رهبر شورشی احمد عرابی
الزعيم الثائر أحمد عرابي
ژانرها
تحرك هذا الوفد من الآستانة يوم 2 أكتوبر سنة 1881 قاصدا إلى مصر ... ولم يسبق تأليفه مخابرة بين حكومة الآستانة والحكومة المصرية حتى يعرف مقصدها من إيفاده، بل فوجئت البلاد بتلغراف من الآستانة ينبئ بقيام هذا الوفد، فقوبل النبأ بالدهشة لأن حالة البلاد لم تكن تسيغ إيفاده، فضلا عما يحدثه مجيئه من هياج الخواطر وإثارة الهواجس في وقت كانت البلاد محتاجة فيه إلى إقرار الطمأنينة في النفوس.
ولكن الحكومة العثمانية كانت في الواقع تتعمد إحداث حدث يثير الخواطر في مصر ... فلعلها كانت تأمل أن تستفيد من الثورة، أو لعلها نظرت بعين الاستياء إلى قيام وزارة حرة تقيم النظام الدستوري في مصر؛ لأن مثل هذا النظام لم يكن لترضى عنه حكومة الآستانة التي جبلت على كراهية الحرية والدستور. هذا إلى أن على رأسها السلطان عبد الحميد الذي بدأ عهده بتعطيل القانون الأساسي العثماني، وإلغاء مجلس المبعوثين «النواب»، وتشتيت دعاة الحرية وأنصارها ... أضف إلى ذلك أن الخديو توفيق لم يكن منظورا إليه في الآستانة بعين الرضا والعطف؛ لأن سلطان تركيا لم يكن ليغفر له إغفاله الذهاب إلى عاصمة السلطنة، حين ولايته الحكم ليقدم له فروض الولاء.
حقا أن توفيق باشا اعتذر عن عدم ذهابه إلى الآستانة بارتباك أحوال مصر، وضرورة وجوده في عاصمة ملكه، ولكن هذا العذر لم يكن ليقبله حكام الآستانة، إذ كان من أخص صفاتهم الغطرسة والكبرياء وسوء الظن والانتقام؛ لذلك انتهزوا كل فرصة لإحراج مركز الخديو وإثارة المشاكل والعقبات في وجهه، ففكرة إرسال وفد إلى مصر فكرة قوامها الكيد وسوء القصد، وقد استاء لها شريف باشا وأبدى مخاوفه منها.
جاء هذا الوفد إلى الإسكندرية يوم الخميس 6 أكتوبر سنة 1881، ووصل أعضاؤه إلى القاهرة في مساء ذلك اليوم، ونزلوا ضيوفا على الحكومة بقصر النزهة بشبرا.
وفي صبيحة الجمعة ذهبوا إلى سراي الإسماعيلية لمقابلة الخديو، فاستقبلهم بالترحاب وتبادل وإياهم عبارات التحية والود، وأبلغوه تحيات السلطان وأعربوا له عن تمام رضاه وسروره لما يبذله في تحسين أحوال البلاد، وأن الغرض من إرسال هذا الوفد هو إظهار الثقة بالخديو وتأييد نفوذه وتثبيت مركزه ... فرد عليهم بعبارات الشكر المألوفة، ثم انصرفوا عائدين إلى قصر النزهة، وهناك رد لهم الخديو الزيارة.
وذهب علي نظامي باشا إلى قصر النيل حيث كان ديوان الحربية ومركز الآلاي الثاني ... فاستقبله محمود سامي باشا البارودي وزير الحربية، وهناك استدعى طلبة بك عصمت قائد الآلاي، ومعه الضباط من رتبة قائمقام وبكباشي، وألقى فيهم خطابا باللغة التركية - عربه لهم البارودي - حثهم فيه على طاعة الخديو وتنفيذ أوامره.
فأجابه طلبة بك عصمت بقوله: «إن العساكر المصرية جموعا وأفرادا على قدم الطاعة والانقياد لولي أمرنا الخديو المعظم، يتلقون أوامره بالامتثال، ويقفون عند حد نواهيه ... فإن كلا منا يعلم أن أول واجب على الجند هو طاعة ولي الأمر والإذعان لما يأمر به، وما منا إلا محب للجناب الخديوي ميال بكليته إلى الامتثال لإرشاداته.»
ولما انتهى من كلامه وقف علي نظامي باشا، وصافح طلبة بك ومن معه من الضباط، وأثنى عليهم الثناء الجميل، ثم بقي مع محمود باشا سامي البارودي نحو نصف ساعة وانصرف ... وزار بعد ذلك شيخ الجامع الأزهر ونقيب الأشراف وشيخ المالكية ... وكانوا في أحاديثهم معه يثنون على الجيش، ويطرون أعماله ويذكرون فضله فيما نالته البلاد.
وقد استاءت فرنسا وإنجلترا من حضور الوفد العثماني على غير اتفاق معهما ... وعدتاه تدخلا من تركيا في شئون مصر الداخلية، وطلبتا من الحكومة العثمانية تقصير مدة إقامته ... وانتهزت إنجلترا هذه الفرصة لتعلن عن نفوذها في مصر حيال حضور الوفد، فطلب السير إدوار مالت من حكومته إرسال بارجة حربية إلى مياه الإسكندرية، فأجابت طلبه، واتفقت مع الحكومة الفرنسية على أن ترسل كل منهما بارجة على أن تعود البارجتان من الإسكندرية حين مبارحة الوفد العثماني أرض مصر، وقد وصلت فعلا البارجة الفرنسية «ألما» إلى مياه الإسكندرية، ثم جاءتها البارجة الإنجليزية «إنفنسبل». وغادرتا الميناء يوم 20 أكتوبر غداة سفر الوفد العثماني، فكانت هذه المظاهرة البحرية أول مظاهرة من هذا النوع أثناء الثورة العرابية، والمظاهرة الثانية وقعت في شهر مايو سنة 1882 كما سيجيء بيانه. ويلاحظ أن البارجة «إنفنسبل» هي إحدى البوارج التي اشتركت في ضرب الإسكندرية يوم 11 يوليو سنة 1882، فحضور الوفد العثماني كان باعثا على مجيء هذه البوارج ... فلا جرم كان حضوره ضارا بمصر من جميع النواحي.
وظل رجال الوفد العثماني في مصر بضعة عشر يوما بين مقابلات وولائم، وأجمعت كلمة من حادثوهم من ذوي المقامات على أن البلاد ليس فيها أي اضطراب، وأكد لهم الخديو أن الجيش على طاعته، وبذلك انتهت مهمتهم، واتضح أن مجيئهم لم يكن له مسوغ ولا كانت له نتيجة ما، وعادوا إلى الإسكندرية يوم 18 أكتوبر سنة 1881، وفي صباح اليوم التالي انقلبوا راجعين إلى الآستانة. (5) إنشاء مجلس النواب
صفحه نامشخص