كان مروان سعيدا بأنه أصبح فردا في عالمه الفردوسي. جلسوا معا في الصالة. طلب مشاهدة متحف عظماء التاريخ البشري، وهو مشتاق ليشاهد صورة الملكة بلقيس. راحت مريانا تبحث من خلال تسجيل لهن عن الملكة بلقيس، حين ظهرت في المتحف تسمرت عيناه وهو يشاهد تمثالا لامرأة سمراء فاتنة تقف شامخة نجلاء العينين، نظراتها غاضبة، على رأسها تاج مرصع بالجواهر. تلبس بنطلونا وقميصا قصيرا يظهر أسفل بطنها. سأل مروان: كم عاشت في هذا العالم؟ - عشرين عاما. - وهل تحدثت عن تاريخها؟ - نعم، وهو محفوظ في مكتبة خاصة للإرث البشري. ونحن النساء نراها فلتة عصرها، استطاعت أن تحكم الرجال في عصر سيطرة الرجل، وأعطت درسا لنساء هذا العصر.
بعد أسبوع ذهبن جميعا إلى المستشفى؛ ليتأكدن من حملهن ما عدا سنا. سألها مروان عن عدم رغبتها في الذهاب. قالت: «أنا غير قابلة للحمل.» اندهش مروان حين تبين أنها مستنسخة؛ فقد توفيت عن عمر ناهز الخمس السنوات؛ نتيجة سقوطها من الدور العاشر، والمستنسخ غير قابل للإنجاب. قال في نفسه غاضبا: «إما أنهم يكذبون علي، أو أنا في حلم طال أمده .. هذا العالم يتدخل في مشيئة الخالق. لم أعد أحتمل!» بعد الكشف على نسائه تبين أنهن حاملات بذكور، فرحن كثيرا؛ فكل امرأة تحمل بذكر ستحصل على تفرغ لتربية الطفل لمدة عامين.
أحس مروان بأنه فرد في ذلك العالم الفردوسي. لم يعد يفكر بأنه في الجنة، أو عالم الجن، أو أنه في حالة رؤيا للمستقبل، فها هو سيصبح أبا وزادت سعادته إشراقا. يفكر بأن يقنعهن لتسلمن على يديه، ويطبقن أركان الإسلام. وجد نفسه مبشرا لدينه في ذلك العالم.
كذلك كانت أمه غصون، بعد حلم جميل راودها في المنام. قامت من نومها وخرجت من غرفة ابنها تسرع إلى حميدة وأيقظتها من منامها، أمسكت بمعصمها وقادتها إلى غرفة مروان، لتقف أمامه، تحدثت غصون بفرح: «انظري إلى شفتيه إنه يبدو سعيدا، وبسمته اتسعت أكثر، لم أرها هكذا من قبل، وهذه الليلة حلمت أنه تزوج! يعني أنه سيعيش وسيدخل دنيا جديدة!» لكن حميدة قالت لها بحزن بأن حلم الزواج يعني الموت!
رأت حميدة الدود يتحرك في رجله اليسرى. خافت وعادت إلى الخلف مرعوبة، وقالت باكية: «يا عمة، مروان يأكله الدود، لقد مات، لا بد من دفنه ...» صاحت غصون بغضب: «ابني لم يمت، بسمته تزداد إشراقا. لن تدفنوه وهو حي!» استدعت حميدة الطبيب المعالج ليؤكد صحة رؤيتها. وصل الطبيب ووضع الكمامة حول فمه وأنفه. جس نبض مروان، وفتح عينيه. قال: «إنه في ساعته الأخيرة من حياته، وعليكم بتطهير الغرفة من هذه الرائحة، يمكن أن تضر من يبقى فترة طويلة معه في الغرفة!»
دخل جميع الأولاد لمشاهدة أبيهم، ثم خرجوا يجلسون في الديوان. شكا علي لهم خسارة السوبر ماركت. واتفق الجميع على بيعه قبل أن يفلس، وكل واحد منهم يأخذ نصيبه الشرعي؛ فقد خسر الكثير من التجار والمقاولين منذ أن بدأت الحرب قبل ثمانية أشهر .. سمعت غصون بأن الأولاد يريدون تقسيم التركة، فأمسكت عصاها وجرت خلفهم تشتمهم، وتخبرهم بأن لن يقتسموا تركة ولدها، وهو لا يزال على قيد الحياة.
بينما كانت غصون تجري خلف أحفادها؛ لتضربهم بعصاها. كان مروان ونساؤه في نزهة داخل المدينة. مروا بحديقة تتدلى من أشجارها زهور مضيئة تصدر كل ألوان الطيف، فظن مروان أنها قناديل. ذهب مروان يتنزه في الحديقة، شاهد رجلا كبيرا في السن يداعب زهرة، ظن أنه قد شاهده من قبل. رحب ذلك الرجل بمروان، وذهبا يتحدثان معا عن أمور شتى .. قال الرجل بأنهم هزموا الشيطان، ومات في نفوسهم بعد السيطرة على الأنا. استنكر مروان، وقال: لكن الشيطان لا يهزم! - هو بذاته لا يهزم، لكن له وسائطه يعمل من خلالها، ونحن أضعفنا تلك الوسائط، وهي الأنا في الإنسان، وأصبحت تحت سيطرة العقل؛ فالشيطان لا يستطيع أن يعمل ما يريد إلا من خلال جسد الإنسان، كالروح التي لا تستطيع أن تعمل إلا من خلال الجسد أيضا. - أظنك فيلسوفا، هل تعرف عن الفلسفات القديمة؟ - نعم، أعرف.
ثم حدثه الرجل عن فلسفة التثليث في الشعوب القديمة، قائلا: كان الإغريق يعتقدون أن العالم تديره وتحركه ثلاثة أمور، هي: المنشئ الأول الأزلي، العقل المنبثق منه، ثم الروح، التي هي مصدر الأرواح جميعا. ونظرية الفيض الأفلاطونية الحديثة تقول: إن الوجود فاض عن الواحد، وهو العقل الأول «الإله»، ومنه النفس الكلية، ومنها الهيولى الأولى للكون. سلسلة متراتب بعضها يأخذ من بعض. أي من الواحد أتت الكثرة كما تحدث فيثاغورث، والفيض يعني كفيض النور من الشمس، ومنه نمت الحياة على الأرض. لقد عرف معظم الفلاسفة اليونانيين الخالق دون اتصالهم بدين توحيدي. أرسطو تحدث عن الله، وقال عنه: «إنه المحرك الأول للكون»، وأفلاطون قال عنه: «هو الأول الواحد، وكل شيء انبثق من الواحد.» وفي نظرية الفيض لأفلاطون قال: «إن الله فاض عنه كل الموجودات.»
حدث مروان نفسه: «أظنني شاهدت هذا الرجل. لا بد أن أذكر أين شاهدته!» ثم عاد يسمع حديث الرجل، وهو يتحدث عن فلسفة التثليث في الديانة الهندوسية، قائلا: كانوا يعتقدون أن الإله ذو ثلاثة أقانيم، وهو الوجود الثلاثي أو الوحدة الثلاثية، وهو اتحاد الآلهة (براهمة، فشنو، شيفا) غير منفكين عن الواحد، فإذا دعوت أحدهم فكأنك دعوت الكل، ويرون أن روح الإنسان هي مصغرة من روح الآلهة، وتستطيع أن تتحد بالله؛ لأنها استمدت روحها من الآلهة، وإذا استطاعت أن تستمد حياتها أو طاقتها من روح الله، تستطيع أن تكون إلها، ولا يتم هذا الاتحاد إلا بتجربة روحية. واعتقد بعض الصوفيين المسلمين بمبدأ الاتحاد مع الخالق «الحلول». وكذا البوذيون كانوا يقولون إن بوذا إله، ويقولون بأقانيمه الثلاثة، وكثير من الديانات كانوا يؤمنون بالأقانيم الثلاثة، مثل الفرعونية، الفينيقية، المكسيكيون، التتر والإسكندنافيون. كانوا يعبدون إلها من ثلاثة أقانيم. وكذلك بلاد سبأ القديمة كان يعبدون ثلاثة؛ الشمس والقمر والزهرة. وكذلك الديانة المسيحية، كانت تقول: إن الوجود له ثلاثة وجوه، تعبر عن وجه واحد «الله، الطينة، الحياة»، آدم الإنسان هو الطينة، نفخ الله فيها الحياة، وهي حلول الروح في المادة، أي هي واحد في ثلاثة، فإذا قلنا الله واحد، والطين اثنين، والحياة ثلاثة، فالاثنان هما المادة الأولى، والواحد هو الله، والثلاثة هي الحياة أي آدم، «الله، عيسى، الروح». يسمونهم الأقانيم الثلاثة، الروح والجسد والنفس. فالأب هو الروح، والجسد هو الابن، والنفس هي الروح القدس. أي طاقة الانبثاق، ونتاج الانبثاق هو الابن، كانبثاق الفكر عن التفكير.
كان مروان يبتسم بسخرية وهو يحدث نفسه: «قبحهم الله، كل فلسفه تأخذ من الأخرى.» وعاد يستمع إلى الرجل، وقد بدأ يتحدث عن الفلاسفة المسلمين. قاطعه مروان، وأخبره بأنه يعرف عن أحدهم وأبرزهم هو الكندي، قائلا: قبحه الله، وصف الخالق كما وصفه الفلاسفة الآخرون، قال عن الله بأنه المبدع الأول، فاض عنه كل شيء. وقال عن الأنبياء بأن زودهم الخالق بقدرة على التواصل ذهنيا مع الكون، وعندهم قدرة كبيرة للتناغم مع القدر، وهذه القدرة موجودة لدى كل البشر، لكنها بنسبة قليلة لا تتعدى قدرة هؤلاء الأنبياء. وهو علو الذهن وصفاؤه فوق دماغ الإنسان العادي المحدود، ما يسمى بالفضاء الداخلي، وأدمغتنا تنتهي إلى هذا النظام الطبيعي للروح الكونية، ولكن الإنسان العادي اتصاله منقطع معها، الذي يتجاوز ذلك النظام والقدرة.
صفحه نامشخص