وبالإضافة إلى تلك الأسباب، فإنه يفوت على هؤلاء البعض أن حالة الشيزوفرينيا في الماضي كانت مقصورة على شريحة محدودة للغاية في المجتمعات العربية، وهي القادرة على القراءة والكتابة. ولأن نسبة الأمية كانت تزيد بالتأكيد على 95٪ من الشعوب العربية حتى زمن قريب، لم تكن حالة الانفصام اللغوي تشكل ظاهرة تمس المجتمع ككل. أما اليوم، وبفضل انتشار التعليم، فقد أصبحت نسبة مستخدمي الفصحى لا تقل عن 50٪ من أبناء الشعب العربي، وهذا تغير جذري لا يمكن إهماله، فالقوى الحيوية للشعوب العربية هي تلك الفئات المتعلمة القادرة على دفع عملية التطور، وهي التي تعاني معاناة حادة مما أسميه شيزوفرينيا لغوية.
في الماضي كانت الغالبية الساحقة من أبناء الشعوب العربية تعيش وتموت دون أن تعرف شيئا عن الفصحى، وكانت الفئة القليلة من علماء الدين أو اللغة يكرسون حياتهم للدرس والتحصيل، فلا تمثل حالة الشيزوفرينيا مشكلة معقدة بالنسبة لهم. فتحول الشيزوفرينيا من واقع تعيشه القلة إلى مشكلة عامة في المجتمع، هي قضية حديثة، ومع زيادة نسبة التعليم المطردة في العالم العربي، سوف تتحول مشكلة الشيزوفرينيا إلى أزمة تضاف إلى ازمات العقل العربي في القرن الحادي والعشرين.
ويبذل الإنسان العربي لا شعوريا جهدا ضخما للتوفيق بين اللغتين في عقله، لكننا لا نشعر بهذا المجهود الذهني؛ نظرا لأننا نشأنا على هذا الوضع الشاذ ورضعنا منذ الطفولة تلك الازدواجية اللغوية، فاعتبرناها أمرا مسلما به يتسق مع طبيعة الأمور، بل إن المتعلمين من العرب يخلطون في عقلهم الفصحى والدارجة وكأنهما لغة واحدة أو وسيلتان للتعبير بينهما تقارب شديد. لكن الواقع أن الفارق بين الفصحى واللهجات يكاد يوازي الفارق بين لغات مختلفة، وإن كان لها أصل واحد مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية على سبيل المثال. •••
ولو فكرنا قليلا بموضوعية يتضح لنا أن هذا الوضع غير طبيعي، وأنه يكلف العقل العربي إرهاقا ذهنيا يحط من قدراته، كما يشتت ملكاته الفكرية. ولأن الإنسان كما هو معروف لا يفكر بطريقة مجردة وإنما من خلال كلمات تتشكل في عقله، فإن العربي مهدد بانفصام في التفكير: هل يفكر بالفصحى أم بالعامية؟ وأيا كانت الإجابة فمن المؤكد أن هناك تشويشا في عقله لا يساعده على الوضوح الذهني.
وما يزيد الأمر تعقيدا أن العربي الطامح إلى التقدم في العملية التعليمية وتطوير قدراته يضطر إلى إجادة لغة أجنبية سواء الإنجليزية أو الفرنسية. والسبب في ذلك لا يخفى على أحد وهو أن كل العلوم والتخصصات أصبحت تصاغ بإحدى هاتين اللغتين وبالإنجليزية بصفة خاصة.
فإذا أراد أي شاب أن يكون طبيبا أو مهندسا أو كيميائيا أو خبيرا في الكومبيوتر أو حتى صحفيا أو مؤرخا أو جغرافيا، فلا بد له من الاطلاع على المصادر الأجنبية في تخصصه، ولا يمكنه أن يعتمد على العربية التي تأخرت كثيرا في كل ميادين العلم والمعرفة؛ وبالتالي فإن العربي المثقف لا بد له أن يجيد ثلاث لغات على أقل تقدير: لغة يتحدث بها في حياته اليومية، وأخرى يكتب ويقرأ ويدرس بها، ثم لغة أجنبية تفتح له أبواب العلم والمعرفة الحديثة.
صحيح أن الإنسان العصري المثقف في أي مكان بالعالم عليه أن يعرف أكثر من لغة؛ لأن ذلك يفتح أمامه آفاقا واسعة ويجعله منفتحا عقليا على العالم الخارجي، إلا أن المطلوب هو معرفة لغة أجنبية عنه، وليس لغتين متضاربتين في صلب ثقافته الواحدة.
ولكي ندرك أهمية تعلم لغة أجنبية يمكننا الرجوع إلى ما كتبه في هذا الشأن شيخ عظيم من شيوخ الإسلام هو الإمام العبقري محمد عبده. وهذا الشيخ الجليل هو قطب من ألمع أقطار الاستنارة في الحقبة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، على عكس بعض تجار الدين في هذه الأيام من الذين يبذلون الجهود لجذب الأمة العربية والإسلامية إلى الوراء ولنشر أفكار تؤدي إلى الخرافات والخزعبلات.
يقول محمد عبده في فصل بعنوان «تعلمي للفرنسية» في كتاب «الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده»، من تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة ما نصه:
إن الذي زادني تعلقا بتعلم لغة أوروبية هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته ويقتدر به على الدفاع عن مصالحها كما ينبغي إلا إذا كان يعرف لغة أوروبية. كيف لا وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتبكة مع مصالح الأوروبيين في جميع أقطار الأرض؟ وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم؟ أو للخلاص من شر الشرار منهم؟
صفحه نامشخص