الفصل الخامس
الزمان اللاعقلاني
تلقى الفيلسوف المصري أفلوطين
(205-270م) المولود بمدينة ليفربوليس (أسيوط) إشارة البدء الأفلاطونية ليفرق بين الكوزمولوجي الطبيعي، وبين الأبدية زمان النفس الكلية، وجعل الثاني علة للأول، وألقى بالزمان في قلب التجربة الصوفية الحدسية، معرضا عن التصور العقلاني له، ورافضا إياه رفضا باتا، وطارحا أول صياغة فلسفية متكاملة ومهيبة للزمان اللاعقلاني. فمثل حلقة هامة ومميزة من حلقات البحث الفلسفي في الإشكالية، حتى إنه إذا اعتبرنا طيماوس نقطة البدء، فإن الفصل السابع من تاسوعية أفلوطين الثالثة هو الذي شق الطريق الفلسفي للزمان اللاعقلاني، أو الطريق اللاعقلاني للزمان الفلسفي.
وأفلوطين حامل لتيار الفكر الإغريقي، مضافا إليه المؤثرات الفكرية والحضارية التي سادت منشأ فلسفته أي مدينة الإسكندرية، منار العرفان في ذلك العصر. وتقوم فلسفة أفلوطين على فكرة التثليث التي سادت الأديان والعقائد والميتافيزيقا آنذاك، وجسدتها الغنوصية، ثم تبلورت نهائيا في المسيحية. وقد كان أفلوطين خصما عنيدا للمسيحية، وقدم فلسفته كبديل لها. وفلسفته بدورها تقوم على فكرة الأقانيم الثلاثة: المطلق، العقل، النفس الكلية. وفكرة الفيض والصدور؛ أي صدور الأقنوم عن سابقه. أما الأقنوم الأول (المطلق) فيفيض عن «الواحد» النبع النوراني الثابت الساكن الأصلي.
وقد وجد الزمان والنفس الكلية معا لحظة الفيض؛ أي لحظة صدور النفس الكلية عن الأقنوم السابق عليها؛ ذلك أن الزمان هو فاعلية وحياة النفس «الأقنوم الثالث»، أما الأبدية فهي فاعلية وحياة العقل «الأقنوم الثاني». الأبدية إذن تسبق النفس والزمان في الوجود، ونوع الوجود الذي ينسب للأبدية - وقبل أن يوجد الزمان - هو الحياة الثابتة الكاملة اللانهائية، المتجهة إلى الواحد.
وأفلوطين «يدعي أنه يتبع رأي القدماء في هذا الشأن؛ فالزمان كما قال أفلاطون هو الصورة المتحركة للأبدية.»
1
والواقع أن فلسفته تقوم على أخذ خطوط مباشرة من أفلاطون، الذي يعد سلفه المباشر. وعلى الرغم من هذا، وعلى الرغم أيضا من الصوفية الحدسية الساطعة واللاعقلانية المتفجرة من بين جنبات فلسفة أفلوطين، فإنه أيضا وريث لتراث أرسطو العقلاني، «وكثيرا ما يبدأ البحث بجملة لأرسطو، ثم يعقبها بشرح طويل لهذه القضية.»
2
وعلى أساس من التراث الأرسطي، يبدأ بحثه للزمان بالربط بينه وبين الحركة، ولكنه لكي يحل النظرة الصوفية محل النظرة العقلانية، ربط الزمان بحركة النفس الكلية. فالزمان هو نشاط النفس و«أهم ما يميز نشاط النفس هو قدرتها على الحركة والانتقال، على أن نفهم هذه الحركة والانتقال بأنها حركة وانتقال الفكر.»
3
إن أفلوطين يربط الزمان بحركة النفس بدلا من أن يربطه بأية حركة طبيعية أو حركة أجرام، ووجه نقدا للقائلين بهذا، مستندا على أن حركة أو دورة العالم يمكن أن تقيس الزمان، لكنها لا تخلقه، أما النفس فهي مكان نشأة ووجود الزمان الذي يعد امتدادا لها، فهو نشاطها وحياتها وفعاليتها، فيكون البحث عن حقيقة الزمان في طبيعة النفس، وليس في طبيعة العالم. يقول أفلوطين: «النفس هي أول شيء يستدعي وجود الزمان، وهي التي تخلقه وتحتفظ به مع كل ما تقوم به من نشاط وأعمال، فلم إذن كان الزمان دائم الوجود به لأن النفس لا تغيب عن أي جزء من أجزاء العالم، شأنها شأن نفوسنا لا تغيب عن أي جزء من أجزاء أجسامنا.»
4
والزمان ناتج عن اختلاف مراحل حياة النفس، وحركة النفس المستمرة إلى الأمام تحدث الزمان اللانهائي، وبقدر ما تتدرج الحياة في مراحل يمضي الزمان.
ولكن، كيف تخلق أو كيف صدر الزمان عن الأبدية؟ يقول أفلوطين: «يمكننا أن نسأل الزمان نفسه ليكشف لنا عن كيفية وجوده، ولسوف يروي لنا قصته على النحو التالي فيقول: إنه كان موجودا متمركزا في ذاته، ساكنا في الوجود الأصلي، ولم يكن بعد هو الزمان بل شيئا ممتزجا ثابتا في الوجود، ولكن كان هناك مبدأ فعال يتجه إلى التحكم في ذاته ويبحث عن ذاته، إنه النفس الكلية وقد فضلت أن تهدف إلى شيء يتجاوز وجودها، فتحركت فتحرك الزمان معها، وانتقلا بعد ذلك إلى ما هو لاحق عليهما وجديد، إلى حالة مختلفة عن حالتهما السابقة ومتغيرة باستمرار. وبعد أن اجتازا جزءا من طريقهما أنتجا صورة للأبدية هي الزمان ... وذلك لأن النفس تحتوي على قوة قلقة راغبة دائما في نقل ما تراه في الوجود العقلي إلى مكان آخر.»
5
ويستأنف قائلا: «على هذا النحو، تسلك النفس عندما تنتج هذا الكون المحسوس على غرار العالم المعقول وتهبه حركة شبيهة بحركة العالم العقلي، وقد تحقق لها ذلك عندما اتشحت بالزمان، فخلقت الزمان بدلا من الأبدية، وأخضعت العالم الذي أنتجته للزمان، ونظمت كل ما ينتج عنه في حدود الزمان؛ وذلك لأن الكون يتحرك في إطار النفس، إنه الزمان الكامن في النفس.»
6
ويبدو جليا أن هذا لا يعدو أن يكون ظلا لنظرية أفلاطون، والزمان الحسي الذي يحاكي مثال الأبدية الخالد، وإن كان ثمة إضافات أفلوطينية فإنها لا تستقيم، بل ولا تتأتى أصلا بدون الأساس الأفلاطوني. إن أفلوطين ختام وخلاصة مد الفلسفة اليونانية بعد أن امتد عمرها اثني عشر قرنا من الزمان، وكان وريثا أمينا لها، وبقطبي الرحى فيها، أفلاطون وأرسطو وخصوصا أفلاطون. •••
وعلى مشارف الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، يأتي القديس أوغسطين
St. Augustine (354-430م) ليقدم أول وأهم معالجة فيها لإشكالية الزمان. لقد اهتم بالزمان اهتماما بالغا، وأعرب عن حيرته الشديدة بشأن تعريفه وقياساته، خصوصا إذا ما قورنت بقياسات المكان، فعالج الإشكالية بالتفصيل في كتابيه الشهيرين مدينة الله والاعترافات، خصوصا الأخير الذي يبشر بمفاهيم أساسية، ويرسي إضافات جوهرية، ظلت تحدد معالم الزمان اللاعقلاني، حتى برزت في الفلسفة الوجودية المعاصرة.
وأوغسطين على رأس السائرين في الطريق الذي شقه أفلاطون وأفلوطين، ويواصله بصورة أكثر جذرية، وهو بالتالي حامل مخلص لميراث أفلاطون، فيفرق مثلهما بين الزمان والأبدية، ويعتبر الزمان صورة مفككة شائهة من الأبدية، ويصدق على قول أفلاطون إن الله خلق الزمان مع العالم، ولم يخلق العالم في الزمان، على أن الله خالق للعالم من العدم، وليس مجرد صانع أفلاطوني مشكل للمادة الموجودة. ومن أشهر الأقوال المأثورة عن أوغسطين تساؤله في الاعترافات: ما هو الزمان؟ وإجابته بأنه طالما لم يطرح السؤال فإن الزمان معروف جيدا، أما إذا طرح السؤال فلا ولن تعرف ما هو الزمان، ويستحيل صياغة إجابة . وذلك عين ما قاله أفلوطين في التاسوعية الثالثة عن الزمان: «إننا نحس إزاءه بخبرة معينة تحدث في نفوسنا بغير عناء، وعندما نحاول أن نختبر أفكارنا عنها نحتار.»
7
ما معنى هذا؟ معناه بإيجاز أن الزمان لاعقلاني، تجربة حية معاشة، وليست موضع تنظير عقلاني.
بهذه اللاعقلانية، وعلى الأساس الأفلاطوني/الأفلوطيني، يبدأ أوغسطين من الحادثة الواردة في الكتاب المقدس، القائلة أن الشمس توقفت عن المسير، بناء على دعوة يوشع، بينما استمر الزمان في سيره، ويخرج منها بتأكيد رأي أفلوطين في أنه لا يمكن ربط الزمان بحركة الفلك أو أي جسم ولا بأية حركة طبيعية، وبالتالي رفض كوزمولوجية الزمان أصلا. والزمان إذ ينتفي ارتباطه بالفلك يصبح حالا داخل النفس، إنه كما قال أفلوطين ليس إلا توترا
distension
في النفس. لكن أوغسطين بشر بالانتقال من مفهوم النفس الكلية إلى المفهوم الأجدر والأهم «النفس الفردية». وهذه - في رأينا - أهم إضافاته، والتي جعلته أبا للفلسفة الوجودية المعاصرة.
وقد أشار أوغسطين إلى أن النفس في ذات اللحظة الحاضرة تستحضر الماضي بالذاكرة وتتوقع المستقبل أو تتنبأ به بواسطة العقل والمخيلة؛ أي إن الماضي والحاضر والمستقبل تتجمع معا في عين اللحظة الحاضرة بواسطة قوتين أو عمليتين نفسيتين هما: الذاكرة، والمخيلة. معنى هذا أن النفس تستقطب الزمان في الحاضر. والديانة المسيحية - كأية ديانة سماوية - بما تحويه من لحظات فريدة غير قابلة للتكرار؛ كلحظة الخلق، وهبوط آدم، وتجسد المسيح ... إلخ، جعلت أوغسطين يرفض فكرة الزمان الدائري الأفلاطوني/الأفلوطيني أو اليوناني عموما. والزمان وإن كان غير دائري، فهو متصل غير منفصل، بل وذهب أوغسطين إلى أنه حتى غير مكون من آنات منفصلة، بل من استمرار دائم. بعبارة أخرى، الزمان مكون من حاضر مستمر، كما يوحي مفهوم الأبدية الذي هو حاضر دائم، وكما علمنا توتر النفس الذي يستجمع الزمان في اللحظة الحاضرة أو الحاضر. ويصل الأمر بأوغسطين إلى حد وضع ثلاثة أنواع للزمان: حاضر الأشياء الماضية، وحاضر الأشياء الحاضرة، وحاضر الأشياء المستقبلة.
وباستقطاب الزمان في الحاضر، والذي يؤكده أنه الماضي لم يعد موجودا والمستقبل لم يوجد بعد ، كان أوغسطين يثير أمهات مشاكل ومعالم الزمان اللاعقلاني، وأولها إنكار موضوعية بل وحقيقية الزمان أنه نفسي ذاتي غير حقيقي. فإذا كانت النفس تستقطبه في الحاضر، فإن الحاضر منقض، زائل دائما، غير موجود، ولا ديمومة له أبدا - أي: غير حقيقي - ليغدوا الزمان بأسره غير حقيقي. يقول أوغسطين: «وسنوك من جيل إلى جيل، لكن ما سنوك إلا سنون لا تجيء ولا تمضي، سنون لا تجيء لكي تزول. ففي الزمان حيث نعيش، كل يوم إنما يبتدئ لينتهي، وكل ساعة وكل شهر وكل عام، الجميع يمضي، قبل أن يكون فسيكون، ومتى كان فلن يكون.»
8
وإثبات ذاتية ولا حقيقية الزمان تلاقي استحسانا كبيرا من جمهرة لاعقلانيين بمذاهب شتى. والواقع أن «أوغسطين كان يريد أن ينكر حقيقية وموضوعية الزمان؛ كي يلغي السؤال: ما الذي كان الله يفعله قبل أن يخلق العالم والسماء والأرض؟»
9
فإنه تبعا لهذه النظرة، لا يوجد قبل للزمان. فيقول أوغسطين: «سنو الله في الحقيقة لا شيء هي غير الله نفسه، سنو الله هي أبدية الله، والأبدية هي جوهر الله عينه الذي لا شيء فيه متغير، لا ماض لا يكون موجودا، ولا مستقبل ليس حاضرا، وليس هناك إلا ال «هو» ال «الكائن» وليس هناك «كان» ولا «سيكون»؛
10
لأن ما كان لم يعد كائنا وما سيكون لم يكن، فهناك «الكائن» لا غير، هكذا يكون الله الذي هو الأبدية هو الحقيقة الوحيدة، وكل ما يتبدى لنا سواه وهم ذاتي، وتأتي المسيحية لتمنحنا الخلاص من هذا، والظفر بذاك.
إن أوغسطين يجسد تضاؤل العقل في المسيحية، بعدما تعملق في الفلسفة الإغريقية. ولعل المسيحية بتعمقها في الحياة الباطنية وخلاص الروح، هي التي دفعت أوغسطين إلى مثل هذا التوغل في اللاعقلانية، وبالتالي الانسياق بمجامع نفسه وفلسفته في قلب الزمان النفسي الوجودي.
لكن إذا كانت قيمة نظرية الزمان لأفلوطين، تبرزها ضروريتها وتناميها مع أوغسطين، فإن قيمة نظرية أوغسطين بدورها تبرزها ضروريتها وتناميها في الفلسفات اللاعقلانية المعاصرة، خصوصا الوجودية. •••
وقبل أن نختتم الزمان اللاعقلاني بصورته في الفلسفة المعاصرة، يلزم بالضرورة استكمال صورته في العصور الوسطى، بالعروج على الشرق الإسلامي. وبطبيعة الحال، المتصوفة الإسلاميون في طليعة العائشين في الزمان اللاعقلاني، إنهم يسرفون إسرافا في التأكيد على ذاتية الزمان، والتي رأيناها تقترن به من حيث هو لاعقلاني.
في الرسالة القشيرية، يقول الإمام أبو قاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري: «سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الوقت ما أنت فيه، إن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن.» يريد بهذا أن الوقت ما كان هو الغالب على الإنسان. وقد يعنون بالوقت ما هو فيه من الزمان: «فإن قوما قالوا الوقت ما بين الزمانين يعني الماضي والمستقبل، ويقولون: الصوفي ابن وقته. يريدون بذلك أنه مشتغل بما هو أولى به في الحال، قائم بما هو مطالب به وفي الحين، وقيل: الفقير لا يهمه ماضي وقته وآتيه، بل يهمه في وقته الذي هو فيه.»
11
هكذا يصطبغ الوقت بالحال، ويتميز الحال بالوقت، ويعيش الصوفي الزمان فيما يتدرج فيه من المقامات؛ فالمقام يستمر زمانا، وفي حين يختفي الزمان في الحال، فيصبح أقرب إلى اللحظات الوجودية غير ذات الاتصال، ويتخذ شكلا طوبولوجيا (النقطة)، «إنه اللحظات المكثفة التي لا تتصف بالطابع الكمي بل بالطابع الكيفي، فالوقت لا زمان له لكنه حال تخرج به عن الزمان.»
12 •••
وطوال تاريخ الفلسفة لم يطرأ على الزمان اللاعقلاني تغير ذو بال، يخرج به عما أسلفناه، حتى كان القرن العشرون بمتغيراته الجمة، يعنينا منها - على وجه الخصوص - تعملق العقلانية في صورة العلم الذي انتصب ماردا جبارا؛ ليحتل قصب السبق ويسم العصر بميسمه، فكان تحديا جديدا وخطيرا. يلزم الزمان اللاعقلاني بإعادة ترتيب أوراقه، وبعث حياة جديدة، تجعله أكثر إنسانية من الأبدية المتعالية. ويتصل هذا بما أسلفناه من تبلور حديث، مميز وناصع للاعقلانية، في صورة النزعة الرومانتيكية في القرن التاسع عشر. وكما أسلفنا أيضا، تعد الفلسفتان البيرجسونية والوجودية أقوى امتداد للرومانتيكية في الفلسفة المعاصرة. •••
أما عن البيرجسونية، فإن الفيلسوف الفرنسي هنري بيرجسون
H. Bergson (1859-1941) يقف بمعية مارتن هيدجر على رأس الفلاسفة المعاصرين الذين جعلوا الزمان محورا لفلسفتهم، ولكن هيدجر - كما سبق أن رأينا - اعتنى بالمعنى السلبي للزمان بوصفه قوة هدامة تنذر الإنسان بالموت والتناهي والعدم. أما بيرجسون فعلى العكس من ذلك اكتشف في الديمومة المعنى الإيجابي للزمان، ورأى فيها مصدر الوجود الحقيقي. والديمومة
durée
هي المصطلح البيرجسوني لما أسميناه بالزمان اللاعقلاني، لكن الخاص بالنفس الإنسانية وليس المتعالي كالأبدية.
ويفصل بيرجسون فصلا حادا بين الديمومة وبين الزمان العقلاني، معتبرا إياها الزمان الحقيقي الذي يدرك بواسطة الحدس - الخبرة الداخلية الحية - وهي الضد الصريح للزمان العقلاني الطبيعي الزائف الشائه الوهمي غير الحقيقي. يقول بيرجسون: «الديمومة هي الزمان الحقيقي، زمان الحياة النفسية الذي هو عين نسيجها.»
13
ولكنه الحقيقي لشعورنا ذاكرة تجلب الماضي بقوة في قلب الحاضر؛ أي إنها امتداد للحاضر، ديمومة فعالة لا رجعة فيها، «تيار لا يمكن عكسه؛ فهي الأساس العميق لوجودنا كما نشعر جيدا بأنها لب الأشياء التي نحن على صلة بها.»
14
بداية، يتمسك بيرجسون بفلسفة للحياة، فلسفة الغريزة التي تعارض العقل، لكن تكمله بقدرة على استخدام الأدوات العضوية. العقل والغريزة يشبهان الحياتين النباتية والحيوانية، ليست إحداهما أهم ولا أسمى من الأخرى، هما ميلاد قدرتين. ولكن حاجة العقل إلى الغريزة، أكثر من حاجتها إليه، وهذه الفلسفة ترفض بالضرورة الزمان العقلاني المتحجر على هيئة مكان، وتستلزم مذهبا عضويا حيويا للزمان كان هو الديمومة، إنها زمان حيوي عضوي ضد الآلية وغير قابل للانقسام. الماضي والحاضر والمستقبل ليست أجزاء منقسمة أو آنات منفصلة، بل هي كل متكامل يتدفق الواحد منها في قلب الآخر. وهذا الزمان - أي الديمومة - يسمح بما تلغيه الآلية الميكانيكية العلمية، يسمح بالجديد الطارئ والخصب العارض. يقول بيرجسون: «كلما تعمقنا في فهم طبيعة الزمن، فهمنا أن الديمومة تدل على الاختراع وخلق الصورة والأعداد المستمر للجديد على وجه الإطلاق.»
15
لقد وضع بيرجسون هذه الفلسفة الحيوية لينقض بها الميكانيكة العلمية، ويثبت قصورها وبطلانها، وشن هجوما ساحقا ماحقا على العلم الحديث ليقلم أظافره ويتحرر من ترهاته؛ «لأنه لا يستطيع العمل إلا فيما يفترض أنه يقبل التكرار؛ أي في كل شيء يجرده فرضا من تأثير الديمومة. ويأتي دور الفلسفة في أن تقهر الذهن في الاتجاه المضاد؛ أي اتجاه الديمومة والتفرد.»
16
فالديمومة هي التفنيد الوحيد الممكن في نظر بيرجسون لتفسير العلم الميكانيكي للحياة.
يبذل بيرجسون قصارى جهده ليحول بين الحياة وبين غوائل الميكانيكية، فإن كان يأخذ بنظرية التطور الداروينية، فإنه لا يرضى عن اعتبارها ميكانيكية.
وكانت وسيلته لهذه الحيلولة هي الديمومة التي تعني إيجابية الزمن واقترانه بالخلق والإبداع. هذا في مقابل الميكانيكية العلمية التي تعني خواء الزمن - في نظر بيرجسون - وأنه بغير تأثير حقيقي ما دام ثمة برنامج حتمي سوف يتحقق بالضرورة، وتكشف عنه قوانين العلم، ربما يلعب الزمن دور العنصر المتغير المستقل في معادلات التفاضل التي نعبر بها عن قوانين المادة الجامدة غير العضوية، ولكن ليس هذا هو وضع قوانين الحياة؛ فالزمن بالنسبة للحياة ليس عنصرا مستقلا، بل هو نسيج الحياة.
ومن الطريف حقا أن بيرجسون يرفض أيضا نقيضة الميكانيكية؛ أي الغائية، من نفس هذا المنطلق؛ أي إن الزمن يصبح عبثا ما لم يكن هناك أمور غير متوقعة أو اختراع أو خلق في الكون. الغائية ترسم أيضا الطريق المحدد سلفا، لكن مع فارق وحيد هو أنها تضع الضوء الهادئ أمامنا، أما الميكانيكية فتضعه خلفنا. ومع هذا، لا يغفل بيرجسون فارقا هاما، هو أن الغائية تحتمل تعديلات أما الميكانيكية فلا تحتمل إلا القبول والرفض التامين، تبعا لتسلسل الظواهر العلى؛ لذلك فثمة عناصر مأخوذة من الغائية لتغذي فلسفة الحياة البيرجسونية، تتمثل في النظر إلى العالم العضوي كما لو كان كلا منسجما، والانسجام مأخوذ فقط من حيث المبدأ، فثمة تكيف وتميز وتفرد لكل نوع تنكره الغائية، بينما يؤكده بيرجسون، بواسطة الديمومة نسيج الحياة، وبالتالي نسيج الواقع.
وبطبيعة الحال، جرى بيرجسون على النهج اللاعقلاني في الفصل الحاد بين الزمان والمكان، عارض بشدة زمان الفيزياء المشتت في المكان والقابل للانقسام والقياس بواسطة مواضع مكانية كحركة الأجرام، وهاجم ما أسماه بالأثر المدمر للفيزياء، والمتمثل في المعالجة الكانطية الواحدة للزمان والمكان معا. إن الديمومة - أو الزمان البيرجسوني - واللاعقلاني عموما، ليس تصورا من التصورات العلمية المنطقية كالمكان، وكل دراسة له من هذه الناحية تشويه تام لطبيعته «الطابع العضوي الجوهري للزمان هو الذي يميزه تمام التمييز عن المكان المتحجر الخالي من الاتجاه، الذي تصلح إليه نقطة فيه أن تقوم مقام أية نقطة أخرى، مما نعبر عنه بقولنا إن المكان تجانس مطلق، إنه تصور أي فكرة منطقية متحجرة، تثبتها اللغة في قالب لا ينمو ولا يتطور.»
17
المكان المتحجر الذي يقوم بتقطيع الواقع الحي غير القابل للانقسام، يشبه تماما ذلك الزمن الذي ينسبه العلم إلى أشياء مادية، الزمان العقلاني العلمي تماما، كالمكان: تجانس مطلق، تصور منطقي متحجر، قالب ثابت لا يتطور ولا ينمو، آلي عديم الحياة.
أما الزمان الحقيقي - الديمومة - التي هي تيار الوعي اللامكاني، فإنها تعارض تماما هذا الزمان الثابت المتجانس. إنها تماثل عملا داخليا للنضج والخلق، فتدوم حسب جوهرها، وتفرض معدلها في السرعة على الحركة الأولى؛ أي: حركة الزمان الطبيعي العلمي.
هكذا، بعد كل هذا الصول والجول والهيل، نعود من حيث بدأنا، من محور الاتجاه اللاعقلاني القائل إن الزمان الطبيعي الخارجي الموضوعي زائف، والزمان النفسي الداخلي الذاتي هو الحقيقة، وزاد بيرجسون بأن جعله نسيج الوعي ونسيج الحياة ونسيج الواقع. •••
وتبقى الفلسفة الوجودية، التي تميزت بأنها «تفسر مشكلة الزمان على أنها مشكلة المصير الإنساني.»
18
وفلاسفة الوجودية كثيرون، معظمهم عني بإشكالية الزمان عناية بالغة، وطرح رؤاه بشأنها من ذلك المنظور.
ومن أخصب هذه الرؤى، وأشدها وجودية أو تعبيرا عن فعالية الفلسفة الوجودية، إنما هي رؤية اللاهوتي الوجودي والفيلسوف البروتستانتي الكبير باول تيليش
(1886-1965)، وهو ألماني، ولكن مع الغزو النازي هاجر عام 1933م إلى أمريكا، واستقر بها ليكون أكثر الوجوديين جميعا انتشارا وتأثيرا في العالم المتحدث بالإنجليزية.
19
وتقوم مجمل فلسفة تيليش بجوانبها العديدة، على أن العقيدة الدينية عموما، والمسيحية البروتستانتية خصوصا، هي فقط التي تستطيع تقديم الحلول المثلى والناجحة للمشاكل الوجودية المتأزمة التي يثيرها الموقف الفردي للإنسان، وعلى الأخص في المرحلة الحضارية المعاصرة. ومن هذا المنطلق تأتي رؤيته لإشكالية الزمان ، وهي من أكثر الرؤى الوجودية اتساقا مع مسار بحثنا هذا وتحقيقا لهدفه، بتوضيح التقابل بين الزمانين العقلاني واللاعقلاني.
يؤكد تيليش من جانبه على الطابع اللاعقلاني للزمان، والذي يجعله مستغلقا في وجه العقل التصوري، فيقول إن أعظم العقول لن تستطيع استكناه سوى جانب واحد من الزمان، بينما أبسط العقول تعي سره، وأنه مؤقت زائل. العقل البسيط قد لا يستطيع التعبير عن معرفته بالزمان، ولكنه لا ينفصل أبدا عن سره الذي يتخلل كل لحظة من كل حياة؛ فالزمان قدرنا وأملنا ويأسنا، وهو المرآة التي نرى فيها الأبدية، لقد أدرك الإنسان دائما أن ثمة شيئا ما مخيفا في سيلولة الزمان، لغزا لا نستطيع أبدا حله، فكما أشار أوغسطين - وهو من رواد الطريق الذي يسير فيه تيليش - نحن آتون من ماض لم يعد، وصائرون إلى مستقبل لم يكن بعد، وليس لنا إلا حاضر زائل دائما لا نستطيع الإمساك به أو الإبقاء عليه؛ لذلك فلسنا نملك بشأن الزمان أي شيء حقيقي. إنه يبدو كما لو كان خاصة حلمية
dreaming character
لوجودنا. ولا يبدو أمامنا ملاذ إلا بالالتجاء إلى الأبدية الكائنة أبدا، الباقية الدائمة، إنها الآن الأبدي، الآن الحقيقي، ومن يستمع للمسيح سوف يلقاها طوع بنانه،
20
على الإجمال، الملاذ من أحبولة الزمان - كما من كل أحبولة - إنما بالالتجاء إلى التجربة الدينية.
وفي فصل بعنوان «نحن نحيا في نظامين
We Live In Tow Orders »،
21
ينص تيليش على أن الوجود ينشطر إلى عالمين مختلفين تماما، ونحن نحيا في كليهما معا، هما عالما الزمان والأبدية. وهذا مطروح في كل الأديان، لكن تيليش يرى المسيحية تتميز بأنها تجعل الأبدية تكشف عن نفسها في قلب الزمان والتاريخ، وذلك حين ظهر المسيح على الأرض. وهدف المسيحية دائما تحقيق الوجود الجديد، ولا جديد تحت الشمس، الجديد فقط حين تنبثق الأبدية في قلب الزمان، ولكن كيف يحقق الإنسان هذا الانبثاق؟
قبل الإجابة على هذا، نلاحظ أن تيليش حريص على ألا يقع في الخلط بين الزمان والأبدية، أو بين اللامتناهي الكمي واللامتناهي الكيفي؛ فيؤكد أن الرسالة المسيحية - أو الدينية عموما - لا تضع الحياة الأخرى كمجرد امتداد للحياة الدنيوية، كما يتصور السذج. الأبدية الدينية تتعالى على الماضي، والمستقبل، ومجمل الزمان. الرب يقول: أنا المبتدأ وأنا المنتهى
I am the Alpha and the Omega
وليس هناك زمان يتلو زمانا، بل أبدية تعلو على الزمان. ويشير تيليش إلى صعوبة أن نفهم هذا؛ لأننا قد نفكر في الزمن الآتي حين لا نعود كائنين، وقد لا يقلقنا زمن ماض لم نكن فيه كائنين. ولكن الإنجيل الرابع لا يسير عبر هذه الخطوط، فحين يتحدث عن أبدية يسوع، لا يشير فقط إلى عودته للأبدية، بل وأيضا إلى مجيئه منها: «الحق ... الحق ... أقول لكم، من قبل إبراهيم أكون أنا.» و«قبل» هنا لا تعني الماضي التاريخي، وكأنه علينا أن نضيف إلى عمره بضع مئات من السنين، كلا! فهو لم يقل «كنت» قبل إبراهيم، بل «أكون» قبل إبراهيم.
22
هذه الأبدية المتعالية هي الحد النهائي لسيلولة الزمان، وانفلاته من بين فروج الأصابع إلى حيث لا ندري، الماضي ... الحاضر ... المستقبل ... كل منها له سره الخاص به، ويحمل قلقه الخاص به، ويثير تساؤله الخاص به، والأبدية هي الإجابة الوحيدة على التساؤلات الثلاث. وتعلو النبرة الوجودية، حين يؤكد تيليش أنه عن طريق الأبدية وإجاباتها، تستطيع التجربة الدينية الحيلولة بين الفرد وبين أن يضيع في الحشد في الجماهير، أو يكون مجرد رأس في القطيع - بتعبير نيتشه الفظ - فالأبدية تجعله يعلو على عصره، وعلى زمانه، محققا ذاته المتفردة ووجوده الأصيل. هذا ملخص ما يقوله تيليش في فصل بعنوان
Do not be conformed .
23
ولنلاحظ أن حتمية الموت وهو الممكن الوحيد اليقيني؛ أي كون الإنسان متناهيا محاقا بالعدم ... هذه المقولة أمعن فيها تيار الوجودية الملحدة المنشق ليخرج منها إلى عبثية الحياة والإلحاد. ولكن تيليش يواصل المسار الشرعي للوجودية كما بدأت مؤمنة مع أبيها سرن كيركجور، وكما ترعرعت وأينعت في اللاهوت البروتستانتي طوال القرن التاسع عشر. ومن منطلق الوجودية الدينية واللاهوت الوجودي، يمعن تيليش في نفس المقولة؛ ليستغلها في تفجير قوة الإيمان، وإثبات ضرورة الالتجاء إلى الألوهية، معتمدا على استقطاب وجودي لإشكالية الزمان في حدود المستقبل. يقول تيليش : إننا نتحدث عن الزمان بثلاث طرق أو ثلاثة أنماط: الماضي، والحاضر، والمستقبل. وأي طفل على وعي بها. ولكن لا يوجد أبدا أي إنسان - مهما أوتي الحكمة - يستطيع النفاذ إلى سرها. ونحن نصبح على وعي بها حينما نسمع صوتا يخبرنا: إنك أيضا سوف تصل إلى النهاية! إذن فالمستقبل هو الذي ينبهنا إلى سر الزمان؛ مما يجعل وعينا به يسير في الاتجاه المعكوس، يبدأ بالتوقع القلق للنهاية، فنرى الماضي والحاضر في ضوء المستقبل.
24
وتصور المستقبل يثير إحساسات متناقضة، فمن المبهج أن يتصور المرء المستقبل وقد تحققت فيه إمكانياته؛ ليشعر بوفرة وثراء الحياة، وبقدرته على خلق الجديد. إن المستقبل يحمل شجاعة الإقدام نحو الجديد، خصوصا في المرحلة المبكرة من الحياة، بيد أن هذا الشعور المبهج يصارعه شعور مضاد هو: من ناحية الخوف مما قد يخبئه المستقبل، وما يحيط به من غموض المجهول، ومن ناحية أخرى قصر الدوام الذي يتزايد مع كل عام يمضي من الحياة، فيجعلنا أقرب من النهاية المحتومة. وأخيرا نلقى النهاية ذاتها، بحتميتها وبكل ما يكتنفها من ظلام دامس، لا سبيل البتة إلى اختراقه، هذا بالإضافة إلى تهديد قائم بأن وجود المرء جملة وتفصيلا، قد يحكم عليه المستقبل بالفشل. والآن كيف يتصرف المرء إزاء المستقبل، بما يحويه من أمل وتهديد ونهاية لا فرار منها؟ البعض يحل هذه الإشكالية بتصويب النظر إلى المستقبل الفوري، والعمل على تحقيق إمكانياته وآماله، ويصرف النظر عن المستقبل الأبعد، اللحظة الأخيرة من مستقبل الإنسان أو وجوده، ربما كنا لا نستطيع أن نحيا بغير العمل على تحقيق إمكانيات المستقبل القريب، ولكن إذا فعل هذا دائما وفقط، فلن يستطيع أن يموت، فهل سيستطيع أن يحيا؟
25
إن تيليش يرمي إلى إيضاح أن الدين حين يعدنا بحياة مستمرة بعد الموت، فإنه يحمل قوة قهر المشاعر السلبية المحاقة بالزمان في المستقبل والنهاية المحتومة، وهي قوة لا تمس المشاعر الإيجابية، فضلا عن قوة الأبدية الكائنة فوق هذا وذاك. بعبارة موجزة، يعطينا تيليش في الفقرة السابقة صياغة فلسفية للمبدأ الإسلامي: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.» لكنها أبعد ما تكون عن صيغة الأمر الإلزامي، فهي صياغة وجودية؛ أي تستلزم التوتر الكيفي، وبالتالي الزمان اللاعقلاني في أكثر صوره حداثة؛ أي أكثر صوره إنسانية.
الفصل السادس
الزمان العقلاني
لم يكن أرسطو فيلسوفا ومؤسسا للميتافيزيقا فحسب، بل كان أيضا - وبنفس الدرجة - عالما فيزيقيا طبيعيا تجريبيا، ولأقصى حد تسمح به ثقافته التي دأبت على تمجيد النظر وتحقير العمل. وكانت عنايته بالشواهد والعينات التجريبية - حتى أوصى قواد تلميذه الإسكندر أن يجلبوها معهم من البلدان التي يفتحونها، كيما تكتمل بحوثه في النبات والأحياء - إرهاصا بأصوليات منهج العلم التجريبي.
هذه النزعة العلمية التجريبية جعلت زمان أرسطو هو الزمان العقلاني الموضوعي الكوزمولوجي الفلكي، فصحيح أنه قال: بغير النفس الإنسانية لن يكون هناك زمان، بل حركة غير محدودة وغير معدودة، وقال أيضا إن الوعي بالزمان لن يتم بغير تغير الحالات النفسية، ولكن يمكن اعتبار هذا شبيها بما يسمى بالمثالية العلمية المعاصرة، والتي تخلقت بين نفر من العلماء، حين أصبح العلم الذري المعاصر يرسم صورة للكون مخالفة تماما لصورته في الحس المشترك. فالواقع أن أرسطو ألغى الزمان اللاعقلاني إلغاء تاما من فلسفته، وتمادى في التصور العقلاني له حتى جعل الأبدية مجرد الامتداد اللانهائي له، رافضا رأي أفلاطون الحصيف في الفصل بينهما؛ أي وقع في الخلط بين اللامتناهي الكمي واللامتناهي الكيفي. وكما أوضحنا لم يكن لهذه المشكلة حل قبل تطور الرياضيات البحتة، وظهور حساب اللامتناهي.
والواقع أن الخلاف بين أفلاطون وأرسطو حول الأبدية، يعود لرفض أرسطو لفكرة العالم المخلوق، أو العالم الذي شكله الصانع الأفلاطوني. وكما أشرنا، رأى أفلاطون أن الزمان مخلوق مع العالم، ولكنه لم ينشغل البتة بتوقيت عملية الخلق المفترضة؛ لأنها ليست حدثا من النوع الذي يمكن الاستدلال على تاريخه مما يبدو من آثاره اللاحقة. وإذا كان لا بد وأن نؤرخها فلنقل إنها منذ تسعة آلاف عام مضت، فهذا في تقدير أفلاطون الفترة التي انقضت على ما ترويه الأقاصيص المتواترة عن القدماء بشأن الصراع الذي حدث بين الأثينيين وبين رجال أطلنطيس. ومع هذا، نجد أفلاطون في مواضع عديدة يستبعد تماما السؤال عن تاريخ الخلق، بوصفه سؤالا أبله بغير معنى، أما أرسطو فقد رفض بدء الزمان وبدء العالم، من حيث رفض فكرة الخلق. بتعبير الإسلاميين قال إن العالم قديم غير حادث والزمان قديم غير حادث، وأكد أن النظام الطبيعي أبدي ثابت، وليس له أية بداية زمنية في الماضي، ولا نهاية متوقعة في المستقبل، ولم ينظر أبدا إلى السؤال: متى بدأ العالم؟ بل، كيف؟ ولماذا انتظم على هذا النحو؟ وأكد أن أية فكرة عن بداية كل الأشياء لن تساعدنا، بل ولا يوجد ما يدعو لافتراضها أصلا. وبذلك انتهى أرسطو إلى أن الزمان بلا بداية ولا نهاية، لا متناه، وأيضا غير متسق مع فكرة لحظة الخلق، وأن هذه النتيجة الميتافيزيقية المنطقية تدعمها الملاحظة التجريبية، فنحن لا نلاحظ أية واقعة توحي بأن نظام الطبيعة ليس أبديا. وأخذ أرسطو على أفلاطون أنه جلب الزمان مع الخلق نفسه إلى الوجود في لحظة معينة؛ لذا لا بد وأن نسأل: ماذا كان قبلها؟ واعتمد أرسطو على حرفية نصوص في محاورة طيماوس ليخرج بأن الوجود عند أفلاطون حدث في آن معين من آنات الزمان، رأينا أفلاطون يعجز عن تحديده بدقة، أو يتراجع عن هذا، وينتهي أرسطو إلى أن نظرة أفلاطون غير متسقة مع نفسها، ولكن تلاميذ أفلاطون رفضوا هذا التأويل الأرسطي، وذهبوا إلى أن عملية الخلق نوع من البناء العقلي، يفسر أسس النظام لا نقطة بدئه.
1
وعلى أية حال، فإن العالم الأرسطي قديم خالد أزلي أبدي؛ ليغدو الزمان بدوره هكذا، «وكذلك الحركة الدائرية الموجودة فيه. وعلى أساس من أبدية الزمان والحركة، يثبت أرسطو وجود المحرك الذي لا يتحرك.»
2
أي: وجود الألوهية الأرسطية.
إن أرسطو يربط بين الزمان والحركة، ولعله يوحد بينهما حين يجعله متجددا باستمرار وتبعا لاستمرار تجددها. فهو لا يتصور زمانا إلا زمان أحداث متحركة، وليس ثمة زمان فارغ كما أنه ليس ثمة مكان خلاء، وإن كان المكان محدودا، بينما الزمان لا متناهيا. ويستحيل أن نعرف الزمان إلا بواسطة الحركة ؛ أي: عندما يقطع جسم متحرك مجموعة من النقاط فنحكم بمرور فترة زمنية بين النقطة التي كان فيها في آن معين من الزمان، والنقطة التي أصبح فيها في آن آخر من الزمان، ولا بد وأن يكون بين الآنين فترة زمانية، أو على الأقل لا بد وأن يكونا آنين مختلفين؛ لأن الجسم يستحيل أن يتواجد في نقطتين مكانيتين في آن واحد.
وعلى هذا يقدم أرسطو في السماع الطبيعي تعريفا للزمان هو: «مقدار الحركة من جهة المتقدم والمتأخر.» وهو يشبه كثيرا التعريف الذي قال به أرخوطاس الترنتي الفيثاغوري المعاصر لأفلاطون: «الزمان مقدار لحركة معلومة، وهو أيضا المدة الخاصة بطبيعة الكون.»
3
ويقوم هذا التعريف على أن كل حركة في الكون لها علة أولى أو محرك أول، قال عنه أرسطو أنه غير متحرك.
على هذا النحو، أرسى أرسطو أولى أسس الزمان العقلاني بالربط بينه وبين الحركة الخارجية، ولكن ظهرت مشكلة، وهي أن ثمة أنواع كثيرة من الحركة، منها على أبسط الفروض الحركة البطيئة والحركة السريعة، بينما الزمان واحد ثابت مشترك بين جميع أنواع الحركات، وهو الذي يميز بينها ويحدد السريعة منها والبطيئة، إن «الزمان منتظم ولا راتب؛ لذا تقاس به الحركة التي هي ليست بمنتظمة ولا راتبة.»
4
فكيف يرد المنتظم إلى غير المنتظم؟ في الرد على هذا يمكن اتخاذ نوع معين من الحركة معيارا ومقياسا دالا على الزمان. فيقول أرسطو في السماع الطبيعي: «يبدو أن الزمان حركة الفلك، والواقع أن بقية الحركات تقاس بهذه الحركة نفسها، والزمان هو الآخر مقتبس بها.»
5
ولكن الرواقيين وأفلوطين لاحظوا ما هو واضح الآن؛ أي: إن أرسطو وقع في دوران منطقي حين رأى أن الحركة هي مقياس الزمان، والزمان هو مقدار الحركة!
على أية حال، تظل ماهية الزمان عند أرسطو تتجدد باستمرار، تبعا لاستمرار الحركة. فالزمان متصل بواسطة الآن، ويقسم بحسبه بالقوة؛ أي إن الآن يصل الماضي بالمستقبل. فإذا قسمنا الزمان، فإن الآن بداية جزء ونهاية جزء، أو - بتعبير ابن رشد - الآن ما ليس يمكن أن يوجد لا مع الزمان الماضي ولا مع المستقبل، فهو ضرورة بعد الماضي وقبل المستقبل،
6
إن أرسطو يتوقف عند «الآن» - الحاضر اللحظي - ليعتبره وحدة الزمان. وهو كما رأيناه «الزمان الطبيعي، زمان الساعات المكون من آنات متوالية، كل آن منها يكون حاضرا، والزمان تبعا لهذا مكون من حاضرات متوالية.»
7 •••
وكما هو معروف، هيمن أرسطو على الفكر البشري حتى مطالع العصر الحديث؛ لذا نراه حدد خطى الزمان العقلاني الخارجي طوال تاريخ الفلسفة القديمة والوسيطة. وكل الباحثين فيه - أو عنه - سلموا تسليما بما قاله أرسطو، واقتصر دورهم على الشرح والتعليق والمناقشة، وبالكثير على النقد والتعديل الجزئي.
ولكن العصور الوسطى كانت دينية، ارتهنت حدودها بظهور ونصرة الأديان السماوية؛ لذلك نجد المشكلة الهامة الوحيدة التي واجهت ذوي النزعة العقلانية والعلمية فيها بشأن الزمان الأرسطي إنما هي لا نهائيته، اعتمادا على أن العالم غير مخلوق ولا حادث. فالبنية الثقافية للعصر، المصبوغة بالأديان السماوية، تقوم على التسليم بأن الكون مخلوق لله وحادث، ونفي اللانهائية عن الزمان وتأكيد حدوثة مع العالم - كما فعل أفلاطون وأوغسطين - توطيد لمسلمة خلق العالم وحدوثه. فقالوا في أبطال اللانهاية في الحدوث أقوالا كثيرة، أوجزها: «وكما لا يجوز حدوث حادث قبل حادث لا إلى أول وإن تغير وتقضى، فكذلك لا يجوز أن يعتقد معتقد وجود ما لا يتناهى في بعض الحالات؛ لأن كل ما يدخل في الوجود لا بد من كونه متناهيا منحصرا.»
8
وقد عالجنا هذه المشكلة في «متاهات إشكالية الزمان» حين توقفنا عند المتاهة التي تتخلق عن السؤال: هل للزمان بداية؟ وأوضحنا كيف كان مجالا لسلسلة طويلة من الأخذ والرد، تقوم على خلط والتباس أزلناه في حينه. ويهمنا الآن تتبع أهم خطوة لمسار الزمان العقلاني في العصور الوسطى.
وقد كان شارح أرسطو الكبير ابن رشد أعظم حملة لواء العقلانية في ذلك العصر، وتكفل بحل تلك المشكلة، على أساس أن العالم مخلوق فعلا ولكن قديم. والزمان بدوره قديم لا متناه، ولكن لا نهائيته لا تمس نعل الخلق، بل تؤكده. يقول ابن رشد:
أكثر من يقول بحدوث العالم يقول بحدوث الزمان معه، بالتالي يكون للزمان بداية ونهاية؛ لأن ما لا ابتداء له لا ينقضي ولا ينتهي أيضا، ولكن يلزمهم أن يقال لهم: حدوث الزمان هل كان يمكن فيه أن يكون طرفه الذي هو مبدؤه أبعد من الآن الذي نحن فيه: أو ليس يمكن ذلك؟ فإن قالوا: ليس يمكن ذلك، فقد جعلوا مقدارا محدودا لا يقدر الصانع أكثر منه، وهذا شنيع ومستحيل عندهم.
وإن قالوا: إنه يمكن أن يكون طرفه أبعد من الآن، من الطرف المخلوق، قيل: وهل يمكن في ذلك الطرف الثاني أن يكون طرف أبعد منه؟
فإن قالوا: نعم، ولا بد لهم من ذلك، قيل فها هنا إمكان حدوث مقادير من الزمان لا نهاية لها، ويلزمكم أن يكون انقضاؤها على قولكم، في الدورات شرطا في حدوث المقدار الزماني الموجود منها.
وإن قلتم: إن ما لا نهاية له لا ينقضي، فما ألزمتم خصومكم في الدورات، ألزموكم في إمكان مقادير الأزمنة الحادثة.
فإن قيل: إن الفرق بينهما أن تلك الإمكانات غير المتناهية هي لمقادير لم تخرج إلى الفعل، وإمكان الدورات التي لا نهاية لها قد خرجت إلى العمل.
قيل: إمكانات الأشياء هي من الأمور اللازمة للأشياء سواء كانت متقدمة على الأشياء أو مع الأشياء، على ما يرى ذلك قوم.
فهي ضرورة بعدد الأشياء.
فإن كان يستحيل قبل وجود الدورة الحاضرة، وجود دورات لا نهاية لها، يستحيل وجود إمكانات دورات لا نهاية لها.
ألا آن لقائل أن يقول: إن الزمان محدود المقدار، أعني زمان العالم، فليس يمكن وجود زمان أكبر منه، ولا أصغر، كما يقول قوم في مقدار العالم؛ ولذلك أمثال هذه المقادير ليست برهانية، ولكن كان الأحفظ لمن يضع العالم محدثا أن يضع الزمان محدود المقدار، ولا يضع الإمكان متقدما على الممكن، وأن يضع العظم كذلك متناهيا، لكن العظم له كل، والزمان ليس له كل.
9
على هذا النحو العقلاني المحكم يثبت ابن رشد ما ارتآه أرسطو، من أن العالم قديم والزمان بدوره قديم، بلا بداية ولا نهاية لا متناه. ولكنه لا تناهي الكمية الرياضي، وليس لا تناهي الكيفية الأبدي، فهو الزمان العقلاني، زمان العالم الطبيعي الخارجي، وقد أحرز درجة من سيطرة العقل عليه، أو من التقدم، مع ابن رشد. •••
ولكن التقدم الجوهري، الجذري والحقيقي، في التناول العقلاني للزمان الطبيعي، إنما كان بحدوث التقدم الجوهري الجزري - إن لم نقل الميلاد الحقيقي - لتناول الطبيعة أصلا؛ أي بنشأة الفيزياء الحديثة، متصدرة مسيرة العلم الحديث الظافرة.
نحن الآن بصدد الزمان الفيزيائي، إشكالية الزمان الطبيعي في قلب نسق الطبيعة علم الفيزياء. إنه الزمان العقلاني - حسب اتفاقنا ومصطلحاتنا - في أبعد نقطة له عن الزمان اللاعقلاني، في أدق صوره مقاسة ومقيسة، قابلة للتقسيم الرياضي والتكميم الكرونومتري الذي يزداد دقة يوما بعد يوم حتى بلغ النانو ثانية والفمتو ثانية. إن الزمان الفيزيائي هو الزمان الطبيعي العقلاني في صورته العلمية؛ أي: أشد صورة يمتلكها العقل الإنساني دقة وإحكاما، وهو يفوق الأزمنة جميعا في ارتباطه بالمكان، فلا ينفصل البتة عنه.
ولما كان عالم الفيزياء مكونا من الزمان والمكان والمادة، كان ثمة تواز وتلازم ضروري بين الفيزياء والزمان. فتخلق الزمان الفيزيائي بتخلق الفيزياء، ونما وتطور بنموها وتطورها، واكتمل باكتمالها - بنظرية نيوتن - وتأزم بتأزمها، وانقلب انقلابا جوهريا حين انقلبت هي انقلابا جوهريا بظهور النظرية النسبية، فقد مرت الفيزياء بمرحلتين؛ الأولى: هي المرحلة الكلاسيكية: وكانت نظرية نيوتن هي النظرية الفيزيائية العامة، والثانية: في القرن العشرين، حين أصبحت نظرية آينشتاين هي النظرية الفيزيائية العامة. وتبع هذا أن الزمان الفيزيائي بدوره قد مر بمرحلتين أو بتصورين؛ هما: الزمان المطلق مع نيوتن، والزمان النسبي مع آينشتاين. والفارق المحوري بينهما أن التصور المطلق يرد المادة إلى الزمان والمكان، بمعنى آخر يدرك المادة أو يتصورها من خلال مفهومي الزمان والمكان، أما التصور النسبي فيفعل العكس؛ أي يدرك ويتصور الزمان والمكان من خلال المادة؛ لذلك فالتصور المطلق يجعل الزمان سابقا على الخبرة، أما التصور النسبي فيجعله مشتقا منها. وفي النسبية الخاصة أثبت آينشتاين استحالة تصور الزمان المطلق، وفي النسبية العامة تعتمد بنية المتصل الزماني-المكاني على توزيع المادة في الكون ، ولكن يمكن تصور انحناء هذا المتصل في حالة الغياب الكامل للمادة. والتصور النسبي بصفة مبدئية، يعتمد على أن الزمان والمكان لا يتضمنان داخلهما أية مقاييس داخلية، ولا بد من عنصر اصطلاحي.
على أية حال، يلزم الوقوف على الزمان الفيزيائي، منذ أن بدأ يتخلق بتخلق الفيزياء الحديثة. وقد ارتهن ميلاد علم الفيزياء، وبالتالي نسق العلم الحديث بأسره - وبسائر فروعه حتى النفس والاجتماع وما تلاهما - ارتهن هذا بالخروج عن الفرض البطلمي الذي أكدته فلسفات العصور الوسطى الدينية، القائل أن الأرض هي مركز الكون، والأجرام الأخرى تدور حولها. ففي عام 1507 جاء الفلكي البولندي نيقولا كوبرنيقوس
N. Copernicus (1473-1543) ليقول إن بطليموس ربما كان على خطأ؛ لأن نظامه يفشل في تفسير ظواهر عديدة، وإن فرض مركزية الشمس الذي سبق أن قال به أرسطارخوس الساموسي (310-230ق.م)، أبسط وأنجح، وإذا أضفنا إليه فرضية أن الأرض تتحرك، فسوف نكون أقدر على تفسير الظواهر الفلكية. إنها الثورة الكوبرنيقية التي وضعت الشمس في مركز الكون - بدلا من الأرض - فأحرزت الخطوة الأولى في طريق العلم الحديث الصاعد الواعد.
ثم كانت خطوة حاسمة مع يوهانس كبلر
J. Kepler (1571-1630) فقد وضع قوانين حركة الأجرام السماوية، وهي مداراتها الأهليلجية أو البيضاوية وليست الدائرية كما كانت البشرية تتصور طوال تاريخها، ووضع حسابات فلكية دقيقة لأزمنة الكواكب المختلفة، وتوجت جهوده بثلاثة قوانين مشهورة أودعها كتابه «الفلك الجديد»؛ وهي: (1)
الأرض والكواكب كلها تدور حول الشمس في مدارات أهليلجية، تقع الشمس في إحدى بؤرتيها. (2)
في ذلك الأهليلج تزيد مساحة القطع الذي يرسمه الخط الواصل بين الشمس والكواكب زيادة متناسبة تناسبا طرديا مع الزمن. فالخط الذي يربط بين الشمس وأي كوكب يقطع في زمن معين المساحة الخاصة بالكوكب متناسبة مع الزمن ومستقلة عن موضع الكوكب في مداره. (3)
بالنسبة لأي كوكبين، مربعا زمانهما الدوري، يتناسبان مع بعضهما بنفس النسبة بين مكعب متوسط المسافة بينهما وبين الشمس؛ أي إن نسبة مكعب نصف المحور الطولي للمدار إلى مربع زمن الدوران واحدة لجميع الكواكب.
10
ثم كانت الخطوة التالية مع جاليليو (1564-1642) الذي مد نطاق القوانين الفيزيائية من فلك السماوات إلى الأرض، ووضع قوانين رياضية دقيقة تحكم الحركة على سطحها، أهمها قانون الأجسام الساقطة، الذي ينص على أن الجسم يسقط بسرعة تتزايد بانقضاء الزمن منذ أن بدأ يسقط، وهذا يعني أن الأجسام تسقط بعجلة
acceleration
ثابتة. فالسرعة تساوي العجلة مضروبة في الزمن (س = ع ن)، وسرعة الأجسام التي تقذف إلى أعلى عموديا تتناقص تبعا لنفس القانون.
هكذا انتصف القرن السابع عشر وقد أحرز علم الطبيعة شوطا طويلا ورائعا، بوضع قوانين للحركة الفلكية وقوانين للحركة الأرضية، لكنهما ظلا منفصلين. ونلاحظ أن رواد العلم حتى الآن، في قوانين الحركة الفلكية والأرضية على السواء، يستعملون مفهوم الزمان كما هو، ولم يعن أحد بتحديده، أو توضيح غموضه.
جاء إسحاق نيوتن (1642-1727) بطل أبطال الفيزياء والعلم الحديث طرا، ونشر في لندن عام 1687 كتابه العظيم «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية»، وفيه يضع فرض الجاذبية العام الذي يجمع بين النظامين الفلكي والأرضي في نسق واحد شامل للعلم بالطبيعة، ووضع قوانينه الثلاثة التي تحكم كل وأية حركة في هذا الكون؛ وهي: (1)
كل جسم يظل على حاله سكونا أو حركة مطردة في خط مستقيم ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي، وهذا هو قانون «القصور الذاتي». (2)
كل جسمين يتجاذبان طرديا مع مجموع كتلتيهما، وعكسيا مع مربع المسافة بينهما. (3)
لكل فعل رد فعل، مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.
11
وقد انتبه نيوتن العملاق إلى أن الجسم الذي يتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم من سطح الأرض، يصف مسارا شديد التعقيد وبسرعات مختلفة، وكذلك الأمر إذا أخذنا الشمس في الاعتبار، فمن العبث إذن وضع مبدأ القصور الذاتي في صورته المطروحة، ما لم نحدد معيارنا لاستقامة الحركة، ومعيارنا لاطرادها؛ أي اطراد سرعتها أو تساوي فتراتها الزمانية. «وقد واجه نيوتن هذه الصعوبة عن طريق التسليم بكيانين واتخاذهما مصادرة؛ هما: المكان المطلق، والزمان المطلق.»
12
وهو يقابل بينهما وبين المكان النسبي والزمان النسبي؛ أي المرتبط بأشياء معينة ويحسب بحركتها. وهذا الزمان النسبي يمثل المحك التجريبي المستعمل فعلا في الحياة اليومية، بل وفي إجراءات البحث العلمي، ولكن نيوتن رآه زمانا ظاهريا متغيرا، لا يصلح أساسا ثابتا للنظرية الفيزيائية، فصاغ قانون القصور الذاتي في حدود الحركات التي تصف مسافات متساوية على طول خط مستقيم في المكان المطلق، خلال فترات متساوية في الزمان المطلق.
والزمان المطلق، كما عرفه نيوتن، زمان هو في ذاته ينساب باطراد، في اتجاه واحد إلى الأمام، أو من الماضي إلى المستقبل، وبغير أي اعتبار لأي عامل خارجي، ويتدفق
Flow
بصورة ثابتة متكافئة، مستقلا عن الأحداث المتزامنة فيه، وعن إدراك الحواس أو أية ذات عارفة له. ويناظره المكان المطلق، وهو مكان في طبيعته الذاتية وبغير اعتبار لأي عامل خارجي موجود وجودا موضوعيا مستقلا عن أي ذات عارفة، ويظل دائما متماثلا، وغير قابل للحركة أو التغير،
13
ويمثل الزمان المطلق - مع المكان المطلق - أساسا نظريا صلبا صلدا وثابتا للعلم الفيزيائي، فهما تصوران معياريان، غير مشتقين من الخبرة بل سابقين على كل تجربة، ويشكلان مقياسا ثابتا ومحكا نهائيا، وترتيب الأحداث تبعا للزمان المطلق، إلى سابق ولاحق ومتآن، يغدو ترتيبا مطلقا ثابتا لا يتغير، مهما كانت المسافة بين الأحداث أو موقع رصدها وملاحظتها أو السرعة الحركية ... إلخ.
لقد اكتملت في كتاب نيوتن المذكور الصورة العامة لهذا الكون، بفضل الزمان والمكان المطلقين كخلفية مطلقة تتحرك فيها كل كتل المادة أو الأجسام، بنوعين من الحركة: مطلقة ونسبية، الحركة المطلقة هي انتقال الجسم من موضع إلى آخر في المكان المطلق، أما النسبية فهي تغير موضع جسم ما بالنسبة لجسم آخر، ويقابلها السكون الطلق والسكون النسبي؛ أي بقاء الجسم في موضعه من المكان المطلق، أو في موضعه بالنسبة لجسم آخر، وانتظمت الكتل والأجسام في كل متكامل؛ ليتشكل هذا الكون على هيئة آلة ميكانيكية ضخمة تحكمها الحتمية
Determinism
الصارمة. والحتمية تعني نظاما شاملا ثابتا لا تخلف فيه ولا مصادفة ولا استثناء، كل حدث لا بد وأن يحدث بالضرورة ويستحيل ألا يحدث أو أن يحدث سواه، فثمة قوانين ميكانيكية دقيقة - دقة رياضية - تحكم هذا الكون، وتجعل أحداثه في صورة أشبه بالسلسلة المحكمة الحلقات، كل حلقة تلزم عن سابقتها وتفضي إلى لاحقتها، حتى إذا توصلنا إلى تلك القوانين وعرفنا تفاصيل حالة الكون في لحظة معينة، لاستطعنا أن نتنبأ يقينا بتفاصيل حالته في أية لحظة لاحقة. وهذه الحتمية لها وجه آخر، هو العلية
Causality ، التي تضفي على الطبيعة انتظامها الحتمي.
والعلية بدورها مبدأ كوني يعني أن كل حادثة في الكون لها علة أحدثتها، ولكل علة معلول ينشأ عنها، فأحداث هذا الكون تسير في تسلسل علي، ليغدو التفسير العلمي هو ربط الحادث السابق بالحادث اللاحق من خلال قانون. وها هنا نلاحظ أهم ما في العلية، وهو أنها ترتبط ارتباطا وثيقا باتجاه الزمان
Time’s arrow ، فالعلة لا بد وأن تسبق المعلول زمانيا. «والحادثة الواقعة في الماضي لا تكون علة إلا لحادثة واقعة في مطلق المستقبل، والحادثة الواقعة في المستقبل لا تكون معلولا إلا لعلة واقعة في مطلق الماضي.»
14
الترتيب العلي يعكس الترتيب الزماني للكون، العلة والمعلول كلاهما أحداث، ومعيار التمييز بينهما هو التسلسل الزمني؛ وذلك لعدم قابلية الزمان والأحداث للرد أو الانعكاس كما سبق أن أوضحنا متمثلين بظواهر الديناميكا الحرارية. على هذا النحو، ترتبط العلاقة العلية بمفهوم الزمان المطلق؛ لتنحل - بوصفها أساس القانون الفيزيائي - إلى المادة متشيئة في صورة حادثين متتاليين في الزمان. هذه الحتمية العلية، بما تتضمنه من قوانين علمية عامة وضرورية وتنبؤ يقيني واطراد الطبيعة واستبعاد للمصادفة بتفسيرها تفسيرا ذاتيا؛ أي بإرجاعها إلى جهل الذات العارفة المؤقت ... هي فلسفة الميكانيكية الآلية التي سادت أيما سيادة، وتبوأت عرش التفكير العلمي في العصر الحديث ... فالفيزياء الكلاسيكية تطبقها بحذافيرها، وأيقن الجميع أن نيوتن قد اكتشف حقيقة هذا الكون، وهو أنه آلة ميكانيكية تحكمها الحتمية العلية.
وكما هو معروف، أحرزت نظرية نيوتن نجاحا باهرا، عقليا وتجريبيا، نظريا وعمليا ولدرجة لم يحلم بها العقل البشري أبدا. وبدا كل شيء تدركه الحواس وهو يقدم فروض الطاعة لها ويصدق على يقينها، واكتملت بفضلها أطر العلم الطبيعي، الذي يحدد بدوره - نظرا لعمومية الفيزياء وشموليتها وتربعها على قمة نسق العلوم الإخبارية - أطر نسق العلم ككل. وبفضل الأطر والمثاليات الميكانيكية الحتمية العلية التي أرساها نيوتن، توالت النشأة الناجحة لبقية فروع العلم الحيوية والإنسانية، وألقت النظرية النيوتونية ظلالا كثيفة على بنية وعقلية العصر الحديث.
ومع هذا فإن جذوة العقل لا تخمد أبدا، وتطلعه المشبوب للجدال والتساؤل الملح لا يشبع أبدا، فقد أثارت فكرة الزمان والمكان المطلقين نقاشا وسجالا لا ينتهي؛ لأنهما كيانان غاية في التجريد والغموض والألغاز، ولا يقعان في نطاق الخبرة الحسية التجريبية، ولا أحد يستطيع أن يلاحظها. لقد أمعن نيوتن في تجريد الأساس النظري لفيزيائه؛ مما جعل الزمان المطلق مستقلا عن كل شيء، ولا تربطه أية علاقة بأي شيء خارجي، في حين أنه لا يوجد في الكون أي شيء مستقل عن كل شيء. ونيوتن لا يوضح - على الإطلاق - العلاقة التي تربط بين الزمان المطلق وموضوعاته؛ لذا قيل إن زمانه لا هو مقنع نظريا ولا هو مفيد تجريبيا، وإنه مجرد إمكانية منطقية، تصور عقلي فقط يهدر جانب التجريب الذي يمثل صلب الفيزياء، ولا غنى للجانب النظري عنه. وبنبرة شديدة القسوة والاستخفاف، يقول الفيلسوف الإنجليزي المعاصر، ومؤرخ الفلسفة المبدع روبن جورج كولنجوود إن نيوتن يميز بين الزمان المطلق الذي يتدفق بنسب ثابتة مستقلة عن أي عامل خارجي وبين الزمان النسبي المقاس بواسطة حركته؛ وذلك بغير أن يسأل نفسه ما إذا كان الزمانان منفصلين في الواقع، وكيف يمكن أن يتدفق أي شيء ما لم يكن هذا التدفق مقاسا، كما ميز بين الحركة المطلقة والحركة النسبية وأيضا بطريقة غير نقدية، والأصوب الحركة النسبية والزمان النسبي، وليس المطلقين كما تصور نيوتن.
15
على أن لواء الريادة الفلسفية لرفض التصور النيوتوني المطلق للزمان، إنما يحمله بغير منازع الفيلسوف الألماني جوتفريد فيلهلم ليبنتز
G. W. Leibniz (1646-1716). وهو من أهل الفكر الذين يجسدون روح المعرفة في عصرهم بكل توثباتها وطموحاتها، فهو سياسي ومؤرخ وقانوني ودبلوماسي ولاهوتي، ثم هو فيلسوف ذو قدح معلى وفي الآن نفسه عالم ذو قدح معلى خصوصا في الرياضيات، والسجال ما زال دائرا حول المؤسس الحقيقي لحساب التفاصيل والتكامل، أهو نيوتن أم ليبنتز؟ وعلى أية حال، توصل كل منهما إليه بطريقة مختلفة. «وقد كان ليبنتز من هواة كتابة الرسائل، وتضيء قائمة مراسلاته أكثر من ستمائة اسم.»
16
وثمة سلسلة خطابات كتبها في سنينه الأخيرة إلى دكتور صمويل كلارك
S. Clarke
أقوى المدافعين اللاهوتيين عن نيوتن والنيوتونية، وقد كتبها ليبنتز محاولا فيها تفنيد نقاط أساسية معينة في فلسفة نيوتن للطبيعة، وأهمها طبيعة الزمان والمكان، فكان صاحب أقوى نقد فلسفي للتصور المطلق لهما، وصاحب أول صياغة فلسفية واضحة للنظرية البديلة؛ أي: النسبية. وعلى الرغم من أن مناقشات ليبنتز قد اكتست برداء لاهوتي، فإنها تصب في قلب فلسفة العلم توا. وقد انطلق رفضه للتصور المطلق للزمان والمكان من مبدأين هامين في فلسفته هما العلة الكافية وعدم التناقض.
17
يقول ليبنتز: «تقوم معرفتنا العقلية على مبدأين كبيرين؛ مبدأ عدم التناقض: وبفضله نحكم بالكذب على كل ما ينطوي على تناقض، وبالصدق على ما يضاد الكذب أو يناقضه. كما تقوم على مبدأ السبب الكافي: وبه نسلم بأنه لا يمكن التثبت من صدق واقعة أو وجودها، ولا التثبت من صحة عبارة بغير أن يكون ثمة سبب كاف يجعلها على هذا النحو دون غيره، وإن تعذر علينا في أغلب الأحوال أن نتوصل إلى معرفة هذه الأسباب.»
18
مبدأ عدم التناقض محك حقائق العقل، ومبدأ العلة الكافية محك حقائق الواقع، وبالتالي هو الذي سينفعنا بشأن إشكالية الزمان. ويرى ليبنتز أن الزمان والمكان سابقان منطقيا على المادة؛ لأنها يستحيل أن توجد بدونهما، ولكن نقاط المكان ولحظات الزمان لا يمكن إدراكها إلا بإدراك الأشياء والأحداث الواقعة في الزمان والمكان. وإذا كان الزمان مستقلا تماما عن الأحداث التي تحدث فيه كما يخبرنا التصور المطلق له، فسيبدو من المعقول تماما القول إن الكون خلق في لحظة سابقة أو لاحقة عن اللحظة التي خلق فيها فعلا،
19
وهذا ينقض مبدأ العلة الكافية، فيتوجب علينا رفض التصور المطلق بوصفه شيئا غير حقيقي، والأخذ بالتصور النسبي الذي يجعل الزمان علاقات بين الأشياء، مجرد نظام لتوالي الأحداث، أو بتعبير أكثر انطباقا على فلسفة ليبنتز: «الزمان ليس شيئا إلا نظام تتابع المخلوقات. وليبنتز بهذا كان يرسم تخطيطا معقولا إذا تم تنفيذه بنجاح يمكنه إعطاء إجابة مرضية جدا عن السؤال: ما هو الزمان؟ ولكنه تخطيط يرد نسق الزمان إلى بنية منطقية أنشأها نسق التاريخ.»
20
والذي يهمنا الآن أن صمويل كلارك دافع عن الزمان والمكان المطلقين بأنهما ليسا جوهرين، بل خاصيتين لله ولعالمه المخلوق، المكان المطلق يعنى سعة الله وأنه بلا أول ولا آخر، والزمان المطلق يعني أبدية الله، وأنه بلا بداية ولا نهاية!
21
إنه الخلط المزمن والمؤسف بين الزمان والأبدية، والذي كان قبل تطور الرياضيات.
وما دام الزمان المطلق قد التوى كل هذا الالتواء، واختلط إلى كل هذا الحد، فلا بد من اللياذ بالزمان النسبي مع آينشتاين الذي يندمج مع المكان ليصبحا كيانا واحدا هو المتصل الزماني-المكاني
Spatiol-temporal
الرباعي الأبعاد. أما في الفيزياء الكلاسيكية؛ فهما كيانان اثنان، صحيح مترابطان لكنهما متمايزان، حتى اختص المكان بالأشياء والزمان بالأحداث. فالزمان متصل ذو بعد واحد، خط مستقيم من الماضي إلى الحاضر، تتخذ كل أحداث الطبيعة موقعا فيه؛ لتنتظم بفضل العلية انتظاما موضوعيا مطلقا. وبالنسبة لجميع الراصدين إلى سابق ولاحق، سوف يختفي كل هذا في زمان النسبية، أو نسبية الزمان. •••
لقد جاءت نظرية النسبية لتحرز تقدما جوهريا، وتلبي ضرورة للتطور العلمي مع مطالع القرن العشرين، فقد تلاحقت أزمات النيوتونية، واتضح أن نجاحها الخفاق مقتصر على العالم الذي كان مدركا آنذاك أي الكتل الماردة. وحين توغل العلم في بنية المادة بدأت المصاعب أولا بدراسة ظواهر الديناميكا الحرارية وحركة جزيئات الغاز، والحركة الدائمة لجزيئات السوائل ... كلها كشفت عن ظواهر وعلاقات فيزيائية تتأبى على الأطر الميكانيكية النيوتونية. ثم وصل الأمر إلى ما يعرف بأزمة الفيزياء الكلاسيكية، حين اقتحم العلم عالم الذرة والإشعاع؛ ليلقى عالما: المصادفة فيه موضوعية، والاحتمال منطقه، ولا علاقة له البتة بالضرورة والعلية واليقين واطراد الطبيعة ... إلى آخر مثاليات الحتمية الميكانيكية. وفي 17 ديسمبر عام 1900 وضع ماكس بلانك نظرية الكوانتم؛ لتكون أساس الفيزياء الذرية كجزيرة منعزلة عن نظرية نيوتن التي لا تجرؤ على الاقتراب من العالم الذري «الميكروكوزم »، فتصدع عرشها، وتراجعت لتقتصر على قوانين الحركة في العالم الأكبر «الماكروكوزم»، وكان لا بد من نظرية فيزيائية عامة تضع قوانين الحركة في العالمين معا «الميكروكوزم» و«الماكروكوزم».
فكان أن حدثت كارثة الأثير، بتجربة ميكلسون/مورلي التي أثبتت أن الأثير لا وجود له البتة. والأثير هو وسط لا نهائي المرونة، افترضه العلماء ليملأ الفراغات فيفسروا بقية الظواهر - كالضوء والإشعاع - تفسيرا ميكانيكيا، فلما انهار الأثير انهارت الآلة الميكانيكية الضخمة؛ أي: التصور الكلاسيكي للكون. فجاء آينشتاين ليضع نظرية تؤدي مهام نظرية نيوتن بصورة أكفأ، فتضع قوانين أدق للحركة، وتنطبق على العالمين الميكروكوزم والماكروكوزم. هذا شريطة التخلي عن التصور الميكانيكي، والتسليم بمصادرتين؛ هما: استبعاد فرض الأثير، وثبات سرعة الضوء بصورة مطلقة. فهي الشيء الوحيد المطلق في الكون النسبي.
جعلت النسبية الزمان بعدا رابعا للأبعاد الثلاثة التي لم يخطر ببال الفيزياء الكلاسيكية سواها: الطول، والعرض، والارتفاع. فحل متصل الفضاء الزماني-المكاني الرباعي الأبعاد محل الأثير. «ويعد العالم الفيزيائي مينكوفسكي
Minkowisky
من رواد معالجة العالم ذي الأبعاد الأربعة. وأوضح كيف يمكن تطويق المطلق بالعود إلى أصله الرباعي وأن نبحثه بعمق أكثر.»
22
وقد نقض آينشتاين المطلق النيوتوني، في أول صياغة لقانون النسبية عام 1905، حين أعلن أن الطبيعة تجعل من المستحيل تعيين الحركة المطلقة عن طريق أية تجربة مهما كانت. والحق أن نيوتن نفسه قد أعرب عن استحالة تعيين الحركة المطلقة والسكون المطلق، فظلا في الواقع نسبيين - أي: بالنسبة للأرض التي تتحرك بالنسبة للشمس المطلقة. وفي هذا ألمعية فذة منه، ولكنه في النهاية لم يضع النسبية في اعتباره وأقام نظريته على الأساس المطلق كما رأينا، بينما عجز العلم عن إيجاد الجسم الذي افترضه نيوتن في حالة سكون مطلق، أو بالأصح أثبت استحالة وجوده، فالقمر متحرك بالنسبة للأرض، والأرض متحركة بالنسبة للشمس والمجموعات الكونية الأخرى متحركة، والكون كله في حركة دائبة؛
23
لذلك فالنسبية تعلم أنه لا يوجد في الكون كله مقياس معياري للطول أو الكتلة أو الزمان؛ لأنه سوف يتضمن الثبوت في مكان معين، وهذا شيء لا وجود له، والزمان الذي تحدده حركة الأجرام السماوية، وبعدها المتغير عنا نسبي غير منتظم، ولا يجري في جميع أنحاء الكون بالتساوي، فأين هو الزمان المطلق الذي تحدث عنه نيوتن؟
الواقع أن الزمان المطلق لا وجود له إلا في ذهن نيوتن وأشياعه. وأدى التحليل العلمي للزمان مع النسبية إلى تفسير له يختلف كل الاختلاف، فهو يطول أو يقصر حسب أمرين؛ الأول: هو السرعة، فيتباطأ الزمن كلما زادت السرعة. والأمر الثاني: هو الكتلة، وهذا ما بحثه آينشتاين في النسبية العامة على أساس أن الزمان يسير ببطء عند الكتل الكبيرة، فضلا عن أن الكتلة ليست ثابتة إنما تزيد بزيادة السرعة بمقدار محدد تبعا للقانون الثاني في النسبية الخاصة.
إن النظرية النسبية نسبية لأنها تدخل الذات العارفة كمتغير في معادلة الطبيعة؛ إذ تجعل موقع الراصد وسرعته معينات أساسية، والقائمون بالملاحظة الذين يتأملون السماء من كواكب مختلفة سوف يدرك كل منهم سماء مختلفة، كذلك يتحكم تأثير المكان في ساعاتهم بمعنى أجهزتهم للرصد، بحيث إن الوقت الذي يقرؤه كل منهم يختلف في اللحظة الواحدة، بل وإن كلا منهم يقدر مرور الزمن تبعا لسرعة مختلفة، قد يكون مكان الملاحظ بالنسبة لنا هو الأرض في كل الأحوال، لكن الملاحظ المرتبط بالأرض لا يستطيع أن يجري نفس الأقيسة الفلكية التي يجريها بكوكب آخر، والنسبية تدرس كيف تؤثر حركتا هذين الملاحظين النسبية في ملاحظاتهما، ولم يكن هذا طريقة لا ذاتية فحسب، بل ولتحرز درجة هائلة من الموضوعية المدهشة، لكن غير المطلقة.
لقد تحطم وهم المطلق حين تحطم الزمان والمكان المطلقان المنفصلان، تحت وطأة المتصل الزماني-المكاني الرباعي الأبعاد؛ حيث نجد الزمان قد يصبح مكانا، والمكان قد يصبح زمانا. ولم تعد المسافة هي البعد بين نقطتين مكانيتين بحتتين، بل هي البعد بين نقطتين متحركتين أو حادثتين يفصل بينهما فترة زمانية، بالإضافة إلى الفترة المكانية، بحيث تأتي المسافة بجمع مربع الطول مع مربع العرض ثم مربع الارتفاع، ثم طرح مربع الفاصل الزمني من ذلك. وفي هذا يقول آينشتاين إنه يمكن تحديد المسافة ذات الأبعاد الأربعة بتعميم بسيط لنظرية فيثاغورث ، وإن هذه المسافة تلعب دورا أساسيا في العلاقات الفيزيائية بين الأحداث الكونية أهم من الدور الذي يلعبه الفاصل الزمني وحده،
24
وبالطبع لم تكن المسألة بهذه البساطة، بل أجرى آينشتاين من العلاقات الرياضية شديدة التعقيد ما يحافظ على طبيعة البعد الزماني، دامجا المكان والزمان في وحدة واحدة ترسي القانون «إذا وقع حادثان في المكان نفسه لكن في لحظتين مختلفين من وجهة نظر مشاهد، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في مكانين مختلفين إذا نظر إليهما مشاهد في حالة حركية أخرى.» وعلى أساس تكافؤ الزمان والمكان الذي يجعل أحدهما دالا على الآخر يصح العكس، فإذا وقع حادثان في اللحظة نفسها، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في لحظتين مختلفتين إذا نظر إليهما مشاهد آخر في حالة حركية أخرى. وأيضا إذا وقع حادثان في اللحظة نفسها من وجهة نظر مشاهد؛ فإن هذين الحادثين - من وجهة نظر مشاهد آخر في حالة حركية أخرى - يكونان منفصلين عن بعضهما بفترة زمانية معينة.
25
كل هذه المتغيرات المتحركة في تحديد الزمان، والتي تجعل حادثا بعينه ماضيا لمشاهد ومستقبلا لمشاهد آخر، نجم عنها ما يعرف بالتآني؛ أي استحالة الحكم بأن حادثا وقع قبل أو بعد الآخر، كما يشترط التحديد العلي للأحداث إلى علة سابقة ومعلول لاحق في خط الزمان الواحد المطلق. لقد تلاشت العلية، كما سبق أن تلاشت في الكوانتم، لكن النسبية تنفي أيضا خاصية عدم قابلية الزمان والأحداث للارتداد؛ فالأحداث توجد بحيث يمكن افتراض تتابعها الزماني في الاتجاه المعاكس، بحيث انتهى التسلسل الزماني الكلاسيكي، ومع النسبية أصبح الذهن البشري يستطيع إدراك نظم مختلفة للترتيب الزماني، النظام الكلاسيكي مجرد واحد منها.
ربما كان التوغل بإشكالية الزمان إلى كل هذا الحد، أكثر من أن نستطيع استيعابه بسهولة، فقوانين الديناميكا الحرارية غير القابلة للانعكاس، والظواهر التي تعكس اتجاها وترتيبا زمانيا واضحا، وأبسطها الفيلم السينمائي وآثار الأقدام على الرمال والحفريات ... إلخ. كلها يمكن أن تهب دفاعا عن الزمان غير القابل للارتداد والذي اغتالته النظرية النسبية. وقد تصدى لهذه المشكلة كثيرون، أهمهم هانز رايشنباخ الذي أسمى هذه الظواهر «أنساق فرعية» تنشأ عن ظروف أو شروط مبدئية معينة، وليس عن طبيعة القوانين الفيزيائية أو الزمان. إنها «أنظمة ثانوية» داخل النظام الكوزمولوجي الكوني الذي لا يعني البتة أن الزمان له اتجاه معين أو ترتيب أوحد، ويمكن أن نأخذ هذه الأنساق الفرعية مأخذا برجماتيا؛ أي: نتصرف على أساسها بغير حاجة للدخول في النظريات الشديدة العمومية.
26
إن هذا يذكرنا بالفجوة الواسعة، إن لم نقل التناقض بين الصورة الكوزمولوجية التي يرسمها العلم المعاصر - علم النسبية والكوانتم - وبين الصورة الكوزمولوجية الكائنة في الحس المشترك - خبرة الإنسان العادي في الحياة اليومية - والتي كانت تتفق تماما مع الصورة الكوزمولوجية للعلم النيوتوني، بكتله المتحركة في زمان ومكان مطلقين ومنفصلين. إن الحس المشترك لا يستطيع الصعود إلى مستوى التجريد الذي بلغه زمان النسبية، فاشتهر عن قابليته للارتداد الزجل الشعبي:
كان هناك سيدة اسمها شوء
تسبق في سيرها الضوء
خرجت تقضي حاجة لها بالأمس
نالها في الطريق من النسبية مس
فعادت إلى بيتها أول أمس!
27
وكما يقول آرثر أدنجتون، إشكالية الزمان المثارة أمام العلم يلخصها سؤالان؛ الأول: ما هي الطبيعة الحقيقية للزمان؟ ثم ما هي طبيعة تلك الكمية التي وضعت تحت اسم الزمان وأصبحت جزءا أساسيا من بنية الفيزياء؟
28
النظرية النسبية لا تجيب عن السؤال الأول بصورة مباشرة؛ لأنها لا تقول أي شيء محدد من طبيعة الزمان في صلب ذاته وصميم ماهيته؛ فهي تتناول مقاييس الأشياء لا الأشياء ذاتها. ولكن النسبية وضعت حل السؤال الثاني، حين أوضحت أن الزمان الكلاسيكي مختلط بالمكان بصورة مضاربة وغير متسقة، ووضعت هي الصياغة السليمة لارتباطهما معا، وهي بهذا فتحت الطريق أمام حل السؤال الأول، فثمة كمية غير مميزة في الفيزياء السابقة على النسبية، تمثل بصورة مباشرة جدا ذلك الزمان المعروف للوعي، وهو بلا ريب منفصل عن المكان ولا يشابهه، ولكن - كما يقول أدنجتون - اعتراض الحس المشترك على الخلط بين الزمان والمكان مجرد شعور لا بد من التغلب عليه، وتصور العالم بوصفه مكانا ثلاثي الأبعاد يمر من لحظة إلى لحظة خلال الزمان، هو محاولة غير ناجحة للفصل بين الزمان والمكان. والحق أنه «قبل مجيء النظرية النسبية لم يتخيل أحد أن المكان والزمان متماثلان في طبيعتهما بما يكفي لإضفاء أهمية خاصة على ناتج إدماجهما، لكن ثبت أن مثل هذا الإدماج له أهمية مذهلة في تفهم الفيزياء.»
29
وطبعا ليس ينقص الفيزياء موافقة الحس المشترك الفج الغشوم، وتصديقه على تصورها للزمان - صلب عالمها. •••
ولكن الفلسفة هي المنشأ وهي المآل، منها البدء وإليها العود، بها الإرهاص وفيها رجع الصدى. وبعد أن تمهد للعلم سرعان ما تبلور خطاه الجوهرية نحو الحقيقة بآيات التفلسف. وكما وجد زمان نيوتن المطلق من يفلسفونه ويقيمون عليه وله مذاهب فلسفية من الأبنية الشوامخ، أهمها مذهب كانط النقدي الذي جعل الزمان والمكان المطلقين صورتين قبليتين في العقل ليتلقى على أساسهما الخبرة، وجد زمان آينشتاين النسبي أيضا من يقيمون له أبنية فلسفية أكثر شموخا وأكثر عمقا، بطبيعة الحال الذي يفرضه التقدم المجبول في بنية العلم.
اهتم معظم فلاسفة العلم اهتماما فائقا بزمان النسبية، لكن لعل الفيلسوف الإنجليزي عالم الرياضة الفذ والمنطقي ألفرد نورث وايتهد
A. N. Whitehead (1861-1947) أكثر من أمعنوا في الانطلاق به كموضوع للتفلسف، وليس فقط كمقولة منتمية للعلم. عالجه في أكثر من موضع، أهمها فصل «الزمان» في كتابه «مفهوم الطبيعة».
30
وكما سبق أن قال ليبنتز، يقول وايتهد إنه بدون أحداث لا يوجد زمان ولا مكان، إنه يربط الزمان بالأحداث ويجعلها أساس تعريفه؛ لذلك يرفض طبعا زمان نيوتن المطلق، ويزعم أيضا أنه يرفض زمان آينشتاين. والواقع أنه يأخذ به مع تعديلات فلسفية بسيطة، فعلى أساس من نظرة وايتهد العضوية للطبيعة والعلاقات الداخلية التي تحكمها، يقول بالمتصل الزماني-المكاني، وهو بناء ضروري موضوعي من العلاقات الداخلية، بناء ثابت مطرد لا يتأثر بما يطرأ على الموضوعات من تغيرات. وهذا البناء هو علاقة الامتداد بين أحداث الطبيعة، التي تعبر عن عملية
الطبيعة أو صيرورتها. هذا الامتداد هو عينة الزمان، والحوادث «المميزة» فعلا هي الحاضر، والحوادث «القابلة للتمييز» هي الماضي والمستقبل، ومن علاقتهما بالحاضر؛ أي من علاقة الحوادث «القابلة للتمييز» بالحوادث «المميزة» يتشكل نسيج
Texture
الزمان،
31
وأيضا نسيج الطبيعة، فهي بدورها المجموع الكلي للأحداث المميزة والقابلة للتمييز، تماما كما أدخلت النسبية متغيرات الذات العارفة - من حيث مواقعها وسرعات رصدها - في تعيينات الطبيعة، يفعل وايتهد ويجعل الحد بين ما تميزه الذات العارفة فعلا وما هو قابل فقط للتمييز بالنسبة لها فواصل في تعريف الزمان، وتحديده إلى ماض وحاضر ومستقبل، وينطبق هذا على الطبيعة بأسرها، بطبيعة حال المتصل الزماني-المكاني.
على أن المعطى المباشر للوعي الحسي
Sense-awareness
ليس اللحظة غير القابلة للإدراك شأن نقطة المكان، بل هي الفترة ذات السمك المعين، والتي تعني الحاضر وامتداد ما في الماضي والمستقبل. والحوادث المرتبطة بعلاقة تآن هي التي تحدد مضمون الفترة، وعندما نجرد الفترة من مضمونها من الحوادث المتآنية معها، وننظر إلى الفترة في حد ذاتها، وبوصفها علاقة زمانية تربط بين الحوادث، بهذا نصل إلى المفهوم أو التصور العقلي لها. وعلاقة التآني هي علاقة التصاحب المكاني بين الحادثة المدركة والفترة المناظرة لها. هكذا نجد الزمان حدا للمكان، فالحاضر الراهن بحوادثه المميزة فعلا أساس التحديد المكاني للطبيعة، أما الماضي والمستقبل فهما التحديد الزماني لها. باختصار مبسط - نرجوه غير مخل - الحاضر هو المكان، والماضي والمستقبل هما الزمان، ومنهما معا الطبيعة أو تيار أحداثها. هكذا نجد الزمان والمكان حقيقة واحدة ترتبط بأشكال مختلفة مع الوعي الحسي، الحوادث المستقبلة «القابلة للتمييز» زمان، لكن حين يئون زمانها أمام الذات المدركة وتغدو مميزة؛ أي حين تصبح حاضرا سوف تصبح أيضا مكانا. هكذا يتحول الزمان دائما إلى مكان، ووايتهد يقول إنه يفلسف ما أتت به النسبية من توحيد بين الزمان والمكان وإدماجهما معا، ولكننا نراه في حقيقة الأمر لا يدمجهما معا وكأنهما ندان، بل فقط يدمج المكان في تيار الزمان ويرده إليه. في حين تميل النسبية إلى العكس، وهو إدماج الزمان في المكان، فالزمان بعد رابع لأبعاد المكان الثلاثة.
يقول وايتهد إن نظريته الفلسفية في الزمان، انعكاس واستجابة للنظرية النسبية، ولكننا نرى استجابته لتطورات الفيزياء المعاصرة أشمل، فالكوانتم أساس آخر ينضم إلى النسبية ليمثلا معا أساس الفيزياء، والكوانتم في حد ذاتها لا تتدخل بصورة مباشرة في إشكالية الزمان من حيث هو تصور عام لنظام من أنظمة الكون. لكن الفيزياء الكلاسيكية كانت ترى المكان مجال كتل المادة والزمان مجال الأحداث، ومع الكوانتم - وخصوصا بعد نشأة ونجاح الميكانيكا الموجية البارعة مع العالم الفرنسي الفذ لويس دي بروي - تلاشت كتل المادة الساذجة، وارتدت إلى إشعاعات من مركز، إلى ما يمكن أن نسميه سلسلة من الأحداث. وعندما يرتد كل شيء إلى أحداث، يسهل أن يرتد المكان إلى الزمان، كما حدث مع وايتهد وغيره من فلاسفة العلم المعاصرين. •••
هكذا تكشف تطورات العلم المعاصر من كل صوب وحدب عن مرونة وفعالية وتجديدات جذرية في معالجة إشكالية الزمان، فأصبحت موضوعا خصيبا لإنجازات وإبداعات فلاسفة العلم المعاصرين.
وستظل كل إشكالية مطروحة أمام العقل الإنساني موضوعا للإنجاز والإبداع والإضافة والتجديد، ما دام هذا العقل كائنا في الزمان، والذي اتفقنا على أنه مجال الحركة والتغير والحدث، شريطة ألا يكون زمانا دائريا بل متصلا صاعدا.
فهل من صعود؟
صفحه نامشخص