واحد من أهل الكهف
الست الطاهرة
ابن السلطان
التابوت
يونس في بطن الحوت
البيت
الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1
سيرة كلب يبحث عن إنسان1
القط
مولانا السلطان
صفحه نامشخص
أسوار المدينة
قيصر
الراهب
بكاء
واحد من أهل الكهف
الست الطاهرة
ابن السلطان
التابوت
يونس في بطن الحوت
البيت
صفحه نامشخص
الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1
سيرة كلب يبحث عن إنسان1
القط
مولانا السلطان
أسوار المدينة
قيصر
الراهب
بكاء
يونس في بطن الحوت
يونس في بطن الحوت
صفحه نامشخص
تأليف
عبد الغفار مكاوي
واحد من أهل الكهف
كان ينحدر من شارع الموسكي في طريقه إلى ميدان العتبة، وكان اليوم من أيام يوليو القائظة؛ الحر يكتم الأنفاس، والجو ملبد بالغبار، ورائحة العرق واللهب والزحام تثقل الصدور، وضجيج العربات والناس والباعة تحث الأرجل على الفرار من هذا الجحيم. وكان يسرع إلى الرصيف بحثا عن الظل حين سمع صوتا ينادي: صابر. لم يلتفت في أول الأمر؛ فلم يكن يدور في وهمه أن يعرف أحد اسمه في مثل هذه المنطقة المزدحمة من المدينة، وحتى لو عرفه أحد فلم يكن يتصور أن ينتبه إلى وجوده بينما الناس جميعا مشغولون بالفرار إلى بيوتهم ومسرعون كالوحوش الضالة إلى مكان يحتمون فيه من الغضب الجهنمي الذي أعلنته السماء على الأرض، ولكن الصوت عاد ينادي في إلحاح: صابر ... صابر محمد مرزوق. ورأى عربة فخمة سوداء تميل إلى جانب الشارع حتى تحاذيه، وذراعا بضة تخرج من نافذتها وتشير إليه. توقف كالمأخوذ وفتح فمه يريد أن يعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود، ولكن دهشته زادت حين رأى وجها نسائيا يفتح له الباب، ويصيح به في نبرة قاطعة: اركب. ولم يتمالك نفسه من إطلاق صيحة جعلت بعض المارة يتوقفون ويلتفتون نحوه في اشمئزاز وحب استطلاع: بريسكا! وجذبته اليد البضة إلى داخل العربة قبل أن يتمكن من الإفاقة من دهشته، فألقى بجسده على المقعد الأمامي والصوت الحاسم ذو البحة التي يعرفها يقول، كأنه يصدر أمرا عسكريا: «أغلق الباب؛ ليس عندنا وقت، على الله لا نكون أخذنا مخالفة.» وأسرعت العربة تنهب الأرض التي بدت كأنها لوح من الفحم تمده الشمس في كل لحظة بمزيد من النار فيئن ويتلوى ويزفر ويدخن.
لم يكد ينتبه إلى نفسه وهو ما يزال بين مصدق ومكذب لوجوده في داخل العربة، حتى تذكر أنه لم يسلم عليها؛ على بريسكا القديمة العزيزة التي تجلس الآن إلى جانبه ويداها على عجلة القيادة. أراح ظهره المتعب إلى المسند المريح والتقط نفسا عميقا ثم مد يده في خجل: نسيت أن أصافحك. فأحس بيد تفتش عن يده ولا تكاد تلمسها حتى تفلت بسرعة إلى عجلة القيادة، وصوت رقيق يقول معاتبا في شبه سخرية: هل نسيت أن الكلام مع السائق ممنوع؟ ابتسم، رفع عينيه يتملى من الوجه الذي لم يكن قد وجد الفرصة حتى الآن ليشبع منه؛ كان هو نفس الوجه الأبيض المستدير، الذي طالما تفرس في تقاطيعه السمحة المنسقة، وأنفه الدقيق الطويل كأنف نفرتيتي، وشفتيه الضيقتين المزمومتين اللتين طالما بذل من المحاولات ليستخرج منهما كنوزهما الشحيحة، والعينين الواسعتين الشديدتي السواد، المندهشتين دائما لسبب وبغير سبب، يظلهما حاجبان ثقيلان طالما قال عنهما إنهما حارسان عنيدان، كل واحد منهما عبد أسود ممدد فوقهما يذود المتطفلين العطاش عن البئر العميقة، وابتسم لذكرياته التي بدت له طائشة وطفلية وسخيفة. واختلس نظرة أخرى إلى الوجه المحبوب ليرى إن كان قد تغير فيه شيء. كان الشعر الفاحم قد صفف بطريقة لم يسترح إليها جعلته يحن إلى الخصلة الطويلة التي كانت تتدلى منه ذات يوم وتهتز مع هزة الرأس في حرية وبراءة وطيش. وكانت هناك صرامة لم يألفها تكاد تحفر تجعيدة على الجبهة العريضة المتكبرة وتكسو الوجه كله بمسحة من الجد والتسرع والعزيمة التي لم يألفها فيها. وضحك فالتفتت إليه التفاتة سريعة، لا عن اهتمام حقيقي، بل ربما لتثبت له أنها لم تنس وجوده إلى جوارها أو لتخفف قليلا من جو المقابلة الذي خلا حتى الآن من المجاملة. وضحك مرة أخرى، وهو يقول لنفسه: وماذا يهمني؟ أليست هي بريسكا العزيزة نفسها؟ قبل أن يتجه نحوها بصوت يحاول ألا ينفض عنه ضباب الحلم: من كان يتصور أننا سنتلاقى؟
قالت بغير أن تبتسم أو تلتفت إليه: وفي هذا الحر!
فاستطرد كأنه يحاول أن ينتزع نفسه من الضباب فلا يستطيع: وبعد اثني عشر عاما!
فقالت في فتور لم يلاحظه: ألم تخطئ في العدد؟
فأجاب مؤكدا دون أن يفطن إلى الاشمئزاز الذي بدا في حركة شفتيها الممتعضتين: بالعكس. أستطيع أن أعدها باليوم، بل بالساعة إذا أردت. إنها اثنا عشر عاما وشهران و...
قالت مقاطعة وعيناها لا تزالان تتابعان الطريق الذي أصبح يسير الآن لدهشته محاذيا للنيل: تقصد أننا عجزنا إلى هذا الحد؟ فأجاب في خجل من اكتشف غلطته بعد فوات الأوان، وفي صوت متحمس يكاد يسترضيها: بالعكس، أنت صغرت عن سنك (أراد أن يطري جمالها الرائع، ولكنه خاف أن يتحول إلى خطيب). أما أنا فقد زدت عن سني الذي تعرفينه.
صفحه نامشخص
سألته كأنها تسامحه: أعرفه؟
فود لو يستطيع أن يهزها من كتفها ليذكرها، وهو يقول في ضحكة أزعجه رنينها الأجوف: هل نسيت أن عمري ثلاثمائة عام؟! والآن زدت عليها اثني عشر!
ضحكت ضحكة خيل إليه أنها صادرة من أعماق قلبها، وأسعده أنه استطاع أن ينتزع منها هذه الضحكة الصافية بعد هذه السنين الطويلة وهو على حاله المتواضع الذي كاد في غمرة حماسه أن ينساه، وساعده على أن يعود إلى ذكرياته انهماكها في قيادة العربة. كان ذلك حين تعرف عليها لأول مرة في المدرسة الثانوية في طنطا. كان يجلس في الفناء كعادته بعد الظهيرة يذاكر دوره في مسرحية أهل الكهف، ويجرب الإلقاء بصوته الجهوري حين سمع صوت الأستاذ حامد ينادي عليه في لهفة وفرح: ميشلينيا، يا ولد يا ميشلينيا. وأسرع يجري نحو مصدر الصوت وهو يكاد يكذب عينيه. كان الأستاذ حامد يقف بقامته النحيلة، ونظارته السميكة تعكس أشعة الشمس الغاربة، وشعره المنفوش يكاد يغطي أذنيه، وذراعه الطويلة الضامرة العروق تشير إليه، وكانت هي تقف معه، صغيرة وعبيطة في سن التلاميذ، تلبس بلوزة حريرية بيضاء وجونلة رمادية مخططة وإلى جانبها رجل ضخم في ملابس عسكرية أدرك لأول نظرة أنه أبوها، قدمه الأستاذ حامد مدرس التاريخ والمشرف على فريق التمثيل إليهما، وهو يربت على رأسه، ويقول: حضرته الأستاذ ميشلينيا. ثم وهو يسلم عليهما في خجل وبغير أن يرفع عينيه إلى وجهها: خلاص العقدة انحلت يا سيدي، ووجدنا بريسكا، سعادة البيك الحكمدار من مشجعي فن التمثيل، كان يعارض في أول الأمر ولكنني استطعت أن أقنعه، إن شاء الله تكون حفلة ناجحة ونكسب الكأس، لكن المهم كل واحد يحفظ دوره عن ظهر قلب؛ اللجلجة والتهتهة ممنوعة أمامي على المسرح. لم يستطع يومها أن يراها عن قرب؛ فقد تصبب عرقا وكاد يغرق في هدومه، واستأذن منصرفا وصوت الحكمدار يدوي في أذنيه: شدوا حيلكم، بس إياكم أن تأخذوا الحكاية جد.
وتتابعت المقابلات من ذلك اليوم. في كل يوم بعد الظهر يبدءون البروفة ولا ينتهون منها قبل غروب الشمس. هل يستطيع أن يذكر في حياته أسعد من تلك الأيام؟ ألم يكن يجري إلى المدرسة كالعصفور، بغير غذاء في معظم الأحيان وبسندوتش تدسه أمه في جيبه على الرغم منه حتى لا يموت من الجوع، ليكون أول من يرى سامية وهي تنزل من العربة البوكس التي كانت توصلها إلى باب المدرسة؟ ألم يكن ينتظرها على الباب ويذهب إلى لقائها وكأنه رآها صدفة ويتحاشى عيني الشاويش مجاهد الغاضبتين وهو يصافحها ويصحبها إلى الردهة الواسعة التي أقاما فيها المسرح؟ ألم يكثر من أكل سكر البنات لكي يجلو صوته فيرن على المسرح كأنه يوسف وهبي أو جورج أبيض؛ ليقول في صوت يتعمد أن يكون مؤثرا ليصل إلى قلبها برغم أنف الشاويش مجاهد الذي يجلس في الصالة على كرسي يحضره له ويكشر في وجهه كلما سمعه يمد رقبته ويلوح بذراعيه ويجري نحو سامية في لهفة لا تخفى على الأصم: ها أنت أخيرا يا بريسكا! وتقف هي - كما يقتضي الدور وتعليمات الأستاذ حامد الصارمة - مذعورة في بهو الأعمدة، تتلفت وراءها خائفة صامتة كالتمثال وهو يسألها هي دون غيرها: عجبا! أهذا استقبالك لي؟! أما كنت ولاريب تتوقعين رؤيتي الساعة؟ بل ربما كنت لا تحبينها. ويزداد ذهولها وشحوب وجهها الحلو الصغير كما تزداد تكشيرتها ودهشتها من جرأته وهو ينطلق كالراديو: لا بأس، بالرغم من هذا لا أكتمك أن مرآك في هذه اللحظة قد صيرني
وهل ينسى أنها كانت تتلجلج وتنسى دورها الطويل خلال الفصلين الطويلين، وأنه كان يحفظه بدلا منها ويلقنه لها كلمة كلمة لكي يحميها من تشنجات الأستاذ حامد العصبية ومن شد شعره وصراخه الذي لا ينقطع: يا ناس، احفظوا دوركم، حرام عليكم، الفن تعب، تضحية، استشهاد، هل تريدون أن يأكل الناس وجهي في المديرية كلها؟ هل ينسى أن عبد العزيز سيد أحمد ومحمود الحلواني كانا ينافسانه على دوره ولا يكتمان غيظهما منه؟ ألم يقل له عبد العزيز يوما بعد انتهاء البروفة: ولد يا صابر، والنبي تأخذ أنت يمليخا؛ يا شيخ أنا زهقت منه ومن بؤسه، رجل غلبان لا له في الحب ولا في الستات، يعنى مهما يكن، راع لا طلع ولا نزل. بس شاطر يصرخ ويقطع قلبي: إلى الكهف، إلى الكهف، إنا أشقياء. أشقياء. هذا العالم ليس عالمنا. خذه أنت يا صابر. ومعه قطمير فوق البيعة. ألم يحسده محمود الحلواني أيضا وإن لم يصارحه بكلمة واحدة؟
لقد كان يتابعهما بعينيه الصامتتين في كآبة لا تخفى عليه وإن حاول أن يداريها بصمته وعدم اكتراثه. كان يقول له وهو يركز عينيه على وجهها الصغير وقدميها النحيلتين: حلال عليك يا عم بريسكا المفعوصة، الحمد لله أنا مرنوش، فإذا نظر إليه نظرته التي تقول: اطلع منهم، قال له في استخفاف: ومتزوج وعندي عيال، الواحد منهم عمره ثلاثمائة سنة، المهم ربك يختمها على خير. كانوا جميعا يغارون منه ويتمنون أن يقفوا وقفته أمامها، وأن يكلموها بكلام لم يقولوه هم ولكنه يصدر عن قلوبهم الوحيدة الخاوية، وأن يصرخ الواحد منهم فيها أمام المدرسة وأمام المتفرجين وأبيها الحكمدار والحكومة كلها: بريسكا، لا تتركيني، لا تتركيني، وإلا سقطت في الجحيم. صحيح أنهم لم يروه ينفرد معها؛ فالشاويش مجاهد رابض في الصالة، ووجهه أسود من الليل، وعيناه تطلقان شرارا، ولم يشكوا لحظة في أنه يمكن أن يتجرأ ويلمس شعرة منها. كما أنهم كانوا يلاحظون كيف تعامله كما تعاملهم جميعا في أدب وبرود وتعال وكأنها فعلا الأميرة بنت الملك دقيانوس، وهم مجرد مشعوذين مساكين معفرين بتراب الزمن والكهف والنسيان. ولكنها الغيرة التي كانت تأكل قلوبهم وتسعد قلبه، وتجعله يبدو أمام نفسه منتصرا من غير أن يدخل في معركة.
ما كان أجمل هذه الأيام! إنه لا ينسى ذلك اليوم الذي تأخرت فيه عربة البوكس عن الظهور بعد البروفة. انصرف زملاؤه وتركوه يقف إلى جوارها عند سور المدرسة. ربما لم يخالجهم الشك في أن البوكس لا يلبث أن يحضر، وفيه مجاهد بوجهه الذي يقطع الخميرة ويجلب النحس، ثم إن عم حسان بواب المدرسة العجوز كان يقف معهما ويهز رأسه أسفا على شبان هذه الأيام وعلى التمثيل والكلام الفارغ الذي يضيعون وقتهم فيه، وعندما طال انتظارهما أحضر لهما كرسيين، ومضى الوقت وهما يترقبان العربة في كل لحظة، كان يتكلم طول الوقت معها أو مع عم حسان، وإن كان بالطبع يقصدها هي؛ ليضيع الوقت، عن صعوبة التمثيل، عن المجد الذي ينتظر الممثل في حياته والبؤس الذي ينتظره في موته، عن عائلاتهم التي تعيش كالمواشي ولا تفهم شيئا في الفن، ومع ذلك تجاهر باحتقاره. وعندما هتفت زائغة العينين مصفرة الوجه: يا خبر! الليل دخل! أخذته الشهامة، وعرض عليها أن يوصلها. وعندما أبدت معارضتها في أول الأمر وتلفتت إلى عم حسان كأنها تستنجد به - وهو ولا هو هنا - قال لها في صوت تعلم من كثرة الإلقاء على المسرح كيف يحافظ على ثباته: المسافة قريبة. ثم إنني لن آكلك! كانت السماء صافية في ذلك المساء كما لم يرها من قبل، فلم يكن يهتم في يوم من الأيام بأن يلاحظ إن كانت صافية أو غير صافية. وكان القمر بدرا كاملا، يمشي معهما كأنه طاقة فتحت عليه من ليلة القدر، وديعا، طيبا، مبتسما كأنه أمير صغير يسبح في قارب فضي ويراقب رعيته من النجوم التي تحرسه من حوله. قال لها وصوته يرتجف: ماذا تنوين أن تفعلي في المستقبل يا بريسكا؟ قالت وهي تراعي المسافة التي تفصل بينهما: أبي يريد أن أدخل الجامعة. فقال وكأنه يخاطبها من فوق خشبة المسرح: هذه إرادة أبيك، وأنت؟ فقالت في تهور وقد شجعتها نبرته القوية: سأمثل.
فسأل في توسل: إذا قمت مرة بدور بريسكا، فهل تتذكرين ميشلينيا؟ قالت في غباء خيب أمله: لم لا؟ وإن كنت لا أفكر في التمثيل على المسرح.
قال مفزوعا: لن تمثلي على المسرح، أين إذن؟
فقالت ضاحكة من سذاجته في استهتار روعه: في السينما طبعا.
صفحه نامشخص
قطب وجهه، وسار صامتا إلى جانبها لا يجد كلمة يقولها، كان يريد أن يستطرد في الحديث عن روعة التمثيل وعظمته، عن مجده وتعاسته، عن عذابه ولذته، فيجد طريقا للحديث عما يحسه نحوها. ولم لا يفعل ويزيح الحجر الثقيل عن قلبه، ويقول لها إنه أحبها من أول يوم وقف فيه أمامها، وقال لها في صوت جمع فيه كل لهفته وشوقه وسخطه وتحديه لزملائه وللأستاذ حامد ولأبيها وللمدينة بأسرها: بريسكا العزيزة، إني أترقبك منذ وقت طويل. ولكنه لم يفعل! وشعر بيأس يخنقه، أهذا هو آخر التعب والتفكير والحفظ والتمثيل؟ أهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها ويعمل لها ويرتب الكلمات المحفوظة لاستقبالها؟ وتلاطمت الأفكار في رأسه كالأمواج العكرة الغاضبة. وتمخض الصراع في نفسه أخيرا عن حركة من يده، خيل إليه أنها ستغير تاريخه إلى الأبد. مد يده فلمس يدها. لم تبد معارضة. رفعها إلى فمه وقبلها، فسحبتها كأنما لسعتها شظية، وقالت في استهتار أغاظه حتى تمنى لو يستطيع أن يصفعها: ألا تخشى أن يضعك أبي في التخشيبة؟! سحب يده إلى جانبه، ومضى صامتا مطرق الرأس مفجوعا، ولم يطل صمته فقد رأى نور كشاف يلمع من بعيد، وما هي إلا لحظات حتى كان البوكس يقف أمامهما وعم مجاهد - كما كانت سامية تسميه - يخرج منها كعزرائيل ويفتح لها الباب فتدخل، وهو يقول لها: لا مؤاخذة يا ست هانم. البيه كان مع النيابة في جناية قتل. وتركاه واقفا في مكانه دون أن يقول أحدهما كلمة أو يلتفت إلى وجوده.
وقفت العربة فأيقظته من حلمه، وجاء صوت سامية الضاحك: وصلنا يا يمليخا، تفضل معي.
وأغضبه أن تناديه بيمليخا مع أنه لم يكن يكره شيئا كما كان يكره ذلك الدور، الذي كان يقوم به عبد العزيز. وأين يأس يمليخا وانهزامه ونحول صوته وجسمه من حيويته وحماسه، بل تهوره وعذابه؟ قال وهو يحاول أن يفتح الباب فتسارع بمساعدته: تريدين ميشلينيا، هل نسيت أيضا أنني ميشلينيا؟ واندفعت تصعد السلم وهي تشير إليه ضاحكة: وهل عندي وقت لأتذكر كل شيء، أسرع. أسرع؛ أمامي نصف ساعة فقط أغير فيها هدومي وأذهب للاستوديو.
انطلقت تجري على السلم الرخامي الجميل وهو في إثرها، أسخطته إجابتها التي كان يتمنى أن تكون أكثر احتشاما، كما أغضبه أنها لم تعطه الفرصة ليتفرج على العمارة الفخمة من الخارج، ود لو يسألها عن الحي الذي تسكن فيه، ولكنه أشفق على نفسه من سخريتها، وفتحت باب الشقة امرأة عجوز، صغيرة الوجه، وتعجب لضيق عينها وتكشيرة حاجبها التي بدا له أنها لا تتناسب مع الطرحة البيضاء الوقور التي كانت تضعها على رأسها. قالت سامية دون أن تحييها: اعملي شاي بسرعة يا أم محمد؛ عندي صداع، لا تنسي الأسبرين على المكتب، ثم التفتت بسرعة لصابر الذي وقف في الصالة مذهولا يتأمل قطع الأثاث الفخمة، ويتعجب من تكويناتها الحديثة الجريئة ويحدق في اللوحات والمصابيح التي تطلع كأوراق الشجر المضيئة من كل الجدران، وقالت دون أن يبدو عليها الاهتمام أو الاستغراب لذهوله: واعملي للبيه شاي أيضا، أو تحب الكوكاكولا يا يمليخا؟ انتزع نفسه من تأملاته، وقال غاضبا: قلت لك ميشلينيا، ثم في خجل من صياحه في بيت غريب عليه وهو ينظر في تودد إلى العجوز: أشرب شاي مع الهانم. قالت أم محمد وهي تنظر إليه نظرة ودودة دون أن يبدو عليها أنها اهتمت بالإصغاء إليه: «حسني بك منتظرك من ساعة، قاعد في الصالون.» جرت سامية كالفراشة، وفتحت بابا وهي تهتف: صحيح؟ هاللوا! تعال يا حسني؛ ليس عندي وقت للسلام والكلام، عارفة كل شيء (وهنا ظهر على باب الصالون رجل يقترب من الأربعين أذهل صابرا بياض جلده الشديد وصغر وجه ودقة شاربه المرسوم بعناية فوق شفة غليظة داكنة لا تتناسب مع رشاقة الوجه واتساع العينين اتساعا شديدا).
نسيت أعرفكم ببعض، حضرته الأستاذ حسني، مخرج فيلمي الجديد، مصرع العشاق، أليس كذلك يا حسونة؟ أو نسميه اسما آخر، لا فيه موت ولا دم؟ مصرع الأحباب مثلا؟ اسم شيك، أو أقول لك: نسأل الأستاذ ميشلينيا، حضرته الأستاذ صابر، صابر محمد مرزوق، زميلي في التمثيل أيام زمان (ومدت في الميم إلى حد أخاف صابرا حتى خيل إليه أنها شدته من رأسه فخشي أن يصطدم بالسقف). أليس كذلك يا ميشو؟ (وهنا خيل لصابر أنها تنادي على كلب) عن إذنكم، أغير هدومي، لحظة واحدة، اقعدوا مع بعض.
وجلس صابر على كرسي أشار إليه الأستاذ حسني، لم يرفع وجهه إليه فقد كان لايزال مبهورا بالجو البلوري الذي وجد نفسه فيه فجأة كأنه في قصر مسحور، مأخوذا بالثراء والفخامة والإهمال البديع في كل شيء، وغارقا إلى أذنيه في كلمات سامية التي نزلت كالمطر فوق رأسه، فلم يدر هل هي تجامله أم تسخر منه؟ وقبل أن يفيق جاءه صوتها - صوت بريسكا المحبوبة الذي أصبح خليعا وجريئا وغير مبال: مثل والنبي يا ميشو، قل له يا حسونة حتة صغيرة من أهل الكهف. كان اسمها أهل الكهف بتاعة الحكيم، أليس كذلك؟ علشان خاطري، أنا سامعة.
وقبل أن يفيق مرة أخرى جاءه صوت الأستاذ حسني الهادئ الناعم الذي خيل إليه أنه يشم له رائحة كرائحة العطر: «لو تكرمت يا أستاذ، ولو سطرين ثلاثة، تأكد أنني أقدر المواهب، وربما يكون لك نصيب تشتغل معنا؛ أنا أخرجت لسامية ثلاثة أفلام، وأمامنا الآن فيلم.»
لم يدر صابر بماذا يرد؛ تكوم على نفسه كأنه يدافع عنها ضد هجوم مدبر خسيس، ولما عاد الأستاذ حسني يلح عليه في صوت جاد لم يخطئ فيه نغمة صادقة تشجعه ألقى بظهره على المسند الناعم، وقال في هدوء: معذرة، بعد أن يحضر الشاي.
وصرخت سامية من وراء باب غرفة النوم الموارب تلعن أم محمد وتستعجلها وتهددها في نفس واحد. وجاءت صينية زجاجية تزينها خطوط ذهبية وفوقها أكواب الشاي. مد صابر يده فتناول كوبه وأحس بنشوة الدفء بعد الجرعة الأولى، نشوة يكاد يغرق فيها تعب اليوم كله. وأغمض عينيه، وتمنى لو يستطيع أن يتمدد ويستريح وينسى كل شيء. وقبل أن يغفو جاءه صوت سامية من وراء الباب: نسيت أسألك يا ميشو، أين كنت الآن؟ قال وهو يغالب النعاس: كنت أتسوق من الموسكي. سألت من جديد: هدوم مثلا؟ قال في صوت لا يخفي ضيقه: لا، بقالة للدكان؛ سمن وزيت وصابون وتوابل من كل الأصناف، أصلي أنا الآن أعمل مكان أبي. سألت للمجاملة: يعني تاجر؟ أجاب كأنه يؤكد حزنه على المصير الذي انتهى إليه: نعم، على قد الحال؛ والدي مات وأنا في التوجيهية، حضرتك كنت انتقلت من البلد مع البيك الحكمدار، ترك لي ثلاث بنات وولدين، كان لا بد من وجودي معهم لأباشر الأرض وأقعد في الدكان. سألت من جديد في استهتار تعجب كيف تقدر عليه: وعندك أولاد يا ميشو؟ فأجاب في حسرة ولكن في استسلام: خمسة، يبوسو أيديك.
وفاجأته صيحة من الأستاذ حسني: اسكتي أنت! الرجل يريد أن يمثل، يالله يا أستاذ، قل لنا قطعة على الماشي.
صفحه نامشخص
قال صابر معتذرا وقد أعجبه اهتمام الأستاذ حسني به: ولكنني لا أذكر شيئا. ألح الأستاذ حسني: أي شيء. قال صابر في إخلاص كاد أن ينفجر له حسني ضاحكا لولا أنه تحكم في نفسه: الحقيقة أنني نسيت أغلب دوري مع الست هانم، كانت دنيا وراحت. سأل حسني في عطف وكأنه يتمنى لو يستطيع أن يبكي: كان دور ميشلينيا نفسه؟ فأحس صابر أن الإلحاح عليه زاد عن حده وأنه من الجحود وقلة الذوق أن يقابله بالصمت والجمود. فتحامل على نفسه وشد عضلاته ووقف في وسط الصالة. أطاح رأسه بهزة واحدة إلى الخلف وكشر ملامحه. عقد جبينه وزم شفتيه بكل قوته ومد ذراعيه إلى الأمام كالمستجدي، وقال: «نهاية الفصل الثالث. بهو الأعمدة. الوقت ليل والمكان مضيء.» ثم انفجر في صوت فوجئ به حسني، وذعرت أم محمد، فأسرعت تجري من المطبخ ووقفت خلفه تنظر إليه في ذهول: نعم، نعم. الوداع! يا ... يا ... لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس بعظم ما نزل بي، لا مرنوش ولا يمليخا رزئا بمثل هذا، إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها. وإذا الليلة أجيال، أجيال. وأمد يدي إليك وأنا أراك حية جميلة أمامي، فيجول بيننا كائن هائل جبار، هو التاريخ.
ويبدو أن لم يكن قد انتهى حين أطلت سامية فجأة من الباب، بقميص نوم وردي شفاف، ومدت ذراعها ضاحكة ضحكة رنت في أذنه كوقع وعاء نحاسي يرتطم فجأة بالبلاط: الوداع
لا يدري صابر حتى الآن ماذا حدث له في تلك اللحظة؟ تراخت عضلاته. تفكك جسده. انهار على الأريكة كأنه تمثال من القش. لم يستطع أن يثور، لم يستطع أن يبكي، لم يفكر أيضا لا في الثورة ولا في البكاء، بل ربما لم يفكر في أي شيء بالمرة، وأسرع حسني إلى غرفة النوم متأففا وهو يؤنب سامية بصوت يحاول أن يكون مرتفعا. ودق جرس الباب في هذه اللحظة فدخل رجل ضخم، شعره مجعد وطويل وفاحم، وعيناه شديدتا السواد مخيفتان إلى حد أن صابرا لم يستطع أن يثبت عينيه فيهما أكثر من لحظة واحدة. كان صوته أجش وبدا لصابر كأنه ثور غبي، وهو يقول: هل هده مواعيد يا عالم! من الصبح أنتظركم، والناس تسأل عنكم والبلاتوه جاهز، والمنتج الذي كان موعده معك يا سي حسني على البار، وكاتب السكريت يا ست سامية منتظر هناك على نار، إن لم تنزلوا حالا ضاعت علينا الفرصة، أعوذ بالله من هذا الحر، الدنيا نار، بسرعة يا ست سامية، اعملي لك قلب.
كان الرجل الضخم قد وقف أمام باب غرفة النوم فسده بهيكله الجبلي وصوته الأجش وكل شيء هائل فيه. لم يلاحظ وجود صابر، بل وقف في مكانه كأنه يكتم أنفاسه. ورن جرس التليفون. وسمع صابر صوت سامية تتكلم في نفس واحد، ووجد صابر نفسه ينهض من على الكرسي وقد خيل إليه أنه استراح قليلا، ودون أن يحس به أحد مشى على أطراف أصابعه إلى الباب الخارجي ففتحه في هدوء، حتى العجوز الطيبة أم محمد، التي كانت تقف لحظتها في المطبخ وتعطي له ظهرها بحيث يرى طرحتها البيضاء فوق رأسها بوضوح، لم تحس به وهو يغلق الباب وراءه.
1964
الست الطاهرة
نحن في عز المولد. صياح الميكروفونات والناس والعربات وحلقات الذكر يصم الآذان. القزم عتريس يدخل من باب الجامع في طريقه إلى المقام. الشحاذون يبتسمون، الزوار يتلفتون إليه ويبتسمون، السقاءون الواقفون في الممر الطويل كتماثيل من الخشب ينظرون إليه بعيونهم الحزينة الجامدة ويبتسمون. عتريس يدخل المقام وينحشر وسط الزحام، وسط الأجساد والأيدي المتشابكة تتلمس يداه الصغيرتان موضعا على الشباك يريح وجهه المكرمش العجوز عليه. تتمتم شفتاه، يعلو صوته، لكن أصوات الدعاء والتكبير والتلاوة أعلى منه. الزوار يلمحونه ويعجبون. كم يكون عجبهم لو عرفوا أن الست أيضا تكلمه، تكلمه وحده دون غيره؟ - من ينادي علي؟ - يا ست! نظرة يا ست! عتريس يا ست، القزم عتريس. - أنت جئت يا عتريس؟ - جئت يا ست، أبوس الأيادي، أركع عند رجليك. أشم رائحتك الطاهرة. - الغيبة طالت يا عتريس. - دخت يا ست، تهت في بلاد الله وشرقت وغربت، لا شغلة ولا مشغلة. - والسيرك يا عتريس؟ - قفلوه في وجهي. قالوا لي: عجزت ولا بقى فيك حيل. من يوم ما وقعت يا ست. - وقعت؟ - من على ظهر الحصان. كنت أنادي على عادتي بعزم ما في وأقول نفسك معي يا ست. قلت أعمل حركة من حركاتي المشهورة وأضحك الناس. وقعت على الأرض رأسي تحت ورجلي فوق. الناس ضحكت لغاية ما شبعت، لكن رجلي انكسرت، ظهري انشرخ. - وبعدها يا عتريس؟ - أخذوني إلى المستشفى، وضعوا رجلي وظهري في الجبس سبعين يوما وحياتك يا ست، سبعين يوما وحق مقامك الطاهر. - وبعد ما خرجت من المستشفى ؟ - سألت عليهم، قالوا لي: في مولد الست. يا ناس أرجع لشغلي. لأ يا عتريس. يهديكم يرضيكم. أنت عجزت يا عتريس. طيب جربوني. عمرنا ما شفنا البهلوان على عكاز. نفسي أضحك الناس. ستضحك الناس علينا يا عتريس. يا ناس ترموني رمي الكلاب؟ رزقك على الله يا عتريس. صرخت بعزم ما في: يا طاهرة! سقت عليك النبي يا حبيبة! - وسمعتك يا عتريس. - عارف يا ست. لكن العمل؟ - العمل عمل الله يا عتريس. - كلمة منك تفتح الأبواب، دعوة منك تحنن القلوب. لأجل الحبيب الشفيع تشفعي لي يا حبيبة. - عند من يا عتريس. - عند أصحاب الأكشاك يا ست. ألعابهم كثيرة. صحيح انكسرت وما عاد في حيل، لكن أقدر أضحك الناس، أحكي لهم حكايتي، أحلف لهم أني يا ما أضحكت ناس وأبكيت ناس. - رح يا عتريس، ربنا يفتح لك الأبواب.
في اليوم التالي عاد القزم عتريس إلى المقام. الشحاذون على باب الجامع رأوه وابتسموا. الزوار لمحوه يتدحرج في الممر الطويل ولولا قداسة المكان لضحكوا. السقاءون الواقفون كتماثيل من خشب نظروا إليه بعيونهم الجامدة الحزينة وابتسموا. تزاحم عتريس وانحشر بين الناس. تحسس الشباك الطاهر وشم العطر وراح في الجلالة، وقال: يا ست! - قل يا عتريس! - رحت لهم يا ست، فت عليهم واحدا واحدا. - من يا عتريس؟ - كلهم يا ست، الساحر الأسود، شيطان الموت، الغول العظيم، الحاوي العجيب، حتى الأراجوز فت عليه. - ومن هو الأراجوز يا عتريس؟ - رجل صغير يعلقونه من شعره بسلك ويحركون رجليه ويديه بسلوك. طول النهار يشتم ويلعن ويسب. - ابعد عنه يا عتريس. - هو الذي أبعدني يا ست. - والباقون؟ - قلت لهم أشتغل معكم. قالوا لي: راحت عليك يا عتريس. يا ناس ولو نمرة واحدة. ما عاد فيك حيل يا عتريس. يا عالم ولو تقعدوني على المسرح والناس مصيرها تضحك. الناس غير أيام زمان يا عتريس. طيب أقف على رأسي، مرة واحدة يا عالم، تقع تموت يا عتريس، ونروح في داهية معك. - معهم حق يا عتريس. - تقولين معهم حق يا ست ؟ - شعرك أبيض، قلبك تعب يا عتريس. - القلب لا يتعب من ذكرك يا ست. طيب تصدقي بالحبيب؟ - عليه أفضل الصلاة والسلام. - لو تسمحين لي يا ست؟ - ماذا تريد يا عتريس؟ - أقف على رأسي مرة واحدة قدامك؛ أثبت لك أن عتريس هو عتريس، بهلوان زمانه ووحيد عصره وأوانه. - هنا في المقام؟ يا للعيب يا عتريس! - من نفسي يا ست. مرة واحدة يا حبيبة. مرة واحدة لأجل الحبيب. - عيب يا عتريس.
دمدم الصوت المنبعث عن المقام، زام في أذنه كالريح، غامت الدنيا في عينيه، امتدت يد فرفعت يده عن الشباك الطاهر في عنف، زعق صاحبها الذي بدت رأسه كأنها القبة: اسع وصل على النبي! انتبه عتريس إلى العملاق الواقف إلى جانبه وخاف أن يدوسه، يخنقه، يرميه من الباب. صرخ: والعمل يا ست؟
جاءه الصوت العميق الهادئ كأن حمامة توشوشه: اسع وصل على النبي يا عتريس. - الأبواب كلها اتقفلت في وجهي يا ست. - إلا بابي يا عتريس، إلا بابي. - يرضيك عتريس يصبح شحاذا يا ست؟ - الأرزاق على الله يا عتريس.
صفحه نامشخص
يومها وقف القزم عتريس على باب الست، طول النهار وقف على باب الحبيبة بنت الحبيب؛ يصعب على واحد ويضحك عليه عشرون. الستات تشير إليه وتقول: شوفوا خلقة ربنا! والأطفال تصرخ وتقول: شوفوا الرجل المسخوط. والمشايخ يستعيذون بالله ويقولون: امش من هنا ورزقك على الله. والشحاذون يطردونه ويقولون: ما بقي غير البهلوان يقف قدام صاحبة المقام. عتريس صعبت عليه نفسه، غضب ودخل المقام ورفع يديه وقال: نفسك معي يا ست، نفسي ضاق يا بنت بنت الحبيب. - رجعت يا عتريس؟ - الشحاذة للشحاذين يا ست، وأنا طول عمري فنان. - ما معنى فنان يا عتريس؟ - أمثل، أضحك الناس، أدهن وجهي بودرة، أقف على رأسي. انظري.
وأحس عتريس أن الشباب عاد إليه، وبحركة مفاجئة كان يقف في وسط المقام كالبصلة. رأسه تحت ورجلاه في السماء. وبحركة مفاجئة أيضا هاج الناس، ورفع المشايخ وجوههم عن المصاحف، وهجم عليه حارس المقام فأمسكه من رقبته وزعق: يا نجس! يا ملعون، وحق مقام الست الطاهرة لأشدك على القسم!
في الزنزانة المعتمة على البرش الخشب، نام عتريس وهو يفكر فيما جرى له، ويتذكر حياته القصيرة قصر جسمه. وبالليل طلعت له الست الطاهرة، وجهها مضيء كالبدر، جبهتها صافية كاللبن الحليب، ثوبها أبيض في أبيض كالملاك. - عملتها يا عتريس؟ - أمر الله يا ست. - وفي المقام! - معذور وحياتك. - الدنيا واسعة يا عتريس. - الدنيا ضاقت في وجهي يا ست. - وتتشقلب في المقام يا عتريس؟ - كان نفسي ألعب مرة قدامك، مرة واحدة قبل ما أموت. - هجموا عليك كلهم. - كلهم يا ست؛ المشايخ والعساكر، الشحاذون والسقاءون، الأفندية، والفلاحون. - ورموك في الزنزانة. - على البرش الخشن، في العتمة والرطوبة، وسط الفيران والبراغيث. - تعبان يا عتريس؟ - كل واحد ونصيبه يا ست. - زعلان يا عتريس؟ - كلك نظر يا أم العواجز. - ألا تريد أن تسامحني؟
فتح القزم عتريس عينيه قبل أن يغلقهما إلى الأبد. تنهد بصعوبة وقال: لا يا ست. أبدا أبدا.
1964
ابن السلطان
رأيته لأول مرة في دكان أبي.
كنت في ذلك الحين في السابعة أو الثامنة من عمري، أختلف على المدرسة الابتدائية الواقعة في البلدة المجاورة على حمار هزيل يعرف الطريق أكثر مما أعرفه، وربما كان يعرف عن العالم أكثر مما أعرف.
كنت أقرأ درسا في كتاب الجغرافيا، عن منطقة عجيبة اسمها المنطقة الاستوائية. وكان اليوم من أيام الصيف القائظة، وجسدي ينضج بالعرق، ورأسي مثل قدرة الفول تغلي وتفور، أغلقت الكتاب وأخذت أفكر فيما قرأت، هل يمكن أن تكون الحرارة في خط الاستواء أشد مما هي عليه في بلدنا؟ وأيقنت أن الكتاب لا ريب مخطئ، وأن خط الاستواء يمر من بلدنا بغير شك، وأقبلت على الساحة المواجهة أبحث فيها عن مكان الخط الملتهب فلم أر أمامي غير سوق القرية يحوطه سور خشبي مهدم في أكثر أجزائه، وترقد فيه قطعان من الخرفان والجاموس والحمير، وأحسست بفيض من السعادة وأنا أنظر إلى هذه القطعان التي لا تعرف شيئا عن خط الاستواء.
كان ذلك في يوم السوق، وكان دكان أبي في مدخل القرية، يلتقي فيه الفلاحون القادمون من الكفور المجاورة فيطلبون طبقا من الفول، أو يستريحون في الظل، وكنت أعجب لأن أبي يعرفهم جميعا، وأعجب أكثر من ذلك؛ لأنه يحبهم جميعا. فلا يكاد أحدهم يدخل الدكان مجهدا من عناء السكة الطويلة حتى يستقبله مرحبا، مناديا باسمه، سائلا عن الصحة والعيال، بل لقد كان يعرف من طلق منهم زوجته، ومن مات ابنه، أو فطست بهيمته، أو سرق أولاد الحرام جرنه، كل منهم يجد الكلمة الحلوة عنده: ربنا يعوضك خيرا، كل شيء قسمة ونصيب، الحمد لله على الستر، النسوان ليس لها أمان، والمرأة مثل القطة تأكل وتنكر، الأمر أمره؛ لهذا كان أبي تاجرا ناجحا، وكل من يحاول أن يفتح مطعما إلى جوارنا تكسد تجارته، ويعزل بعد أيام.
صفحه نامشخص
كنت في ذلك اليوم مسترخيا في الظل، أراقب ما يجري في السوق، وكان أبي قد سمع كلام الفلاحين، فلم يعد يجبرني على العمل معه، أو يؤنبني على كسلي، بل إنه قد غفر لي كل شقاوتي حين علم أنني عرفت الجهات الأربع، وأنني أضع له سجادة الصلاة ناحية القبلة تماما.
وكنت أتابع وجوه الزبائن يدخلون ويخرجون من دكاننا دون أن أجد بينها ما يلفت النظر - فقد كانوا جميعا كأنهم أولاد أب واحد - حينما وجدت رجلا يقف أمامي ويحملق في وجهي، الحقيقة أنني خفت منه في أول الأمر، وأيقنت أنه لا يمكن إلا أن يكون مجذوبا أو وليا من أولياء الله؛ كانت شفتاه الدقيقتان المجروحتان في أكثر من موضع ترتعشان بصوت خفيض، وكان وجهه شاحبا، وصدغاه غائرتين، وعظام خديه بارزة، وعيناه المفتوحتان كعيني ذئب جائع تقاومان جفنين يريدان أن ينطبقا عليهما، وكان العرق ينضح من جبهته، ويسيل في خطوط سوداء متعرجة على خديه، كأنه دماء جمدت من أثر جرح قديم. الحق أنني استغرقت في النظر إليه فلم أتبين كلامه، ولو أنني سمعته حينئذ لقلت له: لا تتكلم، انظر حتى أشبع منك! وانتبهت على صياح الزبائن من الداخل وعلى اثنين منهم يندفعان إلى عتبة الدكان ويجذبان الرجل وأحدهما يصرخ مهللا: شوفوا يا جماعة ابن السلطان!
ويصيح الرجل وهو يضربه على ظهره: والله سلامات، كنت تائها يا عم؟ ويجئ رجل آخر ترك طعامه ليشترك في استقبال الزائر الجديد: من كثرة ما لف في الأرض، قلبها من ظهرها لبطنها. ويضحك الجميع، ويقبلون على الضيف وهم يضحكون ويثرثرون ويأكلون، وكان أبي أكثرهم بشاشة في وجهه؛ لأنه اعتبره ضيفه هو؛ ترك مكانه وأقبل عليه يربت على كتفه ويتحسس عظم ظهره: والله زمان، هكذا تنسى الأحباب والأصحاب! وحشتني، وتنسى مطعم الصدق والأمانة! وحشتني قوي.
ولبث الرجل جامدا كالتمثال، عيناه ذاهلتان تجولان في وجوه الحاضرين، كأنه يستعرض مخلوقات من فصيلة أخرى، ربما كان يفضل في هذه الساعة أن يستلقي لينام كالميت، ونظر أبي إليه، وفحصه بعينيه فترة قبل أن يقول: ابن السلطان، ما لك؟ فأجاب كأنه لا يفهم: هه؟ فعاد أبي يقول وهو يخبط على ظهره: يعني لا تضحك ولا تتكلم! وتدخل رجل يمزج الحنان والشوق في صوته: ابن السلطان دائما مسافر، من أين جئت الآن؟
فقال الرجل بدون أن تطرف عيناه: من الشرق، فعاد يسأله وكيف أحوال الرعية؟
ولكنه لم يجب، بل التفت إلى أبي قائلا: عم إبراهيم.
فقال أبي: أمرك يا سلطان.
فعاد يقول في صوت ود لو لم يسمعه أحد: ميت من الجوع. ويبدو أن هذه الكلمة قد لمست قلب أبي فأسرع إلى الأطباق يعدها، وفي لحظة كان الطعام أمام الزبون الجديد الذي أقبل عليه بنفس مفتوحة. ولما شبع الزبائن من النظر إليه، والحديث معه، بدءوا يتفرقون واحدا بعد الآخر إلى السوق أو البلد أو القهوة المجاورة.
لم يتح لي في ذلك اليوم أن أتحدث معه، ولكنني اعتدت بعد ذلك أن أراه في دكان أبي، فقد كان من الزبائن المستديمين، وكان أبي يخصه بكثير من العطف، ومن الطعام الجيد - وقد يكون العطف في بعض الأحيان عملا تجاريا ناجحا - وكان وجوده يشيع في المكان جوا من الألفة والبهجة والمرح، ولكنه كان في كل يوم يبدو في زي جديد - مرة يلبس عمامة كبيرة، ويتدثر بعباءة فضفاضة كالمغاربة. وحينا نراه وعلى ظهره قربة كبيرة يمر بها على الناس في السوق، وقد أراه على فرس كما حدث في مولد صاحب المقام؛ إذ علمت أنه أصبح من السادة الرفاعية، وأنه قد حمل الراية، وتبعه المريدون، يسيرون في موكب طويل يشق طرقات البلد، ويملأ جوها بدقات الطبول، ورنين الصاجات، وعبير البخور.
وكان يمكن أن يظل «الشيخ سيد» مغمورا خامل الذكر لولا أنه جر على نفسه المتاعب، من كان يصدق أن سيرته يمكن أن تتجاوز الفلاحين، وعمال الطرق، وجامعي الدودة، وأطفال المدرسة الأولية، إلى أسماع السلطات؟! لا شك أن الشيخ سيد هو الذي جنى هذا على نفسه، فلولا طيشه وسوء تدبيره لما وضع رجله في النقطة، لقد أتعب الرجال الثلاثة «الذين ندبتهم النقطة من المديرية رأسا» في تقصي أحواله، ودوخهم بين الأسواق والغيطان والجوامع والشوارع.
صفحه نامشخص
فقد دأب على السير بين الفلاحين والتجار الوافدين على القرية في أيام السوق، والهتاف بصوت عال «يحيا العدل»، وبالطبع لم يكن أحد ينتبه إليه، أو يسأله عن معنى ما يقول؛ فقد اشتهر عنه أنه قد صار من أحباب الله، ولو أنه اقتصر على هذا الهتاف وحده ما كان في الأمر ما يدعو إلى القلق؛ فلقد ضبطوه في بعض الأحيان وهو يهتف «يسقط الظلم».
ويوما علمت أنه قد مثل أمام ضابط النقطة، وكان كعادته حافي القدمين، مهلهل الثياب، منفوش الشعر، طويل اللحية. قال له الضابط وهو يتفرس في وجهه: اسمك؟ - ابن السلطان. - ماذا؟
فمال أحد المخبرين على أذنه وهمس فيها شيئا، وعاد ضابط النقطة يسأله: وأبوك، أين هو؟
فأجاب «الشيخ سيد» دون تردد: في الشرق. - في الهند مثلا؟
فهتف «الشيخ سيد»: لا، في الصين.
ولم يستطع الضابط أن يكتم ضحكه، فأقبل عليه وقد زاد اهتمامه بأمره. - عال، عال، وأين تقع الصين؟
فمد «الشيخ سيد» ذراعه وأشار ناحية الشرق، من هنا.
وسأل الضابط بعد أن نهض من مكتبه، وأقبل نحوه يربت على كتفه كأنه يفحص حيوانا أليفا: وماذا يفعل هناك؟
فأجاب «الشيخ سيد» في حماس: يحارب الكفرة.
فرفع الضابط حاجبيه من الدهشة وعاد يسأل: ومن هم؟ الصينين؟
صفحه نامشخص
فصاح «الشيخ سيد»، وهو يعجب من جهله: لا، العسكر واليهود. - وهل هو هناك من زمان؟ - من ألف سنة.
وضع الضابط يده على فمه، ثم وضعها على بطنه، وقال بعد لحظة: يا سلام! لا بد أنه أفناهم عن آخرهم، ومتى يعود؟
فبرقت عينا «الشيخ سيد»: هل تشك في عودته؟ إنه سيعود حتما، سيعود ليمحق الكفرة، سيعود راكبا.
فقاطعه الضابط: حمارا؟!
فاستنكر «الشيخ سيد» ما يبديه محدثه من الامتهان لمقام السلطان، وصاح غاضبا: ما هذا؟! هل يعقل أن يركب السلطان حمارا؟! إنه يركب فرسا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض على رأسه.
ولم يشك الضابط في أنه قد بدأ يهذي، وأراد أن يسأله سؤالا أخيرا: وهل السلطان هو
فهاج «الشيخ سيد»، وتهدج صوته وهو يصيح: إنه أبي وأب جميع الناس، يحبهم
سيقبلون قدميه ويقولون له: شرفت بلدنا يا مولانا السلطان.
وانفجر «الشيخ سيد» باكيا. كان في بكائه شيء أعمق من الحسرة ومن اليأس، مثل طفل ضاع منه أبوه في الزحام فوقف على الطريق يسأل كل عابر سبيل: هل رأيت أبي؟
فلما لم يجد أحدا يعرفه بكى وصرخ، لا لأن أباه ضاع منه، بل لأنه وجد بين الناس من يجهله. •••
صفحه نامشخص
لم يبق في القرية من لم يسمع بحكاية «الشيخ سيد». وعرف الناس أن الإنسان يمكن أن يصبح مشهورا إذا ما سمعت به السلطات الرسمية.
وهكذا بدءوا يهتمون بشأنه، وتوالت العطايا عليه. وعطف بعضهم عليه فأعطاه حذاء. وتصدق تاجر أقمشة فوهبه ثوبا من الدمور المعتبر قائلا له: خذ يا عم، ينفع جلبابا وكفنا. والحقيقة أنه لم يعرف كيف يفصله؛ فإن الترزي الوحيد في بلدنا كان رجلا عجوزا بخيلا، ولم يكن أحد يتصور أن يتصدق عليه بخيط؛ لذلك بقي الثوب قماشا يحمله على كتفه، إلى أن جاء يوم لم يره أحد معه ولم نعرف إن كان قد سرق منه وهو نائم أو خطفه اللصوص. وبمرور الأيام نفض الناس أيديهم منه، ولم يعد أحد يهتم بأمره أو يتصدق عليه بشيء، بل إن أبي الذي كان يدعوه إلى الطعام كلما رآه، قد خفف من عنايته به، إلى أن جاء يوم افتقدته فيه فلم أجده، وسمعت أنه يتجول بين العزب المجاورة، وأن حظه هناك لم يكن أفضل من حظه عندنا.
وذات يوم كنت أجلس في الدكان وحدي؛ فقد لزم أبي الفراش، واضطررت أن أتغيب عن المدرسة، وأن أباشر حركة الدكان بنفسي. الحق أنني كنت أخشى أن يأتي علي يوم السوق وأنا وحدي؛ إذ كيف أدير حركة المحل؟ وكيف أتصرف مع كل هذا العدد من الزبائن؟ ولست أدري ما الذي ذكرني بالشيخ سيد، فقد شعرت في نفسي بحنين غامض إليه، وتمنيت أن أراه إلى جانبي.
لذلك لم أفرح كفرحتى حين رأيته ينحدر على السكة من بعيد، كأنه عمود من الدخان يطول ويقصر، كانت له مشية تميزه عمن سواه، ولكنني دهشت قليلا حين وجدته يربط إحدى ذراعيه برباط كبير، ويتوكأ على عصا، وهو الذي كان مثل الجن الأحمر.
أقبلت عليه مرحبا، ولو أطعت نفسي لعانقته: ما هذا؟ كفى الله الشر.
فأجاب وهو يجلس إلى إحدى الموائد: الحمد لله جاءت سليمة. قلت محاولا أن أكتم فرحتي به: سمعت أن قطاع الطريق هجموا عليك. فضحك من قلبه وتلفت ينظر في الدكان. - أبوك ليس هنا، ثم غمغم قائلا: هل تعرف مولد سيدك إبراهيم الدسوقي؟ - سمعت أنه في هذين اليومين. - حسن، حاولت أن أحضر الزفة، وأن أركب الفرس، ولكنهم لم يصدقوا أنني ابن السلطان، ألم أقل لك إنهم كفرة؟!
جذبوني من على الفرس، ومن حسن حظي أن ذراعي هي التي كسرت، لا رقبتي.
وأردت أن أغتنم هذه المصادفة التي جمعتني به وحدنا، فاستدرجته قائلا: ألم تعرف ما حدث لي؟!
فأقبل علي في اهتمام، وفرحت بالقلق البادي في عينيه، ثم قلت أخيرا: رأيت أباك في المنام، فسألني غير مصدق: حقا؟
قلت وأنا أصطنع لهجة الكبار حين يتحدثون في أمر خطير: وهل عرفتني كذابا ؟ لا، لا، زعلتني منك .
صفحه نامشخص
فعاد يسأل في شوق طيب، وماذا كان يركب؟
فقلت بعد أن تركته معلقا في لحظة انتظار: كان يركب، يا سيدي، فرسا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض.
فصاح: تمام، تمام. - وكم كان يشبهك! جل سبحانه! أنفك، عينيك، ملامح وجهك. ألم يظهر لك أيضا في المنام؟! - طبعا، طبعا، في المنام وفي اليقظة. وتردد لحظة، ثم قال: ألا يمكنك أولا أن تعطيني لقمة، لي ثلاثة أيام لم أذق طعم الأكل، الناس أصبحوا كفرة يا ابني؛ يغلقون الباب في وجهك، وإذا فتحوه فلكي يقولوا لك: اذهب! •••
وقمت من فوري أجهز له الطعام، وشعرت بيني وبين نفسي بالخجل؛ لأنني لم أبدأه بالسؤال، وبذلت غاية جهدي في توفير طبق شهي من الفول وآخر من السلاطة والباذنجان المخلل، ووضعت أمامه ثلاثة أرغفة، ثم جلست أراقبه، وأحسست أني قد كبرت فجأة وكأنني أراقب ابني وهو يأكل، واستغرقت في سماعه وهو يقول: سوف يعود أبي يا «محمد»؛ أمي قالت لي ذلك، قالته وهي على فراش الموت، وحين يعود، لن تجدني أجوع أو أتشرد في الشوارع، كل الناس سيكونون إخوتي، والسلطان هو أبونا جميعا، سوف يأتي من هنا، «وأشار ناحية الشرق»، طبعا أنت تعرف الشرق من الغرب، هات كوب ماء، إنه يتقدم الموكب، في يده سيف أبيض، طوله ألف ذراع، وخلفه جيش كبير من الفرسان، والغبار الذي تثيره أرجل الخيل يحجب وجه الشمس، سيهرع الناس إليه من كل مكان، يبكون عند قدميه، ويقولون أين أنت يا مولانا السلطان؟ نحن في انتظارك من مائة سنة، من مائتين، من ألف سنة وأكثر، وستحني الأشجار رءوسها لتحيته، وتفزع الحيوانات إليه، وتتمرغ عند قدميه، تمأمئ وتعوي وتخور وتصهل، حريم المملكة كلهم حريمه، لن تكون لي زوجة، هات كوب ماء؛ وقفت لقمة في حلقي، الله يلعن النسوان وسيرتهم، لن تغلق أبواب البيوت بعد اليوم في وجهي، لن تكون هناك أبواب على الإطلاق، سيقول أبي لليتيم: لا تحزن، إنني أبوك. وللجائع،
انتظارك، من زمان من زمان.» أكلة عظيمة، الله يعمر بيتك، لو كان الواحد يأكل مرة واحدة في العمر وينتهي، الحمد لله. •••
كنت قد أخذت بكلامه، فبقيت أنظر إليه وأنا لا أدري هل أضحك أو أبكي، ومسح فمه بكمه، وتناول عصاه، وشكرني، ووعدني أن يدفع لي في القريب.
ووجدتني بعد لحظة أقف في الظل أمام الدكان، وأتجه ببصري ناحية المشرق، حيث يغيب شبحه.
ومع أنه قد انقضت على ذلك عشرة أعوام أو يزيد، ولم أعد أسمع شيئا عنه فلم أزل إلى اليوم، كلما رددت بصري في الفضاء، أنظر إلى هذه الجهة، ربما كنت أنتظر أن يظهر في الأفق فرس أبيض على ظهره فارس أبيض في يده سيف طوله ألف ذراع، وأن أرى موكب السلطان وهو يتقدم من بعيد والغبار الذي يثيره يحجب وجه الشمس.
1955
التابوت
صفحه نامشخص
أخيرا زرت المتحف يا عبد الموجود، زيارة كان نفسك فيها من زمان. آخ يا دماغي! لا بد أن عندك حمى. رأسك ساخن، مفاصلك ترتعش، والنبض أيضا سريع، من أربعين سنة وأنت تحلم بهذه الزيارة، هل تذكر يوم ذهبت لأول مرة في رحلة مع المدرسة؟ كنت أيامها بالبنطلون القصير يا عبد الموجود، والمدرس أيضا كان قصيرا، ومن الذي لا يبدو قصيرا أمام تمثال رمسيس؟ والأسماء الكثيرة ما زلت تذكرها، ولكن في أي دولة هي؟ دماغي سينفجر، أين الثلج الذي وضعته زوجتك إلى جانبك؟ على الكرسي أم على المكتب؟ آخ! بل هو على رأسك، ومع ذلك فأين ذهب؟ لا بد أنه الآن يغلي، يا لطيف! خوفو وخفرع وأحمس الشجاع وأخناتون النحيف المسلول، لكن الأيام تمر، والسنين تمر، والأتوبيس يمر كل يوم على المتحف، ولكنك لا تنزل منه، لا تنزل منه يا عبد الموجود، المتاحف خلقت للسواح، وزوجتك عندها شغل في المطبخ، والأولاد يلزم لهم ملابس للشتاء، والدوسيهات لا بد أن تراجعها بالليل، وعيشة الدنيا تعب، عيشة الدنيا تعب يا عبد الموجود.
اليوم هو الجمعة؛ لأنك خرجت من المتحف على الصلاة، القاعة كانت مزدحمة يا عبد الموجود، ودفعت فيها خمسة وعشرين قرشا، والسواح كانوا في كل مكان، حمر وبيض وعيونهم خضر وشعرهم أشقر وطويل، والصناديق الزجاجية كانت مرصوصة إلى جانب بعضها، عشرة عشرين ثلاثين؛ شبان وعجائز ونساء، وأحمس شعره ما زال هناك. الغريبة أن شعره أصفر، أصفر مثل شعر الإنجليز، والجلد ما زال على حاله، وحتى الأسنان، والشابة التي على اليمين فيها ملامح من زوجتك؛ وجهها عريض، عظم خديها بارز، بشرتها سمراء، الابتسامة لا تزال على شفتيها، لا بد أن دمها كان خفيفا، والصلاة وجبت يا عبد الموجود، والجامع كان على آخره، وفرشت الجرنال على الرصيف. آخ يا دماغي! الشمس كانت تلسع، الشمس هي السبب، وأحمس أسنانه لا زالت تلمع، والبنت السمراء لا زالت تبتسم من ثلاثة آلاف سنة، أو أربعة آلاف، أو حتى خمسة، من يدري يا عبد الموجود؟ ويحنطونك في صندوق من زجاج، والسواح تتفرج عليك، ويعرفون أنك كنت موظفا في الأرشيف، أربعين سنة، أربعين سنة يا عبد الموجود!
اليوم إجازة، أول إجازة بحق وحقيق، استرح لك يوما يا عبد الموجود، يوما من نفسك! أربعين سنة وأنت تعمل مثل الحمار، أربعين سنة وأنت تصحو من النوم، وتجري على الديوان، وتجلس على المكتب، وتفحص البوستة، وتسرك الجوابات، وتفرز الصادر من الوارد. أربعين سنة وأنت تشرب الشاي وتأكل الفول، وتقرأ الجرنال، وتقف زنهار أمام الرئيس والمدير، أربعين سنة وأصبحت على المعاش يا عبد الموجود، الشمس كانت نارا، وقاعة المومياء ملآنة بالتوابيت والسواح، شعرهم أشقر وعيونهم خضراء، شباب وصحة وملك صحيح، وأحمس راقد على ظهره، والبنت السمراء أم شعر أسمر تبتسم، وتحتمس وجهه متآكل، ومكانك معهم يا عبد الموجود، مكانك معهم في الصندوق أو في التابوت.
عندما تدخل في الصباح إلى الديوان سيكونون جميعا في استقبالك؛ السعاة واقفون على الجانبين، حللهم زرقاء، وجوههم المصفرة تبتسم، يقفون على الجانبين ليحيوك، أيديهم الخشنة تريد أن تمتد لتصافحك، وفي أعلى السلم ستلمح رئيس القلم ومدير الإدارة والمدير العام، نعم إنهم ينتظرونك، ابتسامتهم العريضة ستخجل تواضعك، ولكن حاول ألا تتعثر في الطريق، لماذا الخجل يا عبد الموجود؟ ألأنك تلبس حلتك السوداء؟ ولكنهم رأوها عليك من قبل. ألأنك تلبس قميصا جديدا ياقته منشاة؟ ولكنه يبدو كذلك فحسب، أم لأنك تلبس حذاء شديد اللمعان؟
سيسلمون عليك، سيرحبون بك (حاذر فربما أخذوك بالأحضان!) سيقولون لك: كل شيء جاهز وعلى ما يرام؛ الأوراق منتهية، والمعاش ستقبضه بالكمال والتمام، ولكن قبل الإمضاء تعال لنحتفل بك. لا تحاول أن تعتذر؛ فكل شيء جاهز كما قالوا، والشمس لا تلسع رأسك، ومكانك محفوظ في قاعة المومياء.
الموكب سيتحرك يا عبد الموجود، أنت في الوسط، المدير في المقدمة، السعاة على الجانبين، وكل شيء على ما يرام، وعندما تدخل إلى حجرة المدير - يا لها من حجرة فخمة مزدانة بالستائر المخملية والسجاد وصور المديرين السابقين وأواني الزهور والريحان! - ستجد أن مكانك أيضا هناك، افتح عينيك، فكل شيء معد من أجلك، افتح أذنيك، فالخطب التي ستتلى عليك طويلة وفصيحة. ابلع ريقك؛ فالمائدة مرصوصة بألوان الطعام، سوف يجلس الجميع، كل في مكانه، وسيقف السعاة على أهبة الاستعداد، وعندما يقف المدير، سيسود الصمت، وعندها يتكلم فيقول المدير:
أنا المدير العام،
المسئول عن هذه المصلحة ومن فيها،
في كل يوم أراجع كشوف الغياب،
ألاحظ أن يكون كل شيء في مكانه،
صفحه نامشخص
أن يكون كل موظف على مكتبه،
أن تشرق الشمس في موعدها؛
لأنني أقدس النظام.
واليوم جئت بنفسي لأحتفل بك،
أنا الذي كنت موظفا مثلك،
ثم صعدت بهمتي ونشاطي
من الوحل حتى لمست النجوم،
حتى أصبحت المدير العام.
ويصمت المدير ليلتقط أنفاسه، وعندها يتكلم الموظفون فيقولون:
المجد لك،
صفحه نامشخص
يا أيها المدير العام،
يا من تسمح لقلوبنا أن تدق بانتظام،
وتراجع كشوف غيابنا على مر الأيام،
وتأذن لنا - وما أكرمك! -
بأن نقبض مرتباتنا في أول كل شهر.
ها نحن قد جئنا؛
اثنان وسبعون موظفا،
اثنان وسبعون بالكمال والتمام.
يا زميلنا العزيز،
أتينا لنحتفل بك،
صفحه نامشخص
أتينا لنودعك إلى المعاش،
هل علمت ماذا أعددنا لك؟
هل سمعت عن المفاجأة؟
ويسكت الموظفون؛ لأنهم لا يملكون أن يذيعوا السر الرهيب، وعندما يتحرك المدير إلى آخر القاعة التي تضيئها مصابيح النيون، ويمد يده ليرفع الستار عن الصندوق الجميل، إنه راقد هناك، كأنما وجد من الأزل، كأنه جسد امرأة بيضاء مصنوع من الفضة، غامض وساحر ومخيف، سيلمسه المدير العام بكفه، سيطوف حوله الموظفون، سيدعونك لكي تتفرج عليه، وسوف يتكلم المدير ويقول:
هذا الصندوق الفخم الجميل،
لن يليق لغيرك،
لن يناسب إلا جسدك،
لن يملأه أحد - حين يتمدد فيه - سواك،
وحين تنزل فيه لتستريح،
لا، ليس الآن، ليس الآن،
صفحه نامشخص
بل بعد أن تأكل وتتنفس وتحمد الله
سنهرع إليك، سنغلق الصندوق،
لن ندقه من الخارج بالمسامير.
لا تخف. ولن نغلق عليك الغطاء،
لن نلقي به في النيل؛
لأنك كنت دائما في التابوت،
تحمله أينما ذهبت؛
حين تلبس البذلة الكاملة،
وحين تسير بالقميص والبنطلون،
حين تجلس على القهوة، وحين تتمشى على شاطئ النيل،
صفحه نامشخص
حيث تقف أمام دكان البقال ودكان السجائر،
وحين تتزاحم في الشارع والترام والطابور،
حين تحلم بالسفر إلى بلاد بعيدة،
أو بحساب في البنك وثلاجة بدون تقسيط،
وعندما نلقي بك - لا في الماء كما أكدت لك،
فجدران التابوت تحيط بعظمك ولحمك من كل مكان -
إلى زحام الشارع المجنون،
لن تنزع إيزيس غدائرها، لن ترتدي ثياب الحداد.
وعندها يرد عليه رئيس القلم، فيقول:
يا أيها الموظف المحال إلى المعاش،
صفحه نامشخص
إيزيس الرحيمة لن تبكي عليك،
لن تهيم في شوارع المدينة بحثا عنك،
لن تسأل الرجال ولا الملاحين والأطفال،
لن تلقي بك الأمواج على شاطئ بعيد،
ولن تلتف حولك جذوع شجرة،
وعندما يكتشفونك،
لن تبكي عليك عين،
ولن ترتمي أم على التابوت،
أو تلقي بنفسها على جثتك،
أو تضع محياها على محياك،
صفحه نامشخص