ومع ذلك فإنه من المؤكد أن تأثر الشعوب المغاربية بالفرنسية قد أفادها كثيرا بعد مرحلة الاستعمار، وانعكس في الانتعاشة التي تعيشها هذه الدول منذ نهايات القرن العشرين.
والغريب أن المفهومين الفرنسي والإنجليزي لقضية الثقافة واللغة لا زالا ينعكسان إلى يومنا هذا على موقف الدولتين من الجاليات الأجنبية المقيمة فيهما؛ فإنجلترا تتعامل مع الجاليات الأجنبية بها، وكأنها وحدات مستقلة بثقافتها ولغاتها طالما أنها تصب في نفع الاقتصاد الإنجليزي، ولا تعكر صفو الأمن العام؛ فالهنود مثلا لهم أحياؤهم التي يعيشون فيها بلندن، وكأنهم في بومباي أو نيودلهي.
أما فرنسا فترفض هذا المنطق بشدة وتسعى إلى إيجاد مجتمع متجانس في الثقافة واللغة والمزاج، وتنظر بعين القلق إلى أي محاولة للتميز الثقافي أو اللغوي من قبل أي جالية أجنبية.
وكان هذا المفهوم هو السبب في انفجار قضية الحجاب في المدارس الفرنسية منذ الثمانينيات من القرن العشرين. •••
ولعل كل هذه المواقف تصب في قالب واحد وهو تأكيد الأهمية الحيوية للغة، ووعي المجتمعات المتقدمة بالدور الخطير الذي يمكن أن تقوم به سلبا أو إيجابا.
ويتزايد إحساس الإنسان بأهمية اللغة عندما يزور بلادا غريبة لا يجيد لغتها؛ فيحس وكأنه تائه وضائع تماما، ويشعر بالعجز عن الاتصال بالمحيطين به، وقد يتعرض لمواقف صعبة أو لأخطار بسبب جهله باللغة.
ومع تسليم الجميع بأهمية اللغة على مستوى الإنسانية، فإن المجتمعات العربية تضع لغة الضاد في مكانة خاصة لا تطالها أي لغة أخرى، بل لا تقترب منها. فاللغة منذ العصر الجاهلي تلعب دورا محوريا في حياة العرب، كما كانت تسهم في تحديد العلاقات بين الناس، بل وفي تحديد طبقات المجتمع، جنبا إلى جنب مع شرف النسب ووفرة المال. ولن أطيل في وصف الأهمية التي كان يحظى بها الشعراء، أولا والخطباء في المرتبة الثانية. ولم يكن الأمراء يستنكفون رواية الشعر، على عكس كل المجتمعات الأخرى التي كانت ترى الفن والأدب هواية لا تجوز إلا للعامة؛ فامرؤ القيس، وأبو فراس الحمداني، والمعتمد بن عباد، كانوا من أمراء قومهم على سبيل المثال لا الحصر.
بل إن هناك خليفة كان يقرض الشعر بنفسه، وهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثاني خلفاء بني أمية، وينسب إليه بيت من أشهر الأبيات التي يستدل بها على البلاغة العربية يقول فيه:
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
صفحه نامشخص