فرأيي فيما سأل عنه الأديب أن تغليب لغة الجهل كارثة على الأمة العربية وعلى العقل الإنساني، لا تقل عن كارثة الفقر وسوء العيش، وأن علاج مسألة الفقر لن يتوقف في وجه من وجوهه على ترك الكلام الفصيح وتقديم الجهالة الكلامية، ولن يختلف الأمر هنا بين طب الأمراض البدنية، وطب الأمراض الاجتماعية، فلا الطبيب مضطر إلى إهمال لغة الطب وهو يعالج مريضه، ولا المصلح الاجتماعي مضطر إلى إهمال لغة المعرفة وهو يعالج الفقر أو الجهالة، وليس ما يفهمه الفقير الجاهل من عبارات العامة بأكثر مما يفهمه من لغة الخاصة إذا كانت الصعوبة في الإدراك، أو كانت الصعوبة في الموضوع، فلو نقلت أرسطو إلى أوضع اللهجات لما سهلت فهمه أقل تسهيل، بل لعلك تزيد الصعوبة بإقحام المعاني الرفيعة في لغة لم تهيأ لتمثيلها منذ زمن بعيد.
ولنرحم الفقير الجاهل برفعه إلى طبقة اليسار والمعرفة، والتسوية بينه وبين من يفصحون ويفقهون.
أما رحمته بإبقائه حيث هو في عمله وكلامه ومداركه، فتلك هي القسوة التي لا يسيغها الرحماء.
الفصل الثامن
سؤالان متباعدان
جاءني في هذا الأسبوع سؤالان متباعدان من طرفين متقابلين: أحدهما من أديب يسأل عن أبي تمام، والآخر من أديب يسأل عن المدرسة الحديثة في التصوير، أو عن المدرسة التي تزعم أنها تعتمد في تصويرها على الوعي الباطن، ولا تعتمد على المشابهات المحسوسة.
أما الذي يسأل عن أبي تمام، فيسرد أسماء الشعراء الذين كتبت عنهم كتبا أو فصولا في كتب، ثم يقول: ... ولكن شاعرا واحدا لم يفز منك بالإعجاب أو السخط، ولم يظفر منك بتزيين أو تهجين، وهو أبو تمام، ما الذي أبعدك عنه وما الذي أبعده منك؟ أما أنا فأعتقد صادقا أو كاذبا أن شعرك وشعره ينبعان من منبع واحد ...
ثم يقول: فأبو تمام الذي أحدث ضجة في عصره، والذي كتب عنه الآمدي وغيره، والذي كان مثالا للشعراء يحتذونه ويقلدونه، لا يظفر في العهد الحديث ببحث أو بكتاب أو بطبع ديوانه طبعة أنيقة. ليس هناك شاعر يمثل عصره تمام التمثيل إلا هذا الشاعر، وليس هناك شاعر يعلم البحث والتفكير والتعمق إلا هذا الشاعر، ولكنه ينسى ويقدم المجنون ابن الرومي، ويهمل ويذكر رهين المحبسين أبو العلاء، ويكتب عن بشار وأبي نواس ودعبل ولا يكتب عنه!
أبو تمام حزين ثائر من الأستاذ العقاد؛ لأنه هو الذي إذا تصدى لبحث وفاه حقه، وإذا كتب عن شاعر شرقي أو غربي أعطاك صورة صادقة ناطقة طبق الأصل ... مهما ظننت بي الظنون فأنا مطالبك بالكتابة عنه، ومهما اعتقدت بي الفضول، فأنا مقتنع بفكري راض بنظرتي ... •••
وأنا يعجبني الإعجاب؛ لأنه دليل حسن على شعور كريم، ولا يعجبني أن يكون الإعجاب بأحد بابا للجور على آخرين.
صفحه نامشخص