الفصل الرابع
اليوتوبية في الثقافات الأخرى
القاطنون بالجزيرة الشمالية «... لا يقومون بالزراعة أو أي فن أو حرفة أخرى. تنمو شجرة اسمها باديسا في تلك الجزيرة الغنية ولا تتدلى منها ثمار، بل أقمشة فاخرة من شتى الألوان يأخذ منها أهل الجزيرة ما يشاءون. وبالمثل، لا حاجة لهم لزراعة الأرض أو حرثها أو جني ثمارها، ولا يصطادون السمك أو الحيوانات؛ لأن الشجرة نفسها تثمر لهم على نحو تلقائي نوعا فاخرا من الأرز لا تغلفه قشرة. ومتى يشتهوا الغذاء، فما عليهم سوى وضع الأرز على حجر معين كبير، ومنه يتقد لهب في الحال يطهو لهم طعامهم ثم ينطفئ من تلقاء نفسه. وبينما يتناولون أرزهم تتدلى من أوراق بعض الأشجار مختلف أنواع اللحوم المنتقاة المطهية لهم، فيأخذون منها كما يشاءون، وما يتفضل من طعامهم يختفي على الفور.»
نص بوذي بورمي، نقله الأب سانجرمانو
في بلد صغير يسكنه عدد قليل من الناس، بإمكان الحكيم أن يكون السبب في عزوف الناس عن استخدام الأدوات التي تسهل لهم العمل على نحو كبير. بإمكانه أن يجعل الناس مستعدين للموت فداء لوطنهم بدلا من الهجرة منها. قد تكون المراكب راسية والعربات الحربية منتظرة، لكن لن يعتليها أحد. ربما تكون أسلحة الحرب موجودة، لكن لن يتمرن أحد على استخدامها. بإمكانه أن يتسبب في «عودة الناس (من الكتابة) إلى عقد الحبال وقناعتهم بطعامهم، وسرورهم بملبسهم ، ورضاهم عن منازلهم، وسعادتهم بعملهم وعاداتهم. سيكون البلد المجاور قريبا لدرجة أن تسمع صياح الديوك ونباح الكلاب هناك، لكن سيكبر الناس ويموتون دون أن يفكروا ولو مرة واحدة في الذهاب إلى هذا البلد.»
داو دي جنج، نقله جوزيف نيدهام
يذهب كريشان كومار، صاحب كتاب «اليوتوبيا والديستوبيا في العصر الحديث» (1987)، إلى أن اليوتوبيا ظاهرة وجدت في الغرب، وأنها نشأت من المسيحية، وأن أي يوتوبيات غير غربية ظهرت كانت نتيجة الاتصال باليوتوبيات الغربية. واليوم يختلف أغلب الباحثين مع ذلك ويذهبون إلى أن اليوتوبيات ظهرت في أغلب الثقافات، مشيرين إلى الصين البوذية والكونفوشيوسية والطاوية، والهند البوذية والهندوسية، والبلدان الإسلامية بالشرق الأوسط، ودول جنوب شرق آسيا البوذية، واليابان البوذية والشنتوية.
ابتكر توماس مور ضربا من ضروب الأدب، لكن ثمة نصوصا عديدة ظهرت في الغرب وخارجه تسبق «يوتوبيا» مور تصف مجتمعا غير موجود يتفوق في جوانب محددة على المجتمع المعاصر. ويتضح أن التقاليد اليوتوبية التي تسبق عمل مور كانت موجودة خارج الغرب. وعقب الاتصال باليوتوبية الغربية، بدأت كل هذه التقاليد، إضافة إلى ثقافات أفريقيا، تفرز يوتوبيات باستخدام النموذج الذي وضعه مور بعد تعديله ليتوافق مع ظروفها؛ نتيجة لذلك، تتناول يوتوبياتها قضاياها الخاصة التي غالبا ما تختلف اختلافا جما من حيث الشكل والمحتوى عن اليوتوبيات التي كتبت في الغرب بعد عام 1516.
وكما يتضح من الاقتباسين الموجودين في صدر الفصل، ورغم وجود اختلافات مهمة بين الثقافات، فثمة أوجه تشابه بين الأساطير الخاصة بها. ثمة شكلان شائعان لليوتوبيا لهما نظير في الغرب وموجودان بأغلب الثقافات: مجتمع نموذجي في الماضي، وصورة ما من الجنة. على وجه الخصوص، شاعت فكرة وجود حقبة يوتوبية في الماضي وكانت محورية في الاتجاه اليوتوبي بأغلب الثقافات؛ ففي بورما، قبل أن تصبح ميانمار، احتوى الدستور والنظام القانوني على مقدمات تربط بوضوح القوانين الحديثة باليوتوبيا التي يعتقد أنها كانت موجودة في الماضي. وهكذا، ظل الماضي اليوتوبي في بورما معيارا للحياة حتى نهاية القرن العشرين.
أكبر فارق بين الماضي اليوتوبي المسيحي المتمثل في جنة عدن وغيرها من الأساطير هو عدم وجود خروج من الجنة. دائما هناك تفسير ما لانتهاء الماضي اليوتوبي، لكن ليس الانفصال التام عنه الذي يمثله الخروج من الجنة؛ ونتيجة لذلك، فاليوتوبية ليست هرطقة. كما تختلف الأساطير الأخرى عن أسطورة العصر الذهبي الإغريقية في أن الأسطورة الإغريقية يوجد بها سلسلة من عمليات الخلق المنفصلة التي أدت إلى تكوين حاضر غير يوتوبي، في حين أنه لا توجد عمليات خلق منفصلة في الثقافات الأخرى أو انفصال تام؛ وهذا يعني أن الماضي اليوتوبي لم يفقد بالضرورة، ويمكن استخدامه نموذجا للمستقبل. وهذا مهم - بوجه خاص - في الصين؛ بسبب الاعتقاد بأن كلا من اليوتوبيا الكونفوشيوسية واليوتوبيا الطاوية كانتا موجودتين بالفعل في الماضي، وأنهما من ثم يمكن أن توجدا مجددا إذا فهمت - على نحو صحيح - المبادئ التي قامتا عليها، وطبقت على أرض الواقع. (1) الصين
صفحه نامشخص