ورسالة الأدباء كافة هي التبشير بدين الحرية والإنحاء على صولة المستبدين، فما من عداوة للأدب ولا من خيانة لأمانة الأديب أشد من عداوة «القوة العضلية» وأخون من خيانة الاستبداد.
الفصل الثاني
مع أبي العلاء في سجنه
قال صديقنا الدكتور طه حسين في تبيين مقصده من كتابه هذا: «وستقول: فإنك إن مضيت على هذا النحو لم تقدم إلينا كتابا في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق، فإني لا أقدم إليك كتابا في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدمت إليك من ذلك ما فيه مقنع، وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجى نفعه ولا يتقى شره، ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب ومن الطمع والإشفاق، أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم مثل هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي، والتي تكتب ابتغاء لرضا الأصدقاء واتقاء لسخطهم ...؟» •••
وقد أحسن الدكتور القصد، وأحسن التعريف، فكتابه حديث المرء عمن يحب لمن يحب، وأراه مذكري أحاديث الآباء عن أبنائهم الأعزاء: كيف يضحكون وكيف يبكون، وكيف يخطون وكيف يتعثرون، والسامع يرتاح إلى الإصغاء إن كان ممن يعنيهم أمر أولئك الأبناء، فأما إن لم يكن منهم فإلى غيره يساق الحديث، وليس من حقه أن يلوم المتحدث كما ليس من حق القارئ الذي يطلب الهندسة أن يلوم المؤلفين الذين لا يكتبون كتابة المهندسين.
وأنا ممن يحبون أبا العلاء وممن أطالوا قراءته في أول عهد الشباب، وما أحسب أحدا من الشبان المشغولين بالأدب لم تمض به فترة معرية في باكورة كفاحه حين تصطدم أحلام الصبا بمتاعب الدنيا، وتجارب الأيام، فهناك يروقنا التشاؤم، ويعجبنا من يعيبون لنا الحياة. ثم نخرج من هذه الربقة فنعاودها معاودة الحنين إلى تلك الباكورة المشتهاة، ونقرنها بذكرى الشباب وذكرى الأحلام، ونعطف عليها كما يعطف الرجل الجلد على بكاء طفولته، وهي لا تستوجب بعض ذلك البكاء.
فما زلت أعتقد وأزداد مع الأيام اعتقادا أن بغض الحياة أسهل من حب الحياة، وأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة أعم وأشيع، وأقرب غورا من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى، فالفرح أعمق من الحزن في رأيي ولا مراء! وليس الحزن قدرة بل هو انهزام أمام قدرة ... أما الفرح فهو القدرة والانتصار.
والدكتور طه لفرط حبه أبا العلاء يتهم نفسه بمحاباته، فيقول: «قل إني أوثر أبا العلاء وأحابيه وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره، فقد لا تخطئ ولا تبعد، وأظنني نبهتك إلى ذلك في أول الحديث، وقلت غير مرة: إني لا أملي كتابا في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عشرة أبي العلاء في سجنه وقتا ما.»
فمن المصادفات العجيبة أنني حابيت أبا العلاء على نحو قريب من هذا النحو، ولكني لم أسمها محاباة، بل قلت: إنها هي الإنصاف المعقول في قياس الأقوال بالقائلين، وعبت من نصحونا بأن ننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، فكتبت قبل ثلاثين سنة في مذكراتي التي جمعتها باسم «خلاصة اليومية» أنها قاعدة لا يصح إطلاقها على كل حال، فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أع
صفحه نامشخص