هكذا لخص الشيخ محمد عبده منذ أكثر من مائة سنة الأسباب التي تجعل معرفة لغة أجنبية، وخاصة الإنجليزية أو الفرنسية، ضرورة لأي إنسان ينشد التطور الشخصي والمنفعة العامة.
وتعدد اللغات وإن كانت له إيجابياته الكثيرة إلا أنه قد يشتت الإنسان عن صلب المعرفة، خاصة عندما يضطر إلى تعلم لغتين لممارسة حياته العادية، كما هو الحال بالنسبة لنا نحن العرب.
وإذا قارنا هذا الوضع بالمواطن الأمريكي مثلا، نجد أنه من الممكن أن يكتفي بلغة واحدة ليصل إلى ما يريد، فاللغة التي يتحدث بها ليشتري حاجته من السوق هي نفسها اللغة التي درس بها والتي يشاهد بها نشرات الأخبار بالتلفزيون، وهي أيضا التي يحتاجها في كل المراجع الهامة في تخصصه، أيا كان هذا التخصص. وكذلك الحال إلى حد بعيد بالنسبة للفرنسي أو الألماني.
وقد يفتي البعض بأن مشكلة الازدواج اللغوي موجودة في الإنجليزية والفرنسية وكافة اللغات الأخرى، فالناس في الشارع وخاصة الشباب يتحدثون لغة تختلف عن لغة التدريس في جامعات أكسفورد والسربون، لكن هذه مغالطة فاضحة هدفها تبرير حالة الشيزوفرينيا التي نعيشها كعرب، وتمييع المشكلة وكأن كل شعوب العالم تعاني منها. وهو أمر غير صحيح على الإطلاق.
أما الواقع فهو أن لغة التخاطب الدارجة في هذه البلاد تختلف عن اللغة الراقية بقدر ما تختلف لغة شباب اليوم في مصر عن اللغة العامية التي يتحدث بها أفراد الأسرة في المنزل أو الموظفون في الوزارات وأماكن العمل. وهناك مفردات يستعملها الشباب لا يفهمها الكبار وتبتعد لغتهم إلى حد ما عن اللغة العامية المستخدمة في المدن المصرية الكبرى منذ عشرين أو ثلاثين عاما.
والأقرب للمنطق أن نقارن ما هو قابل للمقارنة، لا أن نقارن أي شيء بأي شيء لكي نثبت ما نحن راغبون في إثباته. ولنأخذ مثالا بسيطا نهديه للذين يفتون بأن مشكلة الانفصام اللغوي موجودة في العالم كله مثلما هي موجودة في العالم العربي؛ فإذا ذهب فرنسي مثلا إلى أحد المحال وطلب من البائع شراء حاجياته، واستخدم في ذلك اللغة التي تكتب بها صحيفة لوموند أو حتى التي يدرس بها في السوربون، فإن البائع لن يرى في ذلك أية غرابة، وسيفهم هذا البائع أيا كانت درجة ثقافته كل كلمة يقولها المشتري. كل ما في الأمر أن البائع سيدرك أنه أمام رجل على قدر عال من التعليم والثقافة.
أما إذا ذهب مواطن في مصر أو في اليمن أو المغرب وتوجه إلى البائع قائلا حرفيا: «أعطني يا بني رغيفا من الخبز، وزد عليه قطعة من الجبن.» فسيكون أضحوكة كل من يسمعه وربما لا يفهم البائع ما أراد أصلا.
فهناك إذا في هذه الحالة ثلاث لغات على الأقل يستخدمها الناس في كل بلد عربي؛ اللغة العامية المستخدمة في الحياة اليومية، ولغة مستحدثة وخاصة في أوساط الشباب، واللغة الفصحى. وحتى هذه الأخيرة يمكن تقسيمها إلى لغة الصحافة والإعلام السهلة نسبيا، ثم لغة الكتب والمتخصصين التي لا زالت تتمسك بالقديم. •••
ومن يريد الدخول في تفصيلات أكثر تعقيدا فإن سكان بعض المناطق في العالم العربي لهم أيضا لهجات خاصة، وأحيانا لغات خاصة ؛ فالصعيدي مثلا في مصر يتحدث اللهجة السائدة في جنوب مصر ويفهم العامية القاهرية، والحلبي في سوريا يتحدث بلهجة تختلف عن الدمشقي وهكذا.
لكن هذه الظاهرة موجودة في غالبية بلاد العالم، فهناك في فرنسا لغات خاصة مثل البروفنسال والباسك لا يفهمها إلا سكان هذه المناطق. ومع ذلك فإن كل الفرنسيين يفهمون لغة أهل منطقة باريس ويتحدثون بها فيما بينهم. وكل هذا يختلف اختلافا جذريا عن الفارق بين الفصحى واللهجات في العالم العربي. •••
صفحه نامشخص