والجملة في اللغات الحية الحديثة هي جملة اسمية، وليست فعلية. والسبب في ذلك هو ما تجره الجملة الفعلية من التباس لدى السامع، أو القارئ؛ لأن المعنى فيها لا يستنبط من ترتيب الكلمات وإنما من التشكيل، مع أن المنطق يقول إن الفعل لا يأتي إلا بفاعل، فالفاعل هو الذي يسبق الفعل، وله أولوية عليه.
وأذكر أن والدي الأستاذ محمد مفيد الشوباشي - رحمه الله - والذي كان من أفضل من يجيدون العربية في مصر، كان يغضب مني لكثرة استخدامي للجملة الاسمية، التي كنت أجدها أقرب إلى التعبير عن المعنى الذي أقصده، وكان يتهمني بالتأثر باللغات الأجنبية التي كنت أجيدها بفضل دراستي. وبرغم امتثالي لنصائح والدي إلا أنني كنت أشعر بالفعل أن الجملة الاسمية أقرب إلى المنطق، وإلى التعبير المباشر والسليم عن المعنى المقصود.
الصعوبة الثانية التي تواجه دارس العربية هي النقص الغريب في حروف العلة. وفي مقابل ذلك، هناك وفرة مشكوك في ضرورتها في الحروف الساكنة. وإذا قارنا العربية بالإنجليزية نجد أن لدينا ثلاثة حروف علة في مقابل خمسة لديهم، وعندنا 25 حرفا ساكنا في مقابل 21 عندهم. وغالبية الكلمات والأفعال في العربية تتكون من حروف ساكنة فقط، على عكس كل لغات العالم الحديثة، فكلمة مثل: «رجل»، أو فعل مثل: «ضرب» لا يمكن قراءتها إلا بإضافة حروف علة في عقل وعلى لسان القارئ نسميها التشكيل، فنحن نقول: «را جو لون» و«ضا را با».
ولنتمثل كلمات مشابهة باللغة الإنجليزية، فسنكتب مثلا:
rgl
و
drb
هذه التراكيب هي: ضرب من اللامعقول عندهم، لكنها المعقول ذاته بالنسبة لنا. ومن هذه المفارقة جاءت فكرة طه حسين التي ذكرناها من قبل ولم يتقبلها أحد.
وما يضاعف من المشكلة أن كلمة واحدة من الممكن أن تشكل جملة كاملة في العربية، وهذا ليس موجودا في غالبية اللغات الأخرى باستثناءات نادرة، مثل: فعل الأمر، لكن وجود الكلمة - الجملة وضع نحوي عادي في العربية، فعندما تقول مثلا: «كتبت» فالفعل يحتوي على الفاعل، وبالتالي فقد اكتملت أركان الجملة في عبارة واحدة. وقد يجد البعض ذلك قوة مضافة للعربية، لكن الممارسة تثبت العكس، فلو أخذنا كلمة مثل «قتلت» نجد أن لها عشر دلالات ملتبسة على الأقل، وفقا لنطقها، أو لتشكيلها، فهناك «قتلت» و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت » و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت».
فهل من الطبيعي أن تكون لكلمة واحدة تكتب بطريقة واحدة أكثر من عشر دلالات؟ ألا يؤدي هذا إلى فتح باب اللبس، والغموض في المعنى، والحيرة، والتأويلات المختلفة؟ وربما كان ذلك أحد الأسباب وراء الخلافات التقليدية بين أبناء لغة الضاد، فهم أحيانا غير قادرين على الاتفاق على معاني اللغة التي يتحدثون بها. فما بالنا بمضمون هذه الكلمات وفحواها؟
صفحه نامشخص