وقد اشتدت الخصومة حينئذ، ورأى سيتوك أن المائدة توشك أن يصبغها الدم، وكان زديج قد احتفظ بالصمت أثناء هذا الحوار كله، فنهض إذ ذاك ثم اتجه إلى الكلتي؛ لأنه كان أشد القوم غضبا، وقال له: إنه مصيب، وطلب إليه بعض زهره، وحمد لليوناني بلاغته، وهدأ النفوس الثائرة، ولم يقل لصاحب كتاي إلا قليلا لأنه كان أعقل القوم جميعا، ثم قال لهم جميعا: «أيها الأصدقاء، لقد كدتم تختصمون في غير طائل؛ لأنكم جميعا متفقون.» هنالك تصايح القوم، قال للسيتي: «أليس من الحق أنك لا تعبد الزهر والبلوط، وإنما تعبد صانعهما؟» قال الكلتي: «لا شك في ذلك.» «وأنت يا سيدي المصري إنما تعبد في بعض الثيرة من خلق لك الثور.» قال المصري: «نعم.» «ويونس الحوت يجب أن يذعن لمن خلق البحر والسمك.» قال الكلداني: «أوافق على ذلك.» قال: «والهندي والكاتي يعترفان من غير شك بالمبدأ الأول لكل شيء، ولم أفهم هذا الكلام الرائع الذي تكلم به اليوناني، ولكنه واثق بأنه يسلم بوجود كائن عظيم هو الذي أنشأ المادة والصورة.» قال اليوناني وقد أحس الإعجاب به إن زديج قد فهم عنه حق الفهم، قال زديج: «فأنتم إذن على رأي واحد، وليس هناك ما يدعو إلى الخصومة.» فأقبل القوم عليه يعانقونه؛ ثم باع سيتوك تجارته بيعا رابحا وعاد مع صديقه إلى قبيلته، ولكن زديج عرف عند وصوله أن قضيته قد نظرت أثناء غيبته، وأن الحكم قد صدر عليه أن يحرق في نار هادئة.
الفصل الثالث عشر
الموعد
وكان كهنة الكواكب قد أزمعوا أثناء رحلته إلى البصرة أن يعاقبوه، فقد كانت جواهر الأرامل اللاتي يرسلن إلى النار وحليهن تئول إليهم، فلم يكن أقل من أن يحرقوا زديج عقابا له على ما جر عليهم من خسارة، فاتهموه إذن بسوء رأيه في جيش السماء، ورفعوا القضية، وأقسموا على أنهم قد سمعوه يقول: إن نجوم السماء لا تغرب في البحر، وقد ارتعد القضاة لهذا الكفر الشنيع، وكادوا يمزقون ثيابهم حين سمعوا هذا المنكر من القول، وقد كانوا أحرياء أن يفعلوا لو علموا أن لزديج من المال ما يعوض عليهم ثيابهم، ولكنهم حين انتهى بهم الألم إلى أقصاه اكتفوا بالحكم عليه أن يحرق في نار هادئة، وقد جزع سيتوك وأنفق ما كان يملك من جهد لينقذ صديقه، ولكنه أكره على الصمت إكراها، هنالك أزمعت الأرملة الشابة ألمونا أن تنقذه، وكانت قد أحبت الحياة بفضل زديج، فأرادت أن تعصمه من النار التي بين لها ما فيها من الظلم، فأدارت رأيها في رأسها دون أن تتحدث به إلى أحد، وكان مقررا أن يحرق زديج من غده، فلم يكن أمام الأرملة إلا الليل لإنقاذه، وإليك الخطة التي دبرتها في رحمة ورفق وحذر.
تعطرت وازينت حتى جعلت جمالها ساحرا فاتنا، ثم طلبت لقاء خاصا إلى رئيس كهنة النجوم، فلما مثلت أمام هذا الشيخ الجليل قالت له: «أيها الابن البكر للدب الأعظم، يا أخا الثور، وابن عم الكلب الأكبر - وكانت هذه ألقاب رئيس الكهنة - لقد أقبلت أفضي إليك بذات نفسي، إني لمشفقة أن أكون قد وقعت في خطيئة عظيمة حين لم أحرق نفسي في أثر زوجي العزيز، وعلى ماذا أردت أن أبقي جسم هالك قد أخذت فيه السن!» قالت ذلك وهي تخرج من كمها الحريري ذراعها العارية ذات الصورة الرائعة والبياض الخلاب، قالت: «انظر، ما أهون هذا وما أقل خطره!» ووجد زعيم الكهنة في دخيلة نفسه أن هذا شيء عظيم الخطر، قالت ذلك عيناه وأكد ذلك فمه، فقد أقسم أنه لم ير قط في حياته أجمل من هذه الذراع، قالت الأرملة: «وا حسرتاه! لعل الذراع أن تكون خيرا من سائر الجسم، ولكنك توافقني على أن النحر لم يكن خليقا بعنايتي.» ثم أظهرت أجمل ثدي صنعته الطبيعة لو قرن إليه زر من الورد على تفاحة من العاج لأذى بها، ولو قرنت إليه الحملان بعد غسلها لظهرت بالقياس إليه صفراء مشبعة بالسمرة، هذا النحر وهاتان العينان الكبيرتان الفاترتان المشرقتان بنار رفيقة وهذان الخدان اللذان يزدهيان بأجمل الأرجوان قد خالطه بياض اللبن النقي، وأنفها الذي لم يكن كبرج جبل لبنان، وشفتاها اللتان كانتا كطرفي محارة من مرجان تضمر أجمل ما في بحر العرب من اللآلئ،
1
كل هذا مجتمعا أشعر الشيخ بأنه ابن عشرين، فأعلن إليه حبه متلعثما، ولما رأته ألمونا ملتهبا سألته العفو عن زديج، قال: «وا حسرتاه! أيتها السيدة الحسناء، لو أجبتك إلى ما تطلبين لما أغنى عفوي عنه شيئا، فقد يجب أن يمضي هذا العفو ثلاثة آخرون من الزملاء.» قالت ألمونا: «فأمض أنت.» قال الكاهن: «مع السرور بشرط أن يكون عطفك ثمنا لعفوي.» قالت ألمونا: «إنك لتغلو في تشريفي، فتفضل بزيارتي إذا غربت الشمس، وأشرقت في الأفق النجمة شيت، فستجدني على إيوان وردي اللون، وستصنع بخادمتك ما تشاء!» ثم خرجت ومعها الإمضاء، وتركت الشيخ يصرعه الحب ويخيفه الشك في قوته، وأنفق سائر اليوم في حمامه، واحتسى شرابا مزاجه من قرفة سيلان وبهار تيدوروترنات، وانتظر وقد كاد يفقد الصبر أن تظهر النجمة شيت في الأفق.
وفي أثناء ذلك مضت ألمونا الحسناء فلقيت الكاهن الثاني، فأكد لها أن الشمس والقمر وكل ما في السماء من نجوم ليست إلا نارا موهومة بالقياس إلى سحرها، فطلبت إليه العفو نفسه، وطلب إليها أن تؤدي ثمنه، فأظهرت الإذعان وضربت موعدا للكاهن الثاني حين تشرق النجمة الجنيب، ثم مضت إلى الكاهن الثالث وإلى الكاهن الرابع، ظافرة دائما بالإمضاء، ضاربة موعدا من نجم إلى نجم. ثم طلبت إلى القضاة أن يلموا بدارها لأمر ذي بال، فلما حضروا أظهرت لهم الأسماء الأربعة، وأنبأتهم بأي ثمن باع الكهنة عفوهم عن زديج، وأقبل كل واحد من الكهنة في موعده، ودهش كل واحد منهم حين رأى زملاءه وبنوع خاص حين رأى القضاة الذين تبينوا خزيهم واضحا، وكذلك نجا زديج، أما سيتوك فقد فتنته مهارة ألمونا فاتخذها له زوجا.
الفصل الرابع عشر
الرقص
صفحه نامشخص