الجزء الأول من مذكرات آدم
الجزء الثاني من مذكرات حواء
الجزء الثالث من مذكرات آدم
الجزء الرابع من مذكرات حواء
الجزء الأول من مذكرات آدم
الجزء الثاني من مذكرات حواء
الجزء الثالث من مذكرات آدم
الجزء الرابع من مذكرات حواء
يوميات آدم وحواء
يوميات آدم وحواء
تأليف
مارك توين
ترجمة
فرج جبران
الجزء الأول من مذكرات آدم
الاثنين
إن هذا المخلوق الجديد، ذا الشعر الطويل، يضايقني كثيرا. إنه دائم الحركة، يتبعني أينما ذهبت. إنني أكره ذلك؛ فلست معتادا وجود آخرين معي، إنني أتمنى أن يبقى هذا المخلوق مع الحيوانات الأخرى ... إن اليوم كثير السحب، والرياح تهب من الشرق، أظن أننا سنرى المطر قريبا. «إننا»! من أين تعلمت هذه الكلمة؟ آه تذكرت! إن المخلوق الجديد كثيرا ما يستعملها!
الثلاثاء
لقد كنت أتفرج على الشلال العظيم ... إنه أبدع شيء في هذه المنطقة كلها كما أعتقد، إن المخلوق الجديد يطلق عليه اسم «شلالات نياجرا»، لماذا؟ لا أعلم! فهو يقول إن الشلال يشبه شلالات نياجرا. إن هذا لا يعد سببا، إنه مجرد صفاقة وغباء!
ليست لدي أي فرصة لتسمية الأشياء بأسمائها، إن المخلوق الجديد يطلق اسما على كل شيء يقابله دون أن يترك لي فرصة الاعتراض، وهو دائما يقدم لي نفس العذر، فيقول إنه يشبه شيئا ما. فهذا الطائر مثلا يشبه طائر «الدودو»؛
1
ولذلك يجب أن يطلق عليه هذا الاسم، ومن الغريب أنه لا يشبه طائر «الدودو» لا في قليل ولا في كثير.
الأربعاء
لقد بنيت لنفسي مخبأ يقيني المطر، ولكنني لم أستطع الانفراد فيه بنفسي، فلقد تطفل علي المخلوق الجديد، ولما حاولت أن أطرده من المخبأ، أخرج ماء من ثقبي وجهه اللذين ينظر منهما، وأخذ يمسح الماء بظهر مخالبه، وبدأت تصدر منه أصوات تشبه أصوات الحيوانات الأخرى حينما تحس بالأسى ... إنني أتمنى ألا يتكلم هذا المخلوق، ولكنه لا يكف عن الكلام!
قد يبدو في هذا الكلام ما يمس كرامته، ولكنني لم أتعمد ذلك ... لم أسمع في حياتي صوتا بشريا من قبل؛ ولذلك فإن أي صوت جديد غريب يعكر صفو السكون في هذه الوحدة الحالمة، يؤذي سمعي ويبدو كنغم شاذ ... إن هذا الصوت الجديد قريب جدا مني، إنه خلف كتفي دائما، قريب من أذني، أحيانا أسمعه من اليمين، وأحيانا أسمعه من اليسار ... لقد اعتدت فقط الأصوات التي تأتي من بعيد!
إن إطلاق الأسماء على المسميات لا ينقطع بالرغم من احتجاجي ... لقد كنت أحتفظ باسم جميل لهذه المنطقة، اسم جميل له رنين موسيقى؛ «حديقة عدن». إنني أطلق عليها هذا الاسم في قرارة نفسي. إن المخلوق الجديد يقول إنها تحتوي على غابات وصخور ومناظر طبيعية؛ ولذلك فإنها لا تشبه الحديقة إطلاقا.
ويقول إنها تشبه متنزها عاما؛ ولذلك فقد أطلق عليها اسما جديدا - دون استشارتي - اسم: متنزه شلالات نياجرا؛ ولذلك تجد فيه لافتة، كتب عليها:
ممنوع السير على الحشائش.
إن حياتي لم تعد سعيدة كما كانت قبلا!
إن المخلوق الجديد يأكل الفواكه بكثرة زائدة، يبدو لنا «نحن» أن الفاكهة ستختفي بسرعة، ها أنا ذا أستعمل «نحن» مرة أخرى! إن كلمة «نحن» مقتبسة من المخلوق الجديد، وقد أصبحت لازمة لي ... إن الضباب متكاثر هذا الصباح. إنني لا أخرج في الضباب، ولكن المخلوق الجديد يخرج، إنه يخرج مهما كان نوع الجو، ثم يعود إلى المخبأ وقدماه ملوثتان بالطين، ثم يأخذ في الكلام. لقد كنت فيما مضى أستمتع بالهدوء والراحة هنا!
إن اليوم يوم عنيف، فلقد كان في الماضي - في شهر نوفمبر الماضي - قد خصص ليكون يوم الراحة، وفي هذا الصباح رأيت المخلوق الجديد يحاول تسلق شجرة التفاح المحرمة!
الاثنين
إن المخلوق الجديد يقول إن اسمه «حواء»، ليكن له ما يريد؛ فليس عندي اعتراض على ذلك، وهو يطلب مني أن أناديه بهذا الاسم إذا أردت منه أن يأتي إلي، فقلت له إنه ليس هناك داع لذلك.
ثم يقول لي هذا المخلوق إنه ليس «هو» جمادا، بل «هي» ... ولم أفهم ماذا يعني بذلك! ومع ذلك، فالأمر يستوي في نظري، ولا يهمني كثيرا من تكون «هي»، طالما ظلت بعيدة عني، وكفت عن التحدث إلي!
الثلاثاء
لقد ملأت هي «المنطقة» كلها بأسماء غريبة ولافتات عجيبة:
هذا الطريق يؤدي إلى الدوامة ...
هذا الطريق يؤدي إلى جزيرة العنز ...
ومن هنا إلى كهف الرياح!
إنها تقول: إن هذا المتنزه كان يمكن أن يصبح مصيفا جميلا. «مصيف»! اختراع جديد من اختراعاتها ... كلمات لا معنى لها! ما هو المصيف؟! ولكن يحسن ألا أسألها فهي مغرمة جدا بالشرح والتفسير!
الجمعة
لقد أخذت تتوسل إلي أن أكف عن الذهاب إلى الشلالات. وما الضرر في هذا؟! إنها تقول إن ذلك يجعلها ترتعد فرقا، لماذا يا ترى؟! لقد اعتدت ذلك منذ زمن بعيد؛ فإنني أحب القفز في الماء لأرطب جسدي، وأظن أن الشلالات خلقت لهذا؛ إذ ليس لها فائدة أخرى، ولكنها قالت إنها خلقت للفرجة فقط؛ مثل وحيد القرن والفيل.
لقد قفزت من فوق الشلالات داخل برميل، فلم يرضها ذلك، فقفزت من فوقها داخل «قصعة» فلم يرضها ذلك، وسبحت عبر الدوامة والشلالات في ملابس للاستحمام مصنوعة كلها من ورق التوت، فتلفت الملابس، وبدأت أسمع منها شكاوى عن إسرافي، إنني أحس هنا بالضيق.
السبت
لقد هربت ليلة الثلاثاء الماضي وسرت على قدمي مدة يومين، وبنيت لي مخبأ آخر في مكان منعزل، وأخفيت آثار أقدامي بقدر ما أستطيع، ولكنها اقتفت أثري بأن استخدمت حيوانا استأنسته وأسمته الذئب، وجاءت هي الأخرى تصدر صوتا يدعو إلى الإشفاق، وأخذت تذرف الماء من الفتحتين اللتين تنظر منهما، فاضطررت أن أعود معها، ولكني عازم على الهرب مرة أخرى عند سنوح الفرصة.
إنها تشغل نفسها بأشياء كثيرة تافهة، فهي تحاول أن تدرس أسباب إقبال الحيوانات المسماة بالسباع والنمور على أكل الحشيش والأزهار، في حين أنها - على حد قولها - ذات أسنان يدل شكلها على أنها خلقت لكي تأكل هذه الحيوانات بعضها بعضا ... إن هذا شيء سخيف حقا؛ لأنها إن فعلت هذا فإن معناه أن هذه الحيوانات سيقضي بعضها على بعض، وسيعقب ذلك ما يسمى «بالموت» ... ولقد قيل لي إن الموت لم يدخل المتنزه بعد ... وهذا ما يدعو للأسف لبعض الأسباب!
الاثنين
إنني أعتقد أنني فهمت لماذا خلق الأسبوع! نعم؛ إنه وجد لكي يعطينا وقتا تستريح فيه من الضيق الذي نحس به يوم الأحد ... يبدو أن هذه فكرة طيبة. ها هي ذي قد عادت مرة أخرى تحاول أن تتسلق تلك الشجرة. لقد جذبتها إلى الأرض، إنها تقول إنه ليس هناك من يراقبها، كأن في ذلك تبريرا كافيا لكي تقوم بهذه المغامرة، لقد قلت لها ذلك، ولقد أثارت كلمة «تبرير» إعجابها، وغيرتها أيضا، إنها كلمة فخمة!
الثلاثاء
لقد أخبرتني أنها خلقت من ضلع أخذت من جسمي ... هذا يدعو إلى الشك؛ ذلك لأنني لم أفقد ضلعا واحدا من أضلعي ... إنها قلقة جدا على الصقر؛ فإن الحشيش لا يوافقه كغذاء، وهي تخشى ألا تستطيع تربيته، فهي تعتقد أنه يتغذى بالأسماك الميتة. قلت لها إن الصقر يجب أن يعتاد ما يجده أمامه، وإننا يجب ألا نقلب نظام الكون لكي نوفر للصقر طعامه!
السبت
لقد سقطت في البركة أمس عندما كانت ترنو إلى نفسها على صفحة الماء - وهو أمر لا تكف عن القيام به - وكانت على وشك الاختناق، وقالت: إن الماء غير مريح. وعبرت عن أسفها الشديد على المخلوقات التي تعيش فيه، وقد أطلقت على هذه المخلوقات اسم «الأسماك»، وهي لا تنفك تطلق الاسم تلو الاسم على الأشياء التي لا تحتاج لهذه الأسماء، والتي لا تأتي إلينا عندما نناديها بأسمائها، وهو أمر لا يهمها؛ ولذلك استطاعت أن تحصل على عدد كبير من الأسماك، وأن تحضرها إلى المخبأ في الليلة الماضية، وأن تضعها في فراشي لكي تشعر هذه الأسماك بالدفء، ولكني أحسست بها ورأيت أنها لم تكن أسعد في فراشي مما كانت في الماء، غير أنها ما لبثت أن هدأت. وعندما يأتي الليل سألقيها خارج المخبأ، ولن أنام مع الأسماك مرة أخرى، فقد وجدتها لزجة، وليس من المستحب أن أنام بينها وأنا عار.
الأحد
مر بسلام.
الثلاثاء
لقد اتخذت «هي» من إحدى الحيات خليلة لها، ولقد سرت الحيوانات الأخرى بذلك سرورا عظيما؛ لأنها كانت تقوم بتجارب معها وتضايقها ... إنني سعيد؛ لأن الحية تتكلم، ولذلك أستطيع الآن أن أحصل على شيء من الراحة.
الجمعة
إنها تقول إن الحية تنصحها بأن تجرب أكل ثمرة من تلك الشجرة، وتذكر أن النتيجة ستكون الحصول على المعرفة العظيمة، فقلت لها: إن هناك نتيجة أخرى أيضا؛ هي أن الموت سيدخل في عالمنا.
لقد كان ذلك خطأ مني - إذ كان يحسن أن أحتفظ بملاحظتي هذه لنفسي؛ ذلك لأنها أعطتها فكرة جديدة - إنها تستطيع أن تنقذ الصقر المريض، وأن تمد السباع والنمور بلحم طازج. لقد نصحتها بأن تبتعد عن الشجرة، ولكنها قالت إنها لن تبتعد! إنني أتوقع المتاعب وسأحاول أن أهرب!
الأربعاء
لقد أمضيت وقتا عجيبا، هربت ليلة أمس وركبت حصانا مدى الليل، وأسرعت به بأقصى ما يستطيع، وكل أملي أن أخرج من المتنزه، وأختبئ في مكان آخر قبل أن تبدأ المتاعب، ولكن لم يتحقق لي ذلك. فبعد شروق الشمس بساعة، وبينما كنت أمر خلال سهل تغطيه الأزاهير وترعى فيه آلاف الحيوانات، وبينما كانت تنام أو يداعب بعضها بعضا على متعارف مألوفها؛ إذ بها فجأة تصدر أصواتا كالرعد. وفي لحظة واحدة امتلأ السهل بثورة جنونية، وأخذ كل حيوان يفتك بجاره، لقد عرفت في الحال معنى هذا، لقد أكلت حواء تلك الثمرة وجاء الموت إلى العالم، فأكلت النمور حصاني، ولم تعر اهتماما لأوامري التي صدرت إليها بأن تكف عن هياجها، وكانت على وشك أن تفتك بي إذا بقيت؛ ولذلك أسرعت بالهرب.
ووجدت هذا المكان خارج المتنزه وشعرت بالراحة بضعة أيام، ولكنها اكتشفت مكاني، نعم! لقد لحقت بي، وأطلقت على هذا المكان اسم «توناوندا»، وقالت إنه يشبهه. وفي الحق أنني لم أغضب لأنها حضرت؛ ذلك لأن الفاكهة هنا كانت قليلة وقد أحضرت معها بعض التفاحات، فاضطررت أن آكلها؛ لأنني كنت في شدة الجوع.
لقد كان ذلك ضد المبادئ التي أدين بها، ولكنني اكتشفت أن المبادئ ليس لها كيان حقيقي إلا عندما تكون معدة الإنسان ممتلئة. لقد جاءت إلي، وقد اكتست بفروع الأشجار وأوراقها، وعندما سألتها ماذا تعني بهذا السخف، واختطفت هذه الفروع وألقيتها بعيدا؛ بدأت تغرق في الضحك، واحمر وجهها خجلا.
لم أر في حياتي شخصا يضحك خجلا قبل الآن، فكان ذلك منها دليلا على الجنون، وقالت لي إنني سأحس بإحساسها فورا، وكان ذلك حقا، فبالرغم من أنني كنت جائعا، تركت التفاحة، وأنا لم آكل إلا نصفها فقط - لقد كانت التفاحة ممتازة حقا إذا راعينا أننا في نهاية الموسم - وأخذت أكتسي بفروع الأشجار وأغصانها، ثم بدأت أحدثها بشيء من القسوة، وأمرتها أن تبتعد وأن تبحث عن أوراق وفروع أخرى؛ لكي تغطي بها نفسها.
وفعلت ما أمرتها به، وبعد ذلك تسللنا إلى حيث تقطن الوحوش المفترسة، وجمعنا بعضا من جلودها، وأخذت تخيط كل اثنين منها معا؛ لكي تناسب الاستعمال في الحفلات العامة. إنها تضايق لابسها حقا، ولكنها تعتبر مطابقة لطراز العصر، وهذا هو أهم شرط في الملابس.
لقد وجدت فيها رفيقا ممتازا، وشعرت بأنني سأحس بالوحدة والأسى بدونها بعد أن فقدت ممتلكاتي ... وهناك شيء آخر؛ لقد ذكرت لي أن الأوامر قد صدرت بأن نعمل من الآن فصاعدا؛ لكي نحصل على القوت، وأخبرتني بأنها ستقوم من جانبها هي بالعمل، وأتولى أنا الإشراف.
بعد ذلك بعشرة أيام
إنها تتهمني بأنني سبب البلاء؛ فهي تقول - وهي تظهر الإخلاص والصدق - إن الحية أكدت لها أن الفاكهة المحرمة ليست هي التفاح، بل إنها القسطل «أبو فروة».
فقلت لها: إنني بريء إذن لأنني لم آكل القسطل!
فقالت إن الحية أخبرتها أن «القسطل» استعارة معناها نكتة قديمة متعفنة، فاصفر وجهي؛ لأنني كنت أقضي وقتي وأنا أكرر النكتة تلو الأخرى، وقد يكون بعض هذه النكات من النوع الذي تتحدث عنه الحية، ولو أنني كنت أعتقد أنها كلها نكات جديدة، فسألتني عما إذا كنت قد قلت نكتة عند وقوع الكارثة؟
واضطررت إلى الاعتراف بأنني قلت لنفسي نكتة بصوت منخفض، وهذه هي النكتة، لقد كنت أفكر في الشلالات وقلت لنفسي إن من المدهش حقا أن أرى هذه الكمية الهائلة من المياه وهي تتساقط هناك. وبعد لحظات مرت فكرة طارئة على خاطري؛ فقلت: «ستكون الدهشة أعظم عندما أشهد هذه الكمية وهي تتصاعد إلى أعلى.» وكنت على وشك أن أموت من الضحك عندما اندلعت ثورة الطبيعة، وقامت الحرب، وظهر الموت، فاضطررت أن أهرب خوفا على حياتي.
فقالت حواء وهي تحس بالنشوة لانتصارها: «هذا هو السبب! إن الحية قد ذكرت هذه النكتة بالذات، ووصفتها بأنها أول قسطل وبأنها تعاصر الخليقة.»
يا للأسف! إذن فأنا الملوم، لقد كنت أتمنى ألا أكون ابن نكتة، وألا تطرأ علي هذه الفكرة النيرة!
العام التالي
لقد أسميناه «قايين» ولقد صادته عندما كنت غائبا في المراعي أصيد الحيوان على الشاطئ الشمالي لبحيرة إيري، صادته في الكوخ الخشبي على بعد ميلين - أو أربعة أميال على حد قولها - من الكهف الذي كنا نعيش فيه.
إنه يشبهنا في كثير من الوجوه، وقد يكون أحد أقاربنا، وهذا ما تعتقده هي، ولكن هذا حسب تقديري خطأ؛ إن الاختلاف في الحجم يؤكد أنه حيوان جديد يختلف عنا، فربما كان سمكة، ولكنني حاولت أن أضعه في الماء لكي أختبره فغطس، فقفزت هي في الماء والتقطته قبل أن أتحقق من نتيجة التجربة. ولكنني ما زلت أعتقد أنه سمكة، ولكنها لا تهتم بمعرفة ما هو وترفض أن تدعني أجري تجاربي عليه؛ ولذلك لم أستطع أن أعرف شيئا عنه.
إن ظهور هذا المخلوق قد غير من كيانها كله، وجعلها تثور كلما ذكرت كلمة التجارب، فهي تفكر فيه أكثر مما تفكر في غيره من الحيوانات الأخرى، ولكنها لا تستطيع تفسير هذا التطور. إن عقلها قد أصابه الخلل؛ فكل تصرفاتها تدل على ذلك، وفي بعض الأحيان تحمل السمكة في ذراعيها الليل كله، عندما يبكي هذا المخلوق! لا بد أنه يرغب في العودة إلى الماء، وفي بعض الأحيان يخرج الماء من الثقبين اللذين ينظر منهما، وهي تربت بيدها ظهر السمكة، وتطلق من فمها أصواتا ناعمة لكي تهدئها، وتبدو عليها مظاهر الأسى واللوعة.
ولم أرها تفعل ذلك مع أي سمكة أخرى، وهذا ما يزيد من متاعبي، فقد كانت في الماضي تحمل النمور الصغيرة وتلعب معها - قبل أن تفقد ممتلكاتها - ولكن كان ذلك كله عبثا فقط، ولم يعترها ما يبدو عليها الآن عندما لا يناسب الطعام معدتها.
الأحد
إنها لا تعمل أيام الآحاد، ولكنها تنام وهي منهوكة القوى، وهي تحب أن ترى السمكة تتمرغ فوقها، وتصدر عنها أصوات لا معنى لها؛ لكي تبعث السرور في نفس السمكة، وهي تتظاهر أحيانا بأنها ستعض يد السمكة، فتضحك السمكة ... لم أر في حياتي سمكة تضحك، إنني في غاية الشك، لقد بدأت أحب يوم الأحد، إن عملي كمشرف طوال أيام الأسبوع يتعب جسمي ... يجب أن يزداد عدد أيام الآحاد، ففي الماضي كان يوم الأحد مملا، أما الآن فقد أصبح مرغوبا فيه.
الأربعاء
إن هذا المخلوق الغريب ليس بسمكة ... إنني لا أستطيع التكهن بحقيقته، فهو يطلق أصواتا شيطانية غريبة عندما يكون غاضبا، كما يقول: «جو! ... جو!» عندما يكون مسرورا، إنه ليس واحدا منا لأنه لا يمشي، وهو ليس بطائر لأنه لا يطير، وليس بضفدع لأنه لا يقفز، وليس بثعبان لأنه لا يزحف.
إنني على يقين أنه ليس بسمكة، ولو أنني عاجز عن إيجاد فرصة لاختبار مقدرته على السباحة، إنه لا يعمل شيئا سوى الرقاد، إنه يرقد على ظهره ويرفع ساقيه إلى أعلى! لم أر حيوانا غيره يفعل ذلك، فقلت لها: إنني أعتقد أنه لغز. فلم يكن منها إلا أن أبدت إعجابها بالكلمة دون أن تفهم معناها ... وفي رأيي أنه إما أن يكون لغزا أو نوعا من الحشرات، وإذا قدر له أن يموت، فإنني سوف أقوم بتشريحه لكي أرى ما بداخله ... لم يسبق أن حيرني شيء مثل هذا!
بعد ذلك بثلاثة أشهر
إن الحيرة تزداد بدلا من أن تقل! إنني أنام الآن قليلا، لقد كف المخلوق عن الرقاد، وبدأ يحبو على أقدامه الأربع. ولكنه يختلف عن جميع الحيوانات التي تسير على أربع؛ ذلك لأن قدميه الأماميتين قصيرتان للغاية، مما يجعل الجزء الرئيسي من جسمه يرتفع في الهواء، وبذلك يبدو قبيحا إذا نظرت إليه ... إن تركيب جسمه يشبه تركيب جسمنا ، ولكن طريقة انتقاله تدل على أنه ليس من جنسنا، فإن الساقين الأماميتين القصيرتين، والساقين الخلفيتين الطويلتين تدل على أنه من فصيلة القنغر «الكنجارو»، ولكنه نوع عجيب من هذه الفصيلة؛ وذلك لأن القنغر الحقيقي يقفز أثناء جريه في حين أن هذا المخلوق لا يفعل ذلك ... ومع ذلك فهو نوع غريب شائق لم يسبق وضعه في القائمة من قبل، ولقد أحسست بأنني أستحق أن أنسب اسمه إلي؛ لأنني أول من اكتشفه ولذلك أسميته قنغر آدم!
ولا بد أنه كان صغيرا جدا عندما ظهر؛ لأنه كبر كثيرا منذ ذلك التاريخ، ولقد أصبح حجمه خمسة أضعاف حجمه الأول؛ ذلك لأنه عندما يكون غاضبا تصدر عنه أصوات مزعجة تعادل ثمانيا وثلاثين مرة ضجيج الأصوات التي كان يصدرها في بادئ الأمر.
إن العنيدة «حواء» لا تحاول أن تمنعه من ذلك، بل إنها على العكس تحاول أن تسترضيه بإعطائه أشياء سبق أن تعهدت لي بأنها لن تعطيه إياها. وقد سبق أن ذكرت أنني لم أكن بالبيت عندما ظهر هذا المخلوق، ولقد أخبرتني وقتئذ أنها عثرت عليه في الغابة ... لقد كان غريبا أنها وجدته وحده، ولقد أجهدت نفسي كثيرا لكي أبحث عن مخلوق يماثله حتى أضيفه إلى مجموعتي لكي يلعب مع هذا المخلوق، وبذلك تخف الضوضاء التي يحدثها، ولكي نستطيع أن نستأنسه بسهولة، ولكنني لم أستطع أن أجد له مثيلا.
ومن الغريب أنني لم أعثر له على آثار أقدام، إنه يعيش على الأرض، ولكن كيف يستطيع الانتقال دون أن يترك أثرا؟!
لقد نصبت اثني عشر فخا، ولكنني أخفقت، لقد سقطت في الفخ حيوانات أخرى، ولكن لم يقع حيوان مثله في الفخ، إن الحيوانات تدخل الفخ لمجرد حب الاستطلاع حتى تعرف سبب وضع اللبن داخل الفخ، ولكنها لا تشربه أبدا.
بعد ذلك بثلاثة أشهر
إن القنغر لا يزال ينمو باطراد، وهذا شيء غريب جدا ومحير للغاية. لم أعرف حيوانا آخر يستغرق هذه المدة الطويلة في النمو، إن له فراء يغطي رأسه الآن، ولكن الفراء لا يشبه فراء القنغر، بل يشبه شعرنا تماما، لولا أنه أكثر نعومة وأقل جعدا ولونه أحمر وليس بأسود، إنني أكاد أفقد عقلي كلما فكرت في النمو السريع لهذا الحيوان العجيب الذي لم يسبق أن سجل نوعه بين الحيوانات.
لو قدر لي أن أصيد حيوانا آخر! إنني يائس؛ ذلك لأنه نوع جديد، بل هو نوع فريد.
وقد اصطدت قنغرا حقيقيا، ووضعته معه ظنا مني أنه سيصاحبه، فلا يشعر بالوحدة؛ وذلك لصلة القرابة التي بينهما، كما أنه سيحس بالعطف نحوه نظرا لوجوده بين غرباء لا يعرفون طباعه، ولا عاداته، ولا ماذا يفعلون لكي يشعروه أنه بين أصدقاء!
ولكن كان هذا العمل منا خطأ كبيرا؛ إذ إنه أصيب بنوبات عندما رأى القنغر، حتى إنني اقتنعت بأنه لم ير قنغرا من قبل، إنني أشفق على هذا الحيوان الصغير المسكين، ولا حيلة لي في طريقة أستطيع بها أن أحاول إسعاده. آه لو استطعت أن أروضه! ولكن هذا من رابع المستحيلات، إن حواء ترفض السماح بهذا، ولكن هذه قسوة منها! إن الحيوان لا يزال يحس بالوحدة، فإنه نظرا لعدم استطاعته العثور على حيوان آخر مثله لا بد أن يحس بالوحدة بالرغم منه.
بعد خمسة أشهر أخرى
إنه ليس بقنغر ... لا! إنه يستطيع الآن أن يقف على قدميه، ويمسك بأصابع حواء، ثم يسير بضع خطوات على ساقيه الخلفيتين، وبعد ذلك يقع، ربما كان نوعا غريبا من أنواع الدببة، ولكن ليس له ذيل، وليس له فراء غير الشعر الذي على رأسه، وهو لا يزال مطرد النمو، إن هذه حال غريبة، فالدببة تكبر في سن مبكرة عن ذلك، إن الدببة خطرة، وقد أدركت هذا منذ وقعت المصيبة التي حلت بنا، ولن أسمح لهذا الدب أن يتجول في منطقتنا دون أن أضع كمامة على فمه ... لقد تقدمت لحواء أعرض عليها أن أهديها قنغرا إذا طردت هذا الحيوان الغريب، ولكن كان هذا عبثا، إنها مصممة على تعريضنا للمكاره، لم تكن هذه حالها قبل أن تفقد عقلها!
بعد ذلك بأسبوعين
لقد فحصت فمه، ليس ثمة خطر! إن له سنا واحدة، وليس له ذيل حتى الآن، غير أن صوته أعلى بكثير من ذي قبل، وبخاصة في الليل، لقد تركت المخبأ ورقدت خارجه، ولكنني سأعاود فحص فمه، فإذا زاد عدد أسنانه، فإن الوقت سيكون قد آن لكي يطرد، سواء كان له ذيل أم لا؛ لأن الدب ليس في حاجة إلى ذيل لكي يصبح خطرا.
بعد ذلك بأربعة أشهر
لقد قضيت شهرا بعيدا عن البيت في الصيد والقنص في منطقة تسميها هي «بافالو»
2
ولا أعرف لماذا أطلقت عليها هذا الاسم، مع أنه ليس هناك جاموس في هذه المنطقة. وفي خلال هذه الفترة تعلم الدب كيف يسير على قدميه الخلفيتين وهو يقول: «بابا» و«ماما». لا بد أنه من فصيلة فريدة، إن الشبه بين كلامه وكلامنا قد يكون من قبيل المصادفة، وقد لا يكون له معنى أو هدف، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإنه يصبح شاذا، فلا يستطيع أي دب آخر أن يعمل مثله، إن تقليده للكلام مع عدم وجود الفراء والذيل، يدل دلالة واضحة على أنه نوع جديد من الدببة ... إن أي دراسة عنه لا بد وأن تكون شائقة للغاية.
وعلى أي حال سأخرج في رحلة بعيدة إلى الغابات الشمالية، وسأقوم ببحث دقيق عن حيوان آخر من نفس النوع، فإنه لن يكون خطرا إذا استطعت العثور على رفيق له من نفس النوع، سأذهب الآن، ولكنني سأضع كمامة على فمه قبل الرحيل.
بعد ثلاثة أشهر
لقد كان الصيد متعبا شاقا، ولم أنجح في مهمتي، وفي أثناء ذلك استطاعت هي - دون أن تفارق المنطقة - أن تصيد حيوانا آخر! لم أر في حياتي حظا كحظها، فقد كان يمكن أن أصطاد مئات السنين في الغابة دون أن أستطيع العثور على حيوان مثله.
اليوم التالي
لقد كنت أقارن الحيوان الجديد بالقديم، ومن الواضح جدا أنهما من نفس الفصيلة، وكنت على وشك تحنيط أحدهما لضمه إلى مجموعتي، ولكنها عارضت هذه الفكرة لسبب ما؛ ولذلك طرحت الفكرة، ولو أنني كنت أعلم أنها مخطئة؛ ذلك لأن العلم لا بد أن يخسر خسارة لا تعوض إذا انقرض هذان الحيوانان.
إن الحيوان القديم أكثر ألفة من الحيوان الجديد، ويستطيع الضحك كما يتحدث كالببغاء، ولا بد أنه تعلم كثيرا؛ ذلك لأنه كثيرا ما يصاحب الببغاء ساعات طويلة، ولأن ملكة التقليد عنده على درجة كبيرة من الكفاية؛ ولذلك ستصيبني الدهشة إذا تحول إلى نوع جديد من الببغاوات، ومع ذلك يجب ألا أدهش؛ ذلك لأنه كان يشبه كل شيء في أيامه الأولى، عندما كان سمكة.
إن الحيوان الجديد بنفس القبح الذي كان عليه الحيوان القديم في مبدأ الأمر، فله نفس البشرة التي تشبه الكبريت، واللحم النيئ، ونفس الرأس الفريد الذي ليس له فراء، لقد أسمته «هابيل».
بعد ذلك بعشر سنوات
إنهما أولاد، لقد اكتشفنا ذلك منذ عهد بعيد، وكان الذي حيرني أنهما وصلا وهما صغيران غير مستويين، ولم نكن اعتدنا رؤيتهما، إن عندنا بنات أيضا، إن هابيل ولد طيب، ولكن إذا قدر لهابيل أن يظل دبا فقد يكون أحسن طبعا منه الآن ... وبعد هذه السنوات أيقنت أنني كنت مخطئا في حق حواء في بادئ الأمر، فخير لي أن أعيش خارج الجنة وهي بجانبي من أن أعيش في داخلها بدون حواء!
كنت أعتقد في بادئ الأمر أنها تتحدث كثيرا، ولكنني - الآن - لا بد أن أحزن إذا سكت هذا الصوت واختفى من حياتي ... مبارك «القسطل» الذي قربنا من بعضنا وعلمني كيف أقدر طيبة قلبها وحلاوة روحها!
الجزء الثاني من مذكرات حواء
مترجمة عن الأصل
السبت
أكاد أبلغ من العمر يوما واحدا، فلقد وصلت أمس. هذا ما يبدو لي ... ولا بد أن يكون الأمر كذلك؛ إذ لو أن هناك يوما سابقا للأمس، فإنني لم أكن موجودة فيه، وإلا لكنت أتذكره، وقد يكون هناك يوم سابق للأمس ولكنني لم أتنبه إليه ... حسنا جدا! سأكون أكثر يقظة وانتباها، وإذا حدث أن مر بي «يوم سابق للأمس»، فسوف أتنبه إليه ... ويحسن أن أبدأ مذاكرتي الآن حتى لا يختلط علي الأمر، فإن غريزتي توحي لي بأن هذه التفاصيل سوف تكون لها أهميتها للمؤرخين يوما ما؛ ذلك لأني أحس بأنني أشبه إحدى التجارب ... وليس هناك شخص يحس بأنه يشبه التجربة كما أحس أنا؛ ولذلك فإنني على وشك أن أقنع نفسي بأنني لست سوى تجربة ... لا أكثر!
ولذلك فإذا كنت تجربة، فهل أنا كل التجربة؟ لا! لا أظن ذلك، إنني أعتقد أنني لست إلا جزءا منها، ولكنني الجزء الهام فيها، ولكنني أعتقد أن للجزء الآخر نصيبه منها، فهل موقفي واضح؟ أم يجب علي أن أكون يقظة مترقبة؟!
إن الغريزة تقول لي إن اليقظة الدائمة هي ثمن التفوق (أعتقد أن هذه عبارة حسنة بالنسبة لشخص في مثل سني المبكرة).
واليوم يبدو كل شيء خيرا منه أمس. إن التسرع في إنهاء الأعمال بالأمس قد أدى إلى أن تصبح الجبال شديدة التعاريج، كما امتلأت السهول بالمخلفات حتى أصبح منظرها يرثى له ... إن الأعمال الفنية الرائعة يجب ألا تخضع للعجلة، وهذا العالم الجديد الفخم عمل جميل نبيل يبلغ حد الكمال، بالرغم من قصر الوقت الذي تم فيه، فهناك نجوم عديدة في بعض الأماكن، ونجوم قليلة في البعض الآخر، وأظن أن من الميسور علاج ذلك قريبا ... لقد حدث ليلة أمس أن ترك القمر مداره واختفى، يا لها من خسارة كبرى! إن قلبي يكاد ينفطر كلما فكرت في ذلك، فليس هناك شيء آخر بين معالم الزخارف والزينات يعادل القمر في الجمال والإتقان. كان يجب تثبيته في مكانه جيدا ... آه! لو قدر لنا أن نحصل عليه مرة أخرى!
إننا بالطبع لا نستطيع أن نتكهن بالمكان الذي ذهب إليه. زد على ذلك أن الذي استولى عليه سوف يخفيه ... إنني أعلم ذلك؛ لأنني لو كنت مكانه لفعلت هذا الشيء بعينه، إنني أعتقد أن في مقدوري أن أكون أمينة على جميع الأشياء الأخرى، ولكنني بدأت أحس بأن نواة وصلب طبيعتي هو حب الجمال، وعبادة الجمال، وأنه ليس من الحكمة أن يوكل إلي أمر المحافظة على قمر يملكه شخص آخر لا يعلم أنه عندي. وقد يكون من الممكن أن أتخلى عن قمر أعثر عليه بالنهار؛ لأنني أخشى أن يكتشف أحد أمري، ولكنني إذا عثرت عليه في الظلام، فلا بد أنني سأجد عذرا يسوغ إخفاءه.
إنني أحب الأقمار، إنها جميلة وساحرة، إنني أتمنى أن يكون لنا خمسة أو ستة أقمار، ففي هذه الحالة لن أذهب إلى فراشي، ولن تمل نفسي التطلع إليها وأنا راقدة على الحشائش.
إن النجوم جميلة أيضا، إنني أتمنى أن أعلق بعضا منها في شعري، ولكنني أعتقد أن هذا مستحيل؛ لأنها بعيدة عني! ولقد كنت أعتقد أنها قريبة المنال، فلما ظهرت ليلة أمس حاولت أن أسقط بعضا منها بعصا من الخشب، ولكنني لم أستطع بلوغ مكانها، وهذا مما حيرني حقا. ثم جربت استعمال الرمح حتى كلت يدي ولم أستطع الحصول على نجم منها. ولعل السبب في ذلك أنني أستعمل يدي اليسرى، ولا أستطيع إجادة التصويب.
ولذلك بكيت قليلا، وكان هذا طبيعيا لمن كانت في مثل سني، وبعد أن استرحت قليلا حملت سلة واتجهت نحو المكان الذي يقع على حافة الدائرة؛ حيث تبدو النجوم قريبة من الأرض، وحيث أستطيع أن أمسكها بيدي، وكان هذا أفضل؛ لأنه يمكنني جمعها برفق، فلا ينكسر منها شيء، ولكنها كانت أبعد مما أظن حتى إنني اضطررت أخيرا أن أتركها وشأنها، لقد كنت متعبة إلى حد أنني لم أستطع أن أجر قدمي اللتين كانتا تؤلمانني كثيرا.
ولم أستطع العودة إلى البيت إذ كانت المسافة بعيدة، وأصبح الجو باردا، ولكنني وجدت بعض النمور فرقدت بينها وأحسست بالدفء والراحة. وكانت أنفاسها حلوة؛ لأنها تعيش على الفراولة ... لم أر نمرا من قبل ولكنني عرفتها في الحال بجلدها الأرقط، لو استطعت أن أحصل على جلد من جلودها لصنعت لنفسي منه «فستانا» جميلا.
واليوم بدأت أستطيع تقدير المسافات، فقد كنت في شوق بالغ للإمساك بكل شيء جميل، ولكنني كنت أحيانا أمسك الشوك الذي يتخللها فتعلمت درسا، كما أطلقت مثلا - من تأليفي أنا - وهو أول مثل أطلقته: «لا بد أن نقاسي الشوك حتى نحصل على «التجربة» التي عقدنا العزم على الحصول عليها.»
وأظن أن هذا المثل يعتبر مثلا ممتازا بالنسبة لشخص في مثل سني.
لقد اقتفيت أثر «التجربة» الأخرى بعد ظهر أمس، وكنت أسير على مسافة قريبة منها لأرى ماذا تكون؟ فإنني لم أستطع أن أكشف كنهها. إنني أظن أن «التجربة» هي رجل، لم أر في حياتي رجلا ولكنها تشبه الرجل، وأحس في قرارة نفسي بأنها رجل؛ ولذلك تبينت أنني أصبحت مهتمة بها أكثر من اهتمامي بأي حيوان زاحف آخر من الزواحف - إذا كانت من الزواحف - ولا بد أن تكون كذلك؛ لأن لها شعرا أشعث وعيونا زرقاء، كما أنها تبدو مثل الزواحف، ولكن ليس لها أرداف، وهي مسلوبة الشكل تشبه الجزر، وعندما تقف تشد نفسها مثل الرافع؛ ولهذا أعتقد أنها من الزواحف.
لقد شعرت بالخوف في بادئ الأمر، وأخذت أعدو كلما رأيت «التجربة» قريبة مني؛ لأنني كنت أظن أنها ستطاردني، ولكن ما لبثت أن اكتشفت أنها تحاول الابتعاد عني؛ ولذلك لم أعد أشعر بخوف أو استحياء منها بعد ذلك، وأخذت أقتفي أثرها عدة ساعات وأنا على مسافة عشرين ياردة منها؛ مما جعلها حزينة عصبية المزاج.
وأخيرا ظهر على «التجربة» بعض القلق، فتسلقت إحدى الأشجار وانتظرتها طويلا حتى شعرت بالملل؛ فعدت إلى بيتي.
واليوم حدث نفس الشيء فقد هربت مني إلى أعلى الشجرة.
الأحد
إنها لا تزال بأعلى الشجرة تستريح في الظاهر، إن هذه خدعة، إن يوم الأحد ليس يوم الراحة، لقد خصص يوم السبت لذلك ... إن «التجربة» تبدو لي كأنها مخلوق يحب الراحة أكثر من أي شيء آخر، إنني أتعب وأمل من كثرة الراحة ... إن ما يتعبني هو أن أجلس على الحشائش وأرقب الشجرة، إنني أتساءل: ما دور هذه «التجربة»؟ إنني لم أرها تعمل شيئا.
لقد أعادوا القمر ليلة أمس وكنت سعيدة جدا بذلك، لقد كان ذلك مثلا للأمانة، ولكن القمر ما لبث أن هبط إلى انخفاض بسيط ثم وقع، ولكنني لم أحزن؛ إذ ليس هناك مجال للقلق، وما دام لنا مثل هؤلاء الجيران، فسوف يعيدون القمر مرة أخرى، أتمنى أن أعمل شيئا أعبر به عن تقديري لهم، كم أود أن أرسل لهم بعض النجوم؛ لأن لدينا منها أكثر مما نحتاج إليه، إنني أعني أنا وليس «نحن»؛ لأنني ألاحظ أن «الحيوان الزاحف» لا يهتم بذلك كثيرا.
إن له ذوقا وضيعا، وليس لديه ذرة من الرحمة، فعندما ذهبت إليه مساء أمس وجدته يهبط ويحاول صيد سمكة صغيرة تلعب في البركة، فاضطررت أن أقذفه بالطين؛ لكي أجعله يصعد إلى الشجرة مرة أخرى ويترك الأسماك ... إنني أتساءل، هل هذه هي وظيفته؟! أليس لديه قلب؟! أليست لديه رحمة بهذه المخلوقات الصغيرة؟! هل صنع هذا المخلوق لمثل هذا العمل الذي لا يدل على اللطف في شيء؟! إنه يبدو كذلك!
إن إحدى قطع الطين قد أصابته في أذنه، فأخذ يستعمل «اللغة»، لقد أثار ذلك في نفسي اهتماما جديدا بشأنه، فقد كانت هذه أول مرة أسمع فيها كلاما غير كلامي، فلم أستطع فهم الكلمات، ولكنها كانت تبدو معبرة.
وعندما اكتشفت أن المخلوق يستطيع الكلام، أخذ اهتمامي به يزداد؛ لأني أحب الحديث، إنني أتحدث طول اليوم وأثناء نومي أيضا، وكلامي شائق، ولكن إذا كان هناك مخلوق آخر أتحدث إليه، فستزداد درجة اهتمام الغير بي، ولن أكف عن الكلام.
فإذا كان هذا المخلوق الزاحف رجلا، فهل يكون جمادا، فيستلزم الأمر البحث عن ضمير يلائمه كجماد أم نستعمل ضميرا يتناسب مع وضعه كرجل؟ سأعتبره رجلا وأستعمل له ضمير «هو» حتى يثبت غير هذا. إن هذا يسهل الأمر علي بدلا من الشكوك الكثيرة.
الأحد من الأسبوع التالي
لقد أمضيت طوال هذا الأسبوع أتتبعه، وحاولت مرارا التعرف إليه، وكان علي أن أبدأ الحديث؛ لأنه كان خجولا، فكنت وحدي التي أتولى الكلام، ولم تكن المسألة ذات بال بالنسبة إلي، وكان يبدو عليه السرور؛ لأنني أحوم حوله، وكنت أستخدم كلمة «نحن» مرارا، فكان يسر لسماعها؛ إذ يبدو أن مما يرضي نفسه أن تشمله هذه الكلمة.
الأربعاء
إن أحوالنا تسير من حسن إلى أحسن، وقد أصبحنا أكثر تعارفا وتآلفا، فهو لم يعد يحاول أن يتجنبني كما كان يفعل من قبل، وهذه علامة طيبة، تدل على أنه يحب أن أبقى معه، وقد ملأني ذلك سرورا؛ ولذلك أحاول قدر استطاعتي أن أفيده بكل الوسائل الممكنة ... حتى يزيد من اهتمامه بي، ففي أثناء اليومين الأخيرين أخذت على عاتقي مهمة تسمية الأشياء بأسمائها، وبذلك أرحته منها؛ إذ تنقصه هذه الملكة، ولا بد أنه يدين لي بالشكر والاعتراف بالجميل، فهو لا يستطيع أن يفكر في أي اسم معقول، ولكنني أحاول ألا أجعله يحس بهذا النقص. وكلما ظهر مخلوق جديد سارعت إلى تسميته قبل أن يكشف عن نقصه الذي يتمثل في صمته المطبق، وبهذه الطريقة أنقذته من مواقف حرجة كثيرة.
وأنا ليس بي مثل هذا النقص، ففي اللحظة التي تقع فيها عيني على حيوان ما، أعرف ما هو في الحال، ولا يستدعي الأمر مني لحظة من التفكير؛ لأن الاسم الصحيح ينطلق من فمي فجأة كما لو كان إلهاما، ولا بد أن يكون إلهاما؛ لأنني متأكدة أن الاسم لم يكن في ذهني منذ لحظة، فإنني أحس بمجرد رؤية شكل المخلوق وطريقة تحركاته أي نوع من الحيوان هو.
فمثلا عندما اقترب منا طير الدودو كان يعتقد أنه قط وحشي، لقد عرفت ذلك من عينيه، ولكنني أنقذت الموقف واستطعت أن أفعل ذلك دون أن أجرح عزته، فقد تحدثت إليه بنغمة طبيعية أعبر بها عن دهشتي ولا أظهر بها كما لو كنت أقدم إليه معلومات جديدة، فلقد قلت: حسنا! إنني أتساءل: أليس هذا هو الدودو؟!
ثم أخذت أشرح - دون أن أظهر ذلك - كيف عرفت أنه الدودو! وبالرغم من أنني أحسست بأنه قد استاء قليلا؛ لأنني عرفت هذا المخلوق في حين عجز هو عن معرفته، فقد كان من الواضح أنه كان معجبا بي ... لقد سرني ذلك، وفكرت فيه مرات وأنا أشعر بالسرور قبل أن أنام.
هناك أشياء، ولو أنها تبدو تافهة، إلا أنها تبعث السعادة إلى نفوسنا؛ لأننا فزنا بها عن جدارة.
الخميس
أول مرة أحس فيها بالأسى ...
لقد تجنبني بالأمس، وكان يبدو عليه أنه يتمنى ألا أوجه إليه الحديث ، لم أستطع أن أصدق هذا، واعتقدت أن هناك سوء تفاهم؛ ذلك لأنني أحب أن أكون دائما بجانبه، كما أحب أن أسمعه وهو يتحدث إلي، فكيف تبلغ به القسوة أن يفعل ذلك دون أن أرتكب شيئا يغضبه؟
وأخيرا، اتضح لي أن المسألة جدية؛ ولذلك تركته وجلست وحيدة في المكان الذي رأيته فيه لأول مرة في صباح اليوم الذي صنعنا فيه، وكنت لا أعلم ما هو، كما كنت لا أهتم به. أما الآن فقد أصبح هذا المكان ذكرى حزينة لي؛ إذ إن كل شيء صغير فيه يذكرني به، وكان قلبي حزينا، ولم أكن أعرف السبب؛ وذلك لأن هذا الشعور الذي انتابني كان شعورا جديدا علي لم أحس به من قبل، كان سرا غامضا بالنسبة إلي، ولم أستطع أن أعرف كنهه.
ولكن عندما جاء الليل لم أستطع تحمل الوحدة، فذهبت إلى المخبأ الجديد الذي بناه لنفسه لأسأله عما ارتكبت من خطأ، وما السبيل إلى إصلاح الخطأ حتى يعود إلي حنانه مرة أخرى.
ولكنه تركني وحدي في المطر خارج المخبأ، وكانت هذه أول مرة أحس فيها بالأسى.
الأحد
إنني الآن أسعد حالا، ولكن الأيام التي مرت كانت أياما كالحة، إنني أحاول ألا أفكر فيها كلما أمكنني ذلك.
لقد حاولت أن أحصل على بعض تلك التفاحات من أجله، ولكنني لا أستطيع أن أتعلم إصابة الهدف ... لقد أخفقت، ولكن يبدو أن النية الطيبة بعثت في نفسه السرور.
إن هذه التفاحات محرمة، وهو يقول لي إنها ستسبب الأذى، ولكن إذا كان الأذى من أجل إسعاده، فماذا يضيرني أن يصيبني الأذى؟!
الاثنين
لقد صارحته باسمي هذا الصباح على أمل أن يثير الاسم في نفسه روح الاهتمام، ولكنه لم يهتم! ...
إن الأمر غريب، فلو أنه أخبرني باسمه لاهتممت به؛ فإنني أعتقد أن اسمه سيكون له رنين في أذني أجمل من أي رنين آخر.
إنه قليل الكلام! وأظن أن ذلك راجع إلى أنه قليل الذكاء، وأنه يحس بالنقص في نفسه ويحاول أن يخفيه، ومما يدعو إلى الأسف أنه يحس بهذا ؛ لأن الذكاء في نظري لا أهمية له ... إن وزن الإنسان يقدر بقيمته الروحية، إنني أود أن أجعله يفهم أن القلب الطيب المحب هو ثروة وغنى، وأن الذكاء بدون القلب، يعتبر فقرا!
وعلى الرغم من أنه يتكلم قليلا، فإن ذخيرته من الكلمات وفيرة، وفي هذا الصباح بالذات استعمل كلمة مدهشة في حسنها، ويبدو أنه أدرك من تلقاء نفسه أنها حسنة؛ لأنه استخدمها مرتين بعد ذلك. وهذا يدل على أن لديه صفة الإدراك، وستنمو هذه البذرة بلا شك إذا استطعت رعايتها وتنميتها.
من أين جاء بهذه الكلمة؟! لا أذكر أنني استخدمتها قبل ذلك.
لا! إنه لا يهتم باسمي، لقد حاولت أن أخفي خيبة أملي، ولكنني أعتقد أنني أخفقت! لقد ابتعدت وجلست على حافة الجدول ووضعت قدمي في الماء.
إنني دائما أذهب إلى هذا المكان حين أفتقد الصحبة، فأبحث عن أحد أنظر إليه، أحد أتحدث إليه، ولكن هذا الجسم الأبيض الجميل المرسوم على صفحة الجدول لا يكفي ... حقا إنه أفضل من الوحدة الكاملة، فهو يتكلم كلما تكلمت، وهو يحزن عندما أحزن، كما أنه يقدم لي المواساة والعطف، إنه يقول لي: «لا تحزني أيتها الفتاة المسكينة التي فقدت الأصدقاء، سأكون صديقة لك.»
إنها صديقة طيبة، صديقتي الوحيدة، إنها أختي.
ولن أنسى أول مرة تتركني فيها، لن أنساها أبدا، لقد تحول قلبي إلى قطعة من الرصاص في جسمي، فقلت وقتها: «إنها كانت كل ما أملك ... والآن تركتني.»
ولم أتمالك أن صرخت وأنا غارقة في يأسي: «تحطم يا قلبي؛ فلن أستطيع تحمل الحياة بعد ذلك.»
وأخفيت وجهي في يدي ولم يكن هناك سبيل للعزاء، وعندما رفعت يدي عن وجهي بعد لحظة عادت هي مرة أخرى: بيضاء، بضة، جميلة! فألقيت بنفسي بين ذراعيها.
لقد كانت هذه اللحظات أسعد أوقاتي، لقد عرفت السعادة من قبل، ولكنها لم تكن حلوة المذاق كما كانت عندما عرفت أختي؛ ولذلك لم أعد أشك فيها مرة أخرى. فقد كانت تشرد عني في بعض الأحيان، لمدة ساعة وأحيانا اليوم كله، ولكنني كنت أنتظر دون أن أشك فيها، وكنت أقول لنفسي: «قد تكون مشغولة، أو قد تكون في رحلة، ولكنها سوف تعود.»
وكان هذا هو ما يحدث فعلا، كانت تعود دائما، ولكنها في المساء لا تعود إلي إذا كان الليل مظلما؛ لأنها كانت رقيقة حساسة، أما إذا كانت الليلة مقمرة؛ فإنها تحضر ... إنني لا أخشى الظلام، ولكنها أصغر مني سنا، فلقد ولدت بعدي ... لقد زرتها كثيرا، إنها سلواي، ألجأ إليها عندما تقسو الحياة علي، وما أكثر ما تقسو!
الثلاثاء
لقد أمضيت اليوم كله في العمل لتحسين المزرعة، وتعمدت أن أبتعد عنه على أمل أن يحس بالوحدة فيعود إلي، ولكنه لم يفعل!
وعند الظهر توقفت عن العمل، وأخذت ألهو بالعدو وراء النحل والفراشات والاستمتاع بالأزهار، هذه المخلوقات الجميلة التي تلتقط ابتسامة الله من السماء وتحتفظ بها! لقد كنت أقطفها وأجمعها في باقات وأكاليل وأغطي جسدي بها عندما كنت أتناول طعام الغداء، وهو التفاح طبعا! وبعد ذلك جلست في الظل وتمنيت وانتظرت، ولكنه لم يأت!
ولكن ليس هذا بالأمر المهم. لا فائدة من ذلك؛ لأنه لا يهتم بالأزهار، فهو يعتبرها من القمامة، كما أنه لا يستطيع أن يميز نوع كل منها عن الآخر، وهو يعتقد أن مكانته تعلو إذا فعل ذلك، وهو لا يهتم بالأزهار، ولا يهتم بلون السماء وقت الأصيل، وهل هناك شيء آخر يهتم به غير بناء ملجإ يقيه المطر النظيف، والتفتيش عن البطيخ والعنب، ومراقبة الفاكهة وهي لا تزال على الأشجار ومراعاتها في مراحل نموها؟!
لقد وضعت عصا جافة على الأرض، وحاولت أن أثقبها بعصا أخرى لكي أقوم بمشروع كنت فكرت فيه، ولكنني أصبت بهلع فظيع؛ إذ انطلق من هذا الثقب شريط شفاف رفيع يميل إلى الزرقة واندفع إلى أعلى، وفي الحال ألقيت بكل شيء وهربت.
لقد كنت أعتقد أنه «عفريت» وكنت في أشد الهلع! ولكني نظرت خلفي، فوجدت أنه لم يحاول أن يلحق بي؛ ولذلك استندت إلى صخرة لأستريح وأسترد أنفاسي، وكانت ساقاي ترتعشان، فبقيت بجانب الصخرة حتى هدأ روعي، ثم أخذت أزحف ببطء وحذر وأنا في غاية الانتباه واليقظة، وعلى استعداد للهرب إذا جد الجد. وعندما اقتربت أزحت أغصان إحدى شجيرات الورد واسترقت النظر.
وكنت أتمنى أن يكون الرجل قريبا من المكان، خصوصا أنني كنت أبدو جميلة جدا كثيرة الدهاء، ولكن العفريت كان قد اختفى قليلا، فاقتربت من المكان، وهناك وجدت قليلا من التراب الوردي الرقيق داخل الثقب، فوضعت إصبعي بداخله لكي أتحسسه، ولكنني قلت: «أوه!» وجذبت إصبعي بسرعة ... كان الألم حادا، حتى إنني وضعت إصبعي في فمي، ووقفت مرة على إحدى قدمي ومرة أخرى على قدمي الثانية، وأخذت أتأوه وفي الحال ضاع الألم ... وبعد ذلك اشتد اهتمامي، وبدأت أبحث في الأمر.
قد كنت في أشد الشغف لكي أعرف ماذا كان هذا التراب الوردي، وفجأة طرأ الاسم على ذهني، ولو أني لم أسمع به من قبل، إنه النار! لقد كنت متأكدة من أنه النار! فلم أكن أتردد في تسميته بهذا الاسم.
ها أنا ذا خلقت شيئا لم يكن موجودا من قبل، وأضفت شيئا جديدا إلى ما على الأرض من أشياء لا حصر لها ... وكنت فخورا بهذا العمل العظيم، وكنت على وشك أن أعدو لأبحث عنه، وأخبره معتقدة أن هذا الكشف سيرفع من قدري في نظره، ولكنني أمعنت الفكر في الأمر وفضلت ألا أفعل.
لا! إنه لن يهتم به، وسوف يتساءل: وما فائدة هذا الشيء؟! ولا علم لي بجواب هذا السؤال؛ لأن النار ليست بذات فائدة، ولكنها جميلة، جميلة فقط.
ولذلك تنهدت ولم أذهب؛ لأن النار لم تكن بذات فائدة، إنها لا تستطيع أن تبني كوخا، ولا تحسن زراعة البطيخ، ولا تسرع بإنضاج الفاكهة! إنها عديمة القيمة، تدل على غباء مكتشفها وغروره ... لا بد أنه سيحتقرني، وسيخاطبني بسخرية لو أخبرته عنها. أما بالنسبة إلي فلم تكن النار حقيرة، فقد قلت لها: «أيتها النار! إنني أحبك! فيالك من مخلوق وردي رقيق! إنك جميلة، وفي هذا الكفاية.»
وكنت على وشك أن أضمها إلى صدري، ولكني امتنعت، وهنا اخترعت مثلا جديدا من رأسي وإن كان قريبا جدا من الآخر، حتى لقد خشيت أن يكون مجرد اقتباس منه وهو: «إن التجربة المحترقة لتهزأ بالنار.»
وأخذت أحاول إشعالها من جديد، وعندما حصلت على كمية كبيرة من تراب النار، أفرغته في حفنة من الحشيش البني الجاف، وفي نيتي حملها إلى البيت والاحتفاظ بها حتى ألهو بها، ولكن الريح هبت عليها فتناثرت وقفزت نحوي في وحشية، فألقيتها من يدي وجريت. وعندما نظرت خلفي كان العفريت الأزرق يتصاعد إلى أعلى ويمتد ويلتف كأنه السحاب. وفي الحال فكرت في اسم له، إنه: «الدخان»، ولو أنني أقسم أنني لم أسمع باسم «الدخان» من قبل!
وفي الحال، انطلقت ومضات صفراء وحمراء تتصاعد وسط الدخان، فأسميتها اللهب، وكنت على حق أيضا؛ لأن هذه كانت أول ألسنة للهب ظهرت على الأرض. ولما أخذت هذه الألسنة تتسلق الأشجار، ولمع بريقها وسط الدخان، وبدأت أصفق بيدي وأضحك وأرقص طربا، لقد كان شيئا جديدا وغريبا ومدهشا وجميلا في نفس الوقت.
وجاء وهو يجري، ثم توقف وأخذ يحملق بنظره ولم ينبس ببنت شفة لمدة دقائق عدة، ثم سألني: ما معنى ذلك؟ ونظرا لأنه وجه إلي سؤالا مباشرا، فقد كنت مضطرة أن أجيبه عن سؤاله، فقلت له: إنها النار! وإذا كان قد تضايق؛ لأنني أعلم أكثر منه، فإن الذنب ليس ذنبي، ولم أكن أتعمد مضايقته. وبعد فترة سألني: كيف حدثت هذه النار؟
ها هو ذا يوجه إلي سؤالا مباشرا آخر، فكان لزاما أن أرد عليه ردا مباشرا، وقلت: إنني أنا التي صنعتها!
وكانت النيران تنتقل من مكان إلى آخر مبتعدة عنا، فاتجه إلى حافة المكان الذي احترق، ونظر إليه، ثم قال: وما هذه؟! - إنها الفحم المتخلف عن النيران.
فالتقط قطعة منها ليفحصها، ثم غير رأيه ووضعها في مكانها وابتعد عني ... إنه لا يهتم بأي شيء!
ولكني كنت شديدة الاهتمام؛ فقد تخلف رماد ناعم وجميل ... كما كانت هناك جمرات من النار، لقد وجدت تفاحي، وكان وسط الجمرات؛ فأخذت أقلبها. لقد كنت صغيرة، وكانت شهوتي للأكل عظيمة، ولكن خاب ظني، فإن التفاح تفتح وسط النار وتلف، نعم! لقد تلف من الخارج ولكنه كان ألذ من التفاح الفج، إن النار جميلة، وأعتقد أنها ستكون ذات فائدة يوما ما!
الجمعة
لقد رأيته مرة أخرى، لفترة قصيرة، يوم الاثنين الماضي وقت المساء، وكنت كبيرة الأمل في أن يكيل لي المديح؛ لأنني أدخلت عدة تحسينات على المزرعة، فلقد كافحت بجد، ولكنه لم يظهر أي سرور، بل استدار على عقبيه وتركني. يبدو أنه كان غاضبا لسبب آخر؛ ذلك لأنني حاولت أن أحول بينه وبين الذهاب إلى الشلالات؛ ذلك لأن النار قد كشفت لي عن إحساس جديد، إحساس يختلف اختلافا تاما عن أحاسيس الحب والحزن وغيرها من العواطف التي سبق أن اكتشفتها، إنها عاطفة الخوف، إنها عاطفة كريهة حتى إنني ندمت على كشفي لها.
إنها تجعلني أعيش لحظات سوداء، فهي تنغص سعادتي وتجعلني أرتعش وأرتعد، ولكنني لم أستطع أن أقنعه بعدم الذهاب لأنه لم يكتشف الخوف بعد؛ ولذلك لم يستطع أن يفهمني.
الجزء الثالث من مذكرات آدم
الجمعة
يجب علي أن أذكر أنها صغيرة جدا، مجرد فتاة غريرة يجب مراعاة ظروفها، إنها ممتلئة حماسة واهتماما وحيوية ... إن العالم بالنسبة إليها سحر وأعاجيب وأسرار ومرح. إنها تعجز عن الكلام لفرط سرورها عندما تجد زهرة جديدة ... فهي تلاطفها، وتربتها، وتشم أريجها، وتتحدث إليها، وتناغيها، وهي تجن بالألوان جنونا ... فهناك الصخور البنية، والرمال الصفراء، والحشائش الرمادية، والأوراق الخضراء، والسماء الزرقاء، ولآلئ الفجر، والظلال القرمزية على سفوح الجبال، والجزر الذهبية التي تطفو في بحار حمراء عند الغروب، والقمر الشاحب وهو يسبح بين السحاب المتقطع، ولآلئ النجوم وهي تلمع في وسط الفضاء.
وليس لأي واحدة من كل هذه قيمة عملية في نظري، ولكن ما لها من ألوان وجلال يجعلها تفقد عقلها من أجلها، ولو استطاعت أن تهدأ وتصمت دقيقتين لكان هذا مما يبعث الراحة في نفس الإنسان، وفي هذه الحالة كنت أستطيع التمتع بالنظر إليها.
حقا إنني أستطيع الاستمتاع بذلك؛ لأنني بدأت أدرك أنها مخلوق جميل جدا، فهي رشيقة القوام، نحيفة، ملفوفة، خفيفة الحركة ... وذات مرة كانت تقف وهي بيضاء كالرخام على صخرة وقد لفحتها الشمس بأشعتها، ثم ألقت برأسها الصغير إلى الوراء، ورفعت يدها لتحجب أشعة الشمس عن عينيها لكي تراقب أحد الطيور وهو يسبح في الفضاء، فأدركت أنها جميلة.
الاثنين ظهرا
إنها تهتم بكل شيء على هذا الكوكب، فهناك حيوانات لا أهتم بها أنا، ولكنها على العكس من ذلك تحب كل الحيوانات على السواء، فهي تعتقد أنها جميعا كنوز، وترحب بكل جديد منها.
فلما رأت البرتنوسورس
1
القوي وهو يسير بخطى واسعة متجها نحونا، اعتبرته كنزا جديدا، واعتبرته أنه كارثة؛ لأنه مخلوق لا اتساق في شكله. لقد حاولت هي أن تستأنسه، وكانت تعتقد أنها تستطيع استئناسه بالمعاملة الطيبة حتى يصبح حيوانا مدللا، فقلت لها: إنه من المستحيل الاحتفاظ بحيوان مدلل يبلغ ارتفاعه إحدى وعشرين قدما وطوله أربعا وثمانين قدما، داخل بيتنا الصغير. وحتى لو حسنت نواياه من نحونا، ودون أن يقصد الأذى، فإنه قد يجلس فوق البيت فيحطمه تحطيما. إن نظرة واحدة إلى عينيه تدل على أنه شارد الذهن.
ومع ذلك فقد أصرت على الاحتفاظ بهذا الوحش، ورفضت أن تتركه وظنت أنها تستطيع إنشاء مصنع للألبان مبتدئة به، وطلبت مني أن أساعدها على حلبه، ولكنني رفضت. إن في ذلك خطرا محققا؛ إذ ليس هذا الحيوان من النوع الذي يدر اللبن! زد على ذلك أنه لم يكن لدينا سلم للقيام بهذه العملية.
ثم بدا لها أن تركبه لتتفرج على المناظر، وكان هناك جزء كبير من ذيله يتراوح طوله بين ثلاثين وأربعين قدما ملقى على الأرض كأنه شجرة قد اقتلعت بجذورها، فحاولت تسلق الذيل ولكنها لم تستطع، فإنها عندما وصلت إلى الجزء الشديد الميل انزلقت متجهة إلى الأرض، وكادت تصاب بأذى لولا وجودي.
فهل اقتنعت الآن؟! أبدا! لا شيء يقنعها إلا التجربة العملية، إنها لا تؤمن بالنظريات التي لم تتم البرهنة عليها، ولا تأبه لها.
حقا؛ إن هذه هي الروح الحقيقية وأنا أوافق عليها، فهي تجتذبني وأحس بتأثيرها. لو قدر لي أن أقضي معها وقتا أطول لربما آمنت بها.
لقد كانت لها نظرية خاصة فيما يتعلق بهذا الوحش. إنها تعتقد أننا إذا استطعنا استئناسه وجعله أليفا، ففي مقدورنا أن نجعله يقف وسط النهر لكي نستخدمه قنطرة! ولقد اتضح لي أنه أصبح أليفا فعلا، ولكنها لما حاولت أن تثبت نظريتها فشلت، فقد كانت كلما حاولت أن تطلب منه الوقوف وسط المجرى لكي تعبر النهر فوق ظهره، خرج من الماء وأخذ يتبعها كأنه جبل متحرك. إنه يشبه في هذا جميع الحيوانات الأخرى، فهي تتبعها كلما سارت.
الجزء الرابع من مذكرات حواء
الجمعة
مضى الثلاثاء والأربعاء والخميس واليوم أيضا ولم أستطع أن أراه، لقد طالت أيام وحدتي، ولكن من الأفضل لي أن أبقى وحيدة عن أن أحس بأنني غير مرغوب في رفقتي!
إنني مضطرة أن أبحث عن رفيق - فقد خلقت لهذا - ولذلك أصاحب الحيوانات! إنها لطيفة، ولها طبعها الرقيق، وأساليبها الدمثة، إنها لا تغضب أبدا، ولا تجعلك تحس بأنك طفيلي أو دخيل ...
إنها تبتسم لك وتحرك ذيولها - إذا كانت لها ذيول - وهي مستعدة أن تسير وراءك في أي رحلة وإلى أي مكان ... أظن أن جميع الحيوانات لها أخلاق الكرام الفضلاء.
1
لقد انقضت هذه الأيام كلها، وكنت سعيدة ولم أحس بالوحدة ... إن هناك دائما سربا منها يحيط بي، وقد يبلغ عدد القطيع ما يغطي أربعة أو خمسة أفدنة، إن عددها كبير لا تستطيع إحصاءه، وعندما تقف على صخرة في وسطها، ثم تطل من فوق ظهورها وهي تلمع وتعكس مئات الألوان والخطوط، تحس كأنك وسط بحيرة، كما تحس بعواصف من الطيور التي تحبك وتحوم حولك، وأعاصير من الأجنحة المتحركة! وعندما تسقط أشعة الشمس على هذه الأجنحة ذات الريش المختلف الألوان يبهر ناظريك بريقها الخاطف ...
لقد قمت برحلات طويلة معها، وشاهدت جزءا كبيرا من العالم، بل أظن العالم كله؛ ولذلك فإنني أعتبر أول رحالة، بل الرحالة الوحيدة! وعندما أسير معها يتكون منا موكب عجيب حقا، ليس له مثيل مطلقا ... وعندما أنشد الراحة أركب نمرا أو فهدا؛ لأن جلودها ناعمة، وظهرها مستدير يريحني عندما أستقر عليه، ولأنها حيوانات جميلة.
أما إذا كانت المسافة طويلة، أو إذا كنت أريد النظر بعيدا إلى الأفق، فإنني أمتطي ظهر الفيل، فهو يرفعني بخرطومه ولكني أستطيع أن أنزل بمفردي عن ظهره عندما يجلس فأنزلق هابطة.
إن الطيور والحيوانات على علاقة ودية فيما بينها، وليست هناك مشاحنات بينها، فكلها تتحدث معه وتتحدث معي، ولكن لغاتها أجنبية غريبة غير مألوفة، لا أستطيع أن أفهم كلمة واحدة منها، ومع ذلك فهي تفهمني عندما أتحدث معها خصوصا الكلب والفيل. وبذلك أحس بالخجل منها؛ فإن هذا يدل على أنها أكثر ذكاء مني، وهي بذلك تتفوق علي، مما يضايقني؛ لأنني أريد أن أكون أنا التجربة الرئيسية، ولا بد لي أن أكون كذلك.
لقد تعلمت أشياء كثيرة، كما حصلت على قسط من التربية والتعليم، ولم أكن كذلك قبلا ... كنت جاهلة، وفي بادئ الأمر كنت أضيق بكل هذا على الرغم من قوة ملاحظتي، ولم أكن من المهارة بحيث أشهد انطلاق الماء من أسفل التل إلى أعلاه، ولكنني الآن لم أعد أهتم بذلك، فلقد قمت بالتجربة تلو التجربة، حتى أيقنت الآن أن الماء لا ينطلق أبدا من أسفل إلى أعلى إلا وقت الظلام ... إنني أعلم أنه يفعل ذلك وقت الظلام؛ لأن البركة لا ينضب ماؤها أبدا ... وكان لا بد أن يحدث هذا طبعا لو لم يعد الماء إليها أثناء الليل.
إن أهم شيء هو ثبوت الأشياء عن طريق التجارب، فبهذا يتم تعليمك، في حين أنك لو اعتمدت على التخمين والافتراض والظن، فإنك لن تنال شيئا من العلم مطلقا.
هناك بعض أشياء لا تستطيع أن تكتشفها، فعليك بالصبر والمثابرة على التجارب إلى أن يتبين لك أنك لا تستطيع أن تكتشفها، وإنه لمما يبعث على السرور حقا أن تصل إلى هذا الرأي، فإنك عندئذ تحس بأن العالم قد أصبح جديرا بالاهتمام، فإنه لو انعدمت الأشياء التي يجب أن نبحث عنها، أصبح العالم عالما مملا ...
إن مجرد محاولة البحث والوصول إلى لا شيء، يساوي في بهجته البحث والعثور على الضالة المنشودة ... إن سر الماء كان يعتبر كنزا بالنسبة إلي، ولكن لذة البحث كانت قد انتهت، وعندئذ أحسست بأنني فقدت شيئا!
وعن طريق التجارب عرفت أن الخشب والأوراق الجافة والريش وغيرها تطفو على سطح الماء؛ ولذلك أستطيع أن أستنتج بأن الصخرة تطفو، ولكن ليست هناك وسيلة لإثبات ذلك، حتى الآن. ولكني سأحاول أن أجد الوسيلة، وعندما أجدها ستنتهي لذة البحث.
إن هذه الأشياء تملأ نفسي أسى؛ لأنني أحس بأنني إذا استطعت معرفة كل شيء انتهت اللذة ... وهنا يزيد حزني لأنني أحب اللذة، لم أستطع النوم في الليلة الماضية من كثرة التفكير في هذا الأمر.
وفي بادئ الأمر لم أستطع أن أكتشف لماذا خلقت ... ولكني الآن أعتقد أنني خلقت لكي أكشف أسرار هذا العالم المدهش، ولكي أسعد به، ولكي أشكر الخالق الذي ابتدع كل ما فيه.
وأظن أن هناك أشياء كثيرة باقية لا بد لي من أن أتعلمها، وبالاقتصاد وعدم التسرع ستبقى هذه الأشياء أسابيع وأسابيع ... أرجو ذلك! فعندما تنتزع ريشة وتطلقها إلى أعلى تراها تسبح في الهواء ثم تختفي عن الأنظار، ولكن عندما تقذف قطعة من الطين تلاحظ أنها لا تسبح في الهواء، بل تهبط إلى الأرض في كل مرة ... لقد جربت ذلك مرارا وتكرارا، وفي كل مرة كانت تسقط على الأرض، إنني أتساءل عن السبب في هذا! وأنا أعتقد أن هذا من خداع النظر، ولكنني لا أعرف أيهما، أهي الريشة أم قطعة الطين، إنني لا أستطيع أن أبرهن على أيهما؟ ولذلك فإنني أستنتج بأن هذه أو تلك من خداع النظر.
وعن طريق الملاحظة علمت أن النجوم لن تدوم إلى الأبد، فلقد رأيت فريقا من أجملها ينكدر ويهوي في السماء، وإذا كانت إحداها تنكدر فلا بد أن كلها ستنكدر ... ونظرا لأن جميعها ستنكدر، فلا بد أنها ستنكدر كلها في ليلة واحدة، إنني أعلم أن هذه النهاية المحزنة لا بد أن تتم؛ ولذلك فلقد عزمت على أن أسهر كل ليلة، وأنظر إليها كلما كنت متيقظة، وأحاول أن أحتفظ بهذه اللآلئ في ذاكرتي، حتى إذا جاءت النهاية واختفت النجوم، فإني أستطيع بقوة خيالي أن أعيد هذه اللآلئ الجميلة إلى السماء السوداء، وأجعلها تتلألأ مرة أخرى، بل وأضاعف من عددها ذلك بالنظر إليها من خلال دموعي.
بعد الطرد من الجنة
عندما تعود بي الذكرى أحس أن الجنة كانت حلما لذيذا، حلما جميلا ساحرا، ولكن ضاعت الجنة منا، ولن أراها مرة أخرى.
لقد فقدت الجنة ولكنني وجدته ... هو! وإني قانعة بذلك، إنه يحبني بكل ما فيه من قوة، وأحبه بقوة طبيعتي العاطفية، وهو شيء يتناسب مع شبابي وجنسي!
فإذا سألت نفسي: لماذا أحبه؟ لم أجد جوابا على سؤالي، بل وجدت أنني لا أهتم بمعرفة هذه الإجابة؛ ولذلك أعتقد أن هذا النوع من الحب ليس نتيجة من نتائج التعليل والإحصاء؛ مثل حب الإنسان للزواحف والحيوانات الأخرى ...
إنني أحب بعض الطيور بسبب جمال صوتها، ولكنني أحب آدم من أجل غنائه. لا! ليس الأمر كذلك فإنه كلما غنى قل إعجابي بغنائه ... ومع ذلك، فإنني أطلب منه أن يغني؛ لأنني أود أن أعود نفسي على محبة كل شيء يهتم به، وإنني على يقين من أنه سيأتي الوقت الذي أستطيع فيه أن أتعلم. لقد كنت في بادئ الأمر لا أحتمل غناءه، ولكنني الآن أستطيع تحمله.
ولست أحبه بسبب نصيبه من الذكاء ... لا! ليس هذا هو السبب؛ فليس هو المسئول عن نصيبه من الذكاء، فإنه جاء كما خلقه الله وهذا فيه الكفاية. إنني أعلم أن لله حكمة في هذا، وأعلم أنه سيتحسن بمرور الوقت وسيكون التحسن بطيئا، وأنا من جهتي لست على عجل، إنه يعجبني كما هو.
ولست أحبه بسبب أساليبه الرشيقة ولطفه ... لا! إن الرشاقة واللطف ينقصانه، ولكنه يتحسن شيئا فشيئا.
ولست أحبه بسبب جده وهمته، لا! ليس هذا هو السبب، إنني أعتقد أنه يخفي عني السبب وهذا ما يؤلمني، أما إذا استثنينا هذا السبب، فإننا نجد أنه صريح جدا معي، إنني متأكدة أنه لا يخفي عني شيئا غيره، ويزيد من أسفي أنه يحتفظ لنفسه بسر ولا يبوح لي به، وفي بعض الأوقات لا أستطيع النوم وأنا أفكر فيه، وسأحاول أن أطرده من مخيلتي، فلا أريد أن يعكر شيء صفو سعادتي، التي أنا غارقة فيها، لولا هذا السر.
ولست أحبه بسبب ثقافته، لا! ليس هذا هو السبب! لقد علم نفسه وهو يقوم بعدة أعمال نافعة.
ولست أحبه بسبب شهامته، لا! ليس هذا هو السبب فهو مسيطر علي، ولا أستطيع أن ألومه. إن السيطرة من خصائص جنسه، ولا يمكن أن يلام على ذلك؛ لأنه ليس هو الذي اختار لنفسه هذا الجنس. وبالطبع، أنا لا أسمح لنفسي أن أسيطر عليه، فإنني أتمنى الموت على أن أفعل ذلك ... إن ذلك من خصائص جنسي، ولست أمدح نفسي من أجل ذلك؛ لأنني لم أصنع جنسي بنفسي!
إذن ... فلماذا أحبه؟! إنني أعتقد أنني أحبه؛ لأنه مذكر!
وفي أعماقه هو طيب القلب، وأنا أحبه من أجل ذلك. ولكني أستطيع أن أحبه ولو لم يتحل بهذه الصفة، إنه إذا ضربني أو أهانني فسأستمر على حبه، وأنا أعلم هذا أيضا، إنها على ما أظن مسألة جنس!
إنه قوي وجميل وأنا أحبه من أجل ذلك، وأعجب به، كما أفخر به. وكان في مقدوري أن أحبه أيضا ولو لم تكن له هذه الصفات، حتى لو كان شكله عاديا، لكنت أحبه، حتى لو كان حطام رجل لكنت أحبه وأشتغل من أجله، وأعمل كالعبد، وأصلي من أجله وأسهر عليه بجانب فراشه حتى أموت.
أي نعم! أظن أنني أحبه لمجرد أنه ملك لي، ولأنه مذكر، فليس هناك أي سبب آخر على ما أعتقد. ولذلك أومن بأن هذا النوع من الحب ليس نتيجة من نتائج التعليل أو الإحصاء.
إنه حب يأتي ولا يعلم أحد من أين! كما لا يستطيع تفسير كنهه ... وليست هناك حاجة لذلك!
إن هذا ما أؤمن به، ولكنني لست إلا فتاة استطعت أن أكون الأولى في الكشف عن هذا الأمر، وقد تظهر الأيام خطأ رأيي بسبب جهلي ونقص خبرتي.
بعد ذلك بأربعين عاما
إنني أدعو الله أن نخرج من هذه الحياة معا، وهي صلاة لن تغيب عن هذه الأرض، بل ستجد لها مكانا في قلب كل زوجة تحب زوجها وتسمي نفسها باسمي حتى نهاية العالم!
فإذا قدر لأحدنا أن يترك الحياة قبل الآخر، فإنني أرجو أن أكون أنا التي تمضي وتسبقه، فهو قوي وأنا ضعيفة؛ ولذلك فإنني لست ضرورة له، في حين أنه ضرورة لي، إن الحياة بدونه لا تسمى حياة، فكيف أستطيع تحملها؟!
إن صلاتي هذه ستبقى خالدة، على مر الزمان، طالما بقي جنسي على ظهر الأرض. إنني أول زوجة ... وسيتكرر هذا الدعاء حتى آخر زوجة في الدنيا!
على قبر حواء
آدم: «أينما وجدت حواء ... وجدت الجنة.»
صفحه نامشخص