وأحيانا كان يكون السبب في اضطهاد المسلمين لليهود والنصارى سببا اقتصاديا، فكثيرا ما كان يحدث أن تولي الحكومات الإسلامية بعض اليهود والنصارى زمام الأمور المالية في الدولة، فيسرفون في تعيين أقاربهم وأصهارهم في الوظائف المالية، كما يسرفون في بذل المال لهم، وبعد قليل ينظر المسلمون فيرون أن الغنى والترف وحياة الفخفخة والأبهة والعظمة في جانب اليهود والنصارى، وحياة البؤس والفقر في جانب المسلمين، فيثور ثائرهم ويحطمون هذا الوضع الاقتصادي الظالم، كما حدث ذلك في العهد الفاطمي. وقد كانت الدولة العثمانية في أول أمرها من أكثر الدول تسامحا لرعاياها من اليهود والنصارى، ومنحتهم من الامتيازات ما لم يعهد له نظير في الدول الأخرى، ولكن انقلبت هذه الامتيازات معاول لهدم الدولة العثمانية، واتخذت الدول الأجنبية من روسيا وإنجلترا وفرنسا وغيرها هذه الامتيازات التي لرعاياها وسيلة لنشر الدسائس، وتدبير المؤامرات، وخلق الفتن، فاضطرت الدولة بعد إلى استعمال كثير من العنف؛ دفاعا عن كيانها، ومواجهة لنقض الدسائس التي تحاك حولها، وكل هذا سياسة لا دين. وأحيانا يكون سبب القتال والخصام تجارة رؤساء الدين، فيرون أن قوة مركزهم وبسطة نفوذهم متوقفة على تعصب عوامهم، فهم يستغلون ضيق نظر أتباعهم ويبثون فيهم روح التعصب؛ حفظا لمركزهم ونفوذهم وسيطرتهم، علما منهم بأنه إذا ساد التسامح، وكان الناس إخوانا فقدوا عزتهم ومكاسبهم الفانية، والأمثلة على ذلك كثيرة. •••
وبعد فإن أوروبا مع تقدمها في فهم الحرية، وجدها المتواصل في بناء حياتها على العلم لا على العواطف ما زالت بعيدة عن تحقيق التسامح الديني بالمعنى الذي شرحناه قبل. فبالأمس قرأنا كيف فعل هتلر بيهود ألمانيا، وقرأنا كيف اضطهد الشيوعيون الدين، وحاربوا شعائره، ونقرأ في الصفحات الأخيرة كيف حاربت أوروبا المسلمين العرب في فلسطين، ونصرت اليهود عليهم، وعرفنا كيف تخلط أوروبا المنفعة السياسية بالعواطف الدينية في معاملتها للمسلمين.
وأخيرا فهل للمسلمين أن يشتد وعيهم الديني، ويفهموا بعد طول هذه التجارب التي ذكرناها أنه لم يعد هناك وجه للخلاف بين سني وشيعي وزيدي وغير ذلك من المذاهب؛ لأنهم لو رجعوا إلى أصل دينهم ما وجدوا لهذا الخلاف محلا، ولوجدوا أنه خلاف مصطنع لا خلاف أصيل، وأن الأمم الإسلامية في موقفها الحاضر أحوج ما تكون إلى لم شعثها، وإصلاح ذات بينها، وتوحيد كلمتها، وهي ترى كيف تهاجم من كل جانب وكيف يتخذ إسلامها وسيلة من وسائل الكيد لها، وإذا اتحد أهل الباطل على باطلهم فأولى أن يتحد أصحاب الحق على حقهم!
واعترض قوم آخرون على الإسلام - وخصوصا المستشرقين الإنجليز في الهند - بأن الإسلام جامد، والدين لايصلح إلا إذا كان فيه عناصر ثبات وعناصر تحول على حسب مقتضى الظروف والأحوال. وهذا عيب في المسلمين لا في الإسلام، فالإسلام سن بابي الإجماع والاجتهاد ليكون مرنا. وكان من أكبر قادة المسلمين عمر بن الخطاب، وكان يجتهد حتى فيما يقابل النص. وسار معاذ بن جبل، ثم عبد الله بن مسعود، ثم أبو حنيفة النعمان على هذه الطريقة، طريقة إعمال العقل فيما يروى، والاجتهاد فيما يجد من الأحداث. وإنما المسلمون آخر الأمر هم الذين أغلقوا باب الاجتهاد، وحرموه عليهم، وكلفوا المسلمين شططا في أنهم يسيرون في الظروف الحادثة سيرهم في الظروف القديمة. وظهروا أمام العالم الغربي بمظهر الجامدين، واتخذ هؤلاء المستشرقون عمل المسلمين حجة على الإسلام نفسه، والإسلام نفسه من ذلك براء.
وتبع هذا غلو في الدين وتشدد فيه بعد أن كان الإسلام سمحا وسهلا، وذلك بسبب تأثير الفلسفة اليونانية على المسلمين. فالإسلام يأمر بغسل الوجه عند الوضوء، فتأتي الفلسفة وتحدد معنى الوجه وما تنطبق عليه كلمة الوجه، كأن المتوضئ مهندس مساح يريد تحديد الوجه بالمساحة. والدين يندب إلى السواك، فيأتي الجامدون المغالون ويبحثون في السواك: بم يكون؟ ومتى يكون؟ وما حجم القشرة المنزوعة من عود الأراك؟ وكيف يستاك؟ وبعد أن يستاك كيف يضع السواك؟ إلى آخر ما هناك. فهذا تشديد في الدين تأثر فيه الإسلام بالعقل الفلسفي اليوناني الذي يتعمق ويتعمق. وقد كان الإسلام يأمر بغسل الوجه، ويندب إلى السواك على الفطرة من غير بحث ولا تعمق، وهكذا في سائر شئون الدين وتعاليمه، حتى خرجوا من ذلك إلى الحيل الشرعية التي يحتالون بها للهروب من الواجبات، فألفوا في ذلك الكتب في الحيل الشرعية. وكانت هذه الفلسفة أيضا سببا من أسباب التفريق بين المسلمين فرقا مختلفة حتى انقسموا فيما بينهم كانقسام الأمم قبلهم.
وتسألني كيف يكون تقرب الأوروبيين من المسلمين؟ وكيف يصلح المسلمون حالهم؟ فأقول: أما تقرب الأوروبيين من المسلمين؛ فله دواع كثيرة. أولها: أن النعرة الوطنية كانت أشد من العصبية الدينية؛ فحاربت أمريكا وإنجلترا النصرانيتين روسيا النصرانية، وانقسم العالم الآن إلى معسكرين كل منهما نصراني، ودعتهما العصبية القومية أن يستعينا بغيرهما من المسلمين، فكان في هذا التقرب إليهم. وثانيا: وجد هناك أبطال من العلماء المسلمين ومن العلماء المسيحيين، رفعوا الصوت عاليا ضد الجهلاء السابقين. من هؤلاء المنصفين «كارليل» في كتابه «الأبطال»، وإسحاق تيلر في خطبه في «مجمع القسيسين»، و«أرنولد» في كتابه «الإسلام»، وغيرهم. وهؤلاء من غير شك مسحوا شيئا غير قليل من عداء الماضي، وأسسوا نزعة جديدة للتحبب والتقرب. ومن هذه الدواعي أن العالم الآن يسير نحو الإنسانية متخطيا القومية والوطنية، ولا بد أن سيصل يوما إلى هذه الغاية.
ومنها أن المخترعات الحديثة من طيارات وما إليها أزالت الفوارق بين الشعوب، وجعلت العالم كله وحدة، وقربت الاتصال بين أوروبا والشرق، وسهلت نقل الأفكار والمعاني إلى الشرقيين، فدب فيهم الوعي القومي، ونال بعضهم الاستقلال؛ تلبية لهذه الأفكار التي يسمعونها والصحف التي يقرءونها، والبعض الآخر في طريقه إلى ذلك.
وأما إصلاح حال المسلمين فيكون بشيئين: أحدهما فصل العلم عن الدين، والتوسع في العلم إلى أقصى قدر مستطاع؛ فليس العلم ملكا لمذهب دون مذهب، وليس الإسلام مما يناهض العلم. وفصل العلم عن الدين شيء ميسور ومحبوب. وأما فصل الدين عن السياسة كما فعلت أوروبا المسيحية، وكما فعل مصطفى كمال؛ فشيء لا يقتضيه الإسلام؛ لأنه لا بد أن يدخل الدين في السياسة؛ لينقحها، ويهذبها ويحسن من نيات ولاة الأمور، ويوجههم نحو ما ينفع رعيتهم، ولم تقع أوروبا في الحروب المتتالية إلا لفصل السياسة عن الدين؛ فبانفصالها عن الدين انفصلت عن الأخلاق أيضا.
والأمر الثاني هو الاجتهاد. والاجتهاد في اصطلاح الأصوليين بذل الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي. وقد اشترطوا في المجتهد شرطين؛ الأول: معرفة الله - تعالى - وصفاته، وتصديق النبي
صلى الله عليه وسلم ، والثاني: أن يكون عالما بمدارك الأحكام، وأقسامها، وطرق إثباتها، ووجوه دلالتها، وأنواع العلوم العربية من اللغة والصرف والنحو وغير ذلك. وقد أصيب المسلمون بحكمهم على أنفسهم بالعجز، وقولهم بإقفال باب الاجتهاد؛ لأن معناه أنه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد، ولا يرجى أن يكون ذلك في المستقبل. وإنما قال هذا القول بعض المقلدين؛ لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس، وزعمهم عكس ما يقول أصحاب النشوء والارتقاء من دعواهم أن العقل دائما في تدن وانحطاط، وغلوهم في تعظيم السابقين.
صفحه نامشخص