رهبر شورشی احمد عرابی
الزعيم الثائر أحمد عرابي
ژانرها
وكان في مقدور الحامية أن تصدهم عن النزول إلى البر وتدافعهم لو حاولوا النزول ... ولكن العرابيين لم يفعلوا شيئا من ذلك؛ لأنهم لم تكن لديهم قيادة صالحة تدبر الخطط المحكمة للقتال، فآثروا الانسحاب من الإسكندرية، ورأوا أن يتذرعوا بكل وسيلة لتعطيل احتلال الإنجليز للمدينة واستقرارهم فيها، فأمر سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس جنوده بإضرام النار في المدينة، لكي يحول الحريق دون نزول الإنجليز بها واتخاذها قاعدة حربية لزحفهم، فشبت الحرائق الهائلة يوم الأربعاء 12 يوليو سنة 1882. وبدأ إضرام النار في نحو الساعة الثانية بعد الظهر، وأخذ يمتد حتى صارت الإسكندرية شعلة من النار مساء ذلك اليوم، واستمرت النار تضطرم فيها إلى اليوم التالي.
كان هذا الحريق من الوجهة العسكرية عملا عقيما؛ لأنه لم يعطل نزول الجنود الإنجليزية إلى البر فقد نزلوا في صبيحة اليوم التالي، واشترك في الحريق بعض الأوروبيين، وبخاصة من الأروام والمالطيين الذين بقوا في المدينة بعد هجرة معظمهم، وكانوا يقصدون من ذلك المطالبة بالتعويضات بعد انتهاء الحرب، كما اشتركوا أيضا في النهب.
ويقول جون نينيه عميد الجالية السويسرية - وكان شاهد عيان لهذه الحوادث: إن الحرائق الأولى شبت في الأحياء الأهلية من قنابل الأسطول الإنجليزي يوم الضرب، وكان الحريق الذي أمر به سليمان سامي داود على غير رأي عرابي والوزراء، فانفرد بإحداثه سليمان داود قائد الآلاي السادس، الذي كان مشهورا بالتهور والحمق، وكان يعتبر نفسه عرابي آخر بالإسكندرية، وقد صمم على ألا ينسحب الجيش من الإسكندرية إلا بعد أن يجعلها خرابا، وهذا يدلك على تشعب آراء العرابيين وعدم وجود وحدة في قيادتهم؛ لأن عملا خطيرا كحريق الإسكندرية ما كان يجب أن يحدث إلا إذا صدرت به الأوامر مجمعة من قيادة الجيش، ولكن الواقع أن عرابي لم يكن له دخل فيه، ولما وقع لم يستطع أن يمنعه.
واستقر رأي عرابي وصحبه على الانسحاب من الإسكندرية ثاني يوم الضرب، فأخذ الجيش يخليها يوم الأربعاء 12 يوليو. وفي مساء ذلك اليوم غادرها عرابي ووصل إلى «حجر النواتية» على ترعة المحمودية بعد الغروب وقضى الليلة هناك، وفي الصباح ركب رفاصا سار به في الترعة حتى وصل إلى «عزبة خورشيد» ومنها إلى «كنج عثمان» بالقرب من كفر الدوار، وهناك أمر بإنشاء الاستحكامات وهي التي اتخذها الجيش المصري معسكرا له، وعرفت بمعسكر كفر الدوار. واتخذ عرابي عزبة «كنج عثمان» مقرا لقيادة الجيش ... وفي صباح يوم 13 يوليو تحقق الأميرال سيمور من انسحاب العرابيين، وأنه لم يبق منهم أحد في المدينة، فأنزل كتيبة من جنوده البحارة واحتلوا سراي رأس التين وشبه جزيرة رأس التين.
أوروبا وضرب الإسكندرية
انسحبت فرنسا من الميدان، وأمرت أميرال أسطولها بمغادرة الإسكندرية قبل الضرب ... فبارحها مساء 10 يوليو سنة 1882. ومعنى ذلك أن الحكومة الفرنسية تركت إنجلترا تفعل ما تشاء، وتعتدي ذلك الاعتداء الغشوم على المدينة، فتدك حصونها وتهدم مبانيها وتحصد أرواح أهلها، دون أن تبدي حراكا ... قابلت فرنسا هذا الاعتداء الوحشي بالجمود، ولو أرادت منعه لكان لها من مركزها الممتاز في المسألة المصرية ما يحول دون وقوعه ... وكذلك فعلت دول أوروبا العظمى، فإنها ظلت جامدة لا تحرك ساكنا أمام هذه المأساة ... ولو وقع مثل هذا الاعتداء على أمة أوروبية كاليونان أو الجبل الأسود أو بلغاريا، لاهتزت الحكومات الأوروبية، وتوعدت وأنذرت المعتدي بالضرب على يده ...
ولعلك تذكر موقفها حيال مصر ذاتها حين لبت نداء تركيا في محاربة الثوار اليونانيين، وما فعلته أوروبا إذ ائتمرت بأسطولها فأحرقته غدرا وخيانة في «نافارين» سنة 1827 ... ولا تنس ما فعلته مع مصر فقد حرمتها ثمرة انتصاراتها على الترك في عهد محمد علي، وائتمرت بها وانقضت المزايا التي نالتها بحد السيف. أما في سنة 1882 فقد تركتها لبطش الإنجليز دون أن تحرك ساكنا!
وليس من العسير علينا أن نفهم سبب هذا التباين في المعاملة ... فأوروبا لا تنظر إلى مصر بالعين التي تنظر بها إلى الأمم الغربية، ولا تراها جديرة بالعطف الذي حبت به اليونان وبلغاريا، ومما يدلك على مشاركة أوروبا لإنجلترا في مسئولية حوادث سنة 1882 أنه لم يكد الجيش الإنجليزي ينتصر على العرابيين في واقعة التل الكبير، حتى بادر المسيو تيسو سفير فرنسا بلندن إلى مقابلة اللورد جرانفيل وزير خارجية إنجلترا، وهنأه باسم الحكومة الفرنسية على هذا الانتصار، وكان جواب جرانفيل على تهنئته: «إن واقعة التل الكبير هي انتصار أوروبي، ولو انهزم الجيش الإنجليزي لكان ذلك كارثة على كل الدول التي تحسب حسابا للتعصب الإسلامي.»
وقد هنأ المسيو دكلرك رئيس وزارة فرنسا السفير البريطاني في باريس بهذه الواقعة قائلا: «إن انتصار الإنجليز على العرب في مصر، ينتج ثمرة طيبة لفرنسا في تونس والجزائر.»
وقوبل نبأ الضرب في «مؤتمر الآستانة» بالفتور والجمود، ولم يكن المؤتمر قد انفض بعد ... ولو كانت الدول الأوروبية حريصة على الدفاع عن حقوق مصر بل عن الحقوق عامة، لكان لضرب الإسكندرية صدى عاجل في المؤتمر يحفزه إلى وضع حد لهذا الاعتداء، ولكنه على العكس قابله بالصمت والبرود، ولم يبد أي اعتراض على إنجلترا في نقضها عهودها، وخاصة عهودها في ذلك المؤتمر بالذات ... لم يكن لهذا الاعتداء أي أثر فعلي في نفوس المؤتمرين، وهم سفراء الدول الأوروبية الكبرى في الآستانة، وكل ما فعله مندوب روسيا أن نفض يده من المؤتمر، وامتنع مؤقتا عن حضور جلساته، وهو عمل سلبي لا يمنع الاعتداء ولا يحول دون استمراره.
صفحه نامشخص