صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين من بعده لنالنا العجب كل العجب مما وصل إليه بعض المسلمين من الترف.
ولم يكن من مميزات الدولة العباسية اتساع رقعة المملكة الإسلامية، ولكن كان من طابعها الخاص تقديس الخليفة العباسي تقديسا لم يعرف في عهد الخلفاء الراشدين، ولا الدولة الأموية، واعتصام الخليفة العباسي بالبردة النبوية، ومن مميزاتها أيضا ظهور التصوف والمتصوفة كفرقة دينية. نعم كان الزهد معروفا في أهل الصفة في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفي بعض المسلمين في العصر الأموي كالحسن البصري، وكان التصوف ليس مستندا إلا إلى الإسلام فلما جاءت الدولة العباسية ظهر التصوف في شكل آخر، وظهرت فرق التصوف، بعضها نازع نزعة الفلسفة اليونانية، وبعضها آخذ عن النصرانية، وبعضها آخذ عن الهندية.
كان الزهد قبل ذلك مأخوذا عن الإسلام، ليس له عنصر آخر غير القرآن والحديث، فأخذوا الطريقة والمريد كما كان عند النصارى الكاهن والمهتدي، وأخذوا منهم نظام الرهبنة مع أن القرآن يقول:
ورهبانية ابتدعوها ، وفي الحديث: «لا رهبانية في الإسلام»، وأخذوا من النصارى أيضا حلقات الذكر ونظامها، وكان اسم المتصوف أولا يطلق على الزهاد المتقشفين أمثال أحمد بن حنبل ثم أطلق على هؤلاء المبتدعين المقلدين للأمم الأخرى، فأطلق على إبراهيم بن أدهم، وألصقت بحياته قصص تشبه قصص بوذا، من هجر الملك ، ولبسه جبة الراعي ، وأصبح يمكن تقسيم التصوف وإرجاعه إلى عناصر مختلفة، بعضها نصراني، وبعضها يوناني، وبعضها هندي، ولكل فرقة رئيس، كما ظهرت فرقة المعتزلة وعلى رأسها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وقد كان من عملها فلسفة الدعوة الإسلامية؛ ذلك أن الدعوة الإسلامية التي أتى بها محمد
صلى الله عليه وسلم
دعوة بسيطة ساذجة، لا فلسفة فيها، تناسب حالة العرب وقت الدعوة، فجاء المعتزلة ورأوا الأديان الأخرى من يهودية ونصرانية وبوذية وزرادشتية قد فلسفت أديانها، وتسلحت في براهينها بالأسلحة الفلسفية، فكان لا بد للمعتزلة أن يقابلوهم بالمثل؛ فيحاجوهم بالفلسفة، ثم عرضوا مبادئ الإسلام على الفلسفة كوحدة ذات الله وصفاته، ومثل وجوب العدل على الله، ووجوب مكافأة المثيب بالثواب، والمجرم بالعقاب؛ اعتمادا على قوله - تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، ثم تمسكهم بالقول بخلق القرآن ونحو ذلك.
وقد كانت عقائدهم حرة، ولكن من الأسف أن اعتقنها بعض الخلفاء كالمأمون والواثق والمعتصم، فحملوا الناس كرها عليها، واستمعوا للدسائس تقال أو تحاك حول مشاهير العلماء، وامتحن الناس بخلق القرآن، والسلطة إذا تدخلت في شيء أفسدته، فكره الرأي العام ذلك، وعدوا بطلا كل من وقف في وجه الحكام ثم عذب أو أهين، وأخيرا جنت عليهم هذه القسوة؛ فاكتسح الرأي العام هذه العقيدة مع الأسف، وتملق المتوكل الرأي العام، فقضى على الاعتزال ونصر المحدثين، وهكذا من ضروب الفرق التي شتتت الإسلام وأهله، وأبعدته عن البساطة الأولى، وفرق كبير بين حجج القرآن وحجج اليونان؛ فحجج القرآن مبنية على المشاهدة وإشعار القلب بقدرة الخالق من مثل قوله - تعالى:
صفحه نامشخص