بعد عام 1989، مع سقوط حائط برلين وانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي (لا تزال الشيوعية الأيديولوجية الرسمية في الصين وكوبا ولاوس وفيتنام)، نشر الكثير من الأعمال التي تعلن نهاية اليوتوبيا، تماما كما كانت هناك أعمال تتوقع نهاية الأيديولوجية في خمسينيات القرن العشرين. زعمت تلك الأعمال التي تتحدث عن «نهاية اليوتوبيا» أن مناهضي اليوتوبيا قد فازوا في الصراع بين مؤيديها ومناهضيها. ولأسباب واضحة، ظهر هذا الموقف على أقوى نحو في ألمانيا؛ فبسبب معاناة الكثير من الألمان من كل من النازية والشيوعية، سعدوا بالاعتقاد بأن اليوتوبيات لم تعد تهددهم، لكنهم اعتقدوا أيضا أن نهاية اليوتوبيا ستؤتي لهم بحياة أفضل. والآن لا يرى الجميع أنها فعلت ذلك، ويرى كثيرون، لا سيما في ألمانيا الشرقية السابقة، أن الحياة كانت أفضل في ظل الشيوعية؛ لأنهم شعروا - رغم الفقر وانعدام الحرية - أنهم كانوا يتمتعون بالأمن الاقتصادي، وفي شعورهم هذا لا يمكن اعتبارهم محقين تماما ولا غير محقين تماما. وهكذا نرى مجددا ظاهرة تخيل الوصول لليوتوبيا ثم اكتشاف أنها غير ملائمة، وبداية رحلة السعي وراء يوتوبيا أخرى ستكون غير ملائمة هي الأخرى. ويقيم مناهضو اليوتوبيا تلك العملية على نحو سلبي بينما يقيمها المؤيدون لها على نحو إيجابي. (1) الحجة المناهضة لليوتوبيا
أعتبر أن ما أطلق عليه «اليوتوبية» نظرية جذابة، وفي الواقع مبالغ في جاذبيتها؛ لأنني أعتبرها أيضا خطرة وخبيثة. أعتقد أنها عقيمة وتفضي إلى العنف.
كارل بوبر
في أغلب الفظائع التي حدثت، ثمة حلم يوتوبي كبير؛ مجتمع أنظف أو مجتمع أنقى.
ريتشارد موليكا
أكثر الأساليب التي يستخدمها مناهضو اليوتوبية في الهجوم عليها شيوعا هو المساواة بين ما هو يوتوبي وما هو مثالي. تعني كلمة «مثالي» كامل أو مكتمل أو غير قابل للتغيير؛ ولا شيء يتصل بالبشر كامل أو مكتمل أو غير قابل للتغيير؛ ومن ثم فالمساواة هنا تجعل اليوتوبيا تبدو حمقاء أو - على الأقل - غير حكيمة. وقد كتبت جوديث سلار، المنظرة السياسية، أن «اليوتوبيا - منتج الأخلاقيين - هي بالضرورة كل متكامل متجانس لا يتغير.» وقد كتب عالم الاجتماع رالف داريندورف (المولود عام 1920)، الذي أصبح مدير كلية لندن للاقتصاد، أن «جميع اليوتوبيات من «جمهورية» أفلاطون حتى عالم جورج أورويل الجديد الرائع في «1984» تشترك في عنصر بنيوي واحد؛ وهو أنها كلها مجتمعات يغيب التغيير عنها.» وكتب ليشك كولاكفسكي، الفيلسوف البولندي، أن إحدى ما يطلق عليها «السمات العامة» للتفكير اليوتوبي هي «فكرة الأخوة البشرية المثالية الخالدة».
عدد قليل جدا من اليوتوبيات الحقيقية هي التي تدعي تمتعها بقدر من المثالية؛ فلم يدع أفلاطون أو ماركس، مصدرا اليوتوبية اللذان تناولهما بوبر، أنهما يتحدثان عن الكمال. أمضى أفلاطون قسما كبيرا من «الجمهورية» يدفع بأن دولته المثالية يجب أن تسقط لا مناص. وكان ماركس واضحا عندما ذكر أنه لا يعرف، وليس بمقدوره أن يعرف ، ما سيحمله المستقبل، وطبيعية المجتمع الذي ربما يخلقه الأشخاص المنعزلون. ووصفه المكون من جملة واحدة لمثل هذا المجتمع في عمله «الأيديولوجية الألمانية» (1845-1846) يؤكد على التنوع والتغير. وفي رواية «رجال كالآلهة» (1923)، يعرض إتش جي ويلز يوتوبيا تمر بتغيرات ضخمة، فيها يشبه السكينة الظاهرة لليوتوبيا ب «ثبات تيار الماء المتدفق الذي يدير عجلة الطاحونة، الذي يبدو ساكنا في تدفقه الهادئ حتى تمر به فقاعة هواء أو زبد أو عصا أو ورقة شجر فتكشف عن سرعته.»
وكثير من اليوتوبيات عبارة عن صورة أو لمحة من مجتمع موجود في لحظة من الزمن يضم ما يراه المؤلف أفضل، ومصمم لتحطيم حواجز الحاضر، وتشجيع الناس على التغيير والعمل من أجله. تجيد أغلب اليوتوبيات تصوير التغيير من الظروف الحالية إلى اليوتوبيا عن تصوير التغيير داخل اليوتوبيا، وبعضها يقصر عن عمد التغيير داخل اليوتوبيا على افتراض أنه لا ينبغي تغيير شيء جيد دون تفكير متأن، إلا أن كثيرا من اليوتوبيات ترحب بإمكانية التغيير كما فعل اليوتوبيون في عمل مور عندما علموا بأمر المسيحية. ويتتبع عدد كبير آخر خطى رواية «أطلانتس الجديدة» (1627) لفرانسيس بيكون (1561-1626) في إرسال الناس إلى العالم الخارجي، عادة لأماكن غير معلومة، لاكتشاف أي ما يكون مفيدا لليوتوبيا. وهذا يشير إلى الانفتاح على التغيير. لا ينتهي التاريخ بظهور اليوتوبيا؛ فالتغيير قد يكون أبطأ، لكن التغيير - ومن ثم المستقبل - سيحدث.
ثمة حجة أخرى بأن اليوتوبية تفترض أن جميع اليوتوبيات تقوم على العقلانية البشرية، وأن البشر عقلانيون جزئيا فحسب. يقول جاكوب تالمون (1916-1980)؛ أستاذ التاريخ الحديث بالجامعة العبرية بالقدس في هذا الشأن:
تقوم اليوتوبية على افتراض أن العقل وحده - لا العادة ولا التقليد ولا التحيز - يمكن أن يكون المعيار الوحيد الحاكم في الشئون الإنسانية. لكن حتى يكون هذا الافتراض صحيحا، يجب على العقل - كالرياضيات - أن يحظى بموافقة عامة؛ لأن له صحة واحدة وحصرية. في الواقع، اتضح أن العقل أكثر أدوات التوجيه تقلقلا وعرضة للخطأ؛ لأنه لا يوجد ما يمنع مجموعة مختلفة من «العقول» من الظهور دون سابق إنذار، وأن يدعي كل منها صحته الوحيدة والحصرية ، ولن يكون هناك حل وسط أو شيء يحتكمون إليه سوى القوة.
صفحه نامشخص