وشاور من هو أكبر منك سنا وأكثر منك تجربة. ولا تترك دراستك وبحثك بمجرد خروجك من المدرسة، بل خصص لنفسك وقتا تتعلم فيه القليل وداوم عليه، وإياك والإهمال! وأختصر على هذا؛ لما أعهده فيك من الفطنة والذكاء.
والآن أخبرك بأمر وهو أني لما ذهبت في سنة 1295 هجرية إلى بلاد الحجاز لقضاء فريضة الحج كانت معي والدتك، وقد تركناك وأنت صغير السن مع مرضعتك، وكانت والدتك حاملا فوضعت في مكة المشرفة غلاما سميناه شريفا، ولكن جاء القدر المحتوم وتوفيت والدتك عقب الولادة من كثرة نزيف الدم وعدم موافقة الطقس، رحمها الله رحمة واسعة!
ولما كان شريف طفلا وليس معي من النساء من تتكفل به، تركته عند امرأة مكية وأعطيتها مبلغا من المال، وأوصيتها أن تكتب لي عنه، فمضت مدة ولم تكتب لي، فلما أعيتني الحيل كلفت أحد الحجاج المصريين بالبحث عنها، فأخبر أنها توفيت فسأل عن الولد المودع عندها فلم يستدل عليه.
فإذا ساعدك الزمان فلا تضيع فرصة يمكنك الوصول فيها إلى شقيقك؛ لأنك وحيد في هذا العالم، و«من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح»، وإذا سمح الدهر وتقابلت معه فاعرفه بخال على خده الأيمن، ولا تنس أن تبلغه سلامي الأخير، وبث فيه الفضائل. وهذه وصيتي، والسلام عليك إلى يوم القيامة.
والدك
فما جئت على آخرها إلا ويدي ترتجف وقلبي يخفق ودموعي تنهمل، حتى إنني كنت أضطر إلى مسح الدموع التي كانت تغشي عيني فتمنعني عن القراءة، ولا إخال القارئ ألا يعرف حرج مركزي؛ شاب، لم يتجاوز العشرين من عمره، وقف في مزدحم العالم الإنساني، فقيرا لا يملك إلا مبلغا زهيدا لا يكفيه أكثر من سنة، يتيما لا أب له ولا أم ولا عم ولا خال غير أخ لا يعرف إن كان حيا أو انقضى أجله، وإن كان حيا فالوصول إليه يكلف العناء والفقر وربما فقد الحياة، ومحبا لغادة حسناء عرف درجته بالنسبة لها، وهيهات ثم ألف هيهات أن يحصل عليها، فأظلمت الدنيا في وجهي، وضاقت علي المسالك، وتصورت الدنيا أضيق من سم الخياط، واعتراني اليأس وجلست صامتا والوصية في يدي، وأنا ملقى بجانب الأشجار، ولبثت على تلك الحال مدة من النهار تمنيت فيها الموت بدل الحياة المحفوفة بالمصائب والمخاطر، فغلب علي النعاس فانطرحت على الأرض لا أفقه ولا أعي، وصرت أحلم تارة أني أرى شقيقي أمامي جميل الطلعة، وتارة أرى أني أقتل نفسي وأودع سكينة، وتارة أرى والدي كما كان في الحياة يلاطفني ويسألني عن دروسي. وما استيقظت إلا ويد ناعمة لطيفة وضعت على خدي، ففتحت عيني ورأيت سكينة جالسة بجانبي وهي في ملابس سوداء، تشرق كالقمر الساطع في ليلة دهماء، وعيناها مغرورقتان بالدموع حين رأتني بتلك الحالة والوصية مطروحة على الأرض، ولما رأيتها لم أتمالك من البكاء فأخذت تلاطفني ملاطفة الأم ابنها الرضيع وأنا أبكي بكاء الطفل وهي تبكي بحرقة، وما زلنا على مثل ذلك الحال إلى أن روينا من دموعنا الأزهار والأشجار ونحن صامتان لا حراك بنا، حتى ذهب النهار بنوره وسطع القمر من بين الأشجار، وأنه لم يظهر على منظر أكثر حزنا من منظرنا، والعيون متقرحة من البكاء والخدود بها من سيل الدموع أخاديد، كل ذلك ولا كلام غير صفير النسيم وحفيف الأوراق. وابتدأ الهواء البارد يهفو بجانب وجناتنا التي كانت تلتهب نارا، وازداد البرد حيث كان الفصل شتاء، فقالت سكينة: يا حبيبي، هلم بنا إلى المنزل لأن البرد قارس، وأظن والدي ينتظرنا على أحر من الجمر.
فأجبتها والدموع منهملة: والدك ينتظرك، ومن ينتظرني؟
وما كدت أنطق بهذه العبارة حتى خنقتني العبرات وهملت الدموع وصرت أبكي كما يبكي الرضيع، فبكت سكينة معي، والقمر شاخص لنا، وقد خيل لي أنه شاحب اللون كأنما هو يشاركنا في أحزاننا. وبعد زمن ليس بقليل قالت: كفانا بكاء، قم معي بحياة حبي لك فإن فؤادي يتفطر من هذا المنظر، وأخاف عليك من شدة الحزن. - لا تخافي علي، لو كنت تحبينني فإن راحتي في مماتي، والحبيب يحب لحبيبه الراحة بأية طريقة فساعديني على الموت. - ما هذا الكلام؟! هل أنت يا حبيبي أول الشبان الذين مات آباؤهم؟! - ولكني أول الشبان الذين ضاقت بهم الدنيا، وأحدقت بهم المصائب من كل جانب. - دع هذا الجزع، ولسوف تنسى كل شيء فإن في حبنا سعادة. - ليس هذا وقت الكلام يا سكينة؛ فالبرد قارس وأبوك في انتظارك على أحر من الجمر، فقومي إليه مصحوبة بالسلامة ودعيني وشأني أقلب أمري، ولي رب يرحمني ويشفق علي. - أنت تجرح فؤادي بهذه الأقوال، ألم يكفنا ما نحن فيه؟! - ولم أجرح فؤادك، أنت سعيدة وأنا تعيس، قضى الله ذلك ولا مرد لحكمه. - إذا كنت سعيدا فأنا سعيدة، وإن كنت تعيسا فأنا تعيسة؛ فسعادتنا وتعاستنا مرتبطتان. - قد كان ذلك فيما مضى، واليوم لا. - وماذا جرى اليوم؟ هل موت والدك يجعل بيننا فرقا ويمنع حبنا؟ - موت والدك يمنع حبك ولا يمنع حبي. - لا أفهم قصدك، فأنا ما زلت أحبك. - سوف تفهمين وسوف تعلمين حين تتزوجين بأمثالك السعداء، وكأن ما بيننا لم يكن شيئا مذكورا.
وما أتممت عبارتي حتى رأينا شبحا قادما فتحققناه فعلمنا أنه والدها يبحث علينا في الحديقة، ولما وقع نظره علينا قال: أنتما هنا ونحن في انتظاركما من زمن؟! وقد أرسلت الخدم في الحدائق المجاورة للبحث عنكما، ومن قلقي أخذت أتمشى في الحديقة فعثرت بالصدفة عليكما، فكيف تجلسان هنا والبرد قارس؟!
فأجبته: لك الشكر على اعتنائك بي، ولكن البرد لم يؤثر علي؛ فإن في القلب من المصائب نيرانا لا تطفأ. - ظننتك تركت الأحزان التي هي من شأن النساء، قم يا ولدي ودع هذه الأفكار.
صفحه نامشخص